وَحَمَلَتْ كَمَا يُقَالُ: شَقَانِي الْحِمْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حِمْلٌ، وَإِذَا لَمْ تَزِرْ تِلْكَ النَّفْسُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ مِنْهَا ذَلِكَ فَكَيْفَ تَتَحَمَّلُ وِزْرَ غَيْرِهَا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ كَامِلَةً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى تَتِمَّةُ بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ/ أَنَّ سَيِّئَتَهُ لَا يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ أَحَدٌ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَسَنَةَ الْغَيْرِ لَا تُجْدِي نَفْعًا وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا لَا يَنَالُ خَيْرًا فَيُكْمِلُ بِهَا وَيُظْهِرُ أَنَّ الْمُسِيءَ لَا يَجِدُ بِسَبَبِ حَسَنَةِ الْغَيْرِ ثَوَابًا وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَحَدٌ عِقَابًا، وَفِيهِ أَيْضًا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ وَهُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَرِيبُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ أَيْضًا نافع فللإنسان شيء لم يسمع فِيهِ، وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] وَهِيَ فَوْقَ مَا سَعَى، الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنْ لَمْ يَسْعَ فِي أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدَقَةُ الْقَرِيبِ بِالْإِيمَانِ لَا يَكُونُ لَهُ صَدَقَتُهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ الْمُحْسِنَ بِالْأَمْثَالِ وَالْعَشَرَةِ وَبِالْأَضْعَافِ الْمُضَاعَفَةِ فَإِذَا أَتَى بِحَسَنَةٍ رَاجِيًا أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَمْثَالِ، فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ إِذَنْ حَمَلْتُمُ السَّعْيَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: سَعَى فِي كَذَا إِذَا أَسْرَعَ إِلَيْهِ، وَالسَّعْيُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا سَعى مَعْنَاهُ الْعَمَلُ يُقَالُ: سَعَى فُلَانٌ أَيْ عَمِلَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ: إِلَّا مَا سَعَى فِيهِ نَقُولُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا: لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ لَهُ عَيْنَ مَا سَعَى، بَلِ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا ثَوَابُ مَا سَعَى، أَوْ إِلَّا أَجْرُ مَا سَعَى، أَوْ يُقَالُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَا سَعَى مَحْفُوظٌ لَهُ مَصُونٌ عَنِ الْإِحْبَاطِ فَإِذَنْ لَهُ فِعْلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ الْكَافِرُ دُونَ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهُ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ لِلْإِنْسَانِ مَا سَعَى وَمَا لَمْ يَسْعَ وَهُوَ بَاطِلٌ إِذْ لَا حَاجَةَ إلى هذا التكلف بعد ما بَانَ الْحَقُّ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ فَقَوْلُهُ: مَا سَعى مُبْقًى عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعْنَاهُ لَهُ عَيْنُ مَا سَعَى مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نُقْصَانَ يَدْخُلُهُ ثُمَّ يُجْزَى بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: 7] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ (مَا) خَبَرِيَّةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ؟ نَقُولُ: كَوْنُهَا مَصْدَرِيَّةً أَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أَيْ سَوْفَ يُرَى الْمَسْعِيُّ، وَالْمَصْدَرُ لِلْمَفْعُولِ يَجِيءُ كَثِيرًا يُقَالُ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَوْ بَيَانُ كُلِّ عَمَلٍ، نَقُولُ: المشهور أنها لِكُلِّ عَمَلٍ فَالْخَيْرُ مُثَابٌ عَلَيْهِ وَالشَّرُّ مُعَاقَبٌ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْخَيْرَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلْإِنْسانِ فَإِنَّ اللَّامَ لعود المنافع وعلى لِعُودِ الْمَضَارِّ تَقُولُ: هَذَا لَهُ، وَهَذَا عَلَيْهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: بِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الْأَفْضَلُ كَجُمُوعِ السَّلَامَةِ تُذْكَرُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِنَاثُ مَعَ الذُّكُورِ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النَّجْمِ: 41] وَالْأَوْفَى لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَمَّا فِي السَّيِّئَةِ فَالْمِثْلُ أَوْ دُونَهُ الْعَفْوُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا مَا سَعى بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى السَّعْيِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا يَسْعَى، تَقُولُ النَّفْسُ إِنِّي أُصَلِّي غَدًا/ كَذَا رَكْعَةً وَأَتَصَدَّقُ بِكَذَا دِرْهَمًا، ثُمَّ يُجْعَلُ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِي الْآنَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُسْعَى وَلَهُ فِيهِ مَا يَسْعَى فِيهِ، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا قَدْ سَعَى وَحَصَلَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَأَمَّا تَسْوِيلَاتُ الشَّيْطَانِ وَعِدَاتُهُ فَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا ثُمَّ قال تعالى:(29/276)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
