سَبِيلِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الذِّكْرَ حَصَلَ عِنْدَ حُدُوثِ هَذِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ الْمُرَادُ مِنْهَا الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْمُرْسَلَةُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: عُرْفاً أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِكُلِّ عُرْفٍ وَخَيْرٍ وَكَيْفَ لَا وَهِيَ الْهَادِيَةُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ والموصلة إلى مجامع الخيرات وفَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فَالْمُرَادُ أَنَّ دَوْلَةَ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ كَانَتْ ضَعِيفَةً فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَظُمَتْ وَقَهَرَتْ سَائِرَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، فَكَأَنَّ دَوْلَةَ الْقُرْآنِ عَصَفَتْ بِسَائِرِ الدُّوَلِ وَالْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَقَهَرَتْهَا، وَجَعَلَتْهَا بَاطِلَةً دَائِرَةً، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَشَرَتْ آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَقَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي تَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا، وَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، [الأنبياء: 50] وتذكرة كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الْحَاقَّةِ: 48] وَذِكْرَى كَمَا قَالَ: ذِكْرى لِلْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: 90] فَظَهَرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يُمْكِنُ حَمْلُهَا أَيْضًا عَلَى بَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا بِالْوَحْيِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْرَ كُلِّ رَسُولٍ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَقِيرًا ضَعِيفًا، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَعْظُمُ وَيَصِيرُ فِي الْقُوَّةِ كَعَصْفِ الرِّيَاحِ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الْمُرَادُ مِنْهُ انْتِشَارُ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمَقَالَتِهِمْ فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَفْرِقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِلْحَادِ فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهِ وَيَحُثُّونَهُمْ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا مُسْتَغْرِقًا فِي طَلَبِ لَذَّاتِهَا وَرَاحَاتِهَا، فَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَرِدُ فِي قَلْبِهِ دَاعِيَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى، فَتِلْكَ الدَّوَاعِي هِيَ الْمُرْسَلَاتُ عُرْفًا، ثُمَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتُ لَهَا أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: إِزَالَةُ حُبِّ/ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالثَّانِي: ظُهُورُ أَثَرِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُبْصِرَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَّا اللَّهَ، فَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لَهُ نُورُ جَلَالِ اللَّهِ فَيَرَاهُ مَوْجُودًا، وَيَرَى كُلَّ مَا سِوَاهُ مَعْدُومًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ثُمَّ يَصِيرُ الْعَبْدُ كَالْمُشْتَهِرِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ إِلَّا ذِكْرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ إِلَّا أَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ جِدًّا. وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي:
وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ شَيْئًا وَاحِدًا، فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي، وَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ هِيَ الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً هِيَ الرِّيَاحُ التي تتصل على العرف المعتاد وفَالْعاصِفاتِ مَا يَشْتَدُّ مِنْهُ، وَالنَّاشِراتِ مَا يَنْشُرُ السَّحَابَ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ، بِمَا يَتَحَمَّلُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:(30/766)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُتَحَمِّلَةُ لِلذِّكْرِ الْمُلْقِيَةُ ذَلِكَ إِلَى الرُّسُلِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الرِّيَاحِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسَمِ؟ قُلْنَا: الْمَلَائِكَةُ رُوحَانِيُّونَ، فَهُمْ بِسَبَبِ لَطَافَتِهِمْ وَسُرْعَةِ حَرَكَاتِهِمْ كَالرِّيَاحِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا الرِّيَاحُ، فَقَوْلُهُ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً هُمَا الرِّيَاحُ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ الْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْوَحْيَ وَالدِّينَ، ثُمَّ لِذَلِكَ الْوَحْيِ أَثَرَانِ أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ وَالثَّانِي: ظُهُورُ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ أَيْضًا، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاوَ فَقَالَ: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً وَعَطَفَ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلَانِ مُمْتَازَيْنِ عَنِ الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلَيْنِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ:
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ آيَاتُ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْحَقَّ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتُلْقِي الذِّكْرَ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مَا رَأَيْتُهُ لِأَحَدٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يذكر فيه وجوها، والله أعلم بمراده.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الْوَجْهُ فِي دُخُولِ الْفَاءِ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ بِهِ الْقَسَمُ، وَالْوَاوِ فِي بَعْضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الْفَاءُ تَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعَلُّقَ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ فَذَهَبَ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَامَ لِيَذْهَبَ فَكَانَ قِيَامُهُ سَبَبًا لِذَهَابِهِ وَمُتَّصِلًا بِهِ، وَإِذَا قِيلَ: قَامَ وَذَهَبَ فَهُمَا خَبَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَفَّالَ لَمَّا مَهَّدَ هَذَا الْأَصْلَ فَرَّعَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوُجُوهٍ لَا يَمِيلُ قَلْبِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أُفَرِّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَأَقُولُ: أَمَّا مَنْ/ جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَالثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَالْإِشْكَالُ عَنْهُ زَائِلٌ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْكُلَّ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَالْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ طَارَتْ سَرِيعًا، وَذَلِكَ الطَّيَرَانُ هُوَ الْعَصْفُ، فَالْعَصْفُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْفَاءَ، أَمَّا النَّشْرُ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرْسَالِ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوَّلَ مَا يُبَلِّغُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ لَا يَصِيرُ فِي الْحَالِ ذَلِكَ الدِّينُ مَشْهُورًا مُنْتَشِرًا، بَلِ الْخَلْقُ يُؤْذُونَ الْأَنْبِيَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْكَذِبِ وَالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ، فَلَا جَرَمَ لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو، بلى إِذَا حَصَلَ النَّشْرُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ وَظُهُورُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، فَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْسَلْتُ الْمَلَكَ إِلَيْكَ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ كُلِّ سَعَادَةٍ، وَفَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَلَكِنْ لَا تَطْمَعْ فِي أَنْ نَنْشُرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ في الحالة، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ النُّصْرَةِ أَجْعَلُ دِينَكَ ظَاهِرًا مُنْتَشِرًا فِي شَرْقِ الْعَالَمِ وَغَرْبِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الِانْتِشَارِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ فَتَصِيرُ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ ضَعِيفَةً سَاقِطَةً، وَدِينُكَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ ظَاهِرًا غَالِبًا، وَهُنَالِكَ يُظْهِرُ ذَلِكَ اللَّهُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ عَرَفَ هَذَا الْوَجْهَ أَمْكَنَهُ ذِكْرُ مَا شَابَهَهُ فِي الرِّيَاحِ وَسَائِرِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: عُذْراً أَوْ نُذْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِمَا قِرَاءَتَانِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا(30/767)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
بِالتَّثْقِيلِ، أَمَّا التَّخْفِيفُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ مَصْدَرًا، وَالْمَعْنَى إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا، وَأَمَّا التَّثْقِيلُ فَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَأَمَّا الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ فَزَعَمَا أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالتَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ، وَقَرَّرَ أَبُو عَلِيٍّ قَوْلَ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ، وَقَالَ: الْعُذُرُ وَالْعَذِيرُ وَالنُّذُرُ وَالنَّذِيرُ مِثْلُ النُّكُرِ وَالنَّكِيرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ ثَقَّلَ أَنْ يَكُونَ عُذُرًا جَمْعَ عَاذِرٍ كَشُرُفٍ وَشَارِفٍ، وَكَذَلِكَ النُّذُرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى [النَّجْمِ: 56] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي النَّصْبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: ذِكْرًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، وَالْمَعْنَى وَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا لِلْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ جَمْعًا، فَنُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْإِلْقَاءِ وَالتَّقْدِيرُ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا حَالَ كونهم عاذرين ومنذرين.
[سورة المرسلات (77) : آية 7]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)
جَوَابُ الْقَسَمِ وَالْمَعْنَى، إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَ بِهِ مِنْ مَجِيءِ/ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَائِنٌ نَازِلٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا تُوعَدُونَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَوَاقِعٌ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَاتِ، عَلَامَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقِيَامَةُ فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ عَلَامَاتِ وُقُوعِ هذا اليوم.
أولها: قوله تعالى:
[سورة المرسلات (77) : آية 8]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الطَّمْسِ عِنْدَ قَوْلِهِ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يُونُسَ: 88] وَبِالْجُمْلَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ ذَوَاتُهَا، وَهُوَ موافق لقوله: انْتَثَرَتْ [الإنفطار: 2] وانْكَدَرَتْ [التكوير: 2] وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُحِقَتْ أَنْوَارُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْحَقَ نُورُهَا ثُمَّ تَنْتَثِرَ مَمْحُوقَةَ النُّورِ.
وثانيها:
[سورة المرسلات (77) : آية 9]
وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
الْفَرْجُ الشَّقُّ يُقَالُ: فَرَّجَهُ اللَّهُ فَانْفَرَجَ، وَكُلُّ مَشْقُوقٍ فَرْجٌ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: فرجت أي شقت نظيره وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ فُتِحَتْ، نَظِيرُهُ وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: 19] قَالَ الشَّاعِرُ:
الْفَارِجِي بَابَ الْأَمِيرِ الْمُبْهَمِ
وَثَالِثُهَا: قوله:
[سورة المرسلات (77) : آية 10]
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نُسِفَتْ كَالْحَبِّ الْمُغَلَّثِ إِذَا نُسِفَ بِالْمِنْسَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ [طه: 97] وَنَظِيرُهُ وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الْوَاقِعَةِ: 5] وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 14] فَقُلْ(30/768)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً
[طه: 105] وَالثَّانِي: اقْتُلِعَتْ بِسُرْعَةٍ مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنِ انْتَسَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا اخْتَطَفْتَهُ، وقرئ طُمِسَتْ وفُرِجَتْ ونُسِفَتْ مشددة.
ورابعها: قوله تعالى:
[سورة المرسلات (77) : آية 11]
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُقِّتَتْ أَصْلُهَا وُقِّتَتْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وُقِّتَتْ بِالْوَاوِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الْوَقْتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاوٍ انْضَمَّتْ وَكَانَتْ ضَمَّتُهَا لَازِمَةً فَإِنَّهَا تُبْدَلُ عَلَى الِاطِّرَادِ هَمْزَةً أَوَّلًا وَحَشْوًا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: صَلَّى الْقَوْمُ إِحْدَانًا، وَهَذِهِ أُجُوهٌ حِسَانٌ وَأَدْؤُرٌ فِي جَمْعِ دَارٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يَجْرِي مَجْرَى جَمْعِ الْمِثْلَيْنِ فَيَكُونُ ثَقِيلًا، وَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ كَسْرُ الْيَاءِ ثَقِيلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 237] فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَدَلُ لِأَنَّ الضَّمَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ فِي نَحْوِ قولك: هذا وعد أَنْ تُبْدِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي التَّأْقِيتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالزَّجَّاجِ أَنَّهُ تَبْيِينُ الْوَقْتِ الَّذِي فِيهِ يَحْضُرُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ جُعِلَتْ عَلَامَاتٍ/ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا كَانَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْوَقْتَ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيَانَ كَانَ حَاصِلًا فِي الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطَّمْسُ وَالْفَرْجُ وَالنَّسْفُ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، فَكَذَا هَذَا التَّوْقِيتُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّأْقِيتِ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ وَتَكْوِينُهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ أَيْضًا إِلَى مُطَابَقَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ التَّفْعِيلَاتِ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ، فَالتَّسْوِيدُ تَحْصِيلُ السَّوَادِ وَالتَّحْرِيكُ تَحْصِيلُ الْحَرَكَةِ، فَكَذَا التَّأْقِيتُ تَحْصِيلُ الْوَقْتِ ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ بَيَانُ أَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِوَقْتِ أَيِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لِأَجْلِ أَنْ يَذْهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ جَانِبٍ فَيَكُونُ التَّهْوِيلُ فِيهِ أَشَدَّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَكْوِينَ الْوَقْتِ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ وَقْتَ سُؤَالِ الرُّسُلِ عَمَّا أُجِيبُوا بِهِ وَسُؤَالِ الْأُمَمِ عَمَّا أَجَابُوهُمْ، كَمَا قال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَقْتَ الَّذِي يُشَاهِدُونَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَالْعَرْضَ وَالْحِسَابَ وَالْوَزْنَ وَسَائِرَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] .
[سورة المرسلات (77) : آية 12]
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
أَيْ أُخِّرَتْ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُعَجِّبُ الْعِبَادَ مِنْ تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُخِّرَتِ الْأُمُورُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَؤُلَاءِ.
وَهِيَ تَعْذِيبُ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَتَعْظِيمُ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَظُهُورُ مَا كَانُوا يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَنَشْرِ الدَّوَاوِينِ وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فقال:(30/769)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
[سورة المرسلات (77) : آية 13]
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَوْمُ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخَانِ: 40] .
ثم أتبع ذلك تعظيما ثانيا فقال:
[سورة المرسلات (77) : آية 14]
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
أَيْ وَمَا عِلْمُكَ بِيَوْمِ الْفَصْلِ وَشِدَّتِهِ وَمَهَابَتِهِ.
ثُمَّ أَتْبَعَهُ بتهويل ثالث فقال:
[سورة المرسلات (77) : آية 15]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
أَيْ لِلْمُكَذِّبِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَبِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السلام وأخبروا عنه، بقي هاهنا سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ وَقَعَ النَّكِرَةُ مُبْتَدَأً فِي قَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؟ الْجَوَابُ: هُوَ فِي أَصْلِهِ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ سَادٌّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، وَلَكِنَّهُ عُدِلَ بِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى ثَبَاتِ الْهَلَاكِ/ وَدَوَامِهِ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ، وَنَحْوُهُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: 73] وَيَجُوزُ وَيْلًا بِالنَّصْبِ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ.
السؤال الثاني: أين جوابه قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ، إِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا وَإِذَا، فَحِينَئِذٍ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ تَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَتَحْذِيرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ.
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنَ التَّخْوِيفِ أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يُوعَدُونَ بِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَاقِعٌ ثُمَّ هَوَّلَ فَقَالَ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: 14] ثُمَّ زَادَ فِي التَّهْوِيلِ فَقَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّخْوِيفِ: مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكَفَرَةَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَحَاصِلُهُمُ الْهَلَاكُ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الْحَجِّ: 11] وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ الْأَوَّلُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ(30/770)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَهْلَكَ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ثُمَّ أَتْبَعَهُمُ الْآخِرِينَ قَوْمَ شُعَيْبٍ وَلُوطٍ وَمُوسَى كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ أَلْبَتَّةَ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ جَمِيعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ عَلَى مَعْنَى سَنَفْعَلُ ذَلِكَ وَنُتْبِعُ الْأَوَّلَ الْآخِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ سَنُتْبِعُهُمُ، فَإِنْ قِيلَ: قَرَأَ الْأَعْرَجُ ثُمَّ نُتْبِعْهُمُ بِالْجَزْمِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أَلَمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمَاضِيَ لَا الْمُسْتَقْبَلَ، قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ نُتْبِعُهُمُ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ، فَلَوِ اقْتَضَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْجَزْمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَاضِيَ لَوَقَعَ التَّنَافِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَعَلِمْنَا أن تسكين العين ليس للجزم لِلتَّخْفِيفِ كَمَا رُوِيَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَالْيَوْمَ أُشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَ: كَذلِكَ/ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أَيْ هَذَا الْإِهْلَاكُ إِنَّمَا نَفْعَلُهُ بِهِمْ لكونهم مجرمين، فلا جرم فِي جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّ عُمُومَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ أُهْلِكُوا وَعُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا، فَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالطَّامَّةُ الْكُبْرَى مُعَدَّةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْإِهْلَاكِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مُطْلَقُ الْإِمَاتَةِ أَوِ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ؟
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ تَخْوِيفًا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حَاصِلٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْذِيرًا لِلْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بِالْعَذَابِ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ فَعَلَ بِكُفَّارِ قُرَيْشٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] الْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَاتَةَ بِالتَّعْذِيبِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ؟ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِهْلَاكِ مَعْنًى ثَالِثًا مُغَايِرًا لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْمُسْتَعْقِبَةُ لِلذَّمِّ وَاللَّعْنِ؟ فكأنه قيل: إن أولئك المتقدمين لحصرهم عَلَى الدُّنْيَا عَانَدُوا الْأَنْبِيَاءَ وَخَاصَمُوهُمْ، ثُمَّ مَاتُوا فَقَدْ فَاتَتْهُمُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ اللَّعْنُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ دَائِمًا سَرْمَدًا، فَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَوَجْهُ التَّخْوِيفِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى(30/771)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
ذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا كَانَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ كَانَتْ جِنَايَتُهُمْ فِي حَقِّهِ أَقْبَحَ وَأَفْحَشَ، وَكُلَّمَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعِقَابُ أَعْظَمَ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ هَذَا الْإِنْعَامِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَظَاهِرٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ الظَّاهِرَةَ، لَا جَرَمَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أَيْ مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: 8] فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ وَهُوَ الرَّحِمُ، لِأَنَّ مَا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَثْبُتَ فِي الرَّحِمِ وَيَتَمَكَّنَ بِخِلَافِ مالا يُخْلَقُ مِنْهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ قَالَ: إِلى / قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ [لُقْمَانَ: 34] فَقَدَرْنا قَرَأَ نَافِعٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فَالْمَعْنَى إِنَّا قَدَّرْنَا ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَنِعْمَ الْمُقَدِّرُونَ لَهُ نَحْنُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ وَلِأَنَّ إِيقَاعَ الْخَلْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ نِعْمَةٌ مِنَ الْمُقَدِّرِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَحَسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِ ذِكْرِ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَالَ: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَقَدَّرْنَا فَنَعِمَ الْمُقَدِّرُونَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَجْمَعُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطَّارِقِ: 17] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنَ الْقُدْرَةِ أَيْ فَقَدَرْنَا عَلَى خَلْقِهِ وَتَصْوِيرِهِ كَيْفَ شِئْنَا وَأَرَدْنَا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ فِي أَحْسَنِ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَالُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَعْنَى قَدَّرْتُهُ، قَالَ: الْفَرَّاءُ الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَّرَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَقَدَّرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، قَالَ تَعَالَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] .
[سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 28]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنَ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَنْفُسِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَّرَهُمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآفَاقِ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ النِّعَمَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَقْبَحَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عَاجِلًا وَالْعِقَابِ آجِلًا أَشَدَّ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ تِلْكَ الْآيَةَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ النِّعَمَ الَّتِي فِي الْأَنْفُسِ كَالْأَصْلِ لِلنِّعَمِ الَّتِي فِي الْآفَاقِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْأَعْضَاءُ السَّلِيمَةُ لَمَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ مُمْكِنًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذكر هاهنا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا: الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَهَا لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَيْنَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ هُوَ الْأَرْضُ، وَمَعْنَى الْكِفَاتِ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ يُقَالُ: كَفَتُّ الشَّيْءَ أَيْ ضَمَمْتُهُ، وَيُقَالُ: جِرَابٌ كَفِيتٌ وَكِفْتٌ إِذَا كَانَ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا مِمَّا يُجْعَلُ فِيهِ، وَيُقَالُ: لِلْقِدْرِ: كِفْتٌ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: هُوَ اسْمُ مَا يَكْفِتُ، كَقَوْلِهِمْ الضِّمَامُ وَالْجِمَاعُ لِمَا يَضُمُّ وَيَجْمَعُ، وَيُقَالُ: هَذَا الْبَابُ جِمَاعُ الْأَبْوَابِ، وَتَقُولُ: شَدَدْتُ الشَّيْءَ ثُمَّ تسمي الخيط الذي تشد بِهِ الشَّيْءَ شِدَادًا، وَبِهِ انْتَصَبَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا كَأَنَّهُ قِيلَ: كَافِتَةً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، أَوْ بِفِعْلٍ(30/772)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ نَكْفِتُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى نَكْفِتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ هَذَا هُوَ اللُّغَةُ، ثُمَّ فِي الْمَعْنَى/ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَكْفِتُ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَحْيَاءَ يَسْكُنُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَالْأَمْوَاتَ يُدْفَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَرْضَ أُمًّا لِأَنَّهَا فِي ضَمِّهَا لِلنَّاسِ كَالْأُمِّ الَّتِي تَضُمُّ وَلَدَهَا وَتَكْفُلُهُ، وَلَمَّا كَانُوا يُضَمُّونَ إِلَيْهَا جُعِلَتْ كَأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَكْفِتُ مَا ينفصل الْأَحْيَاءِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، فَأَمَّا أَنَّهَا تَكْفِتُ [الْأَحْيَاءَ] حَالَ كَوْنِهِمْ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا وَثَالِثُهَا:
أَنَّهَا كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْأَبْنِيَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَصَالِحِ الدَّافِعَةُ لِلْمَضَارِّ مَبْنِيَّةٌ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْياءً وَأَمْواتاً مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْحَيُّ مَا أُنْبِتَ وَالْمَيِّتُ مَا لَمْ يُنْبَتْ، بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: لِمَ قِيلَ: أَحْياءً وَأَمْواتاً عَلَى التَّنْكِيرِ وَهِيَ كِفَاتُ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ جَمِيعًا؟ الْجَوَابُ: هُوَ مِنْ تَنْكِيرِ التَّفْخِيمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَكْفِتُ أَحْيَاءً لَا يُعَدُّونَ، وَأَمْوَاتًا لَا يُحْصَرُونَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ؟ الْجَوَابُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ كِفَاتُ الْمَيِّتِ فَتَكُونُ حِرْزًا لَهُ، وَالسَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ النِّعَمِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ فَقَوْلُهُ:
رَواسِيَ أَيْ ثَوَابِتَ عَلَى ظَهْرِ الأرض لا تزول شامِخاتٍ أَيْ عَالِيَاتٍ، وَكُلُّ عَالٍ فَهُوَ شَامِخٌ، وَيُقَالُ:
لِلْمُتَكَبِّرِ شَامِخٌ بِأَنْفِهِ، وَمَنَافِعُ خِلْقَةِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً الْفُرَاتُ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْعُذُوبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ [الْفُرْقَانِ: 53] .
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 34]
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْخَامِسُ: مِنْ وُجُوهِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ:
انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ القائلين هم خزنة النار وانطلقوا الثَّانِي تَكْرِيرٌ، وَقَرَأَ/ يَعْقُوبُ انْطَلَقُوا عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَادُوا لِلْأَمْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ امْتِنَاعًا مِنْهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَانْطَلَقُوا بِالْفَاءِ، لِيَرْتَبِطَ آخِرُ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الْخَلَائِقِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ يَوْمَئِذٍ لِبَاسٌ وَلَا كِنَانٌ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفسهم وَيَمْتَدُّ ذَلِكَ الْيَوْمُ، ثُمَّ(30/773)
يُنْجِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ إِلَى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ فَهُنَاكَ يَقُولُونَ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطُّورِ: 27] وَيُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: إِلى ظِلٍّ يَعْنِي دُخَانَ جَهَنَّمَ كَقَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 43] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الظِّلَّ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا الظِّلُّ، وَلَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ كَوْنُ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَمُحِيطَةً بِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ النَّارِ بِالظِّلِّ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزُّمَرِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: بَلِ الْمُرَادُ الدُّخَانُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: 29] وَسُرَادِقُ النَّارِ هُوَ الدُّخَانُ، ثُمَّ إِنَّ شُعْبَةً مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَلَى يَمِينِهِ وَشُعْبَةً أُخْرَى عَلَى يَسَارِهِ، وَشُعْبَةً ثَالِثَةً مِنْ فَوْقِهِ. وَأَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأَنَّ الْغَضَبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالشَّهْوَةَ عَنْ شِمَالِهِ، وَالْقُوَّةَ الشَّيْطَانِيَّةَ فِي دماغه، ومنبع جميع الآفاق الصَّادِرَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ فِي عَقَائِدِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَتَوَلَّدَتْ مِنْ هَذِهِ الْيَنَابِيعِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلُمَاتِ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أن يقال: هاهنا درجات ثلاث، وَهِيَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ، وَالْوَهْمُ، وَهِيَ مَانِعَةٌ لِلرُّوحِ عَنِ الِاسْتِنَارَةِ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الظُّلْمَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ قَوْمٌ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ الدُّخَانِ عَظِيمًا، فَإِنَّ الدُّخَانَ الْعَظِيمَ يَنْقَسِمُ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ وَيَحْتَمِلُ فِي ثَلاثِ شُعَبٍ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ: غَيْرُ ظَلِيلٍ وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وَبِأَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِذَلِكَ الظِّلِّ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظللهم غير ظلل الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الظِّلَّ لَا يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ، أَيْ أَبْعِدْهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ عَنِ الشَّيْءِ يُبَاعِدُهُ، كَمَا أَنَّ الْمُحْتَاجَ يُقَارِبُهُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ، أَيْ وَغَيْرُهُ مُغْنٍ عَنْهُمْ، مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ شَيْئًا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الظِّلَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يُظِلُّهُمْ مِنْ حَرِّهَا، وَلَا يَسْتُرُهُمْ مِنْ لَهِيبِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ الظِّلَّ فَقَالَ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 42- 44] وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي جَهَنَّمَ إِذَا دَخَلُوهَا، ثُمَّ قَالَ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا ظَلِيلٍ فِي مَعْنَى: لَا بارِدٍ وَقَوْلُهُ: وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ/ فِي مَعْنَى: وَلا كَرِيمٍ أَيْ لَا رَوْحَ لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ تَكَوُّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ ان يدخلوا جهنم بل عند ما يُحْبَسُونَ لِلْحِسَابِ وَالْعَرْضِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الظِّلَّ لَا يُظِلُّكُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَا يَدْفَعُ لَهَبَ النَّارِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَانٍ «1» : وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ قُطْرُبٌ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَبَ هاهنا هُوَ الْعَطَشُ يُقَالُ: لَهِبَ لَهَبًا وَرَجُلٌ لَهْبَانُ وَامْرَأَةٌ لَهْبَى.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ شَرَرَةٌ وَشَرَرٌ وَشَرَارَةٌ وَشَرَارٌ، وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ مُتَبَدِّدًا فِي كُلِّ جِهَةٍ وَأَصْلُهُ مِنْ شَرَرْتُ الثَّوْبَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَبَسَطْتَهُ لِلشَّمْسِ وَالشَّرَارُ يَنْبَسِطُ مُتَبَدِّدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ النَّارَ الَّتِي كَانَ ذَلِكَ الظِّلُّ دُخَانًا لَهَا بِأَنَّهَا ترمي بالشرارة العظيمة، والمقصود منه بيان
__________
(1) الصواب أن يقال: وفي الآية وجه ثالث. لأن الذي تقدم وجهان.(30/774)
أَنَّ تِلْكَ النَّارَ عَظِيمَةٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ ذَلِكَ الشَّرَرَ بِشَيْئَيْنِ الْأَوَّلُ: بِالْقَصْرِ وَفِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبِنَاءُ الْمُسَمَّى بِالْقَصْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْقُصُورَ الْعِظَامَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرِ فَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَمْعُ قَصْرَةٍ سَاكِنَةَ الصَّادِ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَجَمْرَةٍ وَجَمْرٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْحَطَبِ الْجَزْلِ الْغَلِيظِ قَصْرَةٌ وَالْجَمْعُ قَصْرٌ، قَالَ عبد الرحمن بن عباس: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْقَصْرِ فَقَالَ: هُوَ خَشَبٌ كُنَّا نَدَّخِرُهُ لِلشِّتَاءِ نَقْطَعُهُ وَكُنَّا نُسَمِّيهِ الْقَصْرَ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ والضحاك، وإلا أَنَّهُمْ قَالُوا: هِيَ أُصُولُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْعِظَامِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كَالْقَصَرِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ أَوْ أَعْنَاقُ النَّخْلِ نَحْوُ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَالْقُصُرِ بِمَعْنَى الْقَصْرِ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَالْقِصَرِ فِي جَمْعِ قَصْرَةٍ كَحَاجَةٍ وَحِوَجٍ.
التَّشْبِيهُ الثَّانِي: قوله تعالى: كأنه جمالات صُفْرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جِمَالَاتٌ جَمْعُ جمال كقوهم: رِجَالَاتٌ وَرِجَالٌ وَبُيُوتَاتٌ وَبُيُوتٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ حمالات بِضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قِيلَ: الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ الْحِبَالُ الْغِلَاظُ وَهِيَ حِبَالُ السُّفُنِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْقُلُوسُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي الْحِبَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجُمَّلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَقُرِئَ: حتى يلوج الجمل [الأعراف: 40] وَثَانِيهَا: قِيلَ هِيَ قِطَعُ النُّحَاسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعْظَمُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُمَالَاتُ بِالضَّمِّ مِنَ الشَّيْءِ الْمُجْمَلِ، يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ، وَجَاءَ الْقَوْمُ جُمْلَةً أَيْ مُجْتَمِعِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرَرَةَ تَرْتَفِعُ كَأَنَّهَا شَيْءٌ مَجْمُوعٌ غَلِيظٌ أَصْفَرُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جُمَالَاتٌ بِضَمِّ الْجِيمِ جَمْعَ جُمَالٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَجُمَالٌ بِضَمِّ الْجِيمِ يَكُونُ جَمْعَ جَمَلٍ، كَمَا يُقَالُ: رِخْلٌ وَرُخَالٌ وَرِخَالٌ.
القراءة الثاني: جِمَالَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ هِيَ جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلُ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالتَّاءُ إِنَّمَا لَحِقَتْ جِمَالًا لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، كَمَا لَحِقَتْ فِي فَحْلٍ وَفِحَالَةٍ.
الْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: جُمْلَةٌ بِضَمِّ الْجِيمِ وَهِيَ الْقَلْسُ، وَقِيلَ: صُفْرٌ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَمَّا قَوْلُهُ: صُفْرٌ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سُودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا تَرَى أَسْوَدَ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا وَهُوَ مَشُوبٌ صُفْرَةً، وَالشَّرَرُ إِذَا تَطَايَرَ فَسَقَطَ وَفِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ لَوْنِ النَّارِ كَانَ أَشْبَهَ بِالْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الَّذِي يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الصُّفْرَةُ لَا السَّوَادُ، لِأَنَّ الشَّرَرَ إِنَّمَا يُسَمَّى شَرَرًا، مَا دَامَ يَكُونُ نَارًا، وَمَتَى كَانَ نَارًا كَانَ أَصْفَرَ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَسْوَدَ إِذَا انْطَفَأَ، وَهُنَاكَ لَا يُسَمَّى شَرَرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّوَابُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى شَبَّهَ الشَّرَرَ فِي الْعِظَمِ بِالْقَصْرِ، وَفِي اللَّوْنِ وَالْكَثْرَةِ وَالتَّتَابُعِ وَسُرْعَةِ الْحَرَكَةِ بِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَقِيلَ: أَيْضًا إِنَّ ابْتِدَاءَ الشَّرَرِ يَعْظُمُ فَيَكُونُ كَالْقَصْرِ ثُمَّ يَفْتَرِقُ فَتَكُونُ تِلْكَ الْقِطَعُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُتَتَابِعَةُ كَالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ إِنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقُصُورُهُمْ قَصِيرَةُ السَّمْكِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخَيْمَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ بِهَذَا تَصَرَّفَ فِيهِ وَشَبَّهَهُ بِالْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
حَمْرَاءَ سَاطِعَةَ الذَّوَائِبِ فِي الدُّجَى ... تَرْمِي بِكُلِّ شرارة كطراف(30/775)
ثُمَّ زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِ الْكَشَّافِ أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرَهُ فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَحْقِيقِ الْكَلَامِ فِيهِ، فَنَقُولُ: تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالطِّرَافِ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ فِي الشَّكْلِ وَالْعِظَمِ، أَمَّا الشَّكْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّرَارَةَ تَكُونُ قَبْلَ انْشِعَابِهَا كَالنُّقْطَةِ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا انْشَعَبَتِ اتَّسَعَتْ فَهِيَ كَالنُّقْطَةِ الَّتِي تَتَّسِعُ فَهِيَ تُشْبِهُ الْخَيْمَةَ فَإِنَّ رَأْسَهَا كَالنُّقْطَةِ ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَتَّسِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا الثَّانِي: أَنَّ الشَّرَارَةَ كَالْكُرَةِ أَوِ الْأُسْطُوَانَةِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الشَّبَهِ بِالْخَيْمَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِالْخَيْمَةِ فِي النَّظْمِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، هَذَا مُنْتَهَى هَذَا التَّشْبِيهِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقَدْحِ فِيهِ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوْنَ الشَّرَارَةِ أَصْفَرُ يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْخَيْمَةِ مِنَ الْأَدِيمِ الثَّانِي: أَنَّ الْجِمَالَاتِ مُتَحَرِّكَةً وَالْخَيْمَةُ لَا تَكُونُ مُتَحَرِّكَةً فَتَشْبِيهُ الشَّرَارِ الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِمَالَاتِ الْمُتَحَرِّكَةِ أولى والثالث: أن الشرارات متتابعة يجيء بَعْضُهَا خَلْفَ الْبَعْضِ وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي الْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَصْرَ مَأْمَنُ الرَّجُلِ وَمَوْضِعُ سَلَامَتِهِ فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْقَصْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ آفَتُهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَقَّعَ مِنْهُ الْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ، وَحَالُ الْكَافِرِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْخَيْرَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ دِينِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا ظَهَرَتْ لَهُ آفَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الدِّينِ، وَالْخَيْمَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْهَا الْأَمْنُ الْكُلِّيُّ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ الْجَمَالِ فِي مِلْكِ الْجِمَالِ وَتَمَامَ النِّعَمِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمِلْكِ النَّعَمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْلِ: 6] فَتَشْبِيهُ الشَّرَرِ بِالْجِمَالِ السُّودِ كَالتَّهَكُّمِ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: كُنْتُمْ تَتَوَقَّعُونَ مِنْ دِينِكُمْ كَرَامَةً وَنِعْمَةً وَجَمَالًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَالَ هُوَ هَذِهِ الشَّرَارَاتُ الَّتِي هِيَ كَالْجِمَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي/ الطِّرَافِ السَّادِسُ: أَنَّ الْجِمَالَ إِذَا انْفَرَدَتْ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَأَرْجُلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَالَ بَلَاءً شَدِيدًا وَأَلَمًا عَظِيمًا، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِهَا حَالَ تَتَابُعِهَا يُفِيدُ حُصُولَ كَمَالِ الضَّرَرِ، وَالطِّرَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ السَّابِعُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ أَعْظَمَ مِنَ الطِّرَافِ وَالْجِمَالَاتُ الصُّفْرُ تَكُونُ أَكْثَرَ فِي الْعَدَدِ مِنَ الطِّرَافِ فَتَشْبِيهُ هَذِهِ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَفِي الْعَدَدِ وَتَشْبِيهُهَا بِالطِّرَافِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ كَانَ التَّشْبِيهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى الثَّامِنُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالشَّيْئَيْنِ فِي إِثْبَاتِ وَصْفَيْنِ أَقْوَى فِي ثُبُوتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ ذَيْنِكَ الْوَصْفَيْنِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ عِظَمِ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ، ثُمَّ إذا سمع بعد ذلك قوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تَسَارَعَ ذِهْنُهُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ وَتَتَابُعُهَا وَلَوْنُهَا. أَمَّا مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّرَارَ كَالطِّرَافِ يَبْقَى ذِهْنُهُ مُتَوَقِّفًا فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ إِثْبَاتُ الْعِظَمِ أَوْ إِثْبَاتُ اللَّوْنِ، فَالتَّشْبِيهُ بِالطِّرَافِ كَالْمُجْمَلِ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ وَبِالْجِمَالَاتِ الصُّفْرِ، كَالْبَيَانِ الْمُفَصَّلِ الْمُكَرَّرِ الْمُؤَكِّدِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ هُوَ التَّهْوِيلَ وَالتَّخْوِيفَ، فَكُلَّمَا كَانَ بَيَانُ وُجُوهِ الْعَذَابِ أَتَمَّ وَأَبْيَنَ كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ أَتَمُّ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ طَيِّبَ الْعَيْشِ وَقْتَ الِانْطِلَاقِ، وَالذَّهَابِ إِذَا كَانَ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجِدُ الظِّلَّ الطَّيِّبَ إِذَا كَانَ فِي قَصْرِهِ، فَوَقَعَ تَشْبِيهُ الشَّرَارَةِ بِالْقَصْرِ وَالْجِمَالَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَرْكُوبُكَ هَذِهِ الْجِمَالَاتُ، وَظِلُّكَ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَصْرِ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَطَايُرَ الْقَصْرِ إِلَى الْهَوَاءِ أَدْخَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ تَطَايُرِ الْخَيْمَةِ، لِأَنَّ الْقَصْرَ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ اللَّبَنِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ. وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ أَدْخَلُ فِي الثِّقَلِ وَالِاكْتِنَازِ من(30/776)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
الْخَيْمَةِ الْمُتَّخَذَةِ إِمَّا مِنَ الْكِرْبَاسِ أَوْ مِنَ الْأَدِيمِ، وَالشَّيْءُ كُلَّمَا كَانَ أَثْقَلَ وَأَشَدَّ اكْتِنَازًا كَانَ تَطَايُرُهُ فِي الْهَوَاءِ أَبْعَدَ، فَكَانَتِ النَّارُ الَّتِي تُطَيِّرُ الْقَصْرَ إِلَى الْهَوَاءِ أَقْوَى مِنَ النَّارِ الَّتِي تُطَيِّرُ الطِّرَافَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ أَمْرِ النَّارِ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْقَصْرِ أَوْلَى الْحَادِيَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَصْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَدْخَلُ فِي الْإِيلَامِ وَالْإِيجَاعِ مِنْ سُقُوطِ الطِّرَافِ عَلَيْهِ، فَتَشْبِيهُ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ بِالْقَصْرِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهَا تُؤْلِمُهُ إِيلَامًا شَدِيدًا، فَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنَ
الْهَوَاءِ شَرَارَاتٌ كَالْقُصُورِ بِخِلَافِ وُقُوعِ الطِّرَافِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُؤْلِمُ فِي الْغَايَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْجِمَالَ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ تَكُونُ مُوَقَّرَةً، فَتَشْبِيهُ الشَّرَارَاتِ بِالْجِمَالِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرَارَاتِ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تِلْكَ الشَّرَارَاتُ كَالْجِمَالَاتِ الْمُوَقَّرَةِ بِأَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الطِّرَافِ فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِالْجِمَالَاتِ أَتَمَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ تَوَالَتْ عَلَى الْخَاطِرِ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ تَضَرَّعْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ الْأَزْيَدِ/ لَأَعْطَانَا أَيَّ قَدْرٍ شِئْنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ التَّرْجِيحِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تُعَدُّ من الإطناب والله أعلم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 37]
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
نَصَبَ الْأَعْمَشُ (يَوْمَ) أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَّ عَلَيْكُمْ وَاقِعٌ يَوْمَئِذٍ، اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ: مِنَ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَحَدُهَا: عَذَابُ الْخَجَالَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَضِحُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَيَظْهَرُ لِكُلٍّ قُصُورُهُ وَتَقْصِيرُهُ وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ، عَلِمَ أَنَّ عَذَابَ الْخَجَالَةِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ وَالِاحْتِرَاقِ بِالنَّارِ وَثَانِيهَا: وُقُوفُ الْعَبْدِ الْآبِقِ عَلَى بَابِ الْمَوْلَى وَوُقُوعُهُ فِي يَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الَّذِي يَسْتَحِيلُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ، عَلَى مَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ خُصَمَاءَهُ الَّذِينَ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِهِمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ فَائِزِينَ بِالثَّوَابِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَرَى نَفْسَهُ فَائِزًا بِالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَهَذِهِ الثلاثة أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ وَرَابِعُهَا: الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ وَهُوَ مُشَاهَدَةُ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ مَا هُوَ مِمَّا لَا يَصِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزُّمَرِ: 31] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] وَقَوْلِهِ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النِّسَاءِ: 42] وَيُرْوَى أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ بِحُجَّةٍ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِيمَا عَمِلُوهُ عُذْرٌ صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطلقوا بِحُجَّةٍ سَلِيمَةٍ وَكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا، لِأَنَّ مَنْ نَطَقَ بِمَا لَا يُفِيدُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ(30/777)
لِمَنْ ذَكَرَ كَلَامًا غَيْرَ مُفِيدٍ: مَا قُلْتَ شَيْئًا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ وَذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْطِقُونَ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ: آتِيكَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، وَالْمَعْنَى سَاعَةَ يَقْدَمُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَوْمِ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْقُدُومَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا يَمْتَدُّ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَنْطِقُونَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لَا فِي الْأَنْوَاعِ وَلَا فِي الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِالشَّرِّ وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ بِالْخَيْرِ، وَتَارَةً تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ/ بَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَنْطِقَ بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَتَقُولُ:
فُلَانٌ لَا يَنْطِقُ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ لَا يَنْطِقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الدَّائِمِ وَالْمُوَقَّتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَفْهُومُ لَا يَنْطِقُ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ عَدَمُ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ النُّطْقِ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَيَكْفِي فِي صِدْقِ قَوْلِهِ: لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ بِعُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي وَقْتِ السُّؤَالِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى صِحَّةِ الْجَوَابَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْطِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَنَطَقَ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ يَحْنَثُ؟ قُلْنَا: مَبْنِيُّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَحْثٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ عَقِيبَ قَوْلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ فَيَنْقَادُونَ وَيَذْهَبُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمَرُونَ فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَاتِ فَمَا كَانُوا يَلْتَفِتُونَ. أَمَّا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ [فقد] صاروا منقادين مطيعين فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْخُصُومَةَ فِي الدُّنْيَا لَمَا احْتَاجُوا فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى هَذَا الِانْقِيَادِ الشَّاقِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ مُتَقَيِّدٌ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي هَذَا الْعَمَلِ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِسَبَبِ مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ فِي الْعُرْفِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ: أَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: لَوْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ هَذَا الْمُطْلَقُ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ، فكذا هاهنا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَقَدْ مُنِعُوا مِنْ ذِكْرِهِ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عُذْرٌ وَلَكِنْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا خَيَالًا فَاسِدًا أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعُذْرَ الْفَاسِدَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِقَضَائِكَ وَعِلْمِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ فَلِمَ تُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا عُذْرٌ فَاسِدٌ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] وَالْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ، أَنَّ لَهُ عُذْرًا، فَهَبْ أَنَّ عُذْرَهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فَاسِدٌ فَلِمَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي ذِكْرِهِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، ثُمَّ يُبَيَّنُ لَهُ فَسَادَهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات: 6] كَانَ إِعَادَتُهَا غَيْرَ مُفِيدَةٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فَاطِرٍ: 36] الْجَوَابُ: الفاء هاهنا لِلنَّسَقِ فَقَطْ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ جَزَاءً أَلْبَتَّةَ وَمِثْلُهُ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الْبَقَرَةِ: 245] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ يَعْتَذِرُونَ بِالْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِبَ لَكَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ مَا يَعْتَذِرُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الِاعْتِذَارِ، وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ عُذْرًا مُنِعُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. أَمَّا لَمَّا رُفِعَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْذَنُوا فِي الْعُذْرِ وَهُمْ أَيْضًا لَمْ يَعْتَذِرُوا لَا لِأَجْلِ عَدَمِ الْإِذْنِ بَلْ لِأَجْلِ عَدَمِ الْعُذْرِ فِي نَفْسِهِ،(30/778)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
ثُمَّ إِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حُصُولُ الْمُوَافَقَةِ فِي رُءُوسِ الْآيَاتِ/ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَلَوْ قِيلَ: فَيَعْتَذِرُوا لَمْ تَتَوَافَقِ الْآيَاتُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَرِ: 6] فَثَقَّلَ لِأَنَّ آيَاتِهَا مُثَقَّلَةٌ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً [الطَّلَاقِ: 8] وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى تَثْقِيلِ الْأَوَّلِ وَتَخْفِيفِ الثَّانِي لِيُوَافِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا قبله.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 40]
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّابِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْ بَابِ التَّعْذِيبِ بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّخْجِيلِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَقَعُ فِيهِ نَوْعَانِ مِنَ الْحُكُومَةِ أَحَدُهُمَا: مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّبِّ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الْفَصْلِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عَلَى عَمَلِهِ وَكَذَا فِي الْعِقَابِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الْفَصْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الْعَبْدِ وَهُوَ أَنْ تُقَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا حَتَّى يَعْتَرِفُوا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ هَذَا يَدَّعِي عَلَى ذَاكَ أَنَّهُ ظَلَمَنِي وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَتَلَنِي فَهَهُنَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ وَقَوْلُهُ: جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ كَلَامٌ مُوَضِّحٌ لِقَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ فَصْلِ حُكُومَاتِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِحْضَارِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ يُشِيرُ بِهِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفَعُونَ الْحُقُوقَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِضُرُوبِ الْحِيَلِ وَالْكَيْدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهَهُنَا إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ مِنَ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ فَافْعَلُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحِيَلَ مُنْقَطِعَةٌ وَالتَّلْبِيسَاتِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ نِهَايَةٌ فِي التَّخْجِيلِ وَالتَّقْرِيعِ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 45]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ الشَّدِيدَةَ وَالنَّفْرَةَ الْعَظِيمَةَ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا قَائِمَةً بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَصَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ بِحَيْثُ إِنَّ الْمَوْتَ كَانَ أَسْهَلَ عَلَى الْكَافِرِ مِنْ أَنْ يَرَى لِلْمُؤْمِنِ دَوْلَةً وَقُوَّةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ عَلَى الْكُفَّارِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اجْتِمَاعَ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى إِنَّ الْكَافِرَ حَالَ مَا يرى نفسه في غاية الذال وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، وَيَرَى خَصْمَهُ فِي نِهَايَةِ الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، تَتَضَاعَفُ(30/779)
حَسْرَتُهُ وَتَتَزَايَدُ غُمُومُهُ وَهُمُومُهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، فَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ عَنِ الشِّرْكِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَيْدَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَّقٍ وَالثَّانِي: خُصُوصُ كَوْنِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَتَى وُجِدَ الْمُرَكَّبُ، فَقَدْ وُجِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَّقٍ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّهُ خَصَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى فِيمَا عداه حجة لأن العام الَّذِي دَخَلَ التَّخْصِيصَ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُرَتَّبَةٌ فِي تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا لَتَفَكَّكَتِ السُّورَةُ فِي نَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا، وَالنَّظْمُ إِنَّمَا يَبْقَى لَوْ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ حَاصِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ وَعِيدُ الْكَافِرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ ذَلِكَ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ، فَأَمَّا أَنْ يُقْرَنَ بِهِ وَعْدُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ طَاعَتِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمُسَمَّى الْكَامِلِ أَوْلَى، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِ التَّقْوَى هُوَ التَّقْوَى عَنِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ الْكُفَّارَ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ أَعَدَّ فِي مُقَابَلَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعْمَةِ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: ظِلَالُهُمْ مَا كَانَتْ ظَلِيلَةً، وَمَا كَانَتْ مُغْنِيَةً عَنِ اللَّهَبِ وَالْعَطَشِ أَمَّا الْمُتَّقُونَ فَظِلَالُهُمْ ظَلِيلَةٌ، وَفِيهَا عُيُونٌ عَذْبَةٌ مُغْنِيَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَطَشِ وَحَاجِزَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهَبِ وَمَعَهُمُ الْفَوَاكِهُ الَّتِي يَشْتَهُونَهَا وَيَتَمَنَّوْنَهَا، وَلَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قَالَ لِلْمُتَّقِينَ:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِذْنُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِوَاسِطَةٍ، وَمَا أَعْظَمَهَا، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، وَمَعْنَى هَنِيئاً أَيْ خَالِصَ اللَّذَّةِ لَا يَشُوبُهُ سَقَمٌ وَلَا تَنْغِيصٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا أَمْرٌ أَوْ إِذْنٌ قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ أَمْرٌ، وَأَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، لِأَنَّ سُرُورَهُمْ يَعْظُمُ بِذَلِكَ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ مِنْهُمْ جَزَاءً عَلَى عَمَلِهِمْ فَكَمَا يَزِيدُ إِجْلَالُهُمْ وَإِعْظَامُهُمْ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يُرِيدُ نَفْسَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَهُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ هَذَا صِفَةَ الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ الْعَمَلُ يُوجِبُ الثَّوَابَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِضَافَةِ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَامَةً لِهَذَا الثَّوَابِ كَانَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ كَالْآلَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُذَكِّرَ الْكُفَّارَ مَا فَاتَهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ لَفَازُوا بِمِثْلِ تِلْكَ الْخَيْرَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.(30/780)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 47]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ التَّاسِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ للكفار حَالَ كَوْنِهِ فِي الدُّنْيَا إِنَّكَ إِنَّمَا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَلِهَذِهِ الْمِحَنِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا لِأَجْلِ حُبِّكَ لِلدُّنْيَا وَرَغْبَتِكَ فِي طَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّيِّبَاتِ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْآفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمُشْتَغِلُ بِتَحْصِيلِهَا يَجْرِي مَجْرَى لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَلْوَاءِ، وَفِيهَا السلم الْمُهْلِكُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَكْلَهَا وَلَا يَتْرُكُهَا بِسَبَبِ نَصِيحَةِ النَّاصِحِينَ وَتَذْكِيرِ الْمُذَكِّرِينَ: كُلْ هَذَا وَوَيْلٌ لَكَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا فَإِنَّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ أَمْرًا إِلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ بَلِيغٌ وَزَجْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْعٌ فِي غَايَةِ الْمُبَالَغَةِ.
ثم قال تعالى:
[سورة المرسلات (77) : الآيات 48 الى 49]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الْعَاشِرُ: مِنْ أَنْوَاعِ تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَلَكِنْ لَا تُعْرِضُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِكُمْ بَلْ تَوَاضَعُوا لَهُ فَإِنَّكُمْ إِنْ آمَنْتُمْ ثُمَّ ضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ طَلَبَ اللَّذَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي حَصَلَ لَكُمْ رَجَاءُ الْخَلَاصِ عَنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذَلِكَ وَلَا يَنْقَادُونَ لِطَاعَتِهِ، وَيَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَعْرِيضِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْوَيْلُ لِمَنْ يُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَهُمْ إِلَى هَذِهِ المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مِنْ أَرْكَانِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى الصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ حَالَ كَفْرِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلِكُفْرِهِمْ ذَمَّهُمْ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمَأْمُورَ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جائز.
[سورة المرسلات (77) : آية 50]
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي زَجْرِ الْكُفَّارِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا بِالْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ الَّتِي شرحناها،(30/781)
وَحَثَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِيَادِ لِلدِّينِ الْحَقِّ خَتَمَ السُّورَةَ بِالتَّعَجُّبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ اللَّطِيفَةِ مَعَ تَجَلِّيهَا وَوُضُوحِهَا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ، وَالْحَدِيثُ ضِدُّ الْقَدِيمِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِذَا كَانَ حَدِيثًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدِيمًا، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سيد المرسلين محمد وآله أجمعين.
تم الجزء الثلاثون ويليه الجزء الحادي والثلاثون وأوله سورة النبأ(30/782)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
الجزء الواحد والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
أربعون آية مكية
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
[في قوله تعالى عَمَّ يَتَساءَلُونَ] فِيهِ مَسَائِلٌ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَمَّ أَصْلُهُ حَرْفُ جَرٍّ دَخَلَ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةَ، قَالَ حَسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
وَالِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى الْحَذْفِ وَالْأَصْلُ قَلِيلٌ، ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْحَذْفِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ لِأَنَّ الْمِيمَ تَشْرَكُ الْغُنَّةَ فِي الْأَلِفِ فَصَارَا كَالْحَرْفَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ إِنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا مَا فِي اسْتِفْهَامٍ حَذَفُوا أَلِفَهَا تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ اسْمًا كَقَوْلِهِمْ: فِيمَ وَبِمَ وَلِمَ وَعَلَامَ وَحَتَّامَ وَثَالِثُهَا: قَالُوا حُذِفَتِ الْأَلِفُ لِاتِّصَالِ مَا بِحَرْفِ الْجَرِّ حَتَّى صَارَتْ كَجُزْءٍ مِنْهُ لِتُنْبِئَ عَنْ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ وَرَابِعُهَا: السَّبَبُ فِي هَذَا الْحَذْفِ التَّخْفِيفُ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَفْظٌ كَثِيرُ التَّدَاوُلِ عَلَى اللِّسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ عَمَّ يَتَساءَلُونَ أَنَّهُ سُؤَالٌ، وَقَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جَوَابُ السَّائِلِ وَالْمُجِيبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ، بَلْ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ يَذْكُرَ الْجَوَابَ مَعَهُ؟
قُلْنَا لِأَنَّ إِيرَادَ الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ أَقْرَبُ إِلَى التَّفْهِيمِ وَالْإِيضَاحِ وَنَظِيرُهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ (عَمَّا) وَهُوَ الْأَصْلُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَمَّهْ بِهَاءِ السَّكْتِ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُجْرِيَ الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَقِفَ وَيَبْتَدِئَ بِ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنْ يُضْمِرَ يَتَسَاءَلُونَ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ يُفَسِّرُهُ كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ يُفَسِّرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: (مَا) لَفْظَةٌ وُضِعَتْ لِطَلَبِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا، تَقُولُ مَا الْمُلْكُ؟ وَمَا الرُّوحُ؟ وَمَا الْجِنُّ؟ وَالْمُرَادُ طَلَبُ مَاهِيَّاتِهَا وَشَرْحُ حَقَائِقِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ مَجْهُولًا. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَكُونُ لِعِظَمِهِ وَتَفَاقُمِ مَرْتَبَتِهِ وَيُعْجِزُ الْعَقْلَ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِكُنْهِهِ يَبْقَى مَجْهُولًا، فَحَصَلَ بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ(31/5)
بِلَفْظِ مَا وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ مُشَابَهَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْمُشَابَهَةُ إِحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَعَلَ (مَا) دَلِيلًا عَلَى عَظَمَةِ حَالِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَعُلُوِّ رُتْبَتِهِ/ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ [الْمُطَفِّفِينَ: 8] ، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ [الْبَلَدِ: 12] وَتَقُولُ زَيْدٌ وَمَا زَيْدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: التَّسَاؤُلُ هُوَ أَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالتَّقَابُلِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي أَنْ يَتَحَدَّثُوا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَعْضِهِمْ لبعض سؤال، قَالَ تَعَالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور: 25] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات: 51، 52] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّحَدُّثِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَمَّ يَتَحَدَّثُونَ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ مَنْ هُمْ، فيه احتمالات: الاحتمال الأول: أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 4، 5] الضمير في يتساءلون، وهم فيه مختلفون وسيعلمون، رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تَهْدِيدٌ وَالتَّهْدِيدُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكُفَّارِ، فَثَبَتَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ مَعَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ؟ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُثْبِتُ الْمَعَادَ الرُّوحَانِيَّ، وَهُمْ جُمْهُورُ النَّصَارَى، وَأَمَّا الْمَعَادُ الْجُسْمَانِيُّ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ كَقَوْلِهِ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَيَقُولُ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 37] وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَصَلَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لَهُ لَكِنْ لَعَلَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ إِنْكَارِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ الصَّانِعَ الْمُخْتَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُنْكِرُهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِعَادَةَ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعَةٌ لِذَاتِهَا وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ إِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَا يَكُونُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ هُمُ الْكُفَّارُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَانُوا جَمِيعًا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ، أَمَّا الْمُسْلِمُ فَلِيَزْدَادَ بَصِيرَةً وَيَقِينًا فِي دِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَعَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ إِيرَادِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ، وَيَقُولُونَ مَا هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْقِيَامَةُ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: سَيَعْلَمُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ هَذَا الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ حِينَ لَا تَنْفَعُهُمْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَامَةُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [طه: 102] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا قَدَّمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِبَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا/ عَلَى إِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَبَتَ أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ الَّذِي كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَظِيمَ اسْمٌ لِهَذَا الْيَوْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ(31/6)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
الْعالَمِينَ
[الْمُطَفِّفِينَ: 4، 6] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68] وَلِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى فَزَعِ الْخَلْقِ وَخَوْفِهِمْ مِنْهُ فَكَانَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَظِيمِ بِهِ لائقا والقول الثاني: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ [الواقعة: 77] وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْوَجْهِ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَهُ سِحْرًا وَبَعْضَهُمْ شِعْرًا، وَبَعْضَهُمْ قَالَ إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَأَمَّا الْبَعْثُ وَنُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى إِنْكَارِهِمَا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْبَعْثِ الثَّانِي: أَنَّ النَّبَأَ اسْمُ الْخَبَرِ لَا اسْمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ فَتَفْسِيرُ النَّبَإِ بِالْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنَبَأٍ بَلْ مُنْبَأٍ عَنْهُ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ ذِكْرًا وَتَذْكِرَةً وَذِكْرَى وَهِدَايَةً وَحَدِيثًا، فَكَانَ اسْمُ النَّبَأِ بِهِ أَلْيَقَ مِنْهُ بِالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ النَّبَأِ أَلْيَقَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَاسْمُ الْعَظِيمِ أَلْيَقُ بِالْقِيَامَةِ وَبِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ لا عظمة في الألفاظ إِنَّمَا الْعَظَمَةُ فِي الْمَعَانِي، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا عَظِيمَةٌ أَيْضًا فِي الْفَصَاحَةِ وَالِاحْتِوَاءِ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ أَنَّ الْعَظِيمَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ بَقِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ سَلِيمًا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبَأَ الْعَظِيمَ هُوَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ مَاذَا الَّذِي حَدَثَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ إِرْسَالِ اللَّهِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] وَعَجِبُوا أَيْضًا أَنْ جَاءَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُسَاءَلَةَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ كَلَامٌ تَامٌّ، ثُمَّ قَالَ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وَالتَّقْدِيرُ: يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ يَتَسَاءَلُونَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ اسْتِفْهَامًا متصلا بما قبله، والتقدير: عم يتساءلون أعن النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، إِلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَكَالتَّرْجَمَةِ وَالْبَيَانِ لَهُ كما قرئ في قوله: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصَّافَّاتِ: 16] بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْبَعْثِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأُولَى عَلَى تَقْدِيرِ، لِأَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَعَمَّ كَأَنَّهَا فِي الْمَعْنَى لِأَيِّ شَيْءٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ.
[سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
قَالَ الْقَفَّالُ: كَلَّا لَفْظَةٌ وُضِعَتْ لِرَدِّ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ فِي النَّبَإِ الْعَظِيمِ إِنَّهُ بَاطِلٌ أَوْ إِنَّهُ لَا يَكُونُ، وَقَالَ قَائِلُونَ كَلَّا مَعْنَاهُ حَقًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ ذَلِكَ الرَّدْعَ وَالتَّهْدِيدَ، فَقَالَ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ حَقٌّ لَا دَافِعَ لَهُ، وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَأَمَّا تَكْرِيرُ الرَّدْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ(31/7)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
وَالتَّشْدِيدُ، وَمَعْنَى ثُمَّ الْإِشْعَارُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ الثَّانِيَ أبلغ من الوعيد الأول وأشدو الثاني: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ الْآيَةُ الْأُولَى لِلْكُفَّارِ وَالثَّانِيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ وَسَيَعْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ عَاقِبَةَ تَصْدِيقِهِمْ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَوَّلِ سَيَعْلَمُونَ نَفْسَ الْحَشْرِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَيُرِيدُ بِالثَّانِي سَيَعْلَمُونَ نَفْسَ الْعَذَابِ إِذَا شَاهَدُوهُ وَثَالِثُهَا: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ مَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ بَاعِثٍ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَكَمَا جَرَى عَلَى كَفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ بِمَا يَنَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالْيَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ تَحْتُ فِي (سَيَعْلَمُونَ) وَرُوِيَ بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 3] عَلَى لَفْظِ الْغِيبَةِ، وَالتَّاءُ عَلَى قُلْ لَهُمْ: سَتَعْلَمُونَ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ هَاهُنَا مُتَمَكِّنٌ حَسَنٌ، كَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ عَبْدِي يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: إِنَّكَ سَتَعْرِفُ وَبَالَ هَذَا الْكَلَامِ.
[سورة النبإ (78) : آية 6]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ إِنْكَارَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ قَدَّمَ لِذَلِكَ مُقَدِّمَةً فِي بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِأَنْ عَدَّدَ أَنْوَاعًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ حُدُوثِهَا تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَمِنْ جِهَةِ إِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ وَثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي قَبُولِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ، ثَبَتَ لَا مَحَالَةَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَخْرِيبِ الدُّنْيَا بِسَمَاوَاتِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَأَرْضِهَا، وَعَلَى إِيجَادِ عَالَمِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ عَجَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ أُمُورًا فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْمِهَادُ مَصْدَرٌ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا الْمَمْهُودُ، أَيْ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مَمْهُودَةً/ وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ هَذَا ضَرْبُ الْأَمِيرِ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وُصِفَتْ بِهَذَا الْمَصْدَرِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ جُودٌ وَكَرَمٌ وَفَضْلٌ، كَأَنَّهُ لِكَمَالِهِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ صَارَ عَيْنَ تِلْكَ الصِّفَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى ذَاتِ مِهَادٍ، وَقُرِئَ مَهْدًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ لِلْخَلْقِ كَالْمَهْدِ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ الَّذِي مُهِّدَ لَهُ فَيُنَوَّمُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [الْبَقَرَةِ: 22] كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْحَقَائِقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وثانيها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 7]
وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7)
أَيْ لِلْأَرْضِ [كَيْ] لَا تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، فَيَكْمُلُ كَوْنُ الْأَرْضِ مِهَادًا بِسَبَبِ ذَلِكَ قد تقدم أيضا. وثالثها: قوله تعالى:(31/8)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
[سورة النبإ (78) : آية 8]
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)
وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَمَا قَالَ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: 45] ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ زَوْجَيْنِ وَ [كُلُّ] مُتَقَابِلَيْنِ مِنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَجَمِيعُ الْمُتَقَابِلَاتِ وَالْأَضْدَادِ، كَمَا قَالَ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَصِحَّ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، فَيَتَعَبَّدَ الْفَاضِلُ بِالشُّكْرِ وَالْمَفْضُولُ بِالصَّبْرِ وَيُتَعَرَّفَ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ، فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الشَّبَابِ عِنْدَ الشَّيْبِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْأَمْنِ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَعْرِيفِ النِّعَمِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 9]
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُباتاً مَوْتًا وَالْمَسْبُوتُ الْمَيِّتُ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما: قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ [الْأَنْعَامِ: 60] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ النَّوْمَ مَوْتًا جَعَلَ الْيَقَظَةَ مَعَاشًا، أَيْ حَيَاةً فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 11] وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَلَائِلُ النِّعَمِ، فَلَا يَلِيقُ الْمَوْتُ بِهَذَا الْمَكَانِ وَأَيْضًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَوْتًا، أَنَّ الرُّوحَ انْقَطَعَ عَنِ الْبَدَنِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ انْقِطَاعُ أَثَرِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا هُوَ النَّوْمُ، وَيَصِيرُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى: إِنَّا جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا وَثَانِيهَا: قَالَ اللَّيْثُ: السُّبَاتُ النَّوْمُ شِبْهُ الْغَشْيِ يُقَالُ سُبِتَ. الْمَرِيضُ فَهُوَ مَسْبُوتٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السُّبَاتُ الْغَشْيَةُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ شِبْهَ الْمَوْتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْغَشْيَ هَاهُنَا إِنْ كَانَ النَّوْمَ فَيَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالسُّبَاتِ شِدَّةَ ذَلِكَ الْغَشْيِ فَهُوَ. بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَوْمٍ كَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ مَرَضٌ فَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي أَثْنَاءِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ السَّبْتَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْقَطْعُ يُقَالُ سَبَتَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ يَسْبُتُهُ سَبْتًا إِذَا حَلَقَ شَعْرَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ:
سُباتاً أَيْ قَطْعًا/ ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا مُتَقَطِّعًا لَا دَائِمًا، فَإِنَّ النَّوْمَ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ. أَمَّا دَوَامُهُ فَمِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ، فَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْإِنْعَامِ الثَّانِي. أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعِبَ ثُمَّ نَامَ، فَذَلِكَ النَّوْمُ يُزِيلُ عَنْهُ ذَلِكَ التَّعَبَ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ سَبْتًا وَقَطْعًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ رَاحَةً، وَلَيْسَ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ السُّبَاتَ اسْمٌ لِلرَّاحَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ النَّوْمَ يَقْطَعُ التَّعَبَ وَيُزِيلُهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ الثَّالِثُ:
قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أَيْ جَعَلْنَاهُ نَوْمًا خَفِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ وَقَطْعُهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلٌ مَسْبُوتٌ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يُغَالِبُهُ وَهُوَ يُدَافِعُهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا لَطِيفًا يُمْكِنُكُمْ دَفْعُهُ، وَمَا جَعَلْنَاهُ غَشْيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الشَّدِيدَةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ. وخامسها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 10]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
قَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُ اللِّبَاسِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ وَيَتَغَطَّى بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُغَطِّيًا لَهُ، فَلَمَّا كَانَ(31/9)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
اللَّيْلُ يَغْشَى النَّاسَ بِظُلْمَتِهِ فَيُغَطِّيهِمْ جُعِلَ لِبَاسًا لَهُمْ، وَهَذَا السَّبْتُ سُمِّيَ اللَّيْلُ لِبَاسًا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ اللَّيْلِ سَاتِرًا لَهُمْ. وَأَمَّا وَجْهُ النِّعْمَةِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ تَسْتُرُ الْإِنْسَانَ عَنِ الْعُيُونِ إِذَا أَرَادَ هَرَبًا مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ بَيَاتًا لَهُ، أَوْ إِخْفَاءَ مَا لَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ إِطْلَاعَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، قَالَ الْمُتَنَبِّي:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِ اللِّبَاسِ يَزْدَادُ جَمَالُهُ وَتَتَكَامَلُ قُوَّتُهُ وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَكَذَا لِبَاسُ اللَّيْلِ بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ يَزِيدُ فِي جَمَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي طَرَاوَةِ أَعْضَائِهِ وَفِي تَكَامُلِ قُوَاهُ الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَذَى التَّعَبِ الْجُسْمَانِيِّ، وَأَذَى الْأَفْكَارِ الْمُوحِشَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْلِ وَجَدَ الْخِفَّةَ الْعَظِيمَةَ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة النبإ (78) : آية 11]
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11)
في المعاش وجهان أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: عَاشَ يَعِيشُ عَيْشًا وَمَعَاشًا وَمَعِيشَةً وَعِيشَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالْمَعْنَى وَجَعْلِنَا النَّهَارَ وَقْتَ معاش وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَاشًا مَفْعَلًا وَظَرْفًا لِلتَّعَيُّشِ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَمَعْنَى كَوْنِ النَّهَارِ مَعَاشًا أَنَّ الْخَلْقَ إِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّقَلُّبُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ فِي النَّهَارِ لَا في الليل. وسابعها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 12]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12)
أي سبع سموات شِدَادًا جَمْعُ شَدِيدَةٍ/ يَعْنِي مُحْكَمَةً قَوِيَّةَ الْخَلْقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مُرُورُ الزَّمَانِ، لَا فُطُورَ فِيهَا وَلَا فُرُوجَ، وَنَظِيرُهُ وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الْأَنْبِيَاءِ: 32] فَإِنْ قِيلَ لَفْظُ الْبِنَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي أَسَافِلِ الْبَيْتِ وَالسَّقْفِ فِي أَعْلَاهُ فَكَيْفَ قَالَ: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً؟ قُلْنَا الْبِنَاءُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْآفَةِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ السَّقْفِ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ: وَبَنَيْنا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَقْفًا لَكِنَّهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الِانْحِلَالِ كَالْبِنَاءِ، فَالْغَرَضُ مِنَ اخْتِيَارِ هَذَا اللَّفْظِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ. وثامنها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 13]
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13)
كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ مُضْطَرِبٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَهَّاجِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوَهَجُ مَجْمَعُ النُّورِ وَالْحَرَارَةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّمْسَ بَالِغَةٌ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا وَهَّاجًا، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَهَّاجَ مُبَالَغَةٌ فِي النُّورِ فَقَطْ، يُقَالُ لِلْجَوْهَرِ إِذَا تَلَأْلَأَ تَوَهَّجَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَهَّاجَ يُفِيدُ الْكَمَالَ فِي النُّورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ النُّورَ:
نُوَّارُهَا مُتَبَاهِجٌ يَتَوَهَّجُ
وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الْوَهَجُ، حَرُّ النَّارِ وَالشَّمْسِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْوَهَّاجَ هُوَ الْبَالِغُ فِي الْحَرِّ وَاعْلَمْ أَنَّ أَيَّ هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل. تاسعها: قوله:
[سورة النبإ (78) : آية 14]
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)(31/10)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
أَمَّا الْمُعْصِرَاتُ فَفِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَقَتَادَةَ إِنَّهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرُّومِ: 48] فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ، قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ، وَالسَّحَابُ إِنَّمَا يُثِيرُهُ الرِّيَاحُ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْمَطَرُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ تِلْكَ الرِّيَاحِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ، أَيْ مِنْ جِهَتِهِ وَبِسَبَبِهِ الثَّانِي: أَنَّ مِنْ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَاءِ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ أَيْ بِالرِّيَاحِ الْمُثِيرَةِ لِلسَّحَابِ وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا (وَأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ) وَطَعَنَ الْأَزْهَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ الْأَعَاصِيرُ مِنَ الرِّيَاحِ لَيْسَتْ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْصِرَاتِ بِالْمَاءِ الثَّجَّاجِ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْإِعْصَارَ لَيْسَتْ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْصِرَاتُ مِنْ رِيَاحِ الْمَطَرِ؟
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا السَّحَابُ، وَذَكَرُوا فِي تَسْمِيَةِ السَّحَابِ بِالْمُعْصِرَاتِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْمُعْصِرَاتُ السَّحَائِبُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَثَانِيهَا: قَالَ الْمَازِنِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْصِرَاتُ هِيَ السَّحَائِبَ ذَوَاتِ الْأَعَاصِيرِ فَإِنَّ السَّحَائِبَ إِذَا عَصَرَتْهَا الْأَعَاصِيرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْزِلَ الْمَطَرُ مِنْهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُعْصِرَاتِ هِيَ السَّحَائِبُ الَّتِي شَارَفَتْ أَنْ تَعْصِرَهَا الرِّيَاحُ فَتُمْطِرُ كَقَوْلِكَ: أَجُزُّ الزَّرْعَ إِذَا حَانَ لَهُ أَنْ يُجَزَّ، / وَمِنْهُ أَعْصَرَتِ الْجَارِيَةُ إِذَا دَنَتْ أَنْ تَحِيضَ، وَأَمَّا الثَّجَّاجُ فَاعْلَمْ أَنَّ الثَّجَّ شِدَّةُ الِانْصِبَابِ يُقَالُ: مَطَرٌ ثَجَّاجٌ وَدَمٌ ثَجَّاجٌ أَيْ شَدِيدُ الِانْصِبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّجَّ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا، وَهُوَ بِمَعْنَى الِانْصِبَابِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى الصَّبِّ
وَفِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ»
أَيْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَصَبُّ دِمَاءِ الْهَدْيِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثَجًّا أَيْ يَثُجُّ الْكَلَامَ ثَجًّا فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ فَسَّرُوا الثَّجَّاجَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ الثَّجَّاجُ هَاهُنَا الْمُتَدَفِّقُ الْمُنْصَبُّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ الصَّبَّابُ كَأَنَّهُ يَثُجُّ نَفْسَهُ أَيْ يَصُبُّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ تَتَابُعُ الْقَطْرِ حَتَّى يَكْثُرَ الماء فيعظم النفع به.
[سورة النبإ (78) : الآيات 15 الى 16]
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كُلُّ شَيْءٍ نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سَاقٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَاقٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْمَامٌ وَهُوَ الْحَبُّ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَكْمَامٌ وَهُوَ الْحَشِيشُ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: وَنَباتاً وَإِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] وَأَمَّا الَّذِي لَهُ سَاقٌ فَهُوَ الشَّجَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ سُمِّيَتْ جَنَّةً، فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ انْحِصَارُ مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَبَّ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْغِذَاءِ، وَإِنَّمَا ثَنَّى بِالنَّبَاتِ لِاحْتِيَاجِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْجَنَّاتِ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْفَوَاكِهِ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَلْفَافًا، فَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ، وَالْأَوْزَاعُ الْجَمَاعَاتُ الْمُتَفَرِّقَةُ وَالْأَخْيَافُ الْجَمَاعَاتُ الْمُخْتَلَطَةُ. وَكَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ أَثْبَتُوا لَهُ وَاحِدًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فيه، فقال(31/11)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: وَاحِدُهَا لِفٌّ بِالْكَسْرِ، وَزَادَ الْكِسَائِيُّ: لُفٌّ بِالضَّمِّ، وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ الضَّمَّ، وَقَالَ: بَلْ وَاحِدُهَا لَفَّاءُ. وَجَمْعُهَا لُفٌّ، وَجَمْعُ لِفٍّ أَلْفَافٌ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ لَفِيفٍ كَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ نَقَلَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أَيْ مُلْتَفَّةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جَنَّةٍ فَإِنَّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً مُتَقَارِبَةً، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ امْرَأَةٌ لَفَّاءُ إِذَا كَانَتْ غَلِيظَةَ السَّاقِ مُجْتَمِعَةَ اللَّحْمِ يَبْلُغُ مِنْ تَقَارُبِهِ أَنْ يَتَلَاصَقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ الْكَعْبِيُّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالطَّبَائِعِ، فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَقَالَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بواسطة شيء آخر.
[سورة النبإ (78) : آية 17]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17)
اعْلَمْ أَنَّ التِّسْعَةَ الَّتِي عَدَّدَهَا اللَّهُ تَعَالَى نَظَرًا إِلَى حُدُوثِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَنَظَرًا إِلَى إِمْكَانِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَنَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهَا عَالِمٌ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ الْقَدِيمَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَاجِبَيْنِ، إِذْ لَوْ كَانَا جَائِزَيْنِ لَافْتَقَرَ إِلَى فَاعِلٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَاجِبَيْنِ وَجَبَ تَعَلُّقُهُمَا بِكُلِّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَمَعْلُومًا وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى الْمُخَصَّصِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَثَبَتَ عُمُومُ الْقُدْرَةِ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا صَحَّ عَلَى الْآخَرِ، فَكَمَا يَصِحُّ عَلَى الْأَجْسَامِ السَّلَفِيَّةِ الِانْشِقَاقُ وَالِانْفِطَارُ وَالظُّلْمَةُ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَثَبَتَ عُمُومُ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَخْرِيبِ الدنيا، وقادر إِيجَادِ عَالَمٍ آخَرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقِيَامِ الْقِيَامَةِ مُمْكِنٌ عَقْلًا وَإِلَى هَاهُنَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ حُدُوثِهَا وَكَيْفِيَّةِ حُدُوثِهَا فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، وَحُكْمِهِ حَدًّا تُؤَقَّتُ بِهِ الدُّنْيَا، أَوْ حَدًّا لِلْخَلَائِقِ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مِيقَاتًا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، أَوْ كَانَ مِيقَاتًا لِاجْتِمَاعِ كُلِّ الْخَلَائِقِ في فصل الحكومات وقطع الخصومات.
وثانيها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 18]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
اعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ يُنْفَخُ بَدَلٌ مِنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهَذَا النَّفْخُ هُوَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي عِنْدَهَا يَكُونُ الْحَشْرُ، وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّورَ جَمْعُ الصور، فالنفخ في الصور عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَادِ وَالثَّانِي: أن الصور عِبَارَةٌ عَنْ قَرْنٍ يُنْفَخُ فِيهِ. وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الصُّورِ وَمَا قِيلَ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَقَوْلُهُ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ ذَلِكَ الْمَقَامَ فَوْجًا فَوْجًا حَتَّى يَتَكَامَلَ اجْتِمَاعُهُمْ. قَالَ عَطَاءٌ كُلُّ نَبِيٍّ يَأْتِي مَعَ أُمَّتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: 71] وَقِيلَ جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ،
روى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُعَاذُ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يُحْشَرُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِي بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى(31/12)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
صُورَةِ الْخَنَازِيرِ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكِّسُونَ أَرْجُلُهُمْ فَوْقَ وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ عَلَيْهَا، وَبَعْضُهُمْ عُمْيٌ، وَبَعْضُهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمْ وَهِيَ مُدَلَّاةٌ عَلَى صُدُورِهِمْ يَسِيلُ الْقِيحُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يَتَقَذَّرُهُمْ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَبَعْضُهُمْ مُقَطَّعَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ مُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَارٍ، وَبَعْضُهُمْ/ أَشَدُّ نَتْنًا مِنَ الْجِيَفِ، وَبَعْضُهُمْ مُلْبَسُونَ جِبَابًا سَابِغَةً مِنْ قَطْرَانٍ لَازِقَةٍ بِجُلُودِهِمْ. فَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ فَالْقَتَّاتُ مِنَ النَّاسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازِيرِ فَأَهَّلُ السُّحْتِ. وَأَمَّا الْمُنَكَّسُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَأَكَلَةُ الرِّبَا، وَأَمَّا الْعُمْيُ فَالَّذِينَ يَجُورُونَ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الصُّمُّ وَالْبُكْمُ فَالْمُعْجَبُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَمْضُغُونَ أَلْسِنَتَهُمْ فَالْعُلَمَاءُ وَالْقُصَّاصُ الَّذِينَ يُخَالِفُ قَوْلُهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْجِيرَانَ وَأَمَّا الْمُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنَ النَّارِ فَالسُّعَاةُ بِالنَّاسِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ نَتْنًا مِنَ الْجِيَفِ فَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَمَنَعُوا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الْجِبَابَ فأهل الكبر والفخر والخيلاء.
وثالثها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 19]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فُتِحَتِ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ وَالْمَعْنَى كَثُرَتْ أَبْوَابُهَا الْمُفَتَّحَةُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الإنشقاق: 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] إِذِ الْفَتْحُ وَالتَّشَقُّقُ وَالتَّفَطُّرُ، تَتَقَارَبُ، وَأَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنَ التَّشَقُّقِ وَالتَّفَطُّرِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ السَّمَاءُ أَبْوَابًا، ثُمَّ تُفَتَّحُ تِلْكَ الْأَبْوَابُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ تَشَقُّقٌ وَلَا تَفَطُّرٌ، بَلِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ فَتْحِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ يَحْصُلُ التَّشَقُّقُ وَالتَّفَطُّرُ وَالْفَنَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً يُفِيدُ أَنَّ السَّمَاءَ بِكُلِّيَّتِهَا تَصِيرُ أَبْوَابًا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ لَمَّا كَثُرَتْ جِدًّا صَارَتْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَبْوَابًا مُفَتَّحَةً كَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَرِ: 12] أَيْ كَأَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ عُيُونًا تَتَفَجَّرُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ فَكَانَتْ ذَاتَ أَبْوَابٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَكانَتْ أَبْواباً عَائِدٌ إِلَى مُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ فَكَانَتْ تِلْكَ الْمَوَاضِعُ الْمَفْتُوحَةُ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ: 22] .
وَرَابِعُهَا: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 20]
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَحْوَالَ هَذِهِ الْجِبَالِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقُولُهُ: وَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِهَا الِانْدِكَاكُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لَهَا: أَنْ تَصِيرَ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 5] وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 4، 5] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَكُونُ(31/13)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ
[المعارج: 8، 9] .
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ تَصِيرَ كَالْهَبَاءِ وَذَلِكَ أَنْ تَتَقَطَّعَ وَتَتَبَدَّدَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: / إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَةِ: 4- 6] .
والحالة المسألة الرَّابِعَةُ: أَنْ تُنْسَفَ لِأَنَّهَا مَعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَارَّةٌ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْأَرْضُ تَحْتَهَا غَيْرُ بَارِزَةٍ فَتُنْسَفُ عَنْهَا بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] .
وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّيَاحَ تَرْفَعُهَا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَتُطَيِّرُهَا شُعَاعًا فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا غُبَارٌ فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بُعْدٍ حَسِبَهَا لِتَكَاثُفِهَا أجساما جامدة وهي الْحَقِيقَةِ مَارَّةٌ إِلَّا أَنَّ مُرُورَهَا بِسَبَبِ مُرُورِ الرياح بها [صيرها] مندكة متفتتة، وهي قوله: تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النحل: 88] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَةَ حَصَلَتْ بِقَهْرِهِ وتسخيره، فقال:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الطور: 10] وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: 47] .
الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ تَصِيرَ سَرَابًا، بِمَعْنَى لَا شَيْءَ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَوَاضِعِهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا، كَمَا أَنَّ مَنْ يَرَى السَّرَابَ مِنْ بُعْدٍ إِذَا جَاءَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى هَاهُنَا هِيَ: أَحْوَالٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هاهنا يصف أهوال جهنم وأحوالها.
فأولها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 21]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ: أَنَّ جَهَنَّمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَعْلِيلِ قِيَامِ السَّاعَةِ، بِأَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَانَ كَذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَتْ مِرْصَادًا، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ صَارَتْ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ نَقَلَهُمَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْمِرْصَادَ بِالْمُرْتَقِبِ، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ كالمنتظرة لمقدومهم مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَكَالْمُسْتَدْعِيَةِ وَالطَّالِبَةِ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمِرْصَادِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِرْصَادَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ، كَالْمِضْمَارِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُضْمَرُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَالْمِنْهَاجُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُنْهَجُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِيهِ احْتِمَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَرْصُدُونَ الْكُفَّارَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَجَازَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَمَرَّهُمْ كَانَ عَلَى جَهَنَّمَ، لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] فَخَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَسْتَقْبِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ جَهَنَّمَ، وَيَرْصُدُونَهُمْ عِنْدَهَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِرْصَادَ مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، وَهُوَ التَّرَقُّبُ، بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار وَالْمِعْمَارِ وَالْمِطْعَانِ، قِيلَ إِنَّهَا تَرْصُدُ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَتَشُقُّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الْمُلْكِ: 8] قِيلَ تَرْصُدُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: 14] وَلَوْ كَانَ الْمِرْصَادُ نَعْتًا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَمِرْصَادٌ.(31/14)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ جَهَنَّمَ كانت مخلوفة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أَيْ مُعَدَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْجَنَّةُ أَيْضًا كذلك، لأنه لا قائل بالفرق.
وثانيها: قوله:
[سورة النبإ (78) : آية 22]
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22)
وَفِيهِ وَجْهَانِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِرْصَادٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ كَانَ قَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: مَآباً بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِرْصاداً وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّهَا كَانَتْ مِرْصَادًا مُطْلَقًا لِلْكُفَّارِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: 21] كَلَامًا تَامًّا، وَقَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مَآباً كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ جَهَنَّمَ مِرْصَادٌ لِلْكُلِّ، وَمَآبٌ لِلطَّاغِينَ خَاصَّةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقِفْ عَلَى قَوْلِهِ مِرْصَادًا أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَقَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُرَادُ بِالطَّاغِينَ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى رَبِّهِ وَطَغَى فِي مُخَالَفَتِهِ وَمُعَارَضَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مَآباً أَيْ مصيرا ومقرا.
وثالثها:
[سورة النبإ (78) : آية 23]
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ جَهَنَّمَ مَآبٌ لِلطَّاغِينَ، وَبَيَّنَ كَمِّيَّةَ اسْتِقْرَارِهِمْ هُنَاكَ، فَقَالَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لابِثِينَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ لَبِثِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ الْفَرَّاءُ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ لَابِثٌ وَلَبِثٌ، مِثْلُ طَامِعٌ. وَطَمِعٌ، وَفَارِهٌ، وَفَرِهٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَاللَّبِثُ أَقْوَى لِأَنَّ اللَّابِثَ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ اللَّبْثُ، وَلَا يُقَالُ: لَبِثٌ إِلَّا لِمَنْ شَأْنُهُ اللَّبْثُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَكَادُ يَنْفَكُّ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ أَصْلُ الْحِقَبِ مِنَ التَّرَادُفِ، وَالتَّتَابُعِ يُقَالُ أَحْقَبَ، إِذَا أَرْدَفَ وَمِنْهُ الْحَقِيبَةُ وَمِنْهُ كُلُّ مَنْ حَمَلَ وِزْرًا، فَقَدِ احْتَقَبَ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أَيْ دُهُورًا مُتَتَابِعَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الْكَهْفِ: 60] يَحْتَمِلُ سِنِينَ مُتَتَابِعَةً إِلَى أَنْ أَبْلُغَ أَوْ آنَسَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْقَابَ، وَاحِدُهَا حُقْبٌ وَهُوَ ثَمَانُونَ سَنَةً عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْحِقَبُ السُّنُونَ وَاحِدَتُهَا حِقْبَةٌ وَهِيَ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا وَقْتَ لَهُ ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَحْقاباً الْحُقْبُ الْوَاحِدُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَنَحْوَ هَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَثَانِيهَا:
سَأَلَ هِلَالٌ الْهَجَرِيُّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ الْحُقْبُ مِائَةُ سَنَةٍ، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ أَلْفُ سَنَةٍ
وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ الْأَحْقَابُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا هِيَ، وَلَكِنَّ الْحُقْبَ الْوَاحِدَ سَبْعُونَ أَلْفَ سَنَةٍ الْيَوْمُ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ:
فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ أَحْقَابًا وَإِنْ طَالَتْ إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ، وَعَذَابُ أَهْلِ النَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، بَلْ لَوْ قَالَ لَابِثِينَ فِيهَا الْأَحْقَابَ لَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ وَارِدًا، وَنَظِيرُ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلُهُ/ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْأَحْقَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ حُقْبٍ لَهُ نِهَايَةٌ وَإِنَّمَا الْحُقْبُ الْوَاحِدُ مُتَنَاهٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ(31/15)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)
يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا كُلَّمَا مَضَى حُقْبٌ تَبِعَهُ حُقْبٌ آخَرُ، وَهَكَذَا إِلَى الْأَبَدِ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا لَا يَذُوقُونَ فِي الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا، فَهَذِهِ الْأَحْقَابُ تَوْقِيتٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذُوقُوا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، ثُمَّ يُبَدَّلُونَ بَعْدَ الْأَحْقَابِ عَنِ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَحْقاباً يُفِيدُ التَّنَاهِيَ، لَكِنَّ دَلَالَةَ هَذَا عَلَى الْخُرُوجِ دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ، وَالْمَنْطُوقُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ. قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [الْمَائِدَةِ: 37] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْطُوقَ رَاجِحٌ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحْقَابًا مِنْ حَقِبَ عَامُنَا إِذَا قَلَّ مَطَرُهُ وَخَيْرُهُ، وَحَقِبَ فُلَانٌ إِذَا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فَهُوَ حَقِبٌ وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. فَيَنْتَصِبُ حَالًا عَنْهُمْ بِمَعْنَى لَابِثِينَ فِيهَا حَقِبِينَ مُجْدِبِينَ، وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً [النبأ: 24] تفسير له.
ورابعها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 26]
لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنِ اخْتَرْنَا قَوْلَ الزَّجَّاجِ كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيها عَائِدًا إِلَى الْأَحْقَابِ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِهِ كَانَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مُبْتَدَأً، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَائِدًا إِلَى جَهَنَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: بَرْداً وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْبَرْدُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ مَعَ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا يَكُونُ فِيهِ رَاحَةٌ مِنْ رِيحٍ بَارِدَةٍ، أَوْ ظِلٌّ يَمْنَعُ مِنْ نَارٍ، وَلَا يَجِدُونَ شَرَابًا يُسْكِنُ عَطَشَهُمْ، وَيُزِيلُ الْحُرْقَةَ عَنْ بَوَاطِنِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ هَوَاءً بَارِدًا، وَلَا مَاءً بَارِدًا وَالثَّانِي: الْبَرْدُ هَاهُنَا النَّوْمُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ وَالْعُتْبِيِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ النَّوْمُ بَرْدًا لِأَنَّهُ يُبَرِّدُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّ الْعَطْشَانَ يَنَامُ فَيَبْرُدُ بِالنَّوْمِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْمُ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
بَرُدَتْ مَرَاشِفُهَا عَلَيَّ فَصَدَّنِي ... عَنْهَا وَعَنْ رَشَفَاتِهَا الْبَرْدُ
يَعْنِي النَّوْمَ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ أَيْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَرْدِ مَا مَنَعَنِي مِنَ النَّوْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ النَّادِرِ الْغَرِيبِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُقَالُ ذُقْتُ الْبَرْدَ وَيُقَالُ ذُقْتُ النَّوْمَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَذُوقُونَ بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا ذَاقُوا/ بَرْدًا، وَهَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَرْدَ بَرْدٌ تَأَذَّوْا بِهِ، وَلَكِنْ كَيْفَ كَانَ، فَقَدْ ذَاقُوا الْبَرْدَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: كَمَا أَنَّ ذَوْقَ الْبَرْدِ مَجَازٌ فَكَذَا ذَوْقُ النَّوْمِ أَيْضًا مَجَازٌ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً أَيْ لَا يَسْتَنْشِقُونَ فِيهَا نَفَسًا بَارِدًا، وَلَا هَوَاءً باردا، والهواء المستنشق ممره الفم والألف فَجَازَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الذَّوْقِ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا البرد(31/16)
بَلْ قَالَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَاحِدًا، وَهُوَ الْبَرْدُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْحَمِيمِ أَنَّهُ الصُّفْرُ الْمُذَابُ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلِ الْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ الْمَغْلِيُّ جِدًّا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي الْغَسَّاقِ وُجُوهًا.
أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُعَاذٍ كُنْتُ أَسْمَعُ مَشَايِخَنَا يَقُولُونَ الْغَسَّاقُ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَقَذَّرُونَهُ خاشاك «1» وَثَانِيهَا: أَنَّ الْغَسَّاقُ هُوَ الشَّيْءُ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُطَاقُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالزَّمْهَرِيرِ وَثَالِثُهَا: الْغَسَّاقُ مَا يَسِيلُ مِنْ أَعْيُنِ أَهْلِ النَّارِ وَجُلُودِهِمْ مِنَ الصَّدِيدِ وَالْقَيْحِ وَالْعَرَقِ وَسَائِرِ الرُّطُوبَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ غسقت عينه، تغسق غسقا وغساقا وَرَابِعُهَا: الْغَسَّاقُ هُوَ الْمُنْتِنُ، وَدَلِيلُهُ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنَ الْغَسَّاقِ يُهْرَاقُ عَلَى الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا
وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْغَاسِقَ هُوَ الْمُظْلِمُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الْفَلَقِ: 3] فَيَكُونُ الْغَسَّاقُ شَرَابًا أَسْوَدَ مَكْرُوهًا يُسْتَوْحَشُ كَمَا يُسْتَوْحَشُ الشَّيْءُ الْمُظْلِمُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَّاقَ بِالْبَارِدِ كَانَ التَّقْدِيرُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا إِلَّا غَسَّاقًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا، إِلَّا أَنَّهُمَا جُمِعَا لِأَجْلِ انْتِظَامِ الْآيِ، وَمِثْلُهُ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا ... لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
وَالْمَعْنَى كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا الْعُنَّابُ وَيَابِسًا الْحَشَفُ الْبَالِي. أَمَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْغَسَّاقَ بِالصَّدِيدِ أَوْ بِالنَّتْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ رَاجِعًا إِلَى الْبَرْدِ وَالشَّرَابِ مَعًا، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالشَّرَابِ فَقَطْ.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَرَابًا إِلَّا الْحَمِيمَ الْبَالِغَ فِي الْحَمِيمِ وَالصَّدِيدَ الْمُنْتِنَ.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَرَابًا إِلَّا الْحَمِيمَ الْبَالِغَ فِي السُّخُونَةِ أَوِ الصَّدِيدَ الْمُنْتِنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، فَإِنْ قِيلَ الصَّدِيدُ لَا يُشْرَبُ فَكَيْفَ اسْتُثْنِيَ مِنَ الشَّرَابِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ مَائِعٌ فَأُمْكِنَ أَنْ يُشْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَوَجْهُهُ مَعْلُومٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ غَسَّاقًا بِالتَّشْدِيدِ فَكَأَنَّهُ فَعَّالٌ بمعنى سيال، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ مِثْلُ شَرَابٍ وَالْأَوَّلُ نَعْتٌ وَالثَّانِي اسْمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَنْوَاعَ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ بَيَّنَ فِيمَا بَعْدَهُ أَنَّهُ: جَزاءً وِفاقاً وَفِي الْمَعْنَى/ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَعْصِيَةٍ شَدِيدَةٍ فَيَكُونُ الْعِقَابُ وِفاقاً لِلذَّنْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَالثَّانِي: أَنَّهُ وِفاقاً مِنْ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يَنْقُصْ عَنْهُ وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْوِفَاقُ وَالْمُوَافِقُ وَاحِدًا فِي اللُّغَةِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءً مُوَافِقًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ وِفاقاً وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فَضْلٌ وَكَرَمٌ لِكَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ كَامِلًا فِي كَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَصَفَ الْجَزَاءَ بِكَوْنِهِ وِفاقاً وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ
__________
(1) وجه الدلالة على هذا خفي ولعل الكلمة مصحفة وصوابها «غاساك» بالغين المعجمة والسين المهملة أو «غاساق» ثم عربت إلى «غساق» .(31/17)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
جَزَاءً ذَا وِفَاقٍ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وِفاقاً فعال مِنَ الْوَفْقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ الْبَالِغُ فِي الشِّدَّةِ الْغَيْرُ الْمُتَنَاهِي بِحَسَبِ الْمُدَّةِ وِفاقاً لِلْإِتْيَانِ بِالْكُفْرِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَأَيْضًا فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَاقِعًا بِخَلْقِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وِفَاقًا لَهُ؟ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَكَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ حَاصِلًا وَوُجُودُ إِيمَانِهِمْ مُنَافٍ بِالذَّاتِ لِذَلِكَ الْعِلْمِ فَمَعَ قِيَامِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ كَانَ التَّكْلِيفُ بِإِدْخَالِ الْمُنَافِي الثَّانِي فِي الْوُجُودِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الدَّائِمِ وِفَاقًا لِمِثْلِ هَذَا الْجُرْمِ؟ قُلْنَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَلَى الْإِجْمَالِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ كَانَ عَلَى وَفْقِ جُرْمِهِمْ شَرَحَ أَنْوَاعَ جَرَائِمِهِمْ، وَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ نَوْعَانِ:
أولهما: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 27]
إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27)
وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الْحِسَابَ شَيْءٌ شَاقٌّ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالشَّيْءُ الشَّاقُّ لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ يُرْجَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ:
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَخْشَوْنَ حِسَابًا وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ لَا يَرْجُونَ مَعْنَاهُ لَا يَخَافُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نُوحٍ: 13] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ بِأَنَّ ثَوَابَ إِيمَانِهِ زَائِدٌ عَلَى عِقَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي سِوَى الْكُفْرِ، فَقَوْلُهُ:
إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الرَّجَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّوَقُّعِ لِأَنَّ الرَّاجِيَ لِلشَّيْءِ مُتَوَقِّعٌ لَهُ إِلَّا أَنَّ أَشْرَفَ أَقْسَامِ التَّوَقُّعِ هُوَ الرَّجَاءُ فَسُمِّيَ الْجِنْسُ بِاسْمِ أَشْرَفِ أَنْوَاعِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحِسَابَ مَعَ اللَّهِ جَانِبُ الرَّجَاءِ فِيهِ أَغْلَبُ مِنْ جَانِبِ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ الْوَعْدِ فِي جَانِبِ الثَّوَابِ وَلِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ عَلَى الْعَبْدِ فِي جَانِبِ الْعِقَابِ، وَالْكَرِيمُ قَدْ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يُسْقِطُ مَا كَانَ حَقًّا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ جَانِبُ الرَّجَاءِ أَقْوَى فِي/ الْحِسَابِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذُكِرَ الرَّجَاءُ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْخَوْفُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا قَدْ أَتَوْا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْكَبَائِرِ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكُفْرِ بِالذِّكْرِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ رَغْبَةَ الْإِنْسَانِ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي تَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، إِنَّمَا تَكُونُ بِسَبَبِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَمَنْ أَنْكَرَ الْآخِرَةَ، لَمْ يُقْدِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَلَمْ يُحْجِمْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا كُلَّ شَرٍّ وَتَرَكُوا كل خير.
والنوع الثاني: من قبائح أفعالهم قوله:
[سورة النبإ (78) : آية 28]
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)
اعْلَمْ أَنَّ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ قُوَّتَيْنِ نَظَرِيَّةً وَعَمَلِيَّةً، وَكَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاءِ: 83] هَبْ لِي(31/18)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
حُكْماً
[الشعراء: 83] إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُوَّةِ، النَّظَرِيَّةِ وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ إشارة إلى كمال القوة العملية، فههنا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَاءَةَ حَالِهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ، أَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهَا بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [النبأ: 27] أَيْ كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى جَمِيعِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَغَيْرَ رَاغِبِينَ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.
وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِهَا بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أَيْ كَانُوا مُنْكِرِينَ بِقُلُوبِهِمْ لِلْحَقِّ وَمُصِرِّينَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ بَلَغُوا فِي الرَّدَاءَةِ وَالْفَسَادِ إِلَى حَيْثُ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا وُجُودُ مَا هُوَ أَزْيَدُ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَذَلِكَ كَانَ اللَّائِقُ بِهَا هُوَ الْعُقُوبَةَ الْعَظِيمَةَ. فَثَبَتَ بِهَذَا صِحَّةُ مَا قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] فَمَا أَعْظَمَ لَطَائِفَ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْأَدْوَارَ الْعَظِيمَةَ قَدِ اسْتَمَرَّتْ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ لَهَا أَحَدٌ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَبُرْهَانِهِ عَلَى مَا خَصَّ هَذَا الضَّعِيفَ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَالشَّرَائِعِ وَالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فِي الرَّدَاءَةِ وَالْفَسَادِ وَالْبُعْدِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَقَوْلُهُ: كِذَّاباً أَيْ تَكْذِيبًا وَفِعَّالٌ مِنْ مصادر التفعيل وَأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ:
لَقَدْ طَالَ مَا رَيَّثْتَنِي عَنْ صجابتي ... وَعَنْ حِوَجٍ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِنَا
مِنْ قَضَّيْتُ قضاء قال الفراء هي لُغَةٌ فَصِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ وَنَظِيرُهُ خَرَّقْتُ الْقَمِيصَ خِرَّاقًا، وَقَالَ لِي أَعْرَابِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الْمَرْوَةِ يَسْتَفْتِينِي: الحلو أحب إليك أم العصّار؟ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كُنْتُ أُفَسِّرُ آيَةً فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ فَسَّرْتَهَا فِسَّارًا مَا سُمِعَ بِهِ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَصْدَرُ كَذَّبَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
فَصَدَقْتُهَا أَوْ كَذَبْتُهَا ... وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَّابُهُ
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] يَعْنِي وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فكذبوا كذابا وثانيها: أن ينصبه بكذبوا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى كَذَّبُوا لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ بِالْحَقِّ كَاذِبٌ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْكِذَّابَ بِمَعْنَى الْمُكَاذَبَةِ، فَمَعْنَاهُ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَكَاذَبُوا مُكَاذَبَةً. أَوْ كَذَّبُوا بِهَا مُكَاذِبِينَ. لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَاذِبِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ كَاذِبِينَ فَبَيْنَهُمْ مُكَاذَبَةٌ وَقُرِئَ أَيْضًا كَذَلِكَ وَهُوَ جَمْعُ كَاذِبٍ، أَيْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَاذِبِينَ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَذَّابُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ الْبَلِيغِ فِي الْكَذِبِ، يُقَالُ رَجُلٌ كَذَّابٌ كَقَوْلِكَ حَسَّانٌ وَبَخَّالٌ، فَيُجْعَلُ صِفَةً لِمَصْدَرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ فَسَادَ حَالِهِمْ فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَفِي الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بَلَغَ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ بَيَّنَ أَنَّ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ فِي كَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا معلومة له، وقدر له مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ مَعْلُومٌ لَهُ، فقال:
[سورة النبإ (78) : آية 29]
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:(31/19)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلَّ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ أَحْصَيْناهُ وَالْمَعْنَى: وَأَحْصَيْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَكُلُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أَيْ عَلِمْنَا كُلَّ شَيْءٍ كَمَا هُوَ عِلْمًا لَا يَزُولُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا تَقْرِيرًا لِمَا ادعاه من قوله: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ، وَعَالِمٌ بِجِهَاتِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَأَحْوَالِهَا وَاعْتِبَارَاتِهَا الَّتِي لِأَجْلِهَا يَحْصُلُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَلَا جَرَمَ لَا أُوصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَكُونُ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ كَافِرًا قَطْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أَحْصَيْناهُ كِتاباً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ أَحْصَيْنَاهُ إِحْصَاءً، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ تِلْكَ اللَّفْظَةِ إِلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ هِيَ النِّهَايَةُ فِي قُوَّةِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ»
فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ إِحْصَاءً مُسَاوِيًا فِي الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّأْكِيدِ لِلْمَكْتُوبِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ كِتَابًا تَأْكِيدُ ذَلِكَ الْإِحْصَاءِ وَالْعِلْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِأَفْهَامِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ يَقْبَلُ الزَّوَالَ، وَعِلْمُ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كِتَابًا حَالًا فِي مَعْنَى مَكْتُوبًا وَالْمَعْنَى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ حَالَ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَقَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أو في صحف الحفظة.