[سورة النجم (53) : الآيات 40 الى 41]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُكْشَفُ لَهُ مِنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُرِيهِ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ لِيَفْرَحَ بِهَا، أَوْ يَكُونُ يُرِي مَلَائِكَتَهُ وَسَائِرَ خَلْقِهِ لِيَفْتَخِرَ الْعَامِلُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَذْكُورٌ لِفَرَحِ الْمُسْلِمِ وَلِحُزْنِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ سَعْيَهُ يُرَى لِلْخَلْقِ، وَيُرَى لِنَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنْ رَأَى يَرَى فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 105] وَفِيهَا وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْعَمَلُ كَيْفَ يُرَى بَعْدَ وُجُودِهِ وَمُضِيِّهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرَاهُ عَلَى صُورَةٍ جَمِيلَةٍ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ صَالِحًا ثَانِيهِمَا: هُوَ عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ بَعِيدٍ فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يُرَى، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ كُلِّ مَعْدُومٍ فَبَعْدَ الْفِعْلِ يُرَى «1» وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ عَنِ الثَّوَابِ يُقَالُ: سَتَرَى إِحْسَانَكَ عِنْدَ الْمَلِكِ أَيْ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِمَا قَالَ بَعْدَهُ: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَاءُ ضَمِيرُ السَّعْيِ أَيْ ثُمَّ يُجْزَى الْإِنْسَانُ سَعْيَهُ بِالْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الْإِنْسَانِ: 12] وَيُقَالُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ بِحَرْفٍ يُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ الْخَيْرَ الْجَنَّةَ، وَيُحْذَفُ الْجَارُّ وَيُوصَلُ الْفِعْلُ فَيُقَالُ: جَزَاهُ اللَّهُ عَمَلَهُ الْخَيْرَ الْجَنَّةَ، هَذَا وَجْهٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْجَزَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ يُجْزَى جَزَاءً وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْجَزاءَ الْأَوْفى تَفْسِيرًا أَوْ بَدَلًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاءِ: 3] فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى، الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْجَزَاءُ الْأَوْفَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الصَّالِحِ، وَإِنْ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الْإِسْرَاءِ: 63] وَعَلَى مَا قِيلَ: يُجَابُ أَنَّ الْأَوْفَى بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَإِنَّ جَهَنَّمَ ضَرَرُهَا أَكْثَرُ بِكَثِيرٍ مَعَ نَفْعِ الْآثَامِ فَهِيَ فِي نَفْسِهَا أَوْفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (ثُمَّ) لِتَرَاخِي الْجَزَاءِ أَوْ لِتَرَاخِي الْكَلَامِ أَيْ ثُمَّ نَقُولُ يُجْزَاهُ فَإِنْ كَانَ لِتَرَاخِي الْجَزَاءِ فَكَيْفَ يُؤَخَّرُ الْجَزَاءُ عَنِ الصَّالِحِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّالِحُ؟ نَقُولُ: الْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ وَجَوَابُ السُّؤَالِ هُوَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالْأَوْفَى يَدْفَعُ مَا ذَكَرْتَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَوَّلِ زَمَانٍ يَمُوتُ الصَّالِحُ يَجْزِيهِ جَزَاءً عَلَى خَيْرِهِ وَيُؤَخِّرُ لَهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ أَوْ نَقُولُ الْأَوْفَى إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] وَهِيَ الْجَنَّةُ: وَزِيادَةٌ وَهِيَ الرُّؤْيَةُ فَكَأَنَّهُ/ تَعَالَى قَالَ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُرْزَقُ الرُّؤْيَةَ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَلِيقُ بِتَفْسِيرِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْأَوْفَى مُطْلَقٌ غَيْرُ مُبَيَّنٍ فَلَمْ يَقُلْ: أَوْفَى مِنْ كَذَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَوْفَى مِنْ كُلِّ وَافٍ وَلَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي بَيَانِ لَطَائِفَ فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: قَالَ فِي حَقِّ الْمُسِيءِ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
__________
(1) ثبت علميا أن أعمال الإنسان وغيره مثبتة كما هي على لوحات الأثير كالصورة الفوتوغرافية تماما وكذلك الأصوات فإنها تسجل في الموجات الأثيرية غير أنها تبتعد عنا بتقدم الزمان وقد استطاع العلماء سماع تلك الأصوات بمكبرات صوتية والراديو والتليفزيون أمثلة مصغرة لذلك وهذا من أدلة القدرة الباهرة ومن الأدلة على البعث والحساب، فمحال أن يكون حفظها عبثا.(29/277)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
[النجم: 38] وَهُوَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى عَدَمِ الْحِمْلِ عَنِ الْوَازِرَةِ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ الْوِزْرِ عَلَيْهَا مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ، لِجَوَازِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا وَيَمْحُوَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوِزْرَ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهَا غَيْرُهَا وَلَوْ قَالَ: لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ إِلَّا وِزْرَ نَفْسِهَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا تَزِرُ، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَلَمْ يَقُلْ:
لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَسْعَ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ لَهُ مَا سَعَى، وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى أَنَّ لَهُ مَا سَعَى، نَظَرًا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَالَ: فِي حَقِّ الْمُسِيءِ بِعِبَارَةٍ لَا تَقْطَعُ رَجَاءَهُ، وَفِي حَقِّ الْمُحْسِنِ بِعِبَارَةٍ تَقْطَعُ خَوْفَهُ، كُلُّ ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 42]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَيْضًا فِي الصُّحُفِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيَانُ الْمَعَادِ أَيْ لِلنَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وُقُوفٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ يَتَّصِلُ بِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: ثُمَّ يُجْزاهُ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَا تَرَى الْجَزَاءَ، وَمَتَى يَكُونُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُجَازِي الشَّكُورَ وَيَجْزِي الْكَفُورَ وَثَانِيهِمَا: الْمُرَادُ التَّوْحِيدُ، وَقَدْ فَسَّرَ الْحُكَمَاءُ أَكْثَرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الِانْتِهَاءُ وَالرُّجُوعُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ غَيْرَ أَنَّ فِي بَعْضِهَا تَفْسِيرَهُمْ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرٌ، فَنَقُولُ: هُوَ بَيَانُ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَوْجُودَاتِ الْمُمْكِنَةِ لَا تَجِدُ لَهَا بُدًّا مِنْ مُوجِدٍ، ثُمَّ إِنَّ مُوجِدَهَا رُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُمْكِنٌ آخَرُ كَالْحَرَارَةِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ أَوْ مِنَ النَّارِ فَيُقَالُ الشَّمْسُ وَالنَّارُ مُمْكِنَتَانِ فَمِمَّ وُجُودُهُمَا؟ فَإِنِ اسْتَنَدَتَا إِلَى مُمْكِنٍ آخَرَ لَمْ يَجِدِ الْعَقْلُ بُدًّا مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَيْرِ مُمْكِنٍ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَإِلَيْهِ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فَالرَّبُّ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَهَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مُوَافِقٌ لِلْمَنْقُولِ، فَإِنَّ
الْمَرْوِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ»
أَيِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ وُجُودُهُ بِمُوجِدٍ وَمِنْهُ كُلُّ وُجُودٍ،
وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ذُكِرَ الرَّبُّ فَانْتَهُوا»
وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ فَيُبَالِغُ وَيُفَسِّرُ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا الرُّجْعَى وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ حَتَّى قِيلَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] بِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُودِ، وَأَمَّا دَلِيلُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَقْلَ انْتَهَى إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ/ الْوُجُودِ لَمَا كَانَ مُنْتَهًى بَلْ يَكُونُ لَهُ مُوجِدٌ، فَالْمُنْتَهَى هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْعَقْلِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى هَذَا الْوَاجِبِ أَوْ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ فلا يثبت الواجب مَعْنًى غَيْرَ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَيَبْعُدُ إِذًا وُجُوبُهُ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبَانِ فِي الْوُجُودِ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَبْلَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ قَبْلَهُ الْوَاجِبُ فَهُوَ الْمُنْتَهَى وَهَذَانَ دَلِيلَانِ ذَكَرْتُهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فِي الْمُخَاطَبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ تَقْدِيرُهُ إِلَى رَبِّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ أَوِ الْعَاقِلُ ثَانِيهِمَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ بَيَانُ صِحَّةِ دِينِهِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ كَانَ يَدَّعِي رَبًّا وَإِلَهًا،
لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: «رَبِّيَ الَّذِي هُوَ أَحَدٌ وَصَمَدٌ»
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِذًا رَبُّكَ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَهُوَ رَبُّ الْأَرْبَابِ(29/278)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
وَمُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْكَافُ أَحْسَنُ مَوْقِعًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَهُوَ تَهْدِيدٌ بَلِيغٌ لِلْمُسِيءِ وَحَثٌّ شَدِيدٌ لِلْمُحْسِنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى يُفِيدُ الْأَمْرَيْنِ إِفَادَةً بَالِغَةً حَدَّ الْكَمَالِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنْ فَإِنَّ الْمُنْتَهَى إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ:
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 76- 83] وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: أَبَدًا إِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَى اللَّهِ
فَقَالَ:
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى الْمَوْعُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِلْعُمُومِ أَيْ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ مُنْتَهًى وَهُوَ مَبْدَأٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَقُولُ: مُنْتَهَى الْإِدْرَاكَاتِ الْمُدْرِكَاتِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ ثُمَّ يُمْعِنُ النَّظَرَ فَيَنْتَهِي إِلَى اللَّهِ فَيَقِفُ عنده ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 43]