ثم قال تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 30]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْعِقَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ ادعى كونه جَزاءً وِفاقاً [النبأ: 26] ثُمَّ بَيَّنَ تَفَاصِيلَ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَظَهَرَ صِحَّةُ مَا ادَّعَاهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ كَانَ جَزاءً وِفاقاً لَا جَرَمَ أَعَادَ ذِكْرَ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا وَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّوْقِ مُعَلَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، فَهَذَا الْفَاءُ أَفَادَ عَيْنَ فَائِدَةِ قَوْلِهِ: جَزاءً وِفاقاً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْذِيبِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ وَكَلِمَةُ لَنْ لِلتَّأْكِيدِ فِي النَّفْيِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً [النبأ: 27] ذَكَرَهُمْ بِالْمُغَايَبَةِ وَفِي قَوْلِهِ: فَذُوقُوا ذَكَرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَافَهَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْغَضَبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ وُجُوهَ الْعِقَابِ ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّهُ جَزَاءٌ مُوَافِقٌ لِأَعْمَالِهِمْ ثُمَّ عَدَّدَ فَضَائِحَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: فَذُوقُوا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَفْتَى وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ، ثُمَّ أَعَادَ تِلْكَ الْفَتْوَى بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْذِيبِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذِهِ الْآيَةُ أَشَدُّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، كُلَّمَا اسْتَغَاثُوا مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ أُغِيثُوا بِأَشَدَّ مِنْهُ»
بَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 77] فَهُنَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ: فَذُوقُوا فَقَدْ كَلَّمَهُمْ؟ الْجَوَابُ: قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ فَيُقَالُ لهم: فذوقوا،(31/20)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً بَلْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ غَيْرُ بَعِيدٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ حُصُولِ الْقَرِينَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْكَلَامِ الطَّيِّبِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَزِيدُ فِي عَذَابِ الْكَافِرِ أَبَدًا، فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ كَانَ تَرْكُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِحْسَانًا، وَالْكَرِيمُ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ به أن يسترجعه بعد ذلك، وأما إن كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ كَانَ إِيصَالُهَا إِلَيْهِمْ ظُلْمًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ الْجَوَابُ: كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ يُؤَثِّرُ بِحَسَبِ خَاصِّيَّةِ ذَاتِهِ، فَكَذَا إِذَا دَامَ ازْدَادَ تَأْثِيرُهُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الدَّوَامِ، فَلَا جَرَمَ كُلَّمَا كَانَ الدَّوَامُ أَكْثَرَ كَانَ الْإِيلَامُ أَكْثَرَ، وَأَيْضًا فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مُسْتَحَقَّةٌ، وَتَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يُوجِبُ الإبراء والإسقاط، والله علم بِمَا أَرَادَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِوَعْدِ الْأَخْيَارِ وَهُوَ أُمُورٌ:
أولها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 31]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31)
أَمَّا الْمُتَّقِي فَقَدْ تَقَدَّمَ تفسيره في مواضع كثيرة ومَفازاً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى فَوْزًا وَظَفَرًا بِالْبُغْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَالْفَوْزُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَوْزًا بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَمِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْفَوْزِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي النَّجَاةَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْمَفَازَ بما بعده وهو قوله: حَدائِقَ وَأَعْناباً [النبأ: 32] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَازِ هَذَا الْقَدْرُ. فَإِنْ قِيلَ الْخَلَاصُ مِنَ الْهَلَاكِ أَهَمُّ مِنْ حُصُولِ اللَّذَّةِ، فَلِمَ أُهْمِلَ الْأَهَمُّ وَذُكِرَ غَيْرُ الْأَهَمِّ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَوْزَ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ، أَمَّا الْفَوْزُ بِاللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فَيَسْتَلْزِمُ الْخَلَاصَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذكر هذا أولى.
وثانيها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 32]
حَدائِقَ وَأَعْناباً (32)
وَالْحَدَائِقُ جَمْعُ حَدِيقَةٍ، وَهِيَ بُسْتَانٌ مَحُوطٌ عَلَيْهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْدَقُوا بِهِ أَيْ أَحَاطُوا بِهِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْناباً يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِ تِلْكَ الْأَعْنَابِ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 33]
وَكَواعِبَ أَتْراباً (33)
كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ وَهِيَ النَّوَاهِدُ الَّتِي تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ وَتَفَلَّكَتْ أَيْ يَكُونُ الثَّدْيُ فِي النُّتُوءِ كَالْكَعْبِ وَالْفَلْكَةِ.(31/21)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
ورابعها: قوله تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 34]
وَكَأْساً دِهاقاً (34)
وَفِي الدِّهَاقِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجِ والكسائي والمبرد، ودِهاقاً أَيْ مُمْتَلِئَةً، دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْقِنَا دِهَاقًا، فَجَاءَ الْغُلَامُ بِهَا مَلْأَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ الدِّهَاقُ قَالَ عِكْرِمَةُ، رُبَّمَا سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اسْقِنَا وَأَدْهِقْ لَنَا الْقَوْلُ الثَّانِي: دِهَاقًا أَيْ مُتَتَابِعَةً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ادَّهَقَتِ الْحِجَارَةُ ادِّهَاقًا وَهُوَ شِدَّةُ تَلَازُمِهَا وَدُخُولُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، ذَكَرَهَا اللَّيْثُ وَالْمُتَتَابِعُ كَالْمُتَدَاخِلِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُرْوَى عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ:
دِهاقاً أَيْ صَافِيَةً، وَالدِّهَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ دَاهِقٍ، وَهُوَ خَشَبَتَانِ يُعْصَرُ بِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالْكَأْسِ الْخَمْرُ، قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ كَأْسٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَمْرٌ، التَّقْدِيرُ. وَخَمْرًا ذَاتَ دِهَاقٍ، أَيْ عُصِرَتْ وصفيت بالدهاق.
وخامسها: قوله:
[سورة النبإ (78) : آية 35]
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيها إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْكَأْسِ، أَيْ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ لَغْوٌ فِي الْكَأْسِ الَّتِي يَشْرَبُونَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّرَابِ/ فِي الدُّنْيَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ إِذَا شَرِبُوا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَقْلُهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِلَغْوٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْجَنَّةِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْكَذَّابُ بِالتَّشْدِيدِ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، فَوُرُودُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ:
28] مُنَاسِبٌ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ، أَمَّا وُرُودُهُ هَاهُنَا فَغَيْرُ لَائِقٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْعَظِيمَ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْقَلِيلَ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْآيَةِ ذَلِكَ بَلِ الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ الْبَتَّةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ وَاللَّائِقُ بِالْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكِسَائِيَّ قَرَأَ الْأَوَّلَ بِالتَّشْدِيدِ وَالثَّانِيَ بِالتَّخْفِيفِ، وَلَعَلَّ غَرَضَهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ هَاهُنَا تُفِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ أَصْلًا، لِأَنَّ الْكِذَابَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْكَذِبَ وَاحِدٌ لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ قَالَ: كِذَابٌ مَصْدَرُ كَذَبَ كَكِتَابٍ مَصْدَرُ كَتَبَ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّفْيِ، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي الْأَوَّلِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الثُّبُوتِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، فَالْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ السُّعَدَاءَ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمُ الْمُشَوَّشَ الْبَاطِلَ الْفَاسِدَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّعَمَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِمْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ زَحْمَةِ أَعْدَائِهِمْ وَعَنْ سَمَاعِ كَلَامِهِمُ الْفَاسِدِ وَأَقْوَالِهِمُ الْكَاذِبَةِ الْبَاطِلَةِ.(31/22)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ أَقْسَامَ نَعِيمِ أهل الجنة قال:
[سورة النبإ (78) : آية 36]
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى جَازَاهُمْ بِذَلِكَ جَزَاءً، وَكَذَلِكَ عَطَاءً لِأَنَّ مَعْنَى جَازَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ وَاحِدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ جَزَاءً وَعَطَاءً، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ جَزَاءً يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَوْنَهُ عَطَاءً يَسْتَدْعِي عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَافٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى قَوْلِنَا: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقَ إِنَّمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الفعل يوجب الثواب على الله، فذلك نَظَرًا إِلَى الْوَعْدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ يَكُونُ جَزَاءً، وَنَظَرًا إِلَى إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ شَيْءٌ يَكُونُ عَطَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: حِساباً فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَافِيًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي أَيْ مَا كَفَانِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي، أَيْ كَفَانِي من سؤالي، ومنه قوله:
فما حَلَلْتُ بِهِ ضَمَّنِي ... فَأَوْلَى جَمِيلًا وَأَعْطَى حِسَابًا
أَيْ أَعْطَى مَا كَفَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: حِسَابًا مَأْخُوذٌ مِنْ حَسَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَعْدَدْتَهُ وَقَدَّرْتَهُ فَقَوْلُهُ:
عَطاءً حِساباً أَيْ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ لَهُ فِيمَا وَعَدَهُ مِنَ الْإِضْعَافِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْجَزَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَجْهٌ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ أَضْعَافٍ، وَوَجْهٌ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَوَجْهٌ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، كَمَا قَالَ: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزُّمَرِ: 10] ، الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: عَطاءً حِساباً أَيْ كَثِيرًا وَأَحْسَبْتَ فُلَانًا أَيْ أَكْثَرْتَ لَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَنُقْفِي وَلِيدَ الْحَيِّ إِنْ كَانَ جَائِعًا ... وَنُحْسِبُهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ بِجَائِعِ
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ إِلَيْهِمْ وَيُوصِلُ التفضل الذي يكون زائدا على الجزء إِلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: حِساباً ثُمَّ يَتَمَيَّزُ الْجَزَاءُ عَنِ الْعَطَاءِ حَالَ الْحِسَابِ الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي وَعِيدِ أَهْلِ النَّارِ: جَزاءً وِفاقاً ذَكَرَ فِي وَعْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ جَزَاءً عَطَاءً حِسَابًا أَيْ رَاعَيْتُ فِي ثَوَابِ أَعْمَالِكُمُ الْحِسَابَ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ بَخْسٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْصِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ قُطَيْبٍ: حَسَّابًا بِالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنَّ الْحَسَّابَ بِمَعْنَى الْمُحْسِبِ كَالدَّرَّاكِ بِمَعْنَى الْمُدْرِكِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صاحب «الكشاف» .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي وَصْفِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَوَعْدِ الْمُتَّقِينَ، خَتَمَ الْكَلَامَ فِي ذلك بقوله:
[سورة النبإ (78) : آية 37]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:(31/23)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
المسألة الأولى: رب السموات وَالرَّحْمَنِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ الرَّفْعُ فِيهِمَا وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَالْجَرُّ فِيهِمَا وَهُوَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَالْجَرُّ فِي الْأَوَّلِ مَعَ الرَّفْعِ فِي الثَّانِي، وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَفِي الرَّفْعِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَبُّ السموات مبتدأ، والرحمن خَبَرَهُ، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا وثانيها: رب السموات مبتدأ، والرحمن صفة ولا يَمْلِكُونَ خَبَرَهُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُضْمَرَ الْمُبْتَدَأُ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ: رَبِّ السَّماواتِ هُوَ الرَّحْمنِ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ: لا يَمْلِكُونَ ورابعها: أن يكون الرَّحْمنِ ولا يَمْلِكُونَ خَبَرَيْنِ وَأَمَّا وَجْهُ الْجَرِّ فَعَلَى الْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ، وَأَمَّا وَجْهُ جَرِّ الْأَوَّلِ، وَرَفْعِ الثَّانِي فَجَرُّ الْأَوَّلِ بِالْبَدَلِ مِنْ رَبِّكَ، وَالثَّانِي مَرْفُوعٌ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ لَا يَمْلِكُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: الضمير في قوله: لا يَمْلِكُونَ إِلَى مَنْ يَرْجِعُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: نَقَلَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ لَا يُخَاطَبُ الْمُشْرِكُونَ أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ يَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي:
قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَمْلِكُونَ/ أَنْ يُخَاطِبُوا اللَّهَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَا يَجُورُ، ثَبَتَ أَنَّ الْعِقَابَ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَى الْكُفَّارِ عَدْلٌ، وَأَنَّ الثواب الذي أوصله الْمُؤْمِنِينَ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ مَا يُخْسِرُ حَقَّهُمْ، فَبِأَيِّ سَبَبٍ يُخَاطِبُونَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الَّذِي جَرَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ضَمِيرٌ لأهل السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ وَمُكَالَمَتَهُ. وَأَمَّا الشَّفَاعَاتُ الْوَاقِعَةُ بِإِذْنِهِ فَغَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّهُ نَفَى الْمِلْكَ وَالَّذِي يَحْصُلُ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَمْلِكُ خِطَابَ اللَّهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ كل ما سواء فَهُوَ مَمْلُوكُهُ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَالِكِهِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ.
وَلَوْ فَعَلَهُ لَاسْتَحَقَّ الْمَدْحَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ، عَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَفْعَلِ الْقَبِيحَ، وَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِلْقَبِيحِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ. وَالْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُخَاطِبَ ربه ويطالب إلهه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهَ فِي شَيْءٍ أَوْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ قَرَّرَ هَذَا المعنى، وأكده فقال تعالى:
[سورة النبإ (78) : آية 38]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38)
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْرًا وَرُتْبَةً، وَأَكْثَرُ قُدْرَةً وَمَكَانَةً، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِجْلَالًا لِرَبِّهِمْ وَخَوْفًا مِنْهُ وَخُضُوعًا لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ غَيْرِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَقُوا خَائِفِينَ خَاضِعِينَ وَجِلِينَ مُتَحَيِّرِينَ فِي مَوْقِفِ جَلَالِ اللَّهِ، وَظُهُورِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ غَيْرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانُوا أَشْرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ.(31/24)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ مَلَكٌ أَعْظَمُ من السموات وَالْجِبَالِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: خَلْقٌ عَلَى/ صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليس بِنَاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ هُمْ بَنُو آدَمَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ ذُو الرُّوحِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْوَاحُ النَّاسِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْقَاضِي. قَالَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ اسْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقِيَامَ صَحِيحٌ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْكَلَامَ صَحِيحٌ مِنْهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَكَيْفَ يُصْرَفُ هَذَا الِاسْمُ عَنْهُ إِلَى خَلْقٍ لَا نَعْرِفُهُ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْقِيَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: صَفًّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الرُّوحَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذكرناه، وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ يَقُومُونَ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَقُومُونَ صَفَّيْنِ، وَيَجُوزُ صُفُوفًا، وَالصَّفُّ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ فَيُنْبِئُ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ صَفَّيْنِ، فَيَقُومُ الرُّوحُ وَحْدَهُ صَفًّا، وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، فَيَكُونُ عِظَمُ خَلْقِهِ مِثْلَ صُفُوفِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَقُومُونَ صُفُوفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفَجْرِ:
22] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى الرُّوحِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَتَكَلَّمُونَ إلا عند حصول شرطين إحداها: حُصُولُ الْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: 255] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: صَوَابًا، فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَوَابٌ لا محالة، فما القائدة فِي قَوْلِهِ: وَقالَ صَواباً؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّحْمَنَ أَذِنَ لَهُ فِي مُطْلَقِ الْقَوْلِ ثُمَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ الْإِذْنِ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالصَّوَابِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ لا ينطلقون إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ الْإِذْنِ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ بَعْدَ وُرُودِ ذَلِكَ الْإِذْنِ يَجْتَهِدُونَ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْكَلَامِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ صِدْقٌ وَصَوَابٌ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَهُ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً وَالْمَعْنَى لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا فِي حَقِّ شَخْصٍ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ فِي شَفَاعَتِهِ وَذَلِكَ الشَّخْصُ كَانَ مِمَّنْ قَالَ صَوَابًا، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لِلْمُذْنِبِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا صَوَابًا وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَقالَ صَواباً يَكْفِي فِي صِدْقِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ صَوَابًا وَاحِدًا، فَكَيْفَ بِالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ وَتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْكَلِمَاتِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ بَلْ إِلَى جميع أهل السموات وَالْأَرْضِ، وَالْمَقُولُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَحْوَالَ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده:
[سورة النبإ (78) : آية 39]
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وَفِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وُجُوهٌ أحدها: أنه(31/25)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
يَحْصُلُ فِيهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَيَنْدَمِغُ كُلُّ بَاطِلٍ، فَلَمَّا كَانَ كَامِلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: إِنَّهُ حَقٌّ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ خَيْرٌ كُلُّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا بَاطِلُهَا أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الْكَائِنُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ حَقٌّ، أَيْ هُوَ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ يَوْمٌ، لِأَنَّ فِيهِ تُبْلَى السَّرَائِرُ وَتَنْكَشِفُ الضَّمَائِرُ، وَأَمَّا أَيَّامُ الدُّنْيَا فأحوال الخلف فِيهَا مَكْتُومَةٌ، وَالْأَحْوَالُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أَيْ مَرْجِعًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَأَصْحَابُنَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا هداه حتى يتخذ إلى ربه مآبا.
[سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
[في قوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَ [هُوَ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: 46] وَإِنَّمَا سَمَّاهُ إِنْذَارًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ قَدْ خَوَّفَ مِنْهُ نِهَايَةَ التَّخْوِيفِ وَهُوَ مَعْنَى الإنذار.
ثم قال تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: مَا فِي قَوْلِهِ: اقَدَّمَتْ يَداهُ
فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بقدمت، أَيْ يَنْظُرُ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ يَدَاهُ الثَّانِي: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، وَالتَّقْدِيرُ: يَنْظُرُ إِلَى الَّذِي قَدَّمَتْ يَدَاهُ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَصَلَ فِيهِ حَذْفَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: قَدَّمَتْهُ، بَلْ قَالَ: دَّمَتْ
فَحَذَفَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ، بَلْ قَالَ: يَنْظُرُ ما قدمت، يقام نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى نَظَرْتُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْءَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْمُتَّقِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْعِقَابُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا رَجَاءَ لِمَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرٍ سِوَى هَذَيْنِ، فَهَذَا هو المراد بقوله: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
فَطُوبَى لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْأَبْرَارِ، وَوَيْلٌ لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْفُجَّارِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عطاء: أن المر هَاهُنَا هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَكَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ/ وَأَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا الْعَذَابَ، فَهُوَ لَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ شُؤْمِ مُعَامَلَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ أَنَّ الْمَرْءَ هَاهُنَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
فَلَمَّا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحَالِ الْكَافِرِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ بَيَانًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا قَدَّمَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، فَيَنْتَظِرُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْحَالُ، أَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ قَاطِعٌ بِالْعِقَابِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ انْتِظَارٌ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْأَمْرُ، فَإِنَّ مَعَ الْقَطْعِ لَا يَحْصُلُ الِانْتِظَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْخَيْرَ يُوجِبُ الثَّوَابَ وَالشَّرَّ يُوجِبُ الْعِقَابَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا:(31/26)
لَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ نَظَرُ الرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى عَمَلِهِ بَلْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ:
أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْجَعْلِ لَا بِحُكْمِ الذَّاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يَجِدُ الْإِيمَانَ وَالْعَفْوَ عَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي عَلَى مَا قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَتَوَقَّعُ الْعَفْوَ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فعند ذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أَيْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا مُكَلَّفًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ تُرَابًا، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا.
يَا لَيْتَنِي لَمْ أُبْعَثْ لِلْحِسَابِ، وَبَقِيتُ كَمَا كُنْتُ تُرَابًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [الْحَاقَّةِ: 27] وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النِّسَاءِ: 42] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ فَيُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ: كُونِي تُرَابًا فَيَتَمَنَّى الْكَافِرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مِثْلَ تِلْكَ الْبَهَائِمِ فِي أَنْ يَصِيرَ تُرَابًا، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ. وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَعَادَهَا فَهِيَ بَيْنَ مُعَوَّضٍ وَبَيْنَ مُتَفَضَّلٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَهَا عَنِ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ أَعْوَاضِهَا جَعَلَ اللَّهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْهَا حَسَنَ الصُّورَةِ ثَوَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَا كَانَ قَبِيحَ الصُّورَةِ عِقَابًا لِأَهْلِ النَّارِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا إِذَا وَفَّرَ اللَّهُ أَعْوَاضَهَا وَهِيَ غَيْرُ كَامِلَةِ الْعَقْلِ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ حَيَاتَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ لَهَا شُعُورٌ بِالْأَلَمِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَرَرًا وَرَابِعُهَا: ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
مَعْنَاهُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مُتَوَاضِعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَكَبِّرًا مُتَمَرِّدًا وَخَامِسُهَا: الْكَافِرُ إِبْلِيسُ يَرَى آدَمَ وَوَلَدَهُ وَثَوَابَهُمْ، فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ الَّذِي احْتَقَرَهُ حِينَ قَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَأَسْرَارِ كِتَابِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه.(31/27)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ النَّازِعَاتِ
(وَهِيَ أَرْبَعُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ)
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا صِفَاتُ الْمَلَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِعُونَ نُفُوسَ بَنِي آدَمَ فَإِذَا نَزَعُوا نَفْسَ الْكُفَّارِ نَزَعُوهَا بِشِدَّةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ فِي الْقَوْسِ فَأَغْرَقَ يُقَالُ: أَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ الْمَدَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا، وَالْغَرْقُ وَالْإِغْرَاقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً النَّشْطُ هُوَ الْجَذْبُ يُقَالُ: نَشَطْتُ الدَّلْوَ أَنْشِطُهَا وَأَنْشَطْتُهَا نَشْطًا نَزَعْتُهَا بِرِفْقٍ، وَالْمُرَادُ هِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَنْشِطُ رُوحَ الْمُؤْمِنِ فَتَقْبِضُهَا، وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا بِالْمُؤْمِنِ وَالْأَوَّلَ بِالْكَافِرِ لِمَا بَيْنَ النَّزْعِ والنشط من الفرق فالنزاع جَذْبٌ بِشِدَّةٍ، وَالنَّشْطُ جَذْبٌ بِرِفْقٍ وَلِينٍ فَالْمَلَائِكَةُ، تَنْشِطُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تُنْشَطُ الدَّلْوُ مِنَ الْبِئْرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قَسَمٌ بِمَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَ إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ قَبْضِ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ أَيْضًا بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسُلُّونَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ سَلًّا رَفِيقًا،
فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ثُمَّ يَتْرُكُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ رُوَيْدًا، ثُمَّ يَسْتَخْرِجُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ كَالَّذِي يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِرِفْقٍ وَلَطَافَةٍ لِئَلَّا يَغْرَقَ، فَكَذَا هَاهُنَا يَرْفُقُونَ فِي ذَلِكَ الِاسْتِخْرَاجِ، لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِ أَلَمٌ وَشِدَّةٌ(31/28)
فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً وَأَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى سَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ، فَجَعَلَ نُزُولَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ كَالسِّبَاحَةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ، إِنَّهُ السَّابِحُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَلَائِكَةِ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ يَسْبِقُونَ بِأَرْوَاحِ الْكُفَّارِ إِلَى النَّارِ، وَبِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِسَائِرِ طَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي هَذَا السَّبْقِ وُجُوهًا أَحَدُهَا:
قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَوْقٍ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَبَقَتِ ابْنَ آدَمَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْخَيْرَاتِ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 10] وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْبِقُ الشَّيَاطِينَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ وَثَالِثُهَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فَقَالَ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] يَعْنِي قَبْلَ الْإِذْنِ لَا يَتَحَرَّكُونَ وَلَا يَنْطِقُونَ تَعْظِيمًا لِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَهَاهُنَا وَصَفَهُمْ بِالسَّبْقِ يَعْنِي إِذَا جَاءَهُمُ الْأَمْرُ، فَإِنَّهُمْ يَتَسَارَعُونَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَيَتَبَادَرُونَ إِلَى إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، أَمَّا جِبْرِيلُ فَوُكِّلَ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَوُكِّلَ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَوُكِّلَ بِقَبْضِ الْأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ، وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ وَقَوْمٌ آخَرُونَ بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْأَمْطَارِ، بَقِيَ عَلَى الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، وَلَمْ يَقُلْ: أُمُورًا فَإِنَّهُمْ يُدَبِّرُونَ أُمُورًا كَثِيرَةً لَا أَمْرًا وَاحِدًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ مَقَامَ الْجَمْعِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَكَيْفَ أَثْبَتَ لَهُمْ هَاهُنَا تَدْبِيرَ الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِهِ كَانَ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ «1» لَهُ، فَهَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهَا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ وَصِفَاتٌ إِضَافِيَّةٌ، أَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ فَهِيَ أَنَّهَا مُبَرَّأَةٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمَوْتِ وَالْهِرَمِ وَالسَّقَمِ وَالتَّرْكِيبِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَخْلَاطِ وَالْأَرْكَانِ، بَلْ هِيَ جَوَاهِرُ رُوحَانِيَّةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَنْزُوعَةً عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نَزْعًا كُلِّيًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: النَّازِعاتِ هِيَ ذَوَاتُ النَّزْعِ كَاللَّابِنِ وَالتَّامِرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: النَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهَا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَقَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ، بَلْ هُمْ بِمُقْتَضَى مَاهِيَّاتِهِمْ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَتَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ إِشَارَتَانِ إِلَى تَعْرِيفِ أَحْوَالِهِمُ السَّلْبِيَّةِ، وَأَمَّا صِفَاتُهُمُ الْإِضَافِيَّةُ فَهِيَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: شَرْحُ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى نُورِ جَلَالِهِ فَوَصَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِوَصْفَيْنِ/ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَهُمْ يَسْبَحُونَ مِنْ أَوَّلِ فِطْرَتِهِمْ فِي بِحَارِ جَلَالِ اللَّهِ ثُمَّ لَا مُنْتَهَى لِسِبَاحَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا مُنْتَهَى لِعَظَمَةِ اللَّهِ وَعُلُوِّ صَمَدِيَّتِهِ وَنُورِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَهُمْ أَبَدًا فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ وَثَانِيهُمَا: قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السِّبَاحَةِ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ مَرَاتِبَ مَعَارِفِ الْبَهَائِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَشَرِ نَاقِصَةٌ، وَمَرَاتِبَ
__________
(1) في الأصل الذي أراجع عليه (كان الأمر كله له) و (قولهم) ولعل ما ذكرته هو الصواب في الموضعين.(31/29)
مَعَارِفِ الْبَشَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْمَلَائِكَةِ نَاقِصَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَارِفُ بَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرَاتِبِ مَعَارِفِ الْبَاقِينَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَكَمَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ نَوْعِ الْفَرَسِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ فَكَذَا الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ شَخْصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ شَخْصِ الْآخَرِ بِالْمَاهِيَّةِ فَإِذَا كَانَتْ أَشْخَاصُهَا مُتَفَاوِتَةً بِالْمَاهِيَّةِ لَا بِالْعَوَارِضِ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُتَفَاوِتَةً فِي دَرَجَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَفِي مَرَاتِبِ التَّجَلِّي فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا شَرْحُ أَحْوَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَاقِلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى شَرْحِ حَالِ قُوَّتِهِمُ الْعَامِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُفَوَّضٌ إِلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عُمَّارُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَسُكَّانُ بقاع السموات، وَلَمَّا كَانَ التَّدْبِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ شَرْحَ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي لَهُمْ عَلَى شَرْحِ الْقُوَّةِ الْعَامِلَةِ الَّتِي لَهُمْ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ احْتِمَالٌ ظَاهِرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بْنَ بَحْرٍ الْأَصْفَهَانِيَّ طَعَنَ فِي حَمْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ: وَاحِدُ النَّازِعَاتِ نَازِعَةٌ وَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ التَّأْنِيثِ، وَعَابَ قَوْلَ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالَ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا طَعْنٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَفْسِيرِنَا، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْيَاءُ ذَوَاتُ النَّزْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ مِنَ التَّأْنِيثِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: أَنَّهَا هِيَ النُّجُومُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَصْفُ النُّجُومِ بِالنَّازِعَاتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: كَأَنَّهَا تُنْزَعُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ فَتَنْجَذِبُ إِلَى مَا فَوْقَ الْأَرْضِ، فَإِذَا كَانَتْ مَنْزُوعَةً كَانَتْ ذَوَاتِ نَزْعٍ، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِعَةٌ عَلَى قِيَاسِ اللَّابِنِ وَالتَّامِرِ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّازِعَاتِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَزَعَ إِلَيْهِ أَيْ ذَهَبَ نُزُوعًا، هَكَذَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ: فَكَأَنَّهَا تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بِالنَّزْعِ وَالسَّوْقِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَزَعَتِ الْخَيْلُ إِذَا جَرَتْ، فَمَعْنَى: وَالنَّازِعاتِ أَيْ وَالْجَارِيَاتِ عَلَى السَّيْرِ الْمُقَدَّرِ وَالْحَدِّ الْمُعَيَّنِ وَقَوْلُهُ: غَرْقاً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّازِعَاتِ أَيْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ كَالْغَرْقَى فِي ذَلِكَ النَّزْعِ وَالْإِرَادَةِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ حَالِهَا فِي تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَحْيَاءً نَاطِقَةً، فَمَا مَعْنَى وَصْفِهَا بِذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] فَإِنَّ الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ يَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْكَوَاكِبِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى غَرْقِهَا/ غَيْبُوبَتَهَا فِي أفق الغرب، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقا إِشَارَةٌ إِلَى غُرُوبِهَا أَيْ تَنْزِعُ، ثُمَّ تُغْرَقُ إِغْرَاقًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ذَكَرَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ مِنْ قَوْلِكَ:
ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. وَأَقُولُ يَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً إِشَارَةٌ إِلَى حَرَكَتِهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إِشَارَةٌ إِلَى انْتِقَالِهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ وَهُوَ حَرَكَتُهَا الْمَخْصُوصَةُ بِهَا فِي أَفْلَاكِهَا الْخَاصَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ حَرَكَاتِهَا الْيَوْمِيَّةَ قَسْرِيَّةٌ، وَحَرَكَتَهَا مِنْ بُرْجٍ إِلَى بُرْجٍ لَيْسَتْ قَسْرِيَّةً، بَلْ مُلَائِمَةً لِذَوَاتِهَا، فَلَا جَرَمَ عَبَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالنَّزْعِ وَعَنِ الثَّانِي بِالنَّشْطِ، فَتَأَمَّلْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ فِي هَذِهِ الْأَسْرَارِ.(31/30)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ، لِأَنَّ مُرُورَهَا فِي الْجَوِّ كَالسَّبْحِ، وَلِهَذَا قال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عبيدة: وهي النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِ بَعْضِهَا أَسْرَعَ حَرَكَةً مِنَ الْبَعْضِ، أَوْ بِسَبَبِ رُجُوعِهَا أَوِ اسْتِقَامَتِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِسَبَبِ سَيْرِهَا وَحَرَكَتِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ عَنْ بَعْضٍ، فَتَظْهَرُ أَوْقَاتُ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ [الروم: 17، 18] وقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: 189] وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: 5] وَلِأَنَّ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ تَخْتَلِفُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، ويخلف بِسَبَبِ اخْتِلَافِهَا أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَعَاشِ، فَلَا جَرَمَ أُضِيفَتْ إِلَيْهَا هَذِهِ التَّدْبِيرَاتُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مُوجِدٍ يُوجِدُهَا، وَإِلَى صَانِعٍ يَخْلُقُهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ صَانِعَهَا أَوْدَعَ فِيهَا قُوًى مُؤَثِّرَةً فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، فَهَذَا يَطْعَنُ فِي الدِّينِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْقُوَى أَيْضًا، لَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنْ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَحْوَالِهَا الْمَخْصُوصَةِ سَبَبًا لِحُدُوثِ حَادِثٍ مَخْصُوصٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا جَعَلَ الْأَكْلَ سَبَبًا لِلشِّبَعِ، وَالشُّرْبَ سَبَبًا لِلرِّيِّ، وَمُمَاسَّةَ النَّارِ سَبَبًا لِلِاحْتِرَاقِ، فَالْقَوْلُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَضُرُّ الْإِسْلَامَ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَةِ أَنَّهَا هِيَ الْأَرْوَاحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تَنْزِعُ، يُقَالُ فُلَانٌ فِي النَّزْعِ، وَفُلَانٌ يَنْزِعُ إِذَا كَانَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، وَالْأَنْفُسُ نَازِعَاتٌ عِنْدَ السِّيَاقِ، وَمَعْنَى غَرْقاً أَيْ نَزْعًا شَدِيدًا أَبْلَغَ مَا يَكُونُ وَأَشَدَّ مِنْ إِغْرَاقِ النَّازِعِ فِي الْقَوْسِ وَكَذَلِكَ تَنْشِطُ لِأَنَّ النَّشْطَ مَعْنَاهُ الْخُرُوجُ، ثُمَّ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُشْتَاقَةُ إِلَى الِاتِّصَالِ الْعُلْوِيِّ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْأَجْسَادِ تَذْهَبُ إِلَى عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنَازِلِ الْقُدْسِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَهَابِهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ بِالسِّبَاحَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ مَرَاتِبَ الْأَرْوَاحِ/ فِي النَّفْرَةِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَحَبَّةِ الِاتِّصَالِ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُخْتَلِفَةٌ فَكُلَّمَا كَانَتْ أَتَمَّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَسْبَقَ، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَضْعَفَ كَانَ سَيْرُهَا إِلَى هُنَاكَ أَثْقَلَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرْوَاحَ السَّابِقَةَ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَشْرَفُ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ الْقَسَمُ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ الْعَالِيَةَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يَكُونُ لِقُوَّتِهَا وَشَرَفِهَا يَظْهَرُ مِنْهَا آثَارٌ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ فَهِيَ فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أَلَيْسَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى أُسْتَاذَهُ فِي الْمَنَامِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ مُشْكِلَةٍ فَيُرْشِدُهُ إِلَيْهَا؟ أَلَيْسَ أَنَّ الِابْنَ قَدْ يَرَى أَبَاهُ فِي الْمَنَامِ فَيَهْدِيهِ إِلَى كَنْزٍ مَدْفُونٍ؟ أَلَيْسَ أَنَّ جَالِينُوسَ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا فَعَجَزْتُ عَنْ عِلَاجِ نَفْسِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَاحِدًا أَرْشَدَنِي إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعِلَاجِ؟ أَلَيْسَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ إِنْسَانٌ مُشَابِهٌ لِلْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ فِي الرُّوحِ وَالْبَدَنِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ الْمُفَارِقَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْبَدَنِ حَتَّى تَصِيرَ كَالْمُعَاوِنَةِ لِلنَّفْسِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ الْبَدَنِ عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَتُسَمَّى تِلْكَ الْمُعَاوَنَةُ إِلْهَامًا؟ وَنَظِيرُهُ فِي جَانِبِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ وَسْوَسَةٌ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْقُولَةً عَنِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهَا جِدًّا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهَا صِفَاتُ خَيْلِ الْغُزَاةِ فَهِيَ نَازِعَاتٌ لِأَنَّهَا تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا لِأَنَّهَا عِرَابٌ وَهِيَ نَاشِطَاتٌ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ،(31/31)
مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَهِيَ سَابِحَاتٌ لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي جَرْيِهَا وَهِيَ سَابِقَاتٌ، لِأَنَّهَا تَسْبِقُ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ مُدَبِّرَاتٌ لِأَمْرِ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ، وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه صفاة الْغُزَاةِ فَالنَّازِعَاتُ أَيْدِي الْغُزَاةِ يُقَالُ: لِلرَّامِي نَزَعَ فِي قَوْسِهِ، وَيُقَالُ: أَغْرَقَ فِي النَّزْعِ إِذَا اسْتَوْفَى مَدَّ الْقَوْسِ، وَالنَّاشِطَاتُ السِّهَامُ وَهِيَ خُرُوجُهَا عَنْ أَيْدِي الرُّمَاةِ وَنُفُوذُهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ حَلَلْتَهُ فَقَدْ نَشَّطْتَهُ، وَمِنْهُ نَشَاطُ الرَّجُلِ وَهُوَ انْبِسَاطُهُ وَخِفَّتُهُ، وَالسَّابِحَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْخَيْلُ وَسَبْحُهَا الْعَدْوُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْإِبِلَ أَيْضًا، وَالْمُدَبِّرَاتُ مِثْلُ الْمُعَقِّبَاتِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْتِي فِي أَدْبَارِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَزْعُ السِّهَامِ وَسَبْحُ الْخَيْلِ وَسَبْقُهَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ النَّصْرُ، وَلَفْظُ التَّأْنِيثِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ جَمَاعَاتٌ، كَمَا قِيلَ: الْمُدَبِّرَاتُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآلَةَ مِنَ الْقَوْسِ وَالْأَوْهَاقِ، عَلَى مَعْنَى الْمَنْزُوعِ فِيهَا وَالْمَنْشُوطِ بِهَا.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِالْمَرَاتِبِ الْوَاقِعَةِ فِي رُجُوعِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى اللَّهِ ف النَّازِعاتِ غَرْقاً هِيَ الْأَرْوَاحُ الَّتِي تَنْزِعُ إِلَى اعْتِلَاقِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، أَوِ الْمَنْزُوعَةُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً هِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الْجُسْمَانِيَّاتِ تَأْخُذُ فِي الْمُجَاهَدَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَشَاطٍ تَامٍّ، وَقُوَّةٍ قَوِيَّةٍ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الْمُجَاهَدَةِ تَسْرَحُ فِي أَمْرِ الْمَلَكُوتِ فَتَقْطَعُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ فَتَسْبَحُ فِيهَا: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَرْوَاحِ فِي دَرَجَاتِ سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ/ الْبَشَرِيَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِأَوَّلِ دَرَجَاتِ الْمَلَكِيَّةِ، فَلَمَّا انْتَهَتِ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى أَقْصَى غَايَاتِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ السَّبْقِ اتَّصَلَتْ بِعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: 35] والخامسة: هِيَ النَّارُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النُّورِ: 35] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا، حَتَّى لَا يُمْكِنَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرُوهَا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا لَهَا، فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ دُونَ احْتِمَالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ دَقِيقَةٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمَلٌ لِلْكُلِّ، فَإِنْ وَجَدْنَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَفْهُومًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ: وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ جَمِيعُ هَذِهِ الْوُجُوهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَعَذَّرَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِإِفَادَةِ مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا، بَلْ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ، أَمَّا الْجَزْمُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ هَاهُنَا.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وهو أن لا تكون الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ صِفَاتٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، فَفِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: النَّازِعَاتُ غَرْقًا، هِيَ: الْقِسِيُّ، وَالنَّاشِطَاتُ نَشْطًا هِيَ الْأَوْهَاقُ، وَالسَّابِحَاتُ السُّفُنُ، وَالسَّابِقَاتُ الْخَيْلُ، وَالْمُدَبِّرَاتُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ: عَنْ عَطَاءٍ الثَّانِي: نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ: فِي النَّازِعَاتِ، وَالنَّاشِطَاتِ، وَالسَّابِحَاتِ أَنَّهَا الْمَوْتُ، وَفِي السَّابِقَاتِ، وَالْمُدَبِّرَاتِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَإِضَافَةُ النَّزْعِ، وَالنَّشْطِ، وَالسَّبْحِ إِلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا حَصَلَتْ عِنْدَ حُصُولِهِ الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: الْجَمِيعُ هِيَ النُّجُومُ إِلَّا الْمُدَبِّرَاتِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْمَلَائِكَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فَالسَّابِقَاتِ بِالْفَاءِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَفِي عِلَّتِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : إن هذه مسيبة عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّاتِي سَبَحْنَ، فَسَبَقْنَ كَمَا تَقُولُ: قَامَ فَذَهَبَ أَوْجَبَ الْفَاءُ(31/32)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
أَنَّ الْقِيَامَ كَانَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ وَذَهَبَ لَمْ تَجْعَلِ الْقِيَامَ سَبَبًا لِلذَّهَابِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُ صَاحِبِ «النَّظْمِ» غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي قَوْلِهِ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَجْعَلَ السَّبْقَ سَبَبًا لِلتَّدْبِيرِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنِ اعْتِرَاضِ الْوَاحِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا أُمِرَتْ سَبَحَتْ فَسَبَقَتْ فَدَبَّرَتْ مَا أُمِرَتْ بِتَدْبِيرِهَا وَإِصْلَاحِهَا، فَتَكُونُ هَذِهِ أَفْعَالًا يَتَّصِلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَقَوْلِكَ قَامَ زَيْدٌ، فَذَهَبَ، فَضَرَبَ عَمْرًا، الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا سَابِقِينَ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ مُتَسَارِعِينَ إِلَيْهَا ظَهَرَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ فَوَّضَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ تَدْبِيرَ بَعْضِ الْعَالَمِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قِسْمَانِ، الرُّؤَسَاءُ وَالتَّلَامِذَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: 11] ثُمَّ قَالَ: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَامِ: 61] فَقُلْنَا فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ هُوَ الرَّأْسُ، وَالرَّئِيسُ وَسَائِرُ الملائكة هم التلامذة، إذا عرفت هذا فتقول: النَّازِعَاتُ، وَالنَّاشِطَاتُ/ وَالسَّابِحَاتُ، مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّلَامِذَةِ الَّذِينَ هُمْ يُبَاشِرُونَ الْعَمَلَ بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالسَّابِقاتِ ... فَالْمُدَبِّراتِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ هُمُ السَّابِقُونَ، فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ، وَهُمُ الْمُدَبِّرُونَ لِتِلْكَ الأحوال والأعمال.
[سورة النازعات (79) : الآيات 6 الى 11]
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُتَقَدِّمِ مَحْذُوفٌ أَوْ مَذْكُورٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْآيَةِ احْتِمَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ التَّقْدِيرُ: لَتُبْعَثُنَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً [النازعات: 11] أَيْ أَنُبْعَثُ إِذَا صِرْنَا عِظَامًا نَخِرَةً الثَّانِي: قَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: لَنَنْفُخَنَّ فِي الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ ذِكْرُ الرَّاجِفَةِ وَالرَّادِفَةِ وَهُمَا النَّفْخَتَانِ الثَّالِثُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْجَوَابُ الْمُضْمَرُ هُوَ أَنَّ الْقِيَامَةَ وَاقِعَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى قال: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: 1] ثُمَّ قَالَ: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ [الذَّارِيَاتِ: 5] وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ [الْمُرْسَلَاتِ: 1، 7] فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَوَابَ مَذْكُورٌ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ وَالتَّقْدِيرُ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا إِنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَحْصُلُ قُلُوبٌ وَاجِفَةٌ وَأَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ الثَّانِي: جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [النَّازِعَاتِ: 15] فَإِنَّ هَلْ هَاهُنَا بِمَعْنَى قَدْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: 1] أَيْ قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ الثَّالِثُ:
جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النَّازِعَاتِ: 26] .(31/33)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي نَاصِبِ يَوْمَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالْجَوَابِ الْمُضْمَرِ وَالتَّقْدِيرُ لَتُبْعَثُنَّ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَالرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى؟ قُلْنَا الْمَعْنَى لَتُبْعَثُنَّ فِي الْوَقْتِ الْوَاسِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَاسِعِ وَهُوَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُخْرَى، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جُعِلَ حَالًا عَنِ الرَّاجِفَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يُنْصَبَ يَوْمَ تَرْجُفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَيْ يَوْمَ تَرْجُفُ وَجَفَتِ الْقُلُوبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْحَرَكَةُ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ/ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [الْمُزَّمِّلِ: 14] . الثَّانِي: الْهَدَّةُ الْمُنْكَرَةُ وَالصَّوْتُ الْهَائِلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجَفَ الرَّعْدُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجِيفًا، وَذَلِكَ تَرَدُّدُ أَصْوَاتِهِ الْمُنْكَرَةِ وَهَدْهَدَتُهُ فِي السَّحَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف:
91] فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الرَّاجِفَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا هَوْلٌ وَشِدَّةٌ كَالرَّعْدِ، وَأَمَّا الرَّادِفَةُ فَكُلُّ شَيْءٍ جَاءَ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ يُقَالُ رَدِفَهُ، أَيْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ فَهِيَ الْمُضْطَرِبَةُ الْخَائِفَةُ، يُقَالُ: وَجَفَ قَلْبُهُ يَجِفُ وِجَافًا إِذَا اضْطَرَبَ، وَمِنْهُ إِيجَافُ الدَّابَّةِ، وَحَمْلُهَا عَلَى السَّيْرِ الشَّدِيدِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْوَاجِفَةِ وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ، قَالُوا: خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ زَائِدَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا قَلِقَةٌ مُسْتَوْفِزَةٌ مُرْتَكِضَةٌ شَدِيدَةُ الِاضْطِرَابِ غَيْرُ سَاكِنَةٍ، أَبْصَارُ أَهْلِهَا خَاشِعَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشُّورَى: 45] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَزَعَمَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَفَاسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ نَشْرَحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أَحْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَهَؤُلَاءِ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّاجِفَةَ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَسُمِّيَتْ بِهِ إِمَّا لِأَنَّ الدُّنْيَا تَتَزَلْزَلُ وَتَضْطَرِبُ عِنْدَهَا، وَإِمَّا لِأَنَّ صَوْتَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هِيَ الرَّاجِفَةُ، كَمَا بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ، وَالرَّاجِفَةُ رَجْفَةٌ أُخْرَى تَتْبَعُ الْأُولَى فَتَضْطَرِبُ الْأَرْضُ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا اضْطَرَبَتْ فِي الْأُولَى لِمَوْتِ الْأَحْيَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، ثُمَّ
يُرْوَى عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ يُمْطِرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهَا كَالنُّطَفِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِلْأَحْيَاءِ، وَهَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ
وَثَانِيهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى وَالرَّادِفَةُ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النَّمْلِ: 72] أَيِ الْقِيَامَةُ الَّتِي يَسْتَعْجِلُهَا الْكَفَرَةُ اسْتِبْعَادًا لَهَا فَهِيَ رَادِفَةٌ لَهُمْ لِاقْتِرَابِهَا وَثَالِثُهَا: الرَّاجِفَةُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَالرَّادِفَةُ السَّمَاءُ وَالْكَوَاكِبُ لِأَنَّهَا تَنْشَقُّ وَتَنْتَثِرُ كَوَاكِبُهَا عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَرَابِعُهَا: الرَّاجِفَةُ هِيَ الْأَرْضُ تَتَحَرَّكُ وَتَتَزَلْزَلُ وَالرَّادِفَةُ زَلْزَلَةٌ ثَانِيَةٌ تَتْبَعُ الْأُولَى حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ وَتَفْنَى الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَيْسَتْ أَحْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقَلْنَا عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ النَّازِعَاتِ بِنَزْعِ الْقَوْسِ وَالنَّاشِطَاتِ بِخُرُوجِ السَّهْمِ، وَالسَّابِحَاتِ بِعَدْوِ الْفَرَسِ، وَالسَّابِقَاتِ بِسَبْقِهَا، وَالْمُدَبِّرَاتِ بِالْأُمُورِ الَّتِي تَحْصُلُ أَدْبَارَ ذَلِكَ الرَّمْيِ وَالْعَدْوِ، ثُمَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ الرَّاجِفَةُ هِيَ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الرَّادِفَةُ وَيُرَادُ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ غَزَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَالْقُلُوبُ الْوَاجِفَةُ هِيَ الْقَلِقَةُ، وَالْأَبْصَارُ الْخَاشِعَةُ هِيَ أَبْصَارُ الْمُنَافِقِينَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [مُحَمَّدٍ: 20] كَأَنَّهُ قِيلَ لَمَّا جَاءَ خَيْلُ العدو يرجف، وَرَدَفَتْهَا أُخْتُهَا اضْطَرَبَ قُلُوبُ الْمُنَافِقِينَ خَوْفًا،(31/34)
وخشعت أبصارهم جبنا وضعفا، ثم قالوا: / أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] أَيْ نَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى نَتَحَمَّلَ هَذَا الْخَوْفَ لِأَجْلِهَا وَقَالُوا أَيْضًا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النَّازِعَاتِ: 12] فَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ حِكَايَةٌ لِحَالِ مَنْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْسَطُهُ حِكَايَةٌ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ وَآخِرُهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ الْحَشْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجَابَ عَنْ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13، 14] وَهَذَا كَلَامُ أَبِي مُسْلِمٍ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلِ: الْقُلُوبُ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُونَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يقولون: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] وَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ لَا كَلَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ:
أَبْصارُها خاشِعَةٌ لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ حَالِ الْمُضْطَرِبِ الْخَائِفِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ نَظَرَ خَاشِعٍ ذَلِيلٍ خَاضِعٍ يَتَرَقَّبُ مَا يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ؟ الْجَوَابُ: قُلُوبٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله: لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: 221] .
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ صَحَّتْ إِضَافَةُ الْأَبْصَارِ إِلَى الْقُلُوبِ؟ الْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ يَقُولُونَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا عَنْ مُنْكِرِي البعث أقوالا ثلاثة:
أولها: قوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ يُقَالُ رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ أَيْ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا فَحَفَرَهَا أَيْ أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ حَفْرًا فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحْفُورَةٌ إِلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ حَافِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] وماءٍ دافِقٍ [الطَّارِقِ: 6] أَيْ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْحَفْرِ وَالرِّضَا وَالدَّفْقِ أَوْ كَقَوْلِهِمْ نَهَارُكَ صَائِمٌ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ كَانَ فِي أَمْرٍ فَخَرَجَ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ رَجَعَ إِلَى حَافِرَتِهِ، أَيْ إِلَى طَرِيقَتِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَى حَافِرَتِهِ»
أَيْ عَلَى أَوَّلِ تَأْسِيسِهِ وَحَالَتِهِ الْأُولَى وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ فِي الْحُفْرَةِ، وَالْحُفْرَةُ بِمَعْنَى الْمَحْفُورَةِ يُقَالُ: حَفَرَتْ أَسْنَانُهُ، فَحَفَرَتْ حَفْرًا، وَهِيَ حُفْرَةٌ، هَذِهِ الْقِرَاءَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَافِرَةَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ بِمَعْنَى الْمَحْفُورِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا وَابْتِدَاءِ أَمْرِنَا فَنَصِيرُ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا.
وثانيها: قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ نَاخِرَةً بِأَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نَخِرَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ فَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي كَيْفَ قَرَأَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْأَلِفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ اخْتَارَ نَخِرَةً، وَقَالَ: نَظَرْنَا فِي الْآثَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِظَامِ الَّتِي قَدْ نَخِرَتْ، فَوَجَدْنَاهَا كُلَّهَا الْعِظَامَ النَّخِرَةَ، وَلَمْ نَسْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا النَّاخِرَةَ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا/ عَلَى أَنَّ النَّاخِرَةَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنِ النَّاخِرَةَ وَالنَّخِرَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْأَخْفَشُ هُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ أَيَّهُمَا قَرَأْتَ فَحَسَنٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّاخِرُ وَالنَّخِرُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَالْبَاخِلِ وَالْبَخِلِ، وَفِي كِتَابِ «الْخَلِيلِ» نَخِرَتِ الْخَشَبَةُ إِذَا بَلِيَتْ فَاسْتَرْخَتْ حَتَّى تَتَفَتَّتَ إِذَا مُسَّتْ، وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ النَّاخِرُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: هُمَا(31/35)
لُغَتَانِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: النَّاخِرَةُ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِالْآيَةِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ أَوَاخِرَ سَائِرِ الْآيِ نَحْوَ الْحَافِرَةِ وَالسَّاهِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: النَّاخِرَةُ وَالنَّخِرُ كَالطَّامِعِ وَالطَّمِعِ، وَاللَّابِثِ وَاللَّبِثِ وَفَعِلٌ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّخِرَةَ غَيْرٌ وَالنَّاخِرَةَ غَيْرٌ، أَمَّا النَّخِرَةُ فَهُوَ مِنْ نَخِرَ الْعَظْمُ يَنْخَرُ فَهُوَ نَخِرٌ مِثْلُ عَفِنَ يَعْفَنُ فَهُوَ عَفِنٌ، وَذَلِكَ إِذَا بَلِيَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسْتَهُ لَتَفَتَّتَ، وَأَمَّا النَّاخِرَةُ فَهِيَ الْعِظَامُ الْفَارِغَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِنْ هُبُوبِ الرِّيحِ فِيهَا صَوْتٌ كَالنَّخِيرِ، وَعَلَى هَذَا النَّاخِرَةُ مِنَ النَّخِيرِ بِمَعْنَى الصَّوْتِ كَنَخِيرِ النَّائِمِ وَالْمَخْنُوقِ لَا مِنَ النَّخَرِ الَّذِي هُوَ الْبِلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا منصوب بمحذوف تقدير إِذَا كُنَّا عِظَامًا نُرَدُّ وَنُبْعَثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الْمَبْنِيُّ بِهَذِهِ الْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ فَقَدْ بَطَلَ مِزَاجُهُ وَفَسَدَ تَرْكِيبُهُ فَتَمْتَنِعُ إِعَادَتُهُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْعَائِدُ هُوَ الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ إِلَّا إِذَا دَخَلَ التَّرْكِيبُ الْأَوَّلُ فِي الْوُجُودِ مَرَّةً أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْلٌ بِإِعَادَةِ عَيْنِ مَا عُدِمَ أَوَّلًا، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ الَّذِي عُدِمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ وَلَا ذَاتٌ وَلَا خُصُوصِيَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْوُجُودِ استحال أيقال بِأَنَّ الْعَائِدَ هُوَ عَيْنُ مَا فَنِيَ أَوَّلًا وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصِيرُ تُرَابًا وَتَتَفَرَّقُ وَتَخْتَلِطُ بِأَجْزَاءِ كُلِّ الْأَرْضِ وَكُلِّ الْمِيَاهِ وَكُلِّ الْهَوَاءِ فَتَمَيُّزُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَجْزَاءَ التُّرَابِيَّةَ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ قَشِفَةٌ فَتَوَلُّدُ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَارًّا رَطْبًا فِي مِزَاجِهِ عَنْهَا مُحَالٌ، هَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَهُوَ الْأَقْوَى: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْزَاءَ هَذَا الهيكل في الزوبان وَالتَّبَدُّلِ، وَالَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَنَا لَيْسَ فِي التَّبَدُّلِ وَالْمُتَبَدِّلُ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ حَالَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنْ أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْعُورُ بِهِ مُغَايِرٌ لِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْعُورٍ بِهِ وَإِلَّا لَاجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِقَوْلِهِ: أَنَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلَ، ثُمَّ هاهنا ثلاث احْتِمَالَاتٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا بِجُسْمَانِيٍّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُخَالِفًا بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ الْقَابِلَةِ لِلِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ سَارِيَةً فِيهَا سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْفَحْمِ وَسَرَيَانَ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ وَسَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ/ فِي جِرْمِ الْوَرْدِ فَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْهَيْكَلُ تَقَلَّصَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَبَقِيَتْ حَيَّةً مُدْرِكَةً عَاقِلَةً، إِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ أَوْ فِي السَّعَادَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ جِسْمٌ مُسَاوٍ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْمَاهِيَّةِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا بِالْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ مِنْ أَوَّلِ حَالِ تَكَوُّنِ شَخْصٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَبَدِّلَةِ تَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ فَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ أَنَا فَعِنْدَ الْمَوْتِ تَنْفَصِلُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ. وَتَبْقَى حَيَّةً، إِمَّا فِي السَّعَادَةِ أَوْ فِي الشَّقَاوَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْبَدَنِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ فَسَادُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ حَقِيقَةً، وَهَذَا مَقَامٌ حَسَنٌ مَتِينٌ تَنْقَطِعُ بِهِ جَمِيعُ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِصَيْرُورَةِ الْعِظَامِ نَخِرَةً بَالِيَةً مُتَفَرِّقَةً تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ الْبَتَّةَ، سَلَّمْنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُسَامَحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ مَجْمُوعُ هَذَا الْهَيْكَلِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْإِعَادَةَ مُمْتَنِعَةٌ؟
[أَوَّلًا] : الْمَعْدُومُ لَا يُعَادُ: قُلْنَا: أَلَيْسَ أَنَّ حَالَ عَدَمِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَكُمْ صِحَّةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَوْدُهُ،(31/36)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَلَى قولنا أيضا صحة الحكم عليه بالعود، قول: ثَانِيًا: الْأَجْزَاءُ الْقَلِيلَةُ مُخْتَلِطَةٌ بِأَجْزَاءِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ، قُلْنَا لَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَقَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَيَصِحُّ مِنْهُ جَمْعُهَا بِأَعْيَانِهَا. وَإِعَادَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: ثَالِثًا: الْأَجْسَامُ الْقَشِفَةُ الْيَابِسَةُ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ. قُلْنَا: نَرَى السَّمَنْدَلَ، يَعِيشُ فِي النَّارِ، وَالنَّعَامَةَ تَبْتَلِعُ الْحَدِيدَةَ الْمُحْمَاةَ، وَالْحَيَّاتِ الْكِبَارَ الْعِظَامَ مُتَوَلِّدَةً فِي الثُّلُوجِ، فَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَاللَّهُ الهادي إلى الصدق والصواب.
[سورة النازعات (79) : آية 12]
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ وَالْمَعْنَى كَرَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْخُسْرَانِ، كَقَوْلِكَ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ، أَوْ خَاسِرٌ أَصْحَابُهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ صَحَّتْ فَنَحْنُ إِذًا خَاسِرُونَ لِتَكْذِيبِنَا، وَهَذَا مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذِهِ الكلمات قال:
[سورة النازعات (79) : الآيات 13 الى 14]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا هُمْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ لَا تَسْتَصْعِبُوهَا فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يَعْنِي لَا تَحْسَبُوا تِلْكَ الْكَرَّةَ صَعْبَةً عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهَا سَهْلَةٌ هَيِّنَةٌ فِي قُدْرَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: زَجَرَ الْبَعِيرَ إِذَا صَاحَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الصَّيْحَةِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ صَيْحَةُ إِسْرَافِيلَ، قَالَ المفسرون: يحيهم اللَّهُ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ فَيَسْمَعُونَهَا فَيَقُومُونَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ [ص: 15] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السَّاهِرَةُ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ/ سَالِكَهَا لَا يَنَامُ خَوْفًا مِنْهَا الثَّانِي: أَنَّ السَّرَابَ يَجْرِي فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ جَارِيَةُ الْمَاءِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهِيَ أَنَّ الْأَرْضَ إِنَّمَا تُسَمَّى سَاهِرَةً لِأَنَّ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ فيها يطير النوم عن الْإِنْسَانِ، فَتِلْكَ الْأَرْضُ الَّتِي يَجْتَمِعُ الْكُفَّارُ فِيهَا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِيهَا فِي أَشَدِّ الْخَوْفِ، فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ سَاهِرَةً لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ أَرْضُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ الزَّجْرَةِ وَالصَّيْحَةِ يُنْقَلُونَ أَفْوَاجًا إِلَى أَرْضِ الْآخِرَةِ وَلَعَلَّ هَذَا الْوَجْهَ أَقْرَبُ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 17]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17)
فيه مسائل:(31/37)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْكُفَّارِ إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات: 12] وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ الْكَثِيرَةَ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَقْوَى مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ جَمْعًا وَأَشَدَّ شَوْكَةً، فَلَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مُوسَى أَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي تَمَرُّدِهِمْ عَلَيْكَ إِنْ أَصَرُّوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ نَكَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَيْسَ قَدْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَتَاهُ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ أَتاكَ كَذَا، أَمْ أَنَا أُخْبِرُكَ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَادِي الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: طُوىً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنه اسم وادي بِالشَّامِ وَهُوَ عِنْدَ الطُّورِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطُّورِ: 1، 2] وَقَوْلِهِ:
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مَرْيَمَ: 52] وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَجُلُ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: طُوىً أَيْ نَادَاهُ طُوىً مِنَ اللَّيْلَةِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ لِأَنَّكَ تَقُولُ جِئْتُكَ بَعْدَ طُوىً أَيْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طُوِيَ أَيْ بُورِكَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو طُوَى بِضَمِّ الطَّاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَقَرَأَ/ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ مُنَوَّنًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. طِوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَطَوَى مِثْلُ ثَنَى، وَهُمَا اسْمَانِ لِلشَّيْءِ الْمَثْنِيِّ، وَالطَّيُّ بِمَعْنَى الثَّنْيِ، أَيْ ثَنَّيْتُ فِي الْبَرَكَةِ وَالتَّقْدِيسِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوىً وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ، فَمَنْ صَرَفَهُ قَالَ: هُوَ ذَكَرٌ سَمَّيْنَا بِهِ ذَكَرًا، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ كَعُمَرَ وَزُفَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّرْفُ أَحَبُّ إِلَيَّ إِذْ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَعْدُولِ نَظِيرًا، أَيْ لَمْ أَجِدِ اسْمًا مِنَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ عُدِلَ عَنْ فَاعِلِهِ إِلَى فِعْلٍ غَيْرَ طُوىً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اذْهَبْ، لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، أَوْ بِإِسْمَاعِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَيْفَ عَرَفَ مُوسَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 23، 24] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى مِنْ جُمْلَةِ مَا نَادَاهُ بِهِ رَبُّهُ، لَا أَنَّهُ كُلُّ مَا نَادَاهُ بِهِ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَطْ، بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ جَارِيَةٌ مَجْرَى دَعْوَةِ كُلِّ ذَلِكَ الْقَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ تَعَدَّى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَكَفَرَ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ طَغَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي الْجَمْعُ(31/38)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَغَى عَلَى الْخَالِقِ بِأَنْ كَفَرَ بِهِ، وَطَغَى عَلَى الْخَلْقِ بِأَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ، وَكَمَا أَنَّ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا صِدْقَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ، فَكَذَا كَمَالُ الطُّغْيَانِ لَيْسَ إِلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَالِقِ وَمَعَ الْخَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ لقنه كلامين ليخاطبه بهما: فالأول: قوله تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 18]
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ هَلْ لَكَ فِي كَذَا، وَهَلْ لَكَ إِلَى كَذَا، كَمَا تَقُولُ: هَلْ تَرْغَبُ فِيهِ، وَهَلْ تَرْغَبُ إِلَيْهِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ فِي اللَّفْظِ مُرَادٌ فِي المعنى، والتقدير: هل لك إلى تَزَكَّى حَاجَةٌ أَوْ إِرْبَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: هَلْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ مِنَ الْعُيُوبِ كُلِّهَا، قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الْكَهْفِ: 74] وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: 9] وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَصِيرُ بِهِ زَاكِيًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَذَلِكَ بِجَمْعِ كَلِّ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ قِرَاءَتَانِ: التَّشْدِيدُ عَلَى إِدْغَامِ تَاءِ التَّفَعُّلِ فِي الزَّايِ لِتَقَارُبِهِمَا وَالتَّخْفِيفُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي إِبْطَالِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، أَيْ لَكَ سَبِيلٌ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تعالى لا نقلب الْكَلَامُ عَلَى مُوسَى، وَالْجَوَابُ عَنْ أَمْثَالِهِ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمَا: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ لَهُمَا ذَلِكَ الْكَلَامَ اللَّيِّنَ الرَّقِيقَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ اللِّينِ وَالرِّفْقِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ، وَلِهَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يُخَاشِنُونَ النَّاسَ وَيُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ، كَأَنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ما أمر الله به أنبياءه ورسله. ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 19]
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا تُسْتَفَادُ إِلَّا مِنَ الْهَادِي تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ هَذِهِ الْهِدَايَةُ فَلَمَّا أَعَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ مُوسَى خَتَمَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ(31/39)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
يُنَبِّهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَقَاصِدِ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ مَعُونَةً فِي الْكَشْفِ عَنِ الْحَقِّ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ إِلَّا مِنَ الْمُعْلِمِ وَنَحْنُ لَا نُحِلُّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهِدَايَةَ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا وَمُفَرَّعَةً عَلَيْهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النَّحْلِ: 2] وَفِي طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] أَيِ الْعُلَمَاءُ بِهِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مِلَاكُ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ أَتَى مِنْهُ كُلُّ خَيْرٍ، وَمَنْ أَمِنَ اجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ شَرٍّ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أدلج بلغ المنزل» .
[سورة النازعات (79) : آية 20]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي فَأَراهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ، يَعْنِي فَذَهَبَ فَأَرَاهُ، كَقَوْلِهِ: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ الْكُبْرَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ الْيَدُ، لِقَوْلِهِ فِي النمل: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] آيَةٌ أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعَصَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْيَدِ إِلَّا انْقِلَابُ لَوْنِهِ إِلَى لَوْنٍ آخَرَ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَاصِلًا فِي الْعَصَا، لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَلَبَتْ حَيَّةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ، فَإِذًا كَلُّ مَا فِي الْيَدِ فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْعَصَا، ثُمَّ حَصَلَ فِي الْعَصَا أُمُورٌ أُخْرَى أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْهَا حُصُولُ الْحَيَاةِ فِي الْجِرْمِ الْجَمَادِيِّ، وَمِنْهَا تَزَايُدُ أَجْزَائِهِ وَأَجْسَامِهِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْقُدْرَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا كَانَتِ ابْتَلَعَتْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَكَأَنَّهَا فَنِيَتْ، وَمِنْهَا زَوَالُ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ عَنْهَا، وَفَنَاءُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي حَصَلَ عِظَمُهَا، وَزَوَالُ ذَلِكَ اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا صَارَتِ الْعَصَا حَيَّةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ مُعْجِزًا مُسْتَقِلًّا فِي نَفْسِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْكُبْرَى هِيَ الْعَصَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مَجْمُوعُ الْيَدِ وَالْعَصَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا أَظْهَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ هُوَ الْعَصَا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْيَدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكُبْرَى مجموعهما. أحدها: قوله تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 21]
فَكَذَّبَ وَعَصى (21)
وفيه مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ أَنَّهُ كَذَّبَ بِدَلَالَةِ ذَلِكَ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَدْحَ فِي دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ إِمَّا لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ وَإِنِ امْتَنَعَتْ مُعَارَضَتُهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا لِلَّهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، إِمَّا فِعْلُ جِنِّيٍّ أَوْ فِعْلُ مَلَكٍ، أَوْ إِنْ كَانَ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ، أَوْ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ لِغَرَضِ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ صِدْقُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، فَهَذِهِ مَجَامِعُ الطَّعْنِ فِي دَلَالَةِ(31/40)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
الْمُعْجِزِ عَلَى الصِّدْقِ، وَمَا بَعْدَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَنِ الصِّدْقِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِدَلِيلِ قوله: فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: 23] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعرا: 53] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ اللَّهَ فَقَدْ عَصَى، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبَ وَعَصى؟ وَالْجَوَابُ: كَذَّبَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَصَى بِأَنْ أَظْهَرَ التَّمَرُّدَ وَالتَّجَبُّرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْمَعْصِيَةِ مُغَايِرٌ لِمَا كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وَقَدْ دَعَاهُ وَأَظْهَرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ. يُوفِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَمَعْصِيَتُهُ بِتَرْكِ الْقَبُولِ مِنْهُ، وَالْحَالُ هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِمَعْصِيَتِهِ مِنْ قَبْلِ ذلك.
[سورة النازعات (79) : آية 22]
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22)
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الثُّعْبَانَ أَدْبَرَ مَرْعُوبًا يَسْعَى يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ، قَالَ الْحَسَنُ كَانَ رَجُلًا طَيَّاشًا خَفِيفًا وَثَانِيهَا: تَوَلَّى عَنْ مُوسَى يَسْعَى وَيَجْتَهِدُ فِي مُكَايَدَتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسْعَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ أَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى أَنْشَأَ يَفْعَلُ، فَوُضِعَ أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال. وثالثها: قوله:
[سورة النازعات (79) : الآيات 23 الى 24]
فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَحَشَرَ فَجَمَعَ السَّحَرَةَ كَقَوْلِهِ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ، أَوْ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ بِذَلِكَ، وَقِيلَ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلِمَتُهُ الْأُولَى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] وَالْآخِرَةُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ (طه) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإنسان في نفسه كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، فَمَنْ تَشَكَّكَ فِيهِ كَانَ مَجْنُونًا، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا لَمَا جَازَ مِنَ اللَّهِ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَيْهِ، بَلِ الرَّجُلُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِلصَّانِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إِلَّا لِي، فَأَنَا رَبُّكُمْ بِمَعْنَى مُرَبِّيكُمْ وَالْمُحْسِنِ إِلَيْكُمْ، وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إِلَهٌ حَتَّى يَكُونَ لَهُ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، أَوْ يَبْعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِهِ بَعْدَ ظُهُورِ خِزْيِهِ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، أَنْ لَا يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ. لِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالْعَجْزِ، كَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَارَ كَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ أَتْبَعَهُ بِمَا عَامَلَهُ به وهو قوله تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 25]
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:(31/41)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي نَصْبِ نَكَالَ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ معنى أخذه الله، نكل الله به، نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. لِأَنَّ أَخَذَهُ وَنَكَلَهُ مُتَقَارِبَانِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: أَدَعُهُ تَرْكًا شَدِيدًا لِأَنَّ أَدَعُهُ وَأَتْرُكُهُ سَوَاءٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: 102] ، الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذًا نَكَالًا لِلْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى التَّنْكِيلِ كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ وَالْأُولَى صِفَةٌ لِكَلِمَتَيْ فِرْعَوْنَ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَصِ: 38] والأخرى قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] قَالُوا: وَكَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ بِكَلِمَتِهِ الْأُولَى فِي الْحَالِ، بَلْ أَمْهَلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا ذَكَرَ الثَّانِيَةَ أُخِذَ بِهِمَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ تعالى يمهل ولا يمهل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ:
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أَيْ عَذَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَغْرَقَهُ فِي الدُّنْيَا الثَّالِثُ: الْآخِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وَالْأُولَى هِيَ تَكْذِيبُهُ مُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا كَأَنَّهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 20، 24] فَذَكَرَ الْمَعْصِيَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ عَاتَبَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: (النكال) اسم لمن جعل نكالا لعيره، وَهُوَ الَّذِي إِذَا رَآهُ أَوْ بَلَغَهُ خَافَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الِامْتِنَاعِ، وَمِنْهُ النُّكُولُ عَنِ الْيَمِينِ، وَقِيلَ لِلْقَيْدِ نِكْلٌ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ، فَالنَّكَالُ مِنَ الْعُقُوبَةِ هُوَ أَعْظَمُ حَتَّى يَمْتَنِعَ مَنْ سَمِعَ بِهِ عَنِ ارْتِكَابِ مِثْلِ ذَلِكَ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْكِيلُ بِهِ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ يَقَعُ عَلَى مَا يَفْتَضِحُ بِهِ صَاحِبُهُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِهِ تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 26]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيمَا اقْتَصَصْنَاهُ مِنْ أَمْرِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ، وَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بِفِرْعَوْنَ مِنَ الْخِزْيِ، وَرَزَقَ مُوسَى مِنَ الْعُلُوِّ وَالنَّصْرِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى وَذَلِكَ أَنْ يَدَعَ التَّمَرُّدَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّكْذِيبَ لِأَنْبِيَائِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِفِرْعَوْنَ، وَعِلْمًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْصُرُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، فَاعْتَبِرُوا مَعَاشِرَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُحَمَّدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَيِ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الْمَعْنَى الْجَالِبِ لِلْعِقَابِ، شَارَكْتُمُوهُمْ فِي حُلُولِ العقاب بكم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 28]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ، فَقَالَ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ:
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ فَنَبَّهَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى صِغَرِهِ وَضَعْفِهِ، إِذَا(31/42)
أُضِيفَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى عِظَمِهَا وَعِظَمِ أَحْوَالِهَا يَسِيرٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَخَلْقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى / أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وَقَوْلُهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ أَيْ عِنْدَكُمْ، وَفِي تَقْدِيرِكُمْ، فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الإنسان مخلوقا فبأن ينكر [هـ] في السماء كان أولى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَحَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَناها ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بَناها قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ السَّمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ الَّتِي بَنَاهَا، فَحَذَفَ الَّتِي، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ جَائِزٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: الرَّجُلُ جَاءَكَ عَاقِلٌ، أَيِ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَكَ عَاقِلٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةً لَكَانَ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: بَناها صِفَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: رَفَعَ سَمْكَها صِفَةٌ، فَقَدْ تَوَالَتْ صِفَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَكَانَ يَجِبُ إِدْخَالُ الْعَاطِفِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كما في قوله: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [النازعات: 29] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِلسَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: رَفَعَ سَمْكَها ابْتِدَاءٌ بِذِكْرِ صِفَتِهِ، وَلِلْفَرَّاءِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: بَناها صِلَةً لِلسَّمَاءِ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ [الَّتِي] «1» بَنَاهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُودَ سَمَاءٍ مَا بَنَاهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ فِي الْأَزَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْجِسْمِ أَزَلِيًّا بَاطِلٌ. أَمَّا الْحَصْرُ فَلِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ سَاكِنًا، أَوْ لَا يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَمَاهِيَّةَ الْأَزَلِ تُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا، لِأَنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ وَهُوَ مُمْكِنُ الزَّوَالِ، وَكُلُّ مُمْكِنِ الزَّوَالِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ سُكُونٍ مُحْدَثٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، لِأَنَّهُ يَتَبَدَّلُ كَوْنُ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا بِكَوْنِهِ سَاكِنًا مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ، فَأَحَدُهُمَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ السُّكُونَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ الْحَرَكَةَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السُّكُونُ ثُبُوتِيًّا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، وَالسُّكُونُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَيْسَ فِي/ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ فِي الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَعَدَمِ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ عَارِضِيٌّ خَارِجِيٌّ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كذلك في سورة أُخْرَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ سُكُونَ السَّمَاءِ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَتَحَرَّكَ السَّمَاءُ لَكِنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَوْ كانت ساكنة في الأزل،
__________
(1) ما بين القوسين المربعين زيادة اقتضاها الكلام إذ لا معنى له بدونها (عبد الله الصاوي) .(31/43)
لَكَانَ ذَلِكَ السُّكُونُ جَائِزَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ السُّكُونَ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، افْتَقَرَ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَانَ غَنِيًّا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ عَنْ شَرْطٍ لَزِمَ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ ذَلِكَ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَزُولَ لِلسُّكُونِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَمُفْتَقِرًا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ إِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، لَزِمَ مِنْ دَوَامِ الْعِلَّةِ وَدَوَامِ الشَّرْطِ دَوَامُ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، أَوْ كَانَ شَرْطُ إِيجَابِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوِ الِانْتِهَاءُ إِلَى مُوجِبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَإِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، فَإِذًا كَلُّ سُكُونٍ، فَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِوَاسِطَةِ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْكَائِنِ، وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ سُكُونٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَا مُتَحَرِّكًا وَلَا سَاكِنًا، فَهُوَ إِذًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَزَلِ، فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ، وَفِي تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ إِلَى مُوجِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ صَانِعٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ لِذَاتَيْهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُودِ وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِمَّا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِمَّا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَيْنِ بِالذَّاتِ مُمْكِنٌ بِالذَّاتِ هَذَا خَلْفٌ، ثُمَّ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَيْنِكَ الجز أين، فَإِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُرَكَّبًا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ كَانَ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ حَالَ الْبَقَاءِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمُوجِدِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحُدُوثُ لَازِمٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، فَلَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ جِرْمَ السَّمَاءِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ/ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمُخَصِّصٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا وَأَعْطَاهُ قُدْرَةً يَتَمَكَّنُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ خَالِقُ السَّمَاءِ وَبَانِيهَا هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ؟ الْجَوَابُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى قَدِيمٍ وَالْإِلَهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَاسِطَةِ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَناها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا مُوجَبٌ، وَالَّذِي كَانَ مَقْدُورًا لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَإِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْإِمْكَانَ بَقِيَ الْوُجُوبُ أَوِ الِامْتِنَاعُ وَهُمَا يُحِيلَانِ الْمَقْدُورِيَّةَ، وَإِذَا كَانَ مَا لِأَجْلِهِ صَحَّ فِي الْبَعْضِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ عَامٌّ فِي الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ صِحَّةُ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَنِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ، وإذا ثبت(31/44)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ قَدَّرْنَا قَادِرًا آخَرَ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ، لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالِاقْتِضَاءِ فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ بِذَاكَ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَغَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ مُمْكِنٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْكَلَامُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُثْبِتُ فِي الْوُجُودِ مُؤَثِّرًا سِوَى الْوَاحِدِ، فَهَذَا جملة ما في هذا الباب.
[في قوله تعالى رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ بَنَاهَا، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا، وَشَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: رَفَعَ سَمْكَها.
وَاعْلَمْ أَنَّ امْتِدَادَ الشَّيْءِ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ سُمِّيَ عُمْقًا، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ سُمِّيَ سَمْكًا، فَالْمُرَادُ بِرَفْعِ سَمْكِهَا شِدَّةُ عُلُوِّهَا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَ [قَدْ] بَيَّنَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَبْعَادَ مَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ: رَفْعُ سَمْكِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوَّاها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسْوِيَةُ تَأْلِيفِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشُّقُوقِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: 3] وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا:
فَسَوَّاها عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّسْوِيَةِ فِي بعض الأشياء، ثم قال هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ/ السَّمَاءِ كُرَةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُرَةً لَكَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ سَطْحًا، وَالْبَعْضُ زَاوِيَةً، وَالْبَعْضُ خَطًّا، وَلَكَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَالْبَعْضُ أَبْعَدَ، فَلَا تَكُونُ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُرَةً حَتَّى تَكُونَ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ قَالُوا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَأَيُّ ضَرَرٍ فِي الدِّينِ يَنْشَأُ مِنْ كونها كرة؟.
[سورة النازعات (79) : آية 29]
وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَغْطَشَ قَدْ يَجِيءُ لَازِمًا، يُقَالُ: أَغْطَشَ اللَّيْلُ إِذَا صَارَ مُظْلِمًا وَيَجِيءُ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: أَغَطَشَهُ اللَّهُ إِذَا جَعَلَهُ مُظْلِمًا، وَالْغَطَشُ الظُّلْمَةُ، وَالْأَغْطَشُ شِبْهُ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ لِزَمَانِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَوْلُهُ: وَأَغْطَشَ لَيْلَها يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْمُظْلِمَ مُظْلِمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ: وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ أَخْرَجَ نهارا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ النَّهَارِ بِالضُّحَى، لِأَنَّ الضُّحَى أَكْمَلُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّمَا يَحْدُثَانِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا، ثُمَّ غُرُوبُهَا وَطُلُوعُهَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ اللَّيْلَ والنهار إلى(31/45)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
السَّمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّمَاءِ أَتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ من وجوه: الصفة الأولى:
قوله تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 30]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَحَاهَا بَسَطَهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
دَحَاهَا فَلَمَّا رَآهَا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
دَحَوْتَ الْبِلَادَ فَسَوَّيْتَهَا ... وَأَنْتَ عَلَى طَيِّهَا قَادِرٌ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ لُغَتَانِ دَحَوْتُ أَدْحُو، وَدَحَيْتُ أَدْحَى، وَمِثْلُهُ صَفَوْتُ وَصَفَيْتُ وَلَحَوْتُ الْعُودَ وَلَحَيْتُهُ وَسَأَوْتُ الرَّجُلَ وَسَأَيْتُهُ وَبَأَوْتُ عَلَيْهِ وَبَأَيْتُ، وَفِي
حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ «اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحِيَّاتِ»
أَيْ بَاسِطَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَهُوَ الْمَدْحُوَّاتُ أَيْضًا، وَقِيلَ: أَصْلُ الدَّحْوِ الْإِزَالَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ:
إِنَّ الصَّبِيَّ يَدْحُو بِالْكُرَةِ أَيْ يَقْذِفُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَدْحَى النَّعَامَةُ مَوْضِعَهُ الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت مَا فِيهِ مِنْ حَصَى، حَتَّى يَتَمَهَّدَ لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الدَّحْوِ يَرْجِعُ إِلَى الْإِزَالَةِ وَالتَّمْهِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْضِ بَعْدَ السَّمَاءِ، وَقَوْلُهُ: فِي حم السَّجْدَةِ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فُصِّلَتْ: 11] يَقْتَضِي كَوْنَ السَّمَاءِ بَعْدَ الْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29] وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا ثَالِثًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا كَالْكُرَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّهَا وَبَسَطَهَا، فَإِنْ قِيلَ الدَّلَائِلُ الِاعْتِبَارِيَّةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْآنَ كُرَةٌ أَيْضًا، وَإِشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ يَكُونُ ظَاهِرُهُ كَالسَّطْحِ الْمُسْتَوِي، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجِسْمُ مَخْلُوقًا وَلَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَدْحُوًّا مَبْسُوطًا وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ دَحاها: مُجَرَّدَ الْبَسْطِ، بَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَسَطَهَا بَسْطًا مُهَيَّأً لِنَبَاتِ الْأَقْوَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: 31] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ لَا يَحْصُلُ لِلْأَرْضِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّمَاءِ فَإِنَّ الْأَرْضَ كَالْأُمِّ وَالسَّمَاءَ كَالْأَبِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلَا لَمْ تَتَوَلَّدْ أَوَّلًا الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتَاتُ وَالْحَيَوَانَاتُ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أَيْ مَعَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَمِ: 13] أَيْ مَعَ ذَلِكَ، وَقَوْلُكَ لِلرَّجُلِ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهَا كَذَا لَا تُرِيدُ بِهِ التَّرْتِيبَ، وَقَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 17] وَالْمَعْنَى وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَيْ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثَانِيًا، ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَالِثًا، ذَكَرُوا فِي تَقْدِيرِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وُجُوهًا.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «خَلَقَ اللَّهُ الْبَيْتَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سنة،(31/46)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
وَمِنْهُ دُحِيَتِ الْأَرْضُ»
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْلَى.
[سورة النازعات (79) : آية 31]
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاؤُهَا عُيُونُهَا الْمُتَفَجِّرَةُ بِالْمَاءِ وَمَرْعَاهَا رَعْيُهَا، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، وَنَصْبُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِإِضْمَارِ دَحَا وَأَرْسَى عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَقَرَأَهُمَا الْحَسَنُ مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَإِنْ قِيلَ:
هَلَّا أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ؟ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحَاهَا بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَشَارِبِ وَالْمَآكِلِ وَإِمْكَانِ الْقَرَارِ عَلَيْهَا بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ وَإِثْبَاتِهَا أَوْتَادًا لَهَا حَتَّى تَسْتَقِرَّ وَيُسْتَقَرَّ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا حَالَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَرَادَ بِمَرْعَاهَا مَا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي النَّحْلِ: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النَّحْلِ: 10] وَقَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا إلى قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: 25- 32] فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتُعِيرَ الرَّعْيُ لِلْإِنْسَانِ كَمَا اسْتُعِيرَ الرَّتْعُ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ [يُوسُفَ: 12] وَقُرِئَ نَرْتَعْ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: 30] فَانْظُرْ كَيْفَ دَلَّ بِقَوْلِهِ: ماءَها وَمَرْعاها عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ، وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ، وَاللِّبَاسِ وَالدَّوَاءِ حَتَّى النَّارِ وَالْمِلْحِ، أَمَّا النَّارُ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مِنَ الْعِيدَانِ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ [الْوَاقِعَةِ: 71، 72] وَأَمَّا الْمِلْحُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَدَّدَ فِي وَصْفِ الْجَنَّةِ ذِكْرُهُمَا، فَقَالَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْمَرْعَى كُلَّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 33] .
[سورة النازعات (79) : الآيات 32 الى 33]
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها وَالْكَلَامُ فِي شَرْحِ مَنَافِعِ الْجِبَالِ قَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ الْأَرْضَ وَكَمِّيَّةَ مَنَافِعِهَا قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتْعَةً وَمَنْفَعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَمَّا قَرَّرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَ إِمْكَانَ الْحَشْرِ عَقْلًا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وقوعه. فقال تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 34]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)(31/47)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّامَّةُ عِنْدَ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ وَفِي اشْتِقَاقِهَا وُجُوهٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أُخِذَتْ فِيمَا أَحْسَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَمَّ الْفَرَسُ طَمِيمًا، إِذَا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ فِي الْجَرْيِ، وَطَمَّ الْمَاءُ إِذَا مَلَأَ النَّهْرَ كُلَّهُ، وَقَالَ اللَّيْثُ:
الْطَّمُ طَمُّ الْبِئْرِ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الْكَبْسُ، وَيُقَالُ: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا حَتَّى يُسَوِّيَهَا، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَكْبُرُ حَتَّى يَعْلُوَ قَدْ طَمَّ، وَالطَّامَّةُ الْحَادِثَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى مَا سِوَاهَا وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: فَوْقَ كُلِّ طَامَّةٍ طَامَّةٌ، قَالَ الْقَفَّالُ:
أَصْلُ الْطَّمِّ الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ، وَكُلُّ مَا غَلَبَ شَيْئًا وَقَهَرَهُ وَأَخْفَاهُ فَقَدْ طَمَّهُ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الطَّامِي وَهُوَ الْكَثِيرُ الزَّائِدُ، وَالطَّاغِي وَالْعَاتِي وَالْعَادِيُّ سَوَاءٌ وَهُوَ الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، فَالطَّامَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ دَاهِيَةٍ عَظِيمَةٍ يُنْسَى مَا قَبْلَهَا في جنبها.
[سورة النازعات (79) : الآيات 35 الى 36]
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الطَّامَّةِ الْكُبْرَى الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا أَيُّ شَيْءٍ هِيَ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ فِيهِ مِنَ النَّارِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ مَا يُنْسَى مَعَهُ كُلُّ هَائِلٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي عِنْدَهَا تُحْشَرُ الْخَلَائِقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الطَّامَّةَ الْكُبْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَالطَّامَّةُ تَكُونُ اسْمًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وقت قراءة الكتاب على ما قَالَ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الْإِسْرَاءِ: 13] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ هِيَ السَّاعَةَ الَّتِي يُسَاقُ فِيهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِوَصْفَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يَعْنِي إِذَا رَأَى أَعْمَالَهُ مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِهِ تَذَكَّرَهَا، وَكَانَ قَدْ نَسِيَهَا، كَقَوْلِهِ: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [الْمُجَادَلَةِ: 6] .
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَنْ يَرى أَيْ أَنَّهَا تَظْهَرُ إِظْهَارًا مَكْشُوفًا لِكُلِّ نَاظِرٍ ذِي بَصَرٍ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ فِي كَوْنِهِ مُنْكَشِفًا ظَاهِرًا كَقَوْلِهِمْ: تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ «1» .
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَجِبُ أَنْ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا بُرِّزَتْ لِيَرَاهَا كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ وَبَصَرٌ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَرَوْنَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، إِلَّا أَنَّهَا مَكَانُ الْكُفَّارِ وَمَأْوَاهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُتَأَكِّدٌ بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ:
71، 72] فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء: 90، 91] فخص الغاوين بتبريرها لَهُمْ، قُلْنَا: إِنَّهَا بُرِّزَتْ لِلْغَاوِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهَا أَيْضًا فِي الْمَمَرِّ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
__________
(1) هذا شطر بيت حرف لفظه وبقي معناه وصوابه: قد وضح الصبح لذي عينين.(31/48)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَبَرَزَتْ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِمَنْ رَأَى، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: لِمَنْ تَرَى، وَالضَّمِيرُ لِلْجَحِيمِ، كَقَوْلِهِ: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الْفُرْقَانِ: 12] وَقِيلَ: لِمَنْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُؤْذُونَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْقِيَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَسَّمَ الْمُكَلَّفِينَ قِسْمَيْنِ: الْأَشْقِيَاءُ وَالسُّعَدَاءُ، فَذَكَرَ حَالَ الأشقياء. فقال تعالى:
[سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 39]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [النازعات: 34] وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّهُ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النار، وأهل الجنة الجنة، ودلى عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ مَأْوَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ مَالِكُ بْنُ معول فِي تَفْسِيرِ الطَّامَّةِ الْكُبْرَى، قَالَ:
إِنَّهَا إِذَا سَبَقَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَابَهُ قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَكَأَنَّهُ جَزَاءٌ مُرَكَّبٌ عَلَى شَرْطَيْنِ نَظِيرُهُ إِذَا جَاءَ الْغَدُ، فَمَنْ جَاءَنِي سَائِلًا أَعْطَيْتُهُ، كَذَا هَاهُنَا أَيْ إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَمَنْ جَاءَ طَاغِيًا فَإِنَّ الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا النَّضْرُ وَأَبُوهُ الْحَارِثُ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِنْدَ صُدُورِ بَعْضِ الْمُنْكِرَاتِ مِنْهُ فَجَيِّدٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ تَخْصِيصُهَا بِهِ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا إِذَا عُرِفَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ هُوَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قوله صغى، إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَرَفَ حَقَارَةَ نَفْسِهِ، وَعَرَفَ اسْتِيلَاءَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ طُغْيَانٌ وَتَكَبُّرٌ، وَقَوْلُهُ: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ»
وَمَتَى كَانَ الْإِنْسَانُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مَوْصُوفًا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَانَ بَالِغًا فِي الْفَسَادِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الَّذِي يَكُونُ عِقَابُهُ مُخَلَّدًا، وَتَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْجَحِيمُ مَأْوًى لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى لَهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الصِّلَةُ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ غُضَّ الطَّرْفَ أَيْ غُضَّ طَرْفَكَ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، اللَّائِقُ بِمَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ والأخلاق. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ فَقَالَ تَعَالَى:
[سورة النازعات (79) : الآيات 40 الى 41]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)(31/49)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
واعلم أن هذين الوصفين مضادات لِلْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ النَّارِ بِهِمَا فَقَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضِدُّ قوله: فَأَمَّا مَنْ طَغى [النازعات: 17] وقوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد ققوله: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا [النازعات: 38] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ عَلَى مَا قَالَ:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ هُوَ السَّبَبَ الْمُعِينَ لِدَفْعِ الْهَوَى، لَا جَرَمَ قَدَّمَ العلة على المعلول، وَكَمَا دَخَلَ فِي ذَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ دَخَلَ/ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أَخَاهُ أَبَا عَزِيزٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي جَوْفِهِ.
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 44]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ إِمْكَانَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهَا الْعَامَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ والسعداء فيها، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ إِثْبَاتَ «1» الْقِيَامَةِ، وَوَصْفَهَا بِالْأَوْصَافِ الْهَائِلَةِ، مِثْلُ أَنَّهَا طَامَّةٌ وَصَاخَّةٌ وَقَارِعَةٌ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: أَيَّانَ مُرْساها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيهَامِ لِأَتْبَاعِهِمْ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ اسْتِعْجَالًا، كَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشُّورَى: 18] ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: مُرْساها قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: مَتَى إِرْسَاؤُهَا، أَيْ إِقَامَتُهَا أَرَادُوا مَتَى يُقِيمُهَا اللَّهُ وَيُوجِدُهَا وَيُكَوِّنُهَا وَالثَّانِي: أَيَّانَ مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا، كَمَا أَنَّ مَرْسَى السَّفِينَةِ مُسْتَقَرُّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ عَنْ تَذَكُّرِ وَقْتِهَا لَهُمْ، وَتَبَيُّنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ الْمُعَيَّنِ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا أَنْتَ وَهَذَا، وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ فِي هَذَا،
وَعَنْ عَائِشَةَ «لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ السَّاعَةَ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ»
فَهُوَ عَلَى هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ لَهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي أَيِّ شُغُلٍ وَاهْتِمَامٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِهَا وَالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا، فَلِحِرْصِكَ عَلَى جَوَابِهِمْ لَا تَزَالُ تَذْكُرُهَا وَتَسْأَلُ عَنْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ:
فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ قِيلَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أَيْ أرسلك «2» وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكرا مِنْ أَنْوَاعِ عَلَامَاتِهَا، وَوَاحِدًا مِنْ أَقْسَامِ أَشْرَاطِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى دُنُوِّهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لها، ولا فائدة في سؤالهم عنها.
__________
(1) لعل (إثبات) محرفة عن (أنباء) بمعنى أخبار.
(2) لعل (أرسلك) محرفة عن (إرسالك) .(31/50)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 45]
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ إِنَّمَا بُعِثْتَ لِلْإِنْذَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِكَ/ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، بَلْ لَوْ أَنْصَفْنَا لَقُلْنَا: بِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ إِنَّمَا يَتِمَّانِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِوَقْتِ قِيَامِ الْقِيَامَةِ حَاصِلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْذِرٌ لِلْكُلِّ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَنْ يَخْشَى، لِأَنَّهُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مُفْعِلٌ وَفَاعِلٌ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ أَوْ لِلْحَالِ يُنَوَّنُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا نَكِرَةً وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ لِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي فَلَا يَجُوزُ إِلَّا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس. ثم قال تعالى:
[سورة النازعات (79) : آية 46]
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الْأَحْقَافِ: 35] وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَنْكَرُوهُ سَيَرَوْنَهُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَبَدًا فِيهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ مَضَتْ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها مَعْنَاهُ ضُحَى الْعَشِيَّةِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَشِيَّةِ ضُحًى:
قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْهَاءُ وَالْأَلِفُ صِلَةٌ لِلْكَلَامِ يُرِيدُ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحًى وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِإِضَافَةِ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ إِضَافَتُهَا إِلَى يَوْمِ الْعَشِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا عَشِيَّةَ أَوْ ضُحَى يَوْمِهَا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: آتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا يَكْفِي فِي حُسْنِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَالضُّحَى الْمُتَقَدِّمُ عَلَى عَشِيَّةٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ، وَزَمَانُ الْمِحْنَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَشِيَّةِ وَزَمَانُ الرَّاحَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالضُّحَى، فَالَّذِينَ يُحْضَرُونَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يُعَبِّرُونَ عَنْ زَمَانِ مِحْنَتِهِمْ بِالْعَشِيَّةِ وَعَنْ زَمَانِ رَاحَتِهِمْ بِضُحَى تِلْكَ الْعَشِيَّةِ فَيَقُولُونَ: كَأَنَّ عُمْرَنَا فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ إِلَّا هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/51)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة عبس
وهي أربعون وآيتان مكية
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
- وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ-
وَعِنْدَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِئْنِي وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعَهُ لِكَلَامِهِ، وَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُهُ، وَيَقُولُ: إِذَا رَآهُ «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي» وَيَقُولُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ،
وَفِي الْمَوْضِعِ سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالزَّجْرَ، فَكَيْفَ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى أَنْ أَدَّبَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَزَجَرَهُ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِفَقْدِ بَصَرِهِ لَا يَرَى الْقَوْمَ، لَكِنَّهُ لِصِحَّةِ سَمْعِهِ كَانَ يَسْمَعُ مُخَاطَبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، وَكَانَ يَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَعْرِفُ بِوَاسِطَةِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ شِدَّةَ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَأْنِهِمْ، فَكَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى قَطْعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْقَاءِ غَرَضِ نَفْسِهِ فِي الْبَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ غَرَضِ النَّبِيِّ إِيذَاءً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَهَمَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُهِمِّ، وَهُوَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ، مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، أَمَّا أُولَئِكَ الْكُفَّارُ فَمَا كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، وَهُوَ إِسْلَامُهُمْ سَبَبًا لِإِسْلَامِ جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَإِلْقَاءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي الْبَيْنِ كَالسَّبَبِ فِي قَطْعِ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، لِغَرَضٍ قَلِيلٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْحُجُرَاتِ: 4] فَنَهَاهُمْ عَنْ مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هَذَا النِّدَاءُ الَّذِي صَارَ كَالصَّارِفِ لِلْكُفَّارِ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَكَالْقَاطِعِ/ عَلَى الرَّسُولِ أَعْظَمَ مُهِمَّاتِهِ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الفعل؟.(31/52)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاتَبَهُ عَلَى مُجَرَّدِ أَنَّهُ عَبَسَ فِي وَجْهِهِ، كَانَ تَعْظِيمًا عَظِيمًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْظِيمِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِاسْمِ الْأَعْمَى مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الْوَصْفِ يَقْتَضِي تَحْقِيرَ شَأْنِهِ جِدًّا؟.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا فِي أَنْ يُعَامِلَ أَصْحَابَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُؤَدِّبَهُمْ وَلِيُعَلِّمَهُمْ مَحَاسِنَ الْآدَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ التَّعْبِيسُ دَاخِلًا فِي إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَكَيْفَ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْوَاقِعَةِ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَانْكِسَارَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَتِ الْمُعَاتَبَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] ، والوجه الثَّانِي:
لَعَلَّ هَذَا الْعِتَابَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ، بَلْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ أَنَّ قَلْبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ مَالَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ قَرَابَتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَكَانَ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنِ الْأَعْمَى بِسَبَبِ عَمَاهُ وَعَدَمِ قَرَابَتِهِ وَقِلَّةِ شَرَفِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّعْبِيسُ وَالتَّوَلِّي لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ، لَا عَلَى التَّأْدِيبِ بَلْ عَلَى التَّأْدِيبِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ ذِكْرَهُ بِلَفْظِ الْأَعْمَى لَيْسَ لِتَحْقِيرِ شَأْنِهِ، بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ عَمَاهُ اسْتَحَقَّ مَزِيدَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَخُصَّهُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ هَاهُنَا لَمَّا أُوهِمَ تَقْدِيمُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ تَرْجِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَاءَتْ هَذِهِ الْمُعَاتَبَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِصُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: لَمَّا عَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ مَعْصِيَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُتَعَيَّنُ لَا بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِصَلَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ، وَتَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَنْبًا الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَبَسَ وَتَوَلَّى، هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَجْمَعُوا [عَلَى] أَنَّ الْأَعْمَى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقُرِئَ عَبَّسَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَحْوُهُ كَلَّحَ فِي/ كَلَحَ، أَنْ جَاءَهُ مَنْصُوبٌ بِتَوَلَّى أَوْ بِعَبَسَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي إِعْمَالِ الْأَقْرَبِ أَوِ الْأَبْعَدِ وَمَعْنَاهُ عَبَسَ، لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَأَعْرَضَ لِذَلِكَ، وَقُرِئَ أَنْ جَاءَهُ بِهَمْزَتَيْنِ، وَبِأَلِفٍ بَيْنَهُمَا وُقِفَ عَلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ابْتُدِأَ عَلَى مَعْنَى أَلِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِنْكَارِ، كَمَنْ يَشْكُو إِلَى النَّاسِ جَانِيًا جَنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْجَانِي إِذَا حَمِيَ فِي الشِّكَايَةِ مُوَاجِهًا بِالتَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ.
[سورة عبس (80) : الآيات 3 الى 4]
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)(31/53)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِ هَذَا الْأَعْمَى لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ مِنْكَ، مِنَ الْجَهْلِ أَوِ الْإِثْمِ، أَوْ يَتَّعِظُ فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ أَيْ مَوْعِظَتُكَ، فَتَكُونَ لَهُ لُطْفًا فِي بَعْضِ الطَّاعَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَلَقَّفُهُ عَنْكَ يُطَهِّرُهُ عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، أَوْ يَشْغَلُهُ ببعض ما ينبغي وهو الطاعة أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، بِمَعْنَى أَنْتَ طَمِعْتَ فِي أَنْ يَزَّكَّى الْكَافِرُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَذَّكَّرَ فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ: وَما يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعْتَ فِيهِ كَائِنٌ، وَقُرِئَ فَتَنْفَعُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَذَّكَّرُ، وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلَعَلَّ، كَقَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [غَافِرٍ: 37] وقد مر. ثم قال:
[سورة عبس (80) : آية 5]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5)
قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَغْنَى أَثْرَى وَهُوَ فَاسِدٌ هَاهُنَا، لِأَنَّ إِقْبَالَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى، فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى [عبس: 8، 9] ولم يقل: وهو فقير عديم، وَمَنْ قَالَ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ والقرآن، بماله من المال. وقوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 6]
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ وَتَتَعَرَّضُ لَهُ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ، يُقَالُ تَصَدَّى فُلَانٌ لِفُلَانٍ، يَتَصَدَّى إِذَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ تَصَدَّدَ يَتَصَدَّى مِنَ الصَّدَدِ، وَهُوَ مَا اسْتَقْبَلَكَ وَصَارَ قُبَالَتَكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَالِ: 35] وَقُرِئَ: (تَصَّدَّى) بِالتَّشْدِيدِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تُصْدِي، بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ تُعْرِضُ، وَمَعْنَاهُ يَدْعُوكَ دَاعٍ إِلَى التَّصَدِّي لَهُ مِنَ الْحِرْصِ، وَالتَّهَالُكِ عَلَى إِسْلَامِهِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 7]
وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)
الْمَعْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْكَ فِي أَنْ لَا يُسْلِمَ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ لَا يَبْلُغَنَّ بِكَ الْحِرْصُ عَلَى إِسْلَامِهِمْ إِلَى أَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ أَسْلَمَ لِلِاشْتِغَالِ بِدَعْوَتِهِمْ. / ثم قال:
[سورة عبس (80) : الآيات 8 الى 9]
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
أَنْ يُسْرِعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 9] .
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَخْشى فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُهُ فِي أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِأَدَاءِ تَكَالِيفِهِ، أَوْ يَخْشَى الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ فِي إِتْيَانِكَ، أَوْ يَخْشَى الْكَبْوَةَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَمَا كَانَ لَهُ قَائِدٌ. [ثم قال] :
[سورة عبس (80) : آية 10]
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
أَيْ تَتَشَاغَلُ مِنْ لَهِيَ عَنِ الشَّيْءِ وَالْتَهَى وَتَلَهَّى، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. تَتَلَهَّى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ تَلَهَّى أَيْ يُلْهِيكَ شَأْنُ الصَّنَادِيدِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ... فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَانَ فِيهِ اخْتِصَاصًا، قُلْنَا نَعَمْ،(31/54)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
وَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ التَّصَدِّي وَالتَّلَهِّي عَنْهُ، أَيْ مِثْلُكَ، خُصُوصًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّى لِلْغَنِيِّ، وَيَتَلَهَّى عن الفقير.
[سورة عبس (80) : آية 11]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11)
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنِ الْمُعَاتَبِ عَلَيْهِ وَعَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا تلا جبريل عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَادَ وَجْهُهُ، كَأَنَّمَا أُسِفَّ الرَّمَادَ فِيهِ يَنْتَظِرُ مَاذَا يَحْكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: كَلَّا سُرِّيَ مِنْهُ، أَيْ لَا تَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: 12] ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ عَائِدٌ إِلَى التَّذْكِرَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ فِي مَعْنَى الذِّكْرِ وَالْوَعْظِ الثَّانِي: قال صاحب «النظم» :
إِنَّها تَذْكِرَةٌ يعني به الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ مُذَكَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةً أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظِ التَّذْكِرَةِ، وَلَوْ ذَكَرَهُ لَجَازَ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «1» [المدثر: 54] وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا التَّأْدِيبُ الَّذِي أَوْحَيْتُهُ إِلَيْكَ وَعَرَّفْتُهُ لَكَ فِي إِجْلَالِ الْفُقَرَاءِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا أُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي قَدْ وُكِّلَ بِحِفْظِهِ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ فِي الْعَظَمَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، فَسَوَاءٌ قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ آمَنَ بِهِ تطييبا لقلب أرباب الدنيا.
[سورة عبس (80) : الآيات 12 الى 14]
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ بَيِّنَةٌ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادُوا فَهْمَهَا وَالِاتِّعَاظَ بِهَا وَالْعَمَلَ بِمُوجِبِهَا لَقَدَرُوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أَيْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ مُعَدَّةٌ «2» فِي هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ حَالِ الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الصُّحُفِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ مطهر عَنْ أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْمُرَادُ مُطَهَّرَةٌ بِسَبَبِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. ثم قال تعالى:
__________
(1) في الأصل (كلا إنها) وحينئذ فلا معنى للاستشهاد بها.
(2) في الأصل (موعدة) وهو تحريف واضح ولعل ما ذكرته الصواب ويحتمل أن يكون موجودة.(31/55)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
[سورة عبس (80) : الآيات 15 الى 16]
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ سَفَرَةٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْكَتَبَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ وَاحِدُهَا سَافِرٌ مِثْلُ كَتَبَةٌ وَكَاتِبٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكَتَبَةِ: سَفَرَةٌ وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الَّذِي يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَشَفَتْ عَنْ وَجْهِهَا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ أَنَّ السَّفَرَةَ هَاهُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفَرُونَ بِالْوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ، وَاحِدُهَا سَافِرٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، فَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ، كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلَحُ بِهِ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَأَنْشَدُوا:
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ السِّفَارَةِ مِنَ الْكَشْفِ، وَالْكَاتِبُ إِنَّمَا يُسَمَّى سَافِرًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَالسَّفِيرُ إِنَّمَا سُمِّيَ سَفِيرًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا كَانُوا وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ فِي الْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ، لَا جَرَمَ سُمُّوا سَفَرَةً.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ: أَنَّهُمْ كِرَامٌ قَالَ مُقَاتِلٌ: كِرَامٌ عَلَى رَبِّهِمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ ابْنِ آدَمَ إِذَا خَلَا مَعَ زَوْجَتِهِ لِلْجِمَاعِ وعند قضاء الحاجة.
الصفة الثالثة: أَنَّهُمْ: بَرَرَةٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: مُطِيعِينَ، وَبَرَرَةٌ جَمْعُ بار، قال الْفَرَّاءُ: لَا يَقُولُونَ فَعَلَةٌ لِلْجَمْعِ إِلَّا وَالْوَاحِدُ مِنْهُ فَاعِلٌ مِثْلُ كَافِرٌ وَكَفَرَةٌ، وَفَاجِرٌ وَفَجَرَةٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الصُّحُفِ: أَنَّهَا هِيَ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: 18] يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالسَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ هُمْ أَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُمُ الْقُرَّاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ طَهَارَةَ تِلْكَ الصُّحُفِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ السَّفَرَةِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَقْرِيرِهِ: لَمَّا كَانَ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ أُضِيفَ التَّطْهِيرُ إِلَيْهَا لطهارة من يمسها. قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 17]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ بِذِكْرِ الْقِصَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَرَفُّعِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَيُّ سَبَبٍ فِي هَذَا الْعَجَبِ وَالتَّرَفُّعِ مَعَ أَنَّ أَوَّلَهُ نُطْفَةٌ(31/56)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
قذوة وَآخِرَهُ جِيفَةٌ مَذِرَةٌ، وَفِيهَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ حَمَّالُ عَذِرَةٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِعَجَبِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ تَصْلُحُ لِأَنْ يُسْتَدُلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَلِأَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِينَ أَقْبَلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِسَبَبِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ ذَمُّ كُلِّ غَنِيٍّ تَرَفَّعَ عَلَى فَقِيرٍ بِسَبَبِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ لِتَرَفُّعِهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْحُكْمُ بِسَبَبِ عُمُومِ الْعِلَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّفَ طَرِيقَتَهُمْ بِسَبَبِ حَقَارَةِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ عَلَى مَا قَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ... ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: 19- 21] وَعُمُومُ هَذَا الزَّجْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَشْنَعِ دَعَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَمَا أَكْفَرَهُ تَعَجُّبٌ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَكْفَرَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الدُّعَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْعَاجِزِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ وَالتَّعَجُّبُ أَيْضًا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَاهِلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَالِمُ بِالْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَلَى أُسْلُوبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مُحْدَثٍ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ أَوَّلَهُ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ لِلْإِنْسَانِ. أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَهِيَ قَوْلُهُ:
[سورة عبس (80) : آية 18]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَغَرَضُهُ زيادة التقرير في التحقير.
[سورة عبس (80) : آية 19]
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّطْفَةَ شَيْءٌ حَقِيرٌ مَهِينٌ/ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ [مِنْ] مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، فَالنَّكِيرُ وَالتَّجَبُّرُ لَا يَكُونُ لَائِقًا بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّرَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَهُ أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ خَلْقِهِ وَذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَسَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى قَدَّرَهُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ كَمَا قَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الْكَهْفِ: 37] ، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقَدَّرَ كُلَّ عُضْوٍ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالْقَدْرِ اللَّائِقِ بِمَصْلَحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: 2] . وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ فَهِيَ قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 20]
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُصِبَ السَّبِيلَ بِإِضْمَارِ يَسَّرَهُ، وَفَسَّرَهُ بِيَسَّرَهُ.(31/57)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ تَسْهِيلُ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، قَالُوا:
إِنَّهُ كَانَ رَأْسُ الْمَوْلُودِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ فَوْقُ وَرِجْلَاهُ مِنْ تَحْتُ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ انْقَلَبَ، فَمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا مِنْ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ الضَّيِّقِ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] فَهُوَ يَتَنَاوَلُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أَيْ جَعَلْنَاهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّيْسِيرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّعْرِيفُ وَالْعَقْلُ وَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَحْوَالُ الدُّنْيَا [لَا] أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:
وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الأخيرة، فهي قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : الآيات 21 الى 22]
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ مُشْتَمِلَةٌ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، الْإِمَاتَةُ، وَالْإِقْبَارُ، وَالْإِنْشَارُ، أَمَّا الْإِمَاتَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنَافِعَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا هِيَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَالْمُجَازَاةِ، وَأَمَّا الْإِقْبَارُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ:
جَعَلَهُ اللَّهُ مَقْبُورًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، لِأَنَّ الْقَبْرَ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْمُسْلِمَ «1» قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ فَقَبَرَهُ، لِأَنَّ الْقَابِرَ هُوَ الدَّافِنُ بِيَدِهِ، وَالْمُقْبِرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، يُقَالُ قَبَرَ الْمَيِّتَ إِذَا دَفَنَهُ وَأَقْبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْقَبْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ، وَاللَّهُ أَبْتَرَهُ وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ، وَاللَّهُ أَعْضَبَهُ، وَطَرَدْتُ فُلَانًا عَنِّي، وَاللَّهُ أَطْرَدَهُ. أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ [وَ] الْبَعْثُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِذَا شَاءَ إِشْعَارًا بِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، فَتَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْوَالِ/ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَوْقَاتُهَا من بعض الوجوه، إذا الْمَوْتُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِنْسَانُ وَقْتَهُ فَفِي الْجُمْلَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهِ إِلَّا حدا معلوما.
[سورة عبس (80) : آية 23]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ تَكَبُّرِهِ وَتَرَفُّعِهِ، أَوْ عَنْ كُفْرِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى إِنْكَارِهِ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَقْضِي أَحَدٌ جَمِيعَ مَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَقْصِيرٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَّا يَقْضِ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَمِيعَ النَّاسِ بَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَقَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ كَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَرَفِّعَ الْمُتَكَبِّرَ لَمْ يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَبَيِّنَاتِ حِكْمَتِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ: كَلَّا لَمْ يَقْضِ اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ ما أمره به من الإيمان وترك التكبر،
__________
(1) الأولى أن يقال: (ربما أكرم به الإنسان) لأن الإقبار ليس خاصا بالمسلم بل هو عام يشمل المسلم والكافر. لا سيما والإنسان المتحدث عنه في صدر الآية المراد به الكافر فقط.(31/58)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ.
وأعم أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْآفَاقِ فَجَرَى هَاهُنَا عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ وَذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَبَدَأَ بِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ. فَقَالَ:
[سورة عبس (80) : آية 24]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24)
الَّذِي يَعِيشُ بِهِ كَيْفَ دَبَّرْنَا أَمْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْضِعُ الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الْإِنْسَانُ لَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَتَّى يَدْخُلَ ذَلِكَ الطَّعَامُ فِي الْوُجُودِ وَالثَّانِيَةُ: مُتَأَخِّرَةٌ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، وَلَمَّا كَانَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ لِلْحُسْنِ «1» وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ الْخَلْقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ وَالشُّبْهَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبْتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَطْرِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَرْضِ، فَالسَّمَاءُ كَالذَّكَرِ، وَالْأَرْضُ كَالْأُنْثَى فَذُكِرَ في بيان نزل القطر. قوله:
[سورة عبس (80) : آية 25]
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: صَبَبْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَيْثُ، ثُمَّ انْظُرْ فِي أَنَّهُ كَيْفَ حَدَثَ الْغَيْثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، وَكَيْفَ بَقِيَ مُعَلَّقًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ غَايَةِ ثِقَلِهِ، وَتَأَمَّلْ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، حَتَّى يَلُوحَ لَكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ نُورِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي تَدْبِيرِ خِلْقَةِ هَذَا الْعَالَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (إِنَّا) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّا بِالْفَتْحِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّقْدِيرُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنَّا كَيْفَ صَبَبْنَا الْمَاءَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّا كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ كَمَا أن قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الأنفال: 74] تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ، وَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَشْتَمِلُ عَلَى كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَةِ:
217] وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: 4، 5] . قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 26]
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
وَالْمُرَادُ شَقُّ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النَّبَاتِ: أَوَّلُهَا: الْحَبُّ: وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
[سورة عبس (80) : آية 27]
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27)
وَهُوَ كُلُّ مَا حُصِدَ مِنْ نَحْوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذلك لأنه كالأصل في الأغذية.
[سورة عبس (80) : آية 28]
وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
__________
(1) في الأصل (أظهر للجنس) ولعل ما ذكرته هو الصواب ولا سيما إذا قورن بما يأتي في السطر التالي.(31/59)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنَباً وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْحَبِّ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَفَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضْباً وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرُّطَبَةُ وَهِيَ الَّتِي إِذَا يَبِسَتْ سُمِّيَتْ بِالْقَتِّ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهَا بِالْقَضْبِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقَضِيبُ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ.
وَمُقَاتِلٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ.
وَالثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقَضْبُ هُوَ الْعَلَفُ بِعَيْنِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالرَّابِعُ والخامس: قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 29]
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَمَنَافِعُهُمَا قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الكتاب. وسادسها: قوله تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 30]
وَحَدائِقَ غُلْباً (30)
الْأَصْلُ فِي الْوَصْفِ بِالْغُلْبِ الرِّقَابُ فَالْغُلْبُ الْغِلَاظُ الْأَعْنَاقُ الْوَاحِدُ أَغْلَبُ يُقَالُ أَسَدٌ أَغْلَبُ، ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ حَدِيقَةٍ بِأَنَّ أَشْجَارَهَا مُتَكَاثِفَةٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ قَالَا:
الْغُلْبُ الملتفة الشجر بعضه في بَعْضٍ، يُقَالُ اغْلَوْلَبَ الْعُشْبُ وَاغْلَوْلَبَتِ الْأَرْضُ إِذَا الْتَفَّ عُشْبُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْجَارِ بِالْغِلَظِ وَالْعِظَمِ، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الشَّجَرَ الْعِظَامَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْغُلْبُ مَا غَلُظَ مِنَ النَّخْلِ.
[سورة عبس (80) : الآيات 31 الى 32]
وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَفاكِهَةً وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالنَّخْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْفَاكِهَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَبًّا وَالْأَبُّ هُوَ الْمَرْعَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ يُؤَبُّ أَيْ يُؤَمُّ وَيُنْتَجَعُ، وَالْأَبُّ وَالْأَمُّ أَخَوَانِ قَالَ الشَّاعِرُ:
جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا ... لَنَا الْأَبُّ بِهِ وَالْمَكْرَعُ
وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب لِلشِّتَاءِ أَيْ تُعَدُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَغْتَذِي بِهِ النَّاسُ وَالْحَيَوَانُ.
قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: خَلَقْنَاهُ مَنْفَعَةً وَمُتْعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ:
فَأَنْبَتْنا لِأَنَّ إِنْبَاتَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِمْتَاعٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ.(31/60)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَوَّلُهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَثَانِيهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى القدرة على المعادو ثالثها: أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَى عَبِيدِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ، لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّدَ عَنْ طَاعَتِهِ وَأَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى عَبِيدِهِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَهُوَ شَرْحُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَهَا خَافَ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْكُفْرِ، وَيَدْعُوهُ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى تَرْكِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَى إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ: فقال:
[سورة عبس (80) : آية 33]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الصَّخِّ فِي اللُّغَةِ الطَّعْنُ وَالصَّكُّ، يُقَالُ صَخَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ أَيْ شَدَخَهُ وَالْغُرَابُ يَصُخُّ بِمِنْقَارِهِ فِي دُبُرِ الْبَعِيرِ أَيْ يَطْعَنُ، فَمَعْنَى الصَّاخَّةِ الصَّاكَّةِ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا لِلْآذَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: يُقَالُ صَخَّ لِحَدِيثِهِ مِثْلُ أَصَاخَ لَهُ، فَوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بِالصَّاخَّةِ مَجَازًا لِأَنَّ النَّاسَ يَصِخُّونَ لَهَا أَيْ يَسْتَمِعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
[سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 36]
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهَرُهُ وَهُوَ التَّبَاعُدُ وَالِاحْتِرَازُ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْفِرَارِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّبِعَاتِ. يَقُولُ الْأَخُ: مَا وَاسَيْتَنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ يَقُولَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ تَقُولُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ، وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ يَقُولُونَ: مَا عَلَّمْتَنَا وَمَا أَرْشَدْتَنَا، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ هَابِيلُ، وَمِنْ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ صَاحَبَتِهِ نُوحٌ وَلُوطٌ، وَمِنِ ابْنِهِ نُوحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ لَيْسَ هُوَ التَّبَاعُدُ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ مُوَالَاةِ أَخِيهِ لِاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: 166] وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدُّخَانِ: 41] وَأَمَّا تَرْكُ السُّؤَالِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: 10] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ كَانَ الْمَرْءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَفِرُّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَجِيرُ بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ التَّرْتِيبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَلْ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَخَوَيْنِ بَلْ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهِمَا أشد من تعلقه بالأبوين. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْفِرَارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى:
[سورة عبس (80) : آية 37]
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)(31/61)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُغْنِيهِ أَيْ يَصْرِفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ قَرَابَتِهِ وَأَنْشَدَ:
سَيُغْنِيكَ حَرْبُ بَنِي مَالِكٍ ... عَنِ الْفُحْشِ وَالْجَهْلِ فِي الْمَحْفِلِ
أَيْ سَيَشْغَلُكَ، وَيُقَالُ أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ أَيِ اصْرِفْهُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يُغْنِيهِ أَيْ ذَلِكَ الْهَمُّ الَّذِي بِسَبَبِ خَاصَّةِ نَفْسِهِ قَدْ مَلَأَ صَدْرَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فيه متسع لهم آخر، فصارت شَبِيهًا بِالْغَنِيِّ فِي أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْهَوْلِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمُ السُّعَدَاءُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْقِيَاءُ فَوَصَفَ السُّعَدَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
[سورة عبس (80) : الآيات 38 الى 39]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ مُتَهَلِّلَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: مِنْ طُولِ مَا اغْبَرَّتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِسَبَبِ الْخَلَاصِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ وَالرَّحْمَةِ ضَاحِكَةٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِالْفَرَاغِ مِنَ الْحِسَابِ مُسْتَبْشِرَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُسْفِرَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَبِعَاتِهِ/ وَأَمَّا الضَّاحِكَةُ وَالْمُسْتَبْشِرَةُ، فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، أَوْ عَلَى وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
[سورة عبس (80) : الآيات 40 الى 42]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْغَبَرَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْغُبَارِ، وَقَوْلُهُ: تَرْهَقُها أَيْ تُدْرِكُهَا عَنْ قُرْبٍ، كَقَوْلِكَ رَهِقْتُ الْجَبَلَ إِذَا لَحِقْتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَالرَّهَقُ عَجَلَةُ الْهَلَاكِ، وَالْقَتَرَةُ سَوَادٌ كَالدُّخَانِ، وَلَا يُرَى أَوْحَشُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْغَبَرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْوَجْهِ، كَمَا تَرَى وُجُوهَ الزُّنُوجِ إِذَا اغْبَرَّتْ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي وُجُوهِهِمْ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، كَمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ وَالْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قِسْمَانِ: أَهْلُ الثَّوَابِ، وَأَهْلُ الْعِقَابِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهِلَ الْعِقَابِ هُمُ الْكَفَرَةُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْكَفَرَةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُ عِقَابٌ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَاقَبُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعَاقَبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَالْجَوَابُ: أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْفَرِيقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.(31/62)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التكوير
عشرون وتسع آيات مكية
[سورة التكوير (81) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ اثْنَيْ عَشَرَ شَيْئًا، وَقَالَ: إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَهُنَالِكَ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التَّكْوِيرِ: 14] فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَفِي التَّكْوِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: التَّلْفِيفُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدَارَةِ كَتَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ»
أَيْ مِنَ التَّشَتُّتِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ وَالطَّيُّ وَاللَّفُّ، وَالْكَوْرُ وَالتَّكْوِيرُ وَاحِدٌ، وَسُمِّيَتْ كَارَةُ الْقَصَّارِ كَارَةً لِأَنَّهُ يَجْمَعُ ثِيَابَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُلَفُّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَفِيًا عَنِ الْأَعْيُنِ، فَعَبَّرَ عَنْ إِزَالَةِ النُّورِ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ وَتَصْيِيرهَا غَائِبَةً عَنِ الْأَعْيُنِ بِالتَّكْوِيرِ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كُوِّرَتْ أَيْ طُمِسَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: انْكَسَفَتْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مُحِيَ ضَوْؤُهَا وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: كُوِّرَتْ أَيْ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَأَنَّهَا اسْتَتَرَتْ فِي كَارَةٍ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّكْوِيرِ يُقَالُ: كَوَّرْتُ الْحَائِطَ وَدَهْوَرْتُهُ إِذَا طَرَحْتَهُ حَتَّى يَسْقُطَ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ طَعَنَهُ فَكَوَّرَهُ إِذَا صَرَعَهُ، فَقَوْلُهُ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أَيْ أُلْقِيَتْ وَرُمِيَتْ عَنِ الْفَلَكِ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَفْظَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَارِسِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْأَعْمَى كُورٌ، وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ الْجَوَابُ: بَلْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ رَافِعُهَا فِعْلٌ مُضْمَرٌ، يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ لِأَنَّ إِذَا، يُطْلَبُ الْفِعْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي:
رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ جَلَسَ بِالْبَصْرَةِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَحَدَّثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يوم القيامة، فقال الْحَسَنُ، وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ قَالَ: إِنِّي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ» فَسَكَتَ الْحَسَنُ،
وَالْجَوَابُ: أَنَّ سُؤَالَ الْحَسَنِ سَاقِطٌ، لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جَمَادَانِ فَإِلْقَاؤُهُمَا فِي النَّارِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمَضَرَّتِهِمَا، وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِازْدِيَادِ الْحَرِّ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ «1» / الثاني: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 2]
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
أَيْ تَنَاثَرَتْ وَتَسَاقَطَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 2] وَالْأَصْلُ فِي الِانْكِدَارِ الِانْصِبَابُ، قَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ انْكَدَرَ عَلَيْهِمُ الْقَوْمُ إِذَا جَاءُوا أَرْسَالًا فَانْصَبُّوا عَلَيْهِمْ، قال الكلبي: تمطر السماء
__________
(1) لعل الصواب: فيكون هذا الخبر على خلاف العقل. [.....](31/63)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
يَوْمَئِذٍ نُجُومًا فَلَا يَبْقَى نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ عَطَاءٌ: وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ مِنَ النُّورِ، وَتِلْكَ السَّلَاسِلُ فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَسَاقَطَتْ تِلْكَ السَّلَاسِلُ مِنْ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. الثالث: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 3]
وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3)
أَيْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النَّبَإِ: 20] أَوْ فِي الْهَوَاءِ كَقَوْلِهِ: تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: 88] . الرابع: قوله:
[سورة التكوير (81) : آية 4]
وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: المشهور أن الْعِشارُ جميع عُشَرَاءَ كَالنِّفَاسِ فِي جَمْعِ نُفَسَاءَ، وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشْرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ لِتَمَامِ السَّنَّةِ، وَهِيَ أَنْفَسُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعَزُّهَا عَلَيْهِمْ، وعُطِّلَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا لِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ النُّوقِ الْحَوَامِلِ، وَخُوطِبَ الْعَرَبُ بِأَمْرِ الْعِشَارِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهَا وَعَيْشِهَا مِنَ الْإِبِلِ. وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ ذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَبُطْلَانُ الْأَمْلَاكِ، وَاشْتِغَالُ النَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاءِ: 88، 89] وَقَالَ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 94] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِشَارَ كِنَايَةٌ عَنِ السَّحَابِ تَعَطَّلَتْ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ أَشْبَهُ بِسَائِرِ مَا قَبْلَهُ، وَأَيْضًا فَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ السَّحَابَ بِالْحَامِلِ، قَالَ تَعَالَى: فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذَّارِيَاتِ: 2] .
الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة التكوير (81) : آية 5]
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
كُلُّ شَيْءٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ مِمَّا لَا يُسْتَأْنَسُ فَهُوَ وَحْشٌ، وَالْجَمْعُ الوحوش، وحُشِرَتْ جُمِعَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ لِلْقَصَّاصِ، قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُعَوِّضَهَا عَلَى آلَامِهَا الَّتِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا عُوِّضَتْ عَلَى تِلْكَ الْآلَامِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُبْقِيَ بَعْضَهَا فِي الْجَنَّةِ إِذَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفْنِيَهُ أَفْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الْوُحُوشَ كُلَّهَا فَيَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا مُوتِي فَتَمُوتُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ هَاهُنَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ [يَوْمُ الْقِيَامَةِ] يَحْشُرُ كُلَّ الْحَيَوَانَاتِ إِظْهَارًا لِلْعَدْلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَحْشُرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟ الثَّانِي: أَنَّهَا تَجْتَمِعُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَعَ شِدَّةِ نَفْرَتِهَا عَنِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَتَبَدُّدِهَا فِي الصَّحَارِي، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَهَا إِلَى النَّاسِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بَعْضُهَا غِذَاءٌ لِلْبَعْضِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَجْتَمِعُ وَلَا يَتَعَرَّضُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ: لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنَّ حَشْرَ الْوُحُوشِ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِهَا، يُقَالُ- إِذَا أَجْحَفَتِ السَّنَةُ بِالنَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ-(31/64)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
حشرتهم السنة، وقرئ حشرت بالتشديد. السادس: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 6]
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6)
قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنْ سَجَرْتُ التَّنُّورَ إِذَا أَوْقَدْتَهَا، وَالشَّيْءُ إِذَا وُقِدَ فِيهِ نَشَفَ مَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي الْبِحَارِ شَيْءٌ مِنَ الْمِيَاهِ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْجِبَالَ قَدْ سُيِّرَتْ عَلَى مَا قال: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْبِحَارُ وَالْأَرْضُ شَيْئًا وَاحِدًا فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَمَّا نَشَفَتْ مِيَاهُ الْبِحَارِ رَبَتْ فَارْتَفَعَتْ فَاسْتَوَتْ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجِبَالَ لَمَّا انْدَكَّتْ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا وَصَارَتْ كَالتُّرَابِ وَقَعَ ذَلِكَ التُّرَابُ فِي أَسْفَلِ الْجِبَالِ، فَصَارَ وَجْهُ الْأَرْضِ مُسْتَوِيًا مَعَ الْبِحَارِ، وَيَصِيرُ الْكُلُّ بَحْرًا مَسْجُورًا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ سُجِّرَتْ بِمَعْنَى فُجِّرَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ الْبِحَارِ حَاجِزًا عَلَى مَا قَالَ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 19، 20] فَإِذَا رَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ الْحَاجِزَ فَاضَ الْبَعْضُ فِي الْبَعْضِ، وَصَارَتِ الْبِحَارُ بَحْرًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ: وَثَالِثُهَا: سُجِّرَتْ أُوقِدَتْ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ فِي قُعُورِ الْبِحَارِ، فَهِيَ الْآنَ غَيْرُ مَسْجُورَةٍ لِقِيَامِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الدُّنْيَا أَوْصَلَ اللَّهُ تَأْثِيرَ تِلْكَ النِّيرَانِ إِلَى الْبِحَارِ، فَصَارَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مَسْجُورَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْقِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ فِي الْبِحَارِ، فَتَصِيرُ الْبِحَارُ مَسْجُورَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبِحَارِ نِيرَانًا عَظِيمَةً حَتَّى تَتَسَخَّنَ تِلْكَ الْمِيَاهُ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَكَلَّفَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَخْرِيبِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفْعَلَ بِالْبِحَارِ مَا شَاءَ مِنْ تَسْخِينٍ، وَمِنْ قَلْبِ مِيَاهِهَا نِيرَانًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى أن يلقى فيها الشمس والقمر، أو يَكُونَ تَحْتَهَا نَارُ جَهَنَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ السِّتَّ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ تَخْرِيبِ الدُّنْيَا، وَيُمْكِنُ وُقُوعُهَا أَيْضًا بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، أَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بالقيامة. / السابع: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 7]
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قُرِنَتِ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: يَصِيرُونَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَزْوَاجٍ كَمَا قَالَ:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الْوَاقِعَةِ: 7، 10] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مَنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيُضَمُّ الْمُبْرَزُ فِي الطَّاعَاتِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ إِلَى مِثْلِهِ وَأَهْلُ الْمَعْصِيَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَالتَّزْوِيجُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يُضَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَبَقَتِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَرَابِعُهَا: يُضَمُّ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ مَلِكٍ وَسُلْطَانٍ كَمَا قَالَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] قِيلَ فَزِدْنَاهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ وَسَادِسُهَا:
قُرِنَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ الْيَهُودِيُّ بِالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِالنَّصْرَانِيِّ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ خَبَرٌ مَرْفُوعٌ وَسَابِعُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: قُرِنَتِ النُّفُوسُ بِأَعْمَالِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَمْكَنَكَ أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا مَا شئت.(31/65)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
الثامن: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَأَدَ يَئِدُ مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ يَئُودُ أودا ثقل قال تعالى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [الْبَقَرَةِ: 255] أَيْ يُثْقِلُهُ لِأَنَّهُ إِثْقَالٌ بِالتُّرَابِ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ بَقَاءَ حَيَاتِهَا أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ لِتَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ قَامَتُهَا سِتَّةَ أَشْبَارٍ فَيَقُولُ لِأُمِّهَا طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَقَارِبِهَا وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَيَبْلُغُ بِهَا إِلَى الْبِئْرِ فَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا قَرَّبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحُفْرَةِ فَإِذَا ولدت بنت رَمَتْهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَإِذَا وَلَدَتِ ابْنًا أَمْسَكَتْهُ، وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى وَأْدِ الْبَنَاتِ؟ الْجَوَابُ: الْخَوْفُ مِنْ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِهِمْ أَوِ الْخَوْفُ مِنَ الْإِمْلَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: 31] وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ مِمَّنْ مَنَعَ الْوَأْدَ فَافْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ بِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَمَا معنى سؤال الموؤدة عَنْ ذَنْبِهَا الَّذِي قُتِلَتْ بِهِ، وَهَلَّا سُئِلَ الْوَائِدُ عَنْ مُوجِبِ قَتْلِهِ لَهَا؟
الْجَوَابُ: سُؤَالُهَا وَجَوَابُهَا تَبْكِيتٌ لِقَاتِلِهَا، وَهُوَ كَتَبْكِيتِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ/ لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [الْمَائِدَةِ: 116] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ سَأَلَتْ، أَيْ خَاصَمَتْ عَنْ نَفْسِهَا، وَسَأَلَتِ اللَّهَ أَوْ قَاتِلَهَا، وَقُرِئَ قُتِّلَتْ بِالتَّشْدِيدِ، فَإِنْ قِيلَ: اللَّفْظُ الْمُطَابِقُ أَنْ يُقَالَ: سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَمَنْ قَرَأَ سَأَلَتْ فَالْمُطَابِقُ أَنْ يَقْرَأَ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ فَمَا الْوَجْهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِذَا الموؤودة سُئِلَتْ [أَيْ سُئِلَ] الْوَائِدُونَ عَنْ أَحْوَالِهَا بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسْأَلُ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، كَمَا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ زَيْدًا عَنْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَتَقُولُ: مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ في ذلك المعنى؟ ويكون زيد هو المسئول، وهو المسئول عنه، فكذا هاهنا. التاسع: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 10]
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ يُرِيدُ صُحُفَ الْأَعْمَالِ تَطْوِي صَحِيفَةَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ تُنْشَرُ إِذَا حُوسِبَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نُشِرَتْ بَيْنَ أَصْحَابِهَا، أَيْ فُرِّقَتْ بَيْنَهُمْ. الْعَاشِرُ: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 11]
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11)(31/66)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
أَيْ كُشِفَتْ وَأُزِيلَتْ عَمَّا فَوْقَهَا، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَعَرْشُ اللَّهِ، كَمَا يُكْشَطُ الْإِهَابُ عَنِ الذَّبِيحَةِ، وَالْغِطَاءُ عَنِ الشَّيْءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُشِطَتْ، وَاعْتِقَابُ الْقَافِ وَالْكَافِ كَثِيرٌ، يُقَالُ لَبَّكْتُ الثَّرِيدَ وَلَبَّقْتُهُ، وَالْكَافُورُ وَالْقَافُورُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نُزِعَتْ فَطُوِيَتْ.
الحادي عشر: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 12]
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
أُوقِدَتْ إِيقَادًا شَدِيدًا، وَقُرِئَ سُعِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ، قِيلَ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ، وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: النَّارُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ الْآنَ، قَالُوا: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَسْعِيرَهَا مُعَلَّقٌ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. الثاني عشر: قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 13]
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
أَيْ أُدْنِيَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، كقوله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمُورَ الِاثْنَيْ عَشَرَ ذَكَرَ الْجَزَاءَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشُّرُوطِ الَّذِي هو مجموع هذه الأشياء فقال:
[سورة التكوير (81) : آية 14]
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ مَا أَحْضَرَتْهُ فِي صَحَائِفِهَا، وَمَا أَحْضَرَتْهُ عِنْدَ الْمُحَاسَبَةِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَالْمُرَادُ: مَا أَحْضَرَتْ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنْ قِيلَ كُلُّ نَفْسٍ تَعْلَمُ مَا أَحْضَرَتْ، لِقَوْلِهِ/: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آلِ عِمْرَانَ: 30] فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا هُوَ مِنْ عَكْسِ كَلَامِهِمُ الَّذِي يَقْصِدُونَ بِهِ الْإِفْرَاطَ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْحِجْرِ: 2] كَمَنْ يَسْأَلُ فَاضِلًا مَسْأَلَةً ظَاهِرَةً وَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكَ فِيهَا شَيْءٌ؟ فَيَقُولُ: رُبَّمَا حَضَرَ شَيْءٌ وَغَرَضُهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ عِنْدَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَا لَا يَقُولُ بِهِ غَيْرُهُ. فَكَذَا هَاهُنَا الثَّانِي: لَعَلَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَعْتَقِدُونَهَا طَاعَاتٍ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فهو المراد من هذه الآية. قوله تعالى:
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 16]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16)
الكلام في قوله: فَلا أُقْسِمُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: 1] ، وبِالْخُنَّسِ والْجَوارِ الْكُنَّسِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرَةُ أَنَّهَا النُّجُومُ الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ، وَالْخُنُوسُ وَالِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ تَقُولُ: خَنَسَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ وَانْخَنَسَ،
وَفِي الْحَدِيثِ «الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ إِلَى الْعَبْدِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ»
أَيِ انْقَبَضَ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الخناس والْكُنَّسِ جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ يُقَالُ: كَنَسَ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسَ وَهُوَ مَقَرُّ الْوَحْشِ يُقَالُ كَنَسَ الظِّبَاءُ فِي كُنُسِهَا، وَتَكَنَّسَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا دَخَلَتْ هَوْدَجَهَا تَشَبَّهُ بِالظَّبْيِ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي خُنُوسِ النُّجُومِ وَكُنُوسِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَالْقَوْلُ الْأَظْهَرُ: أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى رُجُوعِ الكواكب الخمسة(31/67)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
السَّيَّارَةِ وَاسْتِقَامَتِهَا فَرُجُوعُهَا هُوَ الْخُنُوسُ وَكُنُوسُهَا اخْتِفَاؤُهَا تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ وَفِيهَا أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ بَاهِرَةٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا هِيَ جَمِيعُ الْكَوَاكِبِ وَخُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ غَيْبُوبَتِهَا عَنِ الْبَصَرِ فِي النَّهَارِ وَكُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُورِهَا لِلْبَصَرِ فِي اللَّيْلِ
أَيْ تَظْهَرُ فِي أَمَاكِنِهَا كَالْوَحْشِ فِي كُنُسِهَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ تَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى:
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [الْمَعَارِجِ: 40] وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا مَطْلَعًا وَاحِدًا وَمَغْرِبًا وَاحِدًا هُمَا أَقْرَبُ الْمَطَالِعِ والمغارب إلى سمت رؤوسنا، ثُمَّ إِنَّهَا تَأْخُذُ فِي التَّبَاعُدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ إِلَى سَائِرِ الْمَطَالِعِ طُولَ السَّنَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَخُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَبَاعُدِهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَطْلَعِ، وَكُنُوسُهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَوْدِهَا إِلَيْهِ، فَهَذَا مُحْتَمَلٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالْخَمْسَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِجَمِيعِ الْكَوَاكِبِ وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالسَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الظِّبَاءُ، وَعَلَى هَذَا الْخَنَسُ مِنَ الْخَنَسِ فِي الألف وَهُوَ تَقْعِيرٌ فِي الْأَنْفِ فَإِنَّ الْبَقَرَ وَالظِّبَاءَ أنوفها على هذه الصفة والْكُنَّسِ جَمْعُ كَانِسٍ وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ الْكِنَاسَ وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قال بعد ذلك:
[سورة التكوير (81) : آية 17]
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17)
وَهَذَا بِالنُّجُومِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِبَقَرِ الْوَحْشِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ قَسَمِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ وَأَعْلَى رُتْبَةً كَانَ أَوْلَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَوَاكِبَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ.
الثَّالِثُ: أَنْ (الْخُنَّسِ) جَمْعُ خَانِسٍ مِنَ الْخُنُوسِ، وَأَمَّا جَمْعُ خَنْسَاءَ وَأَخْنَسَ مِنَ الْخَنَسِ خُنْسَ بِالسُّكُونِ وَالتَّخْفِيفِ، وَلَا يُقَالُ: الْخُنَّسُ فِيهِ بِالتَّشْدِيدِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ الْخُنَّسَ فِي الْوَحْشِيَّةِ أَيْضًا مِنَ الْخُنُوسِ وَهُوَ اخْتِفَاؤُهَا فِي الْكِنَاسِ إِذَا غَابَتْ عَنِ الْأَعْيُنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ عَسْعَسَ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ، وَعَسْعَسَ إِذَا أَدْبَرَ، وَأَنْشَدُوا فِي وُرُودِهَا بِمَعْنَى أَدْبَرَ قَوْلَ الْعَجَّاجِ:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي مَعْنَى أَقْبَلَ:
مُدَرَّجَاتُ اللَّيْلِ لما عسعسا
[سورة التكوير (81) : آية 18]
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18)
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هَاهُنَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِذا عَسْعَسَ وَبِإِدْبَارِهِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُرَادُ أَدْبَرَ وَقَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أَيِ امْتَدَّ ضَوْءُهُ وَتَكَامَلَ فقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 17] إِشَارَةٌ إِلَى أَوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ،(31/68)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر: 33، 34] وَقَوْلُهُ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكَامُلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَكْرَارٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أَيْ إِذَا أسفر كقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر: 34] ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ الصُّبْحُ أَقْبَلَ بِإِقْبَالِهِ رَوْحٌ وَنَسِيمٌ، فَجَعَلَ ذَلِكَ نَفَسًا لَهُ عَلَى الْمَجَازِ، وَقِيلَ تَنَفَّسَ الصُّبْحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَ اللَّيْلَ الْمُظْلِمَ بِالْمَكْرُوبِ الْمَحْزُونِ الَّذِي جَلَسَ بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ، وَاجْتَمَعَ الْحُزْنُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا تَنَفَّسَ وَجَدَ راحة. فههنا لَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْحُزْنِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّنَفُّسِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لَطِيفَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أتبعه بذكر المقسم عليه فقال:
[سورة التكوير (81) : آية 19]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ: فَإِنْ قِيلَ: هَاهُنَا إِشْكَالٌ قَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ حَلَفَ أَنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ نَقْطَعْ بِوُجُوبِ حَمْلِ/ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ، فَلَا أَقَلَّ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ جِبْرِيلَ لَا كَلَامَ اللَّهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ جِبْرِيلَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، لِاحْتِمَالِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِضْلَالِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ جِبْرِيلَ مَعْصُومٌ لَا يَفْعَلُ الْإِضْلَالَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِصْمَةِ جِبْرِيلَ، مُسْتَفَادٌ مِنْ صِدْقِ النَّبِيِّ، وَصِدْقَ النَّبِيِّ مُفَرَّعٌ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا، وَكَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا يَتَفَرَّعُ عَلَى عِصْمَةِ جِبْرِيلَ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَهُوَ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا كَانَ مُعْجِزًا لِلصِّرْفَةِ، إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فِرَارًا مِنْ هَذَا السُّؤَالِ، لِأَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ لَيْسَ فِي الْفَصَاحَةِ، بَلْ فِي سَلْبِ تِلْكَ الْعُلُومِ وَالدَّوَاعِي عَنِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَيْسَ بِكَهَانَةٍ وَلَا ظَنٍّ وَلَا افْتِعَالٍ، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِهِ وَحْيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ جِبْرِيلَ هَاهُنَا بِصِفَاتٍ سِتٍّ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ رَسُولٌ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ رَسُولٌ وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ أُمَّتُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَرِيمٌ، وَمِنْ كَرَمِهِ أَنَّهُ يُعْطِي أَفْضَلَ الْعَطَايَا، وهو المعرفة والهداية والإرشاد.
[سورة التكوير (81) : آية 20]
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ذِي قُوَّةٍ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشِّدَّةِ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِجِبْرِيلَ «ذَكَرَ اللَّهُ قُوَّتَكَ، فَمَاذَا بَلَغْتَ؟ قَالَ رَفَعْتُ قُرَيَّاتِ قَوْمِ لُوطٍ الْأَرْبَعَ عَلَى قَوَادِمِ جَنَاحِي حَتَّى إِذَا سَمِعَ أَهْلُ السماء(31/69)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
نُبَاحَ الْكِلَابِ وَأَصْوَاتَ الدَّجَاجِ قَلَبْتُهَا»
وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ أَنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ قَصَدَ أَنْ يَفْتِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهُ جِبْرِيلُ دَفْعَةً رَقِيقَةً وَقَعَ بِهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَقْصَى الْهِنْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَرْكِ الْإِخْلَالِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى الْقُوَّةِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفِي مُطَالَعَةِ جَلَالِ اللَّهِ.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَلَيْسَتْ عِنْدِيَّةُ الْجِهَةِ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ»
بَلْ عِنْدِيَّةُ الْإِكْرَامِ وَالتَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا مَكِينٍ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ قَدْ مَكُنَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ بِضَمِّ الْكَافِ مَكْنًا وَمَكَانَةً، فَعَلَى هَذَا الْمَكِينُ هُوَ ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
[سورة التكوير (81) : آية 21]
مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطاعٍ ثَمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثَمَّ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّرْفِ الْمَذْكُورِ أَعْنِي عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير: 20] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ أَمْرِهِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى رَأْيِهِ، وَقُرِئَ ثُمَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ وَبَيَانًا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ صِفَاتِهِ الْمَعْدُودَةِ.
وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: أَمِينٍ أَيْ هُوَ أَمِينٌ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ، قَدْ عَصَمَهُ الله من الخيانة والزلل.
[سورة التكوير (81) : الآيات 22 الى 24]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ فَضَّلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكَ إِذَا وَازَنْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: 19- 21] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يَعْنِي حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أَيْ: وَمَا مُحَمَّدٌ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ وَالْغَيْبُ هَاهُنَا الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ يُقَالُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا فِي مَعْنَى اتَّهَمْتُهُ، وَلَيْسَ مِنَ الظَّنِّ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمَعْنَى مَا مُحَمَّدٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِمُتَّهَمٍ أَيْ هُوَ ثِقَةٌ فِيمَا يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّادِ فَهُوَ مِنَ الْبُخْلِ يُقَالُ ضَنَنْتُ بِهِ أَضِنُّ أَيْ بَخِلْتُ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِبَخِيلٍ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ:
يَأْتِيهِ غَيْبُ السَّمَاءِ، وَهُوَ شَيْءٌ نَفِيسٌ فَلَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُخْبَرُ بِالْغَيْبِ فَيُبَيِّنُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ كَمَا يَكْتُمُ الْكَاهِنُ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ إِعْلَامِهِ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ حُلْوَانًا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُبَخِّلُوهُ، وَإِنَّمَا اتَّهَمُوهُ فَنَفْيُ التُّهْمَةِ أَوْلَى مِنْ نَفْيِ الْبُخْلِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: عَلَى الْغَيْبِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْبُخْلَ لَقَالَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ ضَنِينٌ بِكَذَا وَقَلَّمَا يُقَالُ عَلَى كَذَا. ثم قال تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 25]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجِيءُ بِهِ شَيْطَانٌ فَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ نَفْيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ؟ قُلْنَا بَيَّنَّا أَنَّ(31/70)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
عَلَى الْقَوْلِ بِالصِّرْفَةِ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى نَفْيِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ نَفْيُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 26]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
وَهَذَا اسْتِضْلَالٌ لَهُمْ يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ اعْتِسَافًا، أَيْنَ تَذْهَبُ؟ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِهِ في تركهم الحق وعدو لهم عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبَيْنُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ وَأَيْنَ تَذْهَبُ، وَتَقُولُ ذَهَبْتُ الشَّامَ وَانْطَلَقْتُ السوق، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظَاهِرٌ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ، فقال:
[سورة التكوير (81) : آية 27]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
أَيْ هُوَ بيان وهداية للخلق أجمعين.
[سورة التكوير (81) : آية 28]
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
ثُمَّ قَالَ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوعَظْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَسْتَقِيمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَشِيئَةَ الِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفَةٌ على مشيئة الله فقال تعالى:
[سورة التكوير (81) : آية 29]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، لِأَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ فَلَا بُدَّ فِي حُدُوثِهَا مِنْ مَشِيئَةٍ أُخْرَى فَيَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِقَامَةِ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مَوْقُوفَةُ الْحُصُولِ عَلَى أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي طَرَفَيْ ثُبُوتِهَا وَانْتِفَائِهَا، مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَشِيئَةِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ ضَعِيفٌ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشِيئَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ شَيْءٌ حَادِثٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَيَتَوَقَّفُ حُدُوثُهَا عَلَى أَنْ يَشَاءَ مُحْدِثُهَا إِيجَادَهَا، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(31/71)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الانفطار
تسع عشرة آية مكية
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، فَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْحَشْرُ وَالنَّشْرُ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَقَامَاتٌ الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَهِيَ هَاهُنَا أَرْبَعَةٌ، اثْنَانِ مِنْهَا تَتَعَلَّقُ بِالْعُلْوِيَّاتِ، وَاثْنَانِ آخَرَانِ تَتَعَلَّقُ بِالسُّفْلِيَّاتِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أَيِ انْشَقَّتْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفُرْقَانِ: 25] ، إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: 1] ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] ، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الْمُزَّمِّلِ: 18] قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ يَأْتِ هَذَا عَلَى الْفِعْلِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِمْ: مُرْضِعٌ وَحَائِضٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَكَانَ مُنْفَطِرَةً كَمَا قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أَمَّا الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لِأَنَّ عِنْدَ انْتِقَاضِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ لَا بُدَّ مِنَ انْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُنْكِرُونَ إِمْكَانَ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ عَلَى الْأَفْلَاكِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى إِمْكَانِ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي كَوْنِهَا أَجْسَامًا، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إِلَى السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَالْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلِيَّاتُ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّهَا أَجْسَامٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْعُلْوِيَّاتِ مَا يَصِحُّ عَلَى السُّفْلِيَّاتِ، لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ حُكْمُهَا وَاحِدٌ فَمَتَى يَصِحُّ حُكْمٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى الْبَاقِي، وَأَمَّا الِاثْنَانِ السُّفْلِيَّانِ: فَأَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وفيه وجوه أحدهما: أَنَّهُ يَنْفُذُ بَعْضُ الْبَحَّارِ فِي الْبَعْضِ بِارْتِفَاعِ الْحَاجِزِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ بَرْزَخًا، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْكُلُّ بَحْرًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ(31/72)
الْحَاجِزُ لِتَزَلْزُلِ الْأَرْضِ وَتَصَدُّعِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ مِيَاهَ الْبِحَارِ الْآنَ رَاكِدَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَإِذَا فُجِّرَتْ تَفَرَّقَتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: فُجِّرَتْ أَيْ يَبَسَتْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ الْبِحَارُ عَنْ صُورَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَصِفَتِهَا، وَهُوَ كَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ تَغَيَّرُ الْأَرْضِ عَنْ صِفَتِهَا فِي قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَتَغَيُّرُ الْجِبَالِ عَنْ صِفَتِهَا فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً [طه: 105، 106] وَرَابِعُهَا: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: فُجِرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: فَجَرَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى بَغَتْ لِزَوَالِ الْبَرْزَخِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ:
لَا يَبْغِيانِ [الرَّحْمَنِ: 20] لِأَنَّ الْبَغْيَ وَالْفُجُورَ أَخَوَانِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فَاعْلَمْ أَنْ بُعْثِرَ وَبُحْثِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمُرَكَّبَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْبَحْثِ مَعَ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ إِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى أُثِيرَتْ وَقُلِبَ أَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا وَبَاطِنُهَا ظَاهِرُهَا، ثُمَّ هَاهُنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُبُورَ تُبَعْثَرُ بِأَنْ يَخْرُجَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزَّلْزَلَةِ: 2] وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُبَعْثَرُ لِإِخْرَاجِ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُخْرِجَ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا مِنْ ذَهَبِهَا وَفِضَّتِهَا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ خُرُوجُ الْمَوْتَى، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْقُبُورِ عَلَى الْأَوَّلِ أَتَمُّ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي فَائِدَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانُ تَخْرِيبِ الْعَالَمِ وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَانْقِطَاعِ التَّكَالِيفِ، وَالسَّمَاءُ كَالسَّقْفِ، وَالْأَرْضُ كَالْبِنَاءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَخْرِيبَ دَارٍ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ أَوَّلًا بِتَخْرِيبِ السَّقْفِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ تَخْرِيبِ السَّمَاءِ انْتِثَارُ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تَخْرِيبِ السَّمَاءِ وَالْكَوَاكِبِ يُخَرِّبُ كُلَّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُخَرِّبُ آخِرَ الْأَمْرِ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ الْبِنَاءُ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَلْبِ الْأَرْضِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَطْنًا لِظَهْرٍ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ، أَيْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا قَدَّمَ، فَلَمْ يُقَصِّرْ فِيهِ وَمَا أَخَّرَ فَقَصَّرَ فِيهِ، لِأَنَّ قوله: ما قَدَّمَتْ يقتضي فعلا وما أَخَّرَتْ يَقْتَضِي تَرْكًا، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي فِعْلًا وَتَرْكًا وَتَقْصِيرًا وَتَوْفِيرًا، فَإِنْ كَانَ قَدَّمَ الْكَبَائِرَ وَأَخَّرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَأَخَّرَ الْكَبَائِرَ فَمَأْوَاهُ الْجَنَّةُ وَثَانِيهَا: مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلٍ أَدْخَلَهُ فِي الْوُجُودِ وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يَسْتَنُّ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَثَالِثُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا قَدَّمَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَمَا أَخَّرَتْ أَيْ مَا ضَيَّعَتْ وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مَا قَدَّمَتْ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي أَوَّلِ عُمُرِهَا وَمَا أَخَّرَتْ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، فَإِنْ قِيلَ: وَفِي أَيِّ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ يَحْصُلُ هَذَا الْعِلْمُ؟ قُلْنَا: أَمَّا/ الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ فَيَحْصُلُ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْحَشْرِ، لِأَنَّ الْمُطِيعَ يَرَى آثَارَ السَّعَادَةِ، وَالْعَاصِيَ يَرَى آثَارَ الشَّقَاوَةِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ وَالْمُحَاسَبَةِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قِيلَ: قِيَامُ الْقِيَامَةِ بَلْ عِنْدَ ظُهُورِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَانْقِطَاعِ التَّكَالِيفِ، وَحِينَ لَا يَنْفَعُ الْعَمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً(31/73)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
[الْأَنْعَامِ: 158] فَيَكُونُ مَا عَمِلَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى تِلْكَ الْغَايَةِ، هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِهِ وَآخِرُهَا، لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ القفال. قوله تعالى:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْ وُقُوعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى إِمْكَانِهِ أَوْ عَلَى وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِلَهَ الْكَرِيمَ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِنْ كَرَمِهِ أَنْ يَقْطَعَ مَوَائِدَ نِعَمِهِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، كَيْفَ يَجُوزُ فِي كَرَمِهِ أَنْ لَا يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْقَادِرَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ ثُمَّ سَوَّاهَا وَعَدَّلَهَا، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ أَوْ لِحِكْمَةٍ، فَإِنْ خَلَقَهَا لَا لِحِكْمَةٍ كَانَ ذَلِكَ عَبَثًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْحَكِيمِ، وَإِنْ خَلَقَهَا لِحِكْمَةٍ، فَتِلْكَ الْحِكْمَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعَبْدِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنِ الِاسْتِكْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ. فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَبْدِ، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي دَارٍ سِوَى الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، لَا دَارَ الِانْتِفَاعِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْكَرِيمِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالتَّسْوِيَةِ وَالتَّعْدِيلِ يُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَبْعَثُ الْأَمْوَاتَ وَيَحْشُرُهُمْ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ بِعَيْنِهِ فِي سُورَةِ التِّينِ حَيْثُ قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إِلَى أَنْ قَالَ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التِّينِ:
4- 7] وَهَذِهِ الْمُحَاجَّةُ تَصْلُحُ مَعَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ، وَتَصْلُحُ أَيْضًا مَعَ مَنْ يَنْفِي الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ مَعًا، لِأَنَّ الْخَلْقَ الْمُعَدَّلَ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَبِوَاسِطَتِهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَإِنْ قِيلَ: بِنَاءُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي سُورَةِ التِّينِ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التِّينِ: 8] فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْحَكِيمِ الْجَوَابُ: أَنَّ الْكَرِيمَ/ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَكِيمًا، لِأَنَّ إِيصَالَ النِّعْمَةِ إِلَى الْغَيْرِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ لَكَانَ ذَلِكَ تَبْذِيرًا لَا كَرَمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَحِينَئِذٍ يُسَمَّى كَرَمًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَوْنُهُ كَرِيمًا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، أَمَّا كَوْنُهُ حَكِيمًا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْحَشْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَكَانَ ذِكْرُ الْكَرِيمِ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْحَكِيمِ، هَذَا هُوَ تَمَامُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ. أَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْكَافِرُ، لِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الإنفطار: 9] وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ الْأَسَدِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ أُسَيْدٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَرَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعُصَاةِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَقْدَحُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فَالْمُرَادُ الَّذِي خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى تَرَكْتَ الْوَاجِبَاتِ وَأَتَيْتَ بِالْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمَعْنَى مَا الَّذِي أَمَّنَكَ مِنْ عِقَابِهِ، يُقَالُ:
غَرَّهُ بِفُلَانٍ إِذَا أَمَّنَهُ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِ مَعَ أنه غير مأمون، وهو كقوله: لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لُقْمَانَ: 33] هَذَا إِذَا حَمَلْنَا قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ عَلَى جَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْكَافِرِ، فَالْمَعْنَى مَا الَّذِي دَعَاكَ(31/74)
إِلَى الْكُفْرِ وَالْجَحْدِ بِالرُّسُلِ، وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهُ كَرِيمًا يَقْتَضِي أَنْ يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِكَرَمِهِ بِدَلِيلِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْجُودَ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ تَعَالَى جَوَادًا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعِيضًا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ اسْتَوَى عِنْدَهُ طَاعَةُ الْمُطِيعِينَ، وَعِصْيَانُ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذَا يُوجِبُ الِاغْتِرَارَ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يُقْدِمَ الْغَنِيُّ عَلَى إِيلَامِ الضَّعِيفِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ دَعَا غُلَامَهُ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالْبَابِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَمْ تُجِبْنِي؟ فَقَالَ: لِثِقَتِي بِحِلْمِكَ، وَأَمْنِي مِنْ عُقُوبَتِكَ، فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهُ، وَأَعْتَقَهُ،
وَقَالُوا أَيْضًا: مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ سُوءُ أَدَبِ غِلْمَانِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كَرَمَهُ يَقْتَضِي الِاغْتِرَارَ بِهِ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ هَاهُنَا مَانِعًا مِنَ الِاغْتِرَارِ بِهِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ تَرَى حِلْمَ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ظَنَنْتَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حِسَابَ وَلَا دَارَ إِلَّا هَذِهِ الدَّارَ، فَمَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى هَذَا الِاغْتِرَارِ، وَجَرَّأَكَ عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ؟ فَإِنَّ رَبَّكَ كَرِيمٌ، فَهُوَ لِكَرَمِهِ لَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ بَسْطًا فِي مُدَّةِ التَّوْبَةِ، وَتَأْخِيرًا لِلْجَزَاءِ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي الدَّارِ الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ لِلْجَزَاءِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ لِأَجْلِ الْكَرَمِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الِاغْتِرَارَ بِأَنَّهُ لَا دَارَ بَعْدَ هَذِهِ الدارو ثانيها: أَنَّ كَرَمَهُ لَمَّا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَاصِي مَوَائِدَ لُطْفِهِ، فَبِأَنْ يَنْتَقِمَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، كَانَ أَوْلَى فَإِذَنْ كَوْنُهُ كِرِيمًا يَقْتَضِي الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَتَرْكَ الْجَرَاءَةِ وَالِاغْتِرَارِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثْرَةَ الْكَرَمِ تُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِحْيَاءَ مِنَ الِاغْتِرَارِ وَالتَّوَانِي وَرَابِعُهَا: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
/ إِنَّمَا قَالَ: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ حَتَّى يَقُولَ غَرَّنِي كَرَمُكَ، وَلَوْلَا كَرَمُكَ لَمَا فَعَلْتُ لِأَنَّكَ رَأَيْتَ فَسَتَرْتَ، وَقَدَرْتَ فَأَمْهَلْتَ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ المراد من قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ لَيْسَ الْكَافِرَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ هَذَا الِاغْتِرَارِ؟ قُلْنَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ غُرُورِ ابْنِ آدَمَ تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ لَهُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْحَسَنُ: غَرَّهُ حُمْقُهُ وَجَهْلُهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُ حِينَ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَقِيلَ: لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ إِذَا أَقَامَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ لَكَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ غَرَّتْنِي سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا أَغَرَّكَ؟ قُلْنَا: هُوَ إِمَّا عَلَى التَّعَجُّبِ وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ مِنْ قَوْلِكَ غَرَّ الرَّجُلُ فَهُوَ غَارٌّ إِذَا غَفَلَ، وَمِنْ قَوْلِكَ بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ، وأغره غيره جعله غارا، [في قوله تعالى الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الْكَرَمِ أَوَّلُهَا: الْخَلْقُ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَرَمُ وَجُودٍ لِأَنَّ الْوُجُودَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، وَالْحَيَاةَ خَيْرٌ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ:
فَسَوَّاكَ أَيْ جَعَلَكَ سَوِيًّا سَالِمَ الْأَعْضَاءِ تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الْكَهْفِ: 37] قَالَ ذُو النُّونِ: سَوَّاكَ أَيْ سَخَّرَ لَكَ الْمُكَوِّنَاتِ أَجْمَعَ، وَمَا جَعَلَكَ مُسَخَّرًا لِشَيْءٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَنْطَقَ لِسَانَكَ بِالذِّكْرِ، وَقَلْبَكَ بِالْعَقْلِ، وَرُوحَكَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَسَرَّكَ بِالْإِيمَانِ، وَشَرَّفَكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَفَضَّلَكَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَعَدَلَكَ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ عَدَلَ خَلْقَكَ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَلَمْ يجعل إحدى(31/75)
الْيَدَيْنِ أَطْوَلَ وَلَا إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوْسَعَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَةِ: 4] وَتَقْرِيرُهُ مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ جَانِبَيْ هَذِهِ الْجُثَّةِ عَلَى التَّسَوِّي حَتَّى إِنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ نِصْفَيْهِ لَا فِي الْعِظَامِ وَلَا فِي أَشْكَالِهَا وَلَا فِي ثُقْبِهَا وَلَا فِي الْأَوْرِدَةِ وَالشَّرَايِينِ وَالْأَعْصَابِ النَّافِذَةِ فِيهَا وَالْخَارِجَةِ مِنْهَا، وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِيهِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَعَلَكَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا حَسَنَ الصُّورَةِ لَا كَالْبَهِيمَةِ الْمُنْحَنِيَةِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: عَدَلَ خَلْقَكَ فَأَخْرَجَكَ فِي أَحْسَنِ التَّقْوِيمِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِدَالِ جَعَلَكَ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفِكْرِ، وَصَيَّرَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَوَاصِلًا بِالْكَمَالِ إِلَى مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ فَعَدَلَكَ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَدَلَ بَعْضَ أَعْضَائِكَ بِبَعْضٍ حَتَّى اعْتَدَلَتْ وَالثَّانِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَعَدَلَكَ أَيْ فَصَرَّفَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّشْدِيدُ أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّكَ تَقُولُ: عَدَّلْتُكَ إِلَى كَذَا/ كَمَا تَقُولُ صَرَّفْتُكَ إِلَى كَذَا، وَلَا يَحْسُنُ عَدَلْتُكَ فِيهِ وَلَا صَرَفْتُكَ فِيهِ، فَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى جُعِلَ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي أَيِّ صُورَةٍ صِلَةً لِلتَّرْكِيبِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ جَعَلَهُ صِلَةً لِقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِرَاضَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ وَالثَّالِثُ: نَقَلَ الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: مَا هَلْ هِيَ مَزِيدَةٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مَزِيدَةً، بَلْ هِيَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ أَنْ يُرَكِّبَكَ فِيهَا رَكَّبَكَ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَمُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ رَكَّبَكَ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ صُورَةِ كَلْبٍ أَوْ صُورَةِ حِمَارٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ قِرْدٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا صِلَةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَالْمَعْنَى فِي أَيِّ صُورَةٍ تَقْتَضِيهَا مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَكِّبُكَ عَلَى مِثْلِهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ شَبَهُ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ أَقَارِبِ الْأَبِ أَوْ أَقَارِبِ الْأُمِّ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَكِّبُكَ عَلَى مِثْلِ صُوَرِ هَؤُلَاءِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ في هذا الْآيَةِ: «إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ» ،
وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْقَادِرِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَشَابِهُ الْأَجْزَاءِ وَتَأْثِيرُ طَبْعِ الْأَبَوَيْنِ فِيهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَالْفَاعِلُ الْمُؤَثِّرُ بِالطَّبِيعَةِ فِي الْقَابِلِ الْمُتَشَابِهِ لَا يَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ وَالصِّفَاتُ دَلَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ عَلَى أَنَّ الْمُدَبِّرَ هُوَ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ، قَالَ الْقَفَّالُ: اخْتِلَافُ الْخَلْقِ وَالْأَلْوَانِ كَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، فَكَمَا أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا مَيَّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَطُولِ الْعُمُرِ وَقِصَرِهِ، بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا يُحِيطُ بِكُنْهِهَا إِلَّا هُوَ، فَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْبَعْضَ مُخَالِفًا لِلْبَعْضِ، فِي الْخَلْقِ وَالْأَلْوَانِ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِسَبَبِ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَتَمَيَّزُ الْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَالْقَرِيبُ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ شَهَادَةً لَا شَكَّ فِيهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنَاظِرِ وَالْهَيْئَاتِ إِلَّا لَمَّا عَلِمَ مِنْ صَلَاحِ عِبَادِهِ فِيهِ وَإِنْ كُنَّا جَاهِلِينَ بِعَيْنِ الصَّلَاحِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْوَاسِطِيُّ: الْمُرَادُ صُورَةُ الْمُطِيعِينَ وَالْعُصَاةِ فَلَيْسَ مَنْ رَكَّبَهُ عَلَى صُورَةِ الْوَلَايَةِ كَمَنْ رَكَّبَهُ عَلَى صُورَةِ الْعَدَاوَةِ، قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى صَفَاءِ الْأَرْوَاحِ وَظُلْمَتِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ:
مِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ لِيَسْتَخْلِصَهُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّرَهُ لِيَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِ مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ لِيَخُصَّهُ بِأَلْطَافِ بِرِّهِ(31/76)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ وَأَظْهَرَ رُوحَهُ مِنْ بَيْنِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَوَّجَهُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ وَزَيَّنَهُ بِرِدَاءِ الْجَلَالِ والهيبة. قوله تعالى:
[سورة الانفطار (82) : آية 9]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ/ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَرَّعَ عَلَيْهَا شَرْحَ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ زَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الِاغْتِرَارِ بقوله: كَلَّا وبَلْ حَرْفٌ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لِنَفْيِ شَيْءٍ قَدْ تَقَدَّمَ وَتَحَقَّقَ غَيْرُهُ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ كَلَّا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَقِيمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ نِعَمِي عَلَيْكُمْ وَإِرْشَادِي لَكُمْ، بَلْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ الثَّانِي: كَلَّا أَيِ ارْتَدِعُوا عَنِ الِاغْتِرَارِ بِكَرَمِ اللَّهِ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّكُمْ لَا تَرْتَدِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أَصْلًا الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ: كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ عَبَثًا وَسُدًى، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّكُمْ لَا تَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْبَيَانِ بَلْ تُكَذِّبُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْإِسْلَامَ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِالْجَزَاءِ عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْحِسَابَ، وَالْمَعْنَى أنكم تكذبون بيوم الحساب. النوع الثاني: قوله تعالى:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 10 الى 12]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
وَالْمَعْنَى التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِمْ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَهُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَلَائِكَةُ اللَّهِ مُوَكَّلُونَ بِكُمْ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى تُحَاسَبُوا بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: 61] ثُمَّ هَاهُنَا مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي حُضُورِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ، إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرَكَّبِينَ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ كَالْهَوَاءِ وَالنَّسِيمِ وَالنَّارِ، أَوْ مِنَ الْأَجْسَامِ الْغَلِيظَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ تَنْتَقِضَ بِنْيَتُهُمْ بِأَدْنَى سَبَبٍ مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ وَإِمْرَارِ الْيَدِ وَالْكُمِّ وَالسَّوْطِ فِي الْهَوَاءِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ نَرَاهُمْ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ وَلَا نَرَاهُمْ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ وَفِيَلَاتٌ وَبُوقَاتٌ، وَنَحْنُ لَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي التَّجَاهُلِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِنْكَارِ صَحَائِفِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ وَقَلَمِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الِاسْتِكْتَابَ إِنْ كَانَ خَالِيًا عَنِ الْفَوَائِدِ فَهُوَ عَبَثٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعَبْدِ وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا اسْتَكْتَبَهَا خَوْفًا مِنَ النِّسْيَانِ الغلط وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِكْتَابِ أَنْ يكونوا شهودا عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ ضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، لَا يَحْتَاجُ فِي حَقِّهِ إِلَى إِثْبَاتِ هذه(31/77)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
الْحُجَّةِ، وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِ/ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكْتُبُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عَلَيْهِ ظُلْمًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ وَلَا مَحْسُوسَةٍ فَتَكُونُ هِيَ مِنْ بَابِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 59] وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مَعْلُومَةً لِلْمَلَائِكَةِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكْتُبُوهَا وَالْآيَةُ تَقْضِي أَنْ يَكُونُوا كَاتِبِينَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا نَفْعَلُهُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَمْ لَا؟
وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَا تَزَالُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِنَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ عِنْدَنَا وَالثَّانِي: أَيْ عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَجِبُ الْإِدْرَاكُ، فَعَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ أَجْرَامًا لَطِيفَةً تَتَمَزَّقُ وَتَتَفَرَّقُ وَلَكِنْ تَبْقَى حَيَاتُهَا مَعَ ذَلِكَ، وَعَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَجْسَامًا كَثِيفَةً لَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَجْرَى أُمُورَهُ مَعَ عِبَادِهِ عَلَى مَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْأَبْلَغُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُحَاسَبَةِ إِخْرَاجَ كِتَابٍ بِشُهُودٍ خُوطِبُوا بِمِثْلِ هَذَا فِيمَا يُحَاسَبُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُخْرَجُ لَهُمْ كُتُبٌ مَنْشُورَةٌ، وَيَحْضُرُ هُنَاكَ مَلَائِكَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ كَمَا يَشْهَدُ عُدُولُ السُّلْطَانِ عَلَى مَنْ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُ أَمْرَهُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَعْطَاكَ الْمَلِكُ كَذَا وَكَذَا، وَفَعَلَ بِكَ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ قَدْ خَلَفْتَهُ وَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَكَذَا هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْجَوَابُ: عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْبَابِ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ وَإِنْ كَانَ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَمْعٌ مِنَ الْحَافِظِينَ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ يَكُونُونَ حَافِظِينَ لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِوَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غير الموكل بالآخرة، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا قِيلَ: اثْنَانِ بِاللَّيْلِ، وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، أَوْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ خَمْسَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ بِصِفَاتٍ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُمْ حَافِظِينَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُمْ كِرَامًا وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُمْ كَاتِبِينَ وَرَابِعُهَا: كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ حَتَّى يُمْكِنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوهَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهَا حَتَّى يَكُونُوا عَالِمِينَ بِهَا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَعَظَّمَ شَأْنَهُمْ، وَفِي تَعْظِيمِهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَلَائِلِ الْأُمُورِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَكَّلَ/ بِضَبْطِ مَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءَ الْأَكَابِرَ، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَنْ يَزْجُرُهُ مِنَ الْمَعَاصِي مُرَاقَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ، كَيْفَ يَرُدُّهُ عَنْهَا كِتَابَةُ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ تَفَارِيعِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ قَوْلُهُ تعالى:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 16]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16)(31/78)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ ذَكَرَ أَحْوَالَ الْعَامِلِينَ فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وَهُوَ النَّارُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَاطِعِينَ بِوَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَاجِرٌ، وَالْفُجَّارُ كُلُّهُمْ فِي الْجَحِيمِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجَحِيمِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَفَادَ الِاسْتِغْرَاقَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَاهُنَا نُكَتٌ زَائِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا: قَالَتِ الْوَعِيدِيَّةُ حَصَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ دَالَّةٌ عَلَى دَوَامِ الْوَعِيدِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَلَا وَقْتَ إِلَّا وَيَدْخُلُ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ يَوْمُ الدُّنْيَا وَيَوْمُ الْآخِرَةِ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ خَصَصْنَا قَوْلَهُ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لَكَانَ بَعْضُ الْفُجَّارِ يَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ صَارُوا إِلَيْهَا لَكَانُوا مِنَ الْأَبْرَارِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ الْفُجَّارُ عَنِ الْأَبْرَارِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِذَنْ يَجِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْفُجَّارُ الْجَنَّةَ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْأَبْرَارُ النَّارَ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [الْمَائِدَةِ: 37] وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْتٌ وَلَا غَيْبَةٌ فَلَيْسَ بَعْدَهُمَا إِلَّا الْخُلُودُ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْفَاجِرِ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ ثَبَتَ بَقَاءُ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ أَبَدًا فِي النَّارِ، وَثَبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْمُطِيعِينَ لَا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَالَةَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ ضَعِيفَةٌ وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ. وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فِي الْمَطْلُوبِ الْقَطْعِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ، بَلْ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْمَعْهُودِ السَّابِقِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ هَاهُنَا عَائِدًا إِلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ يُفِيدُ الْقَطْعَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ فَاجِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عَبَسَ: 42] فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مِنْ جِنْسِ الْفَجَرَةِ أَوِ الْمُرَادُ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وَهُمُ الْفَجَرَةُ وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ فَاجِرٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَتَقْيِيدُ الْكَافِرِ بِالْكَافِرِ/ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْفَجَرَةِ عَبَثٌ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ بَقِيَ الثَّانِي، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْفَجَرَةُ لَا غَيْرُهُمْ، ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِفَاجِرٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُجَّارَ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَجْمُوعَ الْفُجَّارِ لَا يَكُونُونَ غَائِبِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ: فَإِنَّ أَحَدَ نَوْعَيِ الْفُجَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَغِيبُونَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ صِدْقَ قَوْلِنَا إِنِ الْفُجَّارَ بِأَسْرِهِمْ لَا يَغِيبُونَ، يَكْفِي فِيهِ أَنْ لَا يَغِيبَ الْكُفَّارُ، فَلَا حَاجَةَ فِي صِدْقِهِ إِلَى أَنْ لَا يَغِيبَ الْمُسْلِمُونَ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ فِي الْحَالِ فِي الْجَحِيمِ وَذَلِكَ كَذِبٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهُمْ يَحْمِلُونَهُ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْجَحِيمِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَنَحْنُ نَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ لَيْسُوا غَائِبِينَ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْكَوْنِ فِي الْجَحِيمِ، إِلَّا أَنَّ ثُبُوتَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنَافِي الْعَفْوَ، سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ وَعَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ(31/79)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
الْكَبَائِرِ، وَالتَّرْجِيحُ لِهَذَا الْجَانِبِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ الْفُجَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُمْ، وَدَلِيلُنَا يَكْفِي فِي صِحَّتِهِ تَنَاوُلُهُ لِبَعْضِ الْفُجَّارِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَدَلِيلُهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَامًّا، وَدَلِيلُنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِيهِ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ لِلْعُصَاةِ حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَالَ لِأَبِي حَازِمٍ: كَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ غَدًا؟ قَالَ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَكَالْغَائِبِ يَقْدُمُ مِنْ سَفَرِهِ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْمُسِيءُ فَكَالْآبِقِ يَقْدُمُ عَلَى مَوْلَاهُ، قَالَ: فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ! فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: النَّعِيمُ الْمَعْرِفَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ، وَالْجَحِيمُ ظُلُمَاتُ الشَّهَوَاتِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّعِيمُ الْقَنَاعَةُ، وَالْجَحِيمُ الطَّمَعُ، وَقِيلَ: النَّعِيمُ التَّوَكُّلُ، وَالْجَحِيمُ الْحِرْصُ، وَقِيلَ: النَّعِيمُ الِاشْتِغَالُ بِاللَّهِ، والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ تَفَارِيعِ الْحَشْرِ تَعْظِيمُ يَوْمِ القيامة، وهو قوله تعالى:
[سورة الانفطار (82) : الآيات 17 الى 19]
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ عَلَى وَجْهِ الزَّجْرِ لَهُ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ، وَإِنَّمَا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ الْوَحْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّكْرِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: بَلْ هُوَ لِفَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَهْلُ النَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يُعَامَلُ بِهِ الْفُجَّارُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؟ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يُعَامَلُ بِهِ الْأَبْرَارُ فِي يَوْمِ الدِّينِ؟ وَكَرَّرَ يَوْمَ الدِّينِ تَعْظِيمًا لِمَا يَفْعَلُهُ تَعَالَى مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِهَذَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ قِرَاءَتَانِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَوْمِ الدِّينِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارِ هُوَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هُوَ يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
بِإِضْمَارِ يُدَانُونَ لِأَنَّ الدِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: بِإِضْمَارِ اذْكُرُوا وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِلَّا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَمْلِكُ وَمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ قَدْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَوْ جَرٍّ كَمَا قَالَ:
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهُمْ غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذَاتِ أو قال
فَبُنِيَ غَيْرُ عَلَى الْفَتْحِ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى قَوْلِهِ أَنْ نَطَقَتْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، إِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، نَحْوَ قَوْلِكَ عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ، أَمَّا مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرَهُ أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر(31/80)
الْأَمْرِ ظَرْفًا تُرِكَ عَلَى حَالَةِ الْأَكْثَرِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْقُرَّاءِ وَالْعَرَبِ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ [الْأَعْرَافِ: 168] وَلَا يَرْفَعُ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَمِمَّا يُقَوِّي النَّصْبَ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [الْقَارِعَةِ: 3، 4] وقوله: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: 12، 13] فَالنَّصْبُ فِي يَوْمَ لَا تَمْلِكُ مِثْلُ هَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكُوا فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ لِلْعُصَاةِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] وَالْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا كَانُوا يَتَغَلَّبُونَ عَلَى الْمُلْكِ وَيُعِينُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي أُمُورٍ، وَيَحْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بطل ملك بنى الدنيا وزالت رئاستهم، فَلَا يَحْمِي أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا يُغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَتَغَلَّبُ أَحَدٌ عَلَى مُلْكٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَقَوْلُهُ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَةِ: 4] وَهُوَ وَعِيدٌ عَظِيمٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ إِلَّا الْبِرُّ وَالطَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ قَدْ يُغْنِي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَعْوَانٍ وَشُفَعَاءَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُمَلِّكْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدًا شَيْئًا مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ الْوَاسِطِيُّ: فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى فَنَاءِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُنَاكَ تَذْهَبُ الرِّسَالَاتُ وَالْكَلِمَاتُ وَالْغَايَاتُ، فَمَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ كَانَتْ دُنْيَاهُ أُخْرَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَقَاءَ وَالْوُجُودَ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَزَلِ وَفِي الْيَوْمِ وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالتَّفَاوُتُ عَائِدٌ إِلَى أَحْوَالِ النَّاظِرِ، لَا إِلَى أَحْوَالِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَالْكَامِلُونَ لَا تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا
قَالَ: لَوْ كُشِفَ/ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا،
وَكَحَارِثَةَ لَمَّا أُخْبِرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ وَكَأَنِّي وَكَأَنِّي»
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين.(31/81)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المطففين
ثلاثون وست آيات مكية
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَهْدِيدًا عَظِيمًا لِلْعُصَاةِ، فَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَالْمُرَادُ الزَّجْرُ عَنِ التَّطْفِيفِ، وَهُوَ الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَظْهَرُ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْقَلِيلُ إِنْ ظَهَرَ أَيْضًا مُنِعَ مِنْهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّطْفِيفَ هُوَ الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ عَلَى سَبِيلِ الخفية، وهاهنا مسائل:
المسألة الأول: الْوَيْلُ، كَلِمَةٌ تُذْكَرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ، يُقَالُ: وَيْلٌ لَكَ، وَوَيْلٌ عَلَيْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْمُطَفِّفِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ طَفَّ الشَّيْءِ هُوَ جَانِبُهُ وَحَرْفُهُ، يُقَالُ: طَفَّ الْوَادِي وَالْإِنَاءُ، إِذَا بَلَغَ الشَّيْءُ الَّذِي فِيهِ حَرْفَهُ وَلَمْ يَمْتَلِئْ فَهُوَ طِفَافُهُ وَطَفَافُهُ وَطَفَفُهُ، وَيُقَالُ: هَذَا طَفُّ الْمِكْيَالِ وَطَفَافُهُ، إِذَا قَارَبَ مَلْأُهُ لكنه بعد لم يمتلئ، ولهذا قيل: الذي يُسِيءُ الْكَيْلَ وَلَا يُوَفِّيهِ مُطَفِّفٌ، يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا يَبْلُغُ الطِّفَافَ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ مُطَفِّفٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الَّذِي لَا يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الِاكْتِيَالَ الْأَخْذُ بِالْكَيْلِ، كَالِاتِّزَانِ الْأَخْذُ بِالْوَزْنِ، ثُمَّ إِنَّ اللُّغَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ: اكْتَلْتُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: اكْتَلْتُ عَلَى فُلَانٍ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ هَاهُنَا؟
الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَمَّا كَانَ اكْتِيَالُهُمْ مِنَ النَّاسِ اكْتِيَالًا فِيهِ إِضْرَارٌ بِهِمْ وَتَحَامُلٌ عَلَيْهِمْ، أُقِيمَ عَلَى مُقَامٍ مِنَ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ، وَعَلَى وَمِنْ/ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَعْتَقِبَانِ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَإِذَا قَالَ اكتلت منك، فهو كقوله استوفيت(31/82)
السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللُّغَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ كَالُوا لَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، وَلَا يُقَالُ كِلْتُهُ وَوَزَنْتُهُ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ قَوْلِهِ (كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَأُوصِلَ الْفِعْلُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: وَهَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَمَنْ جَاوَرَهُمْ يَقُولُونَ: زِنِي كَذَا، كِلِي كَذَا، وَيَقُولُونَ صِدْتُكَ وَصِدْتُ لَكَ، وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ، فَعَلَى هَذَا الْكِنَايَةُ فِي كَالُوهُمْ وَوَزَنُوهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذَا كَالُوا مَكِيلَهُمْ، أَوْ وَزَنُوا مَوْزُونَهُمْ الثَّالِثُ: يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَحَمْزَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِ الضَّمِيرَيْنِ تَوْكِيدًا لِمَا فِي كَالُوا وَيَقِفَانِ عِنْدَ الْوَاوَيْنِ وُقَيْفَةً يُبَيِّنَانِ بِهَا مَا أَرَادَا، وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى كَالُوهُمْ لَكَانَ فِي الْمُصْحَفِ أَلِفٌ مُثْبَتَةٌ قَبْلَ هُمْ، وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ، فَقَالَ إِنَّ خَطَّ الْمُصْحَفِ لَمْ يُرَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ حَدَّ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الحظ وَالْجَوَابُ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَلِفِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ يَجِبُ إِثْبَاتُهَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، لِمَا أَنَّا نَعْلَمُ مُبَالَغَتَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَلِفِ كَانَ مُعْتَادًا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ يَجِبُ إِثْبَاتُهُ هَاهُنَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا وَلَمْ يَقُلْ إِذَا اتَّزَنُوا، ثُمَّ قَالَ:
وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ فجمع بينهما؟ الجواب: أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ بِهِمَا الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ فَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: اللُّغَةُ الْمُعْتَادَةُ أَنْ يُقَالَ خَسَرْتُهُ، فَمَا الْوَجْهُ فِي أَخْسَرْتُهُ؟ الْجَوَابُ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسَرْتُهُ سَوَاءٌ أَيْ نَقَصْتُهُ، وَعَنِ الْمُؤَرِّجِ يُخْسِرُونَ يَنْقُصُونَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَبْخَسِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَقِيلَ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تُجَّارًا يُطَفِّفُونَ وَكَانَتْ بِيَاعَاتُهُمُ الْمُنَابَذَةَ وَالْمُلَامَسَةَ وَالْمُخَاطَرَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ «خَمْسٌ بِخَمْسٍ» قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟ قَالَ مَا نقص قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا طَفَّفُوا الْكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ» .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَهُمْ بِمَجْمُوعِ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ زَائِدًا، وَيَدْفَعُونَ نَاقِصًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْوَعِيدِ، فَلَا تَتَنَاوَلُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ التَّطْفِيفُ حَدَّ الْكَثِيرِ، وَهُوَ نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ مَا يَصْغُرُ وَيَكْبُرُ دَخَلَ تَحْتَ الْوَعِيدِ، لَكِنْ بِشَرْطِ/ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ تَوْبَةٌ وَلَا طَاعَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُ الْوَعِيدِ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا فِي الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ الْأَوَلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا لَكَانَ ذَلِكَ الْكُفْرُ أَوْلَى بِاقْتِضَاءِ هَذَا الْوَيْلِ مِنَ التَّطَفِيفِ، فَلَمْ يَكُنْ حِينَئْذٍ لِلتَّطْفِيفِ أَثَرٌ فِي هَذَا الْوَيْلِ، لَكِنَّ الْآيَةَ دَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا الْوَيْلِ هُوَ التَّطْفِيفُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِلْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 4، 5] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى هَدَّدَ الْمُطَّفِفِينَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالتَّهْدِيدُ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هذا(31/83)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ لَوَاحِقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَمَنْ يَعْزِمُ عَلَيْهِ إِذِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ عَظَّمَ اللَّهُ أَمْرَهُ فَقَالَ:
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ: 7- 9] وَقَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: 25] وَعَنْ قَتَادَةَ: «أَوْفِ يَا ابْنَ آدَمَ الْكَيْلَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُوَفَّى لَكَ، وَاعْدِلْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعْدَلَ لَكَ» وَعَنِ الْفُضَيْلِ: بَخْسُ الْمِيزَانِ سَوَادُ الْوَجْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: قَدْ سَمِعْتَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَفِّفِينَ! أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُطَفِّفَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ فِي أَخْذِ الْقَلِيلِ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسِكَ وَأَنْتَ تَأْخُذُ الْكَثِيرَ، وَتَأْخُذُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وزن.
[سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَبَخَّ هَؤُلَاءِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ الَّذِينَ يُطَفِّفُونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَفِي الظَّنِّ هَاهُنَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعِلْمُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُوا كَذَلِكَ أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانُوا كَذَلِكَ، وَحِينَ وَرَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ شَائِعًا فِيهِمْ، وَكَانُوا مُصَدِّقِينَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَلَا جَرَمَ ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، لِمَا فِي الْعُقُولِ مِنْ إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَى الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، أَوْ/ إِمْكَانِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى أَلَا يَتَفَكَّرُونَ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لَكِنَّهُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّفَكُّرِ، وَأَرَاحُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَتَاعِبِهِ وَمَشَاقِّهِ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالَ ظَنًّا، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلُومِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ رَاجِعٌ إِلَى الْأَغْلَبِ فِي الرَّأْيِ، وَلَمْ يَكُنْ كَالشَّكِّ الَّذِي يَعْتَدِلُ الْوَجْهَانِ فِيهِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ ذَلِكَ ظَنًّا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظَّنِّ هَاهُنَا هُوَ الظَّنُّ نَفْسُهُ لَا الْعِلْمُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُطَفِّفِينَ هَبْ أَنَّهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالْبَعْثِ وَلَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنَ الظَّنِّ، فَإِنَّ الْأَلْيَقَ بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِعَايَتِهِ مَصَالِحَ خَلْقِهِ أَنْ لَا يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَشْرٌ وَنَشْرٌ، وَأَنَّ هَذَا الظَّنَّ كَافٍ فِي حُصُولِ الْخَوْفِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْطَعُونَ بِهِ أَفَلَا يَظُنُّونَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ يَوْمَ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، أَمَّا النَّصْبُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ مَبْعُوثُونَ وَالْمَعْنَى أَلَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ إِلَّا أَنَّهُ أُضِيفُ إِلَى يَفْعُلَ فَنُصِبَ، وَهَذَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ وَأَمَّا الْجَرُّ فَلِكَوْنِهِ بدلا من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْقِيَامُ لَهُ صِفَاتٌ:(31/84)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
الصِّفَةُ الْأُولَى: سَبَبُهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ لِمُحَاسَبَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَظْهَرُ هُنَاكَ هَذَا التَّطْفِيفُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ حَقِيرٌ، فَيَعْرِفُ هُنَاكَ كَثْرَتَهُ وَاجْتِمَاعَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَرُدُّ الْأَرْوَاحَ إِلَى أَجْسَادِهَا فَتَقُومُ تِلْكَ الْأَجْسَادُ مِنْ مَرَاقِدِهَا، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى: يَقُومُ النَّاسُ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [الْبَقَرَةِ: 238] أَيْ لِعِبَادَتِهِ فَقَوْلُهُ: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ لِمَحْضِ أَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، عَلَى مَا قَرَّرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الِانْفِطَارِ: 19] .
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الْقِيَامِ،
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: «يَقُومُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ»
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بَكَى نَحِيبًا حَتَّى عَجَزَ عَنْ قِرَاءَةِ مَا بَعْدَهُ» .
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كِمِّيَّةُ ذَلِكَ الْقِيَامِ،
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُومُ النَّاسُ مِقْدَارَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ»
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «يَمْكُثُونَ أَرْبَعِينَ عَامًا ثُمَّ يُخَاطَبُونَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ كَقَدْرِ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْوَاعًا من التهديد، فقال أولا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وَهَذِهِ/ الْكَلِمَةُ تُذْكَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، ثُمَّ قَالَ ثَالِثًا: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَعْظِمُهُ اللَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، ثُمَّ قَالَ رَابِعًا: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَفِيهِ نَوْعَانِ مِنَ التَّهْدِيدِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُمْ قَائِمِينَ مَعَ غَايَةِ الْخُشُوعِ وَنِهَايَةِ الذِّلَّةِ وَالِانْكِسَارِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ كَأَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكَ مَعَ غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لِأَجْلِ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ الطَّفِيفِ؟ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجِيبُ، فَيَقُولُ عَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْعَظَمَةِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي الْحِكْمَةِ، فَعَظَمَةُ الْقُدْرَةِ ظَهَرَتْ بِكَوْنِي رَبًّا لِلْعَالَمِينَ، لَكِنَّ عَظَمَةَ الْحِكْمَةِ لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِأَنْ أَنْتَصَفَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَقِيرِ الطَّفِيفِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَحْقَرَ وَأَصْغَرَ كَانَ الْعِلْمُ الْوَاصِلُ إِلَيْهِ أَعْظَمَ وَأَتَمَّ، فَلِأَجْلِ إِظْهَارِ الْعَظَمَةِ فِي الْحِكْمَةِ أَحْضَرْتُ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي مَحْفَلِ الْقِيَامَةِ، وَحَاسَبْتُ الْمُطَفِّفَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الطَّفِيفِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: لَفْظُ الْمُطَفِّفِ يَتَنَاوَلُ التَّطْفِيفَ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ، وَفِي إِظْهَارِ الْعَيْبِ وَإِخْفَائِهِ، وَفِي طَلَبِ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَيُقَالُ: مَنْ لَمْ يَرْضَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ بِمُنْصِفٍ وَالْمُعَاشَرَةُ وَالصُّحْبَةُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالَّذِي يَرَى عَيْبَ النَّاسِ، وَلَا يَرَى عَيْبَ نَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقَّ نَفْسِهِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُعْطِيهِمْ حُقُوقَهُمْ كَمَا يَطْلُبُهُ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْفَتَى مَنْ يَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ وَلَا يطلب من أحد لنفسه حقا.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)(31/85)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ عِظَمَ هَذَا الذَّنْبِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ لَوَاحِقِهِ وَأَحْكَامِهِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: كَلَّا وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْغَفْلَةِ، عَنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَلْيَرْتَدِعُوا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ هَاهُنَا الثَّانِي: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَلَّا ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخيبة وَالْحَقَارَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: السِّجِّينُ اسْمُ عَلَمٍ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ عَنْ مَعْنًى؟ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ،
وَرَوَى الْبَرَاءُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «سِجِّينٌ أَسْفَلُ سَبْعِ أَرَضِينَ»
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ،
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «سِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ»
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَسُمِّيَ سِجِّينًا فِعِّيلًا مِنَ السِّجْنِ، وَهُوَ الْحَبْسُ وَالتَّضْيِيقُ كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ مِنَ الْفِسْقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سِجِّينًا لَيْسَ مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَقَوْمُكَ. وَلَا أَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ، فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ سِجِّينٍ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [الإنفطار: 17] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّجِّينَ فِعِّيلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّجْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ هَاهُنَا اسْمُ علم منقول من صف كَحَاتِمٍ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى أُمُورًا مَعَ عِبَادِهِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ مِنَ التَّعَامُلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُظَمَائِهِمْ. فَالْجَنَّةُ مَوْصُوفَةٌ بِالْعُلُوِّ وَالصَّفَاءِ وَالْفُسْحَةِ وَحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالسِّجِّينُ مَوْصُوفٌ بِالتَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ الْمَلْعُونِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالصَّفَاءَ وَالْفُسْحَةَ وَحُضُورَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزَّةِ، وَأَضْدَادُهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالذِّلَّةِ، فَلَمَّا أُرِيدَ وَصْفُ الْكَفَرَةِ وَكِتَابِهِمْ بِالذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، قِيلَ: إنه في(31/86)
مَوْضِعِ التَّسَفُّلِ وَالظُّلْمَةِ وَالضِّيقِ، وَحُضُورِ الشَّيَاطِينِ، وَلَمَّا وَصَفَ كِتَابَ الْأَبْرَارِ بِالْعِزَّةِ قِيلَ: إِنَّهُ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] . ويَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. [الْمُطَفِّفِينَ: 21] .