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: عَلَى قَوْلِنَا: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ، هَذِهِ الْآيَاتُ مُثْبِتَاتٌ لِمَسَائِلَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ مِنْ جُمْلَتِهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَكِنْ يَقُولُ: هُوَ مُوجِبٌ لَا قَادِرٌ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ أَوْجَدَ ضِدَّيْنِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فِي مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَادِرٍ وَاعْتَرَفَ بِهِ كُلُّ عَاقِلٍ، وَعَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] بَيَانُ الْمَعَادِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ أَمْرِهِ فَهُوَ كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا ضَاحِكًا فَرِحًا وَفِي بَعْضِهَا بَاكِيًا مَحْزُونًا كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَضْحَكَ وَأَبْكى لَا مَفْعُولَ لَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُمَا مَسُوقَتَانِ لِقُدْرَةِ اللَّهِ لَا لِبَيَانِ الْمَقْدُورِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ بِيَدِهِ الْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يُرِيدُ مَمْنُوعًا وَمُعْطًى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَارَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُعَلَّلَانِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ أَنْ يُبْدِيَ فِي اخْتِصَاصِ الْإِنْسَانِ بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَجْهًا وَسَبَبًا، وَإِذَا لَمْ يُعَلَّلْ بِأَمْرٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ فَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَبَبُهُمَا اخْتِلَالُ الْمِزَاجِ وَخُرُوجُهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا فِي الضَّحِكِ أَمْرًا لَهُ الضَّحِكُ قَالُوا: قُوَّةُ التَّعَجُّبِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا يَبْهَتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ وَلَا يَضْحَكُ، وَقِيلَ: قُوَّةُ الْفَرَحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْرَحُ كَثِيرًا وَلَا يَضْحَكُ، وَالْحَزِينُ الَّذِي عِنْدَ غَايَةِ الْحُزْنِ يُضْحِكُهُ الْمُضْحِكُ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي الْبُكَاءِ، وَإِنْ قِيلَ لِأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا بِالْأُمُورِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الطَّبِيعِيُّونَ إِنَّ خُرُوجَ الدَّمْعِ مِنَ الْعَيْنِ عِنْدَ أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ لِمَاذَا؟ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيلٍ صَحِيحٍ، وَعِنْدَ الْخَوَاصِّ كَالَّتِي فِي الْمِغْنَاطِيسِ وَغَيْرِهَا يَنْقَطِعُ الطَّبِيعِيُّ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ أَوْضَاعِ الْكَوَاكِبِ يَنْقَطِعُ هُوَ وَالْمُهَنْدِسُ الَّذِي لَا يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلى قدرة الله تعالى وإرادته ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 44]
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44)(29/279)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)
وَالْبَحْثُ فِيهِ كَمَا فِي الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ بَيَّنَ خَاصَّةَ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنَ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ أَظْهَرُ وَعَنِ التَّعْلِيلِ أَبْعَدُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَدُونَهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ التَّعْلِيلِ وَهِيَ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَهُمَا صِفَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ أَيِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كَالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْمَوْتُ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُمْتَنِعُ مَيِّتًا، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَيَقُولُ الطَّبِيعِيُّ فِي الْحَيَاةِ لِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ، وَالْمِزَاجُ مِنْ أَرْكَانٍ مُتَضَادَّةٍ هِيَ النَّارُ وَالْهَوَاءُ وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَهِيَ متداعية إلى الانفكاك ومالا تَرْكِيبَ فِيهِ مِنَ الْمُتَضَادَّاتِ لَا مَوْتَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُتَضَادَّاتِ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ مُفَارَقَةَ مُجَاوِرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ وَمَزَجَ الْعَنَاصِرَ وَحَفِظَهَا مُدَّةً قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا مَاتَ فَلَيْسَ عَنْ ضَرُورَةٍ فَهُوَ بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى: فهو الذي أَمَاتَ وَأَحْيَا. فَإِنْ قِيلَ: مَتَى أَمَاتَ وَأَحْيَا حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بَلْ مُشَاهَدَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِنَاءً عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْيَا وَأَمَاتَ ثَانِيهَا: هُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ يُقَالُ: فُلَانٌ وَصَلَ وَاللَّيْلُ دَخَلَ إِذَا قَرُبَ مَكَانُهُ وَزَمَانُهُ، فَكَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ ثَالِثُهَا: أَمَاتَ أَيْ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْجُمُودَ فِي الْعَنَاصِرِ، ثُمَّ رَكَّبَهَا وَأَحْيَا أَيْ خَلَقَ الْحِسَّ والحركة فيها. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 45]
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45)
وَهُوَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَضَادَّاتِ الَّتِي تَتَوَارَدُ عَلَى النُّطْفَةِ فَبَعْضُهَا يُخْلَقُ ذَكَرًا، وَبَعْضُهَا أُنْثَى وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَهْمُ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ مِنَ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ فِي الْأُنْثَى، فَرُبَّ امْرَأَةٍ أَيْبَسُ مِزَاجًا مِنَ الرَّجُلِ، وَكَيْفَ وَإِذَا نَظَرْتَ فِي الْمُمَيِّزَاتِ/ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ تَجِدُهَا أُمُورًا عَجِيبَةً مِنْهَا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ، وَأَقْوَى مَا قَالُوا فِي نَبَاتِ اللِّحْيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الشُّعُورُ مُكَوَّنَةٌ مِنْ بخار دخاني يَنْحَدِرُ إِلَى الْمَسَامِّ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَامُّ فِي غَايَةِ الرُّطُوبَةِ وَالتَّحَلُّلِ كَمَا فِي مِزَاجِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ، لَا يَنْبُتُ الشَّعْرُ لِخُرُوجِ تِلْكَ الْأَدْخِنَةِ مِنَ الْمَسَامِّ الرَّطْبَةِ بِسُهُولَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَكَوَّنَ شعرا، وَإِذَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْيُبُوسَةِ وَالتَّكَاثُفِ يَنْبُتُ الشَّعْرُ لِعُسْرِ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَخْرَجِ الضَّيِّقِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَوَادَّ تَنْجَذِبُ إِلَى مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ فَتَنْدَفِعُ، إِمَّا إِلَى الرَّأْسِ فَتَنْدَفِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ كَقُبَّةٍ فَوْقَ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ فَتَتَصَاعَدُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْمَوَادُّ، فَلِهَذَا يَكُونُ شَعْرُ الرَّأْسِ أَكْثَرَ وَأَطْوَلَ، وَلِهَذَا فِي الرَّجُلِ مَوَاضِعُ تَنْجَذِبُ إِلَيْهَا الْأَبْخِرَةُ وَالْأَدْخِنَةُ، مِنْهَا الصَّدْرُ لِحَرَارَةِ الْقَلْبِ وَالْحَرَارَةُ تَجْذِبُ الرُّطُوبَةَ كَالسِّرَاجِ لِلزَّيْتِ، وَمِنْهَا بِقُرْبِ آلَةِ التَّنَاسُلِ لِأَنَّ حَرَارَةَ الشَّهْوَةِ تَجْذِبُ أَيْضًا، وَمِنْهَا اللِّحْيَانِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةُ الْحَرَكَةِ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةُ أَيْضًا جَاذِبَةٌ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِتَلَازُمِ نَبَاتِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَآلَةِ التَّنَاسُلِ فَإِنَّهَا إِذَا قُطِعَتْ لَمْ تَنْبُتِ اللِّحْيَةُ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سِنِّ الصِّبَا وَسِنِّ الشَّبَابِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ؟ فَفِي بَعْضِهَا يُبْهَتُ وَفِي بَعْضِهَا يُتَكَلَّمُ بِأُمُورٍ وَاهِيَةٍ، وَلَوْ فَوَّضَهَا إِلَى حِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ لَكَانَ أَوْلَى، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ كَمَا قَالَ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى [النجم: 43] وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَفِي الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ بَعِيدًا، لَكِنْ رُبَّمَا يَقُولُ بِهِ جَاهِلٌ، كَمَا قَالَ مَنْ حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَةِ: 258] فَأَكَّدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفَصْلِ، وَأَمَّا خَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ النُّطْفَةِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَلَمْ يُؤَكِّدْ بِالْفَصْلِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْمِ: 48] حَيْثُ(29/280)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
كَانَ الْإِغْنَاءُ عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ بِفِعْلِهِمْ كَمَا قَالَ قَارُونُ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [الْقَصَصِ: 78] وَلِذَلِكَ قَالَ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النَّجْمِ: 49] لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونَ رَبُّ مُحَمَّدٍ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى فَأَكَّدَ فِي مَوَاضِعِ اسْتِبْعَادِهِمُ النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِسْنَادُ وَلَمْ يُؤَكِّدْهُ فِي غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى اسْمَانِ هُمَا صِفَةٌ أَوِ اسْمَانِ لَيْسَا بِصِفَةٍ؟ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الثَّانِي وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ صِفَاتٌ، فَالذَّكَرُ كَالْحَسَنِ وَالْعَزَبِ وَالْأُنْثَى كَالْحُبْلَى وَالْكُبْرَى وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْحُبْلَى فِي رَأْيٍ لِأَنَّهَا حِيَالُهَا أُنْشِئَتْ لَا كَالْكُبْرَى، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا كَالْكُبْرَى فِي رَأْيٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ أَمْرٌ كَالْعَالِمِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ لَهُ عِلْمٌ وَالْمُتَحَرِّكُ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ حَرَكَةٌ بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ، فَإِنَّ الشَّجَرَ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ أَمْرٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَالذَّكَرُ اسْمٌ يُقَالُ لِشَيْءٍ لَهُ أَمْرٌ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالشَّجَرِ، يُقَالُ جَاءَنِي شَخْصٌ ذَكَرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ ذَكَرٌ، وَلَا يُقَالُ جِسْمٌ شَجَرٌ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لَهُ فِعْلٌ، وَالصِّفَةُ فِي الْغَالِبِ لَهُ فِعْلٌ كَالْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ/ وَالْعَزَبِ وَالْكُبْرَى وَالْحُبْلَى، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَتَبَدَّلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَا يُصَاغُ لَهَا أَفْعَالٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لِمَا يُتَوَقَّعُ لَهُ تَجَدُّدٌ فِي صُورَةِ الْغَالِبِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْإِضَافِيَّاتِ أَفْعَالٌ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَّذِي يَتَبَدَّلُ، وَوُجِدَ لِلْإِضَافِيَّاتِ الْمُتَبَدِّلَةِ أَفْعَالٌ يُقَالُ: وَاخَاهُ وَتَبَنَّاهُ لَمَّا لَمْ يكن مثبتا بتكلف فقبل التبدل.
[سورة النجم (53) : آية 46]
مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ قِطْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تُمْنى مِنْ أَمْنَى الْمَنِيَّ إِذَا نَزَلَ أَوْ مَنِيَ يَمْنَى إِذَا قَدَرَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ النُّطْفَةَ جِسْمٌ مُتَنَاسِبُ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَعْضَاءً مُخْتَلِفَةً وَطِبَاعًا مُتَبَايِنَةً وَخَلْقُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهَا أَعْجَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ كَمَا لَمْ يَقْدِرْ أحد على أن يدعي خلق السموات، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزُّخْرُفِ: 87] كَمَا قَالَ:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] . ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 47]
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَهِيَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَشْرِ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بَعْدَ طُولِ التَّفَكُّرِ وَالسُّؤَالِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْهِدَايَةَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ، أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْسَ الشَّرِيفَةَ لَا الْأَمَّارَةَ تُخَالِطُ الْأَجْسَامَ الْكَثِيفَةَ الْمُظْلِمَةَ، وَبِهَا كَرَّمَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] غَيْرَ خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً، وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً، وَالْمُضْغَةِ عِظَامًا، وَبِهَذَا الْخَلْقِ الْآخَرِ تَمَيَّزَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَشَارَكَ الْمَلَكَ فِي الْإِدْرَاكَاتِ فكما قال هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بَعْدَ خَلْقِ النُّطْفَةِ قَالَ هَاهُنَا: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى فَجَعَلَ نَفْخَ الرُّوحِ نَشْأَةً أُخْرَى كَمَا جَعَلَهُ هُنَالِكَ إِنْشَاءً آخَرَ، وَالَّذِي أَوْجَبَ الْقَوْلَ بِهَذَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: 42](29/281)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِبَيَانِ الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النَّجْمِ: 41] كَذَلِكَ فَيَكُونُ ذِكْرُ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِعَادَةً، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْمِ: 48] وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَنَفَخَ فِيهِمَا الرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ الشَّرِيفَةَ ثُمَّ أَغْنَاهُ بِلَبَنِ الْأُمِّ وَبِنَفَقَةِ الْأَبِ فِي صِغَرِهِ، ثُمَّ أَقْنَاهُ بِالْكَسْبِ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَتِ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى لِلْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 20] نَقُولُ الْآخِرَةُ مِنَ الْآخِرِ لَا مِنَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْآخِرَ أَفْعَلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ لَمَّا ذُكِرَ الْبَدْءُ حُمِلَ عَلَى الْإِعَادَةِ وَهَاهُنَا ذُكِرَ خَلْقُهُ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ثم قال: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ الْإِعَادَةُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ عَلَيْهِ/ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ عَقْلًا، فَإِنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ الْجَزَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَشْرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ عَقْلًا الْإِعَادَةُ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بهذا القول، ونقول فيه ووجهان الْأَوَّلُ: عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى [يس: 12] فَعَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِالْعَقْلِ وَلَا بِالشَّرْعِ الثَّانِي: عَلَيْهِ لِلتَّعْيِينِ فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ بَيْنَ جَمْعٍ وَحَاوَلُوا أَمْرًا وَعَجَزُوا عَنْهُ، يُقَالُ: وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أَنْ تَفْعَلَهُ أَيْ تَعَيَّنَتْ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: النَّشْأَةَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كالضربة على وزن فعلة وهي للمرة، نقول: ضَرَبْتُهُ ضَرْبَتَيْنِ، أَيْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، يَعْنِي النشأة مرة أخرى عليه، وقرئ النشأة بِالْمَدِّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالَةٍ كَالْكَفَالَةِ، وَكَيْفَمَا قُرِئَ فَهِيَ مِنْ نَشَأَ، وَهُوَ لَازِمٌ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: عَلَيْهِ الْإِنْشَاءُ لَا النَّشْأَةُ، نَقُولُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْجَزْمَ يَحْصُلُ مِنْ هَذَا بِوُجُودِ الْخَلْقِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ الْإِنْشَاءُ رُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: الْإِنْشَاءُ مِنْ بَابِ الْإِجْلَاسِ، حَيْثُ يُقَالُ فِي السَّعَةِ أَجْلَسْتُهُ فَمَا جَلَسَ، وَأَقَمْتُهُ فَمَا قام فيقال: أنشأ وَمَا نَشَأَ أَيْ قَصَدَهُ لِيَنْشَأَ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ أَيْ يُوجِدُ النَّشْءَ وَيُحَقِّقُهُ بِحَيْثُ يُوجَدُ جَزْمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ مَرَّةً أُخْرَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ الْأُخْرَى فَرْقٌ؟
نَقُولُ: نَعَمْ إِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةُ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ النَّشْءُ قَدْ عُلِمَ أَوَّلًا، وَإِذَا قَالَ: عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى يَكُونُ قَدْ عُلِمَ حَقِيقَةُ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى، فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ عَلَيْهِ. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 48]
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48)