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ لَفِي سِجِّينٍ ثُمَّ فَسَّرَ سِجِّينًا بِ كِتابٌ مَرْقُومٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ؟ أَجَابَ الْقَفَّالُ: فَقَالَ قَوْلُهُ: كِتابٌ مَرْقُومٌ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ، بَلِ التَّقْدِيرُ: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَرْقُومٌ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي كَوْنِ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ، إِمَّا بِأَنْ يُوضَعَ كِتَابُ الْفُجَّارِ في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إلى فِي تَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْأَشْقِيَاءِ، أَوْ بِأَنْ يُنْقَلَ مَا فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِالسِّجِّينِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ، الْكِتَابَةَ فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: كِتَابَةُ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ، أَيْ كِتَابَةُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ، ثُمَّ وُصِفَ السِّجِّينُ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كِتابٌ مَرْقُومٌ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَرْقُومٌ أَيْ مَكْتُوبَةٌ أَعْمَالُهُمْ فِيهِ وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: رُقِمَ لَهُمْ بِسُوءٍ أَيْ كُتِبَ لَهُمْ بِإِيجَابِ النَّارِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ مَرْقُومًا، كَمَا يَرْقُمُ التَّاجِرُ ثَوْبَهُ عَلَامَةً لِقِيمَتِهِ، فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْفَاجِرِ جُعِلَ مَرْقُومًا بِرَقْمٍ دَالٍّ عَلَى شَقَاوَتِهِ وَرَابِعُهَا: الْمَرْقُومُ: هَاهُنَا الْمَخْتُومُ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَامَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْمَرْقُومُ مَخْتُومًا وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى كِتَابٌ مُثْبَتٌ عَلَيْهِمْ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ لَا يَنْمَحِي، أَمَّا قَوْلُهُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ أَيْ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 83] وَيْلٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِأَخْبَارِ اللَّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: مَرْقُومٌ مَعْنَاهُ رُقِمَ بِرَقْمٍ يَدُلُّ عَلَى الشَّقَاوَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ صِفَةِ مَنْ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ: وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ فَأَوَّلُهَا: كَوْنُهُ مُعْتَدِيًا، وَالِاعْتِدَاءُ هُوَ التَّجَاوُزُ عَنِ الْمَنْهَجِ الْحَقِّ وَثَانِيهَا: الْأَثِيمُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي. وَأَقُولُ الْإِنْسَانَ لَهُ قُوَّتَانِ قُوَّةٌ نَظَرِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَقُوَّةٌ عَمَلِيَّةٌ وَكَمَالُهَا فِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَضِدُّ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ إِنَّمَا مَنَعَ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعَلُّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ. فَهَذَا الِاعْتِدَاءُ ضِدُّ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، هُوَ الِاشْتِغَالُ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَصَاحِبُهُ هُوَ الْأَثِيمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ قَلَّمَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَرُبَّمَا صَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ فَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ/ الْأَوَّلِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ، وَالْمَعْنَى إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَكَاذِيبُ الْأَوَّلِينَ وَالثَّانِي: أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ وَأَنَّهُ عَنْهُمْ أُخِذَ أَيْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ هَلِ الْمُرَادُ مِنْهَا شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أولا؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ(31/87)
الْمُرَادَ مِنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْوَلِيدُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ ن: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إِلَى قَوْلِهِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ن: 10- 15] فَقِيلَ إِنَّهُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، وَهَذَا هُوَ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ فَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَاضِيَةُ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الرَّيْنِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ الرَّيْنِ وُجُوهٌ، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أُخَرُ، أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَالْخَمْرُ تَرِينُ عَلَى عَقْلِ السَّكْرَانِ، وَالْمَوْتُ يَرِينُ عَلَى الْمَيِّتِ فَيَذْهَبُ بِهِ، قَالَ اللَّيْثُ: رَانَ النُّعَاسُ وَالْخَمْرُ في الرأس إذا رسخ فيه، وهو يريد رَيْنًا، وَرُيُونًا، وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ عُمَرَ فِي أُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ لَمَّا رَكِبَهُ الدِّينُ «أَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ» قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يُقَالُ: رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: الرَّيْنُ أَنْ يَسْوَدَّ الْقَلْبُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّيْنِ، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ مِنَ الطَّبْعِ، وَهُوَ أَنْ يُقْفَلَ عَلَى الْقَلْبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَعْنَى غَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ، يُقَالُ: رَانَ عَلَى قَلْبِهِ الذَّنْبُ يَرِينُ رَيْنًا أَيْ غَشِيَهُ، وَالرَّيْنُ كَالصَّدَأِ يَغْشَى الْقَلْبَ وَمِثْلُهُ الْعَيْنُ، أَمَّا أَهْلُ التَّفْسِيرِ، فَلَهُمْ وُجُوهٌ: قَالَ الْحَسَنُ: وَمُجَاهِدٌ هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى تُحِيطَ الذُّنُوبُ بِالْقَلْبِ، وَتَغْشَاهُ فَيَمُوتُ الْقَلْبُ،
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُحَقَّرَاتُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ عَلَى الذَّنْبِ يُوقِدُ عَلَى صَاحِبِهِ جَحِيمًا ضَخْمَةً»
وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْقَلْبُ كَالْكَفِّ، فَإِذَا أَذْنَبَ الذَّنْبَ انْقَبَضَ، وَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ انْقَبَضَ ثُمَّ يُطْبَعُ عَلَيْهِ وَهُوَ الرَّيْنُ،
وَقَالَ آخَرُونَ: كُلَّمَا أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قُلْتُ: لَا شَكَّ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ فَكُلَّمَا كَانَ إِتْيَانُهُ بِعَمَلِ الْكِتَابَةِ أَكْثَرَ كَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَى عَمَلِ الْكِتَابَةِ أَتَمَّ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرَةٍ، فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ النَّفْسَانِيَّةُ، لَمَّا تَوَلَّدَتْ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْكَثِيرَةِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ النَّفْسَانِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَاظَبَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ، حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَلَا مَعْنَى لِلذَّنْبِ إِلَّا مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ مَا يَشْغَلُكَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ/ ظُلْمَةٌ، فَإِذَنِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا ظُلُمَاتٌ وَسَوَادٌ، وَلُكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ الَّتِي أَوْرَثَ مَجْمُوعُهَا حُصُولَ تِلْكَ الْمَلَكَةِ أَثَرٌ فِي حُصُولِهَا، فَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سَوْدَاءُ حَتَى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرَاتِبُ الْمَلَكَاتِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ مُخْتَلِفَةً، لَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ هَذَا السَّوَادِ وَالظُّلْمَةِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضُهَا يَكُونُ رَيْنًا وَبَعْضُهَا طَبْعًا وَبَعْضُهَا إِقْفَالًا، قَالَ الْقَاضِي لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْنِ أَنَّ قَلْبَهُمْ قَدْ تَغَيَّرَ وَحَصَلَ فِيهِ مَنْعٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ صَارُوا لِإِيقَاعِ الذَّنْبِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُتَجَرِّئِينَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى تَرْكِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الْإِقْلَاعِ، فَاسْتَمَرُّوا وَصَعُبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ عِلَّةَ الرَّيْنِ كَسْبُهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِكْثَارَهُمْ مِنَ اكْتِسَابِ الذُّنُوبِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْلَاعِ وَالتَّوْبَةِ، وَأَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ حَالَ اسْتِوَاءِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ، وَالدَّاعِي إِلَى التَّرْكِ مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا حَالَ الْمَرْجُوحِيَّةِ كَانَ أَوْلَى، وَلَمَّا سَلَّمَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْأَفْعَالِ السَّالِفَةِ رَاجِحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْلَاعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُمْتَنِعًا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ.(31/88)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي كَلَّا وُجُوهًا أَحَدُهَا:
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ عَنْ هَذَا الْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ حَقًّا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَالًا وَوَلَدًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 78] وقال: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ تَرَكَ اللَّهُ ذِكْرَهُ هَاهُنَا وَقَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ: مِنْ أَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ حُسْنَى بَلْ هُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكْرِيرًا وَتَكُونُ كَلَّا هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ قَالُوا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ، وَفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْحِجَابَ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكُفَّارِ، وَمَا يَكُونُ وَعِيدًا وَتَهْدِيدًا لِلْكُفَّارِ لَا يَجُوزُ حُصُولُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الْحِجَابُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ أَيْ مَمْنُوعُونَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرَائِضِ: الْإِخْوَةُ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَلَى الثُّلُثِ، وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ: لِمَنْ يَمْنَعُ عَنِ الدُّخُولِ هُوَ حَاجِبٌ، لِأَنَّهُ «1» يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
لَمَحْجُوبُونَ أَيْ غَيْرُ مُقَرَّبِينَ، وَالْحِجَابُ الرَّدُّ وَهُوَ ضِدُّ الْقَبُولِ، وَالْمَعْنَى هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ غَيْرُ مَقْبُولِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 77] ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الْقَاضِي: الْحِجَابُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: حُجِبَ فُلَانٌ عَنِ الْأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ/ مِنَ الْبُعْدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحِجَابُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَمْنُوعًا عَنْ وُجْدَانِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى وَرَابِعُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : كَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ والجواب: لا شك أن من منع مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَنْ مُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَمِيرِ يُقَالُ: إِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ، وَأَيْضًا يُقَالُ الْأُمُّ حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ بِسَبَبِ الْإِخْوَةِ، وَإِذَا وَجَدْنَا هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَجَبَ جَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مَفْهُومٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَنْعُ. فَفِي الصُّورَةِ الأولى حصل المنع من الرؤية، وفي الثانية حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى قُرْبِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: حَصَلَ الْمَنْعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَمْنُوعُونَ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِمَّا الْعِلْمُ، وَإِمَّا الرُّؤْيَةُ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ لِلْكُفَّارِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ. أَمَّا صَرْفُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَكَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ، وَالْمُؤْمِنِ لَا يُحْجَبُ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ، وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَرَوْهُ، وَعَنِ الشافعي لما حجب قوما
__________
(1) في الأصل: لا أنه، ولعل ما أثبته هو الصواب.(31/89)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
بِالسُّخْطِ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا، أما قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ فَالْمَعْنَى لَمَّا صَارُوا مَحْجُوبِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ إِمَّا عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِنَا، أَوْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ ثُمَّ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ، وُبِّخُوا بِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَقِيلَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا، وَالْآنَ قَدْ عَايَنْتُمُوهُ فَذُوقُوهُ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْفُجَّارِ الْمُطَفِّفِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ لَا يُطَفِّفُونَ، فَقَالَ: كَلَّا أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَهُ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي لَفْظِ عِلِّيِّينَ أَقْوَالًا، وَلِأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَيْضًا أَقْوَالًا، أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ قَالَ/ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ: عِلِّيِّينَ جَمْعُ عِلِّيٍّ وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِعْرَابُ هَذَا الِاسْمِ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ قِنِّسْرُونَ وَرَأَيْتُ قِنِّسْرِينَ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ قَائِمَةُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي ارْتِفَاعًا بَعْدَ ارْتِفَاعٍ لَا غَايَةَ لَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ:
هِيَ مَرَاتِبُ عَالِيَةٌ مَحْفُوظَةٌ بِالْجَلَالَةِ قَدْ عَظَّمَهَا اللَّهُ وَأَعْلَى شَأْنَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: عِنْدَ كِتَابِ أَعْمَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ: وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ تَنْبِيهًا لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ، وَأَنَّهُ سَيَعْرِفُهُ ثُمَّ قَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ كِتَابَهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمَرْقُومِ الَّذِي يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا وَكَّلَهُمْ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَكَذَلِكَ يُوَكِّلُهُمْ بِحِفْظِ كُتُبِ الْأَبْرَارِ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ عَلَى وَجْهِ الْإِعْظَامِ لَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ الْحَفَظَةَ إِذَا صَعَدَتْ بِكُتُبِ الْأَبْرَارِ فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ فَيَحْفَظُونَهَا كَمَا يَحْفَظُونَ كُتُبَ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَنْقُلُونَ مَا فِي تِلْكَ الصَّحَائِفِ إِلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي وُكِّلُوا بِحِفْظِهِ وَيَصِيرُ عِلْمُهُمْ شَهَادَةً لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ، فَلِذَلِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِمَا حَفِظُوهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ فِي السَّمَاءِ صَحَّ قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الْعَالِيَةِ، فَتَتَقَارَبُ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ، وَإِذًا كَانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُلُوَّ وَالْفُسْحَةَ وَالضِّيَاءَ وَالطَّهَارَةَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ، وَالسُّفْلَ وَالضِّيقَ وَالظُّلْمَةَ مِنْ عَلَامَاتِ الشَّقَاوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ كِتَابِ الْفُجَّارِ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَفِي أَضْيَقِ الْمَوَاضِعِ إِذْلَالَ الْفُجَّارِ وَتَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ، كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ كِتَابِ الْأَبْرَارِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِذَلِكَ إِجْلَالَهُمْ وَتَعْظِيمَ شَأْنِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكِتَابِ الْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ كِتَابَةَ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ فِي عِلِّيِّينَ، ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.(31/90)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتابٌ مَرْقُومٌ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمَرْقُومِ كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ فِي عِلِّيِّينَ كُتِبَ فِيهِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مَكْتُوبَةٌ لَهُمْ فِي سَاقِ الْعَرْشِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي لَوْحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ مُعَلَّقٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ بِمَا يُوجِبُ سُرُورَهُمْ، وَذَلِكَ بِالضِّدِّ مِنْ رَقْمِ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة الذي هُمْ فِي عِلِّيِّينَ يَشْهَدُونَ وَيَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، قَالَ: يَشْهَدُ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ المقربون من الملائكة كرامة للمؤمن.
[سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 28]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ كِتَابَهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَظَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ثُمَّ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ النَّعِيمِ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ قَالَ الْقَفَّالُ: الْأَرَائِكُ الْأَسِرَّةُ فِي الْحِجَالِ، وَلَا تُسَمَّى أَرِيكَةً فِيمَا زَعَمُوا إِلَّا إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، وَعَنِ الْحَسَنِ: كُنَّا لَا نَدْرِي مَا الْأَرِيكَةُ حَتَّى لَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْأَرِيكَةَ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يَنْظُرُونَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يَنْظُرُونَ إِلَى أَنْوَاعِ نِعَمِهِمْ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْوِلْدَانِ، وَأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَغَيْرِهَا،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَلْحَظُ الْمُؤْمِنُ فَيُحِيطُ بِكُلِّ مَا آتَاهُ اللَّهُ وَإِنَّ أَدْنَاهُمْ يَتَرَاءَى لَهُ مِثْلُ سَعَةِ الدُّنْيَا»
وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ حِينَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَالثَّالِثُ: إِذَا اشْتَهَوْا شَيْئًا نَظَرُوا إِلَيْهِ فَيَحْضُرُهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْحَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ مِنْ بَابِ أَنْوَاعِ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، وَيَخْطُرُ بِبَالِي تَفْسِيرٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَشْرَفُ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا إِنَّهُ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وَالنَّظَرُ الْمَقْرُونُ بِالنَّضْرَةِ هُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22، 23] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ أَنَّهُ يَجِبُ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ بِسَبَبِ مَا تَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فِي تِلْكَ الْقَرَائِنِ قَوْلَانِ:(31/91)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يُشَاهَدُ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38، 39] .
الثاني: قَالَ عَطَاءٌ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيدُ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ مَا لَا يَصِفُهُ وَاصِفٌ، وَتَفْسِيرُ النَّضْرَةِ: قَدْ سَبَقَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ناضِرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: تُعْرَفُ عَلَى البناء للمفعول ونضرة النَّعِيمِ بِالرَّفْعِ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّحِيقَ مَا هُوَ؟ قَالَ اللَّيْثُ: الرَّحِيقُ الْخَمْرُ. وَأَنْشَدَ لِحَسَّانَ.
بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ: الرَّحِيقُ مِنَ الْخَمْرِ مَا لَا غِشَّ فِيهِ وَلَا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، وَلَعَلَّهُ هُوَ الْخَمْرُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ [الصَّافَّاتِ: 47] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذَا: الرَّحِيقِ صِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَخْتُومٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ هَؤُلَاءِ يُسْقَوْنَ مِنْ شَرَابٍ مَخْتُومٍ قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ بِالصِّيَانَةِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ خَتْمِ مَا يُكْرَمُ وَيُصَانُ، وَهُنَاكَ خَمْرٌ آخَرُ تَجْرِي مِنْهَا أَنْهَارٌ كَمَا قَالَ: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّدٍ: 15] إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَخْتُومَ أَشْرَفُ فِي الْجَارِي الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: الْمَخْتُومُ الَّذِي لَهُ خِتَامٌ أَيْ عَاقِبَةٌ وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَخْتُومٍ أَنَّهُ مَمْزُوجٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِأَنَّ الْخَتْمَ لَا يَكُونُ تَفْسِيرُهُ الْمَزْجَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ لَهُ عَاقِبَةٌ هِيَ رِيحُ الْمِسْكِ فَسَّرَهُ بِالْمَمْزُوجِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْتَزِجْ بِالْمِسْكِ لَمَا حَصَلَ فِيهِ رِيحُ الْمِسْكِ الرَّابِعُ: قَالَ مُجَاهِدٌ مَخْتُومٌ مُطَيَّنٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَأَنَّ مُرَادَهُ مِنَ الْخَتْمِ بِالطِّينِ، هُوَ أَنْ لَا تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَذَا الرَّحِيقِ قَوْلُهُ: خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ رَأَسُ قَارُورَةِ ذَلِكَ الرَّحِيقِ هُوَ الْمِسْكُ، كَالطِّينِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ رؤوس القوارير، فكان ذلك المسك رطب ينطبع ذلك المسك رطب يَنْطَبِعُ فِيهِ الْخَاتَمُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُطَابِقٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْقَفَّالِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَخْتُومٍ، الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خِتامُهُ مِسْكٌ أَيْ عَاقِبَتُهُ الْمِسْكُ أَيْ يُخْتَمُ لَهُ آخِرُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُطَابِقٌ لِلْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَخْتُومٍ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ رَحِيقٍ لَهُ عَاقِبَةٌ، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الْعَاقِبَةَ فَقَالَ: تِلْكَ الْعَاقِبَةُ مِسْكٌ أَيْ مَنْ شَرِبَهُ كَانَ خَتْمُ شُرْبِهِ عَلَى رِيحِ الْمِسْكِ، وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ قَالُوا: إِذَا رَفَعَ الشَّارِبُ فَاهُ مِنْ آخِرِ شَرَابِهِ وَجَدَ رِيحَهُ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَالْمَعْنَى لَذَاذَةُ الْمَقْطَعِ وَذَكَاءُ الرَّائِحَةِ وَأَرَجُهَا، مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ، وَالْخِتَامُ آخِرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: خَتَمْتُ الْقُرْآنَ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا وَيُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ: (خَاتَمُهُ مِسْكٌ) أَيْ آخِرُهُ كَمَا يُقَالُ: خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّ الْخَاتَمَ اسْمٌ وَالْخِتَامَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ كَرِيمُ الطِّبَاعِ وَالطَّابَعِ الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ خَلَطَهُ مِسْكٌ، وَذَكَرُوا أن فيه تطيبا لِطَعْمِهِ. وَقِيلَ: بَلْ لِرِيحِهِ وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَ بِهَذِهِ الْأَفَاوِيهِ الْحَارَّةِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَتَقْوِيَةِ/ الشَّهْوَةِ،(31/92)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إِلَى قُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ وَصِحَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ تَقُولُ الْمَرْأَةُ لَقَدْ أَخَذْتُ خَتْمَ طِينِيٍّ، أَيْ لَقَدْ أَخَذْتُ أَخْلَاطَ طِينِيٍّ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ هُوَ شَرَابٌ أبيض مثل الفضة، يحتمون بِهِ آخِرَ شُرْبِهِمْ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ فِيهِ يَدَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ طِيبَ رِيحِهِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ: نَفَسْتُ عَلَيْهِ الشَّيْءَ أَنْفَسُهُ نَفَاسَةً إِذَا ضَنَنْتَ بِهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ، وَالتَّنَافُسُ تَفَاعُلٌ مِنْهُ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّخْصَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ، وَالْمَعْنَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بالمبادرة إلى طاعة الله.
وأعم أَنَّ مُبَالَغَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّنَافُسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ الدَّائِمِ، لَا فِي النَّعِيمِ الَّذِي هُوَ مُكَدَّرٌ سَرِيعُ الْفَنَاءِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَسْنِيمٌ عَلَمٌ لَعَيْنٍ بِعَيْنِهَا فِي الْجَنَّةِ سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ سَنَّمَهُ إِذَا رَفَعَهُ، إِمَّا لِأَنَّهَا أَرْفَعُ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَأْتِيهِمْ مِنْ فَوْقُ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا تَجْرِي فِي الْهَوَاءِ مُسَنَّمَةً فَتَنْصَبُّ فِي أَوَانِيهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لِأَجْلِ كَثْرَةِ مَلْئِهَا وَسُرْعَتِهِ تَعْلُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَمُرُّ بِهِ وَهُوَ تَسْنِيمُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجَرْيِ يُرَى فِيهِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ، فَهُوَ التَّسْنِيمُ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِلْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، وَمِنْهُ سَنَامُ الْبَعِيرِ وَتَسَنَّمْتُ الْحَائِطَ إِذَا عَلَوْتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: فَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ أن ابن عباس سأل عَنْ تَسْنِيمَ، فَقَالَ هَذَا مِمَّا يَقُولُ اللَّهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْحَسَنُ:
وَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَخْفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ وَهُوَ اسْمٌ مَعْرِفَةٌ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: مِنْ تَسْنِيمٍ مِنْ تَشْرِيفٍ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ تَسْنِيمَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ تَسْنِيمُ، لِأَنَّهُ يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمَ الْمُكَلَّفِينَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْمُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَرَامَةَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنَّهُ يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْفَضِيلَةِ، فَتَسْنِيمُ أَفْضَلُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَالْمُقَرَّبُونَ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالتَّسْنِيمُ فِي الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَلَذَّةُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَالرَّحِيقُ هُوَ الِابْتِهَاجُ بِمُطَالَعَةِ عَالَمِ الْمَوْجُودَاتِ، فَالْمُقَرَّبُونَ لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنَ التَّسْنِيمِ، أَيْ لَا يَشْتَغِلُونَ إِلَّا بِمُطَالَعَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ يَكُونُ شَرَابُهُمْ مَمْزُوجًا، فَتَارَةً يَكُونُ نَظَرُهُمْ إِلَيْهِ وَتَارَةً إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: عَيْنًا نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقَوْلُهُ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ كَقَوْلِهِ: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: 6] وَقَدْ مَرَّ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)(31/93)
[قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى قوله إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ كَرَامَةَ الْأَبْرَارِ فِي الْآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبْحَ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ وَضَحِكِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَنْقَلِبُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أَكَابِرُ الْمُشْرِكِينَ كَأَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ كَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ الثَّانِي: جَاءَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَخِرَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَضَحِكُوا وَتَغَامَزُوا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ فَقَالُوا: رَأَيْنَا الْيَوْمَ الْأَصْلَعَ فَضَحِكُوا مِنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْقَبِيحَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَبِدِينِهِمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أَيْ يَتَفَاعَلُونَ مِنَ الْغَمْزِ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ وَيَكُونُ الْغَمْزُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْعَيْبِ وَغَمَزَهُ إِذَا عَابَهُ، وَمَا فِي فُلَانٍ غَمِيزَةٌ أَيْ مَا يُعَابُ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً وَيَعِيبُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَحْرِمُونَهَا لَذَّاتِهَا وَيُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي طَلَبِ ثَوَابٍ لَا يَتَيَقَّنُونَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِذَا انْقَلَبُوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيَا، أَوْ يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّوءِ، قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ: فَكِهِينَ بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَحْدَهُ، وَفِي/ سَائِرِ الْقُرْآنِ فاكِهِينَ بِالْأَلِفِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ فَاكِهِينَ بِالْأَلِفِ، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: فَاكِهِينَ أَيْ مُتَنَعِّمِينَ مَشْغُولِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّنَعُّمِ بِالدُّنْيَا وَفَكِهِينَ مُعْجَبِينَ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أَيْ هُمْ عَلَى ضَلَالٍ فِي تَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الْحَاضِرَ بِسَبَبِ طَلَبِ ثَوَابٍ لَا يُدْرَى هَلْ لَهُ وُجُودٌ أَمْ لَا، وَهَذَا آخِرُ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ رُقَبَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أَحْوَالَهُمْ وَيَتَفَقَّدُونَ مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ حق أو باطل، فيعبون عَلَيْهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ ضَلَالًا، بَلْ إِنَّمَا أُمِرُوا بإصلاح أنفسهم.(31/94)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ تَصْقَعُ الْأَعْمَالُ وَالْمُحَاسَبَةُ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَفِي سَبَبِ هَذَا الضَّحِكِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَضْحَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ بِسَبَبِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَاعُوا بَاقِيًا بِفَانٍ وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ فَازُوا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَنَالُوا بِالتَّعَبِ الْيَسِيرِ رَاحَةَ الْأَبَدِ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ فَأُجْلِسُوا عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَكَيْفَ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا وَيَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا الثَّانِي: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِيهَا اخْرُجُوا وَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَاكَ هُوَ سَبَبُ الضَّحِكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ يَضْحَكُونَ أَيْ يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ ثُوِّبَ بِمَعْنَى أُثِيبَ أَيِ اللَّهُ الْمُثِيبُ، قَالَ أَوْسٌ:
سَأَجْزِيكِ أَوْ يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحْمَدِي
قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهُوَ فُعِّلَ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ مَا يَثُوبُ أَيْ يَرْجِعُ إِلَى فَاعِلِهِ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَالثَّوَابُ يُسْتَعْمَلُ في المكافأة بالشر، ونشد أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَسَنٍ رَسُولًا ... فَمَا لَكَ لَا تَجِيءُ إِلَى الثَّوَابِ
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ جَازَيْنَا الْكُفَّارَ عَلَى عَمَلِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِ ضَحِكُهُمْ بِكُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِطَرِيقَتِكُمْ، كَمَا جَازَيْنَاكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ؟ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ زَائِدًا فِي سُرُورِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَةً فِي تَعْظِيمِهِمْ وَالِاسْتِخْفَافَ بِأَعْدَائِهِمْ، والمقصود منها أحوال القيامة. والله أعلم.(31/95)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
وَهِيَ عِشْرُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
أَمَّا انْشِقَاقُ السَّمَاءِ فَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ،
وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا تَنْشَقُّ مِنَ الْمَجَرَّةِ،
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَمَعْنَى أَذِنَ لَهُ اسْتَمَعَ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ قَوْلَ قَعْنَبٍ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِشَرٍّ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَقِّهَا وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ فِي قَبُولِ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ كَالْعَبْدِ الطَّائِعِ الَّذِي إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ أَنْصَتَ لَهُ وَأَذْعَنَ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ فَقَوْلُهُ:
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها يَدُلُّ عَلَى نُفُوذِ الْقُدْرَةِ فِي التَّفْرِيقِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِفْنَاءِ مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَحُقَّتْ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ هُوَ مَحْقُوقٌ بِكَذَا، وَحَقِيقٌ بِهِ. يَعْنِي وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تَنْقَادَ وَلَا تَمْتَنِعَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ تَرْجِيحُ وَجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ تَرْجِيحُ عَدَمِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَتَرْجِيحِهِ فَيَكُونُ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِهِ، وَإِعْدَامِهِ، نَافِذًا سَارِيًا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ أَصْلًا، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقَبُولُ وَالِاسْتِعْدَادُ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ حَقِيقٌ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْوُجُودِ تَارَةً، وَلِلْعَدَمِ أُخْرَى مِنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَدَّ الشَّيْءَ فامتد، وهو أن تزال حبالها بالنسف كما قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: 105] يُسَوِّي ظَهْرَهَا، كَمَا قَالَ: قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 106، 107] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُدَّتْ مَدَّ الْأَدِيمِ/ الْكَاظِمِيِّ، لِأَنَّ(31/96)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
الْأَدِيمَ إِذَا مُدَّ زَالَ كُلُّ انْثِنَاءٍ فِيهِ وَاسْتَوَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَدَّهُ بِمَعْنَى أَمَدَّهُ أَيْ يُزَادُ فِي سَعَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِوُقُوفِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا لِلْحِسَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي وَجْهِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِتَمْدِيدِهَا أَوْ بِإِمْدَادِهَا، لِأَنَّ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لَمَّا كَانُوا وَاقِفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي طُولِهَا وَعَرْضِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَلْقَتْ مَا فِيها فَالْمَعْنَى أَنَّهَا لَمَّا مُدَّتْ رَمَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَالْكُنُوزِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزَّلْزَلَةِ: 2] وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الِانْفِطَارِ: 4] وبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [الْعَادِيَاتِ: 9] وَكَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [الْمُرْسَلَاتِ: 25، 26] وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَتَخَلَّتْ فَالْمَعْنَى وَخَلَتْ غَايَةَ الْخُلُوِّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي بَاطِنِهَا شَيْءٌ كَأَنَّهَا تَكَلَّفَتْ أَقْصَى جَهْدِهَا فِي الْخُلُوِّ، كَمَا يُقَالُ: تَكَرَّمَ الْكَرِيمُ، وَتَرَحَّمَ الرَّحِيمُ. إِذَا بَلَغَا جَهْدَهُمَا فِي الْكَرَمِ الرحمة وَتَكَلَّفَا فَوْقَ مَا فِي طَبْعِهِمَا، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا، لَكِنَّ الْأَرْضَ وُصِفَتْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ فِي السَّمَاءِ وَهَذَا فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا اخْتَلَفَ وَجْهُ الْكَلَامِ لَمْ يكن تكرارا.
[سورة الانشقاق (84) : آية 6]
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إلى قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ [الإنشقاق: 1- 6] شَرْطٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَزَاءٍ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حُذِفَ جَوَابُ إِذَا لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فَيَكُونُ أَدْخَلَ فِي التَّهْوِيلِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا تُرِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ قَدْ تَرَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ مَعْنَاهُ فَعُرِفَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: 1] تُرِكَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَوَابُ هُوَ قَوْلُهُ: فَمُلاقِيهِ وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً [الإنشقاق: 6] مُعْتَرِضٌ، وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَرَى عِنْدَ ذَلِكَ مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَالتَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقِيَ الْإِنْسَانُ عَمَلَهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَحْمُولٌ عَلَى التقديم والتأخير فكأنه قيل: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كادحا فَمُلَاقِيهِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ وَخَامِسُهَا: قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ [الإنشقاق: 7] واعترض في الكلام قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ وَالْمَعْنَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وكان كذا وكذا من أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَهُوَ كَذَا وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَهُوَ كَذَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
[الْبَقَرَةِ: 38] ، وَسَادِسُهَا: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّ الْجَوَابَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَرَى مَا عَمِلْتَ فَاكْدَحْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ أيها الإنسان لتفوز بالنعيم/ أَمَّا قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَكَذَا هَاهُنَا. وَكَأَنَّهُ خِطَابٌ خُصَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ التَّخْصِيصِ عَلَى مُخَاطَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ، وَهَاهُنَا فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَكْدَحُ فِي إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَإِرْشَادِ عِبَادِهِ وَتَحَمُّلِ الضَّرَرِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ تَلْقَى اللَّهَ بِهَذَا الْعَمَلِ وَهُوَ غَيْرُ ضَائِعٍ عِنْدَهُ الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَدْحُهُ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى(31/97)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
الْجِنْسِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الإنشقاق: 7] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الِانْشِقَاقِ: 10] كَالنَّوْعَيْنِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ جِنْسًا، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّكَ كادِحٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَدْحَ جُهْدُ النَّاسِ فِي الْعَمَلِ وَالْكَدْحِ فِيهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ وَهُوَ الْمَوْتُ أَيْ هَذَا الْكَدْحُ يَسْتَمِرُّ وَيَبْقَى إِلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَأَقُولُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا عَنِ الْكَدْحِ وَالْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَلَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ الْكَدْحِ وَالْمَشَقَّةِ بِانْتِهَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ بَعْدَ هَذِهِ الدُّنْيَا مَحْضَ السَّعَادَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ، فَإِنَّ نِسْبَةَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا كَنِسْبَةِ الدُّنْيَا إِلَى رَحِمِ الْأُمِّ، فَكَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: يَا أَيُّهَا الْجَنِينُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى أَنْ تَنْفَصِلَ مِنَ الرَّحِمِ، فَكَانَ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنِ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَبْلَهُ خَالِصًا عن الكدح والظلمة فنرجوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِيمَا بعد الموت كذلك وثانيهما: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّقْدِيرُ إِنَّكَ كَادِحٌ فِي دُنْيَاكَ كَدْحًا تَصِيرُ بِهِ إِلَى رَبِّكَ فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ حَرْفِ إِلَى هَاهُنَا وَثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ إِلَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَدْحَ هُوَ السَّعْيُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَاعٍ بِعَمَلِكَ إِلى رَبِّكَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمُلاقِيهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَمُلَاقٍ رَبَّكَ أَيْ مُلَاقٍ حُكْمَهُ لَا مَفَرَّ لَكَ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَدْحِ، إِلَّا أَنَّ الْكَدْحَ عَمَلٌ وَهُوَ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَمُلَاقَاتُهُ مُمْتَنِعَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُلَاقَاةَ الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ بَيَانُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.
أما قوله تعالى:
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 7 الى 9]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
فَالْمَعْنَى فَأَمَّا مَنْ أُعْطِيَ كِتَابَ أَعْمَالِهِ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَسَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اتَّبِعْنِي فَسَوْفَ نَجِدُ خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الشَّكَّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَرْقِيقَ الْكَلَامِ. وَالْحِسَابُ الْيَسِيرُ هُوَ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ، وَيَعْرِفَ أَنَّ الطَّاعَةَ مِنْهَا هَذِهِ، وَالْمَعْصِيَةَ هَذِهِ، ثُمَّ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهَذَا هُوَ الْحِسَابُ الْيَسِيرُ لِأَنَّهُ لَا شِدَّةَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا مُنَاقَشَةَ، وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَلَا يُطَالَبُ بِالْعُذْرِ فِيهِ وَلَا بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ مَتَى طُولِبَ بِذَلِكَ لَمْ يَجِدْ عُذْرًا وَلَا حُجَّةً فَيُفْتَضَحُ، ثُمَّ إِنَّهُ عِنْدَ هَذَا الْحِسَابِ الْيَسِيرِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا فَائِزًا بِالثَّوَابِ آمِنًا مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ مِنْ أَهْلِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَوْ مِنْ زَوْجَاتِهِ وَذُرِّيَّاتِهِ إِذَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعَدَّ لَهُ وَلِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، قُلْتُ وَمَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَأَمَّا مَنْ نُوقِشَ فِي الْحِسَابِ فَقَدْ هَلَكَ»
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فَقَدْ هَلَكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قَالَ: «ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»
وَفِي قَوْلِهِ:(31/98)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
يُحَاسَبُ إِشْكَالٌ لِأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ لِأَحَدٍ قِبَلَ رَبِّهِ مُطَالَبَةٌ فَيُحَاسِبَهُ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي فَعَلْتُ الْمَعْصِيَةَ الْفُلَانِيَّةَ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مُحَاسِبَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْمُطِيعِينَ وَالْعَبْدُ يُكَلِّمُهُ فَكَانَتِ الْمُكَالَمَةُ مُحَاسَبَةً.
أما قوله:
[سورة الانشقاق (84) : آية 10]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10)
فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: السَّبَبُ فِيهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ وَيَدَهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى فَتُجْعَلُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَوْمٌ: يَتَحَوَّلُ وَجْهُهُ فِي قَفَاهُ، فَيَقْرَأُ كِتَابَهُ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُؤْتَى كِتَابُهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَاوَلَ أَخْذَهُ بِيَمِينِهِ كَالْمُؤْمِنِينَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأُوتِيَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ بِشِمَالِهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الْحَاقَّةِ:
25] وَلَمْ يَذْكُرِ الظَّهْرَ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْتَى بِشِمَالِهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُعْطَى بِشِمَالِهِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ وراء ظهره. أما قوله:
[سورة الانشقاق (84) : آية 11]
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11)
فَاعْلَمْ أَنَّ الثُّبُورَ هُوَ الْهَلَاكُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أُوتِيَ كِتَابَهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينِهِ علم أنه من أهل النار فيقول:
وا ثبوراه، قال الفراء: العرب تقول فلان يدعوا لهفه، إذا قال: وا لهفاه، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، فَقَالَ:
الثُّبُورُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُثَابَرَةِ عَلَى شَيْءٍ، وَهِيَ الْمُوَاظَبَةُ عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَا يَزُولُ، كَمَا قَالَ:
إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الْفُرْقَانِ: 65] وَأَصْلُ الْغَرَامِ اللُّزُومُ والولوع.
أما قوله تعالى:
[سورة الانشقاق (84) : آية 12]
وَيَصْلى سَعِيراً (12)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: صَلَى الْكَافِرُ النَّارَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النِّسَاءِ: 10] وَقَالَ:
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [آلِ عِمْرَانَ: 115] وقال: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 1] وَقَالَ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْلِ: 15، 16] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَإِنَّهُ يَدْعُو الثُّبُورَ ثُمَّ يَدْخُلُ النَّارَ، وَهُوَ فِي النَّارِ أَيْضًا يَدْعُو ثُبُورًا، كَمَا قَالَ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] وَأَحَدُهُمَا لَا يَنْفِي الْآخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَبَعْدَ دُخُولِهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِمَّا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَيُصْلَى بِضَمِّ الياء والتخفيف كقوله: نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُطَابِقَةٌ لِلْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّهُ يُصْلَى فَيَصْلَى أَيْ يَدْخُلُ النَّارَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ مُثَقَّلَةً كَقَوْلِهِ: (وَتَصْلِيَةُ جحيم) وَقَوْلِهِ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الْحَاقَّةِ: 31] .(31/99)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
أما قوله تعالى:
[سورة الانشقاق (84) : آية 13]
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13)
فَقَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا أَيْ مُنَعَّمًا مُسْتَرِيحًا مِنَ التَّعَبِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَاحْتِمَالِ مَشَقَّةِ الْفَرَائِضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَعَاصِي آمِنًا مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا يَخَافُ اللَّهَ وَلَا يَرْجُوهُ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ السُّرُورِ الْفَانِي غَمًّا بَاقِيًا لَا يَنْقَطِعُ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مُتَّقِيًا مِنَ الْمَعَاصِي غَيْرَ آمِنٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَمْ يَكُنْ فِي دُنْيَاهُ مَسْرُورًا فِي أَهْلِهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ مَسْرُورًا فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَمِّ الْفَانِي سُرُورًا دَائِمًا لَا يَنْفَذُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً كَقَوْلِهِ: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 31] أَيْ مُتَنَعِّمِينَ فِي الدُّنْيَا مُعْجَبِينَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ يَضْحَكُ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِالْحِسَابِ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» .
أَمَّا قَوْلُهُ:
[سورة الانشقاق (84) : آية 14]
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَوْرَ هُوَ الرُّجُوعُ وَالْمَحَارُ الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا مَعْنَى يحور، حتى سمعت إعرابية تقول لا بنتها حُورِي أَيِ ارْجِعِي، وَنَقَلَ الْقَفَّالُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْحَوْرَ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ كَمَا قَالُوا: «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْآخِرَةِ أَيْ لَنْ يُبْعَثَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ: حَسِبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى خِلَافِ مَا هُوَ عليه في الدنيا من السرور والتنعم.
[سورة الانشقاق (84) : آية 15]
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلى أَيْ لَيُبْعَثُنَّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَدِّلُ سُرُورَهُ بِغَمٍّ لَا يَنْقَطِعُ وَتَنَعُّمَهُ بِبَلَاءٍ لَا يَنْتَهِي وَلَا يَزُولُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَصِيرًا بِهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ:
بَصِيرًا بِمَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مِنَ الشَّقَاءِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَصِيرًا مَتَى بَعَثَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَفَّالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَبَّهُ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيَجْزِيهِ وَالثَّانِي: أَنَّ رَبَّهُ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَعْمَلُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ فَلَا يُعَاقِبَهُ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِ، وَهَذَا زَجْرٌ لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ جَمِيعِ المعاصي.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 20]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)(31/100)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذَا قَسَمٌ، وَأَمَّا حَرْفُ لَا فَقْدَ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 1] وَمِنْ جُمْلَةِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ أَنْ لَا نَفْيَ وَرَدَ لِكَلَامٍ قَبْلَ الْقَسَمِ وَتَوْجِيهُ هَذَا الوجه هاهنا ظاهر، لأنه تعالى حكى هاهنا عَنِ الْمُشْرِكِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ فَقَوْلُهُ لَا رَدٌّ لِذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِبْطَالٌ لِذَلِكَ الظَّنِّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ عَرَفْتَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ يُخَالِفُهَا، وَعَرَفْتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ الشَّفَقِ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ حَيْثُ وَرَدَ الْحَظْرُ بِأَنْ يُقْسِمَ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرْكِيبُ لَفْظِ الشَّفَقِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِرِقَّةِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفَقٌ كَأَنَّهُ لَا تَمَاسُكَ لِرِقَّتِهِ، وَيُقَالُ: لِلرَّدِيءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَفَقٌ، وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ إِذَا رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ وَالشَّفَقَةُ رِقَّةُ الْقَلْبِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْأَثَرِ الْبَاقِي مِنَ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِهَا إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ هُوَ النَّهَارُ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ اللَّيْلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ النَّهَارَ فَالْقَسَمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاقِعٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعَاشٌ وَالثَّانِي سَكَنٌ وَبِهِمَا قِوَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْحُمْرَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ الْبَيَاضُ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، قَالَ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ الْحُمْرَةُ/ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعْلَ الشَّفَقَ وَقْتًا لِلْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحُمْرَةَ لَا الْبَيَاضَ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَمْتَدُّ وَقْتُهُ وَيَطُولُ لُبْثُهُ، وَالْحُمْرَةُ لَمَّا كَانَتْ بَقِيَّةَ ضَوْءِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَعُدَتِ الشَّمْسُ عَنِ الْأُفُقِ ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّفَقِ لَمَّا كَانَ مِنَ الرِّقَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّوْءَ يَأْخُذُ فِي الرِّقَّةِ وَالضَّعْفِ مِنْ عِنْدِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ فَتَكُونُ الْحُمْرَةُ شَفَقًا. أَمَّا قَوْلُهُ:
وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَسَقَ أَيْ جَمَعَ وَمِنْهُ الْوَسْقُ وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يُكَالُ وَيُوزَنُ ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِلْحِمْلِ وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ وَالرَّاعِي يَسُقْهَا أَيْ يَجْمَعُهَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
يُقَالُ وَسَقَهُ فَاتَّسَقَ وَاسْتَوْسَقَ وَنَظِيرُهُ فِي وُقُوعِ افْتَعَلَ وَاسْتَفْعَلَ مُطَاوِعَيْنِ اتَّسَعَ وَاسْتَوْسَعَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَجْمُوعُ أَقَاوِيلِ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما وَسَقَ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجْمَعُهُ اللَّيْلُ مِنَ النُّجُومِ وَرُجُوعِ الْحَيَوَانِ عَنِ الِانْتِشَارِ وَتَحَرُّكِ مَا يَتَحَرَّكُ فِيهِ الْهَوَامُّ، ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إلى الأشياء كلها الاشتمال اللَّيْلِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الْحَاقَّةِ: 38] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَا عُمِلَ فِيهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ تَهَجُّدُ الْعِبَادِ فَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّيْلَ جَمَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِأَنَّ ظُلْمَتَهُ كَأَنَّهَا تُجَلِّلُ الْجِبَالَ وَالْبِحَارَ وَالشَّجَرَ وَالْحَيَوَانَاتِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَسَقَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ كَمَا يقال: وصلته(31/101)
فَاتَّصَلَ، أَيْ جَمَعْتُهُ فَاجْتَمَعَ وَيُقَالُ: أُمُورُ فُلَانٍ مُتَّسِقَةٌ أَيْ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ كَمَا يُقَالُ: مُنْتَظِمَةٌ، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعَانِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا اتَّسَقَ أَيِ اسْتَوَى وَاجْتَمَعَ وَتَكَامَلَ وَتَمَّ وَاسْتَدَارَ وَذَلِكَ لَيْلَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا بِهِ أَقْسَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا عليه أقسم فقال: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: لَتَرْكَبُنَّ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ فِي يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ: وَلَتَرْكَبُنَّ بِالضَّمِّ عَلَى خِطَابِ الجنس لأن النداء في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الإنشقاق: 6] لِلْجِنْسِ وَلَتَرْكَبِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى خِطَابِ النَّفْسِ، وَلَيَرْكَبَنَّ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ أَيْ لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّبَقُ مَا طَابَقَ غَيْرَهُ يُقَالُ: مَا هَذَا يَطْبُقُ كَذَا أَيْ لَا يُطَابِقُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْغِطَاءِ الطَّبَقُ وَطِبَاقُ الثَّرَى مَا يُطَابِقُ مِنْهُ، قِيلَ: لِلْحَالِ الْمُطَابِقَةِ لِغَيْرِهَا طَبَقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأُخْتِهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْهَوْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ طَبَقَةٍ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ عَلَى طَبَقَاتٍ وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ أَحْوَالًا بَعْدَ أَحْوَالٍ هِيَ طَبَقَاتٌ فِي الشِّدَّةِ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَلْنَذْكُرِ الْآنَ وُجُوهَ الْمُفَسِّرِينَ فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الياء وَهُوَ خِطَابُ الْجَمْعِ فَتَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ أُمُورًا وَأَحْوَالًا أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ الْأَمْرُ عَلَى ما يقضي به على الإنسان أول مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ، إِمَّا فِي دَارِ الثَّوَابِ أَوْ فِي دَارِ الْعِقَابِ/ وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ مَنْ يَكُونُ نُطْفَةً إِلَى أَنْ يَصِيرَ شَخْصًا ثُمَّ يَمُوتُ فَيَكُونُ فِي الْبَرْزَخِ، ثُمَّ يُحْشَرُ ثُمَّ يُنْقَلُ، إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى نَارٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ يَلْقَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْوَالًا وَشَدَائِدَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَشِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ كَأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ أَقْسَمَ اللَّهُ أَنَّ الْبَعْثَ كَائِنٌ وَأَنَّ النَّاسَ يَلْقَوْنَ فِيهَا الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ مِنْ حِسَابِهِمْ فَيَصِيرَ كُلُّ أَحَدٍ إلى أعدله مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ وَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التَّغَابُنِ: 7] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [الْقَلَمِ: 42] وَقَوْلِهِ: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [الْمُزَّمِّلِ: 17] ، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ تَنْتَقِلُ أَحْوَالُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَمِنْ وَضِيعٍ فِي الدُّنْيَا يَصِيرُ رَفِيعًا فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ رَفِيعٍ يَتَّضِعُ، وَمِنْ مُتَنَعِّمٍ يَشْقَى، وَمِنْ شَقِيٍّ يَتَنَعَّمُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الْوَاقِعَةِ: 3] وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَكَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُورُ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ فِي الْآخِرَةِ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقِيَامَةِ، وأما القراءة بنصب الياء فَفِيهَا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِشَارَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، كأنه يقول: أقسم يا محمد لنركبن حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يُخْتَمَ لَكَ بِجَمِيلِ الْعَافِيَةِ فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُهُمْ وَتَمَادِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ احْتِمَالٌ آخَرُ يَقْرُبُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَرْكَبُ حَالَ ظَفَرٍ وَغَلَبَةٍ بَعْدَ حَالِ خَوْفٍ وَشِدَّةٍ. وَاحْتِمَالٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُهُ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْصَارًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَجَازُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَبَقَاتُ النَّاسِ، وَقَدْ(31/102)
يَصْلُحُ هَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَعْرِيفِ تَنَقُّلِ الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعد وهم بَعْدَ الشِّدَّةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 186] الْآيَةَ وثانيهما: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِشَارَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِمُشَاهَدَةِ مَلَكُوتِهَا، وَإِجْلَالِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ فِيهَا، وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ يَا محمد السموات طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [الْمُلْكِ: 3] وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَالِثُهَا: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ دَرَجَةً وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السَّمَاءِ وَتَغَيُّرِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْمَعْنَى لَتَرْكَبَنَّ السَّمَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالَةً بَعْدِ حَالَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَوَّلًا تنشق كما قال: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الإنشقاق: 1] ثُمَّ تَنْفَطِرُ كَمَا قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: 1] ثُمَّ تَصِيرُ: وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَنِ: 37] وَتَارَةً:
كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: 8] عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهَا تَنْشَقُّ أَقْسَمَ فِي آخِرِ السُّورَةِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَى أَحْوَالٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَنْ طَبَقٍ أَيْ بَعْدَ طَبَقٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتُ أَقْطَعُ مَنْهَلًا عَنْ مَنْهَلٍ ... حَتَّى أَنَخْتُ بِبَابِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ فَقَدْ صَارَ إِلَى الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فَصَلُحَتْ بَعْدُ وَعَنْ مُعَاقَبَةً، وَأَيْضًا فَلَفْظَةُ عَنْ تُفِيدُ الْبُعْدَ وَالْمُجَاوَزَةَ فَكَانَتْ مُشَابِهَةً لِلَفْظَةِ بَعْدُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكَافِرِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الإنشقاق: 14] ثُمَّ أَفْتَى سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَحُورُ فَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَزَوَالِ الشُّبُهَاتِ، الْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِتَغْيِيرَاتٍ وَاقِعَةٍ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ، فَإِنَّ الشَّفَقَ حَالَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ ضَوْءُ النَّهَارِ، وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ ظُلْمَةٍ بَعْدَ نُورٍ، وَعَلَى تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كَمَالِ القمر بعد أن كان ناقصا، إنه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمُتَغَيِّرَةِ عَلَى تَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، وَهَذَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَا مَحَالَةَ قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ كَالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لَا جَرَمَ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَكِيمُ فِيمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الْإِيمَانِ فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(31/103)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ قَادِرِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَأَنْ يَكُونُوا مُوجِدِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَأَنْ لَا يَكُونَ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِيهِمْ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا الْبَتَّةَ، وَجَوَابُهُ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة الانشقاق (84) : آية 21]
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فَعِنْدَ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا، وَإِذَا عَلِمُوا صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَا جَرَمَ اسْتَبْعَدَ اللَّهُ مِنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ تَرْكَ السُّجُودِ وَالطَّاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ الصَّلَاةُ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْخُضُوعُ وَالِاسْتِكَانَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ عِنْدَ آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قَرَأَ ذَاتَ يَوْمٍ: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] فَسَجَدَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُرَيْشٌ تُصَفِّقُ فوق رؤوسهم وَتُصَفِّرُ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي الوجوب لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ يَسْمَعُهُ فَلَا يَسْجُدُ، وَحُصُولُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سَجْدَةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَجَدَ هَاهُنَا، وَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا سَجَدْتُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا، وَعَنْ أَنَسٍ صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَسَجَدُوا وَعَنِ الْحَسَنِ هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
[سورة الانشقاق (84) : آية 22]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
أما قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يكذبوا فَالْمَعْنَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ جَلِيَّةً ظَاهِرَةً لَكِنَّ الْكُفَّارَ يُكَذِّبُونَ بِهَا إِمَّا لِتَقْلِيدِ الْأَسْلَافِ، وَإِمَّا لِلْحَسَدِ وَإِمَّا لِلْخَوْفِ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لَفَاتَتْهُمْ مَنَاصِبُ الدُّنْيَا ومنافعها. أما قوله تعالى:
[سورة الانشقاق (84) : آية 23]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)
فَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْوِعَاءِ، فَيُقَالُ: أَوْعَيْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْتُهُ فِي وعاء كما قال: وَجَمَعَ فَأَوْعى [المعارج: 18] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَجْمَعُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخرة. ثم قال تعالى:
[سورة الانشقاق (84) : آية 24]
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
اسْتَحَقُّوهُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. أما قوله:(31/104)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
[سورة الانشقاق (84) : آية 25]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
فَفِيهِ قَوْلَانِ قَالَ: صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ: الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَالِ كُفَّارًا إِلَّا أَنَّهُمْ مَتَى تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَهُوَ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ.
وَفِي مَعْنَى: غَيْرُ مَمْنُونٍ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى وَثَانِيهَا: مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ وَثَالِثُهَا: مِنْ غَيْرِ تَنْغِيصٍ وَرَابِعُهَا: مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى الْكُلِّ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّوَابِ حُصُولَ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِأَجْرٍ خَالِصٍ مِنَ الشَّوَائِبِ دَائِمٍ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ وَلَا بَخْسَ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْوَعْدِ فَصَارَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ، كَمَا أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ زَجْرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(31/105)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البروج
عشرون وآيتان مكية اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ وَكَيْفِيَّةُ تِلْكَ التَّسْلِيَةِ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ كَانُوا كَذَلِكَ مِثْلَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَمِثْلَ فِرْعَوْنَ وَمِثْلَ ثَمُودَ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ الْكُفَّارِ كَانُوا فِي التَّكْذِيبِ، ثُمَّ عَقَّبَ هَذَا الْوَجْهَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [الْبُرُوجِ: 20] ذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [لبروج: 21] فهذا ترتيب السورة.
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْبُرُوجِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا هِيَ الْبُرُوجُ الِاثْنَا عَشَرَ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ عَجِيبِ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ فِيهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مُرْتَبِطَةٌ بِسَيْرِ الشَّمْسِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا حَكِيمًا، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَهَذِهِ الْيَمِينُ وَاقِعَةٌ عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْبُرُوجَ فِيهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَتَحْقِيقُهُ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات:
6] ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ مَنَازِلُ الْقَمَرِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِهَا لِمَا فِي سَيْرِ الْقَمَرِ وَحَرَكَتِهِ مِنَ الْآثَارِ الْعَجِيبَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ عِظَامُ الْكَوَاكِبِ سُمِّيَتْ بُرُوجًا لِظُهُورِهَا. وَأَمَّا
الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ فَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ الْقَفَّالُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لِانْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَفَنَائِهَا وَبُطْلَانِ بُرُوجِهَا. وَأَمَّا الشاهد والمشهود، فقد اضطرب أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، وَالْقَفَّالُ أَحْسَنُ النَّاسِ كَلَامًا فِيهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّاهِدَ يَقَعُ عَلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الشَّاهِدُ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الدَّعَاوَى وَالْحُقُوقُ وَالثَّانِي: الشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَاضِرِ، كَقَوْلِهِ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الْأَنْعَامِ: 73] وَيُقَالُ: فُلَانٌ شَاهِدٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَوْلَى، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ لَمَا خَلَا لَفْظُ الْمَشْهُودِ عَنْ حَرْفِ الصِّلَةِ، فَيُقَالُ: مَشْهُودٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ/ مَعْنَاهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَحُذِفَتِ الصِّلَةُ، كَمَا في قوله: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاءِ: 34] أَيْ مَسْئُولًا عَنْهُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا(31/106)
الشُّهُودَ عَلَى الْحُضُورِ احْتَمَلَتِ الْآيَةُ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَشْهُودَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدَ هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا حُضُورَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُضُورِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُ فِيهِ خَلْقَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى الْمُسَمَّى الْأَكْمَلِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّاهِدِ مَنْ يَحْضُرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَلَائِقِ، وَبِالْمَشْهُودِ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْعَجَائِبِ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا فِي قَوْلِهِ:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مَرْيَمَ: 37] وَقَالَ: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هُودٍ: 103] وَقَالَ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 52] وَقَالَ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 53] وَطَرِيقُ تَنْكِيرِهِمَا إِمَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التَّكْوِيرِ: 14] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَفْرَطَتْ كَثْرَتُهُ مِنْ شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، وَإِمَّا الْإِبْهَامُ فِي الْوَصْفِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَشَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ لَا يُكْتَنَهُ وَصْفُهُمَا، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْقَسَمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ إِذْ كَانَ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ وَالْجَزَاءِ وَيَوْمُ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِالْمُلْكِ وَالْحُكْمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَثَانِيهَا: أَنْ يُفَسَّرَ الْمَشْهُودُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ يَشْهَدُهُ الْمُسْلِمُونَ لِلصَّلَاةِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْيَوْمِ مُسَمًّى بِالْمَشْهُودِ خَبَرَانِ الْأَوَّلُ: مَا
رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ»
وَالثَّانِي: مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ فَيَكْتُبُونَ النَّاسَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ»
وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مشهودا لهذا المعنى، قال الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78]
وَرُوِيَ: «أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَحْضُرُونَ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ مَشْهُودَةً لِشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ»
فَكَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُفَسَّرَ الْمَشْهُودُ بِيَوْمِ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْحَاجِّ وَحَسُنَ الْقَسَمُ بِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحَجِّ
رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ: «انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا أَتَوْنِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ وَأَنَّ إِبْلِيسَ يَصْرُخُ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ لِمَا يَرَى مِنْ ذَلِكَ»
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ مَشْهُودٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الْحَجِّ: 27، 28] ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ يَوْمَ النَّحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَشَاهِدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمِنًى وَالْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْقَسَمِ بِهِ تَعْظِيمَ أَمْرِ الْحَجِّ وَخَامِسُهَا: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى يَوْمِ/ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا أَيَّامٌ عِظَامٌ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا كَمَا أَقْسَمَ بِاللَّيَالِي الْعَشْرِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ لِكُلِّ يَوْمٍ عَظِيمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَلِكُلِّ مَقَامٍ جَلِيلٍ مِنْ مَقَامَاتِهَا وَلِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَوْمٌ عَظِيمٌ كَمَا قَالَ: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 5، 6] وَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مَرْيَمَ: 37] وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ خُرُوجُ اللَّفْظِ فِي الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ عَلَى النَّكِرَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْقَصْدَ لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِلَى يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَيَكُونَ مُعَرَّفًا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الشَّاهِدُ عَلَى مَنْ تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِقَوْلِهِ، فَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقَوْلِهِ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ(31/107)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
[الْأَنْعَامِ: 19] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فُصِّلَتْ: 53] وَالْمَشْهُودُ هُوَ التَّوْحِيدُ، لِقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] والنبوة: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الفتح: 8] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْأُمَمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ جَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ ذَكَرْتُهُ أَنَا وَأَخَذْتُهُ مِنْ قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْقَسَمُ وَاقِعًا بِالْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، وَالصُّنْعِ وَالصَّانِعِ وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمَلَكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمُ الْمُكَلَّفُونَ وَسَادِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمَلَكُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: 24] وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فُصِّلَتْ: 21] وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ لَا عَلَى الِاشْتِقَاقِ فَأَحَدُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ،
رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخِيرَةُ اللَّهِ لَنَا»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: «الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَفْضَلِ مِنْهُ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ»
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ»
وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ، يَوْمَانِ عَظَّمَهُمَا اللَّهُ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، كَمَا يُحَدِّثُ أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ النَّحْرِ/ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ عَظَّمَهُمَا اللَّهُ وَجَعَلَهُمَا مِنْ أَيَّامِ أَرْكَانِ أَيَّامِ الْحَجِّ، فَهَذَانِ الْيَوْمَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ يَحْضُرُ فِيهِمَا بِالْإِيمَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّحْمَةِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَبَحَ كَبْشَيْنِ، وَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا: «هَذَا عَمَّنْ يَشْهَدُ لِي بِالْبَلَاغِ»
فَيَحْتَمِلُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ يَوْمُ النَّحْرِ شَاهِدًا لِمَنْ حَضَرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِهَذَا الْخَبَرِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ عِيسَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [الْمَائِدَةِ: 117] ، وَرَابِعُهَا: الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَالْمَشْهُودَ هُوَ التَّوْحِيدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] وَسَادِسُهَا: أَنَّ الشَّاهِدَ الْإِنْسَانُ وَالْمَشْهُودَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَّا كَوْنُ الْإِنْسَانِ شَاهِدًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا بَلى شَهِدْنا [الْأَعْرَافِ: 172] وَأَمَّا كَوْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَشْهُودًا فَلِقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 172] فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الْمُلَخَّصَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ.
[سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 7]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)(31/108)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقَسَمِ مِنْ جَوَابٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وَاللَّامُ مُضْمَرَةٌ فِيهِ، كَمَا قَالَ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْسِ: 1] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشَّمْسِ: 9] يُرِيدُ. لَقَدْ أَفْلَحَ، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ عَلَى التَّقْدِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ جواب القسم قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] الْآيَةَ كَمَا تَقُولُ:
وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، إِلَّا أَنَّهُ اعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ، قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 4- 10] وَرَابِعُهَا: مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالُوا: ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقٌّ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ كَمَا لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ وَرَدَتْ فِي تَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَصْبِيرِهِمْ عَلَى أَذَى أَهْلِ مَكَّةَ وَتَذْكِيرِهِمْ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ تَقَدَّمُهُمْ مِنَ التَّعْذِيبِ عَلَى الْإِيمَانِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِمْ وَيَصْبِرُوا عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ كَفَّارَ مَكَّةَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ يَحْرِقُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالنَّارِ، وَأَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ فِيهِمْ: قُتِلَتْ قُرَيْشٌ كَمَا: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ عَلَى طُرُقٍ مُتَبَايِنَةٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ ضُمَّ إِلَيْهِ غُلَامٌ لِيُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، وَكَانَ فِي طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ، فَمَالَ قَلْبُ الْغُلَامِ إِلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ ثُمَّ رَأَى الْغُلَامُ فِي طَرِيقِهِ ذَاتَ يَوْمٍ حَيَّةً قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَأَخَذَ حَجَرًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ الرَّاهِبُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ السَّاحِرِ فَقَوِّنِي عَلَى قَتْلِهَا بِوَاسِطَةِ رَمْيِ الْحَجَرِ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَهَا، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِعْرَاضِ الْغُلَامِ عَنِ السِّحْرِ وَاشْتِغَالِهِ بِطَرِيقَةِ الرَّاهِبِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَيْثُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَشْفِي مِنَ الْأَدْوَاءِ، فَاتَّفَقَ أَنْ عَمِيَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَأَبْرَأَهُ فَلَمَّا رَآهُ الْمَلِكُ قَالَ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ نَظَرَكَ؟
فَقَالَ رَبِّي فَغَضِبَ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلَى الْغُلَامِ فَعَذَّبَهُ فَدَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَأَحْضَرَ الرَّاهِبَ وَزَجَرَهُ عَنْ دِينِهِ فَلَمْ يَقْبَلِ الرَّاهِبُ قَوْلَهُ فَقُدَّ بِالْمِنْشَارِ، ثُمَّ أَتَوْا بِالْغُلَامِ إِلَى جَبَلٍ لِيُطْرَحَ مِنْ ذُرْوَتِهِ فَدَعَا اللَّهَ، فَرَجَفَ بِالْقَوْمِ فَهَلَكُوا وَنَجَا، فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى سَفِينَةٍ لَجَّجُوا بِهَا لِيُغْرِقُوهُ، فَدَعَا اللَّهَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَنَجَا، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَجْمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَتَصْلُبَنِي عَلَى جِذْعٍ وَتَأْخُذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، وَتَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ ثُمَّ تَرْمِينِي بِهِ، فَرَمَاهُ فَوَقَعَ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: نَزَلَ بِكَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأو قدت فِيهَا النِّيرَانُ، فَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ طَرَحَهُ فِيهَا، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَصَبَرَتْ عَلَى ذَلِكَ.
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ حِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الْمَجُوسِ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ(31/109)
وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِكِتَابِهِمْ وَكَانَتِ الْخَمْرُ قَدْ أُحِلِّتْ لَهُمْ فَتَنَاوَلَهَا بَعْضُ مُلُوكِهَا فَسَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ فَلَمَّا صَحَا نَدِمَ وَطَلَبَ الْمَخْرَجَ فَقَالَتْ لَهُ: الْمَخْرَجُ أَنْ تَخْطُبَ النَّاسَ فَتَقُولُ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ تَخْطُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَهُ، فَخَطَبَ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ ذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ: ابْسُطْ فِيهِمُ السَّوْطَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَقَالَتِ:
ابْسُطْ فِيهِمُ السَّيْفَ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَأَمَرَتْهُ بِالْأَخَادِيدِ وَإِيقَادِ النِّيرَانِ وَطَرْحِ مَنْ أَتَى فِيهَا الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ.
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ وَقَعَ إِلَى نَجْرَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى فَدَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ فَصَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ الْيَهُودِيُّ بِجُنُودٍ مِنْ حِمْيَرَ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ النَّارِ وَالْيَهُودِيَّةِ فَأَبَوْا، فَأَحْرَقَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فِي الْأَخَادِيدِ، وَقِيلَ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَذُكِرَ أَنَّ طُولَ الْأُخْدُودِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ تَعَوَّذَ بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ»
فَإِنْ قِيلَ: تَعَارُضُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا، قُلْنَا: لَا تَعَارُضَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ فِي ثَلَاثِ طَوَائِفَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَرَّةً بِالْيَمَنِ، وَمَرَّةً بِالْعِرَاقِ، وَمَرَّةً بِالشَّامِ، وَلَفْظُ الْأُخْدُودِ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ وَهُوَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: ذَكَرُوا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ رِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةً وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَالَفُوا قَوْمَهُمْ أَوْ مَلِكًا كَافِرًا/ كَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ فَأَلْقَاهُمْ فِي أُخْدُودٍ وَحَفَرَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ قُرَيْشٍ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَصْحَابِ رَسُولِهِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى دِينِهِمْ وَاحْتِمَالِ الْمَكَارِهِ فِيهِ فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَسَبِ مَا اشْتَهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِنْ مُبَالَغَتِهِمْ فِي إِيذَاءِ عَمَّارٍ وَبِلَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأُخْدُودُ: الشَّقُّ فِي الْأَرْضِ يُحْفَرُ مُسْتَطِيلًا وَجَمْعُهُ الْأَخَادِيدُ وَمَصْدَرُهُ الْخَدُّ وَهُوَ الشَّقُّ يُقَالُ: خَدَّ فِي الْأَرْضِ خَدًّا وَتَخَدَّدَ لَحْمُهُ إِذَا صَارَ طَرَائِقَ كَالشُّقُوقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْقَاتِلِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمَقْتُولِينَ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ أَنَّ الْمَقْتُولِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْتُولِينَ هُمُ الْجَبَابِرَةُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ عَادَتِ النَّارُ عَلَى الْكَفَرَةِ فَأَحْرَقَتْهُمْ وَنَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا سَالِمِينَ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] أَيْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا. إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً وَذَلِكَ لِأَنَّا إِمَّا أَنْ نُفَسِّرَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ بِالْقَاتِلِينَ أَوْ بِالْمَقْتُولِينَ. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيْ لُعِنَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عَبَسَ: 17] قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذَّارِيَاتِ: 10] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ قُتِلُوا بِالنَّارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَبَابِرَةَ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّارِ عَادَتِ النَّارُ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَتْهُمْ، وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَا، أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ بِالْمَقْتُولِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلُوا بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَبَرًا لَا دُعَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ قُتِّلَ بِالتَّشْدِيدِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّارُ إِنَّمَا تَكُونُ عَظِيمَةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَحْتَرِقُ بِهَا إِمَّا حَطَبٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَالْوَقُودُ اسْمٌ(31/110)
لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] وَفِي: ذاتِ الْوَقُودِ تَعْظِيمُ أَمْرِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ مِنَ الْحَطَبِ الْكَثِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ كَقَوْلِكَ: سُلِبَ زَيْدٌ ثَوْبُهُ فَإِنَّ الْأُخْدُودَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ الْوُقُودِ بِالضَّمِّ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ قُتِلَ وَالْمَعْنَى لُعِنُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ قُعُودٌ عِنْدَ الْأُخْدُودِ يُعَذِّبُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ كَانُوا قَاعِدِينَ عَلَى النَّارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ الْمَقْتُولُونَ لَا الْقَاتِلُونَ/ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إذ المؤمنين قُعُودٌ عَلَى النَّارِ يَحْتَرِقُونَ مُطَّرِحُونَ عَلَى النَّارِ وثانيها: أن يجعل الضمير في عَلَيْها عائد إِلَى طَرَفِ النَّارِ وَشَفِيرِهَا وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الْجُلُوسُ فِيهَا، وَلَفْظُ، عَلَى مَشْعِرٌ بِذَلِكَ تَقُولُ مَرَرْتُ عَلَيْهَا تُرِيدُ مُسْتَعْلِيًا بِمَكَانٍ يَقْرُبُ مِنْهُ، فَالْقَائِلُونَ كَانُوا جَالِسِينَ فِيهَا وَكَانُوا يَعْرِضُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى النَّارِ، فَمَنْ كَانَ يَتْرُكُ دِينَهُ تَرَكُوهُ وَمَنْ كَانَ يَصْبِرُ عَلَى دِينِهِ أَلْقَوْهُ فِي النَّارِ وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُمْ عَائِدٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ بِمَعْنَى الْقَاتِلِينَ، وَالضَّمِيرَ فِي عَلَيْهَا عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَاتِلِينَ كَانُوا قَاعِدِينَ عَلَى النَّارِ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّارِ ارْتَفَعَتِ النَّارُ إِلَيْهِمْ فَهَلَكُوا بِنَفْسِ مَا فَعَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لِأَجْلِ إِهْلَاكِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَانُوا مَلْعُونِينَ أَيْضًا، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَرَابِعُهَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشُّعَرَاءِ: 14] أَيْ عِنْدِي.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: شُهُودٌ يحتمل أن يكون المراد منه حضور، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الشُّهُودَ الَّذِينَ تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمْ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَالْمَعْنَى إِنَّ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ الْقَاتِلِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَمَلِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا وَصْفُهُمْ بِقَسْوَةِ الْقَلْبِ إِذْ كَانُوا عِنْدَ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ حَاضِرِينَ مُشَاهِدِينَ لَهُ، وَإِمَّا وَصْفُهُمْ بِالْجِدِّ فِي تَقْرِيرِ كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ حَيْثُ حَضَرُوا فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْمُنَفِّرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُوحِشَةِ، وَأَمَّا وَصْفُ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَقْتُولِينَ بِالْجِدِّ دِينُهُمْ وَالْإِصْرَارِ عَلَى حَقِّهِمْ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا حَضَرُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَمَعًا فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمْ هَابُوا حُضُورَهُمْ وَاحْتَشَمُوا مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ وَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى دِينِهِمُ الْحَقِّ، فَإِنْ قُلْتَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ:
وَهُمْ لِمَا يَفْعَلُونَ شُهُودٌ وَلَا يُقَالُ: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ شُهُودٌ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ عَلَى بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِمْ بِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ إِحْرَاقُهُمْ بِالنَّارِ كَانُوا حَاضِرِينَ مُشَاهِدِينَ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ.
أَمَّا الِاحْتِمَالِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَثْبُتُ الدَّعْوَى بِهَا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُمْ جُعِلُوا شُهُودًا يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمَلِكِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَفُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ التَّعْذِيبِ(31/111)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شُهُودٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ يُؤَدُّونَ شَهَادَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّورِ: 24] ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ مُشَاهِدُونَ لِمَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَكَانُوا شُهُودًا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا لَمْ تَأْخُذْهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ، وَلَا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة.
[سورة البروج (85) : الآيات 8 الى 9]
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
الْمَعْنَى وَمَا عَابُوا مِنْهُمْ وَمَا أَنْكَرُوا الْإِيمَانَ، كَقَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 59] وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ التَّعْذِيبَ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ كَفَرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا مَضَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا أَنْ يَدُومُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: نَقَمُوا بِالْكَسْرِ، وَالْفَصِيحُ هُوَ الْفَتْحُ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ الْأَوْصَافَ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ وَيُعْبَدَ فَأَوَّلُهَا: الْعَزِيزُ وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَالْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُدْفَعُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَثَانِيهَا: الْحَمِيدُ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ لَا يَحْمَدُهُ بِلِسَانِهِ فَنَفْسُهُ شَاهِدَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَحْمُودَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ هُوَ، كَمَا قَالَ:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَفْعَالَ الْحَمِيدَةَ، فَالْحَمِيدُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ التَّامِّ مِنْ هذا الوجه وثالثها: الذي له ملك السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ مَالِكُهَا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَلَوْ شَاءَ لَأَفْنَاهُمَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُلْكِ التَّامِّ وَإِنَّمَا أَخَّرَ هَذِهِ الصِّفَةَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّ الْمُلْكَ التَّامَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْكَمَالِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَغَيْرُهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ حكم أولئك الكفار الجهال يكون مِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ ذَنْبًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ: الْعَزِيزِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَنَعَ أُولَئِكَ الْجَبَابِرَةَ مِنْ تَعْذِيبِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَأَطْفَأَ نِيرَانَهُمْ وَلَأَمَاتَهُمْ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: الْحَمِيدِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ عَوَاقِبُهَا فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمْهَلَ لَكِنَّهُ مَا أَهْمَلَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ ثَوَابَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ، وَعِقَابَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لم يعاجلهم بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ إِلَّا عَلَى حَسَبِ الْمَشِيئَةِ أَوِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَهُوَ وَعْدٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ.
[سورة البروج (85) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، أَتْبَعَهَا بِمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ مَنْ(31/112)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
فَعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْحُكْمَ عَامٌّ فَالتَّخْصِيصُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْفِتْنَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ امْتَحَنُوا أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى النَّارِ وَأَحْرَقُوهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةُ هِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ:
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ حَرَّقُوهُمْ بِالنَّارِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فَتَنْتُ الشَّيْءَ أَحْرَقْتُهُ وَالْفَتْنُ أَحْجَارٌ سُودٌ كَأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: 13] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا لَخَرَجُوا عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ عَمْدًا مَقْبُولَةٌ خِلَافَ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كِلَا الْعَذَابَيْنِ يَحْصُلَانِ فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَعَذَابُ الْحَرِيقُ هُوَ الْعَذَابُ الزَّائِدُ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عَذَابَ بَرْدٍ وَالثَّانِي عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَالزَّائِدُ عَلَى الْإِحْرَاقِ أَيْضًا إِحْرَاقٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ الْأَوَّلَ كَأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُسَمَّى إِحْرَاقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الثَّانِي قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ نَوْعَا الْإِحْرَاقِ فَتَكَامَلَ جِدًّا فَكَانَ الْأَوَّلُ ضَعِيفًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُسَمَّ إِحْرَاقًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ نار الأخدود فاحترقوا بها.
[سورة البروج (85) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: ذلِكَ الْفَوْزُ وَلَمْ يَقُلْ تِلْكَ لِدَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُصُولِ هَذِهِ الْجَنَّاتِ، وَقَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا وَالْفَوْزُ الْكَبِيرُ هُوَ رِضَا اللَّهِ لَا حُصُولَ الْجَنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى/ الْكُفْرِ بِالْإِهْلَاكِ الْعَظِيمِ الْأَوْلَى له أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا خُوِّفَ مِنْهُ، وَأَنَّ إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: نَعَمْ فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ كَذَّابٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا الَّذِي تُرِكَ فَأَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئا له» .
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)(31/113)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَوَّلًا وَذَكَرَ وَعْدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثَانِيًا أَرْدَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ بِالتَّأْكِيدِ فَقَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَالْبَطْشُ هُوَ الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ فَإِذَا وُصِفَ بِالشِّدَّةِ فَقَدْ تَضَاعَفَ وَتَفَاقَمَ وَنَظِيرُهُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: 102] ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَادِرَ لَا يَكُونُ إِمْهَالُهُ لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، لَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَكِيمٌ إِمَّا بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَأْخِيرُ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أَيْ إِنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُفْنِيهِمْ ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً لِيُجَازِيَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِهَذَا السَّبَبِ لَا لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ تَأْكُلُهُمُ النَّارُ حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ.
[في قوله تعالى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ إلى قوله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ] ثُمَّ قَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ خَمْسَةً:
أَوَّلُهَا: الْغَفُورُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ غَفُورٌ مُطْلَقًا لِمَنْ تَابَ وَلِمَنْ لَمْ يَتُبْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَلِأَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ التَّمَدُّحَ وَالْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ وَثَانِيهَا: الْوَدُودُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا:
الْمُحِبُّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ أَقَلَّ مِنَ الْخَيْرِ فَالْغَالِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَيَكُونَ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْوَدُودُ هُوَ الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجُوزُ أن يكون ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِمَا عَرَفُوا مِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، قَالَ: وَكِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَدْحٌ لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا أَحَبَّ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَحَبَّهُ عِبَادُهُ الْعَارِفُونَ فَلِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ كَرِيمِ إِحْسَانِهِ. / وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ:
قِيلَ الْوَدُودُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَلِيمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ وَدُودٌ وَهِيَ الْمُطِيعَةُ الْقِيَادِ الَّتِي كَيْفَ عَطَفْتَهَا انْعَطَفَتْ وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ خَيْفَانَةً ... ذَلُولَ الْقِيَادِ وَقَاحًا وَدُودًا
وَثَالِثُهَا: ذُو الْعَرْشِ، قَالَ الْقَفَّالُ: ذُو الْعَرْشِ أَيْ ذُو الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّرِيرِ، وَكَمَا يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُ فُلَانٍ إِذَا ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَهَذَا مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَرْشِ السَّرِيرَ، وَيَكُونُ جَلَّ جَلَالُهُ خَلَقَ سَرِيرًا فِي سَمَائِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَظَمَتَهُ إِلَّا هُوَ وَمَنْ يُطْلِعُهُ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: الْمَجِيدُ، وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الرَّفْعُ فَيَكُونُ ذلك صفة الله سُبْحَانَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ الْمَجْدَ مِنْ صِفَاتِ التَّعَالِي وَالْجَلَالِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْفَصْلُ وَالِاعْتِرَاضُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فِي هَذَا النَّحْوِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِالْخَفْضِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صِفَةَ الْعَرْشِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَصْفُ غَيْرِ اللَّهِ بِالْمَجِيدِ حَيْثُ قَالَ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج: 21] وَرَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ فَلَا يَبْعُدُ(31/114)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
أَيْضًا أَنْ يَصِفَهُ بِأَنَّهُ مَجِيدٌ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ مَجْدَ اللَّهِ عَظَمَتُهُ بِحَسَبِ الْوُجُوبِ الذَّاتِيِّ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، وَعَظَمَةَ الْعَرْشِ عُلُوُّهُ فِي الْجِهَةِ وَعَظَمَةُ مِقْدَارِهِ وَحُسْنُ صُورَتِهِ وَتَرْكِيبِهِ، فَإِنَّهُ قِيلَ: الْعَرْشُ أَحْسَنُ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبًا وَصُورَةً وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَعَّالٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ قَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ خَبَرَانِ لِمُبْتَدَأٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِسْنَادِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهَا أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ الْخَبَرُ وَاحِدَ الْآخَرِينَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ لَا وَاحِدَ قَبْلَ قَضِيَّتَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذَا كَانَ فَاعِلًا لِلْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلْكُفْرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طَاعَةِ الْخَلْقِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَا إِذَا وَقَعَ كَانَ فِعْلُهُ دُونَ مَا إِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُ هَذِهِ أَلْفَاظُ الْقَاضِي وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الثَّوَابَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ عَلَى مَا يَرَاهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، فَهُوَ يُدْخِلُ أَوْلِيَاءَهُ الْجَنَّةَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ، وَيُدْخِلُ أَعْدَاءَهُ النَّارَ لَا يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ نَاصِرٌ، وَيُمْهِلُ الْعُصَاةَ عَلَى مَا يَشَاءُ إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إِذَا شَاءَ وَيُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ/ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يَفْعَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ومن غيرهما ما يريد.
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
[قَوْلُهُ تَعَالَى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ إلى قوله وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ فِي تَأَذِّي الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ، بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ كَانُوا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَدَلٌ مِنَ الْجُنُودِ، وَأَرَادَ بِفِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: 83] وَثَمُودُ، كَانُوا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقِصَّتُهُمْ عِنْدَهُمْ مَشْهُورَةٌ فَذَكَرَ تَعَالَى مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِرْعَوْنَ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ثَمُودَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى هَذَا النَّهْجِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَلَمَّا طَيَّبَ قَلْبَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحِكَايَةِ(31/115)
أَحْوَالِ الْأَوَّلِينَ فِي هَذَا الْبَابِ سَلَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ اقْتِدَارِهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَحَوْزَتِهِ، كَالْمُحَاطِ إِذَا أُحِيطَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ فَسُدَّ عَلَيْهِ مَسْلَكُهُ، فَلَا يَجِدُ مَهْرَبًا يَقُولُ تَعَالَى: فَهُوَ كَذَا فِي قَبْضَتِي وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَمُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعَذَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ فَلَا تَجْزَعْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَلَيْسُوا يَفُوتُونَنِي إِذَا أَرَدْتُ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تَعَالَى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: 21] وَقَوْلِهِ:
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاءِ: 60] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يُونُسَ: 22] فَهَذَا كُلُّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُشَارَفَةِ الْهَلَاكِ، يَقُولُ: فَهَؤُلَاءِ فِي تَكْذِيبِكَ قَدْ شَارَفُوا الْهَلَاكَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، فَهُوَ مُرْصِدٌ بِعِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى رَسُولَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ، هُوَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَجِيدٌ مَصُونٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ، فَلَمَّا حَكَمَ فِيهِ بِسَعَادَةِ قَوْمٍ وَشَقَاوَةِ قَوْمٍ، وَبِتَأَذِّي قَوْمٍ مِنْ قَوْمٍ، امْتَنَعَ تَغَيُّرُهُ وَتَبَدُّلُهُ، فَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ التَّسْلِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: قُرْآنٌ مَجِيدٌ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ قُرْآنُ رَبٍّ مَجِيدٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ (فِي لَوْحٍ) وَاللَّوْحُ الْهَوَاءُ يَعْنِي اللَّوْحَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الَّذِي فِيهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقُرِئَ (مَحْفُوظٌ) / بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْقُرْآنِ كَمَا قُلْنَا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الْوَاقِعَةِ: 77، 78] فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمَكْنُونُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَاحِدًا ثُمَّ كَوْنُهُ مَحْفُوظًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا عَنْ أَنْ يَمَسَّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا مِنَ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ سِوَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنِّ اللَّوْحَ شَيْءٌ يَلُوحُ لِلْمَلَائِكَةِ فَيَقْرَءُونَهُ وَلَمَّا كَانَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَارِدَةً بِذَلِكَ وَجَبَ التَّصْدِيقُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/116)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الطَّارِقِ
سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
[قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إلى قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ السَّمَاءِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّ أَحْوَالَهَا فِي أَشْكَالِهَا وَسَيْرِهَا وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا عَجِيبَةٌ، وَأَمَّا الطَّارِقُ فَهُوَ كُلُّ مَا أَتَاكَ لَيْلًا سَوَاءً كَانَ كَوْكَبًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ الطَّارِقُ نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دُعَائِهِمْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَهَى عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا»
وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّرُوقُ فِي صِفَةِ الْخَيَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْأَكْثَرِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَالطَّارِقِ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي سَامِعُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مَا يُدْرِيكَ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] ثُمَّ قَالَ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أَيْ هُوَ طَارِقٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، رَفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيُوقَفُ بِهِ عَلَى أَوْقَاتِ الْأَمْطَارِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ ثَاقِبًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ فينفذ فيه كما قيل:
دريء لِأَنَّهُ يَدْرَؤُهُ أَيْ يَدْفَعُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ نَافِذًا فِي الْهَوَاءِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَثْقُبُ الشَّيْءَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يُرَى بِهِ الشَّيْطَانُ فَيَثْقُبُهُ أَيْ يَنْفُذُ فِيهِ وَيَحْرِقُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ هُوَ النَّجْمُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى النُّجُومِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا: قَدْ ثَقَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ طَارِقًا، لِأَنَّهُ يَبْدُو بِاللَّيْلِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى طَارِقًا، أو لأنه يطرق الجني، أي صكه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أُشِيرَ بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ النَّحْوِ/ فَقِيلَ الطَّارِقُ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 2] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَجْمٌ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ(31/117)
الثُّرَيَّا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ زُحَلُ، لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بنوره سمك سبع سموات، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصَّافَّاتِ: 10] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الله، فعجب أبو طالب، ونزلت السورة.
[في قوله تَعَالَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَمَّا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِتَشْدِيدِ الميم. قال أبو علي الفاسي: مَنْ خَفَّفَ كَانَتْ إِنْ عِنْدَهُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ لِتُخَلِّصَهَا مِنْ إِنِ النَّافِيَةِ، وَمَا صِلَةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] وعَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون: 40] وَتَكُونُ إِنْ مُتَلَقِّيَةً لِلْقَسَمِ، كَمَا تَتَلَقَّاهُ مُثَقَّلَةً. وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ فَتَكُونُ إِنْ عِنْدَهُ النَّافِيَةَ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الْأَحْقَافِ: 26] ولَمَّا فِي مَعْنَى أَلَّا، قَالَ: وَتُسْتَعْمَلُ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: هَذَا وَالْآخَرُ:
فِي بَابِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى أَلَّا فَعَلْتَ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تُوجَدْ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَزَعَمَ الْعُتْبِيُّ أَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا، مَعَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى مَا مَوْجُودَةٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحَافِظَ مَنْ هُوَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَافِظَ يَحْفَظُ النَّفْسَ عما ذا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلِأَنَّ كُلَّ وُجُودٍ سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَيُّومُ الَّذِي بِحِفْظِهِ وَإِبْقَائِهِ تَبْقَى الْمَوْجُودَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بين هذا المعنى في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْعُمُومِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ هَذَا إِذَا حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى مُطْلَقِ الذَّاتِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى النَّفْسِ الْمُتَنَفِّسَةِ وَهِيَ النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى حَافِظًا لَهَا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا وَمُوَصِّلًا إليها جميع مناقعها وَدَافِعًا عَنْهَا جَمِيعَ مَضَارِّهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: 61] وَقَالَ:
عَنِ/ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 10، 11] وَقَالَ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: 11] .(31/118)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ مَا الَّذِي يَحْفَظُهُ هَذَا الْحَافِظُ؟ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ دَقِيقَهَا وَجَلِيلَهَا حَتَّى تَخْرُجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا وَثَانِيهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَرِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْإِنْسَانُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ قَبَضَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مَرْيَمَ: 84] ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى الْآخِرَةِ فَيُجَازَوْنَ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَثَالِثُهَا: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ
، يَحْفَظُهَا مِنَ الْمَعَاطِبِ وَالْمَهَالِكِ فَلَا يُصِيبُهَا إِلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ يَحْفَظُهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَابِرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَافِظًا يُرَاقِبُهَا وَيَعُدُّ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحِقُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ، وَقَدْ تَطَابَقَتِ الشَّرَائِعُ وَالْعُقُولُ عَلَى أَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَبْدَأِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى المبدأ. فقال:
[سورة الطارق (86) : الآيات 6 الى 7]
خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الدَّفْقُ صَبُّ الْمَاءِ، يُقَالُ: دَفَقْتُ الْمَاءَ، أَيْ صَبَبْتُهُ وَهُوَ مَدْفُوقٌ، أَيْ مَصْبُوبٌ، وَمُنْدَفِقٌ أَيْ مُنْصَبٌّ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَاءُ مَدْفُوقًا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ دَافِقٌ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ ذُو انْدِفَاقٍ، كَمَا يقال: دراع وَفَارِسٌ وَنَابِلٌ وَلَابِنٌ وَتَامِرٌ، أَيْ دَرَعَ وَفَرَسَ وَنَبَلَ وَلَبَنَ وَتَمَرَ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمَفْعُولَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَفْعَلُ لِهَذَا مِنْ غَيْرِهِمْ، يَجْعَلُونَ الْمَفْعُولَ فَاعِلًا إِذَا كَانَ فِي مَذْهَبِ النَّعْتِ، كَقَوْلِهِ سِرٌّ كَاتِمٌ، وَهَمٌّ نَاصِبٌ، وَلَيْلٌ نَائِمٌ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: 7] ي مَرْضِيَّةٍ الثَّالِثُ: ذَكَرَ الْخَلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ دَفَقَ الْمَاءُ دَفْقًا وَدُفُوقًا إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَانْدَفَقَ الْكُوزُ إِذَا انْصَبَّ بِمَرَّةٍ، وَيُقَالُ فِي الطِّيَرَةِ عِنْدَ انْصِبَابِ الْكُوزِ وَنَحْوِهِ: دَافِقُ خَيْرٍ، وَفِي كِتَابِ قُطْرُبٍ: دَفَقَ الْمَاءُ يَدْفُقُ إِذَا انْصَبَّ الرَّابِعُ: صَاحِبُ الْمَاءِ لَمَّا كَانَ دَافِقًا أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ الصَّلَبِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالصُّلُبِ بِضَمَّتَيْنِ، وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: صُلْبٌ وَصَلَبٌ وَصُلُبٌ وَصَالِبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَرَائِبُ الْمَرْأَةِ عِظَامُ صَدْرِهَا حَيْثُ تَكُونُ الْقِلَادَةُ، وَكُلُّ عَظْمٍ مِنْ ذَلِكَ تربة، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَرَائِبُهَا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَلِ(31/119)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِهِ، وَاحْتَجَّ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّانِي عَلَى مَذْهَبِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ خَارِجٌ مِنَ الصُّلْبِ فَقَطْ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ خَارِجٌ مِنَ التَّرَائِبِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَحْصُلُ هُنَاكَ مَاءٌ خَارِجٌ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ وَالَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِأَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ، يَعْنِي هَذَا الدَّافِقَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ فَقَطْ أَجَابَ:
الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلشَّيْئَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَصِيرَانِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَحَسُنَ هَذَا اللَّفْظُ هُنَاكَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ: بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمَنِيِّ دَافِقًا أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَاءَيْنِ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ وَحْدَهُ صَغِيرٌ فَلَا يَكْفِي، وَلِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ يَكُونُ الْوَلَدُ ذَكَرًا وَيَعُودُ شبه إِلَيْهِ وَإِلَى أَقَارِبِهِ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا وَإِلَى أَقَارِبِهَا يَعُودُ الشَّبَهُ»
وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْحِدِينَ طَعَنُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ طَبِيعَتَهُ وَخَاصِّيَّتَهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَعِدًّا لِأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ مِثْلُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُفْرِطَ فِي الْجِمَاعِ يَسْتَوْلِي الضَّعْفُ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْظَمَ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ يَتَوَلَّدُ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ مُعْظَمُ أَجْزَائِهِ إِنَّمَا يَتَرَبَّى فِي الدِّمَاغِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صُورَتَهُ يُشْبِهُ الدِّمَاغَ، وَلِأَنَّ الْمُكْثِرَ مِنْهُ يَظْهَرُ الضَّعْفُ أَوَّلًا فِي عَيْنَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُسْتَقَرَّ الْمَنِيِّ هُوَ أَوْعِيَةُ الْمَنِيِّ، وَهِيَ عُرُوقٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهَا بِالْبَعْضِ عِنْدَ الْبَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ مَخْرَجَ الْمَنِيِّ هُنَاكَ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ الْأَعْضَاءِ مَعُونَةً فِي تَوْلِيدِ الْمَنِيِّ هُوَ الدِّمَاغُ، وَالدِّمَاغُ خَلِيفَةٌ وَهِيَ النُّخَاعُ وَهُوَ فِي الصُّلْبِ، وَلَهُ شُعَبٌ كَثِيرَةٌ نَازِلَةٌ/ إِلَى مُقَدَّمِ الْبَدَنِ وَهُوَ التَّرِيبَةُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِالذِّكْرِ، عَلَى أَنَّ كَلَامَكُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْمَنِيِّ، وَكَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْأَعْضَاءِ مِنَ الْمَنِيِّ مَحْضُ الْوَهْمِ وَالظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ دَلَالَةَ تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ عَنِ النُّطْفَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ، لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّرْكِيبَاتِ الْعَجِيبَةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ تَوَلُّدُهُ عَنِ الْمَادَّةِ الْبَسِيطَةِ أَدَلَّ عَلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَثَانِيهَا: أَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَحْوَالِ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِ غَيْرِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ أَتَمَّ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ دَائِمَةٌ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ أَقْوَى وَرَابِعُهَا: وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْبَابِ، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ، فَكَذَلِكَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ أَجْزَاءٍ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي بَدَنِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، فَلَمَّا قَدَرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ حَتَّى خَلَقَ مِنْهَا إِنْسَانًا سَوِيًّا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَفَرُّقِ أَجْزَائِهِ لَا بد(31/120)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
وَأَنْ يَقْدِرَ الصَّانِعُ عَلَى جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَجَعْلِهَا خَلْقًا سَوِيًّا، كَمَا كَانَ أَوَّلًا وَلِهَذَا السِّرِّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَبْدَأِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَيْضًا دَلَالَتَهُ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ فقال:
[سورة الطارق (86) : آية 8]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ لِلْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ خُلِقَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَلَقَ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ لَفْظًا، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي بَدَاءَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَانَ كَالْمَذْكُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْعُ مَصْدَرُ رَجَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَدَدْتَهُ، وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ عَلى رَجْعِهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَوَّلُهُمَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى رَدِّهِ حَيًّا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الضَّمِيرَ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الْإِحْلِيلِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَاءَ فِي الصُّلْبِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ قَبْلُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنْ شِئْتُ رَدَدْتُهُ مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ الصِّبَا/ إِلَى النُّطْفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أَيْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَصَفَ حَالَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فقال:
[سورة الطارق (86) : الآيات 9 الى 10]
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِرَجْعِهِ وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي رَجْعِهِ لِلْمَاءِ وَفَسَّرَهُ بِرَجْعِهِ إِلَى مَخْرَجِهِ مِنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ أَوْ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى نَصَبَ الظَّرْفَ بِقَوْلِهِ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَيْ مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تُبْلَى أَيْ تُخْتَبَرُ، وَالسَّرَائِرُ مَا أُسِرَّ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالنِّيَّاتِ، وَمَا أُخْفِيَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ مَعْنَى الِاخْتِبَارِ هَاهُنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيَنْظُرُ أَيْضًا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا تَفَاصِيلَ أَعْمَالِهِمْ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْمَعْنَى ابْتِلَاءً، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ لِعِبَادِهِ لِأَنَّهَا ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَفَاصِيلِ مَا عَمِلُوهُ وَمَا لَمْ يَعْمَلُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَفْعَالَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لِوُجُوهِهَا، فَرُبَّ فِعْلٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ حسنا(31/121)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وَبَاطِنُهُ قَبِيحًا، وَرُبَّمَا كَانَ بِالْعَكْسِ. فَاخْتِبَارُهَا مَا يُعْتَبَرُ بَيْنَ تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ، حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّ الْوَجْهَ الرَّاجِحَ مَا هُوَ، وَالْمَرْجُوحَ مَا هُوَ.
الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلَوْتُ يَقَعُ عَلَى إِظْهَارِ الشَّيْءِ وَيَقَعُ على امتحانه كقوله: وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة: 155] ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّرَائِرُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ تُخْتَبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَظْهَرَ خَبَرُهَا مِنْ سِرِّهَا وَمُؤَدِّيهَا مِنْ مُضَيِّعِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يُبْدِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ سِرٍّ مِنْهَا، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي الْوُجُوهِ وَشَيْنًا فِي الْوُجُوهِ، يَعْنِي مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا قُوَّةَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، لِأَنَّ قُوَّةَ الْإِنْسَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ لِذَاتِهِ أَوْ مُسْتَفَادَةً مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَالثَّانِي مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ: وَلا ناصِرٍ وَالْمَعْنَى مَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا نَاصِرٍ يَنْصُرُهُ فِي دَفْعِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ زَجْرٌ وتحدير، وَمَعْنَى دُخُولِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قُوَّةٍ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ لِقَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُوَّةِ وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً إِلَى قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الْبَقَرَةِ: 48] ، الْجَوَابُ: ما تقدم.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ، وَالْمَعَادِ أَقْسَمَ قَسَمًا آخَرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ فَنَقُولُ: قَالَ الزَّجَّاجُ الرَّجْعُ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَتَكَرَّرُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الزَّجَّاجِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجْعَ لَيْسَ اسْمًا مَوْضُوعًا لِلْمَطَرِ بَلْ سُمِّيَ رَجْعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَلِحُسْنِ هَذَا الْمَجَازِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
قَالَ الْقَفَّالُ: كَأَنَّهُ مِنْ تَرْجِيعِ الصَّوْتِ وَهُوَ إِعَادَتُهُ وَوَصْلُ الْحُرُوفِ بِهِ، فَكَذَا الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ عَائِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى سُمِّيَ رَجْعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ السَّحَابَ يَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ ثُمَّ يُرْجِعُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّفَاؤُلَ فَسَمَّوْهُ رَجْعًا لِيَرْجِعَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَطَرَ يَرْجِعُ فِي كُلِّ عَامٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ يَرْجِعُ لِمَطَرٍ بَعْدَ مَطَرٍ وَثَانِيهَا: رَجْعُ السَّمَاءِ إِعْطَاءُ الْخَيْرِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ جِهَتِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ تُرْجِعُهُ رَجْعًا، أَيْ(31/122)
تُعْطِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ أَنَّهَا تَرُدُّ وَتُرْجِعُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا بَعْدَ مَغِيبِهِمَا، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّدْعَ هُوَ الشَّقُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: 43] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَبَلَانِ بَيْنَهُمَا شَقٌّ وَطَرِيقٌ نَافِذٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا [الْأَنْبِيَاءِ: 31] وَقَالَ اللَّيْثُ:
الصَّدْعُ نَبَاتُ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَصْدَعُ الْأَرْضَ فَتَنْصَدِعُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ النَّبَاتُ صَدْعًا لِأَنَّهُ صَادِعٌ لِلْأَرْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ، كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ النَّبَاتِ، فَالسَّمَاءُ ذَاتُ الرَّجْعِ كَالْأَبِ، وَالْأَرْضُ ذَاتُ الصَّدْعِ كَالْأُمِّ وَكِلَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ لِأَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ مُتَكَرِّرًا، وَعَلَى مَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ هَذَا الْقَسَمَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَقَالَ:
[في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَ الْقَفَّالُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِحْيَائِكُمْ فِي الْيَوْمِ/ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ سَرَائِرُكُمْ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحَقٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيِ الْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قِيلَ: لَهُ فُرْقَانٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّالِفِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَقَوْلٌ فَصْلٌ أَيْ حُكْمٌ يَنْفَصِلُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَهُوَ قَطْعُهَا بِالْحُكْمِ، وَيُقَالُ: هذا فَصْلٌ أَيْ قَاطِعٌ لِلْمِرَاءِ وَالنِّزَاعِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدٌّ حَقٌّ لِقَوْلِهِ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَيْ بِاللَّعِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِالْجَدِّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلَ قَدْ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْجَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَذَلِكَ الْكَيْدُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29] مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: 31] فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: 5] وَمِنْهَا بِالطَّعْنِ فِيهِ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا وَشَاعِرًا وَمَجْنُونًا، وَمِنْهَا بِقَصْدِ قَتْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَالِ: 30] ثُمَّ قَالَ: وَأَكِيدُ كَيْداً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَيْدَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: دَفْعُهُ تَعَالَى كَيْدَ الْكَفَرَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُقَابِلُ ذَلِكَ الْكَيْدَ بِنُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ تسمية لأحد المتقابلين باسم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ:
142] وَثَانِيهَا: أَنَّ كَيْدَهُ تَعَالَى بِهِمْ هُوَ إِمْهَالُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كفرهم حتى يأخذهم على غرة، [في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] ثُمَّ قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَدْعُ بِهَلَاكِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْهَالِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْهَالَ الْمَأْمُورَ به(31/123)
قَلِيلٌ، فَقَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً فَكَرَّرَ وَخَالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِزِيَادَةِ التَّسْكِينِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالتَّصَبُّرُ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ تَكْبِيرَ رُوَيْدٍ رَوْدٌ، وَأَنْشَدَ:
يَمْشِي وَلَا تُكَلِّمُ الْبَطْحَاءُ مِشْيَتَهُ ... كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يمشي على ورد
أَيْ عَلَى مَهْلَةٍ وَرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ فِي بَابِ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ رُوَيْدًا زَيْدًا يُرِيدُ أَرْوِدْ زَيْدًا، وَمَعْنَاهُ أَمْهِلْهُ وَارْفُقْ بِهِ، قَالَ النَّحْوِيُّونَ: رُوَيْدٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْأَمْرِ كقولك: رويد زيدا تريد أرود زيد أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ وَأَرْفِقْ بِهِ وَلَا تَنْصَرِفُ رُوَيْدَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَمَكِّنَةٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمَصَادِرِ فَيُضَافُ إِلَى مَا بَعْدَهُ كَمَا تُضَافُ الْمَصَادِرُ تَقُولُ: رُوَيْدَ زَيْدٍ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبُ زَيْدٍ قَالَ تَعَالَى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّدٍ: 4] ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا مَنْصُوبًا كَقَوْلِكَ: سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: سَارُوا رُوَيْدًا، يَحْذِفُونَ الْمَنْعُوتَ/ وَيُقِيمُونَ رُوَيْدًا مَقَامَهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِسَائِرِ النُّعُوتِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: ضَعْهُ رُوَيْدًا أَيْ وَضْعًا رويدا، وتقول للرجل: يعالج الشيء الشَّيْءَ رُوَيْدًا، أَيْ عِلَاجًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رُوَيْدًا حَالًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَعْتًا فَإِنْ أَظْهَرْتَ الْمَنْعُوتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
إِمْهَالًا رُوَيْدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ أَمْهِلْهُمْ غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا صُغِّرَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الَّذِي جَرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي سَائِرِ الْغَزَوَاتِ لَا يَعُمُّ الْكُلَّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ عَمَّ الْكُلَّ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَتِهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، مِمَّا نَالَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ زَجْرٌ وَتَحْذِيرٌ لِلْقَوْمِ، وَكَمَا أَنَّهُ تَحْذِيرٌ لَهُمْ فَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي خِلَافِ طَرِيقِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/124)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأعلى
تسع عشر آية مكية
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: اسْمَ رَبِّكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اسْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ صِلَةٌ وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ نَزِّهِ اسْمَ رَبِّكَ عَنْ أَنْ تُسَمِّيَ بِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَلَى أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ بِاسْمِهِ، كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الصَّنَمَ بِاللَّاتِ، وَمُسَيْلِمَةَ بِرَحْمَانِ الْيَمَامَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ لا يفسر أسماءه بِمَا لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ نَحْوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْأَعْلَى بِالْعُلُوِّ فِي الْمَكَانِ والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء وَالِاسْتِوَاءُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُصَانَ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالذِّكْرِ لَا عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَذْكُرَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِيهَا وَحَقَائِقِهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يكون المراد بسبح باسم رَبِّكَ، أَيْ مَجِّدْهُ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَيْكَ وَعَرَّفْتُكَ أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كَقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الْإِسْرَاءِ: 110] وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 74] وَمَقْصُودُ الْكَلَامِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، لَا كَمَا يُصَلِّي الْمُشْرِكُونَ بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالثَّانِي:
أَنْ لَا يَذْكُرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ إِلَّا بأسماء الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فرق بين سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وبين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ معنى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِذِكْرِ اسْمِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ تَنْزِيهِهِ وَعُلُوِّهِ عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ، وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ نَزِّهِ الِاسْمَ مِنَ السُّوءِ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هَاهُنَا الصِّفَةُ، وَكَذَا فِي/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 180](31/125)
أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ صِلَةً وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْمَ فِي الْحَقِيقَةِ لَفْظَةٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ حُرُوفٍ وَلَا يَجِبُ تَنْزِيهُهَا كَمَا يَجِبُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ إِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا يُذْكَرُ هُوَ بَلْ يُذْكَرُ اسْمُهُ فَيُقَالُ: سَبِّحِ اسْمَهُ، وَمَجِّدْ ذِكْرَهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي، وَقَالَ لَبِيدٌ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمِ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
أَيِ السَّلَامُ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَنَقُولُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَسْبِيحُ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُعَامِلَ الْكُفَّارَ مُعَامَلَةً يُقْدِمُونَ بِسَبَبِهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، بِمَا لَا يَنْبَغِي عَلَى مَا قَالَ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] ، الثَّانِي: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ وَفِي أَفْعَالِهِ، وَفِي أَسْمَائِهِ وَفِي أَحْكَامِهِ، أَمَّا فِي ذَاتِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، وَأَمَّا فِي صِفَاتِهِ، فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحْدَثَةً وَلَا مُتَنَاهِيَةً وَلَا نَاقِصَةً، وَأَمَّا فِي أَفْعَالِهِ فَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَالِكٌ مُطْلَقٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ صَوَابٌ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَلَا يَرْضَى بِهِ، وَأَمَّا فِي أَسْمَائِهِ فَأَنْ لَا يُذْكَرَ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهَا، هَذَا عِنْدَنَا وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُوَ أَنْ لَا يُذْكَرَ إِلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا تُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ سَوَاءً وَرَدَ الْإِذْنُ بِهَا أَوْ لَمْ يَرِدْ، وَأَمَّا فِي أَحْكَامِهِ فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا كَلَّفَنَا لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ. بَلْ إِمَّا لِمَحْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُنَا، أَوْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَلَى مَا [هُوَ] قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْخَوْضَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ بَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ وَالْمُسَمَّى مَا هُوَ حَتَّى يُمْكِنَنَا أَنْ نَخُوضَ فِي الِاسْمِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا، فَنَقُولُ: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّاتُ، فَالْعَاقِلُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ، مِنَ الِاسْمِ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتَ كَانَ قَوْلُنَا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هُوَ أَنَّ تِلْكَ الذَّاتِ نَفْسُ تِلْكَ الذَّاتِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ عَاقِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وَصْفِهَا رَكِيكَةٌ. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَوْضُ فِي ذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ أَرَكَّ وَأَبْعَدَ بَلْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَنَا: اسْمٌ لَفْظَةٌ جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ، وَالِاسْمُ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنْ يكون الاسم اسما لنفسه فههنا الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى فَلَعَلَّ الْعُلَمَاءَ الْأَوَّلِينَ ذَكَرُوا ذَلِكَ فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنُّوا أَنَّ الِاسْمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ نَفْسُ الْمُسَمَّى، هَذَا حَاصِلُ التَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى الْكَلَامِ الْمَأْلُوفِ، قَالُوا: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا فَمَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ سَبِّحْ رَبَّكَ، وَالرَّبُّ أَيْضًا اسْمٌ فَلَوْ كَانَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ التَّسْبِيحُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ لِمَا بَيَّنَّا/ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَارِدًا بِتَسْبِيحِ الِاسْمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْبِيحَ الْمُسَمَّى وَذُكِرَ الِاسْمُ صِلَةً فِيهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قَالَ لَنَا رَسُولُ(31/126)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»
ثُمَّ
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»
ثُمَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أَيْ صَلِّ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِإِطْبَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَرَدَ فِي بَيَانِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنُ عُمَرَ: (سُبْحَانَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: سَبِّحِ أَمْرٌ بِالتَّسْبِيحِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَمَا هُوَ إِلَّا قَوْلُهُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَمَسَّكَتِ الْمُجَسِّمَةُ فِي إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْعُلُوَّ بِالْجِهَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا كَانَ طَرَفُهُ الْفَوْقَانِيُّ مُتَنَاهِيًا، فَكَانَ فَوْقَهُ جِهَةً فَلَا يَكُونُ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَالْقَوْلُ: بِوُجُودِ أَبْعَادٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ تَعَالَى مُخْتَلِطَةً بِالْقَاذُورَاتِ تَعَالَى اللَّهَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاهٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَمُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ كَانَ الْجَانِبُ الْمُتَنَاهِي مُغَايِرًا لِلْجَانِبِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ، هذا مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ الْعُلُوَّ هَاهُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ فِي الْجِهَةِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ بِالْجِهَةِ، أَمَّا مَا قَبْلَ الْآيَةِ فَلِأَنَّ الْعُلُوَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْعَالَمِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ التَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، أَمَّا الْعُلُوُّ بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّفَرُّدِ بِالتَّخْلِيقِ وَالْإِبْدَاعِ فَيُنَاسِبُ ذَلِكَ وَالسُّورَةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِمَا لِأَجْلِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَالتَّعْظِيمَ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ أَرْدَفَ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالْخَالِقِيَّةُ تُنَاسِبُ الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ لَا الْعُلُوَّ بِحَسَبِ الْجِهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ أَحَدُهُمَا عَظِيمٌ وَالْآخَرُ أَعْلَى مِنْهُ، أَمَّا الْعَظِيمُ فَقَوْلُهُ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وَأَمَّا الْأَعْلَى مِنْهُ فَقَوْلُهُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فَهَذَا يَقْتَضِي وجود رَبٍّ آخَرَ يَكُونُ هَذَا أَعْلَى بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ الصَّانِعَ تَعَالَى وَاحِدٌ سَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ فِي/ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَى مِنْ رَبٍّ آخَرَ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى، ثُمَّ لَنَا فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا يَصِفُهُ بِهِ الْوَاصِفُونَ، وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ يَذْكُرُهُ بِهِ الذَّاكِرُونَ، فَجَلَالُ كِبْرِيَائِهِ أَعْلَى مِنْ مَعَارِفِنَا وَإِدْرَاكَاتِنَا، وَأَصْنَافُ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ أَعْلَى مِنْ حَمْدِنَا وَشُكْرِنَا، وَأَنْوَاعُ حُقُوقِهِ أَعْلَى مِنْ طَاعَاتِنَا وَأَعْمَالِنَا.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْأَعْلَى تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ التَّنْزِيهَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ: الْأَعْلَى أَيْ فَإِنَّهُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: اجْتَنَبْتُ الْخَمْرَ الْمُزِيلَةَ لِلْعَقْلِ أَيِ اجْتَنَبْتُهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مُزِيلَةً لِلْعَقْلِ.(31/127)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْعَالِيَ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَكْبَرِ الْكَبِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ وَيَقُولُ: «لَوْ عَلِمَ النَّاسُ عِلْمَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى لَرَدَّدَهَا أَحَدُهُمْ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً»
وَرُوِيَ: «أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّتْ بِأَعْرَابِيٍّ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي يُسِرُّ عَلَى الْحُبْلَى، فَأَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، أَلَا بَلَى أَلَا بَلَى) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا آبَ غَائِبُكُمْ، وَلَا زَالَتْ نِسَاؤُكُمْ فِي لَزْبَةٍ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ، فَكَأَنَّ سَائِلًا قَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْبِيحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ؟ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَلْقِ وَالْهِدَايَةِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: 78] وَحَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى [طه:
49] ؟ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ هُوَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [الْعَلَقِ: 1، 2] هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: 3، 4] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْهِدَايَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ تِلْكَ الْحُجَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَكْثَرُ، وَمُشَاهَدَةَ الْإِنْسَانِ لَهَا، وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا أَتَمُّ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ فَسَوَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّاسَ خَاصَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيَوَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ ذَكَرَ لِلتَّسْوِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَامَتَهُ مُسْتَوِيَةً مُعْتَدِلَةً وَخِلْقَتَهُ حَسَنَةً، عَلَى مَا قَالَ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّينِ: 4] وَأَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ خَلْقِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ/ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِنَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَطْ، وَغَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِسَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ خُلِقَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَيَوَانَاتِ بِوَاسِطَةِ آلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ هيأ لِلتَّكْلِيفِ وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ حَيَوَانٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءٍ وَآلَاتٍ وَحَوَاسٍّ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ التَّسْوِيَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، خَلَقَ مَا أَرَادَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ مَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، مُبَرَّأً عَنِ الْفَسْخِ وَالِاضْطِرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدَّرَ مُشَدَّدَةً وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَلَى التَّخْفِيفِ، أَمَّا قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَقَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ مَلَكَ فَهَدَى وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ خَلَقَ فَسَوَّى، وَمَلَكَ مَا خَلَقَ، أَيْ تَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، وَهَذَا هُوَ الْمِلْكُ فَهَدَاهُ لِمَنَافِعِهِ وَمَصَالِحِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 23] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.(31/128)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: قَدَّرَ يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِهِ فقدر السموات وَالْكَوَاكِبَ وَالْعَنَاصِرَ وَالْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ وَالْإِنْسَانَ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْجُثَّةِ وَالْعِظَمِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْبَقَاءِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَمِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأُيُونِ وَالْأَوْضَاعِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالضَّلَالَةِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: 21] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا لَا يَفِي بِشَرْحِهِ الْمُجَلَّدَاتُ، بَلِ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَهَدى فَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مِزَاجٍ فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِقُوَّةٍ خَاصَّةٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، فَالتَّسْوِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَرْكِيبِهَا عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ لِأَجْلِهِ تَسْتَعِدُّ لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُوَى، وَقَوْلُهُ: فَهَدى عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ تِلْكَ الْقُوَى فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّ قُوَّةٍ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَمَامُ الْمَصْلَحَةِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هَدَى الذَّكَرَ لِلْأُنْثَى كَيْفَ يَأْتِيهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَاهُ لِلْمَعِيشَةِ وَرَعَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسُبُلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ حَسَّاسًا دَرَّاكًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ وَالْإِحْجَامِ عَمَّا يَسُوءُهُ كَمَا قَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: 3] وَقَالَ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشَّمْسِ: 7، 8] وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا:
كَقَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَقَالَ آخَرُونَ: الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي [الشُّورَى: 52] أَيْ تَدْعُو، وَقَدْ دُعِيَ الْكُلُّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ/ آخَرُونَ: هَدَى أَيْ دَلَّهُمْ بِأَفْعَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ، وَنُعُوتِ صَمَدِيَّتِهِ، وَفَرْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَرَى فِي العالم أفعال مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ تَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهَدى إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَكْرَهَ عَبْدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَا عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَهُ بِهَا، وَلَكِنْ رَضِيَ لكم الطاعة، وَأَمَرَكُمْ بِهَا، وَنَهَاكُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَلَى كَثْرَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: فَهَدى عَلَى ما يتعلق بالدين كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَى مصالح الدنيا، والأول أقوى، لأن قوله: خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ يَرْجِعُ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِكْمَالُ الْعَقْلِ وَالْقُوَى، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:
فَهَدى أَيْ كَلَّفَهُ وَدَلَّهُ عَلَى الدِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُ النَّاسِ مِنَ النَّعَمِ: فَقَالَ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أَيْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الْعُشْبِ لَا الْأَصْنَامُ الَّتِي عَبَدَتْهَا الْكَفَرَةُ، وَالْمَرْعَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنَ النَّبَاتِ وَمِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْحَشِيشِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَرْعَى الْكَلَأُ الْأَخْضَرُ، ثُمَّ قَالَ: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُثَاءُ مَا يَبُسَ مِنَ النَّبْتِ فَحَمَلَتْهُ الْأَوْدِيَةُ وَالْمِيَاهُ وَأَلْوَتْ بِهِ الرِّيَاحُ، وَقَالَ قُطْرُبٌ وَاحِدُ الْغُثَاءِ غُثَاءَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَوَّةُ السَّوَادُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَحْوَى هُوَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ إِذَا أَصَابَتْهُ رُطُوبَةٌ، وَفِي أَحْوَى قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَعْتُ الْغُثَاءِ أَيْ صَارَ بَعْدَ الْخُضْرَةِ يَابِسًا فَتَغَيَّرَ إِلَى السَّوَادِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ السَّوَادِ أُمُورٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعُشْبَ إِنَّمَا يَجِفُّ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْبَرْدِ عَلَى الْهَوَاءِ، وَمِنْ شَأْنِ الْبُرُودَةِ أَنَّهَا تُبَيِّضُ الرطب وتسود(31/129)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
الْيَابِسَ وَثَانِيهَا: أَنْ يَحْمِلَهَا السَّيْلُ فَيَلْصَقُ بِهَا أَجْزَاءٌ كَدِرَةٌ فَتَسْوَدُّ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّيحُ فَتَلْصَقُ بِهَا الْغُبَارُ الْكَثِيرُ فَتَسْوَدُّ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَحْوَى هُوَ الْأَسْوَدُ لِشِدَّةِ خُضْرَتِهِ، كَمَا قيل: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] أَيْ سَوْدَاوَانِ لِشِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَحْوَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً، كَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْفِ: 1، 2] أَيْ أُنْزِلَ قَيِّمًا ولم يجعل له عوجا.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالتَّسْبِيحِ فَقَالَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] وَعَلَّمَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَتَذَكَّرُ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِهِ بِقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: سَنُقْرِئُكَ أَيْ سَنَجْعَلُكَ قَارِئًا بِأَنْ نُلْهِمَكَ الْقِرَاءَةَ فَلَا تَنْسَى مَا تَقْرَؤُهُ، وَالْمَعْنَى نَجْعَلُكَ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ تَقْرَؤُهُ فَلَا تَنْسَاهُ،
قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ تَحْرِيكَ لِسَانِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، وَكَانَ جِبْرِيلُ لَا يَفْرَغُ مِنْ آخِرِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ هُوَ بِأَوَّلِهِ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ،
فَقَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أَيْ سَنُعَلِّمُكَ هَذَا الْقُرْآنَ حَتَّى تَحْفَظَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وَقَوْلُهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَةِ: 16] ثُمَّ ذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّعْلِيمِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيَقْرَأُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ مَرَّاتٍ حَتَّى تَحْفَظَهُ حِفْظًا لَا تَنْسَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّا نَشْرَحُ صَدْرَكَ وَنُقَوِّي خَاطِرَكَ حَتَّى تَحْفَظَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ حِفْظًا لَا تَنْسَاهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالتَّسْبِيحِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّا سَنُقْرِئُكَ الْقُرْآنَ الْجَامِعَ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَيَكُونُ فِيهِ ذِكْرُكَ وَذِكْرُ قَوْمِكَ وَنَجْمَعُهُ فِي قَلْبِكَ، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى وَهُوَ الْعَمَلُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا أُمِّيًّا فَحِفْظُهُ لِهَذَا الْكِتَابِ الْمُطَوَّلِ مِنْ غَيْرِ دِرَاسَةٍ وَلَا تَكْرَارٍ وَلَا كَتَبَةٍ، خَارِقٌ لِلْعَادَةِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ عَجِيبٍ غَرِيبٍ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ وَقَعَ فَكَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا تَنْسى فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلا تَنْسى مَعْنَاهُ النَّهْيُ، وَالْأَلِفُ مَزِيدَةٌ للفاصلة، كقوله: السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: 67] يَعْنِي فَلَا تُغْفِلْ قِرَاءَتَهُ وَتَكْرِيرَهُ فَتَنْسَاهُ إلا ما شاء الله أن ينسيكه، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَالْمَعْنَى سَنُقْرِئُكَ إِلَى أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَى وَتَأْمَنُ النِّسْيَانَ، كَقَوْلِكَ سَأَكْسُوكَ فَلَا تَعْرَى أَيْ فَتَأْمَنُ الْعُرْيَ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ضَعْفِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ الْتِزَامِ مَجَازَاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَصِحُّ وُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُنَافِي النِّسْيَانَ مِثْلَ الدِّرَاسَةِ وَكَثْرَةِ التَّذَكُّرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَمِنْهَا أَنْ تُجْعَلَ الْأَلِفُ مَزِيدَةً لِلْفَاصِلَةِ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ وَمِنْهَا أَنَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ بِشَارَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنِّي أَجْعَلُكَ بِحَيْثُ لَا تَنْسَاهُ، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ نَهْيًا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَاظِبَ عَلَى الْأَسْبَابِ(31/130)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
الْمَانِعَةِ مِنَ النِّسْيَانِ وَهِيَ الدِّرَاسَةُ وَالْقِرَاءَةُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْبِشَارَةِ وَتَعْظِيمُ حَالِهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَةِ: 16] .
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَفِيهِ احْتِمَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ حَاصِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْسَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْسَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ أَحَدَ أُمُورٍ أَحَدُهَا: التَّبَرُّكُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: 23، 24] وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ أَنِّي عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَعَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَا أُخْبِرُ عَنْ/ وُقُوعِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مَعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَأَنْتَ وَأُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ أَوْلَى بِهَا وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَنْسَى مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ نَاسِيًا لِذَلِكَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الْإِسْرَاءِ: 86] ثُمَّ إِنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ ذَلِكَ وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَشْرَكَ الْبَتَّةَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّفُهُ قُدْرَةَ رَبِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ عَدَمَ النِّسْيَانِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ لَا مِنْ قُوَّتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ يُبَالِغُ فِي التَّثَبُّتِ وَالتَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ بَقَاءَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّيَقُّظِ، فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ نَفْيَ النِّسْيَانِ رَأْسًا، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ سَهِيمِي فِيمَا أَمْلِكُ إِلَّا فِيمَا شَاءَ [اللَّهُ] ، وَلَا يَقْصِدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى، فَإِنَّهُ يَنْسَى ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذًا قَدْ يَنْسَى وَلَكِنَّهُ يَتَذَكَّرُ فَلَا يَنْسَى نِسْيَانًا كُلِّيًّا دَائِمًا،
رُوِيَ أَنَّهُ أَسْقَطَ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَحَسِبَ أُبَيٌّ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ:
نَسِيتُهَا.
وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُنْسِيَهُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ من الإنساء هاهنا نُسْخَةً، كَمَا قَالَ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [الْبَقَرَةِ: 106] فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَنْسَاهُ عَلَى الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، فَيَأْمُرُكَ أَنْ لَا تَقْرَأَهُ وَلَا تُصَلِّيَ بِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهِ، وَزَوَالِهِ عَنِ الصُّدُورِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ الْقِلَّةَ وَالنُّدْرَةَ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ وَاجِبَاتِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنَ الْآدَابِ وَالسُّنَنِ، فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْخَلَلِ فِي الشَّرْعِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَهْرِكَ فِي الْقِرَاءَةِ مَعَ قِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَالِمٌ بِالسِّرِّ الَّذِي فِي قَلْبِكَ وَهُوَ أَنَّكَ تَخَافُ النِّسْيَانَ، فَلَا تَخَفْ فَأَنَا أَكْفِيكَ مَا تَخَافُهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ، فَيَنْسَخُ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي النسخ. أما قوله:
[سورة الأعلى (87) : آية 8]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيُسْرَى هِيَ أَعْمَالُ الْخَيْرِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْيُسْرِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ(31/131)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَنُيَسِّرُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَنُقْرِئُكَ وَقَوْلَهُ: إِنَّهُ يَعْلَمُ/ الْجَهْرَ وَما يَخْفى اعْتِرَاضٌ، وَالتَّقْدِيرُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، وَنُوَفِّقُكَ لِلطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ، يَعْنِي فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ وَثَانِيهَا:
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيُسْرَى الْجَنَّةُ، وَالْمَعْنَى نُيَسِّرُكَ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْلَمَهُ وَتَعْمَلَ بِهِ وَرَابِعُهَا: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَيَقُولَ الْعِبَارَةَ الْمُعْتَادَةَ أَنْ يُقَالَ: جُعِلَ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ مُيَسَّرًا لِفُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: جُعِلَ فُلَانٌ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ الْفُلَانِيِّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ هاهنا الْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَمَا أَنَّهَا اخْتِيَارُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي سُورَةِ اللَّيْلِ أَيْضًا، فَكَذَا هِيَ اخْتِيَارُ الرَّسُولِ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مَاهِيَّةٌ مُمْكِنَةٌ قَابِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَمَا دَامَ الْقَادِرُ يَبْقَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ صدور الفعل عنه، فإذا نرجح جَانِبُ الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى جَانِبِ التَّارِكِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْفِعْلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْفِعْلَ مَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يُوجَدْ، وَذَلِكَ الرُّجْحَانُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّيْسِيرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّحْقِيقِ هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفِعْلِ، لَا أَنَّ الْفِعْلَ يَصِيرُ مُيَسَّرًا لِلْفَاعِلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ حِكْمَةٌ خَفِيَّةٌ وَسِرٌّ عَجِيبٌ يُبْهِرُ الْعُقُولَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى بِنُونِ التَّعْظِيمِ لِتَكُونَ عَظَمَةُ الْمُعْطِي دَالَّةً عَلَى عَظَمَةِ العطاء، نظيره قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ أَبْوَابِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانَ صَبِيًّا لَا أَبَ لَهُ وَلَا أُمَّ لَهُ نَشَأَ فِي قَوْمٍ جُهَّالٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ قدوة للعالمين، وهديا للخلق أجمعين. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 9]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لما تكمل «1» بِتَيْسِيرِ جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمَرَ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَامًّا وَفَوْقَ التَّمَامِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام تاما بمقتضى قوله: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى [الأعلى: 8] أمر بِأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ فَوْقَ التَّمَامِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَذَكِّرْ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ يَقْتَضِي تَكْمِيلَ النَّاقِصِينَ وَهِدَايَةَ الْجَاهِلِينَ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَيَّاضًا لِلْكَمَالِ، فكان تاما وفوق التمام، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ سَوَاءٌ نَفَعَتْهُمُ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ، فَمَا الْمُرَادُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى؟ الجواب: أن المعلق بأن عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النُّورِ: 33] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ/ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَةِ: 172] وَمِنْهَا قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النِّسَاءِ: 101] فَإِنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْخَوْفُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ [الْبَقَرَةِ: 283] وَالرَّهْنُ جَائِزٌ مَعَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 230] وَالْمُرَاجَعَةُ جَائِزَةٌ بِدُونِ هذا الظن، إذا
__________
(1) في الأصل (تكمل) والمعنى عليها ظاهر كما في سياق الكلام ولعل (تكفل) أنسب هنا.(31/132)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ ذَكَرُوا لِذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ بَاشَرَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي عُلِمَ فِيهَا إِفْضَاءُ تِلْكَ الْوَسِيلَةِ إِلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، كَانَ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْجَبَ مِنَ الصُّورَةِ الَّتِي عُلِمَ فِيهَا عَدَمُ ذَلِكَ الْإِفْضَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَشْرَفَ الْحَالَتَيْنِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وَالتَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ تَنْفَعْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبَعْثُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالذِّكْرَى، كَمَا يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ إِذَا بَيَّنَ لَهُ الْحَقَّ: قَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ فَيَكُونُ مُرَادُهُ الْبَعْثَ عَلَى الْقَبُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى تَنْبِيهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: ادْعُ فُلَانًا إِنْ أَجَابَكَ، وَالْمَعْنَى وَمَا أَرَاهُ يُجِيبُكَ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَتْ دَعْوَتُهُ أَكْثَرَ كَانَ عُتُوُّهُمْ أكثر، وكان عليه السلام يحترق «1» حَسْرَةً عَلَى ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] إِذِ التَّذْكِيرُ الْعَامُّ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَأَمَّا التَّكْرِيرُ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ رَجَاءِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَيَّدَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِالْعَوَاقِبِ، أَمَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: رُوِيَ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى. فَأَمْرُ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ شَيْءٌ وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير وَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: التَّذْكِيرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هَلْ مَضْبُوطٌ مِثْلُ أن يذكرهم عشرات مرات، أَوْ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَكُونُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الضَّابِطَ فِيهِ هو العرف والله أعلم. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 10]
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرِ الْمَعَادِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ وُجُودَهُ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ فِيهِ لا بالنفي ولا بالإثبات، وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِهِ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ تَكُونُ الْخَشْيَةُ حَاصِلَةً لَهُمَا، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا خَشْيَةَ لَهُ وَلَا خَوْفَ إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الَّذِي يَخْشَى هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ وَعَارِفًا بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قَاطِعًا بِصِحَّةِ الْمَعَادِ/ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى مَنْ هُوَ، وَلَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالذِّكْرَى مَبْنِيًّا عَلَى حُصُولِ الْخَشْيَةِ فِي الْقَلْبِ، وَصِفَاتُ الْقُلُوبِ مِمَّا لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ تَعْمِيمُ الدَّعْوَةِ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَذْكِيرُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالتَّذْكِيرِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَعْمِيمِ التَّذْكِيرِ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْخَشْيَةَ حَاصِلَةٌ لِلْعَامِلِينَ وَلِلْمُتَوَقِّفِينَ غَيْرِ الْمُعَانِدِينَ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مُتَوَقِّفُونَ غَيْرُ مُعَانِدِينَ وَالْمُعَانِدُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَى الْمُتَوَقِّفِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الْغَلَبَةُ الْعَارِفُونَ كَانَتِ الْغَلَبَةُ الْعَظِيمَةُ لِغَيْرِ الْمُعَانِدِينَ، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُعَانِدِينَ، إِنَّمَا يُعَانِدُونَ بِاللِّسَانِ، فَأَمَّا الْمُعَانِدُ فِي قلبه بينه وبين نفسه
__________
(1) في الأصل (يحترق) والمناسب يتحرق لاشتياق وهو من تحريف النساخ (الصاوي) .(31/133)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَوْ إِنْ كَانَ فَهُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ التَّخْوِيفَ بِأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ الكبرى وأنه لا يموت فيها ولا يحيى انْكَسَرَ قَلْبُهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ وَيَنْتَفِعَ أَغْلَبُ الْخَلْقِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الْمُعْرِضُ فَنَادِرٌ، وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُهُ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يُوجِبُ تَعْمِيمَ التذكير.
المسألة الثانية: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى سَوْفَ يَذَّكَّرُ وَسَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حِينٍ بِمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فَهُوَ بَعْدَ طول المدة يذكر، والله أعلم.
المسألة الثالثة: الْعِلْمُ إِنَّمَا يُسَمَّى تَذَكُّرًا إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ أَوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ وَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِلْكَفَّارِ فَكَيْفَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالتَّذَكُّرِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ لِقُوَّةِ الدَّلَائِلِ وَظُهُورِهَا كَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا، ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَالْعِنَادِ. فَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ تعالى بالتذكر.
المسألة الرابعة: قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : الآيات 11 الى 12]
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12)
فَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَقْسَامَ الْخَلْقِ ثَلَاثَةٌ الْعَارِفُونَ وَالْمُتَوَقِّفُونَ وَالْمُعَانِدُونَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا خَوْفٌ وَخَشْيَةٌ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الدَّعْوَةِ وَيَنْتَفِعَ بِهَا، فَيَكُونُ الْأَشْقَى هُوَ الْمُعَانِدُ الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ إِلَى الدَّعْوَةِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى وفيه مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ النَّارَ الْكُبْرى وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْكُبْرَى نَارُ جَهَنَّمَ، وَالصُّغْرَى نَارُ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي الْآخِرَةِ نِيرَانًا وَدَرَكَاتٍ مُتَفَاضِلَةً كَمَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا ذُنُوبًا وَمَعَاصِيَ مُتَفَاضِلَةً، وَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ أَشْقَى الْعُصَاةِ كَذَلِكَ يَصْلَى أَعْظَمَ النِّيرَانِ وَثَالِثُهَا: / أَنَّ النَّارَ الْكُبْرَى هِيَ النَّارُ السُّفْلَى، وَهِيَ تُصِيبُ الْكُفَّارَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ وَعَتَبَةَ وَأُبَيٍّ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ هَذَا التَّرْتِيبِ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكر هاهنا قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَذَّكَّرُ وَيَخْشَى وَالثَّانِي:
الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، لَكِنَّ وُجُودَ الْأَشْقَى يَسْتَدْعِي وُجُودَ الشَّقِيِّ فَكَيْفَ حَالُ هَذَا الْقِسْمِ؟ وَجَوَابُهُ:
أَنَّ لَفْظَةَ الْأَشْقَى لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الشَّقِيِّ إِذْ قَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: 24] وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الشَّقِيُّ الَّذِي يَصْلَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:(31/134)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
هَذَا مَا قِيلَ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِرَقَ الثَّلَاثَةَ، الْعَارِفُ وَالْمُتَوَقِّفُ وَالْمُعَانِدُ فَالسَّعِيدُ هُوَ الْعَارِفُ، وَالْمُتَوَقِّفُ لَهُ بَعْضُ الشَّقَاءِ وَالْأَشْقَى هُوَ الْمُعَانِدُ الَّذِي بَيَّنَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الدَّعْوَةِ ولا يصغى إليها ويتجنبها. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 13]
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ، كَمَا قَالَ: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فَاطِرٍ: 36] وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ تَقُولُ لِلْمُبْتَلَى بِالْبَلَاءِ الشَّدِيدِ لَا هُوَ حَيٌّ وَلَا هُوَ مَيِّتٌ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ أَنَّ نَفْسَ أَحَدِهِمْ فِي النَّارِ تَصِيرُ فِي حَلْقِهِ فَلَا تَخْرُجُ فَيَمُوتُ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا مِنَ الْجِسْمِ فَيَحْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قِيلَ: ثُمَّ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَفْظَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الصَّلَى فَهُوَ مُتَرَاخٍ عَنْهُ فِي مراتب الشدة. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 14]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: تُكْثِرُ مِنَ التَّقْوَى لِأَنَّ مَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُعْتَضِدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
1، 2] أَثْبَتَ الْفَلَاحَ لِلْمُسْتَجْمِعِينَ لِتِلْكَ الْخِصَالِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ: 5] وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ مَا يَجِبُ التَّزَكِّي عَنْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّزَكِّي عَمَّا مَرَّ ذِكْرُهُ قَبْلَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ المراد هاهنا: قَدْ/ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى عَنِ الْكُفْرِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسَمَّى الْكَامِلِ، وَأَكْمَلُ أَنْوَاعِ التَّزْكِيَةِ هُوَ تَزْكِيَةُ الْقَلْبِ عَنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ فَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى: تَزَكَّى قَوْلُ: لَا إِلَهَ إلا الله. أما قوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 15]
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَكَرَ مَعَادَهُ وَمَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَصَلَّى لَهُ. وَأَقُولُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مُتَعَيِّنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرَاتِبَ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا: إِزَالَةُ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ عَنِ الْقَلْبِ وَثَانِيهَا: اسْتِحْضَارُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَثَالِثُهَا: الِاشْتِغَالُ بِخِدْمَتِهِ.
فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمُرَادُ بِالتَّزْكِيَةِ في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] .(31/135)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
وَثَانِيهَا: هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ إِلَّا الْمَعْرِفَةَ.
وَثَالِثُهَا: الْخِدْمَةُ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَصَلَّى فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ فَمَنِ اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَارِحِهِ وَأَعْضَائِهِ أَثَرُ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ.
وَثَانِيهَا: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يَعْنِي مَنْ تَصَدَّقَ قَبْلَ مُرُورِهِ إِلَى الْعِيدِ:
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى يَعْنِي
ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ الْإِمَامِ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ عُمَرَ وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الصَّلَاةِ عَلَى ذِكْرِ الزَّكَاةِ لَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةُ فِطْرٍ. أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ أَثْنَى عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:
14] أَيْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ وَذَكَرَ رَبَّهُ بِالتَّوْحِيدِ فِي الصَّلَاةِ فَصَلَّى لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّكَاةَ وَالصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَتَيْنِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَرَابِعُهَا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَالِ بَلْ زَكَاةَ الْأَعْمَالِ أَيْ مَنْ تَطَهَّرَ فِي أَعْمَالِهِ مِنَ الرِّيَاءِ وَالتَّقْصِيرِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ أَنْ يُقَالَ: فِي الْمَالِ زَكَّى وَلَا يُقَالُ تَزَكَّى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 18] ، وَخَامِسُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أَيْ كَبَّرَ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْعِيدِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ وَسَادِسُهَا: الْمَعْنَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فِي صِلَاتِهِ وَلَا تَكُونُ صِلَاتُهُ كَصَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفُقَهَاءُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لَيْسَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَالْعَطْفَ يَسْتَدْعِي الْمُغَايَرَةَ، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ جَائِزٌ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، وَصَلَّى فَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَكْرَمْتَنِي فَزُرْتَنِي وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ زُرْتَنِي فَأَكْرَمْتَنِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ: تَرْكُ الْعَمَلِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَدْحِ كُلِّ مَنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَصَلَّى عَقِيبَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الذِّكْرَ هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ. فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَذَكَرَ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ الَّتِي أَحَدُ أَجْزَائِهَا التَّكْبِيرُ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الاستدلال. ثم قال تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 16]
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16)
وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّاءِ وَيُؤَكِّدُهُ حَرْفُ أُبَيٍّ، أَيْ بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الدُّنْيَا أُحْضِرَتْ، وَعُجِّلَ لَنَا طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا وَنِسَاؤُهَا وَلَذَّاتُهَا وَبَهْجَتُهَا، وَإِنَّ الْآخِرَةَ لَغَيْبٌ لَنَا وَزُوِيَتْ عَنَّا، فَأَخَذْنَا بِالْعَاجِلِ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُؤْثِرُونَ بِالْيَاءِ يعني الأشقى. ثم قال تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 17]
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17)
وَتَمَامُهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ خَيْرًا وَأَبْقَى فَهُوَ آثَرُ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ آثَرَ مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ كَانُوا يؤثرون الدنيا،(31/136)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْآخِرَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الدُّنْيَا لَذَّاتُهَا مَخْلُوطَةٌ بِالْآلَامِ، وَالْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ الْفَانِي. ثُمَّ قَالَ:
[سورة الأعلى (87) : آية 18]
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِلَفْظِ (هَذَا) مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَمِيعُ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالْوَعْدِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ هُوَ مِنْ قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] إِشَارَةً إِلَى تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي. أَمَّا الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ فَعَنْ جَمِيعِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَعَنْ جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى: 15] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الرُّوحِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تعالى، وأما قوله:
فَصَلَّى [الأعلى: 15] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ الْجَوَارِحِ وَتَزْيِينِهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا [الأعلى: 16] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدنيا.
وأما قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: 17] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ أُمُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى وَهَذَا الْوَجْهُ كما تأكد بالعقل فَالْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ،
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ هَلْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ فَقَالَ: اقْرَأْ يَا أبا ذر قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14]
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 196] وَقَوْلِهِ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] . وقوله تعالى:
[سورة الأعلى (87) : آية 19]
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بيان لقوله: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: 18] وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي صُحُفِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي مِنْهَا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى،
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفَرْقَانَ،
وَقِيلَ: إِنَّ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِلِسَانِهِ عَارِفًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/137)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
وَهِيَ عِشْرُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْغَاشِيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْقِيَامَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِهَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ مَا أَحَاطَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ فَهُوَ غَاشٍ لَهُ، وَالْقِيَامَةُ كَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى الْخَلْقِ بَغْتَةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 107] ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ جَمِيعًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ بِالْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ الْقَوْلُ الثَّانِي: الْغَاشِيَةُ هِيَ النَّارُ أَيْ تَغْشَى وُجُوهَ الْكَفَرَةِ وَأَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إِبْرَاهِيمَ: 50] وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: 41] وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
الْغَاشِيَةُ أَهْلُ النَّارِ يَغْشَوْنَهَا وَيَقَعُونَ فِيهَا وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الشَّقَاوَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّعَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ: هَلْ أَتاكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ حَالِهَا، وَحَالِ النَّاسِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا قَوْمُهُ عَارِفًا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ إِنْ دَلَّ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَالَ الْعُصَاةِ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الْمُطِيعِينَ. فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ فَلَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا عَرَّفَهُ اللَّهُ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، لَا جَرَمَ قَالَ:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ وَصْفٌ لِأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْوُجُوهَ بِأَنَّهَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِ، لَكِنَّ الْخُشُوعَ يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ فَعَلَّقَهُ بِالْوَجْهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 22] وَقَوْلُهُ: خاشِعَةٌ أَيْ ذَلِيلَةٌ قَدْ عَرَاهُمُ الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] وَقَالَ: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ/ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ(31/138)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ
[الشُّورَى: 45] وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الذُّلُّ فِي الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ ضِدُّ الْكِبْرِ الَّذِي مَحَلُّهُ الرَّأْسُ وَالدِّمَاغُ. وَأَمَّا الْعَامِلَةُ فَهِيَ الَّتِي تَعْمَلُ الْأَعْمَالَ، وَمَعْنَى النَّصَبِ الدَّؤُوبُ فِي الْعَمَلِ مَعَ التَّعَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوُجُوهُ الْمُمْكِنَةُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ هِيَ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بَعْضُهَا فِي الْآخِرَةِ وَبَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعِينَ أَيْ ذَلِيلِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا تَكَبَّرَتْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَعَامِلِينَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِي النَّارِ عَمَلًا تَتْعَبُ فِيهِ وَهُوَ جَرُّهَا السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ الثَّقِيلَةَ، عَلَى مَا قَالَ: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً [الْحَاقَّةِ: 32] وَخَوْضُهَا فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ بِحَيْثُ تَرْتَقِي عَنْهُ تَارَةً وَتَغُوصُ فِيهِ أُخْرَى وَالتَّقَحُّمُ فِي حَرِّ جَهَنَّمَ وَالْوُقُوفُ عُرَاةً حُفَاةً جِيَاعًا عِطَاشًا فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَنَاصِبِينَ لِأَنَّهُمْ دَائِمًا يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ سَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعِقَابِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهَا بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا خَشَعَتْ لِلَّهِ وَعَمِلَتْ وَنَصِبَتْ فِي أَعْمَالِهَا مِنَ الصَّوْمِ الدَّائِبِ وَالتَّهَجُّدِ الْوَاصِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَطَاعُوا ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَخَيَّلُوهَا فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَبَدُوا اللَّهَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا ذَلِكَ الْمُتَخَيَّلَ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ، فَلَا جَرَمَ لَا تَنْفَعُهُمْ تِلْكَ الْعِبَادَةُ أَصْلًا وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الصِّفَاتِ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ وَبَعْضَهَا فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا خَاشِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا عَامِلَةً نَاصِبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لَمْ تَنْتَفِعْ بِعَمَلِهَا وَنَصَبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَمْتَنِعُ وَصْفُهُمْ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْضُ أَوْصَافِ الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَادُ ذِكْرُ الْآخِرَةِ، إِذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَفْهُومًا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَاشِعَةٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا عَامِلَةً نَاصِبَةً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، فَهِيَ إِذَنْ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً فِي الْآخِرَةِ ثَانِيهَا: أَنَّهَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، فَخُشُوعُهَا فِي الدُّنْيَا خَوْفُهَا الدَّاعِي لَهَا إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، وَعَمَلُهَا هُوَ صَلَاتُهَا وَصَوْمُهَا وَنَصَبُهَا فِي الْآخِرَةِ هُوَ مُقَاسَاةُ الْعَذَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزُّمَرِ: 47] وَقُرِئَ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ عَلَى الشَّتْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفِيَّةَ مَكَانِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ نَعُوذُ بالله منها. أما مكانهم فقوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 4]
تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4)
يُقَالُ: صَلَى بِالنَّارِ يَصْلَى أَيْ لَزِمَهَا وَاحْتَرَقَ بِهَا/ وَقُرِئَ بِنَصْبِ التَّاءِ وحجته قوله: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 163] وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ بِرَفْعِ التَّاءِ مِنْ أَصْلَيْتُهُ النَّارَ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31] وقوله: وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ «1» وصلوه مِثْلُ أَصْلُوهُ، وَقَرَأَ قَوْمٌ تَصَلَّى بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ: الْمَصْلَى عِنْدَ الْعَرَبِ، أَنْ يَحْفِرُوا حَفِيرًا فَيَجْمَعُوا فِيهِ جَمْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَى شَاةٍ فَيَدُسُّوهَا وَسَطَهُ، فَأَمَّا مَا يُشْوَى فَوْقَ الْجَمْرِ أَوْ عَلَى الْمِقْلَاةِ أَوْ فِي التَّنُّورِ، فَلَا يُسَمَّى مَصْلَى. وَقَوْلُهُ: حامِيَةً أَيْ قَدْ أُوقِدَتْ، وأحميت المدة
__________
(1) هكذا بالنسخ وهي غير موجودة في المصحف ولعله يريد وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115](31/139)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
الطَّوِيلَةَ، فَلَا حَرَّ يَعْدِلُ حَرَّهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ حَمِيَتْ فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ الله. وأما مشروبهم قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 5]
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
الْآنِي الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ مِنَ الْإِينَاءِ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا أَخَّرَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آنَيْتَ وَآذَيْتَ»
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 44] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ حَرَّهَا بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدنيا لذابت. وأما مطعومهم فقوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 6]
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّرِيعَ مَا هُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: لَا أَدْرِي مَا الضَّرِيعُ وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْئًا وَثَانِيهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الضَّرِيعُ بِمَعْنَى الْمُضْرِعِ كَالْأَلِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَدِيعِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ وَالْمُسْمِعِ وَالْمُبْدِعِ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنْ طَعَامٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يَضْرَعُوا وَيَذِلُّوا عِنْدَ تَنَاوُلِهِ لِمَا فيه من الخشونة والمرارة والحرار وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّرِيعَ مَا يَبِسَ مِنَ الشِّبْرِقِ، وَهُوَ جِنْسٌ مِنَ الشَّوْكِ تَرْعَاهُ الْإِبِلُ مَا دَامَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ تَحَامَتْهُ وَهُوَ سُمٌّ قاتل، قال أبو ذويب:
رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إِذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضَرِيعًا عَادَ عَنْهُ النَّحَائِصُ
جَمْعُ نُحُوصٍ وَهِيَ الْحَائِلُ مِنَ الْإِبِلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْخَلِيلُ فِي كِتَابِهِ: وَيُقَالُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي عَلَى الْعَظْمِ تَحْتَ اللَّحْمِ هِيَ الضَّرِيعُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْقِلَّةِ، فَلَا جَرَمَ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَخَامِسُهَا: قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: الضَّرِيعُ السَّلَا، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: وَكَيْفَ يَسْمَنُ مَنْ كَانَ يَأْكُلُ الشَّوْكَ! وَفِي الْخَبَرِ الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّارِ شَبِيهُ الشَّوْكِ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الشَّرَابِ وَهَذَا الطَّعَامِ، بَيَانُ نِهَايَةِ ذُلِّهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَقَامُوا فِي تِلْكَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ عِطَاشًا جِيَاعًا، ثُمَّ أُلْقُوا فِي النَّارِ فَرَأَوْا فِيهَا مَاءً وَشَيْئًا مِنَ النَّبَاتِ، فَأَحَبَّ أُولَئِكَ الْقَوْمُ تَسْكِينَ مَا بِهِمْ مِنَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ فَوَجَدُوا الْمَاءَ حَمِيمًا لَا يَرْوِي بَلْ يَشْوِي، وَوَجَدُوا النَّبَاتَ مِمَّا لَا يُشْبِعُ وَلَا يُغْنِي مَنْ جُوعٍ، فَأَيِسُوا وَانْقَطَعَتْ أَطْمَاعُهُمْ فِي إِزَالَةِ مَا بِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْفِ: 29] / وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَا تَزُولُ ولا تنقطع، نعوذ بالله منها وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 35، 36] وقال هاهنا: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وَالضَّرِيعُ غَيْرُ الْغِسْلِينِ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ مَنْ طَعَامُهُ الزَّقُّومُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الْغِسْلِينُ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَعَامُهُ الضَّرِيعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الْحَمِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَابُهُ الصَّدِيدُ، لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغِسْلِينُ من الضريع ويكون ذلك كقوله: ما لي طعام إلا من الشاه، ثم يقول: ما لي طَعَامٌ إِلَّا مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنَ الشَّاةِ.(31/140)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يُوجَدُ النَّبْتُ فِي النَّارِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الضَّرِيعَ نَبْتٌ فِي النَّارِ يَأْكُلُونَهُ، وَلَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِثْلُهُ، أَيْ أَنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِمَا لَا يُشْبِعُهُمْ أَوْ يُعَذَّبُونَ بِالْجُوعِ كَمَا يُعَذَّبُ مَنْ قُوتُهُ الضَّرِيعُ الثَّانِي: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبْتَ يُوجَدُ فِي النَّارِ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسْتَبْعَدْ بَقَاءُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَعَ كَوْنِهِ لَحْمًا وَدَمًا فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبَادِ، فَكَذَا هاهنا وَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَلَاسِلِ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَعَقَارِبِهَا وحياتها. أما قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 7]
لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
فَهُوَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ أَوْ مَجْرُورُهُ عَلَى وَصْفِ طَعَامٍ أَوْ ضَرِيعٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّ طَعَامَهُمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَطَاعِمِ الْإِنْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوْكِ وَالشَّوْكُ مِمَّا يَرْعَاهُ الْإِبِلُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الْإِبِلُ، فَإِذَنْ مَنْفَعَتَا الْغِذَاءِ مُنْتَفِيَتَانِ عَنْهُ، وَهُمَا إِمَاطَةُ الْجُوعِ وَإِفَادَةُ الْقُوَّةِ وَالسِّمَنِ فِي الْبَدَنِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا طَعَامَ لَهُمْ أَصْلًا لِأَنَّ الضَّرِيعَ لَيْسَ بِطَعَامٍ لِلْبَهَائِمِ فَضْلًا عَنِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الطَّعَامَ مَا أَشْبَعَ وَأَسْمَنَ وَهُوَ مِنْهُمَا بِمَعْزِلٍ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ لِفُلَانٍ ظِلٌّ إِلَّا الشَّمْسَ تُرِيدُ نَفْيَ الظِّلِّ عَلَى التَّوْكِيدِ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَتْ: إِنَّ الضَّرِيعَ لَتَسْمَنُ عَلَيْهِ إِبِلُنَا، فَنَزَلَتْ: لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَعَنَّتُوا بِذَلِكَ الْكَلَامِ كَذِبًا فَيُرَدُّ قَوْلُهُمْ بِنَفْيِ السِّمَنِ وَالشِّبَعِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْدُقُوا فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ طَعَامَهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَرِيعِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرِيعٍ غَيْرِ مُسْمِنٍ وَلَا مُغْنٍ مِنْ جُوعٍ، قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ فِي كُلِّ طَعَامِهِمْ أَنْ لَا يُغْنِيَ مِنْ جُوعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ وَرَأْفَةٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي العقاب.
[سورة الغاشية (88) : آية 8]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ، أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَرَ وَصْفَ أَهْلِ الثَّوَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ وَصَفَ دَارَ الثَّوَابِ ثَانِيًا أَمَّا وَصْفُ أَهْلِ الثَّوَابِ فَبِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي ظَاهِرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ناعِمَةٌ أَيْ ذَاتُ بَهْجَةٍ وَحُسْنٍ، كَقَوْلِهِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو متنعمة. / والثاني: في باطنهم وهو قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 9]
لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ حَمِدُوا سَعْيَهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ. لِمَا فَازُوا بِسَبَبِهِ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ كَالرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيُجْزَى عَلَيْهِ بِالْجَمِيلِ، وَيُظْهِرُ لَهُ مِنْهُ عَاقِبَةً مَحْمُودَةً فَيَقُولُ، مَا أَحْسَنَ مَا عَمِلْتُ، وَلَقَدْ وُفِّقْتُ لِلصَّوَابِ فِيمَا صَنَعْتُ فَيُثَنِي عَلَى عَمَلِ نَفْسِهِ وَيَرْضَاهُ وَالثَّانِي: الْمُرَادُ لِثَوَابِ سَعْيِهَا فِي الدُّنْيَا رَاضِيَةٌ إِذَا شَاهَدُوا ذَلِكَ الثَّوَابَ، وَهَذَا أَوْلَى إِذِ الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِي يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ يَبْلُغُ حَدَّ الرِّضَا حَتَّى لَا يُرِيدُوا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَمَّا وَصْفُ دَارِ الثَّوَابِ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهَا بِأُمُورٍ سَبْعَةٍ: أحدها قوله:
[سورة الغاشية (88) : آية 10]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)(31/141)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ وَالْمَنْقَبَةِ، أَمَّا الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ فَذَاكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، قَالَ عَطَاءٌ: الدَّرَجَةُ مِثْلُ مَا بين السماء والأرض. وثانيها: قوله:
[سورة الغاشية (88) : آية 11]
لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَا تَسْمَعُ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ أَحَدُهَا: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لَاغِيَةً بِالنَّصْبِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْخِطَابِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَكُونَ لَا تَسْمَعُ يَا مُخَاطَبَ فِيهَا لَاغِيَةً، وَهَذَا يُفِيدُ السَّمَاعَ فِي الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ [الْإِنْسَانِ: 20] وَقَوْلِهِ: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ [الْإِنْسَانِ: 19] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذه التاء عائدة إلى وُجُوهٌ [الغاشية: 8] ، وَالْمَعْنَى لَا تَسْمَعُ الْوُجُوهُ فِيهَا لَاغِيَةً وَثَانِيهَا: قَرَأَ نَافِعٌ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ مَرْفُوعَةً عَلَى التَّأْنِيثِ لَاغِيَةٌ بِالرَّفْعِ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو لَا يُسْمَعُ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَضْمُومَةً عَلَى التَّذْكِيرِ لَاغِيَةٌ بِالرَّفْعِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْمُؤَنَّثِ إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُهُ. وَكَانَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ حَائِلٌ حَسُنَ التَّذْكِيرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إن امرءا غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا لَمَغْرُورُ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّاغِيَةِ اللَّغْوُ فَالتَّأْنِيثُ عَلَى اللَّفْظِ وَالتَّذْكِيرُ عَلَى الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: لاغِيَةً ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو لَغْوًا وَلَاغِيَةً، فَاللَّاغِيَةُ وَاللَّغْوُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بقوله سبحانه: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً [مريم: 62] ، وَثَانِيهَا:
أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْمَعْنَى لَا يَسْمَعُ كَلِمَةً لَاغِيَةً وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَخْفَشُ: لَاغِيَةً أَيْ كلمة ذات لغو كما تقول: فارس ودارس لِصَاحِبِ الْفَرَسِ وَالدِّرْعِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّفْسِيرِ فَلَهُمْ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ مُنَزَّهَةٌ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّهَا مَنْزِلُ جِيرَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا نَالُوهَا بِالْجِدِّ وَالْحَقِّ لَا بِاللَّغْوِ وَالْبَاطِلِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَجْلِسٍ فِي الدُّنْيَا شَرِيفٌ مُكَرَّمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبَرَّأً عَنِ اللَّغْوِ وَكُلُّ مَا كَانَ أَبْلَغَ فِي هَذَا كَانَ أَكْثَرَ جَلَالَةً، هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْقَفَّالُ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ لَا يَتَكَلَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا بِالْحِكْمَةِ/ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا كَذِبًا وَلَا بُهْتَانًا وَلَا كُفْرًا بِاللَّهِ وَلَا شَتْمًا وَالرَّابِعُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَسْمَعُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ الْحَلِفَ عِنْدَ شَرَابٍ كَمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الدُّنْيَا إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قَرَّرَهُ الْقَفَّالُ الْخَامِسُ: قَالَ الْقَاضِي: اللَّغْوُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى عَنْهُمْ ذَلِكَ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا يُؤْذِي سامعه على طريق الأولى. الصفة الثالثة للجنة: قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 12]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: يُرِيدُ عُيُونًا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: 14] قَالَ الْقَفَّالُ:
فِيهَا عَيْنُ شَرَابٍ جَارِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ وَتَجْرِي لَهُمْ كَمَا أَرَادُوا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا أَدْرِي بِمَاءٍ أو غيره. الصفة الرابعة: قوله تعالى:(31/142)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
[سورة الغاشية (88) : آية 13]
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
أَيْ عَالِيَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنَ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهُ رَبُّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ، وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَيَرْتَفِعُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ وَلِيُّ اللَّهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا تَطَامَنَتْ لَهُ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهَا ارْتَفَعَتْ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَيْضًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي سُرُورِ الْمُكَلَّفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ سُرُرٌ أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ فِي السَّمَاءِ. الصفة الخامسة: قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 14]
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
الْأَكْوَابُ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا قَالَ قَتَادَةُ: فَهِيَ دُونُ الْأَبَارِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَوْضُوعَةٌ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِأَهْلِهَا كَالرَّجُلِ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّجُلِ شَيْئًا فَيَقُولُ هُوَ هاهنا مَوْضُوعٌ بِمَعْنَى مُعَدٍّ وَثَانِيهَا: مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ الْعُيُونِ الْجَارِيَةِ كُلَّمَا أَرَادُوا الشُّرْبَ وَجَدُوهَا مَمْلُوءَةً من الشرب وَثَالِثُهَا: مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ، وَتَلَذُّذِهِمْ بِالشَّرَابِ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَوْضُوعَةً عَنْ حَدِّ الْكِبَرِ أَيْ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَقَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً. [الإنسان: 16] . الصفة السادسة:
قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 15]
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
النَّمَارِقُ هِيَ الْوَسَائِدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَاحِدُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَزَادَ الْفَرَّاءُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ نِمْرِقَةً بِكَسْرِ النُّونِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَسَائِدُ مَصْفُوفَةٌ بَعْضُهَا إِلَى جَانِبِ بَعْضٍ أَيْنَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ جَلَسَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَاسْتَنَدَ إِلَى أُخْرَى. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة الغاشية (88) : آية 16]
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
يَعْنِي الْبُسُطَ وَالطَّنَافِسَ وَاحِدُهَا زِرْبِيَّةٌ وَزِرْبِيٌّ بِكَسْرِ الزَّايِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَتَفْسِيرُ مَبْثُوثَةٌ مَبْسُوطَةٌ مَنْشُورَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ في المجالس.
[سورة الغاشية (88) : آية 17]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَسَّمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَوَصَفَ أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا جَرَمَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْمَعَادِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْوَصْفِ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَازَ عَلَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَإِيجَادِ قَادِرٍ، وَلَمَّا رَأَيْنَا هَذِهِ الْأَجْسَامَ مَخْلُوقَةً عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ عَالِمٌ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِخَلْقِهِ فِي نَعْتِ الْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَنِيٌّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى(31/143)
أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا غَنِيًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى النَّاسَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَلْدَةٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ آخَرَ «1» حَتَّى يتنظم مِنْ مَجْمُوعِهِمْ مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَثَبَتَ أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ دَلَالَةَ التَّوْحِيدِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُجَانَسَةٍ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالسَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ لِمَ بَدَأَ بِذِكْرِ الْإِبِلِ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَذِكْرَ جَمِيعِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِكَثْرَتِهَا وَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ عَائِدًا، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِسُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَنَاسِبَةٍ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَلَوْ ذَكَرَ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمُورًا غَيْرَ مُتَنَاسِبَةٍ بَلْ مُتَبَاعِدَةً جِدًّا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْخَوَاصِّ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ، ثُمَّ نُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ الْإِبِلُ لَهُ خَوَاصٌّ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُقْتَنَى أَصْنَافًا شَتَّى فَتَارَةً يُقْتَنَى لِيُؤْكَلَ لَحْمُهُ وَتَارَةً لِيُشْرَبَ لَبَنُهُ وَتَارَةً لِيَحْمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَسْفَارِ وَتَارَةً/ لِيَنْقُلَ أَمْتِعَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَتَارَةً لِيَكُونَ لَهُ بِهِ زِينَةٌ وَجَمَالٌ وَهَذِهِ الْمَنَافِعُ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 71، 72] ، قال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْلِ: 5- 7] وَإِنَّ شَيْئًا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إِلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ لِأَنَّهَا إِنْ جُعِلَتْ حَلُوبَةً سَقَتْ فَأَرْوَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَكُولَةً أَطْعَمَتْ وَأَشْبَعَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ رَكُوبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقْطَعَ بِهَا مِنَ الْمَسَافَاتِ الْمَدِيدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِحَيَوَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِمَا رُكِّبَ فِيهَا مِنْ قُوَّةِ احْتِمَالِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى السَّيْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْعَطَشِ وَالِاجْتِزَاءِ مِنَ الْعُلُوفَاتِ بِمَا لَا يَجْتَزِئُ حَيَوَانٌ آخَرُ، وَإِنْ جُعِلَتْ حَمَلَةً اسْتُغِلَّتْ بِحَمْلِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا سِوَاهَا، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ كَانَ أَعْظَمَ الْحَيَوَانَاتِ وَقْعًا فِي قَلْبِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا دِيَةَ قَتْلِ الْإِنْسَانِ إِبِلًا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ مُلُوكِهِمْ إِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي إِعْطَاءِ الشَّاعِرِ الَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ أَعْطَاهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، لِأَنَّ امْتِلَاءَ الْعَيْنِ مِنْهُ أَشَدُّ مِنِ امْتِلَاءِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
[النَّحْلِ: 6] وَمِنْهَا أَنِّي كُنْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَضَلَلْنَا الطَّرِيقَ فقدموا جملا وتبعوه فكان
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعله سقط شيء وصوابه: بل لا بد في كل بلدة أن يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ وغيره مشغولا بمهم آخر.(31/144)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
ذَلِكَ الْجَمَلُ يَنْعَطِفُ مِنْ تَلٍّ إِلَى تَلٍّ وَمِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَالْجَمِيعُ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الطَّرِيقِ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَتَعَجَّبْنَا مِنْ قُوَّةِ تَخَيُّلِ ذَلِكَ بِالْحَيَوَانِ أَنَّهُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ انْحَفَظَتْ فِي خَيَالِهِ صُورَةُ تلك المعاطف حتى أن الذين عَجَزَ جَمْعٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ اهْتَدَى إِلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعَمَلِ مُبَايِنَةٌ لِغَيْرِهَا فِي الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ لِأَضْعَفِ الْحَيَوَانَاتِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَمُبَايَنَةٌ لِغَيْرِهَا أَيْضًا فِي أَنَّهَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ ثُمَّ تَقُومُ، فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهَا تُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ فِي خِلْقَتِهَا وَتَرْكِيبِهَا وَيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ مِنْ أَعْرِفِ النَّاسِ بِأَحْوَالِ الْإِبِلِ فِي صِحَّتِهَا وَسَقَمِهَا وَمَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ حَسُنَ مِنَ الْحَكِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّأَمُّلِ فِي خلقتها. ثم قال تعالى:
[سورة الغاشية (88) : آية 18]
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
أَيْ رَفْعًا بَعِيدَ المدى بلا إمساك وبغير عمد.
[سورة الغاشية (88) : آية 19]
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
نَصْبًا ثَابِتًا فَهِيَ راسخة لا تميل ولا تزول.
[سورة الغاشية (88) : آية 20]
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
سَطْحًا بِتَمْهِيدٍ وَتَوْطِئَةٍ، فَهِيَ مِهَادٌ لِلْمُتَقَلِّبِ عَلَيْهَا، وَمِنَ/ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِكُرَةٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْكُرَةَ إِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ يَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا كَالسَّطْحِ،
وَقَرَأَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ خَلَقْتُ وَرَفَعْتُ وَنَصَبْتُ وَسَطَحْتُ
عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَتَاءُ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلْتُهَا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ الْإِبِلَ بِالسَّحَابِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِبِلَ مِنْ أَسْمَاءِ السَّحَابِ، كَالْغَمَامِ وَالْمُزْنِ وَالرَّبَابِ وَالْغَيْمِ وَالْغَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى السَّحَابَ مُشَبَّهًا بِالْإِبِلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، فَجَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّحَابُ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُنَاسِبَةُ ظَاهِرَةٌ. أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْإِبِلَ عَلَى مَفْهُومِهِ الْمَشْهُورِ، فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَانُوا يُسَافِرُونَ كَثِيرًا، لِأَنَّ بَلْدَتَهُمْ بَلْدَةٌ خَالِيَةٌ مِنَ الزَّرْعِ، وَكَانَتْ أَسْفَارُهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبِلِ، فَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فِي الْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ مُسْتَوْحِشِينَ مُنْفَرِدِينَ عَنِ النَّاسِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُحَادِثُهُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُشْغِلُ بِهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُشْغِلَ بَالَهُ بِالْفِكْرَةِ، فَإِذَا فَكَّرَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ وَقَعَ بَصَرُهُ أَوَّلَ الْأَمْرِ عَلَى الْجَمَلِ الَّذِي رَكِبَهُ، فَيَرَى مَنْظَرًا عَجِيبًا، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى فَوْقُ لَمْ يَرَ غَيْرَ السَّمَاءِ، وَإِذَا نَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا لَمْ يَرَ غَيْرَ الْجِبَالِ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى مَا تَحْتُ لَمْ يَرَ غَيْرَ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ وَقْتَ الْخَلْوَةِ وَالِانْفِرَادِ عَنِ الْغَيْرِ حَتَّى لَا تَحْمِلَهُ دَاعِيَةُ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ فِي وَقْتِ الْخَلْوَةِ فِي الْمَفَازَةِ الْبَعِيدَةِ لَا يَرَى شَيْئًا سِوَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا جَرَمَ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ دَالَّةٌ عَلَى الصَّانِعِ إِلَّا أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَكُونُ للحكمة(31/145)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
وَلِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ مَعًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ لِلْحِكْمَةِ فِيهَا نَصِيبٌ، وَلَيْسَ لِلشَّهْوَةِ فِيهَا نَصِيبٌ.
والقسم الأول: كالإنسان الحسن الوجه، والبساتين النُّزْهَةِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، إِلَّا أَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الشَّهْوَةِ وَمَطْلُوبَةٌ لِلنَّفْسِ، فَلَمْ يَأْمُرْ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَفِيهَا أَنْ تَصِيرَ دَاعِيَةُ الشَّهْوَةِ غَالِبَةً عَلَى دَاعِيَةِ الْحِكْمَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَسَبَبًا لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْسِ فِي مَحَبَّتِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِي صُورَتِهَا حُسْنٌ، وَلَكِنْ يَكُونُ داعية تركيبها حكم باللغة وَهِيَ مِثْلُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الإبل هاهنا أَوْلَى لِأَنَّ إِلْفَ الْعَرَبِ بِهَا أَكْثَرُ وَكَذَا السَّمَاءُ وَالْجِبَالُ وَالْأَرْضُ، فَإِنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ وَالْحَاجَةِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّهْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ بِحَيْثُ يَكْمُلُ نَصِيبُ الْحِكْمَةِ فِيهِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ زَحْمَةِ الشَّهْوَةِ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيهَا فَهَذَا مَا يَحْضُرُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَبِاللَّهِ التوفيق.
[سورة الغاشية (88) : آية 21]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الدَّلَائِلَ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ وَتَذْكِيرُ الرَّسُولِ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَأَمْثَالِهَا وَالْبَعْثِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِ تِلْكَ، وَذَلِكَ بَعْثٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالصَّبْرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ مَعَهُ، وَبَيَانِ أَنَّهُ إِنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا قَالَ:
إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ.
[سورة الغاشية (88) : آية 22]
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
قال صاحب «الكشاف» : بِمُصَيْطِرٍ بِمُسَلَّطٍ، كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وَقَوْلِهِ:
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 99] وَقِيلَ: هُوَ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ مَفْتُوحُ الطَّاءِ عَلَى أَنَّ سَيْطَرَ مُتَعَدٍّ عِنْدَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ مَا أُمِرْتَ إِلَّا بِالتَّذْكِيرِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْتُلَهُمْ، أَوْ تُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا، قَالُوا: ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَرْفِ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 37] . أما قوله تعالى:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 23 الى 24]
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
فَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، وَعَلَى هَذَا التقدير هذا الاستثناء، استثناء عما ذا؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَذَكِّرْ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ عن الضمير في عَلَيْهِمْ [الغاشية: 22] وَالتَّقْدِيرُ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ مَأْمُورًا بِالْقِتَالِ وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ لا تصبر مُسَلَّطًا إِلَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَمَا تَقُولُ في الكلام: قعدنا نتذكر الْعِلْمَ، إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يرغب، فكذا هاهنا التقدير لست(31/146)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
بِمَسْئُولٍ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ الَّذِي هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، قَالُوا وَعَلَامَةُ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا حُسْنُ دُخُولِ أَنَّ فِي الْمُسْتَثْنَى، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لَمْ يَحْسُنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ:
عِنْدِي مِائَتَانِ إِلَّا دِرْهُمًا، فَلَا تَدْخُلُ عليه أن، وهاهنا يَحْسُنُ أَنَّ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: إِلَّا أَنَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: (أَلَا مَنْ تَوَلَّى) عَلَى التَّنْبِيهِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ حَدَّ عَذَابِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْأَكْبَرُ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ عَذَابِ الْفِسْقِ دُونَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَةِ:
21] ، وَثَانِيهَا: هُوَ الْعَذَابُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ فِي النَّارِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ/ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَكْبَرُ حَاصِلًا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال والقول الأول أولى وأقرب. ثم قال تعالى:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
وَهَذَا كَأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: 24] وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ لِيُزِيلَ بِهِ عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنَهُ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَالَ: طِبْ نَفْسًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَانَدُوا وَكَذَّبُوا وَجَحَدُوا فَإِنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا، فَإِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ مُحَاسَبَةَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا تَكُونُ لِإِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ نَفْسِهِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِمَّا بِحُكْمِ الْوَعْدِ الَّذِي يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْخُلْفِ فِيهِ، وَإِمَّا فِي الْحِكْمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ لَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَاضِيًا بِذَلِكَ الظُّلْمِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ، فَلِهَذَا السبب كانت المحاسبة واجبة وهاهنا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ: إِيابَهُمْ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَجْهُهُ أَنْ يكون فيعالا مصدره أَيَّبَ فَيْعَلَ مِنَ الْإِيَابِ، أَوْ يَكُونُ أَصْلُهُ أَوَّابًا فَعَّالًا مِنْ أَوَّبَ، ثُمَّ قِيلَ: إِيوَابًا كَدِيوَانٍ فِي دَوَنَ، ثُمَّ فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِأَصْلِ سَيَدَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَائِدَةُ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ التَّشْدِيدُ بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ إِيابَهُمْ لَيْسَ إِلَّا إِلَى الْجَبَّارِ الْمُقْتَدِرِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَأَنَّ حِسَابَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِلَّا عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/147)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفجر
ثلاثون آية مكية
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِيهَا إِمَّا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ كَوْنِهَا دَلَائِلَ بَاهِرَةً عَلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ فَائِدَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ تُوجِبُ بَعْثًا عَلَى الشُّكْرِ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ اخْتِلَافًا شَدِيدًا، فَكُلُّ أَحَدٍ فَسَّرَهُ بِمَا رَآهُ أَعْظَمَ دَرَجَةً فِي الدِّينِ، وَأَكْثَرَ مَنْفَعَةً فِي الدُّنْيَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْفَجْرِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ الصُّبْحُ الْمَعْرُوفُ، فَهُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنِ انْقِضَاءِ اللَّيْلِ وَظُهُورِ الضَّوْءِ، وَانْتِشَارِ النَّاسِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ فِي طَلَبِ الْأَرْزَاقِ، وَذَلِكَ مُشَاكِلٌ لِنُشُورِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 34] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] وتمدح فِي آيَةٍ أُخْرَى بِكَوْنِهِ خَالَقًا لَهُ، فَقَالَ: فالِقُ الْإِصْباحِ [الْأَنْعَامِ: 96] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّهَارِ إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى الْجَمِيعِ، نَظِيرُهُ: وَالضُّحى [الضُّحَى: 1] وَقَوْلُهُ: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 2] وثانيها: أن المراد نفسه صَلَاةِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي مُفْتَتَحِ النَّهَارِ وَتَجْتَمِعُ لَهَا مَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاءِ: 78] أي تشهده مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فَجْرُ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ مِنْ خَصَائِصِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدَعُ الْحَجَّ وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يَأْتِي الْإِنْسَانُ فِيهِ بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّ الْحَاجَّ يُرِيدُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِذَبْحِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَدَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ الْقُرْبَانِ، / كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 107] الثَّانِي: أَرَادَ فَجْرَ ذِي الْحِجَّةِ(31/148)
لِأَنَّهُ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ شَهْرِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمُعَظَّمَةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ فَجْرُ الْمُحَرَّمِ، أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِالسِّنِينَ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَاسْتِئْنَافِ الْحِسَابِ بِشُهُورِ الْأَهِلَّةِ،
وَفِي الْخَبَرِ «أَنَّ أَعْظَمَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَجْرُ السَّنَةِ هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجَعَلَ جُمْلَةَ الْمُحَرَّمِ فَجْرًا وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِالْفَجْرِ الْعُيُونَ الَّتِي تَنْفَجِرُ مِنْهَا الْمِيَاهُ، وَفِيهَا حَيَاةُ الْخَلْقِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيالٍ عَشْرٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا جَاءَتْ مُنْكَّرَةً مِنْ بَيْنِ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهَا لَيَالٍ مَخْصُوصَةٌ بِفَضَائِلَ لَا تَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّنْكِيرُ دَالٌّ عَلَى الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الِاشْتِغَالِ بِهَذَا النُّسْكِ فِي الْجُمْلَةِ،
وَفِي الْخَبَرِ مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ
وَثَانِيهَا: أَنَّهَا عَشْرُ الْمُحَرَّمِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَفِيهَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلِصَوْمِهِ مِنَ الْفَضْلِ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِشَرَفِهَا وَفِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، إِذْ
فِي الْخَبَرِ «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ» ،
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ الْمِئْزَرَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ أَيْ كَفَّ عَنِ الْجِمَاعِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ بِالتَّهَجُّدِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْخَسَا وَالزَّكَا وَالْعَامَّةُ الزَّوْجَ وَالْفَرْدَ، قَالَ يُونُسُ:
أَهِلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ الْوَتْرُ بِالْفَتْحِ فِي الْعَدَدِ وَالْوِتْرُ بِالْكَسْرِ فِي الذَّحْلِ وَتَمِيمٌ تَقُولُ وِتَرٌ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا مَعًا، وَتَقُولُ أَوْتَرْتُهُ أُوتِرُهُ إِيتَارًا أَيْ جَعَلْتُهُ وَتْرًا، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ»
وَالْكَسْرُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْفَتْحُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَأَكْثَرُوا فِيهِ، وَنَحْنُ نَرَى مَا هُوَ الْأَقْرَبُ أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمَا لِشَرَفِهِمَا أَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ يَدُورُ أَمْرُ الْحَجِّ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» ،
وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَيَقَعُ فِيهِ الْقُرْبَانُ وَأَكْثَرُ أُمُورِ الْحَجِّ مِنَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ، وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ،
وَيُرْوَى «يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ»
فَلَمَّا اخْتُصَّ هَذَانِ الْيَوْمَانِ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ لَا جَرَمَ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِمَا وَثَانِيهَا: أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ بَقِيَّةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَهِيَ أَيَّامٌ شَرِيفَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 203] وَالشَّفْعُ هُوَ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، الْوَتْرُ هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ: حَمْلُ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى الْعِيدِ وَعَرَفَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعِيدَ وَعَرَفَةَ دَخَلَا فِي الْعَشْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ غَيْرَهُمَا الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِ الْحَجِّ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا يُفِيدُ الْقَسَمَ بِجَمِيعِ أَيَّامِ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ وَثَالِثُهَا:
الْوَتْرُ آدَمُ شُفِّعَ بِزَوْجَتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الشَّفْعُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَابِعُهَا:
الْوَتْرُ مَا كَانَ وَتْرًا مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالْمَغْرِبِ وَالشَّفْعُ مَا كَانَ شَفْعًا مِنْهَا،
رَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ»
وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَالِيَةٌ لِلْإِيمَانِ، وَلَا يَخْفَى قَدْرُهَا وَمَحَلُّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَخَامِسُهَا: الشَّفْعُ هُوَ الْخَلْقُ كُلُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ:
49] وَقَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النَّبَإِ: 8] وَالْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ(31/149)
الْوَتْرُ هُوَ اللَّهُ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تَقْدِيرُهُ وَرَبِّ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَتْرِ الْمَرْبُوبُ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَلْ يُعَظَّمُ ذِكْرُهُ حَتَّى يَتَمَيَّزَ مِنْ غَيْرِهِ،
وَرُوِيَ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَنَهَاهُ، وَقَالَ: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ رَسُولُهُ»
قَالُوا: وَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ»
لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ كَوْنِهِ شَفْعًا وَوَتْرًا فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: أُقْسِمُ بِرَبِّ الْفَرْدِ وَالزَّوْجِ مِنْ خَلْقٍ فَدَخَلَ كُلُّ الْخَلْقِ تَحْتَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الْحَاقَّةِ: 38، 39] وَسَابِعُهَا: الشَّفْعُ دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَالْوَتْرُ دَرَكَاتُ النَّارِ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهَا: الشَّفْعُ صِفَاتُ الْخَلْقِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، أَمَّا الْوَتْرُ فَهُوَ صِفَةُ الْحَقِّ وُجُودٌ بِلَا عَدَمٍ، حَيَاةٌ بِلَا مَوْتٍ، عِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ، قُدْرَةٌ بِلَا عَجْزٍ، عِزٌّ بِلَا ذُلٍّ وَتَاسِعُهَا: الْمُرَادُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، نَفْسُ الْعَدَدِ فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْحِسَابِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْخَلْقِ مِنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ وَالْبَيَانِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعِبَادِ إِذْ قَالَ: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [الْعَلَقِ:
4، 5] ، وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَنِ: 4] . وَكَذَلِكَ بِالْحِسَابِ، يُعْرَفُ مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ، قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَنِ: 5] وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يُونُسَ: 5] وَعَاشِرُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ الشَّفْعُ هُوَ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَالْوَتْرُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا لَيْلَ بَعْدَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ: الشَّفْعُ كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ اسْمَانِ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَسِيحِ وَعِيسَى وَيُونُسَ وَذِي النُّونِ وَالْوَتْرُ كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ اسْمٌ وَاحِدٌ مِثْلُ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ الثَّانِيَ عَشَرَ: الشَّفْعُ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَتْرُ مَرْيَمُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
الشَّفْعُ الْعُيُونُ الِاثْنَتَا عَشْرَةَ، الَّتِي فَجَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَتْرُ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي أُوتِيَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الْإِسْرَاءِ: 101] ، الرَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ أَيَّامُ عَادٍ وَالْوَتْرُ لَيَالِيهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] الْخَامِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْبُرُوجُ الِاثْنَا عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: 61] وَالْوَتْرُ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّادِسَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتِمُّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَالْوَتْرُ الشَّهْرُ الَّذِي يَتِمُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا السَّابِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الْأَعْضَاءُ وَالْوَتْرُ الْقَلْبُ، قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4] ، الثَّامِنَ عَشَرَ: الشَّفْعُ الشَّفَتَانِ/ وَالْوَتْرُ اللِّسَانُ قَالَ تَعَالَى:
وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ [الْبَلَدِ: 9] التَّاسِعَ عَشَرَ: الشَّفْعُ السَّجْدَتَانِ وَالْوَتْرُ الرُّكُوعُ الْعِشْرُونَ: الشَّفْعُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا ثَمَانِيَةٌ وَالْوَتْرُ أَبْوَابُ النَّارِ لِأَنَّهَا سَبْعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ أَمْرَانِ شَرِيفَانِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُحْتَمَلٌ، وَالظَّاهِرُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ حُكِمَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: إِنِّي أَحْمِلُ الْكَلَامَ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، أما قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إِذا يَسْرِ إِذَا يَمْضِي كَمَا قَالَ: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [الْمُدَّثِّرِ: 33] وَقَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التَّكْوِيرِ: 17] وَسُرَاهَا ومضيها وَانْقِضَاؤُهَا أَوْ يُقَالُ: سُرَاهَا هُوَ السَّيْرُ فِيهَا، وقال قتادة: إِذا يَسْرِ أَيْ إِذَا جَاءَ وَأَقْبَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَيْلَةً مَخْصُوصَةً بَلِ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذْ(31/150)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
أَدْبَرَ
«1» وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَلِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِمَا عَلَى الْخَلْقِ عَظِيمَةٌ، فَصَحَّ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ تنبيها على أن تعاقبهما بتدبيره مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هي ليلة المزدلفة فقوله: إِذا يَسْرِ أَيْ إِذَا يُسَارُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ نَائِمٌ لِوُقُوعِ النَّوْمِ فِيهِ، وَلَيْلٌ سَاهِرٌ لِوُقُوعِ السَّهَرِ فِيهِ، وَهِيَ لَيْلَةٌ يَقَعُ السُّرَى فِي أَوَّلِهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي آخِرِهَا كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعْفَةَ أَهْلِهِ فِي هَذِهِ الليل،
وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قرئ إِذا يَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَذْفُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَالْفَوَاصِلُ تُحْذَفُ مِنْهَا الْيَاءَاتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكَسْرَاتُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ قَدْ تَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَكْتَفِي بِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ:
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا يُبْقِي دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الْدَّمَا
فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي غَيْرِ الفاضلة فَهُوَ فِي الْفَاصِلَةِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ الِاخْتِيَارُ أَنْ تُحْذَفَ الْيَاءُ إِذَا كَانَ فِي فَاصِلَةٍ أَوْ قَافِيَةٍ، وَالْحَرْفُ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ كَمَا أُثْبِتَ سَائِرُ الْحُرُوفِ وَلَمْ يُحْذَفْ؟ أَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ وَالْقَوَافِيَ مَوْضِعُ وَقْفٍ وَالْوَقْفُ مَوْضِعُ تَغْيِيرٍ فَلَمَّا كَانَ الْوَقْفُ تَغَيَّرَ فِيهِ الْحُرُوفُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّضْعِيفِ وَالْإِسْكَانِ وَرَوْمُ الْحَرَكَةِ فِيهَا غَيَّرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْمُشَابِهَةَ لِلزِّيَادَةِ بِالْحَذْفِ، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْيَاءَ فِي يَسْرِي فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْفِعْلُ لَا يُحْذَفُ مِنْهُ فِي الْوَقْفِ كَمَا يُحْذَفُ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوَ قَاضٍ وَغَازٍ، تَقُولُ: هُوَ يَقْضِي وَأَنَا أَقْضِي فَتَثْبُتُ الْيَاءُ وَلَا تُحْذَفُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِجْرُ الْعَقْلُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا وَنُهْيَةً/ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ وَيَمْنَعُ وَحَصَاةً مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الضَّبْطُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبِيحِ مِنَ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ كَمَنْ ذَكَرَ حُجَّةً بَاهِرَةً، ثُمَّ قَالَ:
هَلْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ حُجَّةٌ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلَائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْقَسَمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْقَسَمِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ بأن يحلف العاقل بهذه الأمور.
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
__________
(1) في المطبوعة (والليل إذا أسفر) وهي خطأ والصواب ما أثبتناه.(31/151)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ لَنُعَذِّبَنَّ الْكَافِرِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَكَانَ أَدْخَلَ فِي التَّخْوِيفِ، فَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ بَيَانُ عَذَابِ الْكَافِرِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا هُوَ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَلَمْ تَرَ، أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرَاهُ الرَّسُولُ وإنما أطلق لفظ الرؤية هاهنا عَلَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْبَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ كَانَتْ مَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ! أَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَقَدْ كَانَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِلَادُ فِرْعَوْنَ أَيْضًا/ مُتَّصِلَةٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَخَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ جَارٍ مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَدَّى إِلَى هَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَلِيَكُونَ بَعْثًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هاهنا قِصَّةَ ثَلَاثِ فِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهِيَ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ حَيْثُ قَالَ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ بَيَانَ مَا أُبْهِمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إِلَى قَوْلِهِ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [الْحَاقَّةِ: 5- 9] الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَادٌ هُوَ عَادُ بْنُ عَوْصُ بْنُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا لَفْظَةَ عَادٍ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ لِبَنِي هَاشِمٍ هَاشِمٌ وَلِبَنِي تَمِيمٍ تَمِيمٌ، ثُمَّ قَالُوا لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ عَادٌ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: 50] وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ عَادٌ الْأَخِيرَةُ، وَأَمَّا إِرَمُ فَهُوَ اسْمٌ لِجَدِّ عَادٍ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِعَادٍ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ يُسَمَّوْنَ بِإِرَمَ تَسْمِيَةً لَهُمْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ إِرَمَ اسْمٌ لِبَلْدَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا ثم قبل تِلْكَ الْمَدِينَةُ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَقِيلَ دِمَشْقُ وَالثَّالِثُ: أن إرم(31/152)
أَعْلَامُ قَوْمِ عَادٍ كَانُوا يَبْنُونَهَا عَلَى هَيْئَةِ الْمَنَارَةِ وَعَلَى هَيْئَةِ الْقُبُورِ، قَالَ أَبُو الدُّقَيْشِ: الْأُرُومُ قُبُورُ عَادٍ، وَأَنْشَدَ:
بِهَا أُرُومُ كَهَوَادِي الْبُخْتِ
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِرَمَ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ أَوْ دِمَشْقُ، قَالَ: لِأَنَّ مَنَازِلَ عَادٍ كَانَتْ بَيْنَ عمان إلى حضر موت وَهِيَ بِلَادُ الرِّمَالِ وَالْأَحْقَافِ، كَمَا قَالَ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاق: 21] وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَدِمَشْقُ فَلَيْسَتَا مِنْ بِلَادِ الرِّمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِرَمُ لَا تَنْصَرِفُ قَبِيلَةً كَانَتْ أَوْ أَرْضًا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِرَمَ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْقَبِيلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: إِرَمَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعَادٍ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُمْ عَادٌ الْأُولَى الْقَدِيمَةُ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلْدَةِ أَوِ الْأَعْلَامِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِعَادٍ أَهْلِ إِرَمَ ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كما في قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَادِ إِرَمَ عَلَى الْإِضَافَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: بِعادٍ إِرَمَ مَفْتُوحَيْنِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ بِسُكُونِ الرَّاءِ عَلَى/ التَّخْفِيفِ كَمَا قُرِئَ: بِوَرِقِكُمْ [الكهف: 19] وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بِإِضَافَةِ إِرَمَ إِلَى ذاتِ الْعِمادِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بَدَلًا مِنْ فَعَلَ رَبُّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ جَعَلَ ذَاتَ الْعِمَادِ رَمِيمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَا: إِرَمَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَدَوِيِّينَ يَسْكُنُونَ الْأَخْبِيَةَ وَالْخِيَامَ وَالْخِبَاءَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِمَادِ، وَالْعِمَادُ بِمَعْنَى الْعَمُودِ. وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ الْعَمَدِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذَاتِ الْعِمَادِ أَنَّهُمْ طُوَالُ الْأَجْسَامِ عَلَى تَشْبِيهِ قُدُودِهِمْ بِالْأَعْمِدَةِ وَقِيلَ: ذَاتُ الْبَنَّاءِ الرَّفِيعِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلَدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ أَسَاطِينَ أَيْ ذَاتُ أَبْنِيَةٍ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْعُمُدِ وَكَانُوا يُعَالِجُونَ الْأَعْمِدَةَ فَيَنْصِبُونَهَا وَيَبْنُونَ فَوْقَهَا الْقُصُورَ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 128] أَيْ عَلَامَةً وَبِنَاءً رَفِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعَادٍ ابْنَانِ شَدَّادٌ وَشَدِيدٌ فَمَلَكَا وَقَهَرَا ثُمَّ مَاتَ شَدِيدٌ وَخَلَصَ الْأَمْرُ لِشَدَّادٍ فَمَلَكَ الدُّنْيَا وَدَانَتْ لَهُ مُلُوكُهَا. فَسَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: أَبْنِي مِثْلَهَا، فَبَنَى إِرَمَ فِي بَعْضِ صَحَارِي عَدَنَ فِي ثلاثمائة سَنَةٍ وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ قُصُورُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَسَاطِينُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَفِيهَا أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، فَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهَا سَارَ إِلَيْهَا بِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَهَلَكُوا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلَابَةَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ فَوَصَلَ إِلَى جَنَّةِ شَدَّادٍ فَحَمَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ هُنَاكَ وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَحْضَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى كَعْبٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِكَ أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ عَلَى حَاجِبِهِ خَالٍ وَعَلَى عُنُقِهِ خَالٍ، يَخْرُجُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَبْصَرَ ابْنَ [أَبِي] قِلَابَةَ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ فَالضَّمِيرُ فِي (مِثْلِهَا) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ مِثْلُ عَادٍ فِي الْبِلَادِ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، كَانَ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُلْقِيهَا عَلَى الْجَمْعِ فَيَهْلَكُوا الثَّانِي: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ مَدِينَةِ شَدَّادٍ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الدُّنْيَا، وَقَرَأَ(31/153)
ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِثْلَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إلى العماد أي لم يحلق مِثْلُ تِلْكَ الْأَسَاطِينِ فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا فَالْعِمَادُ جَمْعُ عَمَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ زجر الكفار فإنه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، مَعَ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَأَنْ تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ إِذَا أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ مَعَ ضَعْفِكُمْ كَانَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ فقال الليث: الجواب قَطْعُكَ الشَّيْءَ كَمَا يُجَابُ الْجَيْبُ يُقَالُ جَابَ يَجُوبُ جَوْبًا. وَزَادَ الْفَرَّاءُ يُجِيبُ جَيْبًا وَيُقَالُ: جُبْتُ الْبِلَادَ جَوْبًا أَيْ جُلْتُ فِيهَا وَقَطَعْتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَجُوبُونَ الْبِلَادَ فَيَجْعَلُونَ مِنْهَا بُيُوتًا وَأَحْوَاضًا وَمَا أَرَادُوا مِنَ الْأَبْنِيَةِ، كما قال: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الأعراف: 74] قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّخُورَ وَالرُّخَامَ/ ثَمُودُ، وَبَنَوْا أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مَدِينَةٍ كُلُّهَا مِنَ الحجارة، وقوله: بِالْوادِ قَالَ مُقَاتِلٌ: بِوَادِي الْقُرَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ فَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ ص، وَنَقُولُ: الْآنَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُمِّيَ ذَا الْأَوْتَادِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ وَمَضَارِبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَضْرِبُونَهَا إِذَا نَزَلُوا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ وَيَشُدُّهُمْ بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا،
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَتَّدَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ وَجَعَلَ عَلَى صَدْرِهَا رَحَا وَاسْتَقْبَلَ بِهَا عَيْنَ الشَّمْسِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ فَرَأَتْهُ
وَثَالِثُهَا: ذِي الْأَوْتَادِ، أَيْ ذِي الْمُلْكِ وَالرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي ظِلِّ مَلِكٍ رَاسِخِ الْأَوْتَادِ وَرَابِعُهَا: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ تِلْكَ الْأَوْتَادَ كَانَتْ مُلَاعِبَ يَلْعَبُونَ تَحْتَهَا لِأَجْلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الشِّدَّةُ وَالْقَوْلُ وَالْكَثْرَةُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُرُودِ هَلَاكٍ عَظِيمٍ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى فِرْعَوْنَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي إِعْرَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى [الْإِخْبَارِ، أَيْ] هُمُ الَّذِينَ طَغَوْا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى وَصْفِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَغَوْا فِي الْبِلادِ أَيْ عَمِلُوا الْمَعَاصِيَ وَتَجَبَّرُوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ فَسَّرَ طُغْيَانَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ضِدَّ الصَّلَاحِ فَكَمَا أَنَّ الصَّلَاحَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْبِرِّ، فَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْإِثْمِ، فَمَنْ عَمِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَحَكَمَ فِي عِبَادِهِ بِالظُّلْمِ فَهُوَ مُفْسِدٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَبَّ عَلَيْهِ السَّوْطَ وَغَشَّاهُ وَقَنَّعَهُ، وَذِكْرُ السَّوْطِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَحَلَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَالسَّوْطِ إِذَا قِيسَ إِلَى سَائِرِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَشَبَّهَهُ بِصَبِّ السَّوْطِ الَّذِي يَتَوَاتَرُ عَلَى الْمَضْرُوبِ فَيُهْلِكُهُ، وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ عِنْدَ اللَّهِ أَسْوَاطًا كَثِيرَةً فَأَخَذَهُمْ بِسَوْطٍ مِنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا «1» مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: 45] يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَةِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بين هاتين الآيتين؟ قلنا:
__________
(1) في المطبوعة (بظلمهم) .(31/154)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ تَمَامِ الْجَزَاءِ إِلَى الْآخِرَةِ وَالْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَمُقَدِّمَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كانَتْ مِرْصاداً [النَّبَإِ: 21] وَنَقُولُ: الْمِرْصَادُ الْمَكَانُ الَّذِي يَتَرَقَّبُ فِيهِ الرَّاصِدُ مِفْعَالٌ مِنْ رَصَدَهُ كَالْمِيقَاتِ مِنْ وَقَتَهُ، وَهَذَا مَثَلٌ لِإِرْصَادِهِ الْعُصَاةَ بِالْعِقَابِ وَأَنَّهُمْ لَا يَفُوتُونَهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: بِالْمِرْصَادِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: / قَالَ الْحَسَنُ:
يَرْصُدُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ عَامَّانِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَخُصُّ هَذِهِ الْآيَةَ إِمَّا بِوَعِيدِ الْكُفَّارِ، أَوْ بِوَعِيدِ الْعُصَاةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَرْصُدُ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَعَدَلَ عَنْ طَاعَتِهِ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَرْصُدُ لِأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وهذه الوجوه متقاربة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
اعلم أن قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَبِالْمِرْصَادِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يُرِيدُ إِلَّا السَّعْيَ لِلْآخِرَةِ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا وَشَهَوَاتُهَا، فَإِنْ وَجَدَ الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا يَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِي، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَذِهِ الرَّاحَةَ يَقُولُ: رَبِّي أَهَانَنِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرُّومِ: 7] وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الْحَجِّ: 11] وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَشَقَاوَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، فَالْمُتَنَعِّمُ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانَ شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ التَّنَعُّمُ لَيْسَ بِسَعَادَةٍ، وَالْمُتَأَلِّمُ الْمُحْتَاجُ فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانَ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ لَيْسَ بِإِهَانَةٍ وَلَا شَقَاوَةٍ، إِذِ الْمُتَنَعِّمُ فِي الدُّنْيَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّعَادَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُتَأَلِّمُ فِي الدُّنْيَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالشَّقَاوَةِ وَالْهَوَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ حُصُولَ النِّعْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَحُصُولَ الْآلَامِ فِي الدُّنْيَا لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُوَسِّعُ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْكَفَرَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وإما يحكم الْمَصْلَحَةِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ وَالْمَكْرِ، وَقَدْ يُضَيِّقُ عَلَى الصِّدِّيقِينَ لِأَضْدَادِ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِمُجَازَاةٍ وثالثها: أن المتنعم لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَنِ الْعَاقِبَةِ، فَالْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْفَقِيرُ وَالْمُحْتَاجُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ وَالْآلَامِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِهَانَةِ مُطْلَقًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ النَّفْسَ قَدْ أَلِفَتْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَمَتَى حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشْتَهَيَاتُ وَاللَّذَّاتُ صَعُبَ عَلَيْهَا الِانْقِطَاعُ عَنْهَا وَعَدَمُ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ رَجَعَتْ شَاءَتْ أَمْ أَبَتْ إِلَى اللَّهِ، وَاشْتَغَلَتْ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ فَكَانَ وِجْدَانُ الدُّنْيَا سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ مِنَ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالشَّقَاوَةِ وَالْإِهَانَةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ/ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ إِلَى أَعْظَمِ السِّعَادَاتِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَثْرَةَ الْمُمَارَسَةِ سَبَبٌ لِتَأَكُّدِ الْمَحَبَّةِ، وَتَأَكُّدَ الْمَحَبَّةِ سَبَبٌ لِتَأَكُّدِ الْأَلَمِ عِنْدَ الْفِرَاقِ، فكل من كان وجدانه للدنيا أَكْثَرَ وَأَدْوَمَ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لَهَا أَشَدَّ، فَكَانَ تَأَلُّمُهُ بِمُفَارَقَتِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَشَدَّ، وَالَّذِي بِالضِّدِّ فَبِالضِّدِّ، فَإِذَنْ حُصُولُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَبَبٌ لِلْأَلَمِ الشَّدِيدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَدَمُ حُصُولِهَا سَبَبٌ لِلسَّعَادَةِ الشَّدِيدَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ وِجْدَانَ الدُّنْيَا سَعَادَةٌ وَفِقْدَانَهَا شَقَاوَةٌ؟.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ إِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ رُوحَانِيًّا كَانَ أَوْ جُسْمَانِيًّا، فَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ البعث من(31/155)
جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وِجْدَانَ الدُّنْيَا هُوَ السَّعَادَةُ وَفِقْدَانَهَا هُوَ الشَّقَاوَةُ، وَلَكِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ وِجْدَانُ الدُّنْيَا الْكَثِيرَةِ سَبَبًا لِلْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْوُقُوعِ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْحِرْمَانُ سَبَبًا لِبَقَاءِ السَّلَامَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمُنْكِرِ الْبَعْثِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى صَاحِبِ الدُّنْيَا بِالسَّعَادَةِ، وَعَلَى فَاقِدِهَا بِالْهَوَانِ، فَرُبَّمَا يَنْكَشِفُ لَهُ أَنَّ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالضِّدِّ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الأول: قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ المراد منه شخصين مُعَيَّنٌ أَوِ الْجِنْسُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:
أن المراد منه شخصين مُعَيَّنٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عُتْبَةُ بن ربيعة، وأبو حذيفة ابن الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ الْكَافِرُ الْجَاحِدُ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ سَمَّى بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرَهُ ابْتِلَاءً؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اخْتِبَارٌ لِلْعَبْدِ، فَإِذَا بُسِطَ لَهُ فَقَدِ اخْتُبِرَ حَالُهُ أَيَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ، وَإِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتُبِرَ حَالُهُ أَيَصْبِرُ أَمْ يَجْزَعُ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاءِ: 35] .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَمَّا قَالَ: فَأَكْرَمَهُ فقد صحح أَنَّهُ أَكْرَمَهُ. وَأَثْبَتَ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
رَبِّي أَكْرَمَنِ ذَمَّهُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِنْكَارِ هِيَ قَوْلُهُ: كَلَّا فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِقَوْلِهِ: رَبِّي أَهانَنِ سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِنْكَارَ عَائِدٌ إِلَيْهِمَا مَعًا وَلَكِنْ فِيهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي ذَلِكَ الْإِكْرَامِ الثَّانِي: أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ وِجْدَانِ الْمَالِ، وَهِيَ نِعْمَةُ سَلَامَةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْتَرِفْ بِالنِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ وِجْدَانِ الْمَالِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، بَلِ التَّصَلُّفُ بِالدُّنْيَا وَالتَّكَثُّرُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الثَّالِثُ: أَنَّ تَصَلُّفَهُ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَإِعْرَاضَهُ عَنْ ذِكْرِ نِعْمَةِ الْآخِرَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً إِلَى قَوْلِهِ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ [الْكَهْفِ: 35- 37] .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَذَكَرَ الْأَوَّلَ بِالْفَاءِ وَالثَّانِيَ بِالْوَاوِ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ وَابْتِلَاءَهُ بِالنِّعَمِ سَابِقٌ عَلَى ابْتِلَائِهِ بِإِنْزَالِ الْآلَامِ، فَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَقَبِلَهُ الثَّانِي عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النحل: 18] .
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: لَمَّا قَالَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ: فَأَكْرَمَهُ ... فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي: فَأَهَانَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَكْرَمَنِ صَادِقٌ وَفِي قَوْلِهِ:
أَهانَنِ غَيْرُ صَادِقٍ فَهُوَ ظَنَّ قِلَّةَ الدُّنْيَا وَتَقْتِيرَهَا إِهَانَةً، وَهَذَا جَهْلٌ وَاعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، فَكَيْفَ يَحْكِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَنْهُ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ؟ الْجَوَابُ: ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارِ الْبُلْغَةِ،(31/156)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
وَقُرِئَ فَقَدَرَ عَلَى التَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَتَّرَ، وَأَكْرَمَنْ وَأَهَانَنْ بِسُكُونِ النُّونِ فِي الْوَقْفِ فِيمَنْ تَرَكَ الْيَاءَ فِي الدَّرَجِ مُكْتَفِيًا مِنْهَا بِالْكَسْرَةِ.