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فَنَقُولُ: أَغْنى يَعْنِي دَفَعَ حَاجَتَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ مُحْتَاجًا لِأَنَّ الْفَقِيرَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَنِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَبْقَ فَقِيرًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَهُوَ غَنِيٌّ مُطْلَقًا، وَمَنْ لَمْ يَبْقَ فَقِيرًا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ غَنِيٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»
وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا أَتَاهُ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وقوله تعالى:
أَقْنى مَعْنَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ الْإِقْنَاءُ فَوْقَ الْإِغْنَاءِ، وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْحُرُوفَ مُتَنَاسِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ مَخْرَجُ الْقَافِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْغَيْنِ جَعَلَ الْإِقْنَاءَ لِحَالَةٍ فَوْقَ الْإِغْنَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِغْنَاءُ هُوَ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ، وَهَدَاهُ إِلَى الِارْتِضَاعِ فِي صِبَاهُ أَوْ هُوَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِمَا وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ الْحَاجَةَ فَهُوَ إِغْنَاءٌ، وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ إِقْنَاءٌ. ثُمَّ قَالَ تعالى:(29/282)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
[سورة النجم (53) : آية 49]
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ قَوْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى بِكَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاجْتِهَادِهِ فَمَنْ كَسَبَ اسْتَغْنَى، وَمَنْ كَسِلَ افْتَقَرَ وَبَعْضَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِالْبَخْتِ، وَذَلِكَ بِالنُّجُومِ، فَقَالَ:
هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَإِنَّ قَائِلَ الْغِنَى بِالنُّجُومِ غَالِطٌ، فَنَقُولُ هُوَ رَبُّ النُّجُومِ وَهُوَ مُحَرِّكُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَقَوْلُهُ: هُوَ/ رَبُّ الشِّعْرى لِإِنْكَارِهِمْ ذَلِكَ أُكِّدَ بِالْفَصْلِ، وَالشِّعْرَى نَجْمٌ مُضِيءٌ، وَفِي النُّجُومِ شِعْرَيَانِ إِحْدَاهُمَا شَامِيَّةٌ وَالْأُخْرَى يَمَانِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ المراد اليمانية لأنهم كانوا يعبدونها. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 50]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (50)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ: أَغْنى وَأَقْنى [النجم: 48] وَكَانَ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا بِعَطَاءِ الشِّعْرَى وَجَبَ الشُّكْرُ لِمَنْ قَدْ أَهْلَكَ وَكَفَى لَهُمْ دليلا حال عاد وثمود وغيرهم. وعاداً الْأُولى قِيلَ: بِالْأُولَى تَمَيَّزَتْ مِنْ قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ، وَقِيلَ: الْأُولَى لِبَيَانِ تَقَدُّمِهِمْ لَا لِتَمْيِيزِهِمْ، تَقُولُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ جَاءَنِي فَتَصِفُهُ لَا لِتُمَيِّزَهُ وَلَكِنْ لِتُبَيِّنَ عِلْمَهُ، وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ عَادًا الْأُولَى بِكَسْرِ نُونِ التَّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ الساكنين، وعاد الْأُولَى بِإِسْقَاطِ نُونِ التَّنْوِينِ أَيْضًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كقراءة عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:
1، 2] وعاداً الْأُولى بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي اللَّامِ وَنَقْلِ ضَمَّةِ الْهَمْزَةِ إلى اللام وعاد الؤلي بهمزة الواو وقرأ هذا القارئ عَلى سُوقِهِ وَدَلِيلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ هَذَا فِي مَوْضِعِ الْمُوقَدَةُ ومُؤْصَدَةٌ لِلضَّمَّةِ وَالْوَاوُ فَهِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تُجْزِي عَلَى الْهَمْزَةِ، وَكَذَا فِي (سُؤْقِهِ) لِوُجُودِ الْهَمْزَةِ فِي الْأَصْلِ، وَفِي مُوسَى وَقَوْلُهُ لَا يَحْسُنُ. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 51]
وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
يَعْنِي وَأَهْلَكَ ثَمُودَ وَقَوْلُهُ: فَما أَبْقى عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ أَيْ فَمَا أَبْقَى عَلَيْهِمْ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: فَمَا أَبْقَاهُمْ أَيْ فَما أَبْقى مِنْهُمْ أَحَدًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحافة: 8] وَتَمَسَّكَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ ثَقِيفًا من ثمود بقوله تعالى: فَما أَبْقى.
[سورة النجم (53) : آية 52]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَقَوْمَ نُوحٍ أَيْ أَهْلَكَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَالْمَسْأَلَةُ مشهورة في قبل وبعد تُقْطَعُ عَنِ الْإِضَافَةِ فَتَصِيرُ كَالْغَايَةِ فَتُبْنَى عَلَى الضَّمَّةِ. أَمَّا الْبِنَاءُ فَلِتَضَمُّنَهُ الْإِضَافَةَ، وَأَمَّا عَلَى الضَّمَّةِ فَلِأَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ عَلَى الْفُتْحَةِ لَكَانَ قَدْ أَثْبَتَ فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْإِعْرَابِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ظُرُوفُ زَمَانٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّصْبَ وَالْفَتْحَ مِثْلَهُ، وَلَوْ بُنِيَتْ عَلَى الْكَسْرِ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْإِعْرَابُ وَهُوَ الْجَرُّ بِالْجَارِّ فَبُنِيَ عَلَى مَا يُخَالِفُ حَالَتَيْ إِعْرَابِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أَمَّا الظُّلْمُ فَلِأَنَّهُمْ هُمُ الْبَادِئُونَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ فِيهِ
«وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»
وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ، وَأَمَا أَطْغَى فَلِأَنَّهُمْ سَمِعُوا الْمَوَاعِظَ وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ(29/283)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