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ تِلْكَ. الشُّبْهَةَ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى لَمْ أَبْتَلِهِ بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، بَلْ ذَلِكَ إِمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمِنْ مَحْضِ الْقَضَاءِ أَوِ الْقَدَرِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْعِلَلِ، وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَبِسَبَبِ مَصَالِحٍ خَفِيَّةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ، فَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِهَوَانِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مِنْ أَقْوَالِهِمْ تِلْكَ الشُّبْهَةَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ لَهُمْ فِعْلٌ هُوَ شَرٌّ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكْرِمُهُمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، فَلَا يُؤَدُّونَ مَا يَلْزَمُهُمْ فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: يُكْرِمُونَ وَمَا بَعْدَهُ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ وَالْكَثْرَةُ، وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِيرُ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ يَتِيمًا فِي حَجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَكَانَ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَرْكُ بِرِّهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَالثَّانِي: دَفْعُهُ عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ وَأَكْلُ مَالِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَالثَّالِثُ: أَخْذُ مَالِهِ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أَيْ تَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَتَضُمُّونَهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَا تُطْعِمُونَ مِسْكِينًا، وَالْمَعْنَى لَا تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْحَاقَّةِ: 33، 34] وَمَنْ قَرَأَ وَلَا تَحَاضُّونَ أَرَادَ تَتَحَاضُّونَ فَحُذِفَ تاء تتفاعلون، والمعنى: لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَلا تَحَاضُّونَ بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ الْمُحَاضَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: أَصْلُ التُّرَاثِ وُرَاثٌ، وَالتَّاءُ تُبَدَّلُ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ نَحْوَ تُجَاهٍ وَوُجَاهٍ مِنْ وَاجَهْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: اللَّمُّ الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَمِنْهُ كَتِيبَةٌ مَلْمُومَةٌ وَحَجَرٌ مَلْمُومٌ، وَالْآكِلُ يَلُمُّ الثَّرِيدَ فَيَجْعَلُهُ لُقَمًا ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَيُقَالُ لَمَمْتُ مَا عَلَى الْخُوَانِ أَلُمُّهُ أَيْ أَكَلْتُهُ أَجْمَعَ، فَمَعْنَى اللَّمِّ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَالْمُفَسِّرُونَ: يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: أَكْلًا لَمًّا أَيْ شَدِيدًا وَهُوَ حَلُّ مَعْنًى(31/157)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ اللَّمَّ مَصْدَرٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْأَكْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَاعِلُ أَيْ آكِلًا لَامًا أَيْ جَائِعًا كَأَنَّهُمْ يَسْتَوْعِبُونَهُ بِالْأَكْلِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانُوا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى إِسْرَافًا وَبِدَارًا، فَقَالَ اللَّهُ: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا أَيْ تُرَاثَ الْيَتَامَى لَمًّا أَيْ تَلُمُّونَ جَمِيعَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ يَأْكُلُونَ نَصِيبَهُمْ وَنَصِيبَ صَاحِبِهِمْ، فَيَجْمَعُونَ نَصِيبَ غَيْرِهِمْ إِلَى نَصِيبِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَبْقَى مِنَ الْمَيِّتِ بَعْضُهُ حَلَالٌ، وَبَعْضُهُ شُبْهَةٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ، فَالْوَارِثُ يَلُمُّ الْكُلَّ أَيْ يَضُمُّ الْبَعْضَ إِلَى الْبَعْضِ وَيَأْخُذُ الْكُلَّ وَيَأْكُلُهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْوَارِثِ الَّذِي ظَفِرَ بِالْمَالِ سَهْلًا مَهْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرَقَ فِيهِ جَبِينُهُ فَيُسْرِفَ فِي إِنْفَاقِهِ وَيَأْكُلَهُ أَكْلًا لَمًّا وَاسِعًا، جَامِعًا بَيْنَ أَلْوَانِ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ والأشربة والفواكه، كما يفعله الوراث البطالون.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا فَاعْلَمْ أَنَّ الْجَمَّ هُوَ الْكَثْرَةُ يُقَالُ: جَمَّ الشَّيْءُ يَجُمُّ جُمُومًا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ شَيْءٌ جَمٌّ وَجَامٌّ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو جَمَّ يَجُمُ أَيْ يَكْثُرُ، وَالْمَعْنَى: وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا كَثِيرًا شَدِيدًا، فَبَيَّنَ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا فَقَطْ وَأَنَّهُمْ عَادِلُونَ عَنْ أَمْرِ الآخرة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 23]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارٌ لِفِعْلِهِمْ أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَكَذَا فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَقَصْرِ الْهِمَّةِ وَالْجِهَادِ عَلَى تَحْصِيلِهَا وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ مِنْهَا وَجَمْعِهَا مِنْ حَيْثُ تَتَهَيَّأُ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ، وَتَوَهَّمَ أَنْ لَا حِسَابَ وَلَا جَزَاءَ. فَإِنَّ مَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ يَنْدَمُ حِينَ لَا تَنْفَعُهُ النَّدَامَةُ وَيَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي التَّقَرُّبِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُوَاسَاةِ مِنَ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ التَّمَنِّي وَتِلْكَ النَّدَامَةُ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا قَالَ الْخَلِيلُ: الدَّكُّ كَسْرُ الْحَائِطِ وَالْجَبَلِ وَالدَّكْدَاكُ رَمْلٌ مُتَلَبِّدٌ، وَرَجُلٌ مِدَكٌّ شَدِيدُ الْوَطْءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الدَّكُّ حَطُّ الْمُرْتَفِعِ بِالْبَسْطِ وَانْدَكَّ سَنَامُ الْبَعِيرِ إِذَا انْفَرَشَ فِي ظَهْرِهِ، وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَمِنْهُ الدُّكَّانُ لِاسْتِوَائِهِ فِي الِانْفِرَاشِ، فَمَعْنَى الدَّكِّ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ: كَسْرُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ أَوْ شَجَرٍ حِينَ زُلْزِلَتْ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُبَرِّدِ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا اسْتَوَتْ فِي الِانْفِرَاشِ فَذَهَبَتْ دُورُهَا وَقُصُورُهَا وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الْمَلْسَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُمَدُّ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: دَكًّا دَكًّا مَعْنَاهُ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ كَقَوْلِكَ حَسِبْتُهُ بَابًا بَابًا وَعَلِمْتُهُ حَرْفًا حَرْفًا أَيْ كُرِّرَ عَلَيْهَا الدَّكُّ حَتَّى صَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّدَكْدُكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الزَّلْزَلَةِ، فَإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً بَعْدَ زَلْزَلَةٍ وَحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْدَ تَحْرِيكٍ انْكَسَرَتِ الْجِبَالُ الَّتِي عَلَيْهَا وَانْهَدَمَتِ التِّلَالُ وَامْتَلَأَتِ الْأَغْوَارُ وَصَارَتْ مَلْسَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِضَاضِ الدُّنْيَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النَّازِعَاتِ: 6، 7] وَقَالَ: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الْحَاقَّةِ: 14] وَقَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الْوَاقِعَةِ: 5] .(31/158)
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْحَرَكَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُضَافُ مَا هُوَ؟ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَجَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَثَانِيهَا: وَجَاءَ قَهْرُ رَبِّكَ كَمَا يُقَالُ جَاءَتْنَا بَنُو أُمَيَّةَ أَيْ قَهْرُهُمْ وَثَالِثُهَا: وَجَاءَ جَلَائِلُ آيَاتِ رَبِّكَ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَظْهَرُ الْعَظَائِمُ وَجَلَائِلُ الْآيَاتِ، فَجُعِلَ مَجِيئُهَا مَجِيئًا لَهُ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَرَابِعُهَا: وَجَاءَ ظُهُورُ رَبِّكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَصِيرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ضَرُورِيَّةً فَصَارَ ذَلِكَ كَظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ لِلْخَلْقِ، فَقِيلَ: وَجاءَ رَبُّكَ أَيْ زَالَتِ الشُّبْهَةُ وَارْتَفَعَتِ/ الشُّكُوكُ خَامِسُهَا: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَبْيِينِ آثَارِ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، مُثِّلَتْ حَالُهُ فِي ذَلِكَ بِحَالِ الْمَلِكِ إِذَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ مِنْ آثَارِ الْهَيْبَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَا لَا يَظْهَرُ بِحُضُورِ عَسَاكِرِهِ كُلِّهَا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْمُرَبِّي، وَلَعَلَّ مَلَكًا هُوَ أَعْظَمُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ مُرَبِّي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ فَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَنَزَّلَ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشُّعَرَاءِ: 91] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: جِيءَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَزْمُومَةً بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا حَتَّى تَنْصَبَّ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ فَتَشْرُدُ شَرْدَةً لَوْ تُرِكَتْ لَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْجَمْعِ، قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَكَانِهَا، فَالْمُرَادُ وَبُرِّزَتِ أَيْ ظَهَرَتْ حَتَّى رَآهَا الْخَلْقُ، وَعَلِمَ الْكَافِرُ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ، وَحَصَلَ كَذَا وَكَذَا فَيَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ، وَفِي تَذَكُّرِهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ مَا فَرَّطَ فِيهِ لِأَنَّهُ حِينَ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَتَذَكَّرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ضَلَالًا، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ تَحْصِيلَ الْآخِرَةِ الثَّانِي: يَتَذَكَّرُ أَيْ يَتَّعِظُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَتَّعِظُ فِي الدُّنْيَا فيصير في الآخرة متعظا فيقول: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الْأَنْعَامِ: 27] ، الثَّالِثُ: يَتَذَكَّرُ يَتُوبُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ قال تعالى: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى وقد جاءهم رسول مبين.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى تَنَاقُضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْمُضَافِ وَالْمَعْنَى وَمِنْ أَيْنَ لَهُ مَنْفَعَةُ الذِّكْرَى.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّهٌ، وَهِيَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَنَا غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ عَقْلًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ وَاجِبٌ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ هاهنا عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ أَصْلَحَ لَهُ وَإِنَّ الَّذِي تَرَكَهُ كَانَ أَصْلَحَ لَهُ، وَمَهْمَا عَرَفَ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَصَلَ النَّدَمُ فَقَدْ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى كَوْنَ تِلْكَ التَّوْبَةِ نَافِعَةً بِقَوْلِهِ: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ لَا يَجِبُ عَقْلًا قَبُولُهَا، فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْمُ إِنَّمَا نَدِمُوا عَلَى أَفْعَالِهِمْ لَا لِوَجْهِ قُبْحِهَا بَلْ لِتُرَتِّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، فَلَا(31/159)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
جَرَمَ مَا كَانَتِ التَّوْبَةُ صَحِيحَةً؟ قُلْنَا: الْقَوْمُ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْقَبِيحِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ قُبْحِهِ حَتَّى يَكُونَ نَافِعًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَدَمُهُمْ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ آتِينَ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ مع عدم القبول فصح قولنا. ثُمَّ شَرَحَ تَعَالَى مَا يَقُولُهُ هَذَا الْإِنْسَانُ فقال تعالى:
[سورة الفجر (89) : آية 24]
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِلْآيَةِ تأويلات:
أحدهما: يا ليتني قَدَّمْتُ فِي الدُّنْيَا الَّتِي كَانَتْ حَيَاتِي فِيهَا مُنْقَطِعَةً، لِحَيَاتِي هَذِهِ الَّتِي هِيَ دَائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: لِحَياتِي وَلَمْ يَقُلْ: لِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَيَاةَ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا الْحَيَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [الْعَنْكَبُوتِ: 64] أَيْ لَهِيَ الْحَيَاةُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إِبْرَاهِيمَ: 17] وَقَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: 74] وَقَالَ: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الْأَعْلَى: 11- 13] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عَمَلًا يُوجِبُ نَجَاتِي مِنَ النَّارِ حَتَّى أَكُونَ مِنَ الْأَحْيَاءِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَيَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ وَقْتَ حَيَاتِي فِي الدُّنْيَا، كَقَوْلِكَ جِئْتُهُ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مَحْجُوبِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ مُجْتَرِئِينَ عَلَى الْمَعَاصِي وَجَوَابُهُ: أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِهِمْ، فَقَصْدُهُمْ إِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِقَصْدِ اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ الِاعْتِزَالُ. ثم قال تعالى:
[سورة الفجر (89) : الآيات 25 الى 26]
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِرَاءَةُ العامة يعذب ويوثق بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا «1» قَالَ مُقَاتِلٌ مَعْنَاهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَالْمَعْنَى لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ كَبَلَاغِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ وَالْوَثَاقِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا التَّفْسِيرُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُعَذِّبٌ سِوَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي مِثْلِ عَذَابِهِ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا عَذَابَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثِقُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا وَثَاقَ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَالْمَعْنَى مِثْلَ عَذَابِهِ وَوَثَاقِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَتَوَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ اللَّهِ أَحَدٌ. أَيِ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ أَمْرُهُ وَلَا أَمْرَ لِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: وهو قول أبي علي
__________
(1) يريد بالعين هنا الذال والثاء فهما عين الفعل، يريد يعذب ويوثق بالبناء للفاعل لا للمفعول (الصاوي) .(31/160)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
الْفَارِسِيِّ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِنَ الزَّبَانِيَةِ مِثْلَ مَا يُعَذِّبُونَهُ، فَالضَّمِيرُ فِي عَذَابِهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ لَا يُعَذَّبُ وَلَا يَوْثَقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِيهَا وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ إِلَيْهَا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهُمَا بِالْفَتْحِ
وَالضَّمِيرُ لِلْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ، وَقِيلَ: هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَفْسِيرَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِهِ وَلَا يُوثِقُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ مِثْلَ وَثَاقِهِ، لِتَنَاهِيهِ فِي كُفْرِهِ وَفَسَادِهِ وَالثَّانِي: / أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَذَابَ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَهَذِهِ أَوْلَى الْأَقْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَذَابُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْوَثَاقُ بِمَعْنَى الْإِيثَاقِ، كَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ:
[أَكُفْرًا بعد رد الموت عن] ... وبعد عدائك المائة الرتاعا
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 28]
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ حَالَ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى الدُّنْيَا، وَصَفَ حَالَ من اطمأن إلى معرفته وعبوديته، فقال:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ هَذَا الكلام. يقول الله للمؤمن: يا أيتها النَّفْسَ فَإِمَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ إِكْرَامًا لَهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا وَإِنْ كَانَ أَمْرًا فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ خَبَرٌ فِي الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً رَجَعَتْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَ اللَّهُ لَهَا: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 29، 30] قَالَ: وَمَجِيءُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاطْمِئْنَانُ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَارِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُتَيَقِّنَةً بِالْحَقِّ، فَلَا يُخَالِجُهَا شَكٌّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] وَثَانِيهَا: النَّفْسُ الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَسْتَفِزُّهَا خَوْفٌ وَلَا حَزَنٌ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْآمِنَةُ الْمُطْمَئِنَّةُ، وَهَذِهِ الْخَاصَّةُ قَدْ تَحْصُلُ عِنْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: 30] وَتَحْصُلُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ لَا مَحَالَةَ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ تَأْوِيلٌ مُطَابِقٌ لِلْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ، فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ وَالْبُرْهَانُ تَطَابَقَا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاطْمِئْنَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَإِمَّا الْبُرْهَانُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ إِذَا أَخَذَتْ تَتَرَقَّى فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَى سَبَبٍ يَكُونُ هُوَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ طَلَبَ الْعَقْلُ لَهُ سَبَبًا آخَرَ، فَلَمْ يَقِفِ الْعَقْلُ عِنْدَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ فِي ذَلِكَ التَّرَقِّي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مَقْطَعُ الْحَاجَاتِ. وَمُنْتَهَى الضَّرُورَاتِ، فَلَمَّا وَقَفَتِ الْحَاجَةُ دُونَهُ وَقَفَ الْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذًا كُلَّمَا كَانَتِ الْقُوَّةُ الْعَاقِلَةُ نَاظِرَةً إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ مُلْتِفَةً إِلَيْهِ اسْتَحَالَ أَنْ تَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَلَالِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ اسْتَحَالَ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاطْمِئْنَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ الثَّانِي: أَنَّ حَاجَاتِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُتَنَاهِي الْبَقَاءِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِإِمْدَادِ(31/161)
اللَّهِ، وَغَيْرُ الْمُتَنَاهِي لَا يَصِيرُ مَجْبُورًا/ بِالْمُتَنَاهِي، فَلَا بُدَّ فِي مُقَابَلَةِ حَاجَةِ الْعَبْدِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا مِنْ كَمَالِ اللَّهِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ، حَتَّى يَحْصُلَ الِاسْتِقْرَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آثَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لَا لِشَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مُطْمَئِنٍّ، وَلَيْسَتْ نَفْسُهُ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، أَمَّا مَنْ آثَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فَنَفْسُهُ هِيَ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أُنْسُهُ بِاللَّهِ وَشَوْقُهُ إِلَى اللَّهِ وَبَقَاؤُهُ بِاللَّهِ وَكَلَامُهُ مَعَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ يُخَاطِبُ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ كَامِلًا فِي الْقُوَّةِ الْفِكْرِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مُطْلَقَ النَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: 7] وَقَالَ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] وَقَالَ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] وَتَارَةً وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ، فَقَالَ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يُوسُفَ:
53] وَتَارَةً بِكَوْنِهَا لَوَّامَةً، فَقَالَ: بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [الْقِيَامَةِ: 2] وَتَارَةً بِكَوْنِهَا مُطْمَئِنَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْسَ ذَاتِكَ وَحَقِيقَتِكَ وَهِيَ الَّتِي تُشِيرُ إِلَيْهَا بِقَوْلِكَ: (أَنَا) حِينَ تُخْبِرُ عَنْ نَفْسِكَ بِقَوْلِكَ فَعَلْتُ وَرَأَيْتُ وَسَمِعْتُ وَغَضِبْتُ وَاشْتَهَيْتُ وَتَخَيَّلْتُ وَتَذَكَّرْتُ، إِلَّا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ لَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِكَ: (أَنَا) قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا حَالَ مَا تَكُونُ هَذِهِ الْبِنْيَةُ الْمَخْصُوصَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْبِنْيَةَ مُتَبَدِّلَةُ الْأَجْزَاءِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِكَ: (أَنَا) غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنِّي أَنَا الَّذِي كُنْتُ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَالْمُتَبَدِّلُ غَيْرُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَدِّلٍ، فَإِذًا لَيْسَتِ النَّفْسُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، وَتَقُولُ: قَالَ قَوْمٌ إِنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ لِأَنَّا قَدْ نَعْقِلُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَنَا) حَالَ مَا أَكُونُ غَافِلًا عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْحَيِّزِ الذَّاهِبِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ. وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَجَوَابُ الْمُعَارَضَةِ بِالنَّفْسِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِلُبَابِ الْإِشَارَاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ جُسْمَانِيٌّ لَطِيفٌ صَافٍ بَعِيدٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَجْرَامِ الْعُنْصُرِيَّةِ نُورَانِيٌّ سَمَاوِيٌّ مُخَالِفٌ بِالْمَاهِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ السُّفْلِيَّةِ، فَإِذَا صَارَتْ مُشَابِكَةً لِهَذَا الْبَدَنِ الْكَثِيفِ صَارَ الْبَدَنُ حَيًّا وَإِنْ فَارَقَتْهُ صَارَ الْبَدَنُ مَيِّتًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفُهَا بِالْمَجِيءِ وَالرُّجُوعِ بِمَعْنَى التَّدْبِيرِ وَتَرْكِهِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ الْقُدَمَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النُّفُوسَ أَزَلِيَّةٌ، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُقَالُ: لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَتَفَرَّعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَتَى يُوجَدُ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وهاهنا تَقْوَى حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَقَدُّمِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَدُّمِهَا عَلَيْهَا قِدَمُهَا الثَّانِي:
أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى: ارْجِعِي إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، أَيِ ادْخُلِي فِي الْجَسَدِ الَّذِي خَرَجْتِ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ: إِلى رَبِّكِ وَكَلِمَةُ إِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَجَوَابُهُ: إِلَى حُكْمِ رَبِّكِ، أَوْ إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ أَوْ إِلَى إِحْسَانِ رَبِّكِ وَالْجَوَابُ: الْحَقِيقِيُّ الْمُفَرَّعُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا، أَنَّ الْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ بِسَيْرِهَا الْعَقْلِيِّ تَتَرَقَّى مِنْ مَوْجُودٍ إِلَى مَوْجُودٍ آخَرَ، وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى حَضْرَةِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَهُنَاكَ انْتِهَاءُ الْغَايَاتِ وَانْقِطَاعُ الْحَرَكَاتِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَالْمَعْنَى رَاضِيَةً(31/162)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
بِالثَّوَابِ مَرْضِيَّةً عَنْكِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلْتِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ، مَا
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ» .
ثم قوله تعالى:
[سورة الفجر (89) : الآيات 29 الى 30]
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَجَعَلُوا وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَحَوِّلْ وَجْهِي نَحْوَ بَلْدَتِكَ، فَحَوَّلَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَحْوَهَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُحَوِّلَهُ، وَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي أَيِ انْضَمِّي إِلَى عِبَادِي الْمُقَرَّبِينَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الشَّرِيفَةَ الْقُدْسِيَّةَ تَكُونُ كَالْمَرَايَا الْمَصْقُولَةِ، فَإِذَا انْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى الْبَعْضِ حَصَلَتْ فِيمَا بَيْنَهَا حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ تَقَابُلِ الْمَرَايَا الْمَصْقُولَةِ مِنِ انْعِكَاسِ الْأَشِعَّةِ مِنْ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَظْهَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كُلُّ مَا ظَهَرَ فِي كُلِّهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الِانْضِمَامُ سَبَبًا لِتَكَامُلِ تِلْكَ السَّعَادَاتِ، وَتَعَاظُمِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 90، 91] وَذَلِكَ هُوَ السَّعَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، ثُمَّ قَالَ: وَادْخُلِي جَنَّتِي وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ غَيْرَ مُتَرَاخِيَةٍ عَنِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ السُّعَدَاءِ، لَا جَرَمَ قَالَ:
فَادْخُلِي فِي عِبادِي فَذُكِرَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ الْجُسْمَانِيَّةُ لَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى، لَا جَرَمَ قَالَ: وَادْخُلِي جَنَّتِي فَذَكَرَهُ بِالْوَاوِ لَا بِالْفَاءِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/163)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البلد
عشرون آية مكية
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
[في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ] أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَلَدَ هِيَ مَكَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ مَكَّةَ مَعْرُوفٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا حَرَمًا آمِنًا، فَقَالَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِيهَا وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَجَعَلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ قِبْلَةً لِأَهْلِ المشرق والمغرب، فقال: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَةِ: 144] وَشَرَّفَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [الْبَقَرَةِ: 125] وَأَمَرَ النَّاسَ بِحَجِّ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَقَالَ فِي الْبَيْتِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَالَ: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الْحَجِّ: 26] وَقَالَ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الْحَجِّ: 27] وَحَرَّمَ فِيهِ الصَّيْدَ، وَجَعَلَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ بِإِزَائِهِ، وَدُحِيَتِ الدُّنْيَا مِنْ تَحْتِهِ، فَهَذِهِ الْفَضَائِلُ وَأَكْثَرُ مِنْهَا لَمَّا اجْتَمَعَتْ فِي مَكَّةَ لَا جَرَمَ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أُمُورٌ أَحَدُهَا: وَأَنْتَ مُقِيمٌ بِهَذَا الْبَلَدِ نَازِلٌ فِيهِ حَالٌّ بِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُقِيمٌ بِهَا وَثَانِيهَا: الْحِلُّ بِمَعْنَى الْحَلَالِ، أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَحْتَرِمُونَ هَذَا الْبَلَدَ وَلَا يَنْتَهِكُونَ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَمَعَ إِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاكَ بِالنُّبُوَّةِ يَسْتَحِلُّونَ إِيذَاءَكَ وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْكَ لَقَتَلُوكَ، فَأَنْتَ حِلٌّ لَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ لَا يَرَوْنَ لَكَ مِنَ الْحُرْمَةِ مَا يَرَوْنَهُ لِغَيْرِكَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ: يُحَرِّمُونَ أن يقتلوا بها صيدا أو يعضوا بِهَا شَجَرَةً وَيَسْتَحِلُّونَ إِخْرَاجَكَ وَقَتْلَكَ، وَفِيهِ تَثْبِيتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْثٌ عَلَى احْتِمَالِ مَا كَانَ يُكَابِدُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَتَعْجِيبٌ لَهُ مِنْ حَالِهِمْ فِي عُدْوَانِهِمْ لَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: وَأَنْتَ حِلٌّ أَيْ لَسْتَ بِآثِمٍ، وَحَلَالٌ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ بِمَكَّةَ مَنْ شِئْتَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَحَلَّهَا لَهُ، وَمَا فُتِحَتْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، فَأَحَلَّ مَا شَاءَ وَحَرَّمَ مَا شَاءَ وَفَعَلَ مَا شَاءَ، فَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَمَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ وَغَيْرَهُمَا، وَحَرَّمَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ/
قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَنْ(31/164)
تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خلالها، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِبُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ» .
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَتْ فِي آخِرِ مُدَّةِ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؟ قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ لِلْحَالِ وَالْمَعْنَى مُسْتَقْبَلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] وَكَمَا إِذَا قُلْتَ لِمَنْ تَعِدُهُ الْإِكْرَامَ وَالْحِبَاءَ: أَنْتَ مُكْرَمٌ مَحْبُوٌّ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ عِنْدَهُ كَالْحَاضِرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ وَعْدِهِ مَانِعٌ وَرَابِعُهَا: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَيْ وَأَنْتَ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِي هَذَا الْبَلَدِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْكَ ارْتِكَابُهُ تَعْظِيمًا مِنْكَ لِهَذَا الْبَيْتِ، لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ فِيهِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى غَايَةِ فَضْلِ هَذَا الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أَيْ وَأَنْتَ مِنْ حِلِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمُعَظَّمَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَأَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ يَعْرِفُونَ أَصْلَكَ وَنَسَبَكَ وَطَهَارَتَكَ وَبَرَاءَتَكَ طُولَ عُمْرِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْجُمُعَةِ: 2] وَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] وَقَوْلُهُ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ [يُونُسَ: 16] فَيَكُونُ الْغَرَضُ شَرْحَ مَنْصِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْوَلَدُ آدَمُ وَمَا وَلَدَ ذُرِّيَّتُهُ، أَقْسَمَ بِهِمْ إِذْ هُمْ مِنْ أَعْجَبِ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْبَيَانِ وَالنُّطْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ وَفِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَنْصَارُ لِدِينِهِ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ لَهُمْ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ صَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ظُهُورِ الْعَجَائِبِ فِي هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ بِآدَمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّالِحِينَ كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِهِ وَكَأَنَّهُمْ بَهَائِمُ. كَمَا قَالَ: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفُرْقَانِ: 44] ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْبَقَرَةِ: 18] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَلَدَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمَا وَلَدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقْسَمَ بِمَكَّةَ وَإِبْرَاهِيمَ بَانِيهَا وَإِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سُكَّانِهَا، وَفَائِدَةُ التَّنْكِيرِ الْإِبْهَامُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْمَدْحِ وَالتَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَما وَلَدَ وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ وَلَدَ، لِلْفَائِدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آلِ عِمْرَانَ: 36] أَيْ بِأَيِّ شَيْءٍ وَضَعَتْ يَعْنِي مَوْضُوعًا عَجِيبَ الشَّأْنِ وَثَالِثُهَا:
الْوَلَدُ إِبْرَاهِيمُ وَمَا وَلَدَ جَمِيعُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ. فَإِنَّ جُمْلَةَ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ سُكَّانُ الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ وَمِنْهُمُ الرُّومُ لِأَنَّهُمْ وَلَدُ عَيْصُو بْنِ إِسْحَاقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِوَلَدِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ/ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِالْعَرَبِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِوَلَدِ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ قَدْ شُرِّعَ فِي التَّشَهُّدِ أَنْ يُقَالَ: «كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» وهم المؤمنون وَرَابِعُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْوَلَدُ الَّذِي يَلِدُ، وَمَا وَلَدَ الَّذِي لَا يلد، فما هاهنا يَكُونُ لِلنَّفْيِ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ عَنْ إِضْمَارِ الْمَوْصُولِ أَيْ وَوَالِدٍ، وَالَّذِي مَا وَلَدَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَخَامِسُهَا: يَعْنِي كُلَّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ففيه مسائل:(31/165)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْكَبَدِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ الْكَبَدَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِكَ كَبَدَ الرَّجُلُ كَبَدًا فَهُوَ كَبِدٌ إِذَا وُجِعَتْ كَبِدُهُ وَانْتَفَخَتْ، فَاتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمِنْهُ اشْتُقَّتِ الْمُكَابَدَةُ وَأَصْلُهُ كَبَدَهُ إِذَا أَصَابَ كَبِدَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَبَدُ شِدَّةُ الْأَمْرِ وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَنُ إِذَا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَمِنْهُ الْكَبِدُ لِأَنَّهُ دَمٌ يَغْلُظُ وَيَشْتَدُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ جَعَلَ اسْمَ الْكَبَدِ مَوْضُوعًا لِلْكَبِدِ، ثُمَّ اشْتُقَّتْ مِنْهُ الشِّدَّةُ. وَفِي الثَّانِي جُعِلَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِلشِّدَّةِ وَالْغِلَظِ، ثُمَّ اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ الْعُضْوِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَبَدَ هُوَ الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْكَبَدَ شِدَّةُ الْخَلْقِ وَالْقُوَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ التَّكَالِيفِ فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ شَدَائِدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ ذَلِكَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيْ خَلَقْنَاهُ أَطْوَارًا كُلُّهَا شِدَّةٌ وَمَشَقَّةٌ، تَارَةً فِي بَطْنِ الْأُمِّ، ثُمَّ زَمَانَ الْإِرْضَاعِ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَ فَفِي الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَوْتُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْكَبَدُ فِي الدِّينِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ الشُّكْرَ عَلَى السَّرَّاءِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الضَّرَّاءِ، وَيُكَابِدُ الْمِحَنَ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ الْآخِرَةُ، فَالْمَوْتُ وَمُسَاءَلَةُ الْمَلَكِ وَظُلْمَةُ الْقَبْرِ، ثُمَّ الْبَعْثُ وَالْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ يَكُونُ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ الْحَقُّ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَذَّةٌ الْبَتَّةَ، بَلْ ذَاكَ يُظَنُّ أَنَّهُ لَذَّةٌ فَهُوَ خَلَاصٌ عَنِ الْأَلَمِ، فَإِنَّ مَا يُتَخَيَّلُ مِنَ اللَّذَّةِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَهُوَ خَلَاصٌ عِنْدَ أَلَمِ الْجُوعِ، وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ اللَّذَّاتِ عِنْدَ اللُّبْسِ فَهُوَ خَلَاصٌ عَنْ أَلَمِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ، إِلَّا أَلَمٌ أَوْ خَلَاصٌ عَنْ أَلَمٍ وَانْتِقَالٌ إِلَى آخَرَ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ويطهر مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ الَّذِي دَبَّرَ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ إِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْهُ أَنْ يَتَأَلَّمَ، فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ أَنْ لَا يَتَأَلَّمَ وَلَا يَلْتَذَّ، فَفِي تَرْكِهِ عَلَى الْعَدَمِ كِفَايَةٌ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ أَنْ يَلْتَذَّ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَذَّةٌ، وَأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي كَبَدٍ وَمَشَقَّةٍ وَمِحْنَةٍ، فَإِذًا لَا بُدَّ/ بَعْدَ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَارٍ أُخْرَى، لِتَكُونَ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ السَّعَادَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالْكَرَامَاتِ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْكَبَدُ بِالِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كَبَدٍ، أَيْ قَائِمًا مُنْتَصِبًا، وَالْحَيَوَانَاتُ الْأُخَرُ تَمْشِي مُنَكَّسَةً، فَهَذَا امْتِنَانٌ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْخِلْقَةِ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنْ يُفَسَّرَ الْكَبَدُ بِشِدَّةِ الْخِلْقَةِ، فَقَدْ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ يُكْنَى أَبَا الْأَشَدِّ، وَكَانَ يَجْعَلُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ، فَيَجْتَذِبُونَهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَيَتَمَزَّقُ الْأَدِيمُ وَلَمْ تَزَلْ قَدَمَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّائِقَ بِالْآيَةِ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَرْفُ فِي وَاللَّامُ مُتَقَارِبَانِ، تَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتَ لِلْعَنَاءِ وَالنَّصَبِ، وَإِنَّمَا أَنْتَ فِي الْعَنَاءِ وَالنَّصَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي كَبَدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَبَدَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْكَدُّ والمحنة.(31/166)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ بِالْقُوَّةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ورد عند فعل فعله ذلك الرجل.
[سورة البلد (90) : آية 5]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
اعْلَمْ أَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الْكَبَدَ بِالشِّدَّةِ فِي الْقُوَّةِ، فَالْمَعْنَى أَيَحْسَبُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الشَّدِيدُ أَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنْ فَسَّرْنَا الْمِحْنَةَ وَالْبَلَاءَ كَانَ الْمَعْنَى تَسْهِيلَ ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَهَبْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ فِي النِّعْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، أَفَيَظُنُّ أَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ: بَعْضُهُمْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى بَعْثِهِ وَمُجَازَاتِهِ فَكَأَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ لَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى الْأُمُورِ لَا يُدَافِعُ عَنْ مُرَادِهِ، وَقَوْلُهُ: أَيَحْسَبُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الإنكار.
[سورة البلد (90) : آية 6]
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَبَدَ، فِعْلٌ مِنَ التَّلْبِيدِ وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: فِعْلٌ لِلْكَثْرَةِ يُقَالُ رَجُلٌ حُطَمٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْحَطْمِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَاحِدَتُهُ لُبْدَةٌ وَلُبَدٌ جَمْعٌ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ وَاحِدًا، وَنَظِيرُهُ قُسَمٌ وَحُطَمٌ وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا الْكَثِيرُ، قَالَ اللَّيْثَ: مَالٌ لُبَدٌ لَا يُخَافُ فَنَاؤُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذَا الْحَرْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الْجِنِّ: 19] وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَقُولُ: أَهْلَكْتُ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ مَالًا كَثِيرًا، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ مَا أَنْفَقَهُ فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ مَكَارِمَ، وَيَدَّعُونَهُ مَعَالِيَ وَمَفَاخِرَ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 7]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ/ يَرَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ الثَّانِي:
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ كَاذِبًا لَمْ يُنْفِقْ شَيْئًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، أَنْفَقَ أَوْ لَمْ يُنْفِقْ، بَلْ رَآهُ وَعَلِمَ مِنْهُ خِلَافَ مَا قَالَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ قَوْلَهُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى:
[سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وَعَجَائِبُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّشْرِيحِ، قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: النَّجْدُ الطَّرِيقُ فِي ارْتِفَاعٍ فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَضَحَتِ الدَّلَائِلُ جُعِلَتْ كَالطَّرِيقِ الْمُرْتَفِعَةِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهَا وَاضِحَةٌ لِلْعُقُولِ كَوُضُوحِ الطَّرِيقِ الْعَالِي لِلْأَبْصَارِ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي النَّجْدَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُمَا سَبِيلَا الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ، نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ، وَلَا يَكُونُ نَجْدُ الشَّرِّ، أَحَبَّ إِلَى أَحَدِكُمْ مَنْ نَجْدِ الْخَيْرِ» وَهَذِهِ الْآيَةُ كالآية في: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ إِلَى قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً(31/167)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
وَإِمَّا كَفُوراً
[الْإِنْسَانِ: 1- 3] وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً فَمَنِ الَّذِي يُحَاسِبُنِي عَلَيْهِ؟ فَقِيلَ: الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَكَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ قَادِرٌ عَلَى مُحَاسَبَتِكَ، وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُمَا الثَّدْيَانِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَدِ وَرِزْقِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هَدَى الطِّفْلَ الصَّغِيرَ حَتَّى ارْتَضَعَهَا، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالتَّأْوِيلُ هُوَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ قَرَّرَ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِنَ الْمَاءِ المهين قلبا عقولا ولسانا قولا، فَهُوَ عَلَى إِهْلَاكِ مَا خَلَقَ قَادِرٌ، وَبِمَا يُخْفِيهِ الْمَخْلُوقُ عَالِمٌ، فَمَا الْعُذْرُ فِي الذَّهَابِ عَنْ هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ وَمَا الْحُجَّةُ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ مِنْ تَظَاهُرِ نِعَمِهِ، وَمَا الْعِلَّةُ فِي التَّعْزِيزِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَنْصَارِ دِينِهِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْمُعْطِي لَهُ، وَهُوَ الْمُمْكِنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الْوُجُوهِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تُنْفَقُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَعَرَّفَ هَذَا الْكَافِرَ أَنَّ إِنْفَاقَهُ كَانَ فاسدا وغير مفيد، فقال تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 11]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ يُقَالُ: قَحَمَ يَقْحَمُ قُحُومًا، وَاقْتَحَمَ اقْتِحَامًا وَتَقَحَّمَ تَقَحُّمًا إِذَا رَكِبَ الْقُحَمَ، وَهِيَ الْمَهَالِكُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ وَالْعَقَبَةُ طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ وَعْرٌ، الْجَمْعُ الْعُقَبُ وَالْعُقَابُ، ثم ذكر المفسرون في العقبة هاهنا وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ عَقَبَةَ جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
هِيَ عَقَبَةٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ هِيَ: جبل زلال في جهنم وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضِّحَاكُ: هِيَ الصِّرَاطُ يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: إِنَّهَا عَقَبَةُ الْجَنَّةِ/ وَالنَّارِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا تَفْسِيرٌ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ [بَنِي] هَذَا الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَقْتَحِمُوا عَقَبَةَ جَهَنَّمَ وَلَا جَاوَزُوهَا فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ يَكُونُ إِيضَاحًا لِلْوَاضِحَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد: 12] فَسَّرَهُ بِفَكِّ الرَّقَبَةِ وَبِالْإِطْعَامِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة هاهنا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ: قَالَ الْحَسَنُ عَقَبَةُ اللَّهِ شَدِيدَةٌ وَهِيَ مُجَاهَدَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَعَدُوَّهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَأَقُولُ هَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عَالَمِ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ إِلَى يَفَاعِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَقَبَاتٍ سَامِيَةً دُونَهَا صَوَاعِقُ حَامِيَةٌ، وَمُجَاوَزَتُهَا صَعْبَةٌ وَالتَّرَقِّي إِلَيْهَا شَدِيدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّهُ قَلَّمَا تُوجَدُ لَا الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضِيِّ إِلَّا مُكَرَّرَةً، تَقُولُ: لَا جَنَّبَنِي وَلَا بَعَّدَنِيِّ قَالَ تَعَالَى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [الْقِيَامَةِ: 31] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا جَاءَ التَّكْرِيرُ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ أُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهَا مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ فَلَا فَكَّ رَقَبَةً وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَسَّرَ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا آمَنَ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ لَمْ يَقْتَحِمْهَا، وَإِذَا كَانَتْ لَا بِمَعْنَى لَمْ كَانَ التَّكْرِيرُ غَيْرَ وَاجِبٍ كَمَا لَا يَجِبُ التَّكْرِيرُ مَعَ لَمْ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوْضِعٍ نَحْوَ فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى فَهُوَ كَتَكَرُّرِ وَلَمْ: نَحْوَ لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الْفُرْقَانِ: 67] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَوْلُهُ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ هَلَّا أَنْفَقَ مَالَهُ فِيمَا فِيهِ اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ؟ وَأَمَّا(31/168)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ أَجْرَوُا اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة. ثم قال تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 12]
وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْعَقَبَةَ لَا تَكُونُ فَكَّ رَقَبَةٍ، فَالْمُرَادُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْتِزَامِ الدِّينِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 13]
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
وَالْمَعْنَى أَنَّ اقْتِحَامَ الْعَقَبَةِ هُوَ الْفَكُّ أَوِ الْإِطْعَامُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَكُّ فَرْقٌ يُزِيلُ الْمَنْعَ كَفَكِّ الْقَيْدِ وَالْغُلِّ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِفَةِ الرِّقِّ بِإِيجَابِ الْحُرِّيَّةِ وَإِبْطَالِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِنْهُ فَكُّ الرَّهْنِ وَهُوَ إِزَالَةُ غَلْقِ الرَّهْنِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَطْلَقْتَهُ فَقَدْ فَكَكْتَهُ، وَمِنْهُ فَكُّ الْكِتَابِ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي «الْمَصَادِرِ» فَكَّهَا يَفُكُّهَا فَكَاكًا بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي الْمَصْدَرِ وَلَا تَقُلْ بِكَسْرِهَا، وَيُقَالُ: كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي الْأُسَارَى شَدَّ رِقَابِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ فَجَرَى ذَلِكَ فِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَشْدُدْ، ثُمَّ سُمِّيَ إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ فَكَاكًا، قَالَ الْأَخْطَلُ:
أَبَنِي كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَكُّ الرَّقَبَةِ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ رَقَبَةً مِنَ الرِّقِّ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُعْطِيَ مُكَاتِبًا مَا يَصْرِفُهُ إِلَى جِهَةِ فَكَاكِ نَفْسِهِ،
رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: عِتْقُ النَّسَمَةِ وَفَكُّ الرَّقَبَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أو ليسا وَاحِدًا؟ قَالَ: لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ، أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا»
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يَفُكَّ الْمَرْءُ رَقَبَةَ نَفْسِهِ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ الْحُرِّيَّةُ الْكُبْرَى، وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنَ النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ، وَالتَّقْدِيرُ هِيَ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ وَقُرِئَ: (فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ) عَلَى الْإِبْدَالِ مِنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ اعْتِرَاضٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَشْبَهُ الْوَجْهَيْنِ بِصَحِيحِ العربية لقوله: ثُمَّ كانَ [البلد: 16] لِأَنَّ فَكَّ وَأَطْعَمَ فِعْلٌ، وَقَوْلُهُ: كانَ فِعْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُعْطَفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِعْلًا، أَمَّا لَوْ قِيلَ: ثُمَّ إِنْ كَانَ «1» كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: فَكُّ رَقَبَةٍ بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَطْفًا لِلِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ الصَّدَقَةُ أَفْضَلُ، وَالْآيَةُ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لِتَقَدُّمِ الْعِتْقِ عَلَى الصدقة فيها.
[سورة البلد (90) : آية 14]
أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: سَغَبَ سَغَبًا إِذَا جَاعَ فَهُوَ سَاغِبٌ وَسَغْبَانُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : المسغبة
__________
(1) أي يكون المعطوف (إن كان) وهي جملة اسمية شرطية.(31/169)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
وَالْمَقْرَبَةُ وَالْمَتْرَبَةُ مَفْعَلَاتٌ مِنْ سَغَبَ إِذَا جَاعَ وَقَرُبَ فِي النَّسَبِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرَبَتِي وَتَرِبَ إِذَا افْتَقَرَ وَمَعْنَاهُ الْتَصَقَ بِالتُّرَابِ، وَأَمَّا أَتْرَبَ فَاسْتَغْنَى، أَيْ صَارَ ذَا مَالٍ كَالتُّرَابِ فِي الْكَثْرَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَتْرَبَةُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ تَرِبَ يُتْرِبُ تَرَبًا وَمَتْرَبَةٌ مِثْلُ مَسْغَبَةٍ إِذَا افْتَقَرَ حَتَّى لَصِقَ بِالتُّرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَاصِلُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ: يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: وَهُوَ نَائِمٌ يَوْمٌ مَحْرُوصٌ فِيهِ عَلَى الطَّعَامِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَعْنَاهُ مَا يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ أَيْ ذُو نَوْمٍ وَصَوْمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِخْرَاجَ الْمَالِ فِي وَقْتِ الْقَحْطِ وَالضَّرُورَةِ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ وَأَوْجَبُ لِلْأَجْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَالَ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَرَأَ الْحَسَنُ: (ذَا مَسْغَبَةٍ) نَصَبَهُ بِإِطْعَامٍ وَمَعْنَاهُ أَوْ إِطْعَامٍ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ ذَا مسغبة. أما قوله تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 15]
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَا قَرَابَةٍ تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد/ قَرَابَتِي قَبِيحٌ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَصْدَرٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَتِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقَّانِ يُتْمٌ وَقَرَابَةٌ، فَإِطْعَامُهُ أَفْضَلُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْقُرْبُ بِالْجِوَارِ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ القرب بالنسب. أما قوله تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 16]
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
أَيْ مِسْكِينًا قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ فَقْرِهِ وَضُرِّهِ، فَلَيْسَ فَوْقَهُ مَا يَسْتُرُهُ وَلَا تَحْتَهُ مَا يُوَطِّئُهُ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّ بِمِسْكِينٍ لَاصِقٍ بِالتُّرَابِ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فِيهِ] : أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْمِسْكِينِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، لَكَانَ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ: ذَا مَتْرَبَةٍ تَكْرِيرًا وَهُوَ غير جائز.
[سورة البلد (90) : آية 17]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ كَانَ مُقْتَحِمُ الْعَقَبَةِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، وَلَا مُقْتَحِمًا لِلْعَقَبَةِ فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا لِلِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ وَجَبَ كَوْنُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا التَّرَاخِيَ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْوُجُودِ، كَقَوْلِهِ:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ التَّأَخُّرَ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى، ثُمَّ اذْكُرْ أَنَّهُ سَادَ أَبُوهُ. كَذَلِكَ فِي الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، ثُمَّ كَانَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطُ الِانْتِفَاعِ بِالطَّاعَاتِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَبِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ إِيمَانِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ: «أَنَّ حَكِيمَ بن حزام بعد ما أَسْلَمَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَأْتِي بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْءٌ؟ فَقَالَ(31/170)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا قَدَّمْتَ مِنَ الْخَيْرِ»
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا تَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدُهُ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَنِ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ دَرَجَةَ ثَوَابِ الْإِيمَانِ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرَجَةِ ثَوَابِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَوِ الصَّبْرِ عَلَى الْمَعَاصِي وَعَلَى الطَّاعَاتِ وَالْمِحَنِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا الْمُؤْمِنُ ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ التَّوَاصِيَ بِالْمَرْحَمَةِ وَهُوَ أَنْ يَحُثَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَنْ يَرْحَمَ الْمَظْلُومَ أَوِ الْفَقِيرَ، أَوْ يَرْحَمَ الْمُقْدِمَ عَلَى مُنْكَرٍ فَيَمْنَعَهُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الرَّحْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ/ يَدُلَّ غَيْرَهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَيَمْنَعَهُ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الشَّرِّ وَالْبَاطِلِ مَا أَمْكَنَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يَعْنِي يَكُونُ مُقْتَحِمُ الْعَقَبَةِ مِنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ وَالطَّائِفَةِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمْ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُبَالِغِينَ فِي الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الدِّينِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَدَارُ أَمْرِ الطَّاعَاتِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، إِنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصَوُّفِ أَمْرَانِ: صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مع الخلق.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ فِي الْقِيَامَةِ فَقَالَ:
[سورة البلد (90) : آية 18]
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَأَنَّهُمْ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الْوَاقِعَةِ: 28، 29] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَيْمَنَةُ وَالْمَشْأَمَةُ، الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ، أَوِ الْيَمِينُ وَالشُّؤْمُ، أَيِ الْمَيَامِينُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْمَشَائِيمُ عليها. ثم قال تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 19]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ أَوْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُ اللَّهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ: فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الْوَاقِعَةِ: 42] إلى غير ذلك. ثم قال تعالى:
[سورة البلد (90) : آية 20]
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ: يُقَالُ آصَدْتُ الْبَابَ وأو صدته إِذَا أَغْلَقْتَهُ، فَمَنْ قَرَأَ مُؤْصَدَةٌ بِالْهَمْزَةِ أَخَذَهَا مَنْ آصَدْتُ فَهُمِزَ اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْصَدْتُ وَلَكِنَّهُ هُمِزَ عَلَى لُغَةِ من يهمز الواو وإذا كَانَ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ نَحْوَ مُؤْسَى، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزِ احْتَمَلَ أَيْضًا أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَوْصَدْتُ فَلَمْ يَهْمِزِ اسْمَ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ: مِنْ أَوْعَدْتُ مَوْعِدٌ.
الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ آصَدَ مِثْلَ آمَنَ وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ كَمَا فِي تَخْفِيفِ جُؤْنَةٍ وَبُؤْسٍ جُونَةٍ وَبُوسٍ فَيَقْلِبُهَا فِي(31/171)
التَّخْفِيفِ وَاوًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ مِنْ هَذَا الْأَصِيدِ وَالْوَصِيدِ وَهُوَ الْبَابُ الْمُطْبَقُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ مُقَاتِلٌ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يَعْنِي أَبْوَابُهَا مُطْبَقَةٌ فَلَا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا غَمٌّ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا رُوحٌ أَبَدَ الْآبَادِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِحَاطَةُ النِّيرَانِ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها [الْكَهْفِ: 29] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُؤْصَدَةُ هِيَ الْأَبْوَابُ، وَقَدْ جَرَتْ صِفَةٌ لِلنَّارِ عَلَى تَقْدِيرِ: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةُ الْأَبْوَابِ، فَكُلَّمَا تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ عَادَ التَّنْوِينُ لِأَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/172)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشمس
خمس عشرة آية مكية
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
قَبْلَ الْخَوْضِ فِي التَّفْسِيرِ لَا بُدَّ مِنْ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمَعَاصِي.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُنَبِّهُ عِبَادَهُ دَائِمًا بِأَنْ يَذْكُرَ فِي الْقَسَمِ أَنْوَاعَ مَخْلُوقَاتِهِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ حَتَّى يَتَأَمَّلَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا وَيَشْكُرَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الَّذِي يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَحْصُلُ لَهُ وَقْعٌ فِي الْقَلْبِ، فَتَكُونُ الدَّوَاعِي إِلَى تَأَمُّلِهِ أَقْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ قَالُوا: التَّقْدِيرُ وَرَبِّ الشَّمْسِ وَرَبِّ سَائِرِ مَا ذَكَرَهُ إِلَى تمام القسم، واحتج قوم على بطلان هذا المذهب، فَقَالُوا: إِنَّ فِي جُمْلَةِ هَذَا الْقَسَمِ قَوْلَهُ: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَرَبِّ السَّمَاءِ وَرَبِّهَا وَذَلِكَ كَالْمُتَنَاقِضِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما بَناها لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ (مَا) لَا تُسْتَعْمَلُ فِي خَالِقِ السَّمَاءِ إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَ قَسَمَهُ بِغَيْرِهِ عَلَى قَسَمِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَكَادُ يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنَّ مَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ فيكون التقدير: والسماء وبنائها، اعترض صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَ مِنْ عَطْفِ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها [الشمس: 8] عَلَيْهِ فَسَادُ النَّظْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا نَحْوَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فقرءوها تَارَةً بِالْإِمَالَةِ وَتَارَةً بِالتَّفْخِيمِ وَتَارَةً بَعْضَهَا بِالْإِمَالَةِ وَبَعْضَهَا بِالتَّفْخِيمِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: بِكَسْرِ ضُحَاهَا، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا وَإِنْ كَانَ أَصْلُ بَعْضِهَا الْوَاوَ نَحْوَ: تَلَاهَا، وَطَحَاهَا وَدَحَاهَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِحَرْفِ الْيَاءِ أَتْبَعَهَا بِمَا هُوَ مِنَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْأَلِفَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْوَاوِ قَدْ تُوَافِقُ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ الْيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَلَوْتُ وَطَحَوْتُ وَنَحْوَهُمَا قَدْ يَجُوزُ فِي أَفْعَالِهَا أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى الْيَاءِ نَحْوَ: تَلِيَ وَدَحِيَ، فَلَمَّا(31/173)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوَافَقَةُ اسْتَجَازُوا إِمَالَتَهُ/ كَمَا اسْتَجَازُوا إِمَالَةَ مَا كَانَ مِنَ الْيَاءِ، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ تَرَكَ الْإِمَالَةَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَرَبِ لَا يُمِيلُونَ هَذِهِ الْأَلِفَاتِ وَلَا يَنْحُونَ فِيهَا نَحْوَ الْيَاءِ، وَيُقَوِّي تَرْكَ الْإِمَالَةِ لِلْأَلِفِ أَنَّ الْوَاوَ فِي مُوسَرٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ، وَالْيَاءَ فِي مِيقَاتٍ وَمِيزَانٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِانْقِلَابِ، فَكَذَا هاهنا يَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ الْأَلِفُ غَيْرَ مُمَالَةٍ وَلَا يُنْحَى بِهَا نَحْوُ الْيَاءِ، وَأَمَّا إِمَالَةُ الْبَعْضِ وَتَرْكُ إِمَالَةِ الْبَعْضِ، كَمَا فَعَلَهُ حَمْزَةُ فَحَسَنٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَلِفَ إِنَّمَا تُمَالُ نَحْوَ الْيَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الْيَاءِ إِذَا كَانَ انْقِلَابُهَا عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها أَلِفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ بِدَلَالَةِ تَلَوْتُ وَدَحَوْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْسَمَ بِسَبْعَةِ أَشْيَاءَ إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9] وَهُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَقَدْ أَفْلَحَ، لَكِنَّ اللَّامَ حُذِفَتْ لِأَنَّ الْكَلَامَ طَالَ فَصَارَ طُولُهُ عِوَضًا مِنْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ضُحَاهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: ضَوْؤُهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ أَنْ نَقُولَ: قَالَ اللَّيْثُ: الضَّحْوُ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ، وَالضُّحَى فُوَيْقَ ذَلِكَ، وَالضَّحَاءُ مَمْدُودًا امْتَدَّ النَّهَارُ، وَقَرُبَ أَنْ يَنْتَصِفَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الضِّحُّ نَقِيضُ الظِّلِّ وَهُوَ نُورُ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَصْلُهُ الضُّحَى، فَاسْتَثْقَلُوا الْيَاءَ مَعَ سُكُونِ الْحَاءِ فَقَلَبُوهَا وَقَالَ: ضَحٌّ، فَالضُّحَى هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَنُورُهَا ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النَّازِعَاتِ: 46] فَمَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: فِي ضُحَاهَا ضَوْؤُهَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا مَنْ قَالَ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ، لِأَنَّ جَمِيعَ النَّهَارِ هُوَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، وَمَنْ قَالَ: فِي الضُّحَى إِنَّهُ حَرُّ الشَّمْسِ فَلِأَنَّ حَرَّهَا وَنُورُهَا مُتَلَازِمَانِ، فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعَلَّقَ بها من المصالح، فإن أهل العالم كَانُوا كَالْأَمْوَاتِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ الصُّبْحِ فِي الْمَشْرِقِ صَارَ ذَلِكَ كَالصُّورِ الَّذِي يَنْفُخُ قُوَّةَ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً، وَلَا تَزَالُ تِلْكَ الْحَيَاةُ فِي الِازْدِيَادِ وَالْقُوَّةِ وَالتَّكَامُلِ، وَيَكُونُ غَايَةُ كَمَالِهَا وَقْتَ الضَّحْوَةِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ تُشْبِهُ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ، وَوَقْتُ الضُّحَى يُشْبِهُ اسْتِقْرَارَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها قال الليل: تَلَا يَتْلُو إِذَا تَبِعَ شَيْئًا وَفِي كَوْنِ الْقَمَرِ تَالِيًا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: بَقَاءُ الْقَمَرِ طَالِعًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا الْقَمَرُ يَتْبَعُهَا فِي الْإِضَاءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ فَالْقَمَرُ يَتْبَعُهَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ فِي الْغُرُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا التُّلُوِّ هُوَ أَنَّ الْقَمَرَ يَأْخُذُ الضَّوْءَ مِنَ الشَّمْسِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَتْبَعُ فُلَانًا فِي كَذَا أَيْ يَأْخُذُ مِنْهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَلَاهَا حِينَ اسْتَدَارَ وَكَمُلَ، فَكَأَنَّهُ يَتْلُو الشَّمْسَ فِي الضِّيَاءِ وَالنُّورِ يَعْنِي إِذَا كَمُلَ ضَوْؤُهُ فَصَارَ كَالْقَائِمِ مَقَامَ الشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي/ الْبِيضِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ يَتْلُوهَا فِي كِبَرِ الْجِرْمِ بِحَسَبِ الْحِسِّ، وَفِي ارْتِبَاطِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالِمِ بِحَرَكَتِهِ، وَلَقَدْ ظَهَرَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَيْسَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
[سورة الشمس (91) : آية 3]
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3)
مَعْنَى التَّجْلِيَةِ الْإِظْهَارُ، وَالْكَشْفُ وَالضَّمِيرُ فِي جَلَّاهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهَارَ عِبَارَةٌ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ. فَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ أَجْلَى ظُهُورًا كانت(31/174)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
الشَّمْسُ أَجْلَى ظُهُورًا، لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَثَرِ وَكَمَالَهُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمُؤَثِّرِ، فَكَانَ النَّهَارُ يُبْرِزُ الشَّمْسَ وَيَظْهِرُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ: 187] أَيْ لَا يُخْرِجُهَا الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ- أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الظُّلْمَةِ، أَوْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ إِلَى الْأَرْضِ. وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، يَقُولُونَ: أَصْبَحَتْ بَارِدَةً يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
[سورة الشمس (91) : آية 4]
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
يَعْنِي يَغْشَى اللَّيْلُ الشَّمْسَ فَيُزِيلُ ضَوْءَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ اللَّيْلَ يَغْشَى الشَّمْسَ وَيُزِيلُ ضَوْءَهَا حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: النَّهَارُ يُجَلِّيهَا، عَلَى ضِدِّ مَا ذُكِرَ فِي اللَّيْلِ وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَغْشَاهَا لِلشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا فِي جَلَّاهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّمْسِ حَتَّى يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْفَوَاصِلِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلى هاهنا لِلشَّمْسِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ إِلَّا بِالشَّمْسِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنْ بِحَسَبِ أَوْصَافٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: الضَّوْءُ الْحَاصِلُ مِنْهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ. وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكْمُلُ فِيهِ انْتِشَارُ الْحَيَوَانِ وَاضْطِرَابُ النَّاسِ لِلْمَعَاشِ، وَمِنْهَا تُلُوُّ الْقَمَرِ لَهَا وَأَخْذُهُ الضَّوْءَ عَنْهَا، وَمِنْهَا تَكَامُلُ طُلُوعِهَا وَبُرُوزِهَا بِمَجِيءِ النَّهَارِ، وَمِنْهَا وُجُودُ خِلَافِ ذَلِكَ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ قَلِيلًا فِي عَظَمَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ شَاهَدَ بِعَيْنِ عَقْلِهِ فِيهَا أَثَرَ الْمَصْنُوعِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ مِنَ الْمِقْدَارِ الْمُتَنَاهِي، وَالتَّرَكُّبِ مِنَ الْأَجْزَاءِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، فسبحانه ما أعظم شأنه.
[سورة الشمس (91) : آية 5]
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5)
فِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّ ما هاهنا لَوْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً لَكَانَ عَطْفُ فَأَلْهَمَها عَلَيْهِ يوجب فساد النظم حق، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا قَسَمًا بِخَالِقِ السَّمَاءِ، لَمَا كَانَ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذِكْرِ الشَّمْسِ، فَهُوَ إِشْكَالٌ جَيِّدٌ، وَالَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ أَعْظَمَ الْمَحْسُوسَاتِ هُوَ الشَّمْسُ، فَذَكَرَهَا سُبْحَانَهُ مَعَ أَوْصَافِهَا الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ تَدْبِيرُهُ سُبْحَانَهُ لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلِلْمُرَكَّبَاتِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ بِذِكْرِ أَشْرَفِهَا وَهِيَ النَّفْسُ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَنْ يَتَوَافَقَ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ عَلَى عَظَمَةِ جِرْمِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَحْتَجُّ الْعَقْلُ السَّاذِجُ بِالشَّمْسِ، بَلْ بِجَمِيعِ السَّمَاوِيَّاتِ وَالْأَرْضِيَّاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ عَلَى إِثْبَاتِ مُبْدِئٍ لَهَا، فَحِينَئِذٍ يَحْظَى العقل هاهنا بِإِدْرَاكِ/ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْحِسُّ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ. فَكَانَ ذَلِكَ كَالطَّرِيقِ إِلَى جَذْبِ الْعَقْلِ مِنْ حَضِيضِ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَى يَفَاعِ عَالَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَبَيْدَاءِ كِبْرِيَاءِ الصَّمَدِيَّةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَتْ حَكَمَتُهُ وَكَمُلَتْ كَلِمَتُهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ الشَّمْسَ بِالصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِ جَمِيعِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالسَّمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، فَاخْتِصَاصُ الشَّمْسِ وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ، وَكَمَا أَنَّ بَانِيَ الْبَيْتِ يَبْنِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، فَكَذَا مدبر الشمس(31/175)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ قَدْرُهَا بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، فَقَوْلُهُ: وَما بَناها كَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ الشَّمْسِ وَسَائِرِ السَّمَاوِيَّاتِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: وَما بَناها وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ بَنَاهَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْوَصْفِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالسَّمَاءِ وَذَلِكَ الشَّيْءِ الْعَظِيمِ الْقَادِرِ الَّذِي بَنَاهَا، وَنَفْسٍ وَالْحَكِيمِ الْبَاهِرِ الْحِكْمَةِ الَّذِي سَوَّاهَا وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ مَنْ كَقَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: 22] وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَوَّلِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالنَّفْسُ؟
وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالشَّاهِدِ، وَالشَّاهِدُ لَيْسَ إِلَّا الْعَالَمَ الْجُسْمَانِيَّ وَهُوَ قِسْمَانِ بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ، وَالْبَسِيطُ قِسْمَانِ: الْعُلْوِيَّةُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ والسفلية وإليه الإشارة بقوله:
وَالْأَرْضِ [الشمس: 6] وَالْمُرَكَّبُ هُوَ أَقْسَامٌ، وَأَشْرَفُهَا ذَوَاتُ الْأَنْفُسِ وَإِلَيْهِ الإشارة بقوله: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 7] . أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 6]
وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا أَخَّرَ هَذَا عَنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها لِقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النَّازِعَاتِ: 30] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّيْثُ: الطَّحْوُ كَالدَّحْوِ وَهُوَ الْبَسْطُ، وَإِبْدَالُ الطَّاءِ مِنَ الدَّالِ جَائِزٌ، وَالْمَعْنَى وَسَّعَهَا.
قَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: بَسَطَهَا عَلَى الْمَاءِ. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 7]
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)
إِنْ حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى الْجَسَدِ، فَتَسْوِيَتُهَا تَعْدِيلُ أَعْضَائِهَا عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ عِلْمُ التَّشْرِيحِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقُوَّةِ الْمُدَبِّرَةِ، فَتَسْوِيَتُهَا إِعْطَاؤُهَا الْقُوَى الْكَثِيرَةَ/ كَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَالْبَاصِرَةِ وَالْمُخَيِّلَةِ وَالْمُفَكِّرَةِ وَالْمَذْكُورَةِ، عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ عِلْمُ النَّفْسِ «1» فَإِنْ قِيلَ: لِمَ نُكِّرَتِ النَّفْسُ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْسًا خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ النُّفُوسِ، وَهِيَ النَّفْسُ الْقُدْسِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ كَثْرَةٍ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ وَاحِدٍ يَكُونُ هُوَ الرَّئِيسُ، فَالْمُرَكَّبَاتُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَرَئِيسُهَا الْحَيَوَانُ، وَالْحَيَوَانُ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَرَئِيسُهَا الْإِنْسَانُ، وَالْإِنْسَانُ أَنْوَاعٌ وَأَصْنَافٌ وَرَئِيسُهَا النَّبِيُّ. وَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا كَثِيرِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَاحِدٌ يَكُونُ هُوَ الرَّئِيسُ الْمُطْلَقُ، فَقَوْلُهُ:
وَنَفْسٍ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ رَئِيسَةٌ لِعَالَمِ الْمُرَكَّبَاتِ رئاسة بِالذَّاتِ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ كُلَّ نَفْسٍ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ التَّنْكِيرِ التَّكْثِيرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ أَنْوَاعٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْلِ: 8] وَلِكُلِّ نَوْعٍ نَفْسٌ مَخْصُوصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ سَائِرِهَا بالفضل الْمُقَوِّمِ لِمَاهِيَّتِهِ، وَالْخَوَاصِّ اللَّازِمَةِ لِذَلِكَ الْفَصْلِ، فَمِنَ الذي
__________
(1) يريد بعلم النفس هاهنا: علم التشريح، لا علم النفس بالمعنى الذي نعرفه الآن وإن كان يتناول ما ذكره.(31/176)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
يُحِيطُ عَقْلُهُ بِالْقَلِيلِ مِنْ خَوَاصِّ نَفْسِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ، فَضْلًا عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِحَارِ أَسْرَارِ الله سبحانه. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 8]
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
فَالْمَعْنَى الْمُحَصَّلُ فِيهِ وَجْهَانِ الأول: أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وَإِعْقَالُهُمَا، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَسَنٌ وَالْآخَرَ قَبِيحٌ وَتَمْكِينُهُ مِنِ اخْتِيَارِ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: 10] وَهَذَا تَأْوِيلٌ مُطَابِقٌ لِمَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] وَهَذَا الْوَجْهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ جَمْعٍ مِنْ أَكَابِرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ تَقْوَاهُ وَأَلْهَمَ الْكَافِرَ فُجُورَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا بِالْفُجُورِ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
التَّعْلِيمُ وَالتَّعْرِيفُ وَالتَّبْيِينُ، غَيْرُ وَالْإِلْهَامُ غَيْرُ، فَإِنَّ الْإِلْهَامَ هُوَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ شَيْئًا، وَإِذَا أَوْقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ. وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِلْهَامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَهِمَ الشَّيْءَ، وَالْتَهَمَهُ إِذَا ابْتَلَعَهُ، وَأَلْهَمْتُهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ أَيْ أَبْلَغْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْذِفُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ كَالْإِبْلَاغِ، فَالتَّفْسِيرُ الْمُوَافِقُ لِهَذَا الْأَصْلِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَفِي الْكَافِرِ فُجُورَهُ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها فَضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَتْ وَسَعِدَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْلَحَهَا وَطَهَّرَهَا، وَالْمَعْنَى وَفَّقَهَا لِلطَّاعَةِ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ وَهُوَ تَامٌّ. وَأَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةَ ذُكِرَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُدَبِّرًا لِلْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ الْبَسِيطَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ، فَهَهُنَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا فِي عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ إِلَّا وَقَدْ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّنْبِيهِ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِتَخْلِيقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَقِيَ شَيْءٌ/ وَاحِدٌ يَخْتَلِجُ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْحَيَوَانِيَّةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ، فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُ وَبِهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَحِينَئِذٍ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ وَاقِعٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَدَاخِلٌ تَحْتَ إِيجَادِهِ وَتَصَرُّفِهِ. ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها هُوَ الْخِذْلَانُ وَالتَّوْفِيقُ مَا ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُصُولِ الِاخْتِيَارَاتِ، فَحُصُولُهَا إِنْ كَانَ لَا عَنْ فَاعِلٍ فَقَدِ اسْتَغْنَى الْمُحَدِّثُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَفِيهِ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ فَاعِلٍ هُوَ الْعَبْدُ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَيْضًا فَلْيُجَرِّبِ الْعَاقِلُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنْ شَيْءٍ فَتَقَعُ صُورَتُهُ فِي قَلْبِهِ دُفْعَةً، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى وُقُوعِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَيْهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْمَيْلِ حَرَكَةُ الْأَعْضَاءِ وَصُدُورُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَلْهَمَها مَا ذَكَرْنَاهُ لَا مَا ذكره المعتزلة. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 9]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
فَاعْلَمْ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّطْهِيرِ أَوْ عَنِ الْإِنْمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَطْلُوبَهُ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِأَنْ طَهَّرَهَا مِنَ الذُّنُوبِ بِفِعْلِ الطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالثَّانِي: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ، وَقَبِلَ الْقَاضِي هَذَا التَّأْوِيلَ، وَقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِتَزْكِيَتِهَا وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: إِنَّ فُلَانًا يُزَكِّي فُلَانًا، ثُمَّ(31/177)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ ظَاهِرًا، فَرَدُّ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ عَلَى مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا أَنَّهُ مَذْكُورٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا بالبرهان القاطع أن المراد، بألهمها مَا ذَكَرْنَاهُ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ وَالتَّسْمِيَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ بِنَاءَ التَّفْعِيلَاتِ عَلَى التَّكْوِينِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ يَمْتَنِعُ تَغَيُّرُهُ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَحْكُومِ بِهِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ مِنَ الصِّدْقِ إِلَى الْكَذِبِ، وَتَغَيُّرَ الْعِلْمِ إِلَى الْجَهْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. أَمَّا قَوْلُهُ ذِكْرُ النَّفْسِ قَدْ تَقَدَّمَ، قُلْنَا: هَذَا بِالْعَكْسِ أَوْلَى، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى مِنْ عُودِهِ إِلَى الْأَبْعَدِ، وَقَوْلُهُ: فَأَلْهَمَها أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ: (مَا) مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَفْسٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا
رَوَاهُ الواحدي في البسيط عن سعيد ابن أَبِي هِلَالٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَفَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَأَنْتَ مَوْلَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا» .
أَمَّا قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 10]
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
فَقَالُوا: دَسَّاها أَصْلُهُ دَسَّسَهَا مِنَ التَّدْسِيسِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ، فَأُبْدِلَتْ إِحْدَى السِّينَاتِ يَاءً، فَأَصْلُ دَسَّى دَسَّسَ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ تَقَضَّى الْبَازِيُّ تَقَضَّضَ البازي، وكما قالوا: ألببت وَالْأَصْلُ لَبَّبْتُ، وَمُلَبِّي وَالْأَصْلُ مُلَبِّبُ، ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا/ الْمُعْتَزِلَةُ فَذَكَرُوا وُجُوهًا تُوَافِقُ قَوْلَهُمْ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ يُظْهِرُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَهْلَ الْفِسْقِ يُخْفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَدُسُّونَهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْخَفِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَجْوَادَ الْعَرَبِ يَنْزِلُونَ الرُّبَا حَتَّى تَشْتَهِرَ أَمَاكِنُهُمْ وَيَقْصِدُهُمُ الْمُحْتَاجُونَ، وَيُوقِدُونَ النِّيرَانَ بِاللَّيْلِ لِلطَّارِقِينَ. وَأَمَّا اللِّئَامُ فَإِنَّهُمْ يُخْفُونَ أَمَاكِنَهُمْ عَنِ الطَّالِبِينَ وَثَانِيهَا: خابَ مَنْ دَسَّاها أَيْ دَسَّ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَثَالِثُهَا: مَنْ دَسَّاها فِي الْمَعَاصِي حَتَّى انْغَمَسَ فِيهَا وَرَابِعُهَا: مَنْ دَسَّاها مَنْ دَسَّ فِي نَفْسِهِ الْفُجُورَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِ عَلَيْهَا وَمُجَالَسَتِهِ مَعَ أَهْلِهَا وَخَامِسُهَا: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الطَّاعَاتِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي صَارَ خَامِلًا مَتْرُوكًا مَنْسِيًّا، فَصَارَ كَالشَّيْءِ الْمَدْسُوسِ فِي الِاخْتِفَاءِ وَالْخُمُولِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: الْمَعْنَى خَابَتْ وَخَسِرَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَغْوَاهَا وَأَفْجَرَهَا وَأَبْطَلَهَا وَأَهْلَكَهَا، هَذِهِ أَلْفَاظُهُمْ فِي تَفْسِيرِ دَسَّاها قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقْسَمَ بِأَشْرَفِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى فَلَاحِ مَنْ طَهَّرَهُ وَخَسَارِ مَنْ خَذَلَهُ حَتَّى لَا يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى تَطْهِيرَ نَفْسِهِ أَوْ إِهْلَاكَهَا بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ غَيْرِ قَدَرٍ مُتَقَدِّمٍ وقضاء سابق. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 11]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11)
قَالَ الْفَرَّاءُ: الطُّغْيَانُ وَالطَّغْوَى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برءوس الْآيَاتِ فَاخْتِيرَ لِذَلِكَ وَهُوَ كَالدَّعْوَى مِنَ الدُّعَاءِ وَفِي التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَعَلَتِ التَّكْذِيبَ بِطُغْيَانِهَا، كَمَا تَقُولُ: ظَلَمَنِي بِجَرَاءَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ طُغْيَانَهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِهِ هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّغْوَى اسْمٌ لِعَذَابِهِمُ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ، وَالْمَعْنَى كَذَّبَتْ بِعَذَابِهَا أَيْ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولَهُمْ فِيمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا لَا يَبْعُدُ لِأَنَّ مَعْنَى الطُّغْيَانِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَذَابُ الَّذِي جَاءَهُمْ طَغْوَى لِأَنَّهُ كَانَ صَيْحَةً مُجَاوِزَةً لِلْقَدْرِ الْمُعْتَادِ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ كَذَّبَتْ بِمَا أُوعِدَتْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ذِي الطَّغْوَى وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التأويل قوله(31/178)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ [الْحَاقَّةِ: 4] أَيْ بِالْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 5] فَسَمَّى مَا أُهْلِكُوا به من العذاب طاغية.
[سورة الشمس (91) : آية 12]
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)
انْبَعَثَ مُطَاوِعُ بَعَثَ يُقَالُ: بَعَثْتُ فُلَانًا عَلَى الْأَمْرِ فَانْبَعَثَ لَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِسَبَبِ طُغْيَانِهِمْ حِينَ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا وَهُوَ عَاقِرُ النَّاقَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ وَاسْمُهُ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ يُقَالُ: أَشْأَمُ مِنْ قُدَارٍ، وَهُوَ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ بِفَتْوَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْوُحْدَانِ لِتَسْوِيَتِكَ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِذَا أَضَفْتَهُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ تَقُولُ: هَذَانِ أَفْضَلُ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُهُمْ، وَهَذَا يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها [الشمس: 14] وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَشْقَوْهَا كَمَا يُقَالُ أفاضلهم. / أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 13]
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الرَّسُولِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ناقَةَ اللَّهِ أَيْ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ لَمَّا هَمُّوا بِعُقْرِهَا وَبَلَغَهُ مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ هِيَ: نَاقَةُ اللَّهِ وَآيَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَلَى نُبُوَّتِي، فَاحْذَرُوا أَنْ تَقُومُوا عَلَيْهَا بِسُوءٍ، وَاحْذَرُوا أَيْضًا أَنْ تمنعوها مِنْ سُقِيَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلَهُمْ وَلِمَوَاشِيهِمْ شِرْبُ يَوْمٍ، وَكَانُوا يَسْتَضِرُّونَ بِذَلِكَ فِي أَمْرِ مَوَاشِيهِمْ، فَهَمُّوا بِعَقْرِهَا، وَكَانَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ عَذَابٍ يَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مُتَصَوَّرَةً فِي نُفُوسِهِمْ، فَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ: ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها لِأَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ كَافِيَةٌ مَعَ الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ناقَةَ اللَّهِ نُصِبَ عَلَى التَّحْذِيرِ، كَقَوْلِكِ الْأَسَدَ الْأَسَدَ، وَالصَّبِيَّ الصَّبِيَّ بِإِضْمَارِ ذَرُوا عَقْرَهَا وَاحْذَرُوا سُقْيَاهَا، فَلَا تَمْنَعُوهَا عنها، ولا تستأثروا بها عليها.
[سورة الشمس (91) : آية 14]
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ تَكْذِيبِ صَالِحٍ، وَعَنْ عَقْرِ النَّاقَةِ بِسَبَبِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْرِ وَاحِدًا وَهُوَ قُدَارٌ، فَيُضَافُ الْفِعْلُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا قَالَ: فَتَعَاطَى فَعَقَرَ وَيُضَافُ الْفِعْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِرِضَاهُمْ بِمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ أَبَى أَنْ يَعْقِرَهَا حَتَّى بَايَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قِيلَ إِنَّهُمَا كَانَا اثْنَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الدَّمْدَمَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دَمْدَمَ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، يُقَالُ: دَمْدَمْتُ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا أَطْبَقْتَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: نَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ، أَيْ قَدْ أَلْبَسَهَا الشَّحْمَ، فَإِذَا كَرَّرْتَ الْإِطْبَاقَ قُلْتَ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الدَّمُّ فِي اللُّغَةِ اللَّطْخُ، وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ السَّمِينِ: كَأَنَّمَا دُمَّ بِالشَّحْمِ دَمًّا، فَجَعَلَ الزَّجَّاجُ دَمْدَمَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ عَلَى التَّضْعِيفِ نَحْوَ كُبْكِبُوا وَبَابِهِ،(31/179)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
فَعَلَى هَذَا مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَعَمَّهُمْ كَالشَّيْءِ الَّذِي يُلَطَّخُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: تَقُولُ لِلشَّيْءِ: يُدْفَنُ دَمْدَمْتُ عَلَيْهِ، أَيْ سَوَّيْتَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ، فَسَوَّى عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ بِأَنْ أَهْلَكَهُمْ فَجَعَلَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: دَمْدَمَ غَضِبَ، وَالدَّمْدَمَةُ الْكَلَامُ الَّذِي يُزْعِجُ الرَّجُلَ وَرَابِعُهَا: دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أَرْجَفَ الْأَرْضَ بِهِمْ رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَسَوَّاها يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا الدَّمْدَمَةَ بِالْإِطْبَاقِ وَالْعُمُومِ، كَانَ مَعْنَى فَسَوَّى/ الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وَعَمَّهُمْ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ كَانَ بِصَيْحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الصَّيْحَةُ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا، فَاسْتَوَتْ عَلَى صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالتَّسْوِيَةِ، كَانَ المراد فسوى عليهم الأرض. أما قوله تعالى:
[سورة الشمس (91) : آية 15]
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى إِذْ هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَخَافُ تَبِعَةً فِي الْعَاقِبَةِ إِذِ الْعُقْبَى وَالْعَاقِبَةُ سَوَاءٌ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ ذَلِكَ بِحَقٍّ. وَكُلُّ مَا فَعَلَ مَا يَكُونُ حِكْمَةً وَحَقًّا فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِهَذَا الْفِعْلِ، أَيْ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْشَى فِيهِ عَاقِبَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَجِلُّ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ بَالِغٌ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَلِكٍ يَخْشَى عَاقِبَةً، فَإِنَّهُ يَتَّقِي بَعْضَ الِاتِّقَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنَ الْعَوَاقِبِ، لَا جَرَمَ مَا اتَّقَى شَيْئًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ صَالِحٍ الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ أَيْ وَلَا يَخَافُ صَالِحٌ عُقْبَى هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ وَذَلِكَ كَالْوَعْدِ لِنُصْرَتِهِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْهُ لَوْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ أَنْ يُؤْذِيَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا:
الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَشْقَى الَّذِي هُوَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ فِيمَا أَقْدَمَ مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ وَلا يَخافُ عُقْباها وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً لَكِنَّهَا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي حُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى عَقْرِهَا وَهُوَ كَالْآمَنِ مِنْ نُزُولِ الْهَلَاكِ بِهِ وَبِقَوْمِهِ ففعل مع هذا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ فِعْلُ مَنْ لَا يَخَافُ الْبَتَّةَ، فَنُسِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ،
وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَمْ يَخَفْ)
وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ فَلَا يَخَافُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
رُوِيَ أَنَّ صَالِحًا لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، قَالَ التِّسْعَةُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ: هَلُمُّوا فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَأَعْجَلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ. فَأَتَوْهُ ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار، فلما أبطئوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ، فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ فَقَالُوا لِصَالِحٍ: أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ لَبِسُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ قَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كان صادقا زدتم ربكم عليكم غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَصْبَحُوا وُجُوهَهُمْ مُصْفَرَّةً فَأَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَطَلَبُوا صَالِحًا لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ صَالِحٌ وَالْتَجَأَ إِلَى سَيِّدِ بَعْضِ بُطُونِ ثَمُودَ وَكَانَ مُشْرِكًا فَغَيَّبَهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ،
فَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ: وَلا يَخافُ عُقْباها وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(31/180)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية (سُورَةُ اللَّيْلِ) قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَإِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَبُخْلِهِ وَكُفْرِهِ بِاللَّهِ، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَكِنَّ مَعَانِيَهَا عَامَّةٌ لِلنَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تعالى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4] ، وقال: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14]
وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى [الليل: 5- 7] فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة.
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِاللَّيْلِ الَّذِي يَأْوِي فِيهِ كُلُّ حَيَوَانٍ إِلَى مَأْوَاهُ وَيَسْكُنُ الْخَلْقُ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَيَغْشَاهُمُ النَّوْمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ رَاحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَغِذَاءً لِأَرْوَاحِهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، لِأَنَّ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ انْكَشَفَ بِضَوْئِهِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الظُّلْمَةِ، وَجَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أو كارها وَالْهَوَامُّ مِنْ مَكَامِنِهَا، فَلَوْ كَانَ الدَّهْرُ كُلُّهُ لَيْلًا لَتَعَذَّرَ الْمَعَاشُ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَبَطَلَتِ الرَّاحَةُ، لَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَانَتْ فِي تَعَاقُبِهِمَا عَلَى مَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [إبراهيم: 33] أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ يَغْشَى، فَهُوَ إِمَّا الشَّمْسُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشَّمْسِ: 4] وإما النهار من قوم: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الرعد: 3] وَإِمَّا كُلُّ شَيْءٍ يُوَارِيهِ بِظَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا وَقَبَ [الْفَلَقِ: 3] وَقَوْلُهُ: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أَيْ ظَهَرَ بِزَوَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَوْ ظَهَرَ وانكشف بطلوع الشمس. وقوله تعالى:
[سورة الليل (92) : آية 3]
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:(31/181)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَيْ وَالْقَادِرِ الْعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ وَثَانِيهَا: أَيْ وَخَلْقِهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَثَالِثُهَا: مَا بِمَعْنَى مَنْ أَيْ وَمَنْ خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَيْ وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) وَعَنِ الْكِسَائِيِّ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بِالْجَرِّ، وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: وَما خَلَقَ أَيْ وَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أي مخلوق اللَّهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى بَدَلًا مِنْهُ، أي ومخلوق الله الذكر والأنثى، وجاز إضمار اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَسَمُ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَتَنَاوَلُ الْقَسَمَ بِجَمِيعِ ذَوِي الْأَرْوَاحِ الَّذِينَ هُمْ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ فَهُوَ إِمَّا ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى وَالْخُنْثَى فَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَمْ يَلْقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خُنْثَى فَإِنَّهُ يخنث في يمينه.
[سورة الليل (92) : آية 4]
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
هذا الجواب الْقَسَمِ، فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَنَّ أَعْمَالَ عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جَمْعُ شَتِيتٍ مِثْلُ مَرْضَى وَمَرِيضٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُخْتَلِفِ: شَتَّى، لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضِهِ، وَالشَّتَاتُ هُوَ التَّبَاعُدُ وَالِافْتِرَاقُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَمَلَكُمْ لِمُتَبَاعِدٍ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ بَعْضَهُ ضَلَالٌ وَبَعْضَهُ هُدًى، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ الْجِنَانَ، وَبَعْضَهُ يُوجِبُ النِّيرَانَ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: 20] وَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: 18] وَقَوْلُهُ:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[الْجَاثِيَةِ: 21] وَقَالَ: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فَاطِرٍ: 21] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي سُفْيَانَ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنَ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فقال:
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 10]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)
[في قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى] وَفِي قَوْلِهِ أَعْطى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنْفَاقَ الْمَالِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ(31/182)
وَفَكِّ الْأُسَارَى وَتَقْوِيَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو بَكْرٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا، وَإِطْلَاقُ هَذَا كَالْإِطْلَاقِ فِي قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الأنفال: 3] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ إِنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ قَوْمًا فَقَالَ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى / حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [اللَّيْلِ: 17- 20] ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: أَعْطى يَتَنَاوَلُ إِعْطَاءَ حُقُوقِ الْمَالِ وَإِعْطَاءَ حُقُوقِ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: فُلَانٌ أَعْطَى الطَّاعَةَ وَأَعْطَى السَّعَةَ وَقَوْلُهُ: وَاتَّقى فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ هَلْ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ مُتَّقِيًا أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا عَنِ الصَّغَائِرِ أَمْ لَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 2] وَقَوْلُهُ: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَالْحُسْنَى فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ حَصَلَتْ لَهُ الْحُسْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ إِعْطَاءُ مَالٍ وَلَا اتِّقَاءُ مَحَارِمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَدِ: 14- 17] وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُسْنَى عِبَارَةٌ عَمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَبْدَانِ وَفِي الْأَمْوَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْطَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاتَّقَى الْمَحَارِمَ وَصَدَّقَ بِالشَّرَائِعِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْهَا إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ وَالْحُسْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحُسْنَى هُوَ الْخَلَفُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سَبَأٍ: 39] وَالْمَعْنَى: أَعْطَى مِنْ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مُصَدِّقًا بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنَ الْخَلَفِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 261] فَكَانَ الْخَلَفُ لَمَّا كَانَ زَائِدًا صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحُسْنَى عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ بِالْخَلَفِ، فَبَخِلَ بِمَالِهِ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِالْمَعْبُودِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنَعَ الْمَوْجُودَ، سُوءُ ظَنٍّ بِالْمَعْبُودِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثِّقْلَيْنِ. اللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا وَكُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا» وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحُسْنَى هُوَ الثَّوَابُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْجَنَّةُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: صَدَقَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ فَعَمِلَ لِذَلِكَ الْمَوْعُودِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَبِالْجُمْلَةِ أن الْحُسْنَى لَفْظَةٌ تَسَعُ كُلَّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: 52] يَعْنِي النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشُّورَى: 23] فَسَمَّى مُضَاعَفَةَ الْأَجْرِ حُسْنَى، وَقَالَ: إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فُصِّلَتْ: 50] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْجَنَّةُ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الْخَيْرُ وَقَالُوا فِي الْعُسْرَى:
أَنَّهَا الشِّرْكُ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعُسْرَى تَعْسِيرُ كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَابِعُهَا: الْيُسْرَى هِيَ الْعَوْدُ إِلَى الطَّاعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا أَوَّلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَسَنُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِعْطَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالُوا: فِي الْعُسْرَى ضِدُّ ذَلِكَ أَيْ نُيَسِّرُهُ لِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَلِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَجَازٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْعَوَاقِبِ، فَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى يُسْرٍ وَرَاحَةٍ وَأُمُورٍ مَحْمُودَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْيُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الطَّاعَاتِ، وَكُلُّ مَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى عُسْرٍ/ وَتَعَبٍ فَهُوَ مِنَ الْعُسْرَى، وَذَلِكَ وَصْفُ كُلِّ الْمَعَاصِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّأْنِيثُ فِي لَفْظِ الْيُسْرَى، وَلَفْظِ الْعُسْرَى فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْيُسْرَى(31/183)
وَالْعُسْرَى إِنْ كَانَ جَمَاعَةَ الْأَعْمَالِ، فَوَجْهُ التَّأْنِيثِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَمَلًا وَاحِدًا رَجَعَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْخَلَّةِ أَوِ الْفَعْلَةِ، وَعَلَى هَذَا مَنْ جَعَلَ يُسْرَى هُوَ تَيْسِيرُ الْعَوْدَ [ةِ] إِلَى مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الطَّاعَةِ رَجَّعَ التَّأْنِيثَ إِلَى الْعَوْدَ [ةِ] ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَسَنُيَسِّرُهُ للعود [ة] التي هي كذاو ثانيها: أَنْ يَكُونَ مَرْجِعُ التَّأْنِيثِ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِلطَّرِيقَةِ الْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْعِبَادَاتِ أُمُورٌ شَاقَّةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى الْجَنَّةِ سَهُلَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ الشَّاقَّةُ عَلَيْهِ، بِسَبَبِ تَوَقُّعِهِ لِلْجَنَّةِ، فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ يُسْرَى، ثُمَّ عَلَّلَ حُصُولَ الْيُسْرَى فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِهَذِهِ الْيُسْرَى وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى وَالْعُسْرَى وُجُوهٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ فَسَّرَ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى بِإِدْخَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِسُهُولَةٍ وَإِكْرَامٍ، عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] وَقَوْلِهِ: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ:
73] وَقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: 24] وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْيُسْرَى بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ فَالتَّيْسِيرُ لَهَا هُوَ تَسْهِيلُهَا عَلَى مَنْ أَرَادَ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ مِنَ التَّثَاقُلِ مَا يَعْتَرِي الْمُرَائِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَسَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [الْبَقَرَةِ: 45] وَقَالَ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
[النسار: 142] وَقَالَ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَةِ: 38] فَكَانَ التَّيْسِيرُ هُوَ التَّنْشِيطُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهَذَا التَّوْفِيقِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَصَّ الْكَافِرَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْصِيَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَرْجَحَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُصُولِ الرجحان لزم القوم بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ الرُّجْحَانُ، فَحَالُ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ. أَجَابَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ بِاسْمِ الْآخَرِ مَجَازٌ مَشْهُورُ، قَالَ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: 40] وَقَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الإنشقاق: 24] فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ فِعْلَ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى، سَمَّى تَرْكَ هَذِهِ الْأَلْطَافِ تَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُسَبِّبِ لَهُ دُونَ الْفَاعِلِ. كَمَا قِيلَ فِي الْأَصْنَامَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ:
36] وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْكُلِّ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَا سِيَّمَا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ جَانِبِنَا مُتَأَكَّدٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ، ثُمَّ/ إِنَّ أَصْحَابَنَا أَكَّدُوا ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قُلْنَا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
أَجَابَ الْقَفَّالُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، يَعْنِي اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا وَافَقَ مَعْلُومَ اللَّهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا:
أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُمْتَنِعُ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(31/184)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي دُخُولِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: فَسَنُيَسِّرُهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْفِيقِ وَالتَّلْطِيفِ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعٌ وَيَقِينٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إِلَى قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: 21] وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُطِيعَ قَدْ يَصِيرُ عَاصِيًا، وَالْعَاصِيَ قَدْ يَصِيرُ بِالتَّوْبَةِ مُطِيعًا، فَهَذَا السَّبَبُ كَانَ التَّغْيِيرُ فِيهِ مُحَالًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الثَّوَابَ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُ وَاقِعًا فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْتِ وَقْتُهُ، وَلَا يَقِفْ أَحَدٌ عَلَى وَقْتِهِ إِلَّا اللَّهُ، لَا جَرَمَ دَخَلَهُ تَرَاخٍ، فَأُدْخِلَتِ السِّينُ لِأَنَّهَا حَرْفُ التَّرَاخِي لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ آجِلٌ غَيْرُ حَاضِرٍ، والله أعلم. أما قوله تعالى:
[سورة الليل (92) : آية 11]
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
فَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا. وَأَمَّا تَرَدَّى فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِكَ: تَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ [الْمَائِدَةِ: 3] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ إِذَا قَبُرَ، أَوْ تَرَدَّى فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّا إِذَا يَسَّرْنَاهُ لِلْعُسْرَى، وَهِيَ النَّارُ تَرَدَّى فِي جَهَنَّمَ، فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ وتركه لوارثه، ولم يصحبه مِنْهُ إِلَى آخِرَتِهِ، الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ فَقْرِهِ وحاجته شيء، كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] وَقَالَ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: 80] أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهِ هُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَإِعْطَاءِ الْأَمْوَالِ فِي حُقُوقِهَا، دُونَ الْمَالِ الَّذِي يَخْلُفُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ الثَّانِي: أَنَّ تَرَدَّى تَفَعَّلَ مِنَ الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ يُرِيدُ الْمَوْتَ. أَمَّا قوله تعالى:
[سورة الليل (92) : آية 12]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّ سَعْيَهُمْ شَتَّى فِي الْعَوَاقِبِ وَبَيَّنَ مَا لِلْمُحْسِنِ مِنَ الْيُسْرَى وَلِلْمُسِيءِ مِنَ الْعُسْرَى، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ فَقَالَ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أَيْ إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ إِذَا خَلَقْنَا الْخَلْقَ لِلْعِبَادَةِ أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ وُجُوهَ التَّعَبُّدِ وَشَرْحَ مَا يَكُونُ الْمُتَعَبِّدُ بِهِ مُطِيعًا مِمَّا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا، إِذْ كُنَّا إِنَّمَا خَلَقْنَاهُمْ لِنَنْفَعَهُمْ وَنَرْحَمَهُمْ وَنُعَرِّضَهُمْ لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَدْ فَعَلْنَا مَا كَانَ/ فِعْلُهُ وَاجِبًا عَلَيْنَا فِي الْحِكْمَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسَائِلَ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَعْذَارَ وَمَا كَلَّفَ الْمُكَلَّفَ إِلَّا مَا فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَثَانِيهَا: أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلْوُجُوبِ، فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِيجَادِ لَمَا كَانَ فِي وَضْعِ الدَّلَائِلِ فَائِدَةٌ، وَأَجْوِبَةُ أَصْحَابِنَا عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَشْهُورَةٌ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَجْهًا آخَرَ نَقَلَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ فَقَالَ الْمَعْنَى: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَالْإِضْلَالَ، فَتَرَكَ الْإِضْلَالَ كَمَا قَالَ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] وَهِيَ تَقِي الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ، قَالَ: يُرِيدُ أُرْشِدُ أَوْلِيَائِي إِلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِي، وَأَحُولُ بَيْنَ أَعْدَائِي أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِي فَذَكَرَ مَعْنَى الْإِضْلَالِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا التَّأْوِيلُ سَاقِطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النَّحْلِ: 9] فَبَيَّنَ أَنَّ قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَى اللَّهِ، وَأَمَّا جَوْرُ السَّبِيلِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ وَلَا مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِقْصَاءَ قَدْ سَبَقَ في تلك الآية. أما قوله تعالى:(31/185)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
[سورة الليل (92) : آية 13]
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)
فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَنَا كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَيْسَ يَضُرُّنَا تَرْكُكُمُ الِاهْتِدَاءَ بِهُدَانَا، وَلَا يَزِيدُ فِي مُلْكِنَا اهْتِدَاؤُكُمْ، بَلْ نَفْعُ ذَلِكَ وَضَرُّهُ عَائِدَانِ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شِئْنَا لَمَنَعْنَاكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَهْرًا، إِذْ لَنَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَلَكِنَّنَا لَا نَمْنَعُكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يُخَلُّ بِالتَّكْلِيفِ، بَلْ نَمْنَعُكُمْ بِالْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ الثَّانِي: أَنَّ لَنَا مُلْكَ الدَّارَيْنِ نُعْطِي مَا نَشَاءُ مَنْ نَشَاءُ، فَيُطْلَبُ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ مِنَّا، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي أَوْفَقُ لقولنا. أما قوله تعالى:
[سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 16]
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
تَلَظَّى أَيْ تَتَوَقَّدُ وَتَتَلَهَّبُ وَتَتَوَهَّجُ، يُقَالُ: تَلَظَّتِ النَّارُ تَلَظِّيًا، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَهَنَّمُ لَظَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهَا لِمَنْ هِيَ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَشْقَى بِمَعْنَى الشَّقِيِّ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدٍ أَيْ بِوَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْكَافِرُ الَّذِي هُوَ شَقِيٌّ لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَتَوَلَّى أَيْ أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ لَا وَعِيدَ إِلَّا عَلَى الْكُفَّارِ، قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى فَوَجَبَ فِي الْكَافِرِ الَّذِي لَمْ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ/ يُكَذِّبْ وَلَمْ يَتَوَلَّ: أَيُّ مَعْصِيَةٍ أَقْدَمْتَ عَلَيْهَا، فَلَنْ تَضُرَّكَ، وَهَذَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْإِغْرَاءِ إِلَى أَنْ تَصِيرَ كَالْإِبَاحَةِ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: من بعد وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْفَاسِقِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِأَتْقَى، لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّقْوَى، وَمَنْ يَرْتَكِبْ عَظَائِمَ الْكَبَائِرِ لَا يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَتْقَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، فَهَذَا الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لا يجنب النار، وكل مكلف لا يجنب النَّارَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى نَارًا مَخْصُوصَةً مِنَ النِّيرَانِ، لِأَنَّهَا دَرَكَاتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ النَّارَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَصْلَاهَا سِوَى هَذَا الْأَشْقَى، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ وَغَيْرَ مَنْ هَذَا صِفَتُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَدْخُلُ سَائِرَ النِّيرَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: نَارًا تَلَظَّى النِّيرَانُ أَجْمَعُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أَيْ هَذَا الْأَشْقَى بِهِ أَحَقُّ، وَثُبُوتُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ غَيْرُ حَاصِلٍ إِلَّا لِهَذَا الْأَشْقَى. وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوهَ الْقَاضِي ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا: يَلْزَمُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكَافِرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِلنَّبِيِّ فِي دَعْوَاهُ، وَيَكُونُ مُتَوَلِّيًا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ صِدْقِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَشْقَى مِنْ سَائِرِ الْعُصَاةِ، وَأَنَّهُ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَإِذَا كَانَ كُلُّ كَافِرٍ دَاخِلًا فِي الْآيَةِ سَقَطَ مَا قاله القاضي.(31/186)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّ هَذَا إِغْرَاءٌ بِالْمَعْصِيَةِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حُصُولُ الذَّمِّ فِي الْعَاجِلِ وَحُصُولُ غَضَبِ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُكْرِمُهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ وَلَا يُعْطِيهِ الثَّوَابَ، وَلَعَلَّهُ يُعَذِّبُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى انْحِصَارِ طَرِيقِ التَّعْذِيبِ فِي إِدْخَالِ النَّارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَالِثًا: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ غَيْرِ الْأَتْقَى إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَفْهُومِ، وَالتَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُمْسِكُ بِهِ؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي فِيمَنْ لَيْسَ بِأَتْقَى دُخُولَ النَّارِ، فَيَلْزَمُ فِي الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ رَابِعًا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ النَّارُ الَّتِي تَتَلَظَّى فَضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَارًا تَلَظَّى يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِكُلِّ النِّيرَانِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِنَارٍ مَخْصُوصَةٍ، لَكِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ كُلَّ نَارِ جَهَنَّمَ بِهَذَا الْوَصْفِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى. [الْمَعَارِجِ: 15] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُرَادُ إِنَّ هَذَا الْأَشْقَى أَحَقُّ بِهِ فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَثَبَتَ ضَعْفُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْطَعُونَ بِعَدَمِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ؟ الْجَوَابُ:
مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى: لَا يَصْلاها لَا يَلْزَمُهَا فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، يُقَالُ: صَلَى الْكَافِرُ النَّارَ إِذَا لَزِمَهَا مُقَاسِيًا شِدَّتَهَا وَحَرَّهَا، وَعِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا لِلْكَافِرِ، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَوْ إِنْ دَخَلَهَا تَخَلَّصَ مِنْهَا الثَّانِي: أَنْ يُخَصَّ عُمُومُ هَذَا الظَّاهِرِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ على وعيد الفساق، والله أعلم. قوله تعالى:
[سورة الليل (92) : الآيات 17 الى 19]
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
مَعْنَى سَيُجَنَّبُهَا أَيْ سَيُبْعَدُهَا وَيُجْعَلُ مِنْهَا عَلَى جَانِبٍ يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ بَعَّدْتُهُ وَجَنَّبْتُهُ عَنْهُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ مِنَّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيعَةَ بِأَسْرِهِمْ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] فَقَوْلُهُ: الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي مَحْضَرِي قُلْتُ: أُقِيمَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو بَكْرٍ وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فَهَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ مَتَى صَحَّتَا صَحَّ الْمَقْصُودُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْأَتْقَى أَفْضَلُ الْخَلْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وَالْأَكْرَمُ هُوَ الْأَفْضَلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ، فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ كَانَ أَتْقَى، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ أَكْرَمَ، قُلْنَا وَصْفُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَتْقَى مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ، وَوَصْفُ كَوْنِهِ(31/187)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
أَفْضَلَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٌ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْمَعْلُومِ بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ هُوَ الطَّرِيقُ الْحَسَنُ، أَمَّا عَكْسُهُ فَغَيْرُ مُفِيدٍ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ الْأَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ الْأَتْقَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَتْقَاكُمْ أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَثَبَتَ أن الأتقى المذكور هاهنا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَبَا بَكْرٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ هَذَا الْأَتْقَى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَصْدُقُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي تَرْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكَانَ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَيَكْسُوهُ، وَيُرَبِّيهِ، وَكَانَ الرَّسُولُ مُنْعِمًا عَلَيْهِ نِعْمَةً يَجِبُ جَزَاؤُهَا، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ أَبُو بَكْرٍ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ كَانَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الدِّينِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يجزى، لقوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57] والمذكور هاهنا لَيْسَ مُطْلَقَ النِّعْمَةِ بَلْ نِعْمَةٌ تُجْزَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصْلُحُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كَانَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَفْضَلَ مِنَ الْأُمَّةِ، إِمَّا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عَلِيٍّ، وَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِعَلِيٍّ، تَعَيَّنَ/ حَمْلُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَثَبَتَ دَلَالَةُ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فهي
أنه كان بلال [عَبْدًا] لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَسَلَحَ عَلَى الْأَصْنَامِ فَشَكَا إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِعْلَهُ، فَوَهَبَهُ لَهُمْ، وَمِائَةً مِنَ الْإِبِلِ يَنْحَرُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَأَخَذُوهُ وَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ فِي الرَّمْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ:
يُنْجِيكَ أَحَدٌ أَحَدٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ أَنَّ بِلَالًا يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ: فَحَمَلَ أَبُو بَكْرٍ رِطْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَابْتَاعَهُ بِهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ، فَنَزَلَ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَشْتَرِي الضَّعَفَةَ مِنَ الْعَبِيدِ فَيُعْتِقُهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ كُنْتَ تَبْتَاعُ مَنْ يَمْنَعُ ظَهْرَكَ، فَقَالَ: مَنْعُ ظَهْرِي أُرِيدُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مَحَلِّ: يَتَزَكَّى وجهان: إن جعلت بَدَلًا مِنْ يُؤْتِي فَلَا مَحَلَّ لَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، وَالصِّلَاتُ لَا مَحَلَّ لَهَا وَإِنْ جَعَلْتَهُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْتِي فمحله النصب.
[سورة الليل (92) : الآيات 20 الى 21]
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
[قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ النِّعْمَةُ أَيْ مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربه كقولك ما في الدار أحدا إِلَّا حِمَارًا، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُضْمَرَ الْإِنْفَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ: مَا يُنْفِقُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، كَقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 272] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى لَا يُؤْتِيهِ مُكَافَأَةً عَلَى هَدِيَّةٍ أَوْ نِعْمَةٍ سَالِفَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى أَدَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ دَخْلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ مَزِيدِ الثَّوَابِ بَلْ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ إِذَا فَعَلَهُ، لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ.(31/188)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِلَفْظَةِ الْوَجْهِ وَالْمُلْحِدَةُ تمسكوا بلفظة رَبِّهِ الْأَعْلى وإن ذلك يقضي وُجُودَ رَبٍّ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ «الْإِمَامَةِ» ، فَقَالَ: الْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً
[الْإِنْسَانِ: 9، 10] وَالْآيَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ آيَةَ عَلِيٍّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً وَأَمَّا آيَةُ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِمَحْضِ وَجْهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَهُ طَمَعٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى رَغْبَةً فِي ثَوَابٍ/ أَوْ رَهْبَةً مِنْ عِقَابٍ، فَكَانَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ابْتِغَاءُ اللَّهِ بِمَعْنَى ابْتِغَاءِ ذَاتِهِ وَهِيَ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ ذَاتَ اللَّهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يقول: ما في الدار أحد إلا حمارا وَأَنْشَدَ فِي اللُّغَتَيْنِ، قَوْلَهُ:
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ «1»
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يَرْضى فَالْمَعْنَى أَنَّهُ وَعَدَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُرْضِيَهُ فِي الْآخِرَةِ بِثَوَابِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: 5] وَفِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَا أَنْفَقَ إِلَّا لِطَلَبِ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَسَوْفَ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدِي أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ أَكْمَلُ لِلْعَبْدِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا قَالَ: راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: 28] وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
__________
(1) الرواية التي أحفظها هي:
يا ليتني وأنت يا لميس ... في بلد ليس به أنيس
إلا اليعافير وإلا للعيس(31/189)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية وَأَنَا عَلَى عَزْمٍ أَنْ أَضُمَّ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهَا مِنَ اللَّطَائِفِ التِّذْكَارِيَّةِ.
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَالضُّحى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالضُّحَى وَقْتُ الضُّحَى وَهُوَ صَدْرُ النَّهَارِ حِينَ تَرْتَفِعُ الشَّمْسُ وَتُلْقِي شُعَاعَهَا وَثَانِيهَا: الضُّحَى هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ اللَّيْلِ كُلِّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فَذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي سَجى ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ مُتَقَارِبَةٍ: سَكَنَ وَأَظْلَمَ وَغَطَّى أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: سَجَى أَيْ سَكَنَ يُقَالُ: لَيْلَةٌ سَاجِيَةٌ أَيْ سَاكِنَةُ الرِّيحِ، وَعَيْنٌ سَاجِيَةٌ أَيْ فَاتِرَةُ الطَّرْفِ. وَسَجَى الْبَحْرُ إِذَا سَكَنَتْ أَمْوَاجُهُ، وَقَالَ فِي الدُّعَاءِ:
يَا مَالِكَ الْبَحْرِ إِذَا الْبَحْرُ سَجَى وأما الثاني: وهو تفسير سجى بأظلم فَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَجَى أَيْ أَظْلَمَ وَرَكَدَ فِي طُولِهِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ سَجَى بِغَطَّى، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ سَجَى اللَّيْلُ تَغْطِيَتُهُ النَّهَارَ، مِثْلَ مَا يُسَجَّى الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَطَّى الدُّنْيَا بِالظُّلْمَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْبِسَ النَّاسُ ظَلَامَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: سَكَنَ بِالنَّاسِ وَلِسُكُونِهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: سُكُونُ النَّاسِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ نَائِمٌ وَنَهَارٌ صَائِمٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ سُكُونَهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقْرَارِ ظَلَامِهِ واستوائه فلا يزداد بعد ذلك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمَاضِيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَخَّرَهُ؟ قُلْنَا:
فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْمُكَلَّفِينَ، وَاللَّيْلُ لَهُ فَضِيلَةُ السَّبْقِ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَلِلنَّهَارِ فَضِيلَةُ النُّورِ، بَلِ اللَّيْلُ كَالدُّنْيَا وَالنَّهَارُ كَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِلْآخَرِ، لَا جَرَمَ قُدِّمَ هَذَا عَلَى ذَاكَ تَارَةً وَذَاكَ، عَلَى هَذَا أُخْرَى، / وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ في(31/190)
قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آلِ عِمْرَانَ: 43] ثُمَّ قَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَجِّ: 77] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ فِي سُورَةِ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّ أَبَا بكر سبقه كفر، وهاهنا قَدَّمَ الضُّحَى لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا سَبَقَهُ ذَنْبٌ وَثَالِثُهَا: سُورَةُ وَاللَّيْلِ سُورَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَسُورَةُ الضُّحَى سُورَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ مَا جُعِلَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ، فَإِذَا ذَكَرْتَ اللَّيْلَ أَوَّلًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ صَعَدْتَ وَجَدْتَ بَعْدَهُ النَّهَارَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ، وَإِنْ ذَكَرْتَ وَالضُّحَى أَوَّلًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ، ثم نزلت وجدت بعده، والليل وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بينهما.
السؤال الثاني: ما الحكمة هاهنا فِي الْحَلِفِ بِالضُّحَى وَاللَّيْلِ فَقَطْ؟ وَالْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الزَّمَانُ سَاعَةٌ، فَسَاعَةٌ سَاعَةُ لَيْلٍ، وَسَاعَةُ نَهَارٍ، ثُمَّ يَزْدَادُ فَمَرَّةً تَزْدَادُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَتَنْقُصُ سَاعَاتُ النَّهَارِ، وَمَرَّةً بِالْعَكْسِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ لِهَوًى وَلَا النُّقْصَانُ لِقِلًى بَلْ لِلْحِكْمَةِ، كَذَا الرِّسَالَةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فَمَرَّةً إِنْزَالٌ وَمَرَّةً حَبْسٌ، فَلَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَنْ هَوًى، وَلَا كَانَ الْحَبْسُ عَنْ قِلًى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَالِمَ لَا يُؤَثِّرُ كَلَامُهُ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فَالْكُفَّارُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ رَبَّهُ وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، قَالَ: هَاتُوا الْحُجَّةَ فَعَجَزُوا فَلَزِمَهُ اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قَلَاهُ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى جِوَارِ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ لَا يَسْلَمُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ بَلِ اللَّيْلُ تَارَةً يَغْلِبُ وَتَارَةً يُغْلَبُ فَكَيْفَ تَطْمَعُ أَنْ تَسْلَمَ عَلَى الْخَلْقِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ خُصَّ وَقْتُ الضُّحَى بِالذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَمَالِ الْأُنْسِ بَعْدَ الِاسْتِيحَاشِ فِي زَمَانِ اللَّيْلِ، فَبَشَّرُوهُ أَنَّ بَعْدَ اسْتِيحَاشِكَ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ يَظْهَرُ ضُحَى نُزُولِ الْوَحْيِ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا السَّاعَةُ الَّتِي كَلَّمَ فِيهَا مُوسَى رَبَّهُ، وَأُلْقِي فِيهَا السَّحَرَةُ سُجَّدًا، فَاكْتَسَى الزَّمَانُ صِفَةَ الْفَضِيلَةِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا، فَكَيْفَ فَاعِلُ الطَّاعَةِ! وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي أَكْرَمَ مُوسَى لَا يَدَعُ إِكْرَامَكَ، وَالَّذِي قَلَبَ قُلُوبَ السَّحَرَةِ حَتَّى سَجَدُوا يَقْلِبُ قُلُوبَ أَعْدَائِكَ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ ذَكَرَ الضُّحَى وَهُوَ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ، وذكر الليل بكليته؟ الجواب: فيه وجوه أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ تَوَازِي جَمِيعَ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا وُزِنَ يُوَازِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهَارَ وَقْتُ السُّرُورِ وَالرَّاحَةِ، وَاللَّيْلَ وَقْتُ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هُمُومَ الدُّنْيَا أَدْوَمُ من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل كذا سَاعَاتٌ،
يُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْعَرْشَ أَظَلَّتْ غَمَامَةٌ سَوْدَاءُ عَنْ يَسَارِهِ وَنَادَتْ مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ انْكَشَفَتْ فَأُمِرَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِذَلِكَ وَهَكَذَا إِلَى تَمَامِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَظَلَّتْ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ غَمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَنَادَتْ: مَاذَا أُمْطِرُ؟ فَأُجِيبَتْ أَنْ أَمْطِرِي السُّرُورَ سَاعَةً،
فَلِهَذَا السَّبَبِ تَرَى الْغُمُومَ وَالْأَحْزَانَ دَائِمَةً، وَالسُّرُورَ قَلِيلًا/ وَنَادِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ وَقْتَ الضُّحَى وَقْتَ حَرَكَةِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ فَصَارَتْ نَظِيرَ وَقْتِ الْحَشْرِ، وَاللَّيْلُ إِذَا سَكَنَ نَظِيرُ سُكُونِ النَّاسِ فِي ظُلْمَةِ الْقُبُورِ، فَكِلَاهُمَا حِكْمَةٌ وَنِعْمَةٌ لَكِنَّ الْفَضِيلَةَ لِلْحَيَاةِ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَمَّا بَعُدَ الْمَوْتُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها: ذكروا الضُّحَى حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِاللَّيْلِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: هَلْ أَحَدٌ مِنَ المذكرين فَسَّرَ الضُّحَى بِوَجْهِ مُحَمَّدٍ وَاللَّيْلَ بِشَعْرِهِ؟ وَالْجَوَابُ: نعم ولا(31/191)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالضُّحَى ذُكُورُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَاللَّيْلِ إِنَاثُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ الضُّحَى رِسَالَتُهُ وَاللَّيْلُ زَمَانُ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ، لِأَنَّ فِي حَالِ النُّزُولِ حَصَلَ الِاسْتِئْنَاسُ وَفِي زَمَنِ الِاحْتِبَاسِ حَصَلَ الِاسْتِيحَاشُ، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى نُورُ عِلْمِهِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الْمَسْتُورُ مِنَ الْغُيُوبِ: وَاللَّيْلِ عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الضُّحَى إِقْبَالُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ غَرِيبًا وَاللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا، وَيُحْتَمَلُ وَالضُّحَى كَمَالُ الْعَقْلِ، وَاللَّيْلِ حَالُ الْمَوْتِ، وَيُحْتَمَلُ أُقْسِمُ بِعَلَانِيَتِكَ الَّتِي لَا يَرَى عَلَيْهَا الْخَلْقُ عَيْبًا، وَبِسِرِّكَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ عليه عالم الغيب عيبا.
[سورة الضحى (93) : آية 3]
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُبَرِّدُ: وَدَّعَكَ مِنَ التَّوْدِيعِ كَمَا يُودَّعُ الْمُفَارِقُ، وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالتَّوْدِيعُ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَدَاعِ، لِأَنَّ مَنْ وَدَّعَكَ مُفَارِقًا فَقَدْ بَالَغَ فِي تَرْكِكَ وَالْقِلَى الْبُغْضُ. يُقَالُ: قَلَاهُ يَقْلِيهِ قِلًى وَمَقْلِيَةً إِذَا أَبْغَضَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ وَمَا قَلَاكَ، وَفِي حَذْفِ الْكَافِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: حُذِفَتِ الْكَافُ اكْتِفَاءً بِالْكَافِ الْأُولَى فِي وَدَّعَكَ، وَلِأَنَّ رؤس الْآيَاتِ بِالْيَاءِ، فَأَوْجَبَ اتِّفَاقُ الْفَوَاصِلِ حَذْفَ الْكَافِ وَثَانِيهَا: فَائِدَةُ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مَا قَلَاكَ وَلَا [قلا] أحد مِنْ أَصْحَابِكَ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ أَحَبَّكَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَلَاهُ اللَّهُ وَوَدَّعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَتْ: لَعَلَّ رَبَّكَ نَسِيَكَ أَوْ قَلَاكَ،
وَقِيلَ: إِنَّ أُمَّ جَمِيلٍ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ،
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَبْطَأَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: «إِنَّ رَبِّي وَدَّعَنِي وَقَلَانِي، يَشْكُو إِلَيْهَا، فَقَالَتْ:
كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا ابْتَدَأَكَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّهَا لَكَ» فَنَزَلَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وَطَعَنَ الْأُصُولِيُّونَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَدَّعَهُ وَقَلَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ عَزْلَ النَّبِيِّ عَنِ النُّبُوَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْلَمُ أَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ الصَّلَاحُ تَأْخِيرَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا/ الْكَلَامَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُجَرِّبَهَا لِيَعْرِفَ قَدْرَ عِلْمِهَا، أَوْ لِيَعْرِفَ النَّاسُ قَدْرَ عِلْمِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مُدَّةِ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَذَكَرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ: «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ،
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّبَبُ فِيهِ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ: رُمِيَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِحَجَرٍ فِي إِصْبَعِهِ، فَقَالَ:(31/192)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
فَأَبْطَأَ عَنْهُ الْوَحْيُ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُقَلِّمُ الْأَظْفَارَ
وهاهنا سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ احْتِبَاسَ الْوَحْيِ كَانَ عَنْ قِلًى: قُلْنَا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَصَاحِبُهُ لَا يَكُونُ مَمْقُوتًا وَلَا مُبْغَضًا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: «مَا جِئْتَنِي حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كُنْتُ إِلَيْكَ أَشْوَقَ وَلَكِنِّي عبدا مأمورا» وَتَلَا: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] .
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْظَمِ الْخَلْقِ قُرْبَةً عِنْدَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ تَشْرِيفًا لَهُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ ابْتِدَاءً، لَكِنَّ الْأَعْدَاءَ إِذَا أَلْقَوْا فِي الْأَلْسِنَةِ أَنَّ السُّلْطَانَ يُبْغِضُهُ، ثُمَّ تَأَسَّفَ ذَلِكَ الْمُقَرَّبُ فَلَا لَفْظَ أَقْرَبُ إِلَى تَشْرِيفِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنِّي لَا أُبْغِضُكَ وَلَا أَدَعَكَ، وَسَوْفَ تَرَى مَنْزِلَتَكَ عِنْدِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ لما امتنع.
[سورة الضحى (93) : آية 4]
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ عَزْلٌ عَنِ النُّبُوَّةِ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَذَلِكَ أَمَارَةُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّهُ يُقَالُ: انْقِطَاعُ الْوَحْيِ مَتَى حَصَلَ دَلَّ عَلَى الْمَوْتِ، لَكِنَّ الْمَوْتَ خَيْرٌ لَكَ. فَإِنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَفْضَلُ مِمَّا لَكَ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: لما نزل: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: 3] حَصَلَ لَهُ بِهَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَكَأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ هَذَا التَّشْرِيفَ فَقِيلَ لَهُ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أَيْ هَذَا التَّشْرِيفُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا إِلَّا أَنَّ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ وَثَالِثُهَا: مَا يَخْطُرُ/ بِبَالِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَلْأَحْوَالُ الْآتِيَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْمَاضِيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِأَنَّهُ سَيَزِيدُهُ كُلَّ يَوْمٍ عِزًّا إِلَى عِزٍّ، وَمَنْصِبًا إِلَى مَنْصِبٍ، فَيَقُولُ: لَا تَظُنُّ أَنِّي قَلَيْتُكَ بَلْ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي فَإِنِّي أزيدك منصبا وجلالا، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِأَيِّ طَرِيقٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْآخِرَةَ كَانَتْ لَهُ خَيْرًا مِنَ الْأُولَى؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ إِنَّكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى خَيْرٍ لِأَنَّكَ تَفْعَلُ فِيهَا مَا تُرِيدُ، وَلَكِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّا نَفْعَلُ فِيهَا مَا نُرِيدُ وَثَانِيهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ أُمَّتُكَ إِذِ الْأُمَّةُ لَهُ كَالْأَوْلَادِ قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ:
6] وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ، وَأُمَّتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَكُونُ كَأَنَّ أَوْلَادَهُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ سَمَّى الْوَلَدَ قُرَّةَ أَعْيُنٍ، حَيْثُ حَكَى عَنْهُمْ:
هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: 74] وَثَالِثُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ لِأَنَّكَ اشْتَرَيْتَهَا، أَمَّا هَذِهِ لَيْسَتْ لَكَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْآخِرَةُ أَقَلَّ مِنَ الدُّنْيَا لَكَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا لَكَ، لَأَنَّ مَمْلُوكَكَ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لَكَ، فَكَيْفَ وَلَا نِسْبَةَ لِلْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا فِي الْفَضْلِ وَرَابِعُهَا: الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا الْكُفَّارَ يَطْعَنُونَ فِيكَ أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَجْعَلُ أُمَّتَكَ شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَجْعَلُكَ شَهِيدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَجْعَلُ ذَاتِي شَهِيدًا لَكَ كَمَا قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الْفَتْحِ: 28، 29] وَخَامِسُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ مَشُوبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَذَّاتِ الْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ وَلَمْ يُقَلْ خَيْرٌ لَكُمْ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي جَمَاعَتِهِ مَنْ(31/193)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
كَانَتِ الْآخِرَةُ شَرًّا لَهُ، فَلَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّمَ لَكَانَ كَذِبًا، وَلَوْ خَصَّصَ الْمُطِيعِينَ بِالذِّكْرِ لَافْتُضِحَ الْمُذْنِبُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالَّذِي كَانَ مَعَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ قَطْعًا، لَا جَرَمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] إِذْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ،
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَمَعَهُ الْأُلُوفُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَجِدُوا الْإِجَابَةَ، فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْإِجَابَةِ فَقَالَ: لَا أُجِيبُكُمْ مَا دَامَ مَعَكُمْ سَاعٍ بِالنَّمِيمَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: [إِنِّي] أَبْغُضُهُ فَكَيْفَ أَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَمَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ ذَلِكَ النَّمَّامَ قَدْ مَاتَ، وَهَذِهِ جِنَازَتُهُ فِي مُصَلَّى، كَذَا فَذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تِلْكَ الْمُصَلَّى، فَإِذَا فِيهَا سَبْعُونَ مِنَ الْجَنَائِزِ،
فَهَذَا سَتْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فَكَيْفَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ فَإِنَّ فِيهِ دَقِيقَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «لَوْلَا شُيُوخٌ رُكَّعٌ»
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَةِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَرُدُّ الْأُلُوفَ لِمُذْنِبٍ واحد، وهاهنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.
[سورة الضحى (93) : آية 5]
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
وَاعْلَمِ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ: خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ إِلَى أَيِّ حَدٍّ/ يَكُونُ فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِقْدَارَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى غَايَةِ مَا يَتَمَنَّاهُ الرَّسُولُ وَيَرْتَضِيهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: كَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] فَقِيلَ وَلِمَ قُلْتَ إِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَّسِعُ الدُّنْيَا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى الْآخِرَةِ فَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَقَدْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَمَّا الْمَنَافِعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْفُ قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه الْمِسْكُ وَفِيهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَأَمَّا التَّعْظِيمُ
فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْأُمَّةِ،
يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ: إِذًا لَا أَرْضَى وَوَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ،
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الشَّفَاعَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِغْفَارِ فقال: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغْفَارُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرَّدَّ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَإِنَّمَا يَرْضَى بِالْإِجَابَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يَرْضَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِجَابَةُ لَا الرَّدُّ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ كُلَّ مَا يَرْتَضِيهِ. عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُذْنِبِينَ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يَقُولُ لَا أُوَدِّعُكَ وَلَا أَبْغُضُكَ بَلْ لَا أَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَأَتْبَاعِكَ وَأَشْيَاعِكَ طلبا لمرضاتك وتطييبا لقلبك، فهذا التفسير أَوْفَقُ لِمُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَالثَّالِثُ: الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْوَارِدَةُ فِي الشَّفَاعَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رِضَا الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ كُلَّ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ فَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ حُصُولُ الشَّفَاعَةِ،
وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رِضَاءُ جَدِّي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مُوَحِّدٌ،
وَعَنِ الْبَاقِرِ، أَهْلُ القرآن يقولون: أرجى آية قوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزُّمَرِ: 53] وَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ نَقُولُ: أَرْجَى آيَةٍ قَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وَاللَّهِ إِنَّهَا الشَّفَاعَةُ لَيُعْطَاهَا فِي أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يَقُولَ رَضِيتُ،
هَذَا كُلُّهُ إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا هَذَا الْوَعْدَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِ يَوْمَ بدر(31/194)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا، وَالْغَلَبَةِ عَلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَإِجْلَائِهِمْ وَبَثِّ عَسَاكِرِهِ وَسَرَايَاهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَمَا فَتَحَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَدَائِنِ، وَ [مَا] هَدَمَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ مَمَالِكِ الْجَبَابِرَةِ، وَأَنْهَبَهُمْ مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ، وَمَا قَذَفَ فِي أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مِنَ الرُّعْبِ وَتَهْيِيبِ الْإِسْلَامِ وَفُشُوِّ الدَّعْوَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُ الآية على خيرات الدنيا والآخرة، وهاهنا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: يُعْطِيكُمْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ السَّعَادَاتِ حَصَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا؟ الْجَوَابُ: لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُمْ أَتْبَاعٌ وَثَانِيهَا: أَنِّي إِذَا أَكْرَمْتُ أَصْحَابَكَ فَذَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِكْرَامٌ لَكَ، لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ بَلَغْتَ فِي الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ إِلَى حَيْثُ تَفْرَحُ بِإِكْرَامِهِمْ فَوْقَ/ مَا تَفْرَحُ بِإِكْرَامِ نَفْسِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَيْثُ تَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ:
نَفْسِي نَفْسِي، أَيِ ابْدَأْ بِجَزَائِي وَثَوَابِي قَبْلَ أُمَّتِي، لِأَنَّ طَاعَتِي كَانَتْ قَبْلَ طَاعَةِ أُمَّتِي، وَأَنْتَ تَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، أَيِ ابْدَأْ بِهِمْ، فَإِنَّ سُرُورِي أَنْ أَرَاهُمْ فَائِزِينَ بِثَوَابِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّكَ عَامَلْتَنِي مُعَامَلَةً حَسَنَةً، فَإِنَّهُمْ حِينَ شَجُّوا وَجْهَكَ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَحِينَ شَغَلُوكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، قُلْتَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا» فَتَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ جَسَدِكَ، وَمَا تَحَمَّلْتَ الشَّجَّةَ الْحَاصِلَةَ فِي وَجْهِ دِينِكَ، فَإِنَّ وَجْهَ الدِّينِ هُوَ الصَّلَاةُ، فَرَجَّحْتَ حَقِّي عَلَى حَقِّكَ، لَا جَرَمَ فَضَّلْتُكَ، فَقُلْتُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سِنِينَ، أَوْ حَبَسَ غَيْرَهُ عَنِ الصَّلَاةِ سِنِينَ لَا أُكَفِّرُهُ، وَمَنْ آذَى شَعْرَةً من شعراتك، أو جزء مِنْ نَعْلِكَ أُكَفِّرُهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ وَلِمَ لَمْ يَقُلْ: وَسَيُعْطِيكَ رَبُّكَ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ فَوَائِدُ إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرُبَ أَجَلُهُ، بَلْ يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا قَالُوا: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِعَيْنِ تِلْكَ اللَّفْظَةِ، فَقَالَ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 3] ثُمَّ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَوْفَ يَمُوتُ مُحَمَّدٌ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَقَالَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَلَامٌ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ وَإِلَى كَلَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخَاطِبَ لَهُ بِهَذِهِ الْبِشَارَاتِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا هَذِهِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى سَوْفَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَالْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَامَ الْقَسَمِ، أَوْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَلَامُ الْقَسَمِ لَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ إِلَّا مَعَ نُونِ التَّوْكِيدِ، فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ لَامَ ابْتِدَاءٍ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّوْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنَ المصلحة.
[سورة الضحى (93) : آية 6]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اتِّصَالَهُ بِمَا تَقَدَّمَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَقَالَ الرَّسُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: انْظُرْ [أَ] كَانَتْ طَاعَاتُكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْرَمَ أَمِ السَّاعَةَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: بَلِ السَّاعَةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: حِينَ(31/195)
كُنْتَ صَبِيًّا ضَعِيفًا مَا تَرَكْنَاكَ بَلْ رَبَّيْنَاكَ وَرَقَّيْنَاكَ إِلَى حَيْثُ صِرْتَ مُشْرِفًا عَلَى/ شُرُفَاتِ العرش وقلنا لك: لو لاك مَا خَلَقْنَا الْأَفْلَاكَ، أَتَظُنُّ أَنَّا بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ نَهْجُرُكَ وَنَتْرُكُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلَمْ يَجِدْكَ مِنَ الْوُجُودِ الَّذِي بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْمَنْصُوبَانِ مَفْعُولَا وَجَدَ وَالْوُجُودُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْكَ اللَّهُ يَتِيمًا فَآوَى، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْيَتِيمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ تُوُفِّيَ وَأُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلٌ بِهِ، ثُمَّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ، فَهَلَكَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ فَكَانَ مَعَ جَدِّهِ، ثُمَّ هَلَكَ جَدُّهُ بَعْدَ أُمِّهِ بِسَنَتَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يُوصِي أَبَا طَالِبٍ بِهِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَأَبَا طَالِبٍ كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي يَكْفُلُ رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ جَدِّهِ إِلَى أَنَّ بَعَثَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ، فَقَامَ بِنُصْرَتِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ يُتْمٌ الْبَتَّةَ فَأَذْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ النِّعْمَةَ،
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ يَوْمًا لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ: أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِمَا رَأَيْتُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: إِنِّي ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ فَكَيْفَ لَا أُفَارِقُهُ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا أَأْتَمِنُ عَلَيْهِ أَحَدًا حَتَّى أَنِّي كُنْتُ أُنَوِّمُهُ فِي فِرَاشِي، فَأَمَرْتُهُ لَيْلَةً أَنْ يَخْلَعَ ثِيَابَهُ وَيَنَامَ مَعِي، فَرَأَيْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَنِي، وَقَالَ: يَا عَمَّاهُ اصْرِفْ بِوَجْهِكَ عَنِّي حَتَّى أَخْلَعَ ثِيَابِي إِذْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى جَسَدِي، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ قَوْلِهِ وَصَرَفْتُ بَصَرِي حَتَّى دَخَلَ الْفِرَاشَ فَلَمَّا دَخَلْتُ مَعَهُ الْفِرَاشَ إِذَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ثَوْبٌ وَاللَّهِ مَا أَدْخَلْتُهُ فِرَاشِي فَإِذَا هُوَ فِي غَايَةِ اللِّينِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ كَأَنَّهُ غُمِسَ فِي الْمِسْكِ، فَجَهِدْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى جَسَدِهِ فَمَا كُنْتُ أَرَى شَيْئًا وَكَثِيرًا مَا كُنْتُ أَفْتَقِدُهُ مِنْ فِرَاشِي فَإِذَا قُمْتُ لِأَطْلُبَهُ نَادَانِي هَا أَنَا يَا عَمُّ فَارْجِعْ، وَلَقَدْ كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ مِنْهُ كَلَامًا يُعْجِبُنِي وَذَلِكَ عِنْدَ مُضِيِّ اللَّيْلِ وَكُنَّا لَا نُسَمِّي عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا نَحْمَدُهُ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ الطَّعَامِ: بِسْمِ اللَّهِ الْأَحَدِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَتَعَجَّبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ أَرَ مِنْهُ كِذْبَةً وَلَا ضَحِكًا وَلَا جَاهِلِيَّةً وَلَا وَقَفَ مَعَ صِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَجَائِبَ الْمَرْوِيَّةَ فِي حَقِّهِ مِنْ حَدِيثِ بَحِيرَى الرَّاهِبِ وَغَيْرِهِ مَشْهُورَةٌ.
التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلْيَتِيمِ: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَجِدْكَ وَاحِدًا فِي قُرَيْشٍ عَدِيمَ النَّظِيرِ فَآوَاكَ؟
أَيْ جَعَلَ لَكَ مَنْ تَأْوِي إِلَيْهِ وَهُوَ أَبُو طَالِبٍ، وَقُرِئَ فَآوَى وَهُوَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنْ أَوَاهُ بِمَعْنَى آوَاهُ، وَإِمَّا مِنْ أَوَى له إذا رحمه، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الْجُودِ أَنْ يَمُنَّ بِنِعْمَةٍ، فَيَقُولَ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: 18] فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِفِرْعَوْنَ، فَمَا كَانَ مَذْمُومًا مِنْ فِرْعَوْنَ كَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ إِذَا قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ يُقَوِّيَ قَلْبَهُ وَيَعِدَهُ بِدَوَامِ النِّعْمَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الِامْتِنَانِ وَبَيْنَ امْتِنَانِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ امْتِنَانَ فِرْعَوْنَ مُحْبِطٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فَمَا بَالُكَ لَا تَخْدُمُنِي، وامتنان الله بزيادة نعمه، كأنه يقول: مالك تَقْطَعُ عَنِّي رَجَاءَكَ أَلَسْتُ شَرَعْتُ فِي تَرْبِيَتِكَ، أَتَظُنُّنِي تَارِكًا لِمَا صَنَعْتُ، بَلْ لَا بُدَّ/ وَأَنْ أُتَمِّمَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ النِّعْمَةَ، كَمَا قَالَ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 150] أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي تُسْقِطُ الْوَلَدَ قَبْلَ التَّمَامِ مَعِيبَةٌ تُرَدُّ، وَلَوْ أَسْقَطَتْ أَوِ الرَّجُلُ أَسْقَطَ عَنْهَا بِعِلَاجٍ تَجِبُ الْغِرَّةُ وَتَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، فَمَا أَعْظَمَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَانٍّ هُوَ اللَّهُ، وَبَيْنَ مَانٍّ هُوَ فِرْعَوْنُ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: 22] فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ، وَفِي(31/196)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] فَشَتَّانَ بَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَبَيْنَ أُمَّةٍ رَابِعُهُمْ رَبُّهُمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ الْجَوَابُ: وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ نَقُولَ: قَضَاءُ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، ثُمَّ الدَّيْنُ نَوْعَانِ مَالِيٌّ وَإِنْعَامِيٌّ وَالثَّانِي: أَقْوَى وُجُوبًا، لِأَنَّ الْمَالِيَّ قَدْ يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ وَالثَّانِي: يَتَأَكَّدُ بِالْإِبْرَاءِ، وَالْمَالِيُّ يُقْضَى مَرَّةً فَيَنْجُو الْإِنْسَانُ مِنْهُ وَالثَّانِي:
يَجِبُ عَلَيْكَ قَضَاؤُهُ طُولَ عُمُرِكَ، ثُمَّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاءُ النِّعْمَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ مُنْعِمٍ هُوَ مَمْلُوكٌ، فَكَيْفَ حَالُ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ، فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: إِلَهِي أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بَشَرًا سَوِيًّا، طَاهِرَ الظَّاهِرِ نَجِسَ الْبَاطِنِ، بِشَارَةٌ مِنْكَ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيَّ ذُنُوبِي بِسِتْرِ عَفْوِكَ، كَمَا سَتَرْتَ نَجَاسَتِي بِالْجِلْدِ الظَّاهِرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي قَضَاءُ نِعْمَتِكَ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ؟ فَيَقُولُ تَعَالَى الطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ فِي حَقِّ عَبِيدِي مَا فَعَلْتُهُ فِي حَقِّكَ، كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ الْأَيْتَامِ ذَلِكَ، وَكُنْتَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ، وَكُنْتَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ فَافْعَلْ فِي حَقِّ عَبِيدِي ذَلِكَ ثُمَّ إِنْ فَعَلْتَ كُلَّ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا فَعَلْتَهَا بِتَوْفِيقِي لَكَ وَلُطْفِي وَإِرْشَادِي، فكن أبدا ذاكرا لهذه النعم والألطاف. أما قوله تعالى:
[سورة الضحى (93) : آية 7]
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7)
فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا، قَالَ الكلبي:
وَجَدَكَ ضَالًّا يَعْنِي كَافِرًا فِي قَوْمٍ ضُلَّالٍ فَهَدَاكَ لِلتَّوْحِيدِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ أربعين سنة، وقال مجاهد: وجدك ضَالًّا عَنِ الْهُدَى لِدِينِهِ وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا قَوْلُهُ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يُوسُفَ: 3] وَقَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] فَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَجَبَ حَمْلُ قَوْلِهِ:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَفَرَ بِاللَّهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ كَافِرًا فَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَيُكْرِمَهُ بِالنُّبُوَّةِ، إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ قَامَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَائِزَ لَمْ يَقَعْ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْمِ: 2] ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَشَهْرِ بْنِ حوشب: وجدك ضَالًّا عَنْ مَعَالِمِ النِّعْمَةِ/ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ غَافِلًا عَنْهَا فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] وَثَانِيهَا: ضَلَّ عَنْ مُرْضِعَتِهِ حَلِيمَةَ حِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَى جَدِّهِ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى هُبَلَ وَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَتَسَاقَطَتِ الْأَصْنَامُ، وَسَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ: إِنَّمَا هَلَاكُنَا بِيَدِ هَذَا الصَّبِيِّ، وَفِيهِ حِكَايَةٌ طَوِيلَةٌ وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «ضَلَلْتُ عَنْ جَدِّي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا صَبِيٌّ ضَائِعٌ، كَادَ الْجُوعُ يَقْتُلُنِي، فَهَدَانِي اللَّهُ»
ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ، وَذَكَرَ تَعَلُّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَوْلُهُ:
يَا رَبِّ رُدَّ وَلَدِي مُحَمَّدَا ... ارْدُدْهُ رَبِّي وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا(31/197)
فَمَا زَالَ يُرَدِّدُ هَذَا عِنْدَ الْبَيْتِ حَتَّى أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى نَاقَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُحَمَّدٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَدْرِي مَاذَا نَرَى مِنِ ابْنِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَلِمَ؟ قَالَ: إِنِّي أَنَخْتُ النَّاقَةَ وَأَرْكَبْتُهُ مِنْ خَلْفِي فَأَبَتِ النَّاقَةُ أَنْ تَقُومَ، فَلَمَّا أَرْكَبْتُهُ أَمَامِي قَامَتِ النَّاقَةُ، كَأَنَّ النَّاقَةَ تَقُولُ: يَا أَحْمَقُ هُوَ الْإِمَامُ فَكَيْفَ يَقُومُ خَلْفَ الْمُقْتَدِي! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى جَدِّهِ بِيَدِ عَدُوِّهِ كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى حِينَ حَفِظَهُ عَلَى يَدِ عَدُوِّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَ مَعَ غُلَامِ خَدِيجَةَ مَيْسَرَةَ أَخَذَ كَافِرٌ بِزِمَامِ بَعِيرِهِ حَتَّى ضَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَهَدَاهُ إِلَى الْقَافِلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ بِهِ إِلَى الشَّأْمِ فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ فَهَدَاهُ اللَّهُ تعالى وخامسها: يقال: ضل الماء في الليل إِذَا صَارَ مَغْمُورًا، فَمَعْنَى الْآيَةِ كُنْتَ مَغْمُورًا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِمَكَّةَ فَقَوَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَظْهَرْتَ دِينَهُ وَسَادِسُهَا: الْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّجَرَةَ الْفَرِيدَةَ فِي الْفَلَاةِ ضَالَّةً، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كَالْمَفَازَةِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرَةٌ تَحْمِلُ ثَمَرَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَنْتَ، شَجَرَةٌ فَرِيدَةٌ فِي مَفَازَةِ الْجَهْلِ فَوَجَدْتُكَ ضَالًّا فهديت بك الخلق، ونظيره
قوله عليه السلام: «الحكمة ضالة المؤمن»
وسابعها: ووجدك ضَالًّا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ كُنْتَ طِفْلًا صَبِيًّا، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النَّحْلِ: 78] فَخَلَقَ فِيكَ الْعَقْلَ وَالْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الضَّالِّ الْخَالِي عَنِ الْعِلْمِ لَا الْمَوْصُوفُ بِالِاعْتِقَادِ الْخَطَأِ وَثَامِنُهَا: كُنْتَ ضَالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهَدَيْتُكَ إِلَى النُّبُوَّةِ الَّتِي مَا كُنْتَ تَطْمَعُ فِيهَا الْبَتَّةَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُخَاطَبُ السَّيِّدُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ قَوْمَهُ فَقَوْلُهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ وَجَدَ قَوْمَكَ ضُلَّالًا، فَهَدَاهُمْ بِكَ وَبِشَرْعِكَ وَعَاشِرُهَا: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الضَّالِّينَ مُنْفَرِدًا عَنْهُمْ مُجَانِبًا لِدِينِهِمْ، فَكُلَّمَا كَانَ بُعْدُكَ عَنْهُمْ أَشَدَّ كَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ، فَهَدَاكَ إِلَى أَنِ اخْتَلَطْتَ بِهِمْ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الدِّينِ الْمُبِينِ الْحَادِي عَشَرَ: وَجَدَكَ ضَالًّا عَنِ الْهِجْرَةِ، مُتَحَيِّرًا فِي يَدِ قُرَيْشٍ مُتَمَنِّيًا فِرَاقَهُمْ وَكَانَ لَا يُمْكِنُكَ الْخُرُوجُ بِدُونِ إِذْنِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ وَوَافَقَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ إِلَى خَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ، وَظُهُورِ الْقُوَّةِ فِي الدِّينِ كَانَ ذَلِكَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَهَدى، الثَّانِي عَشَرَ: ضَالًّا عَنِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ تُجْعَلَ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً لَهُ/ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ أَمْ لَا، فَهَدَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَةِ: 144] فَكَأَنَّهُ سُمِّيَ ذَلِكَ التَّحَيُّرُ بِالضَّلَالِ الثَّالِثَ عشر: أنه حين ظهرها لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَا كَانَ يَعْرِفُ أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ لَا، وَكَانَ يَخَافُهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَهَدَاهُ اللَّهُ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الضَّلَالُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُفَ: 95] أَيْ مَحَبَّتِكَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّكَ مُحِبٌّ فَهَدَيْتُكَ إِلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا تَتَقَرَّبُ إِلَى خِدْمَةِ مَحْبُوبِكَ الْخَامِسَ عَشَرَ: ضَالًّا عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا تَعْرِفُ التِّجَارَةَ وَنَحْوَهَا، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك، وعظم ربحت حَتَّى رَغِبَتْ خَدِيجَةُ فِيكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا كَانَ لَكَ وُقُوفٌ عَلَى الدُّنْيَا، وَمَا كُنْتَ تَعْرِفُ سِوَى الدِّينِ، فَهَدَيْتُكَ إِلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا بَعْدَ ذَلِكَ السَّادِسَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ ضَائِعًا فِي قَوْمِكَ كَانُوا يُؤْذُونَكَ، وَلَا يَرْضَوْنَ بِكَ رَعِيَّةً، فَقَوَّى أَمْرَكَ وَهَدَاكَ إِلَى أَنْ صِرْتَ آمِرًا وَالِيًا عَلَيْهِمْ السَّابِعَ عَشَرَ: كُنْتَ ضالا ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ الثَّامِنَ عَشَرَ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أَيْ نَاسِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [الْبَقَرَةِ: 282] فَهَدَيْتُكَ أَيْ ذَكَّرْتُكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ نَسِيَ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِسَبَبِ الْهَيْبَةِ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كَيْفِيَّةِ الثَّنَاءِ حَتَّى
قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِاللَّهِ(31/198)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
بِقَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لَا يُظْهِرُ لَهُمْ خِلَافًا، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالضَّلَالِ الْعِشْرُونَ:
رَوَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، فَإِنِّي قُلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ يَرْعَى مَعِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، لَوْ حَفِظْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشُّبَّانُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ذَلِكَ حَتَّى أَتَيْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، فَسَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالْمَزَامِيرِ، فَقَالُوا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُزَوَّجُ بِفُلَانَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، قَالَ فَجِئْتُ صَاحِبِي، فَقَالَ مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته» .
أما قوله تعالى:
[سورة الضحى (93) : آية 8]
وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَائِلُ هُوَ ذُو الْعَيْلَةِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا [النِّسَاءِ: 3] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التَّوْبَةِ: 28] ثُمَّ أَطْلَقَ الْعَائِلَ عَلَى الْفَقِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عيال، وهاهنا فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفَقِيرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: / (وَوَجَدَكَ عَدِيمًا) وَقُرِئَ عَيِّلًا كَمَا قُرِئَ سَيِّحَاتٍ «1» ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِغْنَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاهُ بِتَرْبِيَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّتْ أَحْوَالُ أَبِي طَالِبٍ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ خَدِيجَةَ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَغْنَاهُ [اللَّهُ] بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمَّا اخْتَلَّ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ وَأَغْنَاهُ بِإِعَانَةِ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ، وَأَغْنَاهُ بِالْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ كَالْوَاقِعِ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «دَخَلَ على خديجة وهو مغموم، فقالت له مالك، فَقَالَ: الزَّمَانُ زَمَانُ قَحْطٍ فَإِنْ أَنَا بَذَلْتُ الْمَالَ يَنْفُذُ مَالُكِ فَأَسْتَحِي مِنْكِ، وَإِنْ لَمْ أَبْذُلْ أَخَافُ اللَّهَ، فَدَعَتْ قُرَيْشًا وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُ، قَالَ الصِّدِّيقُ: فَأَخْرَجَتْ دَنَانِيرَ وَصَبَّتْهَا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَمْ يَقَعْ بَصَرِي عَلَى مَنْ كَانَ جَالِسًا قُدَّامِي لِكَثْرَةِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَتْ: اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ إِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ»
الثَّانِي: أَغْنَاهُ بِأَصْحَابِهِ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ سِرًّا حَتَّى
قَالَ عُمَرُ حِينَ أَسْلَمَ: ابْرُزْ أَتُعْبَدُ اللَّاتُ جَهْرًا وَنَعْبُدُ اللَّهَ سِرًّا! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَتَّى تَكْثُرَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ حَسْبُكَ اللَّهُ وَأَنَا فَقَالَ تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] فَأَغْنَاهُ اللَّهُ بِمَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهَيْبَةِ عُمَرَ»
الثَّالِثُ: أَغْنَاكَ بِالْقَنَاعَةِ فَصِرْتَ بِحَالٍ يَسْتَوِي عِنْدَكَ الْحَجَرُ وَالذَّهَبُ، لَا تَجِدُ فِي قَلْبِكَ سِوَى رَبِّكَ، فَرَبُّكَ غَنِيٌّ عَنِ الْأَشْيَاءِ لَا بِهَا، وَأَنْتَ بِقَنَاعَتِكَ اسْتَغْنَيْتَ عَنِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّ الْغِنَى الْأَعْلَى الْغِنَى عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُيِّرَ بَيْنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ الرَّابِعُ: كُنْتَ عَائِلًا عَنِ الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ فَأَغْنَاكَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْعَائِلِ: أَنْتَ كَنْتَ كَثِيرَ الْعِيَالِ وَهُمُ الْأُمَّةُ، فَكَفَاكَ. وَقِيلَ فَأَغْنَاهُمْ بِكَ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ
__________
(1) هكذا في الأصل ولعله يعني قرئ: ووجدك عيلا تشديد لياء مع كسرها كما قرئ: سيحات كذلك في قوله تعالى: سائِحاتٍ [التحريم: 5] . والله أعلم الصاوي.(31/199)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَأَنْتَ صَاحِبُ الْعِلْمِ، فَهَدَاهُمْ عَلَى يدك، وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُ الْيُتْمَ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْيَتَامَى فَيَقُومَ بِحَقِّهِمْ وَصَلَاحِ أَمْرِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَشْبَعُ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ أَخَافُ إِنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الْجِيَاعَ وَثَانِيهَا: لِيَكُونَ الْيَتِيمُ مُشَارِكًا لَهُ فِي الِاسْمِ فَيُكْرَمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا سَمَّيْتُمُ الْوَلَدَ مُحَمَّدًا فَأَكْرِمُوهُ، وَوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ أُمٌّ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَيْهِمَا، فَسَلَبَ عنه الولدان حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ، فَيَصِيرُ فِي طُفُولِيَّتِهِ مُتَشَبِّهًا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي، عِلْمُهُ بِحَالِي، وَكَجَوَابِ مَرْيَمُ: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 37] . وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْيَتِيمَ لَا تُخْفَى عُيُوبُهُ بَلْ تَظْهَرُ، وَرُبَّمَا زَادُوا عَلَى الْمَوْجُودِ فَاخْتَارَ تَعَالَى له اليتيم، لِيَتَأَمَّلَ كُلُّ أَحَدٍ فِي أَحْوَالِهِ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا عَلَيْهِ عَيْبًا فَيَتَّفِقُونَ عَلَى نَزَاهَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ لَمْ يَجِدُوا عَلَيْهِ مَطْعَنًا وَخَامِسُهَا: جَعَلَهُ يَتِيمًا لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ فَضِيلَتَهُ مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الَّذِي لَهُ أَبٌ، فَإِنَّ أَبَاهُ يَسْعَى فِي تَعْلِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْيُتْمَ وَالْفَقْرَ نَقْصٌ فِي حَقِّ/ الْخَلْقِ، فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ قَلْبًا لِلْعَادَةِ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؟ الْجَوَابُ: الْحِكْمَةُ أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَيَقَعَ فِي الْعُجْبِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ:
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهَا، قُلْتُ: اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَسَخَّرْتَ مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ كَذَا وَكَذَا، وَأَعْطَيْتَ فَلَانًا كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: أَلَمْ أَصْرِفْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟
قُلْتُ: بَلَى، أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ نَبِيًّا قبلك وهي خواتيم سورة البقرة؟ أم أَتَّخِذْكَ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذْتُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا؟»
فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْنَا: طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْخَبَرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَسْأَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ يَقَعَ مِنَ الرَّسُولِ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ. وَيَكُونُ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَجْرِي مجرى المعاتبة.
[سورة الضحى (93) : آية 9]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَقُرِئَ فَلَا تَكْهَرْ، أَيْ لَا تَعْبَسْ وَجْهَكَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى عَامِلْهُ بمثل ما عاملتك بِهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ:
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: 77] وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهَ اللَّهَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ»
وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ صَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَلَدِ خَدِيجَةَ
وَمِنْهُ
حَدِيثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ: «قَالَ: إِلَهِي بِمَ نِلْتُ مَا نِلْتُ؟ قَالَ: أَتَذْكُرُ حِينَ هَرَبَتْ مِنْكَ السَّخْلَةُ، فَلَمَّا قَدَرْتَ عَلَيْهَا قُلْتَ: أَتْعَبْتِ نَفْسَكِ ثُمَّ حَمَلْتَهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَعَلْتُكَ وَلِيًّا عَلَى الْخَلْقِ،
فَلَمَّا نَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّبُوَّةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الشَّاةِ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعِتَابُ بِمُجَرَّدِ الصِّيَاحِ أَوِ الْعُبُوسِيَّةِ فِي الْوَجْهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَذَلَّهُ أَوْ أَكَلَ مَالَهُ،
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا بَكَى الْيَتِيمُ وَقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُ تَعَالَى: مَنْ أَبْكَى هَذَا الْيَتِيمَ الَّذِي وَارَيْتُ وَالِدَهُ التراب، من أسكته فله الجنة» .
ثم قال تعالى:
[سورة الضحى (93) : آية 10]
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)(31/200)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يَزْجُرُهُ، وَفِي الْمُرَادِ مِنَ السَّائِلِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ الْعِلْمَ وَنَظِيرُهُ مِنْ وَجْهٍ: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عَبَسَ: 1، 2] وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ التَّرْتِيبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ أَوَّلًا: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: 6- 8] ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَأَوْصَاهُ بِرِعَايَةِ حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ بِرِعَايَةِ حَقِّ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ/ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ السَّائِلِ وَلَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْفُقَرَاءِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الضَّرِيرُ، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَبَسَ وَجْهُهُ فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ، وَالثَّانِي: حِينَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: لَوْ جَعَلْتَ لَنَا مَجْلِسًا وَلِلْفُقَرَاءِ مَجْلِسًا آخَرَ فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْكَهْفِ: 28] وَالثَّالِثُ:
كَانَ جَالِسًا فجاءه عثمان بعذق من ثمر فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَوَقَفَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا يَرْحَمُنَا، فَأَمَرَ بِدَفْعِهِ إِلَى السَّائِلِ فَكَرِهَ عُثْمَانُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَخَرَجَ وَاشْتَرَاهُ مِنَ السَّائِلِ، ثُمَّ رَجَعَ السَّائِلُ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَكَانَ يُعْطِيهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَائِلٌ أَنْتَ أَمْ بَائِعٌ؟ فنزل: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ.
ثم قوله تعالى:
[سورة الضحى (93) : آية 11]
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: تِلْكَ النِّعْمَةُ هِيَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّحْدِيثُ بِهِ أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُقْرِئَ غَيْرَهُ وَيُبَيِّنَ حَقَائِقَهُ لَهُمْ وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ هِيَ النُّبُوَّةُ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَثَالِثُهَا: إِذَا وَفَّقَكَ اللَّهُ فَرَاعَيْتَ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالسَّائِلِ، وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكَ فَحَدِّثْ بِهَا لِيَقْتَدِيَ بِكَ غَيْرُكَ، وَمِنْهُ مَا
رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السلام أنه قال: إذا عملت خَيْرًا فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ لِيَقْتَدُوا بِكَ،
إِلَّا أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِيَاءً، وَظَنَّ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
لَمَّا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الصَّحَابَةِ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ خِصَالَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَحَدِّثْنَا عَنْ نَفْسِكَ فَقَالَ: مَهْلًا، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّزْكِيَةِ فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فَقَالَ:
فَإِنِّي أُحَدِّثُ، كُنْتُ إِذَا سُئِلْتُ أَعْطَيْتُ وَإِذَا سَكَتُّ ابْتَدَيْتُ، وَبَيْنَ الْجَوَانِحِ عِلْمٌ جَمٌّ فَاسْأَلُونِي،
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ حَقِّ الْيَتِيمِ وَالْعَائِلِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا غَنِيٌّ وَهُمَا مُحْتَاجَانِ وَتَقْدِيمُ حَقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ وَضَعَ فِي حَظِّهِمَا الْفِعْلَ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ اسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعَلَ خَاتِمَةَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ تَحَدُّثَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَكُونَ خَتْمُ الطَّاعَاتِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاخْتَارَ قَوْلَهُ: فَحَدِّثْ عَلَى قَوْلِهِ فَخَبِّرْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدِيثًا عند لَا يَنْسَاهُ، وَيُعِيدَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
تم الجزء الحادي والثلاثون ويتلوه الجزء الثاني والثلاثون. وأوله تفسير سورة الإنشراح.(31/201)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
الجزء الثاني والثلاثون
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة ألم نشرح
ثمان آيات مكية يروى عن طاوس وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ الضُّحَى سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَا يقرءانهما فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَا كَانَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالَّذِي دَعَاهُمَا إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ كَالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضُّحَى: 6] وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ: كَانَ نُزُولُهُ حَالَ اغْتِمَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ فَكَانَتْ حَالَ مِحْنَةٍ وَضِيقِ صَدْرٍ وَالثَّانِيَ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَالَ النُّزُولِ منشرح الصدر طيب القلب، فأنى يجتمعان.
[سورة الشرح (94) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
اسْتَفْهَمَ عَنِ انْتِفَاءِ الشَّرْحِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ، فَأَفَادَ إِثْبَاتَ الشَّرْحِ وَإِيجَابَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَفِي شَرْحِ الصَّدْرِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَاهُ وَشَقَّ صَدْرَهُ وَأَخْرَجَ قَلْبَهُ وَغَسَلَهُ وَأَنْقَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي ثُمَّ مَلَأَهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَوَضَعَهُ فِي صَدْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ طَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي حَالِ صِغَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ نُبُوَّتُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَسْلِ فِي إِزَالَةِ الْأَجْسَامِ، وَالْمَعَاصِي لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ فَلَا يَكُونُ لِلْغَسْلِ فِيهَا أَثَرٌ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلَأَ الْقَلْبَ عِلْمًا، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ الْعُلُومَ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ تَقْوِيمَ الْمُعْجِزِ عَلَى زَمَانِ الْبِعْثَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرْهَاصِ، وَمِثْلُهُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ ذَلِكَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ الَّذِي غَسَلُوهُ مِنْ قَلْبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَامَةً لِلْقَلْبِ الَّذِي يَمِيلُ إِلَى الْمَعَاصِي، وَيُحْجِمُ عَنِ الطَّاعَاتِ، فَإِذَا أَزَالُوهُ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِكَوْنِ صَاحِبِهِ مُوَاظِبًا عَلَى الطَّاعَاتِ مُحْتَرِزًا عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْعَلَامَةِ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى كَوْنِ صَاحِبِهِ مَعْصُومًا، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ.(32/205)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: (أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بُعِثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَكَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْ مُنَازَعَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ سِوَى اللَّهِ، فَآتَاهُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا اتَّسَعَ لِكُلِّ مَا حَمَلَهُ وَصَغَّرَهُ عِنْدَهُ كُلَّ شَيْءٍ احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَخْرَجَ عَنْ قَلْبِهِ جَمِيعَ الْهُمُومِ وَمَا تَرَكَ فِيهِ إِلَّا هَذَا الْهَمَّ الْوَاحِدَ، فَمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِ هَمُّ النَّفَقَةِ وَالْعِيَالِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ إِيذَائِهِمْ، حَتَّى صَارُوا فِي عَيْنِهِ دُونَ الذُّبَابِ لَمْ يَجْبُنْ خوفا من وعيدهم، ولم يمل إلى مالهم، وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرْحُ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِحَقَارَةِ الدُّنْيَا وَكَمَالِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الْأَنْعَامِ: 125]
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «التَّجَافِي عَنِ الْغُرُورِ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالْإِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ»
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ صِدْقَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ يُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ انْفَتَحَ صَدْرُهُ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الْمُهِمَّاتِ لَا يَقْلَقُ وَلَا يَضْجَرُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، بَلْ هُوَ فِي حَالَتَيِ الْبُؤْسِ وَالْفَرَحِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ مُشْتَغِلٌ بِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَالشَّرْحُ التَّوْسِعَةُ، وَمَعْنَاهُ الْإِرَاحَةُ مِنَ الْهُمُومِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْغَمَّ وَالْهَمَّ ضِيقَ صَدْرٍ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر: 97] وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ الصَّدْرَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَلْبَ؟ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَسْوَسَةِ هُوَ الصَّدْرُ عَلَى مَا قَالَ:
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [النَّاسِ: 5] فَإِزَالَةُ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ وَإِبْدَالُهَا بِدَوَاعِي الْخَيْرِ هِيَ الشَّرْحُ، فَلَا جَرَمَ خُصَّ ذَلِكَ الشَّرْحُ بِالصَّدْرِ دُونَ الْقَلْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْقَلْبُ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الشَّيْطَانُ، فَالشَّيْطَانُ يَجِيءُ إِلَى الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ حِصْنُ الْقَلْبِ، فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا أَغَارَ فِيهِ وَنَزَلَ جُنْدُهُ فِيهِ، وَبَثَّ فِيهِ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْحِرْصِ فَيَضِيقُ الْقَلْبُ حِينَئِذٍ وَلَا يَجِدُ لِلطَّاعَةِ لَذَّةً وَلَا لِلْإِسْلَامِ حَلَاوَةً، وَإِذَا طُرِدَ الْعَدُوُّ فِي الِابْتِدَاءِ مُنِعَ وَحَصَلَ الْأَمْنُ وَيَزُولُ الضِّيقُ وَيَنْشَرِحُ الصَّدْرُ وَيَتَيَسَّرُ لَهُ الْقِيَامُ بِأَدَاءِ الْعُبُودِيَّةِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَلَمْ يَقُلْ أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرَكَ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَامٌ بِلَامٍ، فَأَنْتَ إِنَّمَا تَفْعَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِأَجْلِي كَمَا قَالَ: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] ، أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] فَأَنَا أَيْضًا جَمِيعُ مَا أَفْعَلُهُ لِأَجْلِكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ فِيهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الرِّسَالَةِ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّمَا شَرَحْنَا صَدْرَكَ لِأَجْلِكَ لَا لِأَجْلِي.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ وَلَمْ يَقُلْ أَلَمْ أَشْرَحْ؟ وَالْجَوَابُ: إِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نُونِ التَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ عَظَمَةَ الْمُنْعِمِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ النِّعْمَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْحَ نِعْمَةٌ لَا تَصِلُ الْعُقُولُ إِلَى كُنْهِ جَلَالَتِهَا، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى نُونِ الْجَمِيعِ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَمْ أَشْرَحْهُ وَحْدِي بَلْ أَعْمَلْتُ فِيهِ مَلَائِكَتِي، فَكُنْتَ تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَوَالَيْكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُكَ، فَأَدَّيْتَ/ الرِّسَالَةَ وَأَنْتَ قَوِيُّ الْقَلْبِ وَلَحِقَتْهُمْ هَيْبَةٌ، فَلَمْ يُجِيبُوا لَكَ جَوَابًا، فَلَوْ كُنْتَ ضَيِّقَ الْقَلْبِ لَضَحِكُوا مِنْكَ، فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ قُوَّةَ قَلْبِكَ جُبْنًا فِيهِمْ، وَانْشِرَاحَ صَدْرِكَ ضِيقًا فيهم. ثم قال تعالى:
[سورة الشرح (94) : الآيات 2 الى 3]
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)(32/206)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى أَلَمْ نَشْرَحْ لَا عَلَى لَفْظِهِ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ أَلَمْ وَضَعْنَا وَلَكِنْ مَعْنَى أَلَمْ نَشْرَحْ قَدْ شَرَحْنَا، فَحُمِلَ الثَّانِي عَلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ لَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَنَضَعُ عَنْكَ وِزْرَكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْوِزْرِ ثُقْلُ الذَّنْبِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ عند قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ [الأنعام: 31] وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] .
المسألة الثالثة وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ فَقَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الظَّهْرَ إِذَا أُثْقِلَ الْحِمْلَ سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ أَيْ صَوْتٌ خَفِيٌّ، وَهُوَ صَوْتُ الْمَحَامِلِ وَالرِّحَالِ وَالْأَضْلَاعِ، أَوِ الْبَعِيرُ إِذَا أَثْقَلَهُ الْحِمْلُ فَهُوَ مَثَلٌ لِمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْزَارِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ أَثْبَتَ الْمَعْصِيَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الصَّغَائِرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهَا، لَا يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَظِيمًا فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا وُصِفَ ذَلِكَ بِإِنْقَاضِ الظَّهْرِ مَعَ كَوْنِهَا مَغْفُورَةً لِشِدَّةِ اغْتِمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُقُوعِهِ مِنْهُ وَتَحَسُّرِهِ مَعَ نَدَمِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنَّمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيمَا يَزُولُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ عَظِيمٌ، فَيَجُوزُ لِذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْقَاضِي، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِامْتِنَانَ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ غَيْرُ جَائِزٍ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الذَّنْبِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُنُوبٌ سَلَفَتْ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ أَثْقَلَتْهُ فَغَفَرَهَا لَهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَخْفِيفُ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ الظَّهْرَ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا وَحِفْظِ مُوجِبَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَحَطَّ عَنْهُ ثِقَلَهَا بِأَنْ يَسَّرَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ وَثَالِثُهَا: الْوِزْرُ مَا كَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ تَغْيِيرِهِمْ لِسُنَّةِ الْخَلِيلِ وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ إِلَى أَنْ قَوَّاهُ اللَّهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النَّحْلِ: 123] .
وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا ذُنُوبُ أُمَّتِهِ صَارَتْ كَالْوِزْرِ عَلَيْهِ، مَاذَا يَصْنَعُ فِي حَقِّهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] فَأَمَّنَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْعَاجِلِ، وَوَعَدَ لَهُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآجِلِ وَخَامِسُهَا: مَعْنَاهُ عَصَمْنَاكَ عَنِ الْوِزْرِ الَّذِي يَنْقُضُ ظَهْرَكَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ حَاصِلًا، فَسَمَّى الْعِصْمَةَ وَضْعًا مَجَازًا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ حَضَرَ وَلِيمَةً/ فِيهَا دُفٌّ وَمَزَامِيرُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ لِيَسْمَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ فَلَمْ يُوقِظْهُ إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ
وَسَادِسُهَا: الْوِزْرُ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ وَالْفَزَعِ فِي أَوَّلِ مُلَاقَاةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، وَكَادَ يَرْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ، ثُمَّ تَقَوَّى حَتَّى أَلِفَهُ وَصَارَ بِحَالَةٍ كَادَ يَرْمِي بِنَفْسِهِ مِنَ الْجَبَلِ لِشِدَّةِ اشْتِيَاقِهِ وَسَابِعُهَا: الْوِزْرُ مَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْأَذَى وَالشَّتْمِ حَتَّى كَادَ يَنْقُضَ ظَهْرَهُ وَتَأْخُذَهُ الرِّعْدَةُ، ثُمَّ قَوَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ كَانُوا يُدْمُونَ وَجْهَهُ، وَ [هُوَ]
يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي»
وَثَامِنُهَا: لَئِنْ كَانَ نُزُولُ السُّورَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ، فَلَقَدْ كَانَ فِرَاقُهُمَا عَلَيْهِ وِزْرًا عَظِيمًا، فَوَضَعَ عَنْهُ الْوِزْرَ بِرَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَقِيَهُ كُلُّ مَلَكٍ وَحَيَّاهُ فَارْتَفَعَ لَهُ الذِّكْرُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وَتَاسِعُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوِزْرِ وَالثِّقَلِ الْحَيْرَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ، وَذَلِكَ(32/207)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
أَنَّهُ بِكَمَالِ عَقْلِهِ لَمَّا نَظَرَ إِلَى عَظِيمِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَأَعْطَاهُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَأَنْوَاعَ النِّعَمِ، ثَقُلَ عَلَيْهِ نِعَمُ اللَّهِ وَكَادَ يَنْقُضُ ظَهْرُهُ مِنَ الْحَيَاءِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَرَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ، وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ يُطِيعُ رَبَّهُ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ وَالتَّكْلِيفُ وَعَرَفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ، فَحِينَئِذٍ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْوَالُ، فَإِنَّ اللَّئِيمَ لَا يَسْتَحِي مِنْ زِيَادَةِ النِّعَمِ بِدُونِ مُقَابَلَتِهَا بِالْخِدْمَةِ، وَالْإِنْسَانُ الْكَرِيمُ النَّفْسِ إِذَا كَثُرَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّهُ يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، بِحَيْثُ يُمِيتُهُ الْحَيَاءُ، فَإِذَا كَلَّفَهُ الْمُنْعِمُ بِنَوْعِ خدمة سهل ذلك عليه وطاب قلبه. ثم قال تعالى:
[سورة الشرح (94) : آية 4]
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَشُهْرَتُهُ فِي الأرض والسموات، اسْمُهُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ مَعَهُ فِي الشَّهَادَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَانْتِشَارُ ذِكْرِهِ فِي الْآفَاقِ، وَأَنَّهُ خُتِمَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ فِي الْخُطَبِ وَالْأَذَانِ وَمَفَاتِيحِ الرَّسَائِلِ، وَعِنْدَ الْخَتْمِ وَجَعَلَ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونًا بِذِكْرِهِ:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: 62] ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 13] وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور: 54] وَيُنَادِيهِ بِاسْمِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، حِينَ يُنَادِي غَيْرَهُ بِالِاسْمِ يَا مُوسَى يَا عِيسَى، وَأَيْضًا جَعَلَهُ فِي الْقُلُوبِ بِحَيْثُ يَسْتَطِيبُونَ ذِكْرَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مَرْيَمَ: 96] كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَمْلَأُ الْعَالَمَ مِنْ أَتْبَاعِكَ كُلُّهُمْ يُثْنُونَ عَلَيْكَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكَ وَيَحْفَظُونَ سُنَّتَكَ، بَلْ مَا مِنْ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إِلَّا وَمَعَهُ سُنَّةٌ فَهُمْ يَمْتَثِلُونَ فِي الْفَرِيضَةِ أَمْرِي، وَفِي السُّنَّةِ أَمْرَكَ وَجَعَلْتُ طَاعَتَكَ طَاعَتِي وَبَيْعَتَكَ بَيْعَتِي مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] لَا تَأْنَفُ السَّلَاطِينَ مِنْ أَتْبَاعِكَ، بَلْ جَرَاءَةٌ لِأَجْهَلِ الْمُلُوكِ أَنْ يُنَصِّبَ خَلِيفَةً مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكَ، فَالْقُرَّاءُ يَحْفَظُونَ أَلْفَاظَ مَنْشُورِكَ، وَالْمُفَسِّرُونَ يُفَسِّرُونَ مَعَانِيَ فُرْقَانِكَ، وَالْوُعَّاظُ يُبَلِّغُونَ وَعْظَكَ/ بَلِ الْعُلَمَاءُ وَالسَّلَاطِينُ يَصِلُونَ إِلَى خِدْمَتِكَ، وَيُسَلِّمُونَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ عَلَيْكَ، وَيَمْسَحُونَ وُجُوهَهُمْ بِتُرَابِ رَوْضَتِكَ، وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَكَ، فَشَرَفُكَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ القيامة.
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 6]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَيِّرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَيَقُولُونَ: إِنْ كَانَ غَرَضُكَ مِنْ هَذَا الَّذِي تَدَّعِيهِ طَلَبَ الْغِنَى جَمَعْنَا لَكَ مَالًا حَتَّى تَكُونَ كَأَيْسَرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَبَقَ إِلَى وَهْمِهِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا رَغِبُوا عَنِ الْإِسْلَامِ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا حَقِيرًا عِنْدَهُمْ، فَعَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 1، 2] أَيْ مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ وَعَدَهُ بِالْغِنَى فِي الدُّنْيَا لِيُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ مَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ التَّأَذِّي بِسَبَبِ أَنَّهُمْ عَيَّرُوهُ بِالْفَقْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا يَحْزُنْكَ مَا يَقُولُ وَمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْقِلَّةِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا يُسْرٌ كَامِلٌ.(32/208)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقْتُ عُسْرًا وَاحِدًا بَيْنَ يُسْرَيْنِ، فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ،
وَرَوَى مُقَاتِلٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْعُسْرُ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعُسْرِ فِي اللَّفْظَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْيُسْرُ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ، وَزَيَّفَ الْجُرْجَانِيُّ هَذَا وَقَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا، إِنَّ مَعَ الْفَارِسِ سَيْفًا، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ فَارِسٌ وَاحِدٌ وَمَعَهُ سَيْفَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وَضْعِ الْعَرَبِيَّةِ الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، كَمَا كَرَّرَ قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين: 10] وَيَكُونُ الْغَرَضُ تَقْرِيرَ مَعْنَاهَا فِي النُّفُوسِ وَتَمْكِينَهَا فِي الْقُلُوبِ، كَمَا يُكَرَّرُ الْمُفْرَدُ فِي قَوْلِكَ: جَاءَنِي زَيْدٌ زَيْدٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْيُسْرَيْنِ: يُسْرُ الدُّنْيَا وَهُوَ مَا تَيَسَّرَ مِنِ اسْتِفْتَاحِ الْبِلَادِ، وَيُسْرُ الْآخِرَةِ وَهُوَ ثَوَابُ الْجَنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: 52] وَهُمَا حُسْنُ الظَّفَرِ وَحُسْنُ الثَّوَابِ، فَالْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ»
هَذَا، وذلك لأن عسر الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى يُسْرِ الدُّنْيَا وَيُسْرِ الْآخِرَةِ كالمغمور القليل، وهاهنا سُؤَالَانِ.
الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي الْيُسْرِ؟ جَوَابُهُ: التَّفْخِيمُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ مَعَ الْيُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا عَظِيمًا، وَأَيُّ يُسْرٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْيُسْرُ لَا يَكُونُ مَعَ الْعُسْرِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ الْجَوَابُ: لَمَّا/ كَانَ وُقُوعُ الْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له. ثم قال تعالى:
[سورة الشرح (94) : آية 7]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ السَّالِفَةَ، وَوَعَدَهُمْ بِالنِّعَمِ الْآتِيَةِ، لَا جَرَمَ بَعَثَهُ عَلَى الشُّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أَيْ فَاتْعَبْ يُقَالُ: نَصَبَ يَنْصِبُ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك فِي الدُّعَاءِ وَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ يُعْطِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ فَادْعُ لِدُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ فَانْصَبْ وَصَلِّ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْغَزْوِ فَاجْتَهِدْ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: إِذَا كُنْتَ صَحِيحًا فَانْصَبْ، يَعْنِي اجْعَلْ فَرَاغَكَ نَصَبًا فِي الْعِبَادَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنْ شُرَيْحًا مَرَّ بِرَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ: الْفَارِغُ مَا أُمِرَ بِهَذَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى أَنْ يُوَاصِلَ بَيْنَ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَبَعْضٍ، وَأَنْ لَا يُخَلِّيَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِهِ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ عبادة أتبعها بأخرى. وأما قوله تعالى:
[سورة الشرح (94) : آية 8]
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَيْهِ خُصُوصًا وَلَا تَسْأَلْ إِلَّا فَضْلَهُ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: ارْغَبْ فِي سَائِرِ مَا تَلْتَمِسُهُ دِينًا وَدُنْيَا وَنُصْرَةً عَلَى الْأَعْدَاءِ إِلَى رَبِّكَ، وَقُرِئَ فَرَغِّبْ أَيْ رَغِّبِ النَّاسَ إِلَى طَلَبِ مَا عِنْدَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(32/209)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التين
(وهي ثمان آيات مكية)
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
[قوله تعالى والتين والزيتون] اعْلَمْ أَنَّ الْإِشْكَالَ هُوَ أَنَّ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ لَيْسَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمَا؟
فَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ حَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ هَذَانِ الشَّيْئَانِ الْمَشْهُورَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ تِينُكُمْ وَزَيْتُونُكُمْ هَذَا، ثُمَّ ذَكَرُوا مِنْ خَوَاصِّ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ أَشْيَاءَ. أَمَّا التِّينُ فَقَالُوا إِنَّهُ غِذَاءٌ وَفَاكِهَةٌ وَدَوَاءٌ، أَمَّا كَوْنُهُ غِذَاءً فَالْأَطِبَّاءُ زَعَمُوا أَنَّهُ طَعَامٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الْهَضْمِ لَا يَمْكُثُ فِي الْمَعِدَةِ يُلَيِّنُ الطَّبْعَ ويخرج بطريق التَّرَشُّحَ وَيُقَلِّلُ الْبَلْغَمَ وَيُطَهِّرُ الْكُلْيَتَيْنِ وَيُزِيلُ مَا فِي الْمَثَانَةِ مِنَ الرَّمْلِ وَيُسَمِّنُ الْبَدَنَ وَيَفْتَحُ مَسَامَّ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَهُوَ خَيْرُ الْفَوَاكِهِ وَأَحْمَدُهَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَبَقٌ مِنْ تِينٍ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «كُلُوا فَلَوْ قُلْتُ إِنَّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنَ الْجَنَّةِ لَقُلْتُ هَذِهِ لِأَنَّ فَاكِهَةَ الْجَنَّةِ بِلَا عَجَمٍ فَكُلُوهَا فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَتَنْفَعُ مِنَ النِّقْرِسِ»
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: التِّينُ يُزِيلُ نَكْهَةَ الْفَمِ وَيُطَوِّلُ الشَّعْرَ وَهُوَ أَمَانٌ مِنَ الْفَالِجِ،
وَأَمَّا كَوْنُهُ دَوَاءً، فَلِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ فِي إخراج فضول البدن. واعلم أن لها بعد ما ذَكَرْنَا خَوَاصَّ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا كَبَاطِنِهَا لَيْسَتْ كَالْجَوْزِ ظَاهِرُهُ قِشْرٌ وَلَا كَالتَّمْرِ بَاطِنُهُ قِشْرٌ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ مِنَ الثِّمَارِ مَا يَخْبُثُ ظَاهِرُهُ وَيَطِيبُ بَاطِنُهُ، كَالْجَوْزِ وَالْبِطِّيخِ وَمِنْهُ مَا يَطِيبُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ كَالتَّمْرِ وَالْإِجَّاصِ.
أَمَّا التِّينُ فَإِنَّهُ طَيِّبُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَشْجَارَ ثَلَاثَةٌ: شَجَرَةٌ تَعِدُ وَتُخْلِفُ وَهِيَ شَجَرَةُ الْخِلَافِ، وَثَانِيَةٌ تَعِدُ وَتَفِي وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بالنور أولا بعده بالثمرة كَالتُّفَّاحِ وَغَيْرِهِ، وَشَجَرَةٌ تَبْذُلُ قَبْلَ الْوَعْدِ، وَهِيَ التِّينُ لِأَنَّهَا تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تَعِدَ بِالْوَرْدِ، بَلْ لَوْ غَيَّرْتَ الْعِبَارَةَ لَقُلْتَ هِيَ شَجَرَةٌ تُظْهِرُ الْمَعْنَى قَبْلَ الدَّعْوَى، بَلْ لَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تُخْرِجُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تُلْبِسَ نَفْسَهَا بِوَرْدٍ أَوْ بِوَرَقٍ، وَالتُّفَّاحُ وَالْمِشْمِشُ وَغَيْرُهُمَا تَبْدَأُ بِنَفْسِهَا ثُمَّ بِغَيْرِهَا، أَمَّا شَجَرَةُ التِّينِ فَإِنَّهَا تَهْتَمُّ بِغَيْرِهَا/ قَبْلَ اهْتِمَامِهَا بِنَفْسِهَا، فَسَائِرُ الْأَشْجَارِ كَأَرْبَابِ الْمُعَامَلَةِ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكِ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
وَشَجَرَةُ التِّينِ كَالْمُصْطَفَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْدَأُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ فَضَلَ صَرَفَهُ إِلَى(32/210)
نَفْسِهِ، بَلْ مِنَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الْحَشْرِ: 9] ، وَثَالِثُهَا:
أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْجَارِ إِذَا أَسْقَطَتِ الثَّمَرَةَ مِنْ مَوْضِعِهَا لَمْ تَعُدْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، إِلَّا التِّينَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَذْرَ وَرُبَّمَا سَقَطَ ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى وَرَابِعُهَا: أَنَّ التِّينَ فِي النَّوْمِ رَجُلٌ خَيِّرٌ غَنِيٌّ فَمَنْ نَالَهَا فِي الْمَنَامِ نَالَ مَالًا وَسَعَةً، وَمَنْ أَكَلَهَا رَزَقَهُ اللَّهُ أَوْلَادًا وَخَامِسُهَا:
رُوِيَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَصَى وَفَارَقَتْهُ ثِيَابُهُ تَسَتَّرَ بِوَرَقِ التِّينِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَكَانَ مُتَّزِرًا بِوَرَقِ التِّينِ اسْتَوْحَشَ فَطَافَ الظِّبَاءُ حَوْلَهُ فَاسْتَأْنَسَ بِهَا فَأَطْعَمَهَا بَعْضَ وَرَقِ التِّينِ، فَرَزَقَهَا اللَّهُ الْجَمَالَ صُورَةً وَالْمَلَاحَةَ مَعْنًى وَغَيَّرَ دَمَهَا مِسْكًا، فَلَمَّا تَفَرَّقَتِ الظِّبَاءُ إِلَى مَسَاكِنِهَا رَأَى غَيْرَهَا عَلَيْهَا مِنَ الْجَمَالِ مَا أَعْجَبَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ مِنَ الْغَدِ جَاءَتِ الظِّبَاءُ عَلَى أَثَرِ الْأُولَى إِلَى آدَمَ فَأَطْعَمَهَا مِنَ الْوَرَقِ فَغَيَّرَ اللَّهُ حَالَهَا إِلَى الْجَمَالِ دُونَ الْمِسْكِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى جَاءَتْ لِآدَمَ لَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى جَاءَتْ لِلطَّمَعِ سِرًّا وَإِلَى آدَمَ ظَاهِرَةً، فَلَا جَرَمَ غَيَّرَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَشَجَرَتُهُ هِيَ الشَّجَرَةُ الْمُبَارَكَةُ فَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِدَامٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ لَا تَقْتَصِرُ مَنْفَعَتُهَا غِذَاءَ بَدَنِكَ، بَلْ هِيَ غِذَاءُ السِّرَاجِ أَيْضًا وَتَوَلُّدُهَا فِي الْجِبَالِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الدُّهْنِيَّةِ الْبَتَّةَ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ وَرَقَ الزَّيْتُونِ فِي الْمَنَامِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَقَالَ مَرِيضٌ لِابْنِ سِيرِينَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِي:
كُلِ اللَّامَيْنِ تُشْفَ، فَقَالَ: كُلِ الزَّيْتُونَ فَإِنَّهُ لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: التِّينُ وَالزَّيْتُونُ اسْمٌ لِهَذَيْنِ الْمَأْكُولَيْنِ وَفِيهِمَا هَذِهِ الْمَنَافِعُ الْجَلِيلَةُ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْجَزْمُ بِأَنَّ اللَّهَ تعالى أقسم بهما لما فيهما هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَاتَيْنِ الثَّمَرَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا جَبَلَانِ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، يُقَالُ لَهُمَا: بِالسُّرْيَانِيَّةِ طُورَ تِينَا، وَطُورَ زِيتَا، لِأَنَّهُمَا مَنْبَتَا التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِمَنَابِتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْجَبَلُ الْمُخْتَصُّ بِالتِّينِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالزَّيْتُونُ الشَّأْمُ مَبْعَثُ أَكْثَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالطُّورُ مَبْعَثُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبَلَدُ الْأَمِينُ مَبْعَثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْقَسَمِ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِعْلَاءَ دَرَجَاتِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ مَسْجِدَانِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ آخَرُونَ: التِّينُ مَسْجِدُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ التِّينُ مَسْجِدُ نُوحٍ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْجُودِيِّ، وَالزَّيْتُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَسْجِدِ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا التِّينُ وَالزَّيْتُونُ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى بِذِكْرِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَثَالِثُهَا: / الْمُرَادُ مِنَ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ بَلَدَانِ، فَقَالَ كَعْبٌ: التِّينُ دِمَشْقُ وَالزَّيْتُونُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: التِّينُ الْكُوفَةُ، وَالزَّيْتُونُ الشَّامُ، وَعَنِ الرَّبِيعِ هُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ هَمْدَانَ وَحُلْوَانَ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، إِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ وَمُشْرِكِي قُرَيْشٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُعَظِّمُ بَلْدَةً مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ بِأَسْرِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنْ دِمَشْقَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ فِيهِمَا نِعَمُ الدُّنْيَا، وَالطُّورَ وَمَكَّةَ فِيهِمَا نِعَمُ الدِّينِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَطُورِ سِينِينَ فَالْمُرَادُ مِنْ الطُّورِ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِينِينَ وَالْأَوْلَى عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ سِينِينَ وَسِينَا اسْمَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْجَبَلُ أُضِيفَا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ: الطُّورُ الْجَبَلُ وَسِينِينَ الْحَسَنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ،(32/211)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سِينِينَ الْمُبَارَكُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْجَبَلُ الْمُشَجَّرُ ذُو الشَّجَرِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فَهُوَ سِينِينَ وَسِينَا بِلُغَةِ النَّبَطِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ سِينِينَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ الْجَبَلُ، ثُمَّ لِذَلِكَ سُمِّيَ سِينِينَ أَوْ سِينَا لِحُسْنِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُبَارَكًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سِينِينَ نَعْتًا لِلطُّورِ لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فَالْمُرَادُ مَكَّةُ وَالْأَمِينُ: الْآمِنُ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مِنْ أَمِنَ الرَّجُلَ أَمَانَةً فَهُوَ أَمِينٌ وَأَمَانَتُهُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْ دَخَلَهُ كَمَا يَحْفَظُ الْأَمِينُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ أَمِنَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُونُ الْغَوَائِلِ، كَمَا وُصِفَ بِالْأَمْنِ فِي قوله: حَرَماً آمِناً [العنكبوت: 67] يَعْنِي ذَا أَمْنٍ، وَذَكَرُوا فِي كَوْنِهِ أَمِينًا وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَهُ عَنِ الْفِيلِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ شَرْحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّهَا تَحْفَظُ لَكَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَمُبَاحُ الدَّمِ عِنْدَ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهَا آمِنٌ مِنَ السِّبَاعِ وَالصُّيُودُ تَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْحِفْظَ عِنْدَ الِالْتِجَاءِ إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: مَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَا إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفُعُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ الْمِيثَاقَ كَتَبَهُ فِي رِقٍّ أَبْيَضَ، وَكَانَ لِهَذَا الرُّكْنِ يَوْمَئِذٍ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَعَيْنَانِ، فَقَالَ: افْتَحْ فَاكَ فَأَلْقَمَهُ ذَلِكَ الرِّقَّ وَقَالَ: تَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاكَ بِالْمُوَافَاةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَقِيتُ فِي قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
ثم قال تعالى:
[سورة التين (95) : آية 4]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
الْمُرَادُ من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشَّيْءِ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي التَّأْلِيفِ وَالتَّعْدِيلِ، يُقَالُ:
قَوَّمْتُهُ تَقْوِيمًا فَاسْتَقَامَ وَتَقَوَّمَ، وَذَكَرُوا فِي شَرْحِ ذَلِكَ الْحُسْنِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ ذِي رُوحٍ مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ الْأَصَمُّ: فِي أَكْمَلِ عَقْلٍ وَفَهْمٍ وَأَدَبٍ وَعِلْمٍ وَبَيَانٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالثَّانِي إِلَى/ السِّيرَةِ الْبَاطِنَةِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي أَنَّهُ فَسَّرَ التَّقْوِيمَ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ حَكَى أَنَّ مَلِكَ زَمَانِهِ خَلَا بِزَوْجَتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنَ الْقَمَرِ فَأَنْتِ كَذَا، فَأَفْتَى الْكُلُّ بِالْحِنْثِ إِلَّا يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَحْنَثُ، فَقِيلَ لَهُ: خَالَفْتَ شُيُوخَكَ، فَقَالَ: الْفَتْوَى بِالْعِلْمِ وَلَقَدْ أَفْتَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنَّا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقُولُ: إِلَهَنَا أَعْطَيْتَنَا فِي الْأُولَى أَحْسَنَ الْأَشْكَالِ، فَأَعْطِنَا فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنَ الْفِعَالِ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنِ الْعُيُوبِ. أما قوله تعالى:
[سورة التين (95) : آية 5]
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)
فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السَّافِلُونَ هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى، وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَجِدُ سَبِيلًا، يُقَالُ: سَفَلَ يَسْفُلُ فَهُوَ سَافِلٌ وَهُمْ سَافِلُونَ، كَمَا يُقَالُ: عَلَا يَعْلُو فَهُوَ عَالٍ وَهُمْ عَالُونَ، أَرَادَ أَنَّ الْهَرِمَ يُخَرِّفُ وَيَضْعُفُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعَقْلُهُ وَتَقِلُّ حِيلَتُهُ وَيَعْجِزُ عَنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، فَيَكُونُ أَسْفَلَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ كَانَتْ أَسْفَلَ سَافِلٍ لَكَانَ صَوَابًا، لِأَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ وَاحِدٌ، وَأَنْتَ تَقُولُ: هَذَا أَفْضَلُ قَائِمٍ وَلَا تَقُولُ: أَفْضَلُ قَائِمِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ: سَافِلِينَ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزُّمَرِ:(32/212)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
33] وَقَالَ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ [الشُّورَى: 48] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى النَّارِ،
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَضَعَ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ بَعْضَهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَيَبْدَأُ بِالْأَسْفَلِ فَيَمْلَأُ وَهُوَ أَسْفَلُ سَافِلِينَ،
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمَعْنَى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ إِلَى النار.
[سورة التين (95) : آية 6]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى وَلَكِنِ الَّذِينَ كَانُوا صَالِحِينَ مِنَ الْهَرْمَى فَلَهُمْ ثَوَابٌ دَائِمٌ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى ابْتِلَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، وَعَلَى مُقَاسَاةِ الْمَشَاقِّ وَالْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ وَعَلَى تَخَاذُلِ نُهُوضِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَثَانِيهِمَا: أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ لَا يَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الثَّوَابِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُنَغَّصًا بالمنة. ثم قال تعالى:
[سورة التين (95) : آية 7]
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأُولَى: مَنِ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَما يُكَذِّبُكَ؟ الْجَوَابُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَما يُكَذِّبُكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَالْمَعْنَى فَمَا الَّذِي يُلْجِئُكَ إِلَى هَذَا الْكَذِبِ وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ إنه خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى فَمَنْ يُكَذِّبُكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ بِالدِّينِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ التَّعَجُّبِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ وَتَقْوِيمَهُ بَشَرًا سَوِيًّا وَتَدْرِيجَهُ فِي مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، تم تَنْكِيسَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَرْذَلَ الْعُمُرِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَمَنْ شَاهَدَ هَذِهِ الْحَالَةَ ثُمَّ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ فَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ مِنْهُ. ثم قال تعالى:
[سورة التين (95) : آية 8]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ رَدِّهِ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ صُنْعًا وَتَدْبِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ صَحَّ الْقَوْلُ بِإِمْكَانِ الْحَشْرِ وَوُقُوعِهِ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَبِالنَّظَرِ إِلَى الْحِكْمَةِ لِأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ(32/213)
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
[ص: 27] . وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُومِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَدْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ وَلَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ السَّفَهِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَاعِلُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى لَكَانَ كُلُّ سَفَهٍ وَكُلُّ أَمْرٍ بِسَفَهٍ وَكُلُّ تَرْغِيبٍ فِي سَفَهٍ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ، كَمَا أَنَّهُ لَا حِكْمَةٌ وَلَا أَمْرٌ بِالْحِكْمَةِ وَلَا تَرْغِيبٌ فِي الْحِكْمَةِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْأَمْرَانِ لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَسْفَهُ السُّفَهَاءِ. وَلَمَّا امْتَنَعَ هَذَا الْوَصْفُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي، ثُمَّ نَقُولُ: السَّفِيهُ مَنْ قَامَتِ السَّفَاهَةُ بِهِ لَا مَنْ خَلَقَ السَّفَاهَةَ، كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ وَالسَّاكِنَ مَنْ قَامَتِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ بِهِ لَا مَنْ خَلَقَهُمَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(32/214)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العلق
(تسع عشرة آية مكية) زَعَمَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ آخَرُونَ: الْفَاتِحَةُ أَوَّلُ ما نزل ثم سورة العلق.
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بِاسْمِ رَبِّكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى: اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ... سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
وَمَعْنَى اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ، أَيِ اذْكُرِ اسْمَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ مَا حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، أَيْ لَا أَذْكُرُ اسْمَ رَبِّي وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ شُغْلٌ سِوَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا كَانَ مَشْغُولًا بِهِ أَبَدًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: اقْرَأْ أَيِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، إِذِ الْقِرَاءَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِيهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[الْقِيَامَةِ: 18] وَقَالَ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الْإِسْرَاءِ: 106] وَقَوْلُهُ:
بِاسْمِ رَبِّكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ بَاسْمِ رَبِّكَ النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثُمَّ اقْرَأْ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ وَاجِبًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى اقْرَأِ الْقُرْآنَ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ كَأَنَّهُ يَجْعَلُ الِاسْمَ آلَةً فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَنَظِيرُهُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ بِقَارِئٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
أَيِ اسْتَعِنْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَاتَّخِذْهُ آلَةً فِي تَحْصِيلِ هَذَا الَّذِي عَسُرَ عَلَيْكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أَيِ اجْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ لِلَّهِ وَافْعَلْهُ لِأَجْلِهِ كَمَا تَقُولُ: بَنَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ بِاسْمِ الْأَمِيرِ وَصَنَعْتُ هَذَا الْكِتَابَ بِاسْمِ الْوَزِيرِ وَلِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ/ إِذَا صَارَتْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَجْتَرِئُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى؟ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَمِرُّ هَذَا(32/215)
التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِكَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَكَذَا قَبْلَ كُلِّ فِعْلٍ مُبَاحٍ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ إِضَافَةٌ مَجَازِيَّةٌ كَمَا تُضِيفُ ضَيْعَتَكَ إِلَى بَعْضِ الْكِبَارِ لِتَدْفَعَ بِذَلِكَ ظُلْمَ الظَّلَمَةِ، كَذَا تُضِيفُ فِعْلَكَ إِلَى اللَّهِ لِيَقْطَعَ الشَّيْطَانُ طَمَعَهُ عَنْ مُشَارَكَتِكَ،
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ شَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا اسْتَعَانَ بِذَلِكَ الْمُبَاحِ عَلَى التَّقْوَى عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَيَصِيرُ الْمُبَاحُ طَاعَةً فَيَصِحُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّكَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَنَّ الرَّبَّ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَاللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ وَأَسْمَاءُ الذَّاتِ أَشْرَفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ اللَّهِ أَشْرَفُ مِنَ اسْمِ الرب، ثم إنه تعالى قال هاهنا: بِاسْمِ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ: اقْرَأْ بِاسْمِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي التَّسْمِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ، وَبِصِفَاتِ الذَّاتِ، وَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْعِبَادَةَ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحَثِّ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ كَانَتْ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ عَلَى مَا كَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَزِعَ فَاسْتَمَالَهُ لِيَزُولَ الْفَزَعُ، فَقَالَ:
هُوَ الَّذِي رَبَّاكَ فَكَيْفَ يُفْزِعُكَ؟ فَأَفَادَ هَذَا الْحَرْفُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: رَبَّيْتُكَ فَلَزِمَكَ الْقَضَاءُ فَلَا تَتَكَاسَلُ وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ لِلْإِتْمَامِ، وَقَدْ رَبَّيْتُكَ مُنْذُ كَذَا فَكَيْفَ أُضَيِّعُكَ؟ أَيْ حِينَ كُنْتَ عَلَقًا لَمْ أَدَعْ تَرْبِيَتَكَ فَبَعْدَ أَنْ صِرْتَ خَلْقًا نَفِيسًا مُوَحِّدًا عَارِفًا بِي كَيْفَ أُضَيِّعُكَ؟.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ أَضَافَ ذَاتَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: بِاسْمِ رَبِّكَ؟ الْجَوَابُ: تَارَةً يُضِيفُ ذَاتَهُ إِلَيْهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ كما هاهنا، وَتَارَةً يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، أَسْرَى بِعَبْدِهِ، نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»
كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ لِي وَأَنَا لَهُ، يُقَرِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] أَوْ نَقُولُ:
إِضَافَةُ ذَاتِهِ إِلَى عَبْدِهِ أَحْسَنُ مِنْ إِضَافَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ فِي الشَّاهِدِ أَنَّ مَنْ لَهُ ابْنَانِ يَنْفَعُهُ أَكْبَرُهُمَا دُونَ الْأَصْغَرِ، يَقُولُ: هُوَ ابْنِي فَحَسْبُ لِمَا أَنَّهُ يَنَالُ مِنْهُ الْمَنْفَعَةَ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى: الْمَنْفَعَةُ تَصِلُ مِنِّي إِلَيْكَ، وَلَمْ تَصِلْ مِنْكَ إِلَيَّ خِدْمَةٌ وَلَا طَاعَةٌ إِلَى الْآنَ، فَأَقُولُ: أَنَا لَكَ وَلَا أَقُولُ أَنْتَ لِي، ثُمَّ إِذَا أَتَيْتَ بِمَا طَلَبْتُهُ مِنْكَ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَضَفْتُكَ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزُّمَرِ: 53] .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: رَبِّكَ قَوْلَهُ: الَّذِي خَلَقَ؟ الْجَوَابُ: كَأَنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّكَ رَبِّي؟ فَيَقُولُ: لِأَنَّكَ كُنْتَ بِذَاتِكَ وَصِفَاتِكَ مَعْدُومًا ثُمَّ صِرْتَ مَوْجُودًا فَلَا بُدَّ لَكَ فِي ذَاتِكَ وَصِفَاتِكَ مِنْ خَالِقٍ، وَهَذَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ تَرْبِيَةٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنِّي رَبُّكَ وَأَنْتَ مربوبي.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ لَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَاسْتَأْثَرَ بِهِ لَا خَالِقَ سِوَاهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ، فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، كَقَوْلِنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تَخْصِيصٌ لِلْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، إِمَّا لِأَنَّ التَّنْزِيلَ إِلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ مُبْهَمًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ تَفْخِيمًا لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَدَلَالَةً عَلَى عَجِيبِ فِطْرَتِهِ.(32/216)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْخَالِقِيَّةَ صِفَةً مُمَيِّزَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ، وَكُلُّ صِفَةٍ هَذَا شَأْنُهَا فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الشَّرِكَةِ فِيهَا، قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَلَبَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ، فَقَالَ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 23] قَالَ مُوسَى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 26] وَالرُّبُوبِيَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى الخالقية التي ذكرها هاهنا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَوِ الْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ النَّظَرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَشْهُورِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لَوْ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، لَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ منه، لكنه تعالى قدم ذلك مُقَدِّمَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ كَمَا يُحْكَى أَنَّ زُفَرَ لَمَّا بَعَثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ زَيَّفُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفْ طَرِيقَ التَّبْلِيغِ، لَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، وَاذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقَاوِيلَ أَئِمَّتِهِمْ ثُمَّ بَيِّنْ ضَعْفَهَا، ثُمَّ قل بعد ذلك: هاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَاذْكُرْ قَوْلِي وَحُجَّتِي، فَإِذَا تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِمْ، فَقُلْ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَسْتَحْيُونَ فَلَا يَرُدُّونَ، فَكَذَا هاهنا أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، فَلَوْ أَثْنَيْتَ عَلَيَّ وَأَعْرَضْتَ عَنِ الْأَوْثَانِ لَأَبَوْا ذَلِكَ، لَكِنِ اذْكُرْ لَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُلِقُوا مِنَ الْعَلَقَةِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ، ثُمَّ قُلْ: وَلَا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِنْ فَاعِلٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُضِيفُوا ذَلِكَ إِلَى الْوَثَنِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ نَحَتُوهُ، فَبِهَذَا التَّدْرِيجِ يُقِرُّونَ بِأَنِّي أَنَا الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ دُونَ الْأَوْثَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الْإِلَهِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْخَالِقِيَّةِ وَحَصَلَ الْقَطْعُ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النَّحْلِ: 17] وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبْعِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ إِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا/ أَوْ قَادِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لَزِمَ أَنْ يُقَارِنَهُ الْأَثَرُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَارٌ وَهُوَ عَالِمٌ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ حَصَلَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُوَافِقِ لِلْمَصْلَحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مِنْ عَلَقٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] . أما قوله تعالى:
[سورة العلق (96) : الآيات 3 الى 4]
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: اقْرَأْ أَوَّلًا لِنَفْسِكَ، وَالثَّانِيَ لِلتَّبْلِيغِ أَوِ الْأَوَّلَ لِلتَّعَلُّمِ مِنْ جِبْرِيلَ وَالثَّانِيَ لِلتَّعْلِيمِ أَوِ اقْرَأْ فِي صَلَاتِكَ، وَالثَّانِيَ خَارِجَ صَلَاتِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكَرَمُ إِفَادَةُ مَا يَنْبَغِي لَا لِعِوَضٍ، فَمَنْ يَهَبُ السِّكِّينَ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَمَنْ أَعْطَى ثُمَّ طَلَبَ عِوَضًا فَهُوَ لَيْسَ بِكَرِيمٍ، وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ عَيْنًا بَلِ الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ وَالتَّخَلُّصُ(32/217)
عَنِ الْمَذَمَّةِ كُلُّهُ عِوَضٌ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى لَهُ مِنْ لَا حُصُولِهِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَفِيدُ بِفِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ حُصُولَ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةُ، فَيَكُونُ نَاقِصًا بِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي بَيَانِ أَكْرَمِيَّتِهِ تَعَالَى وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَمْ مِنْ كَرِيمٍ يَحْلُمُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَبْقَى إِحْسَانُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ تَعَالَى أَكْرَمُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ بِإِحْسَانِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
مَتَى زِدْتُ تَقْصِيرًا تَزِدْ لِي تَفَضُّلَا ... كَأَنِّي بِالتَّقْصِيرِ أَسْتَوْجِبُ الْفَضْلَا
وَثَانِيهَا: إِنَّكَ كَرِيمٌ لَكِنَّ رَبَّكَ أَكْرَمُ وَكَيْفَ لَا وَكُلُّ كَرِيمٍ يَنَالُ بِكَرَمِهِ نَفْعًا إِمَّا مَدْحًا أَوْ ثَوَابًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، أَمَّا أَنَا فَالْأَكْرَمُ إِذْ لَا أَفْعَلُهُ إِلَّا لِمَحْضِ الْكَرَمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْأَكْرَمُ لِأَنَّ لَهُ الِابْتِدَاءَ فِي كُلِّ كَرَمٍ وَإِحْسَانٍ وَكَرَمُهُ غَيْرُ مَشُوبٍ بِالتَّقْصِيرِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَثًّا عَلَى الْقِرَاءَةِ أَيْ هَذَا الْأَكْرَمُ لِأَنَّهُ يُجَازِيكَ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرًا أَوْ حَثًّا عَلَى الْإِخْلَاصِ، أَيْ لَا تَقْرَأْ لِطَمَعٍ وَلَكِنْ لِأَجْلِي وَدَعْ عَلَيَّ أَمْرَكَ فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ أَنْ لَا أُعْطِيَكَ مَا لَا يُخْطَرُ بِبَالِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى تَجَرَّدْ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَلَا تَخَفْ أَحَدًا فَأَنَا أَكْرَمُ مِنْ أَنْ آمُرَكَ بِهَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ ثُمَّ لَا أَنْصُرُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَثَانِيًا بِأَنَّهُ عَلَقَةٌ وَهِيَ بِالْقَلَمِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ فِي الظَّاهِرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ عَلَقَةً وَهِيَ أَخَسُّ الْأَشْيَاءِ وَآخِرُ أَمْرِهِ هُوَ صَيْرُورَتُهُ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مَرَاتِبِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: انْتَقَلْتَ مِنْ أَخَسِّ الْمَرَاتِبِ إِلَى أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فَلَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُدَبِّرٍ مُقَدِّرٍ يَنْقُلُكَ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْخَسِيسَةِ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ/ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْإِيجَادُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِقْدَارُ وَالرِّزْقُ كَرَمٌ وَرُبُوبِيَّةٌ، أَمَّا الْأَكْرَمُ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْعِلْمَ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّرَفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَالْأَوَّلُ كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالثَّانِي إِلَى النُّبُوَّةِ، وَقُدِّمَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ غَنِيَّةٌ عَنِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَلَمِ الْكِتَابَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ، وَجُعِلَ الْقَلَمُ كِنَايَةً عَنْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَقَارِبٌ، إِذِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضِيلَةِ الْكِتَابَةِ، يُرْوَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عِفْرِيتًا عَنِ الْكَلَامِ، فَقَالَ: رِيحٌ لَا يَبْقَى، قَالَ: فَمَا قَيْدُهُ، قَالَ: الْكِتَابَةُ، فَالْقَلَمُ صَيَّادٌ يَصِيدُ الْعُلُومَ يَبْكِي وَيَضْحَكُ، بِرُكُوعِهِ تَسْجُدُ الْأَنَامُ، وَبِحَرَكَتِهِ تَبْقَى الْعُلُومُ عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، نَظِيرُهُ قَوْلُ زَكَرِيَّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مَرْيَمَ: 3] أَخْفَى وَأَسْمَعَ فَكَذَا الْقَلَمُ لَا يَنْطِقُ ثُمَّ يُسْمِعُ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ قَادِرٍ بِسَوَادِهَا جَعَلَ الدِّينَ مُنَوَّرًا، كَمَا أَنَّهُ جَعَلَكَ بِالسَّوَادِ مُبْصِرًا، فَالْقَلَمُ قَوَامُ الْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانُ قَوَامُ الْعَيْنِ، وَلَا تَقُلْ الْقَلَمُ نَائِبُ اللِّسَانِ، فَإِنَّ الْقَلَمَ يَنُوبُ عَنِ اللِّسَانِ وَاللِّسَانُ لَا يَنُوبُ عَنِ الْقَلَمِ، التُّرَابُ طَهُورٌ، وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ، وَالْقَلَمُ بَدَلٌ [عَنِ اللِّسَانِ] وَلَوْ [بُعِثَ] إِلَى الْمَشْرِقِ والمغرب «1» . أما قوله تعالى:
__________
(1) هذه العبارة كما هي في الأصل، وهي مضطربة، قوله التراب طهور إلخ أي إنه يغني عن الماء في التيمم به، وما بين الأقواس المعكفة لزيادة الإيضاح، وهو يقصد إلى أن المقارنة بين الماء والتراب كالمقارنة بين القلم واللسان والله أعلم.(32/218)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
[سورة العلق (96) : آية 5]
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ وَعَلَّمَهُ أَيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاوَ النَّسَقِ، وَقَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ تَقُولُ: أَكْرَمْتُكَ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ مَلَّكْتُكَ الْأَمْوَالَ وَلَّيْتُكَ الْوِلَايَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظَيْنِ وَاحِدًا وَيَكُونُ الْمَعْنَى: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْقَلَمِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بَيَانًا لقوله:
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 4] .
[سورة العلق (96) : آية 6]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الإنسان هاهنا إِنْسَانٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، ثُمَّ مِنْهُمْ من قال: نزلت السورة من هاهنا إِلَى آخِرِهَا فِي أَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ مِنْ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً [الْعَلَقِ: 9] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ/ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 17، 18]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عَلَقٍ فَلَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ، فَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ ازْدَادَ طُغْيَانًا وَتَعَزُّزًا بماله ورئاسته فِي مَكَّةَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِمَكَّةَ أَكْرَمُ مِنِّي. وَلَعَلَّهُ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ ذَلِكَ ردا لقوله: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 3] ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ نَزَلَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ نَزَلَتِ الْبَقِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِّ ذَلِكَ إِلَى أَوَّلِ السُّورَةِ، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] آخِرُ مَا نَزَلَ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ هُوَ مَضْمُومٌ إِلَى مَا نَزَلَ قَبْلَهُ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ بِحَسَبِ الرِّوَايَاتِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، إِذْ أَغْنَاهُ، وَزَادَ فِي النِّعْمَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَطْغَى وَيَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ هَوَى النَّفْسِ، وَذَلِكَ وَعِيدٌ وَزَجْرٌ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الزَّجْرَ بقوله: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
[العلق: 8] أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، فَتَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْعَمَلِ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: كَلَّا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ بِطُغْيَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْعَلَقَةِ وَعَلَّمَهُ بَعْدَ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ غَنِيًّا يَطْغَى وَيَتَكَبَّرُ، وَيَصِيرُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا فَلَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَتَأَمَّلُ فِيهَا وَثَالِثُهَا: ذكر الجرجاني صاحب «النظم» أن كلا هاهنا بِمَعْنَى حَقًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ شيء(32/219)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
تَكُونُ كَلَّا رَدًّا لَهُ، وَهَذَا كَمَا قَالُوهُ فِي: كَلَّا وَالْقَمَرِ [الْمُدَّثِّرِ: 32] فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ بِمَعْنَى: إِي وَالْقَمَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطُّغْيَانُ هُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّمَرُّدُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي مُقَدِّمَةِ السُّورَةِ دَلَائِلَ ظَاهِرَةً عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ بِحَيْثُ يَبْعُدُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَيْهَا وَلَا يَقِفَ عَلَى حَقَائِقِهَا أَتْبَعَهَا بِمَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا وَهُوَ حُبُّ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِعَمَى الْقَلْبِ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] وهاهنا ذَكَرَ فِي أَبِي جَهْلٍ: لَيَطْغى فَأَكَّدَهُ بِهَذِهِ اللَّامِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ مُوسَى، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةَ، وقبل أن يدعي الربوبية وأما هاهنا فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ أَقْبَحَ الرَّدِّ وَثَانِيهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ كَمَالِ سُلْطَتِهِ مَا كَانَ يَزِيدُ كُفْرُهُ عَلَى الْقَوْلِ، وَمَا كَانَ لِيَتَعَرَّضَ لِقَتْلِ موسى عليها السَّلَامُ وَلَا لِإِيذَائِهِ وَأَمَّا أَبُو جَهْلٍ فَهُوَ مَعَ قِلَّةِ جَاهِهِ كَانَ/ يَقْصِدُ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيذَاءَهُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَحْسَنَ إِلَى مُوسَى أَوَّلًا، وَقَالَ آخِرًا: آمَنْتُ [يُونُسَ: 90] . وَأَمَّا أَبُو جَهْلٍ فَكَانَ يَحْسُدُ النَّبِيَّ فِي صِبَاهُ، وَقَالَ فِي آخِرِ رَمَقِهِ: بَلِّغُوا عَنِّي مُحَمَّدًا أَنِّي أَمُوتُ وَلَا أَحَدَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْهُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ لَكِنَّ الْحَبِيبَ فِي مُقَابَلَةِ الْكَلِيمِ كَالْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، وَالْعَاقِلُ يَصُونُ عَيْنَهُ فَوْقَ مَا يَصُونُ يَدَهُ، بَلْ يَصُونُ عَيْنَهُ بِالْيَدِ، فلهذا السبب كانت المبالغة هاهنا أكثر. أما قوله تعالى:
[سورة العلق (96) : آية 7]
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنْ رَآهُ فَحَذَفَ اللَّامَ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّكُمْ لَتَطْغُونَ إِنْ رَأَيْتُمْ غِنَاكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّمَا قَالَ: أَنْ رَآهُ وَلَمْ يَقُلْ: رَأَى نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ نَفْسَهُ لِأَنَّ رَأَى مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَسْتَدْعِي اسْمًا وَخَبَرًا نَحْوَ الظَّنِّ وَالْحِسْبَانِ، وَالْعَرَبُ تَطْرَحُ النفس من هذا الجنس فنقول: رَأَيْتُنِي وَظَنَنْتُنِي وَحَسِبْتُنِي فَقَوْلُهُ: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى مِنْ هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْنى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتَغْنَى بِمَالِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنَالُ الثَّرْوَةَ فَلَا يَزِيدُ إِلَّا تَوَاضُعًا كَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ الْمَسَاكِينَ وَيَقُولُ: «مِسْكِينٌ جَالَسَ مِسْكِينًا» وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مَا طَغَى مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ عِنْدَ الْغِنَى يَكُونُ أَكْثَرَ حَاجَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ حَالَ فَقْرِهِ، لِأَنَّهُ فِي حَالِ فَقْرِهِ لَا يَتَمَنَّى إِلَّا سَلَامَةَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا حَالَ الْغِنَى فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى سَلَامَةَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَمَمَالِيكِهِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: «1» وَهُوَ أَنَّ سِينَ اسْتَغْنى سِينُ الطَّالِبِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ رَأَى أَنَّ نَفْسَهُ إِنَّمَا نَالَتِ الْغِنَى لِأَنَّهَا طَلَبَتْهُ وَبَذَلَتِ الْجُهْدَ فِي الطَّلَبِ فَنَالَتِ الثَّرْوَةَ وَالْغِنَى بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجُهْدِ، لَا أَنَّهُ نَالَهَا بِإِعْطَاءِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَحُمْقٌ فَكَمْ مِنْ بَاذِلٍ وُسْعَهُ فِي الْحِرْصِ وَالطَّلَبِ وَهُوَ يَمُوتُ جُوعًا، ثُمَّ تَرَى أَكْثَرَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَصِيرُونَ مُدْبِرِينَ خَائِفِينَ، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ الْغِنَى مَا كان بفعلهم وقوتهم.
__________
(1) لم يذكر الوجه الثاني كما ترى ولعله سقط من الناسخ. [.....](32/220)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَوَّلُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ الْعِلْمِ وَآخِرُهَا عَلَى مَذَمَّةِ الْمَالِ، وَكَفَى بِذَلِكَ مُرَغِّبًا فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَمُنَفِّرًا عَنِ الدُّنْيَا والمال. ثم قال تعالى:
[سورة العلق (96) : آية 8]
إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْإِنْسَانِ تَهْدِيدًا لَهُ وَتَحْذِيرًا مِنْ عَاقِبَةِ الطُّغْيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجْعى
الْمَرْجِعُ وَالرُّجُوعُ وَهِيَ بِأَجْمَعِهَا مَصَادِرُ، يُقَالُ: رَجَعَ إِلَيْهِ رُجُوعًا/ وَمَرْجِعًا وَرُجْعَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرَى ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَعِقَابَ تَمَرُّدِهِ وَتَكَبُّرِهِ وَطُغْيَانِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إِبْرَاهِيمَ: 42] وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي قَلْبِ مَنْ لَهُ قَدَمُ صِدْقٍ، أَمَّا الْجَاهِلُ فَيَغْضَبُ وَلَا يَعْتَقِدُ إِلَّا الْفَرَحَ الْعَاجِلَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّهُ وَيُرْجِعُهُ إِلَى النُّقْصَانِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ، كَمَا رَدَّهُ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى الْكَمَالِ، حَيْثُ نَقَلَهُ مِنَ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى، وَمِنَ الذُّلِّ إِلَى الْعِزِّ، فَمَا هَذَا التَّعَزُّزُ وَالْقُوَّةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اسْتَغْنَى طَغَى، فَاجْعَلْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَعَلَّنَا نَأْخُذُ مِنْهَا فَنَطْغَى، فَنَدَعُ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَعَلْنَا بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، فَكَفَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّعَاءِ إبقاء عليهم.
[سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 10]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ عَنْ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، ثُمَّ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالُوا له: مالك يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لخندقا من نار وهو لا شَدِيدًا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ يَنْهَى سَلْمَانَ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظاهر الْآيَةِ هُوَ الْإِنْسَانُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُ وَرَدَ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ التَّوَعُّدِ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ رَآهُ يُصَلِّي، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا فِي أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ يَعُمُّ فِي الْكُلِّ، لَكِنْ مَا بَعْدَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، وَوَجْهُ التَّعَجُّبِ فِيهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ،
فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ: كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّهُ يَعِزُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، أَمِثْلُهُ يَعِزُّ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا اللَّقَبُ وَهُوَ يَنْهَى الْعَبْدَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، أَيُوصَفُ بِالْحِكْمَةِ مَنْ يَمْنَعُ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَيَسْجُدُ لِلْأَوْثَانِ! وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْأَحْمَقَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ طَاعَتُهُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ(32/221)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
بِخَالِقٍ وَلَا رَبٍّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْهَى عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ وَالْخَالِقِ، أَلَا يَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْحَمَاقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَنْهى عَبْداً وَلَمْ يَقُلْ: يَنْهَاكَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي عَبْدًا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي الْعُبُودِيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَا يَفِي الْعَالِمُ بِشَرْحِ بَيَانِهِ وَصِفَةِ إِخْلَاصِهِ فِي/ عُبُودِيَّتِهِ يُرْوَى: فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ يَهُودِيًّا مِنْ فُصَحَاءِ الْيَهُودِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَخْلَاقِ رَسُولِكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: اطْلُبْهُ مِنْ بِلَالٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. ثُمَّ إِنَّ بِلَالًا دَلَّهُ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ فَاطِمَةُ دَلَّتْهُ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَأَلَ عَلِيًّا عَنْهُ قَالَ: صِفْ لِي مَتَاعَ الدُّنْيَا حَتَّى أَصِفَ لَكَ أَخْلَاقَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: هَذَا لَا يَتَيَسَّرُ لِي، فَقَالَ عَلِيٌّ:
عَجَزْتَ عَنْ وَصْفِ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ عَلَى قِلَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] فَكَيْفَ أَصِفُ أَخْلَاقَ النَّبِيِّ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَظِيمٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَنْهَى أَشَدَّ الْخَلْقِ عُبُودِيَّةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَنْهَى كُلَّ مَنْ يَرَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا تَخْوِيفٌ لِكُلِّ مَنْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ،
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُصَلَّى أَقْوَامًا يُصَلُّونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ:
أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ،
وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْهُ هَذَا الْأَدَبَ الْجَمِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: أَيَقُولُ الْمُصَلِّي حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْجُدُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالنَّهْيِ وَرَابِعُهَا: أَيَظُنُّ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْجُدْ مُحَمَّدٌ لِي لَا أَجِدُ سَاجِدًا غَيْرَهُ، إِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا أَنَا وَهُمْ دَائِمًا فِي الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِنَّهُ مَعَ التَّنْكِيرِ مُعَرَّفٌ، نَظِيرُهُ الْكِنَايَةُ فِي سُورَةِ الْقَدْرِ حُمِلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 1] أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ [الْكَهْفِ: 1] وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] . ثم قال تعالى:
[سورة العلق (96) : الآيات 11 الى 12]
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [العلق: 13] لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَوْ جَعَلْنَا الْوَسَطَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَنِ النَّظْمِ الْحَسَنِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ صَارَ عَلَى الْهُدَى، وَاشْتَغَلَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، أَمَا كَانَ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ إِذْ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ذُو ثَرْوَةٍ، فَلَوِ اخْتَارَ الدِّينَ وَالْهُدَى وَالْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، أَمَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: تَلَهَّفْ عَلَيْهِ كَيْفَ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ وَقَنِعَ بِالْمَرَاتِبِ الدَّنِيئَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَالْمُشَاهِدِ لِلظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَكَالْمَوْلَى الَّذِي قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدَانِ، وَكَالْحَاكِمِ الَّذِي حَضَرَ عِنْدَهُ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَخَاطَبَ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا/ مَرَّةً. فَلَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ:(32/222)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [الْعَلَقِ: 9] الْتَفَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْكَافِرِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ يَا كَافِرُ إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ هُدًى وَدُعَاؤُهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا بِالتَّقْوَى أَتَنْهَاهُ مَعَ ذَلِكَ.
المسألة الثانية: هاهنا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى والمذكور هاهنا أَمْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ، فَلِمَ ضَمَّ إِلَيْهِ شَيْئًا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ جَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي شَقَّ عَلَى أَبِي جَهْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ الصَّلَاةُ وَالدُّعَاءُ إلى الله، فلا جرم ذكرهما هاهنا وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي إِصْلَاحِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الْهُدَى وَآمِرًا بِالتَّقْوَى، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ يَرِقُّ قَلْبُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَانَ فِعْلُ الصَّلَاةِ دَعْوَةً بِلِسَانِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الدَّعْوَةِ بِلِسَانِ الْقَوْلِ. ثم قال تعالى:
[سورة العلق (96) : آية 13]
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ جَلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ، أَنَّ مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ فِعْلٌ بَاطِلٌ وَسَفَهٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَنْ كُلُّ مَنْ كَذَّبَ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ بَلْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا عِنَادًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: أَرَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَذَّبَ هَذَا الْكَافِرُ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَتَوَلَّى عَنْ خِدْمَةِ خَالِقِهِ، أَلَمْ يَعْلَمْ بِعَقْلِهِ أَنَّ اللَّهَ يَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْقَبِيحَةَ وَيَعْلَمُهَا، أَفَلَا يَزْجُرُهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكَافِرِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ يَا كَافِرُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا أَوْ مُتَوَلِّيًا، أَلَا يَعْلَمُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى حَتَّى يَنْتَهِيَ بَلِ احتاج إلى نهيك. أما قوله:
[سورة العلق (96) : آية 14]
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّهْدِيدُ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ حَكِيمٌ لَا يُهْمِلُ، عَالِمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَلَا بُدَّ وَأَنَّ يُوصِلَ جَزَاءَ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ بِتَمَامِهِ فَيَكُونُ هَذَا تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِلْعُصَاةِ، وَتَرْغِيبًا عَظِيمًا لِأَهْلِ الطَّاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي جَهْلٍ فَكُلُّ مَنْ نَهَى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ شَرِيكُ أَبِي جَهْلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَلَا يَرُدُّ الْمَوْلَى بِمَنْعِ عَبْدِهِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ/ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ وَزَوْجَتِهِ عَنِ الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِاسْتِيفَاءِ مَصْلَحَتِهِ بإذن ربه لا بغضا لعبادة ربه.
[سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 16]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16)(32/223)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَلَّا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ وَمَنْعٌ لَهُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِهِ بِعِبَادَةِ اللَّاتِ وَثَانِيهَا: كَلَّا لَنْ يَصِلَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى مَا يَقُولُ إِنَّهُ يَقْتُلُ مُحَمَّدًا أَوْ يَطَأُ عُنُقَهُ، بَلْ تِلْمِيذُ مُحَمَّدٍ هُوَ الَّذِي يَقْتُلُهُ وَيَطَأُ صَدْرَهُ وَثَالِثُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ لَكِنْ إِذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِمَا يَعْلَمُ فَكَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أَيْ عَمَّا هُوَ فِيهِ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: في قوله: لَنَسْفَعاً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ وَلَنَسْحَبَنَّهُ بِهَا إِلَى النَّارِ، وَالسَّفْعُ الْقَبْضُ عَلَى الشَّيْءِ، وَجَذْبُهُ بِشِدَّةٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرَّحْمَنِ: 41] وَثَانِيهَا: السَّفْعُ الضَّرْبُ، أَيْ لَنَلْطِمَنَّ وَجْهَهُ وَثَالِثُهَا: لَنُسَوِّدَنَّ وَجْهَهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: تَقُولُ لِلشَّيْءِ إِذَا لَفَحَتْهُ النَّارُ لَفْحًا يَسِيرًا يُغَيِّرُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ قَدْ سَفَعَتْهُ النَّارُ، قَالَ: وَالسَّفْعُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْقِدْرُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَوَادِهَا، قَالَ: وَالسَّفْعَةُ سَوَادٌ فِي الْخَدَّيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَتَسْوِيدُ الْوَجْهِ عَلَامَةُ الْإِذْلَالِ وَالْإِهَانَةِ وَرَابِعُهَا: لَنَسِمَنَّهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [الْقَلَمِ: 16] إِنَّهُ أبو جهل خامسها: لنذلنه.
المسألة الثانية: قرى لَنَسْفَعَنَّ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيِ الْفَاعِلُ لِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ:
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التَّحْرِيمِ: 4] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَأَسْعَفَنَّ، أَيْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ أَنَا الَّذِي أَتَوَلَّى إِهَانَتَهُ، نَظِيرُهُ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ [الْأَنْفَالِ: 62] ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ [الْفَتْحِ: 4] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا السَّفْعُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَمَّا قَالَ: إِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عُنُقَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، وَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَيَخِرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا فِي آخِرِهَا فَفَعَلَ، فَعَدَا إِلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ لِيَطَأَ عُنُقَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ رَاجِعًا، فقيل له مالك؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَحْلًا فَاغِرًا فَاهُ لَوْ مَشَيْتُ إِلَيْهِ لَالْتَقَمَنِي، وَقِيلَ: كَانَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى كَتِفَيْهِ فِي صُورَةِ الْأَسَدِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ بَدْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِشَارَةً بِأَنَّهُ تَعَالَى يُمَكِّنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَاصِيَتِهِ حَتَّى يَجُرُّونَهُ إِلَى الْقَتْلِ إِذَا عَادَ إِلَى النَّهْيِ، فَلَمَّا عَادَ لَا جَرَمَ مَكَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَاصِيَتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ،
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الرَّحْمَنِ عَلَّمَ القرآن قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ مَنْ يَقْرَؤُهَا مِنْكُمْ عَلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، فَتَثَاقَلُوا مَخَافَةَ أَذِيَّتِهِمْ، فَقَامَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَذِنَ لَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبْقِي عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِهِ وَصِغَرِ/ جُثَّتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ فَرَآهُمْ مُجْتَمِعِينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَافْتَتَحَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَلَطَمَهُ فَشَقَّ أُذُنَهُ وَأَدْمَاهُ، فَانْصَرَفَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَقَّ قَلْبُهُ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَغْمُومًا، فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجِيءُ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ تَضْحَكُ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي! فَقَالَ: سَتَعْلَمُ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ الْتَمَسَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَظٌّ فِي الْمُجَاهِدِينَ، فَأَخَذَ يُطَالِعُ الْقَتْلَى فَإِذَا أَبُو جَهْلٍ مَصْرُوعٌ يَخُورُ، فَخَافَ أَنَّ تَكُونَ بِهِ قُوَّةٌ فَيُؤْذِيَهُ فَوَضَعَ الرُّمْحَ عَلَى مِنْخَرِهِ مِنْ بعيد(32/224)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
فَطَعَنَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ثُمَّ لَمَّا عَرَفَ عَجْزَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْعَدَ عَلَى صَدْرِهِ لِضَعْفِهِ فَارْتَقَى إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: بَلِّغْ صَاحِبَكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ فِي حَيَاتِي ولا أحد أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ فِي حَالِ مَمَاتِي، فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ: «فِرْعَوْنِي أَشَدُّ مِنْ فِرْعَوْنِ مُوسَى فَإِنَّهُ قَالَ آمَنْتُ [يونس: 90] وَهُوَ قَدْ زَادَ عُتُوًّا» ثُمَّ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: اقْطَعْ رَأْسِي بِسَيْفِي هَذَا لِأَنَّهُ أَحَدُّ وَأَقْطَعُ، فَلَمَّا قَطَعَ رَأْسَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَمْلِهِ،
وَلَعَلَّ الْحَكِيمَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَهُ ضَعِيفًا لِأَجْلِ أَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْحَمْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَلْبٌ وَالْكَلْبُ يُجَرُّ وَالثَّانِي: لِشَقِّ الْأُذُنِ فَيَقْتَصُّ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالثَّالِثُ: لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ المذكور بقوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ فَتُجَرُّ تِلْكَ الرَّأْسُ عَلَى مُقَدَّمِهَا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا لَمْ يُطِقْهُ شَقَّ أُذُنَهُ وَجَعَلَ الْخَيْطَ فِيهِ وَجَعَلَ يَجُرُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أُذُنٌ بأذن لكن الرأس هاهنا مَعَ الْأُذُنِ، فَهَذَا مَا رُوِيَ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ نَقَلْتُهُ مَعْنًى لَا لَفْظًا، الْخَاطِئُ معنى قوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النَّاصِيَةُ شَعْرُ الْجَبْهَةِ وَقَدْ يُسَمَّى مَكَانُ الشَّعْرِ النَّاصِيَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كنى هاهنا عَنِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ بِالنَّاصِيَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِتَرْجِيلِ تِلْكَ النَّاصِيَةِ وَتَطْيِيبِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ أَيْضًا بِتَسْوِيدِهَا فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَوِّدُهَا مَعَ الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ النَّاصِيَةَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: النَّاصِيَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَكُمْ ذَاتُهَا لَكِنَّهَا مَجْهُولَةٌ عِنْدَكُمْ صِفَاتُهَا نَاصِيَةٌ وَأَيُّ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٌ قَوْلًا خَاطِئَةٌ فِعْلًا، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِالْكَذِبِ لِأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ مُحَمَّدًا وَكَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ فِي أَنَّهُ سَاحِرٌ أَوْ كَذَّابٌ أَوْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَقِيلَ: كَذَّبَهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، وَوَصَفَ النَّاصِيَةَ بِأَنَّهَا خَاطِئَةٌ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُتَمَرِّدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الْحَاقَّةِ: 37] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَاطِئِ وَالْمُخْطِئِ أَنَّ الْخَاطِئَ مُعَاقَبٌ مُؤَاخَذٌ وَالْمُخْطِئَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، وَوَصَفَ النَّاصِيَةَ بِالْخَاطِئَةِ الْكَاذِبَةِ كَمَا وَصَفَ الْوُجُوهَ بِأَنَّهَا نَاظِرَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: 23] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ناصِيَةٍ بَدَلٌ مِنَ النَّاصِيَةِ، وَجَازَ إِبْدَالُهَا مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ نَكِرَةٌ، لِأَنَّهَا وُصِفَتْ فاستقلت بفائدة.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ نَاصِيَةٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّقْدِيرُ هِيَ نَاصِيَةٌ، وَنَاصِيَةً بِالنَّصْبِ وَكِلَاهُمَا عَلَى الشَّتْمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَغْلَظَ فِي الْقَوْلِ لِأَبِي جَهْلٍ وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ بِمَنْ تُهَدِّدُنِي وَإِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا، فَافْتَخَرَ بِجَمَاعَتِهِ الَّذِينَ كَانُوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى:
[سورة العلق (96) : الآيات 17 الى 18]
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ النَّادِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [الْعَنْكَبُوتِ: 29] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَادِيَهُ أَيْ أَهْلَ مَجْلِسِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنَ النَّادِي أَهْلُ النَّادِي، وَلَا يُسَمَّى الْمَكَانُ نَادِيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ(32/225)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
أَهْلُهُ، وَسُمِّيَ نَادِيًا لِأَنَّ الْقَوْمَ يَنِدُّونَ إِلَيْهِ نَدًّا وَنَدْوَةً، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلتَّشَاوُرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ نَادِيًا لِأَنَّهُ مَجْلِسُ النَّدَى وَالْجُودِ، ذُكِرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيْ: اجْمَعْ أَهْلَ الْكَرَمِ وَالدِّفَاعِ فِي زَعْمِكَ لِيَنْصُرُوكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والمبرد: واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إِذَا دَفَعْتُهُ وَهُوَ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرِ عِفْرِيَةٌ يُقَالُ: فُلَانٌ زِبْنِيَةٌ عِفْرِيَةٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: قَالَ بَعْضُهُمْ وَاحِدُهُ الزَّبَانِيُّ، وَقَالَ آخَرُونَ: الزَّابِنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ من لفظه في لغة الغرب مِثْلُ أَبَابِيلَ وَعَبَادِيدَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ أَرْجُلُهُمْ فِي الْأَرْضِ ورؤسهم فِي السَّمَاءِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّبَانِيَةُ هُمُ الشُّرَطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْغِلَاظُ الشِّدَادُ، وَمَلَائِكَةُ النَّارِ سُمُّوا الزَّبَانِيَةَ لِأَنَّهُمْ يَزْبِنُونَ الْكُفَّارَ أَيْ يَدْفَعُونَهُمْ فِي جَهَنَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيْ فَلْيَفْعَلْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَدْعُو أَنْصَارَهُ وَيَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي مُبَاطَلَةِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَدْعُو الزَّبَانِيَةَ الَّذِينَ لَا طَاقَةَ لِنَادِيهِ وَقَوْمِهِ بِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ مِنْ سَاعَتِهِ مُعَايَنَةً، وَقِيلَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُجَرُّ فِي الدُّنْيَا كَالْكَلْبِ وَقَدْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: بَلْ هَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ الزَّبَانِيَةَ يَجُرُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَيْ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ وَسَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ فِي الْآخِرَةِ، فَلْيَدْعُ هُوَ نَادِيَهُ حِينَئِذٍ فَلْيَمْنَعُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ تَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ، لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ تَحْرِيضًا لِلْكَافِرِ عَلَى دَعْوَةِ نَادِيهِ وَقَوْمِهِ، وَمَتَى فَعَلَ الْكَافِرُ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الزَّبَانِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجْتَرِئِ الْكَافِرُ عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى ظُهُورِ مُعْجِزَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ: سَتُدْعَى على المجهول، وهذه السين ليست للشك «1» فإن عَسَى/ مِنَ اللَّهِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ بِشَارَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَنْتَقِمَ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ السِّينِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين» .
[سورة العلق (96) : آية 19]
كَلاَّ لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ لِأَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنْ يَصِلَ إِلَى مَا يَتَصَلَّفُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ يَدْعُو نَادِيَهُ وَلَئِنْ دَعَاهُمْ لَنْ يَنْفَعُوهُ وَلَنْ يَنْصُرُوهُ، وَهُوَ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُقَاوِمَكَ، وَيُحْتَمَلُ: لَنْ يَنَالَ مَا يَتَمَنَّى مِنْ طَاعَتِكَ لَهُ حِينَ نَهَاكَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَلَا لَا تُطِعْهُ.
ثُمَّ قَالَ: لَا تُطِعْهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَمِ: 8] ، وَاسْجُدْ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَرَادَ بِهِ صَلِّ وَتَوَفَّرْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلًا وَإِبْلَاغًا، وَلْيَقِلَّ فِكْرُكَ فِي هَذَا الْعَدُوِّ فَإِنَّ اللَّهَ مُقَوِّيكَ وَنَاصِرُكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاقْتَرِبْ وَالْمُرَادُ وَابْتَغِ بِسُجُودِكَ قُرْبَ الْمَنْزِلَةِ مِنْ رَبِّكَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أقرب ما يكون العبد
__________
(1) السين من معانيها التأكيد للوعد والوعيد، نحو قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ونحو سأنتقم منك، ولم أقل على أنها للشك ولعل الإمام أراد التأكيد بنفي مقابله وهو الشك. لأن أبا جهل كان شاكا في الآخرة.(32/226)
مِنْ رَبِّهِ إِذَا سَجَدَ»
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ: اسْجُدْ يَا مُحَمَّدُ، وَاقْتَرِبْ يَا أَبَا جَهْلٍ مِنْهُ حَتَّى تُبْصِرَ مَا يَنَالُكَ مِنْ أَخْذِ الزَّبَانِيَةِ إِيَّاكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِيَزْدَادَ غَيْظُ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الْفَتْحِ: 29] والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كَانَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِيَامِ، فَيَكُونُ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ السُّجُودِ أَتَمَّ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاقْتَرِبْ مِنْهُ يَا أَبَا جَهْلٍ وَضَعْ قَدَمَكَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ سَاجِدٌ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا تَهَكُّمٌ بِهِ وَاسْتِحْقَارٌ لِشَأْنِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(32/227)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القدر
(خمس آيات مكية)
[سورة القدر (97) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْقُرْآنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَسْنَدَ إِنْزَالَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ بِضَمِيرِهِ دُونَ اسْمِهِ الظَّاهِرِ شَهَادَةً لَهُ بِالنَّبَاهَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ أَبِي جَهْلٍ وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ لِاشْتِهَارِهِ، وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] لم يذكر الموت لشهرته، فكذا هاهنا وَالثَّالِثُ: تَعْظِيمُ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: إِنِّي كَقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِنَّا كَقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: 9] ، إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: 1] ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرِ: 1] . وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا تَارَةً يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْجَمْعِ مُحَالٌ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَلَّتْ عَلَى وَحْدَةِ الصَّانِعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْآلِهَةِ كَثْرَةٌ لَانْحَطَّتْ رُتْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ لَاسْتَغْنَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ نَقْصٌ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ الْكُلُّ نَاقِصًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَمَالِ كَانَ نَاقِصًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لَا عَلَى الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ نُجُومًا؟ قُلْنَا فيه وجوه:
أحدهما: قال الشعبي: ابتدأ إنزاله لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّ الْبَعْثَ كَانَ فِي رَمَضَانَ وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ إِلَى الْأَرْضِ نُجُومًا، كَمَا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَةِ: 75] وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] لَا يُقَالُ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِمَ لَمْ يَقُلْ: أَنْزَلْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ؟ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوهِمُ الْإِنْزَالَ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ إِنْزَالَهُ إِلَى السَّمَاءِ كَإِنْزَالِهِ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْرَعَ فِي أَمْرٍ ثُمَّ لَا يُتِمُّهُ، وَهُوَ كَغَائِبٍ جَاءَ إِلَى نَوَاحِي الْبَلَدِ/ يُقَالُ: جَاءَ فُلَانٌ، أَوْ يُقَالُ الْغَرَضُ مِنْ تَقْرِيبِهِ وَإِنْزَالِهِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا أَنْ يُشَوِّقَهُمْ إِلَى نُزُولِهِ كَمَنْ يَسْمَعُ الْخَبَرَ بِمَجِيءِ مَنْشُورٍ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ شَوْقُهُ إِلَى مُطَالَعَتِهِ كما قال:(32/228)
وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ... إِذَا دَنَتِ الدِّيَارُ مِنَ الدِّيَارِ
وَهَذَا لِأَنَّ السَّمَاءَ كَالْمُشْتَرِكِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهِيَ لَهُمْ مَسْكَنٌ وَلَنَا سَقْفٌ وَزِينَةٌ، كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً [الأنبياء: 32] فإنزاله القرآن هناك كإنزاله هاهنا وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْزَلْنَا هَذَا الذِّكْرَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ فِي فَضِيلَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَبَيَانِ شَرَفِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَدْرُ مَصْدَرُ قَدَرْتُ أَقْدِرُ قَدْرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُمْضِيهِ اللَّهُ مِنَ الْأُمُورِ، قَالَ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] وَالْقَدَرُ، وَالْقَدْرُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّهُ بِالتَّسْكِينِ مَصْدَرٌ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَدْرُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، عَلَى وجوه أحدهما: أَنَّهَا لَيْلَةُ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ، قَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَكُونُ فِي كُلِّ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَطَرٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدُّخَانِ: 4] وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ لَا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السموات وَالْأَرْضَ فِي الْأَزَلِ، بَلِ الْمُرَادُ إِظْهَارُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمَقَادِيرَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِأَنْ يَكْتُبَهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الثَّانِي: نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ وَالشَّرَفِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِفُلَانٍ قَدْرٌ عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ مَنْزِلَةٌ وَشَرَفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3] ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ ذَلِكَ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ مَنْ أَتَى فِيهَا بِالطَّاعَاتِ صَارَ ذَا قَدْرٍ وَشَرَفٍ وَثَانِيهِمَا: إِلَى الْفِعْلِ أَيِ الطَّاعَاتُ لَهَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَدْرٌ زَائِدٌ وَشَرَفٌ زَائِدٌ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو قَدْرٍ، عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ ذِي قَدْرٍ، عَلَى أُمَّةٍ لَهَا قَدْرٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَةَ الْقَدْرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَيِ الضِّيقِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْفَاهَا، كَمَا أَخْفَى سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ أَخْفَى رِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ، حَتَّى يَرْغَبُوا فِي الْكُلِّ، وَأَخْفَى غَضَبَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْكُلِّ، وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يُعَظِّمُوا الْكُلَّ، وَأَخْفَى الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ لِيُبَالِغُوا فِي كُلِّ الدَّعَوَاتِ، وَأَخْفَى الِاسْمَ الْأَعْظَمَ لِيُعَظِّمُوا كُلَّ الْأَسْمَاءِ، وأخفى في الصَّلَاةَ الْوُسْطَى لِيُحَافِظُوا عَلَى الْكُلِّ، وَأَخْفَى قَبُولَ التَّوْبَةِ لِيُوَاظِبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ التَّوْبَةِ، وَأَخْفَى وَقْتَ الْمَوْتِ لِيَخَافَ الْمُكَلَّفُ، فَكَذَا أَخْفَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِيُعَظِّمُوا جَمِيعَ لَيَالِي رَمَضَانَ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَوْ عَيَّنْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَنَا عَالِمٌ بِتَجَاسُرِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَرُبَّمَا دَعَتْكَ الشَّهْوَةُ فِي/ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَوَقَعْتَ فِي الذَّنْبِ، فَكَانَتْ مَعْصِيَتُكَ مَعَ عِلْمِكَ أَشَدَّ مِنْ مَعْصِيَتِكَ لَا مَعَ عِلْمِكَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَخْفَيْتُهَا عَلَيْكَ،
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى نَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ نَبِّهْهُ لِيَتَوَضَّأَ، فَأَيْقَظَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَبَّاقٌ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَلِمَ لَمْ تُنَبِّهْهُ؟ قَالَ: لِأَنَّ رَدَّهُ عَلَيْكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ لِتَخِفَّ جِنَايَتُهُ لَوْ أَبَى،
فَإِذَا كَانَ هَذَا رَحْمَةَ الرَّسُولِ، فَقِسْ عَلَيْهِ رَحْمَةَ الرَّبِّ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَإِنْ أَطَعْتَ فِيهَا اكْتَسَبْتَ ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عِقَابَ أَلْفِ شَهْرٍ، وَدَفْعُ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الثَّوَابِ وَثَالِثُهَا: أَنِّي أَخْفَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِهَا، فَيَكْتَسِبَ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَةِ فِي جميع ليالي(32/229)
رَمَضَانَ، عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَيُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، وَيَقُولُ: كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِيهِمْ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ فَهَذَا جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَظْنُونَةِ، فَكَيْفَ لَوْ جَعَلْتُهَا مَعْلُومَةً لَهُ! فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سِرُّ قَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هَلْ تَسْتَتْبِعُ الْيَوْمَ؟ قَالَ الشَّعْبِيُّ: نَعَمْ يَوْمُهَا كَلَيْلَتِهَا، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي يَسْتَتْبِعُ الْأَيَّامَ، وَمِنْهُ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ أَلْزَمْنَاهُ بِيَوْمَيْهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: 62] أَيِ الْيَوْمُ يَخْلُفُ لَيْلَتَهُ وَبِالضِّدِّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: هَذِهِ اللَّيْلَةُ هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ؟ قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَالَ إِنَّ فَضْلَهَا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهَا يَقُولُ انْقَطَعَتْ وَكَانَتْ مَرَّةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ، وَعَلَى هَذَا هَلْ هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ أَمْ لَا؟ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا، وَفَسَّرَهَا عِكْرِمَةُ بِلَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدُّخَانِ: 3] وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَوَجَبَ أَنَّ تَكُونَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ ابْنُ رَزِينٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقٍ: الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ:
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الْأُولَى [فَقَدْ] قَالُوا: رَوَى وَهْبٌ أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ أُنْزِلَتْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ رَمَضَانَ وَالتَّوْرَاةَ لِسِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ على عيسى لثمان عشرة ليلة خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّبُورِ بِسِتِّمِائَةِ عَامٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ/ السَّابِعَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي عِشْرِينَ شَهْرًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشَّهْرُ هُوَ الشَّهْرَ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخَيْرَاتُ الْعَظِيمَةُ، لَا جَرَمَ كَانَ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْقَدْرِ وَالرُّتْبَةِ فَكَانَتِ اللَّيْلَةُ الْأُولَى مِنْهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَمَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ، لِأَنَّهَا لَيْلَةٌ كَانَتْ صَبِيحَتُهَا وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَأَمَّا التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ فِيهَا خَبَرًا، وَأَمَّا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فَقَدْ مَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ أَنَّهَا لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَذَكَرُوا فِيهِ أَمَارَاتٍ ضَعِيفَةً أَحَدُهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السُّورَةَ ثَلَاثُونَ كَلِمَةً، وَقَوْلُهُ: هِيَ هِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْهَا وَثَانِيهَا: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ ثُمَّ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: غُصْ يَا غَوَّاصُ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْضَرْتَ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَمَا أَحْضَرْتَ أَوْلَادَنَا فَقَالَ عُمَرُ: لَعَلَّكَ تَقُولُ: إِنَّ هَذَا غُلَامٌ، وَلَكِنَّ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبُّ الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة، فذكر السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَالْأُسْبُوعَ وَدَرَكَاتِ النَّارِ وَعَدَدَ الطَّوَافِ وَالْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَثَالِثُهَا: نُقِلَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةِ الْقَدْرِ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَهُوَ مَذْكُورٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَتَكُونُ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ غُلَامٌ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ إِنَّ الْبَحْرَ يَعْذُبُ مَاؤُهُ لَيْلَةً مِنَ الشَّهْرِ،(32/230)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
قَالَ: إِذَا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ، فَأَعْلِمْنِي فَإِذَا هِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ رَمَضَانَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الْأَخِيرَةُ قَالَ: لِأَنَّهَا هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَتِمُّ فِيهَا طَاعَاتُ هَذَا الشَّهْرِ، بَلْ أَوَّلُ رَمَضَانَ كَآدَمَ وَآخِرُهُ كَمُحَمَّدٍ، وَلِذَلِكَ
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «يُعْتَقُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِعَدَدِ مَا أُعْتِقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ» ،
بَلِ اللَّيْلَةُ الْأُولَى كَمَنْ وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ، فَهِيَ لَيْلَةُ شُكْرٍ، وَالْأَخِيرَةُ لَيْلَةُ الْفِرَاقِ، كَمَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ، فَهِيَ لَيْلَةُ صَبْرٍ، وَقَدْ عَلِمْتَ فرق ما بين الصبر والشكر. ثم قال تعالى:
[سورة القدر (97) : آية 2]
وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
يَعْنِي وَلَمْ تَبْلُغْ دِرَايَتُكَ غَايَةَ فَضْلِهَا وَمُنْتَهَى عُلُوِّ قَدْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فَضِيلَتَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: الأول:
قوله تعالى:
[سورة القدر (97) : آية 3]
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ، لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِيهَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا يَزِيدُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْأَرْزَاقِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُجَاهِدُ حَتَّى يُمْسِيَ فَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَتَعَجَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لِأُمَّتِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي حَمَلَ السِّلَاحَ أَلْفَ شَهْرٍ وَثَالِثُهَا:
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أُرِيَ/ رسول الله صلى الله عليه وو سلّم أَعْمَارَ النَّاسِ، فَاسْتَقْصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ، وَخَافَ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مِثْلَ مَا بَلَغَهُ سَائِرُ الْأُمَمِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِسَائِرِ الْأُمَمِ
وَرَابِعُهَا:
رَوَى الْقَاسِمُ بْنُ فَضْلٍ عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ عَمَدْتَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَبَايَعْتَ لَهُ يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأى في منامه بني أمية يطؤن مِنْبَرَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى قَوْلِهِ: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَعْنِي مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ الْقَاسِمُ فَحَسَبْنَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِذَا هُوَ أَلْفُ شَهْرٍ.
طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: مَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَذْكُرُ فَضْلَهَا بِذِكْرِ أَلْفِ شَهْرٍ مَذْمُومَةٍ، وَأَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ مَذْمُومَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَتْ أَيَّامًا عَظِيمَةً بِحَسَبِ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يقول الله تعالى إِنِّي: أَعْطَيْتُكَ لَيْلَةً هِيَ فِي السَّعَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، أَمَّا الْبِشَارَةُ فَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ خَيْرٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ الْخَيْرِيَّةِ، وَهَذَا
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمُبَارَزَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ [الْعَامِرِيِّ] «أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ أُمَّتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ،
فَلَمْ يَقُلْ مِثْلُ عَمَلِهِ بَلْ قَالَ: أَفْضَلُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: حَسْبُكَ هَذَا مِنَ الْوَزْنِ والباقي جزاف.(32/231)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى نَيِّفًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَنْ أَحْيَاهَا كُلَّ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ رُزِقَ أَعْمَارًا كَثِيرَةً، وَمَنْ أَحْيَا الشَّهْرَ لِيَنَالَهَا بِيَقِينٍ فَكَأَنَّهُ أَحْيَا ثَلَاثِينَ قَدْرًا، يُرْوَى أَنَّهُ يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَيُجَاءُ بِرَجُلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ، فَيَقُولُ الْإِسْرَائِيلِيُّ:
أَنْتَ الْعَدْلُ، وَأَرَى ثَوَابَهُ أَكْثَرَ، فَيَقُولُ: لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ الْعُقُوبَةَ الْمُعَجَّلَةَ فَتَعْبُدُونَ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ كَانُوا آمِنِينَ لِقَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَأَمَّا التَّهْدِيدُ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بِالدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَإِنَّ إِحْيَاءَ مِائَةِ لَيْلَةٍ مِنَ الْقَدْرِ لَا يُخَلِّصُهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِتَطْفِيفِ حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَلِهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ حَالِ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: «أَجْرُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ»
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّاعَةَ فِي أَلْفِ شَهْرٍ أَشَقُّ مِنَ الطَّاعَةِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ اسْتِوَاؤُهُمَا؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ قَدْ يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِكَذَا دَرَجَةٍ، مَعَ أَنَّ الصُّورَةَ قَدْ تُنْتَقَضُ فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ سَقَطَتْ عَنْهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا/ فَأَنْتَ تَقُولُ لِمَنْ يُرْجَمُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يُرْجَمُ لِأَنَّهُ زَانٍ فَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، وَلَوْ قُلْتَهُ لِلْمُحْصَنِ فَهُوَ يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، مَعَ أَنَّ الصُّورَةَ وَاحِدَةٌ فِي الْكُلِّ، بَلْ لَوْ قُلْتَهُ فِي حَقِّ عَائِشَةَ كَانَ كُفْرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النُّورِ: 15] وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي حَقِّ عَائِشَةَ الَّتِي كَانَتْ رُحْلَةً فِي الْعِلْمِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُذُوا ثُلُثَيْ دِينِكُمْ مِنْ هَذِهِ الْحُمَيْرَاءِ»
وَطَعْنٌ فِي صَفْوَانَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا بَدْرِيًّا، وَطَعْنٌ فِي كَافَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِلْوَلَدِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِقَذْفِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، بَلْ طَعْنٌ فِي النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ أَشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ غَيْرَةً، بَلْ طَعْنٌ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ زَانِيَةٍ، ثُمَّ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: هَذَا زَانٍ، فَقَدْ ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ سَهْلَةٌ مَعَ أَنَّهَا أَثْقَلُ مِنَ الْجِبَالِ، فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْأَفْعَالَ تَخْتَلِفُ آثَارُهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِاخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ الْقَلِيلَةُ فِي الصُّورَةِ مُسَاوِيَةً فِي الثَّوَابِ لِلطَّاعَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ مَقْصُودَ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجُرَّ الْخَلْقَ إِلَى الطَّاعَاتِ فَتَارَةً يَجْعَلُ ثَمَنَ الطَّاعَةِ ضِعْفَيْنِ، فَقَالَ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْحِ: 5، 6] وَمَرَّةً عَشْرًا، وَمَرَّةً سَبْعَمِائَةٍ، وَتَارَةً بِحَسَبِ الْأَزْمِنَةِ، وَتَارَةً بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْكُلِّ جَرُّ الْمُكَلَّفِ إِلَى الطَّاعَةِ وَصَرْفُهُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا، فَتَارَةً يُرَجِّحُ الْبَيْتَ وَزَمْزَمَ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ الْجُمُعَةَ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَتَارَةً يُفَضِّلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي، وَالْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْنَاهُ الْوَجْهُ الثاني: من فضائل هذه الليلة.
[سورة القدر (97) : آية 4]
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ نَظَرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْوَاحِ، وَنَظَرَ الْبَشَرِ عَلَى الْأَشْبَاحِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا رُوحَكَ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مَا قَبِلُوكَ فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَأَبَوَاكَ لَمَّا رَأَوْا قُبْحَ صُورَتِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كُنْتَ مَنِيًّا وَعَلَقَةً مَا قَبِلُوكَ أَيْضًا، بَلْ أَظْهَرُوا النُّفْرَةَ، وَاسْتَقْذَرُوا(32/232)
ذَلِكَ الْمَنِيَّ وَالْعَلَقَةَ، وَغَسَلُوا ثِيَابَهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ كَمِ احْتَالُوا لِلْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَاكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ فَالْأَبَوَانِ لَمَّا رَأَوْا تِلْكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ قَبِلُوكَ وَمَالُوا إِلَيْكَ، فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَوْا فِي رُوحِكَ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ أَحَبُّوكَ فَنَزَلُوا إِلَيْكَ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا قَالُوهُ أَوَّلًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ فَإِذَا نَزَلُوا إِلَيْكَ رَأَوْا رُوحَكَ فِي ظُلْمَةِ لَيْلِ الْبَدَنِ، وَظُلْمَةِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَعْتَذِرُونَ عَمَّا تَقَدَّمَ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذين آمنوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ نُزُولَ كُلِّ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ كُلَّهُمُ الْأَرْضُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تَنْزِلُ بِأَسْرِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ الْإِشْكَالُ بَعْدُ بَاقٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ مَمْلُوءَةٌ بِحَيْثُ لَا يوجد فِيهَا مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ، فَكَيْفَ تَسَعُ الْجَمِيعَ سَمَاءٌ وَاحِدَةٌ؟ قُلْنَا: يُقْضَى بِعُمُومِ الْكِتَابِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، كَيْفَ وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ فَوْجًا فَوْجًا فَمِنْ نَازِلٍ وَصَاعِدٍ كَأَهْلِ الْحَجِّ فَإِنَّهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ يَدْخُلُونَ الْكَعْبَةَ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنَّ النَّاسَ بَيْنَ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ، وَلِهَذَا السَّبَبِ مُدَّتْ إِلَى غَايَةِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ: تَنَزَّلُ الَّذِي يُفِيدُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ التَّرْغِيبُ فِي إِحْيَاءِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلِأَنَّهُ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إِلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالدِّينِ، فَلِأَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ النُّزُولَ الْمُطْلَقَ لَا يُفِيدُ إِلَّا النُّزُولَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ: يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْزِلُونَ لِيَرَوْا عِبَادَةَ الْبَشَرِ وَجِدَّهُمْ وَاجْتِهَادَهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ النزولى فلا يدل على غاية المحبة.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوا أَوَّلًا فَأُذِنُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْغَبُونَ إِلَيْنَا وَيَتَمَنَّوْنَ لِقَاءَنَا لَكِنْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْإِذْنَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصَّافَّاتِ: 165] يُنَافِي قَوْلَهُ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ قُلْنَا نَصْرِفُ الْحَالَتَيْنِ إِلَى زَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةُ: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] فَهَهُنَا فِي الدُّنْيَا إِنِ اشْتَغَلْتَ بِعِبَادَتِي نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْكَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْكَ لِلتَّسَلُّمِ وَالزِّيَارَةِ،
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ لِيُسَلِّمُوا عَلَيْنَا وَلِيَشْفَعُوا لَنَا فَمَنْ أَصَابَتْهُ التَّسْلِيمَةُ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ»
وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فَضِيلَةَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي الِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى الْأَرْضِ لِتَصِيرَ طَاعَاتُهُمْ أَكْثَرَ ثَوَابًا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ لِتَصِيرَ طَاعَتُهُ هُنَاكَ أَكْثَرَ ثَوَابًا، وَكُلُّ ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لِلْإِنْسَانِ فِي الطَّاعَةِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ عِنْدَ حُضُورِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَحْسَنَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْخَلْوَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِالطَّاعَاتِ فِي حُضُورِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ فَيَكُونُ أَتَمَّ وَعَنِ النُّقْصَانِ أَبْعَدَ وَسَادِسُهَا: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ خَصَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ بِبَعْضِ فِرَقِ الْمَلَائِكَةِ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، وَسَاقُهَا فِي الْجَنَّةِ وَأَغْصَانُهَا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَمَقَامُ جِبْرِيلَ فِي وَسَطِهَا، لَيْسَ فِيهَا مَلَكٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَى الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَنْزِلُونَ مَعَ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ(32/233)
سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا صَافَحَهُمْ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ/ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصَافَحَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَنْ قَالَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غُفِرَ لَهُ بِوَاحِدَةٍ، وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ، وَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَصِيرَ أَمَامَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْنِ أَخْضَرَيْنِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا تلك الساعة من يوم تِلْكَ اللَّيْلَةِ ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا مَلَكًا، فَيَصْعَدُ الْكُلُّ وَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَسَمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ مَشْغُولِينَ بِالدُّعَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ احْتِسَابًا، فَإِذَا أَمْسَوْا دَخَلُوا سَمَاءَ الدُّنْيَا فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا حِلَقًا فَتُجْمَعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ وَعَنِ امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ، حَتَّى يَقُولُوا: مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَاهُ عَامَ أَوَّلٍ مُتَعَبِّدًا، وَفِي هَذَا الْعَامِ مُبْتَدِعًا، وَفُلَانٌ كَانَ عَامَ أَوَّلٍ مُبْتَدِعًا، وَهَذَا الْعَامَ مُتَعَبِّدًا، فَيَكُفُّونَ عَنِ الدُّعَاءِ لِلْأَوَّلِ، وَيَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ لِلثَّانِي، وَوَجَدْنَا فُلَانًا تَالِيًا، وَفُلَانًا رَاكِعًا، وَفُلَانًا سَاجِدًا، فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى يَصْعَدُوا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ لَهُمُ السِّدْرَةُ: يَا سُكَّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَتَقُولُ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ عِجِّلْهُمْ إِلَيَّ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأَهْلُ السِّدْرَةِ يَقُولُونَ: آمِينَ آمِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ، كُلَّمَا كَانَ الْجَمْعُ أَعْظَمَ، كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ أَكْثَرَ، ولذلك فإن أعظم الجموع في موقف الْحَجِّ، لَا جَرَمَ كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ هُنَاكَ أَكْثَرَ، فَكَذَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَحْصُلُ مَجْمَعُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ نُزُولُ الرَّحْمَةِ أَكْثَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الرُّوحِ أَقْوَالًا أحدها: أنه ملك عظيم، لو التقم السموات وَالْأَرَضِينَ كَانَ ذَلِكَ لَهُ لُقْمَةً وَاحِدَةً وَثَانِيهَا: طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا تَرَاهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، كَالزُّهَّادِ الَّذِينَ لَا نَرَاهُمْ إِلَّا يَوْمَ الْعِيدِ وَثَالِثُهَا: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ لَيْسُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَعَلَّهُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَابِعُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ اسْمُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَنْزِلُ فِي مُوَاقَفَةِ الْمَلَائِكَةِ لِيَطَّلِعَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] وَسَادِسُهَا: الرَّحْمَةُ قرئ: لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 87] بِالرَّفْعِ كَأَنَّهُ تعالى يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تَنْزِلُ فِي أَثَرِهِمْ فَيَجِدُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَسَابِعُهَا: الرُّوحُ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ وَثَامِنُهَا: عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الرُّوحُ هُمُ الْحَفَظَةُ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَصَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ إِتْيَانَهُ بِالْوَاجِبِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح هاهنا جِبْرِيلُ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ فِي كِفَّةٍ وَالرُّوحُ فِي كِفَّةٍ.
أما قوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [المسألة الأولى] فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْتَاقِينَ إِلَيْنَا، فَإِنْ/ قِيلَ: كَيْفَ يَرْغَبُونَ إِلَيْنَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَثْرَةِ مَعَاصِينَا؟ قُلْنَا: إِنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ عَلَى تَفْصِيلِ الْمَعَاصِي رُوِيَ أَنَّهُمْ يُطَالِعُونَ اللَّوْحَ، فَيَرَوْنَ فِيهِ طَاعَةَ الْمُكَلَّفِ مُفَصَّلَةً، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى مَعَاصِيهِ أُرْخِيَ السِّتْرُ فَلَا تَرَوْنَهَا، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ، وَسَتَرَ عَلَى الْقَبِيحِ، ثُمَّ قَدْ ذَكَرْنَا فَوَائِدَ فِي نُزُولِهِمْ وَنَذْكُرُ الْآنَ فَوَائِدَ أُخْرَى وَحَاصِلُهَا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ أَشْيَاءَ مَا رَأَوْهَا فِي عَالَمِ السَّمَاوَاتِ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَجِيئُونَ بِالطَّعَامِ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَجْعَلُونَهُ ضِيَافَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْفُقَرَاءُ يَأْكُلُونَ طَعَامَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الطَّاعَةِ لَا يُوجَدُ في السموات وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَنِينَ الْعُصَاةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: «لَأَنِينُ الْمُذْنِبِينَ أَحَبُّ(32/234)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
إِلَيَّ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ»
فَقَالُوا: تَعَالَوْا نَذْهَبْ إِلَى الْأَرْضِ فَنَسْمَعْ صَوْتًا هُوَ أَحَبُّ إِلَى رَبِّنَا مِنْ صَوْتِ تَسْبِيحِنَا، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَحَبَّ وَزَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ إِظْهَارٌ لِكَمَالِ حَالِ الْمُطِيعِينَ، وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات [وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى] «1» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مَرْيَمَ: 64] وَقَوْلُهُ: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الْأَنْبِيَاءِ: 27] وَفِيهَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: مَأْذُونِينَ بَلْ قَالَ:
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ تَصَرُّفًا مَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إِنْ خَرَجْتِ إِلَّا بِإِذْنِي، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ الْإِذْنُ فِي كُلِّ خَرْجَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: رَبِّهِمْ يُفِيدُ تَعْظِيمًا لِلْمَلَائِكَةِ وَتَحْقِيرًا لِلْعُصَاةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانُوا لِي فَكُنْتُ لَهُمْ، وَنَظِيرُهُ فِي حَقِّنَا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف: 54] وقال لمحمد عليه السلام: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة: 30] وَنَظِيرُهُ مَا
رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَالَ: إِلَهِي كُنْ لِسُلَيْمَانَ كَمَا كُنْتَ لِي، فَنَزَلَ الْوَحْيُ وَقَالَ: قُلْ لِسُلَيْمَانَ فَلْيَكُنْ لِي كَمَا كُنْتَ لِي،
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ فَقَدَ الضَّيْفَ أَيَّامًا فَخَرَجَ بِالسُّفْرَةِ لِيَلْتَمِسَ ضَيْفًا فَإِذَا بِخَيْمَةٍ، فَنَادَى أَتُرِيدُونَ الضَّيْفَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ لِلْمُضِيفِ: أَيُوجَدُ عِنْدَكَ إِدَامُ لَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ؟ فَرَفَعَ الرَّجُلُ صَخْرَتَيْنِ فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَانْشَقَّا فَخَرَجَ مِنْ إِحْدَاهُمَا اللَّبَنُ وَمِنَ الْأُخْرَى الْعَسَلُ، فَتَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: إِلَهِي أَنَا خَلِيلُكَ وَلَمْ أَجِدْ مثل ذلك الإكرام، فماله؟
فَنَزَلَ الْوَحْيُ يَا خَلِيلِي كَانَ لَنَا فَكُنَّا له.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ فَمَعْنَاهُ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنَّمَا نَزَلَ لِمُهِمٍّ آخَرَ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَشْغَالٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهُمْ لِلرُّكُوعِ وَبَعْضُهُمْ لِلسُّجُودِ، وَبَعْضُهُمْ بِالدُّعَاءِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّفَكُّرِ وَالتَّعْلِيمِ، وَإِبْلَاغِ الْوَحْيِ، وَبَعْضُهُمْ لِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ اللَّيْلَةِ أَوْ لِيُسَلِّمُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ/ مِنْ أَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُزُولَهُمْ إِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَزَلْنَا إِلَى الْأَرْضِ لِهَوَى أَنْفُسِنَا، لَكِنْ لِأَجْلِ كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَمَّ لَفْظُ الْأَمْرِ لِيَعُمَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَيَانًا مِنْهُ أَنَّهُمْ يَنْزِلُونَ بِمَا هُوَ صَلَاحُ الْمُكَلَّفِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ كَأَنَّ السَّائِلَ يَقُولُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ فَيَقُولُ: مالك وَهَذَا الْفُضُولُ، وَلَكِنْ قُلْ: لِأَيِّ أَمْرٍ جِئْتَ لِأَنَّهُ حَظُّكَ وَثَالِثُهَا: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: مِنْ كُلِّ امرى أَيْ مِنْ أَجْلِ كُلِّ إِنْسَانٍ،
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ مُؤْمِنًا وَلَا مُؤْمِنَةً إِلَّا سَلَّمُوا عَلَيْهِ،
قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تُقَسَّمُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ،
وَالْآنَ تَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ قُلْنَا:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْمَقَادِيرَ فِي لَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يُسَلِّمُهَا إِلَى أَرْبَابِهَا»
وَقِيلَ: يُقَدِّرُ لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ الَّتِي فِيهَا الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالسَّلَامَةُ، وَقِيلَ: يُقَدِّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِعْزَازُ الدِّينِ، وَمَا فِيهِ النَّفْعُ الْعَظِيمُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ فَيُكْتَبُ فِيهَا أَسْمَاءُ مَنْ يَمُوتُ وَيُسَلَّمُ إِلَى ملك الموت. من فضائل هذه الليلة قوله تعالى:
[سورة القدر (97) : آية 5]
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
__________
(1) ما بين القوسين المربعين زيادة دعا إليها عدم ترجمة المؤلف المسألة الأولى، أو لعلها قد سقطت من الناسخ.(32/235)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ سَلَامٌ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ سَلَامٌ أَيْ تُسَلِّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْمُطِيعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْزِلُونَ فَوْجًا فَوْجًا مِنِ ابْتِدَاءِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَرَادَفَ النُّزُولُ لِكَثْرَةِ السَّلَامِ وَثَانِيهَا: وُصِفَتِ اللَّيْلَةُ بِأَنَّهَا سَلَامٌ، ثُمَّ يَجِبُ أَنْ لَا يُسْتَحْقَرَ هَذَا السَّلَامُ لِأَنَّ سَبْعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَلَّمُوا عَلَى الْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ، فَازْدَادَ فَرَحُهُ بِذَلِكَ عَلَى فَرَحِهِ بِمُلْكِ الدُّنْيَا، بَلِ الْخَلِيلُ لَمَّا سَلَّمَ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ صَارَ نَارُ نُمْرُوذَ عَلَيْهِ بردا وسلاما أَفَلَا تَصِيرُ نَارُهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ تَسْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْنَا بَرْدًا وَسَلَامًا لَكِنَّ ضِيَافَةَ الْخَلِيلِ لَهُمْ كَانَتْ عِجْلًا مَشْوِيًّا وَهُمْ يُرِيدُونَ مِنَّا قَلْبًا مَشْوِيًّا، بَلْ فِيهِ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ إِظْهَارُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْمَلَائِكَةَ، نَزَلُوا عَلَى الخليل، وهاهنا نَزَلُوا عَلَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَلَامٌ مِنَ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ، أَيْ سَلَامَةٌ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: إِنَّمَا فُلَانٌ حَجٌّ وَغَزْوٌ أَيْ هُوَ أَبَدًا مَشْغُولٌ بِهِمَا، وَمِثْلُهُ:
«فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ» .
وَقَالُوا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِالْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ وَلَا يَنْزِلُ فِيهَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمَضَارِّ شَيْءٌ فَمَا يَنْزِلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَهُوَ سَلَامٌ، أَيْ سَلَامَةٌ وَنَفْعٌ وَخَيْرٌ وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: سَلَامٌ أَيِ اللَّيْلَةُ سَالِمَةٌ عَنِ الرِّيَاحِ وَالْأَذَى وَالصَّوَاعِقِ إِلَى مَا شَابَهَ ذَلِكَ وَخَامِسُهَا: سَلَامٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ فِيهَا سُوءًا وَسَادِسُهَا: أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ فَيَتَّصِلُ السَّلَامُ بِمَا قَبْلَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالسَّلَامَةِ يَدُومُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ وَسَابِعُهَا: / أَنَّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سَالِمَةٌ فِي أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَتْ كَسَائِرِ اللَّيَالِي فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْفَرْضِ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ وَلِلْعِبَادَةِ النِّصْفُ وَلِلدُّعَاءِ السَّحَرُ بَلْ هِيَ مُتَسَاوِيَةُ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْزَاءِ وَثَامِنُهَا: سَلامٌ هِيَ، أَيْ جَنَّةٌ هِيَ لِأَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ دَارَ السَّلَامِ أَيِ الْجَنَّةُ الْمَصُوغَةُ مِنَ السَّلَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَطْلَعُ الطُّلُوعُ يُقَالُ: طَلَعَ الْفَجْرُ طُلُوعًا وَمَطْلَعًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَدُومُ ذَلِكَ السَّلَامُ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ اللَّامِ فَهُوَ اسْمٌ لِوَقْتِ الطُّلُوعِ وَكَذَا مَكَانُ الطُّلُوعِ مَطْلَعٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا فَتْحَ اللَّامِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقَالُوا: الْكَسْرُ اسْمٌ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَلَا مَعْنَى لِاسْمِ مَوْضِعِ الطُّلُوعِ هاهنا بَلْ إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنَ اسْمِ وَقْتِ الطُّلُوعِ صَحَّ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْضًا، لِأَنَّ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَفْعِلِ مَا قَدْ كُسِرَ كَقَوْلِهِمْ عَلَاءُ الْمَكْبِرِ والمعجز، قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [الْبَقَرَةِ: 222] فَكَذَلِكَ كَسْرُ الْمَطْلِعِ جَاءَ شَاذًّا عَمًّا عَلَيْهِ بَابُهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(32/236)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البينة
(وهي ثمانية آيات مدنية)
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
[قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلى قوله رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا وَأَنَا أَقُولُ: وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ إِنَّ كَلِمَةَ حَتَّى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَارُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ عِنْدَ إِتْيَانِ الرَّسُولِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُنَاقَضَةٌ فِي الظَّاهِرِ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: وَأَحْسَنُهَا الْوَجْهُ الَّذِي لَخَّصَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نَنْفَكُّ عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ دِينِنَا، وَلَا نَتْرُكُهُ حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَعْنِي/ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ اجْتِمَاعَ الْكَلِمَةِ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى الْحَقِّ إِذَا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ، ثُمَّ مَا فَرَّقَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَلَا أَقَرَّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا مَجِيءُ الرَّسُولِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيرُ الْفَاسِقُ لِمَنْ يَعِظُهُ: لَسْتُ أَمْتَنِعُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ حَتَّى يَرْزُقَنِي اللَّهُ الْغِنَى، فَلَمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ الْغِنَى ازْدَادَ فِسْقًا فَيَقُولُ وَاعِظُهُ: لَمْ تَكُنْ مُنْفَكًّا عَنِ الْفِسْقِ حَتَّى تُوسِرَ، وَمَا غَمَسْتَ رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره مَا كَانَ يَقُولُهُ تَوْبِيخًا وَإِلْزَامًا، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ(32/237)
الْبَيِّنَةُ
مَذْكُورَةٌ حِكَايَةً عَنْهُمْ، وَقَوْلَهُ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا ادَّعَوْا وَثَانِيهَا: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَإِنْ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظَةِ حَتَّى بِهَذَا لَيْسَ مِنَ اللُّغَةِ فِي شَيْءٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: مُنْفَكِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ عَلَى كَوْنِهِمْ مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ بِالْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ بِالْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَيْ حَتَّى أَتَتْهُمْ، فَاللَّفْظُ لَفْظُ الْمُضَارِعِ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي، وهو كقوله تعالى: ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [الْبَقَرَةِ: 102] أَيْ مَا تَلَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ تَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ رَدِيًّا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [الْبَقَرَةِ: 89] وَالْقَوْلُ الْمُخْتَارُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ الرَّسُولِ، وَكَلِمَةُ حَتَّى تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَمْرُ هَكَذَا كَانَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ مَا بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ بَلْ تَفَرَّقُوا فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ كَافِرًا، وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ حَالُ أُولَئِكَ الْجَمْعِ بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ كَمَا كَانَ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَفَى ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِ لَفْظِ حَتَّى، وَفِيهَا وَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ مُنْفَكِّينَ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي كُفْرِهِمْ بَلْ كَانُوا جَازِمِينَ بِهِ مُعْتَقِدِينَ حَقِيقَتَهُ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْجَزْمُ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ، بَلْ بَقُوا شَاكِّينَ مُتَحَيِّرِينَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ وَفِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الْبَقَرَةِ: 213] وَالْمَعْنَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ فَالْيَهُودِيُّ كَانَ جَازِمًا فِي يَهُودِيَّتِهِ وَكَذَا النَّصْرَانِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اضْطَرَبَتِ الْخَوَاطِرُ وَالْأَفْكَارُ وَتَشَكَّكَ كُلُّ أَحَدٍ فِي دِينِهِ وَمَذْهَبِهِ وَمَقَالَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مُنْفَكِّينَ مُشْعِرٌ بِهَذَا لِأَنَّ انْفِكَاكَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ انْفِصَالُهُ عَنْهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَا خَلَتْ عَنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَمَا انْفَصَلَتْ عَنِ الْجَزْمِ بِصِحَّتِهَا، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَ
الْمَبْعَثِ لَمْ يَبْقَ الْأَمْرُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكُفَّارُ كَانُوا جِنْسَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْكِتَابِ كَفِرَقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانُوا كُفَّارًا بِإِحْدَاثِهِمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَفَرُوا بِهِ كَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 30] وَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وَتَحْرِيفِهِمْ/ كِتَابَ اللَّهِ وَدِينَهُ وَالثَّانِي: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُنْسَبُونَ إِلَى كِتَابٍ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِنْسَيْنِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْإِجْمَالِ ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل، وهو قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وهاهنا سؤالات:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَهَذَا حَقٌّ، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَلِمَةُ من هاهنا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ لِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الْحَجِّ: 30] وَثَانِيهَا: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْضُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِدْخَالُ كَلِمَةِ مِنْ لِهَذَا السَّبَبِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُشْرِكِينَ أَيْضًا وَصْفًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى مُثَلِّثَةٌ وَالْيَهُودَ عَامَّتُهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: جَاءَنِي الْعُقَلَاءُ(32/238)
وَالظُّرَفَاءُ يُرِيدُ بِذَلِكَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ يَصِفُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ [التَّوْبَةِ: 112] وَهَذَا وَصْفٌ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْعَتَ قَوْمٌ بِنُعُوتٍ شَتَّى، يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ وَيَكُونُ الْكُلُّ وَصْفًا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمَجُوسُ هَلْ يَدْخُلُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ في أَهْلِ الْكِتَابِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»
وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُونَ قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا [الْأَنْعَامِ: 156] وَالطَّائِفَتَانِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْكُفْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؟ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَمَعَ هَذَا فَفِيهِ فَوَائِدُ أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ فَكَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالذِّكْرِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِالْكُتُبِ فَكَانَتْ قُدْرَتُهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ أَتَمَّ، فَكَانَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ أَقْبَحَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ يَقْتَدِي غَيْرُهُمْ بِهِمْ فَكَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا لِكُفْرِ غَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا قُدِّمُوا فِي الذِّكْرِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَقُدِّمُوا فِي الذِّكْرِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِمَّا مَزِيدَ تَعْظِيمٍ، فَلَا جَرَمَ ذُكِرُوا بِهَذَا اللَّقَبِ دُونَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِأَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا يَقْتَضِي مَزِيدَ قُبْحٍ فِي كُفْرِهِ، فَذُكِرُوا بِهَذَا الْوَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْعِقَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ قَوْلَهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْكُلِّ وَاحِدًا فِي الْكُفْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْمُشْرِكُ يَرِثُ الْيَهُودِيَّ وَبِالْعَكْسِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَطْفَ أَوْجَبَ الْمُغَايَرَةَ، فَلِذَلِكَ نَقُولُ: الذِّمِّيُّ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ»
فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك نَبَّهَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاغْتِرَارُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ إِذْ قَدْ حَدَثَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ مِثْلُ مَا حَدَثَ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: الِانْفِكَاكُ هُوَ انْفِرَاجُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَكِّ وَهُوَ الْفَتْحُ وَالزَّوَالُ، وَمِنْهُ فَكَكْتُ الْكِتَابَ إِذَا أَزَلْتُ خَتْمَهُ فَفَتَحْتُهُ، وَمِنْهُ فِكَاكُ الرَّهْنِ وَهُوَ زَوَالُ الِانْغِلَاقِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّ قَوْلِهِ: انْفَكَّ الرَّهْنُ، وَمِنْهُ فِكَاكُ الْأَسِيرِ وَفَكُّهُ، فَثَبَتَ أَنَّ انْفِكَاكَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَنْ يُزِيلَهُ بَعْدَ الْتِحَامِهِ بِهِ، كَالْعَظْمِ إِذَا انْفَكَّ مِنْ مَفْصِلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَشَبِّثُونَ بِدِينِهِمْ تَشَبُّثًا قَوِيًّا لَا يُزِيلُونَهُ إِلَّا عِنْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ، أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهِيَ الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ فَهِيَ مِنَ الْبَيَانِ أَوِ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنَ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ الرَّسُولُ بِالْبَيِّنَةِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَاتَهُ كَانَتْ بينة على(32/239)
نُبُوَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْجِدِّ فِي تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَّابًا مُتَصَنِّعًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ الْجِدُّ الْمُتَنَاهِي، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا أَوْ مَعْتُوهًا وَالثَّانِي: مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ صَادِقًا الثَّانِي: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَخْلَاقِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ كَانَ بَالِغًا إِلَى حَدِّ كَمَالِ الْإِعْجَازِ، وَالْجَاحِظُ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَرَهُ فِي كِتَابِ «الْمُنْقِذِ» ، فَإِذًا لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سُمِّيَ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ الثَّالِثُ: أَنَّ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَكَانَتْ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ فَلِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ، ولذلك سماه الله تعالى سراجا منيرا. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةِ هُوَ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: رَسُولًا حَالٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ قَالُوا: وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ لِلتَّعْرِيفِ أَيْ هُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَعِيسَى، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِلتَّفْخِيمِ أَيْ هُوَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا أَوِ الْبَيِّنَةُ كُلُّ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّفْخِيمِ وَكَذَا التَّنْكِيرُ وقد جمعهما الله هاهنا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبَدَأَ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ ثُمَّ ثَنَّى بِالتَّنْكِيرِ فَقَالَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ هُوَ رَسُولٌ، وَأَيُّ رَسُولٍ، وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 15] ثم قال: فَعَّالٌ [البروج: 16] فَنَكَّرَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْبَيِّنَةُ مُطْلَقُ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أَيْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ رُسُلٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الله تتلوا عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: 153] وَكَقَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: 52] .
الْقَوْلُ الثالث: وهو قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: 133] ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ وَحْيٌ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الصُّحُفَ جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ ظَرْفٌ لِلْمَكْتُوبِ، وَفِي: الْمُطَهَّرَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الْبَاطِلِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] وَقَوْلِهِ: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عَبَسَ: 14] ، وَثَانِيهَا: مُطَهَّرَةً عَنِ الذِّكْرِ الْقَبِيحِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُذْكَرُ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ: مُطَهَّرَةً أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 78، 79] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطَهَّرَةَ وَإِنْ جَرَتْ نَعْتًا لِلصُّحُفِ فِي الظَّاهِرِ فَهِيَ نَعْتٌ لِمَا فِي الصُّحُفِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَقَوْلُهُ:
كُتُبٌ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْمُرَادُ مِنَ الْكُتُبِ الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الصُّحُفِ وَالثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» :
الْكُتُبُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ [الْمُجَادَلَةِ: 21] وَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَسِيفِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أَيْ أَحْكَامٌ قَيِّمَةٌ أَمَّا الْقَيِّمَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مُسْتَقِيمَةٌ لَا عِوَجَ فِيهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْ قَامَ يَقُومُ كَالسَّيِّدِ وَالْمَيِّتِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَذَا إِذَا ظَهَرَ وَاسْتَقَامَ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْقَيِّمَةُ بِمَعْنَى الْقَائِمَةِ أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ(32/240)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
بِالْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ قَامَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ يَقُومُ بِهِ إِذَا أَجْرَاهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ الْقَوْمِ الْقَيِّمُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَسَبَ تِلَاوَةَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ إِلَى الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا؟ قُلْنَا: إِذَا تَلَا مَثَلًا الْمَسْطُورَ فِي تِلْكَ الصُّحُفِ كَانَ تَالِيًا مَا فِيهَا وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابٍ مَنْسُوبٍ إِلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وهاهنا ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَطْ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟ وَجَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُقَرُّوا عَلَى دِينِهِمْ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قُتِلَ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا عَالِمِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ وَجَدُوهَا فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ مَعَ الْعِلْمِ كَانَ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا فِي الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ وَإِرَادَتَهُ لَهُ حَاصِلٌ فِي الْأَزَلِ، أما ظهروه مِنَ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أن الكفر والتفرق فعلمهم لَا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، ثُمَّ قَالَ: أُوتُوا الْكِتابَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ آتَاهُمْ ذَلِكَ فَالْخَيْرُ وَالتَّوْفِيقُ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ، وَالشَّرُّ وَالتَّفَرُّقُ وَالْكُفْرُ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ لَا يَغُمَّنَّكَ تَفَرُّقُهُمْ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الْحُجَّةِ بَلْ لِعِنَادِهِمْ، فَسَلَفُهُمْ هَكَذَا كَانُوا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي السَّبْتِ وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فهي عادة قديمة لهم. أما قوله تعالى:
[سورة البينة (98) : آية 5]
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَمَا أُمِرُوا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَما أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا بِالدِّينِ الْحَنِيفِيِّ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَمَا أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حقنا وثانيها: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ:
وَمَا أُمِرَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا أَوْلَى لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تُفِيدُ شَرْعًا جَدِيدًا وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى مَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً أَوْلَى وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَنَّ ذكر محمد عليه السلام قد مر هاهنا وهو قوله: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [الْبَيِّنَةُ: 1] وَذِكْرَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ فَحَكَمَ بِكَوْنِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ هَذِهِ الْآيَةِ دِينًا قَيِّمًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْعًا فِي حَقِّنَا سَوَاءٌ قُلْنَا بِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ شَرْعٌ جَدِيدٌ يَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِشَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ.(32/241)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لَامُ الْغَرَضِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَهُوَ نَاقِصٌ لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلٌ بِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَلَوْ فَعَلَ اللَّهُ فِعْلًا لَكَانَ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِالْغَيْرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْغَرَضَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا/ لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ فَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ إِنْ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ إِلَّا بِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ فَهُوَ عَاجِزٌ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ كَانَ تَوْسِيطُ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ عَبَثًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ.
ثُمَّ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَجْعَلُ اللَّامَ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: 26] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا [الصِّفِّ: 8] وَقَالَ فِي الْأَمْرِ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الْأَنْعَامِ: 71] وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَالْإِخْلَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَالنِّيَّةُ الْخَالِصَةُ لَمَّا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً كَانَتِ النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً، فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَنْوِيًّا، ثُمَّ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْوُضُوءُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 6] وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْوِيًّا، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ وُجُوبُ كَوْنِ الْوُضُوءِ مَنْوِيًّا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ تَعْلِيلَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ بِالْأَغْرَاضِ، لَا جَرَمَ أَجْرَوُا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَالُوا مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا قَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِيهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، فَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِيهِ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ خَصَّ عُمُومَ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فَيَبْقَى فِي الْبَاقِي حُجَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: أُمِرُوا مَذْكُورٌ بِلَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَةِ: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: 178] قَالُوا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْعِبَادَةُ شَاقَّةٌ وَلَا أُرِيدُ مَشَقَّتَكَ إِرَادَةً أَصْلِيَّةً بَلْ إِرَادَتِي لِعِبَادَتِكَ كَإِرَادَةِ الْوَالِدَةِ لِحِجَامَتِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الرَّحْمَةِ قَالَ:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: 54] ، كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [الْمُجَادَلَةِ: 22] وَذُكِرَ فِي الْوَاقِعَاتِ إِذَا أَرَادَ الْأَبُ مِنِ ابْنِهِ عَمَلًا يَقُولُ لَهُ أَوَّلًا: يَنْبَغِي أَنَّ تَفْعَلَ هَذَا وَلَا يَأْمُرَهُ صَرِيحًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَتَعْظُمُ جِنَايَتُهُ، فَهَهُنَا أَيْضًا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْأَمْرِ لِتَخِفَّ جِنَايَةُ الرَّادِّ وَثَانِيهَا: أَنَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، نَقُولُ: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَسْتُ أَنَا الْآمِرَ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ، بَلْ عَقْلُكَ أَيْضًا يَأْمُرُكَ لِأَنَّ النِّهَايَةَ فِي التَّعْظِيمِ لِمَنْ أَوْصَلَ إِلَيْكَ [أَنَّ] نِهَايَةَ الْإِنْعَامِ وَاجِبَةٌ فِي الْعُقُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالُوا:
الْعِبَادَةُ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إِلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى الْبُعْدِ عَنْ عِقَابِ النَّارِ، بَلْ لِأَجْلِ أَنَّكَ عَبْدٌ وَهُوَ رَبٌّ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الدِّينِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ أَمَرَكَ بِالْعِبَادَةِ وَجَبَتْ لِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ، وَفِيهَا أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَالْمَعْبُودُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالْحَقُّ وَاسِطَةٌ، وَنِعْمَ مَا قِيلَ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالثَّانِي «1» / وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ، بَلْ لِلْمَعْرُوفِ، فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ.
__________
(1) قوله بالثاني لا معنى له، ولعلها مصحفة عن الفاني.(32/242)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعِبَادَةُ هِيَ التَّذَلُّلُ، وَمِنْهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا الطَّاعَةُ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ جَمَاعَةً عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَالْأَصْنَامَ، وَمَا أَطَاعُوهُمْ وَلَكِنْ فِي الشَّرْعِ صَارَتِ اسما لكل طاعة الله، أُدِّيَتْ لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالنِّهَايَةِ فِي التَّعْظِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ وَاحِدًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ النِّهَايَةُ فِي التَّعْظِيمِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا بُدَّ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ عِبَادَةً مِنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: غَايَةُ التَّعْظِيمِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ عَظَمَةَ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي غَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، فَفِعْلُ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَإِنْ تَضَمَّنَ نِهَايَةَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَالنُّكْتَةُ الْوَعْظِيَّةُ فِيهِ، أَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ لِفَقْدِ التَّعْظِيمِ وَفِعْلَ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ لِفَقْدِ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ رُكُوعُكَ النَّاقِصُ عِبَادَةً وَلَا أَمْرٌ وَلَا تَعْظِيمٌ؟.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْإِخْلَاصُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفِعْلِ خَالِصًا لِدَاعِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا مِنَ الدَّوَاعِي تَأْثِيرٌ فِي الدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالنُّكَتُ الْوَعْظِيَّةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ عَبْدِي لَا تَسْعَ فِي إِكْثَارِ الطَّاعَةِ بَلْ فِي إِخْلَاصِهَا لِأَنِّي مَا بَذَلْتُ كُلَّ مَقْدُورِي لَكَ حَتَّى أَطْلُبَ مِنْكَ كُلَّ مَقْدُورِكَ، بَلْ بَذَلْتُ لَكَ الْبَعْضَ، فَأَطْلُبُ مِنْكَ الْبَعْضَ نِصْفًا مِنَ الْعِشْرِينَ، وَشَاةً مِنَ الْأَرْبَعِينَ، لَكِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فَعَلْتُهُ لَمْ أُرِدْ بِفِعْلِهِ سِوَاكَ، فَلَا تُرِدْ بِطَاعَتِكَ سِوَايَ، فَلَا تَسْتَثْنِ مِنْ طَاعَتِكَ لِنَفْسِكَ فَضْلًا مِنْ أَنْ تَسْتَثْنِيَهُ لِغَيْرِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي يُوجَدُ مِنْكَ فِي الصَّلَاةِ كَالْحَكَّةِ وَالتَّنَحْنُحِ فَهُوَ حَظٌّ اسْتَثْنَيْتَهُ لِنَفْسِكَ فَانْتَفَى الْإِخْلَاصُ، وَأَمَّا الِالْتِفَاتُ الْمَكْرُوهُ فَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا عَقْلُ أَنْتَ حَكِيمٌ لَا تَمِيلُ إِلَى الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ وَأَنَا حَكِيمٌ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَإِذًا لَا تُرِيدُ إِلَّا مَا أُرِيدُ وَلَا أُرِيدُ إِلَّا مَا تُرِيدُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلِكُ الْعَالَمِينَ وَالْعَقْلُ مَلِكٌ لِهَذَا الْبَدَنِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ قَالَ: الْمَلِكُ لَا يَخْدُمُ الْمَلِكَ لَكِنْ [لِكَيْ] نَصْطَلِحَ أَجْعَلُ جَمِيعَ مَا أَفْعَلُهُ لِأَجْلِكَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] فَاجْعَلْ أَنْتَ أَيْضًا جَمِيعَ مَا تَفْعَلُهُ لِأَجْلِي: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُخْلِصِينَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ تَحْصِيلِ الْإِخْلَاصِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ إِلَى انْتِهَائِهِ، وَالْمُخْلِصُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْحَسَنِ لِحُسْنِهِ، وَالْوَاجِبِ لِوُجُوبِهِ، فَيَأْتِي بِالْفِعْلِ لِوَجْهِهِ مُخْلِصًا لِرَبِّهِ، لَا يُرِيدُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَلَا غَرَضًا آخَرَ، بَلْ قَالُوا: لَا يُجْعَلُ طَلَبُ الْجَنَّةِ مَقْصُودًا وَلَا النَّجَاةُ عَنِ النَّارِ مَطْلُوبًا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي التَّوْرَاةِ: مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ وَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِي فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ.
وَقَالُوا مِنَ الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْعِبَادَاتِ عِبَادَةً أُخْرَى لِأَجْلِ الْغَيْرِ، مِثْلَ الْوَاجِبُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ شَاةٌ، فَإِذَا ذَبَحْتَ اثْنَتَيْنِ وَاحِدَةً لِلَّهِ وَوَاحِدَةً لِلْأَمِيرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ شِرْكٌ، وَإِنْ زِدْتَ فِي الْخُشُوعِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَرَوْنَهُ لَمْ يَجُزْ، فَهَذَا إِذَا خَلَطْتَ بِالْعِبَادَةِ عِبَادَةً/ أُخْرَى، فَكَيْفَ وَلَوْ خَلَطْتَ بِهَا مَحْظُورًا مِثْلَ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِكَ، بَلْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَلَا إِلَى الْعَبِيدِ وَلَا الْإِمَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ، فَإِذَا طَلَبْتَ بِذَلِكَ سُرُورَ وَالِدِكَ أَوْ وَلَدِكَ يَزُولُ الْإِخْلَاصُ، فَكَيْفَ إِذَا طَلَبْتَ مَسَرَّةَ شَهْوَتِكَ كَيْفَ يَبْقَى الْإِخْلَاصُ؟ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ السَّلَفِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مُقِرِّينَ لَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَاصِدِينَ بِقُلُوبِهِمْ رِضَا اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ يَعْبُدُونَهُ مُوَحِّدِينَ لَهُ لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً [التَّوْبَةِ: 21] .(32/243)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: مُتَّبِعِينَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً/ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: 123] وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ لَطِيفَةٌ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ التقليد مسئول عَلَى الطِّبَاعِ لَمْ يَسْتَجِزْ مَنْعَهُ عَنِ التَّقْلِيدِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَجِزِ التَّعْوِيلَ عَلَى التَّقْلِيدِ أَيْضًا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ قَوْمًا أَجْمَعَ الْخَلْقُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى تَزْكِيَتِهِمْ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُقَلِّدُ أَحَدًا فِي دِينِكَ، فَكُنْ مُقَلِّدًا إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ تَبَرَّأَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَهَذَا غَيْرُ عَجِيبٍ فَإِنَّهُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْ نَفْسِهِ حين سلمها إلى النيران، ومن ما حِينَ بَذَلَهُ لِلضِّيفَانِ، وَمِنْ وَلَدِهِ حِينَ بَذَلَهُ لِلْقُرْبَانِ، بَلْ
رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ فَاسْتَطَابَهُ، وَلَمْ يَرَ شَخْصًا فَاسْتَعَادَهُ، فَقَالَ: أَمَّا بِغَيْرِ أَجْرٍ فَلَا، فَبَذَلَ كُلَّ مَا مَلَكَهُ فَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: حُقَّ لَكَ حَيْثُ سَمَّاكَ خَلِيلًا فَخُذْ مَالَكَ،
فَإِنَّ الْقَائِلَ: كُنْتُ أَنَا، بَلِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ حَتَّى عَنْ جِبْرِيلَ حِينَ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ عَابِدًا فَاعْبُدْ كَعِبَادَتِهِ، فَإِذَا لَمْ تَتْرُكِ الْحَلَالَ وَأَبْوَابَ السَّلَاطِينِ، أَمَا تَتْرُكُ الْحَرَامَ وَمُوَافَقَةَ الشَّيَاطِينِ، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى مُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَاجْتَهِدْ فِي مُتَابَعَةِ وَلَدِهِ الصَّبِيِّ، كَيْفَ انْقَادَ لِحُكْمِ رَبِّهِ مَعَ صِغَرِهِ، فَمَدَّ عُنُقَهُ لِحُكْمِ الرُّؤْيَا، وَإِنْ كُنْتَ دُونَ الرَّجُلِ فَاتَّبِعِ الْمَوْسُومَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَهُوَ أُمُّ الذَّبِيحِ، كَيْفَ تَجَرَّعَتْ تِلْكَ الْغُصَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ نِصْفُ الرَّجُلِ فإن الاثنتين يقومان مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ، وَالرَّقِيقَةُ نِصْفُ الْحُرَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْقَسْمِ فَهَاجَرُ كَانَتْ رُبُعَ الرَّجُلِ، ثُمَّ انْظُرْ كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثُمَّ صَبَرَتْ حِينَ تَرَكَهَا الْخَلِيلُ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فِي جِبَالِ مَكَّةَ بِلَا مَاءٍ وَلَا زَادٍ وَانْصَرَفَ، لَا يُكَلِّمُهَا وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهَا، قَالَتْ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ وَصَبَرَتْ عَلَى تِلْكَ الْمَشَاقِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: حُنَفاءَ أَيْ مُسْتَقِيمِينَ وَالْحَنَفُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَائِلُ الْقَدَمِ أَحْنَفَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، كَقَوْلِنَا: لِلْأَعْمَى بَصِيرٌ وَلِلْمَهْلَكَةِ مَفَازَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فُصِّلَتْ: 30] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَةِ: 6] .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حُجَّاجًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِبَادَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ: حُنَفَاءَ وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْحَجَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ فِي الْحَجِّ صَلَاةً وَإِنْفَاقَ مَالٍ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ/ الْحَنِيفُ الَّذِي آمَنَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنْهُمْ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ كَيْفَ يَكُونُ حَنِيفًا الْخَامِسُ: حُنَفَاءَ أَيْ جَامِعِينَ لِكُلِّ الدِّينِ إِذِ الْحَنِيفِيَّةُ كُلُّ الدِّينِ،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ»
السَّادِسُ: قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخِتَانُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ أَيْ مَخْتُونِينَ مُحَرِّمِينَ لِنِكَاحِ الْأُمِّ وَالْمَحَارِمِ، فَقَوْلُهُ: حُنَفاءَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّفْيِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ السَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن أخواتها حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى إِبْهَامِ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْحَنِيفُ هُوَ الَّذِي يَعْدِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى الإسلام الثامن: قال الربيع بن أنس: الْحَنِيفُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِصَلَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ يَقُولُ:
وَجَّهْتُ وَجْهِي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَقَدْ مَرَّ مِرَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: ذَلِكَ دِينُ الْمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ، فَالْقَيِّمَةُ نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ(32/244)
مِنَ الْقَيِّمَةِ إِمَّا الْمُسْتَقِيمَةُ أَوِ الْقَائِمَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنْ إِضَافَةِ النَّعْتِ إِلَى الْمَنْعُوتِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الْوَاقِعَةِ: 95] وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ الْكَمَالَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا حَصَلَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مَعًا، فَقَوْمٌ أَطْنَبُوا فِي الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ إِحْكَامِ الْأُصُولِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الطَّاعَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ مَا حَصَّلُوا الدِّينَ الْحَقَّ، وَقَوْمٌ حَصَّلُوا الْأُصُولَ وَأَهْمَلُوا الْفُرُوعَ، وَهُمُ الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا يَضُرُّ الذَّنْبُ مَعَ الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَطَّأَ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِخْلَاصِ فِي قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ وَمِنَ الْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ قَالَ:
وَذلِكَ الْمَجْمُوعُ كُلُّهُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيِ البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هذا الْمَجْمُوعُ دِينٌ وَاحِدٌ فَقَلْبُ دِينِكَ الِاعْتِقَادُ وَوَجْهُهُ الصَّلَاةُ وَلِسَانُهُ الْوَاصِفُ لِحَقِيقَتِهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّ بِاللِّسَانِ يَظْهَرُ قَدْرُ فَضْلِكَ وَبِالصَّدَقَةِ يَظْهَرُ قَدْرُ دِينِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَيِّمَ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَةِ مَصَالِحِ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: الْقَائِمُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِكَ عَاجِلًا وَآجِلًا هُوَ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْقَيِّمُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ فِي عَمَلِهِ»
وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا دُنْيَا مَنْ خَدَمَكِ فَاسْتَخْدِمِيهِ، وَمَنْ خَدَمَنِي فَاخْدِمِيهِ» ،
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُحْسِنِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ هُمْ مِثْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى عَبِيدِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالتَّسْبِيحِ لِخَالِقِهِمْ فَالْإِحْسَانُ مِنَ اللَّهِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْعُبُودِيَّةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَضَرَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ مُبَاهِيًا بِهِمْ: مَلَائِكَتِي هَؤُلَاءِ أَمْثَالُكُمْ سَبَّحُوا وَهَلَّلُوا، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ أَمْثَالِي أَحْسَنُوا/ وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ إِنِّي أُكْرِمُكُمْ يَا مَلَائِكَتِي بِمُجَرَّدِ مَا أَتَيْتُمْ بِهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونِي بِمُجَرَّدِ مَا فَعَلْتُ مِنَ الْإِحْسَانِ، فَأَنْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، أَقَامُوا الصَّلَاةَ أَتَوْا بِالْعُبُودِيَّةِ وَآتَوُا الزَّكَاةَ أَتَوْا بِالْإِحْسَانِ، فَأَنْتُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمْ صَبَرُوا عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَتَتَعَجَّبُ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَيَنْصِبُونَ إِلَيْهِمُ النَّظَّارَةَ، فَلِهَذَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] أَفَلَا يَكُونُ هَذَا الدِّينُ قَيِّمًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدِّينَ كَالنَّفْسِ فَحَيَاةُ الدِّينِ بِالْمَعْرِفَةِ ثُمَّ النَّفْسُ الْعَالِمَةُ بِلَا قُدْرَةٍ كَالزَّمِنِ الْعَاجِزِ، وَالْقَادِرَةُ بِلَا عِلْمٍ مَجْنُونَةٌ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ كَانَتِ النَّفْسُ كَامِلَةً فَكَذَا الصَّلَاةُ لِلدِّينِ كَالْعِلْمِ وَالزَّكَاةُ كَالْقُدْرَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سُمِّيَ الدِّينُ قَيِّمَةً وَرَابِعُهَا: وَهُوَ فَائِدَةُ التَّرْتِيبِ أَنَّ الْحَكِيمَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى أَسْهَلِ شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَالَ:
مُخْلِصِينَ ثُمَّ لَمَّا أَجَابُوهُ زَادَهُ، فَسَأَلَهُمُ الصَّلَاةَ الَّتِي بَعْدَ أَدَائِهَا تَبْقَى النَّفْسُ سَالِمَةً كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ لَمَّا أَجَابُوهُ وَأَرَادَ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ وَعَلِمَ أَنَّهَا تَشُقُّ عَلَيْهِمْ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْكُلَّ قَالَ:
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ من قال: الإيمان عبادة عَنْ مَجْمُوعِ الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ:
مَجْمُوعُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَمَلِ هُوَ الدِّينُ وَالدِّينُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ فَإِذًا مَجْمُوعُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْعَمَلِ هُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ قَالَ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أَيْ وَذَلِكَ(32/245)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
الْمَذْكُورُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الدِّينَ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آلِ عِمْرَانَ: 19] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيمَانَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَمَا كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آلِ عِمْرَانَ: 85] لَكِنَّ الْإِيمَانَ بِالْإِجْمَاعِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ إِذًا عَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي: قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] فَاسْتِثْنَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ، ظَهَرَ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ وَالْعَمَلَ هُوَ الْإِيمَانُ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعْرِفَةِ، أو لمجرد الإقرار أولهما معاو الجواب: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
وَذلِكَ إِلَى الْإِخْلَاصِ فَقَطْ؟ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَأَنْتُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِضْمَارِ فَتَقُولُونَ: الْمُرَادُ وَذَلِكَ الْمَذْكُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ الْإِضْمَارِ أَوْلَى، سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَجْمُوعَ هُوَ الدِّينُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الدِّينُ حَاصِلًا، وَكَانَتْ آثَارُهُ وَنَتَائِجُهُ مَعَهُ حَاصِلَةً أَيْضًا، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَجْمُوعُ، لَمْ يَكُنِ الدِّينُ الْقَيِّمُ حَاصِلًا، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ أَصْلَ الدِّينِ لَا يَكُونُ حَاصِلًا وَالنِّزَاعُ مَا وَقَعَ إِلَّا فِيهِ؟ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البينة (98) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْكُفَّارِ أَوَّلًا فِي قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [الْبَيِّنَةِ: 1] ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] أَعَادَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَبَدَأَ أَيْضًا بِحَالِ الْكُفَّارِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْخُلُودُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والثاني: أنهم شر الخلق، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَدَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الذِّكْرِ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُقَدِّمُ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَسَرُوا رَبَاعِيَّتُهُ
قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
وَلَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ
قَالَ: «اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»
فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: كَانَتِ الضَّرْبَةُ ثَمَّ عَلَى، وَجْهِ الصُّورَةِ، وَفِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ عَلَى وَجْهِ السِّيرَةِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاةُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَضَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ: كَمَا قَدَّمْتَ حَقِّي عَلَى حَقِّكَ فَأَنَا أَيْضًا أُقَدِّمُ حَقَّكَ عَلَى حَقِّ نَفْسِي، فَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَكْفُرُ وَمَنْ طَعَنَ فِي شَعْرَةٍ مِنْ شَعَرَاتِكَ يَكْفُرُ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَهْلُ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي اللَّهِ بَلْ فِي الرَّسُولِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي اللَّهِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَذْكُرَ سُوءَ حَالِهِمْ بَدَأَ أَوَّلًا فِي النِّكَايَةِ بِذِكْرِ مَنْ طَعَنَ فِي مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِذِكْرِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَثَانِيهَا: أَنَّ جِنَايَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَعْظَمَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ رَأَوْهُ صَغِيرًا وَنَشَأَ فِيمَا «1» بَيْنَهُمْ، ثُمَّ سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ وَأَبْطَلَ أَدْيَانَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ شَاقٌّ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِرِسَالَتِهِ وَيُقِرُّونَ بِمَبْعَثِهِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَنْكَرُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ فَكَانَتْ جنايتهم أشد.
__________
(1) لعل الأولى أن يقال: ونشأ يتيما بينهم، ولعل فيما صحفت عن يتيما.(32/246)
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذَكَرَ: كَفَرُوا بِلَفْظِ الْفِعْلِ: وَالْمُشْرِكِينَ بَاسْمِ الْفَاعِلِ؟ وَالْجَوَابُ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا كَافِرِينَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَمُقِرِّينَ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالْقِيَامَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَيُنْكِرُونَ/ الْقِيَامَةَ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ كُفْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَفَّ مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْعَذَابِ؟ وَالْجَوَابُ: يُقَالُ: بِئْرٌ جَهَنَّامٌ إِذَا كَانَ بَعِيدَ الْقَعْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ تَكَبَّرُوا طَلَبًا لِلرِّفْعَةِ فَصَارُوا إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ فِي حُسْنِ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّ الْإِسَاءَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ إِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَإِسَاءَةٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ أَقْبَحُ الْقِسْمَيْنِ وَالْإِحْسَانُ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ إِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَإِحْسَانٌ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْقِسْمَيْنِ، فَكَانَ إِحْسَانُ اللَّهِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَإِسَاءَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ أَقْبَحَ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَبِالشَّتْمِ تَعْزِيرٌ وَبِالْقَذْفِ حَدٌّ وَبِالسَّرِقَةِ قَطْعٌ، وَبِالزِّنَا رَجْمٌ، وَبِالْقَتْلِ قِصَاصٌ، بَلْ شَتْمُ الْمُمَاثِلِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، وَالنَّظَرُ الشَّزْرُ إِلَى الرَّسُولِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ، وَهُوَ نَارُ جَهَنَّمَ، فَإِنَّهَا نَارٌ فِي مَوْضِعٍ عَمِيقٍ مُظْلِمٍ هَائِلٍ لَا مَفَرَّ عَنْهُ الْبَتَّةَ، ثُمَّ كَأَنَّهُ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ رَجَاءُ الْفِرَارِ، فَهَلْ هُنَاكَ رَجَاءُ الْإِخْرَاجِ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ يَذُمُّونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا السبب في أنه لم يقل هاهنا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الثواب: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [البينة: 8] ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَزْيَدُ مِنْ غَضَبِهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ تَتَدَاخَلُ، أَمَّا الثَّوَابُ فَأَقْسَامُهُ لَا تَتَدَاخَلُ وَثَالِثُهَا:
رُوِيَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا دَاوُدُ حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، قَالَ: وَكَيْفَ أَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: اذْكُرْ لَهُمْ سَعَةَ رَحْمَتِي،
فَكَانَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: كَيْفَ الْقِرَاءَةُ فِي لَفْظِ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: قَرَأَ نَافِعٌ الْبَرِيئَةِ بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَالْقِيَاسُ فِيهَا الْهَمْزُ إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَمْزَهُ، كَالنَّبِيِّ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْخَابِيَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ كَالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا أَنَّ مَنْ هَمَزَ النَّبِيَّ كَانَ كَذَلِكَ وَتَرْكُ الْهَمْزِ فِيهِ أَجْوَدُ، وَإِنْ كَانَ الْهَمْزُ هُوَ الْأَصْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَرْفُوضِ الْمَتْرُوكِ وَهَمْزُ مَنْ هَمَزَ الْبَرِّيَّةَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْبَرَا الَّذِي هُوَ التُّرَابُ.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُ يُفِيدُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ أَيْ هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَّ الْبَرِيَّةِ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا، شَرٌّ مِنَ السُّرَّاقِ، لِأَنَّهُمْ سَرَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ، وَشَرٌّ مِنَ الْجُهَّالِ الْأَجْلَافِ، لِأَنَّ الْكِبْرَ مَعَ الْعِلْمِ يَكُونُ كُفْرَ عِنَادٍ فَيَكُونُ أَقْبَحَ.(32/247)