وَلَمْ يَرْتَدِعُوا حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ، وَلَا يَدْعُو نَبِيٌّ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بَعْدَ الْإِصْرَارِ الْعَظِيمِ، وَالظَّالِمُ وَاضِعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالطَّاغِي الْمُجَاوِزُ الْحَدَّ فَالطَّاغِي أَدْخَلُ فِي الظُّلْمِ فَهُوَ كَالْمُغَايِرِ وَالْمُخَالِفِ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ مُغَايِرٌ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ زَائِدٍ، وَكَذَا الْمُغَايِرُ وَالْمُضَادُّ وَكُلُّ ضِدٍّ غَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ غَيْرٍ ضِدًّا، وَعَلَيْهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ الظَّالِمِ/ بِالْهَلَاكِ، فَإِذَا قَالَ: هُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ فَأُهْلِكُوا يَقُولُ الظَّالِمُ هُمْ كَانُوا أَظْلَمَ فَأُهْلِكُوا لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي الظُّلْمِ، وَنَحْنُ مَا بَالَغْنَا فَلَا نَهْلَكُ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ أُهْلِكُوا لِأَنَّهُمْ ظَلَمَةٌ لَخَافَ كُلُّ ظَالِمٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَظْلَمَ؟ نَقُولُ: الْمَقْصُودُ بَيَانُ شِدَّتِهِمْ وَقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ الشَّدِيدِ إِلَّا بِتَمَادِيهِمْ وَطُولِ أَعْمَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنَ الْعُمْرِ وَالْقُوَّةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] . وقوله تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 53]
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53)
الْمُؤْتَفِكَةَ الْمُنْقَلِبَةُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: قرئ: والمؤتفكات والمشهور فيه أنها قرئ قَوْمِ لُوطٍ لَكِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاضِعُ ائْتَفَكَتْ فَهِيَ مُؤْتَفِكَاتٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ كُلُّ مَنِ انْقَلَبَتْ مَسَاكِنُهُ وَدَثَرَتْ أَمَاكِنُهُ وَلِهَذَا خَتَمَ الْمُهْلِكِينَ بِالْمُؤْتَفِكَاتِ كَمَنْ يَقُولُ: مَاتَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَهْوى أَيْ أَهْوَاهَا بِمَعْنَى أَسْقَطَهَا، فَقِيلَ: أَهْوَاهَا مِنَ الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ حَمَلَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَنَاحِهِ، ثُمَّ قَلَبَهَا، وَقِيلَ: كَانَتْ عِمَارَتُهُمْ مُرْتَفِعَةً فَأَهْوَاهَا بِالزَّلْزَلَةِ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى عَلَى مَا قُلْتُ: كَقَوْلِ الْقَائِلِ وَالْمُنْقَلِبَةُ قَلَبَهَا وَقَلْبُ الْمُنْقَلِبِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، نَقُولُ: لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُنْقَلِبَةُ مَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا بَلِ اللَّهُ قَلَبَهَا فَانْقَلَبَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْمُؤْتَفِكَةِ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ فِي الذِّكْرِ، وَقَالَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ نُوحٍ اسْمَ الْقَوْمِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمُودَ اسْمُ الْمَوْضِعِ فَذَكَرَ عَادًا بَاسِمِ الْقَوْمُ، وَثَمُودَ بَاسِمِ الْمَوْضِعِ، وَقَوْمَ نُوحٍ بِاسْمِ الْقَوْمِ وَالْمُؤْتَفِكَةَ بِاسْمِ الْمَوْضِعِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يُمْكِنُهُمْ صَوْنَ أَمَاكِنِهِمْ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْمَوْضِعَ يُحْصِنُ الْقَوْمَ عَنْهُ فَإِنَّ فِي الْعَادَةِ تَارَةً يَقْوَى السَّاكِنُ فَيَذُبُّ عَنْ مَسْكَنِهِ وَأُخْرَى يَقْوَى الْمَسْكَنُ فَيَرُدُّ عَنْ سَاكِنِهِ وَعَذَابُ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي آيَتَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْحِ: 20] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 2] فَفِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْدِرِ السَّاكِنُ عَلَى حِفْظِ مَسْكَنِهِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْوَ الْحِصْنُ عَلَى حِفْظِ السَّاكِنِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَادًا وَثَمُودَ وَقَوْمَ نُوحٍ، كَانَ أَمْرُهُمْ مُتَقَدِّمًا، وَأَمَاكِنُهُمْ كَانَتْ قَدْ دَثَرَتْ، وَلَكِنَّ أَمْرَهُمْ كَانَ مَشْهُورًا مُتَوَاتِرًا، وَقَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ وَآثَارُ الِانْقِلَابِ فِيهَا ظَاهِرَةً، فَذَكَرَ الْأَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي كل قوم. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 54]
فَغَشَّاها مَا غَشَّى (54)(29/284)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا مَفْعُولًا وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا يُقَالُ: ضَرَبَهُ مَنْ ضَرَبَهُ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الذي غش هو الله تعالى فيكون كقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشَّمْسِ: 5] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى سَبَبِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَيْ/ غَشَّاهَا عَلَيْهِمُ السَّبَبُ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ، يُقَالُ لِمَنْ أَغْضَبَ مَلِكًا بكلام فضربه الملك كلامك الذي ضربك. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 55]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)
قِيلَ هَذَا أَيْضًا مِمَّا فِي الصُّحُفِ، وَقِيلَ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْخِطَابُ عَامٌّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بِأَيِّ النِّعَمِ أَيُّهَا السَّامِعُ تَشُكُّ أَوْ تُجَادِلُ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكَافِرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَتَمارى لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] يَعْنِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِمْكَانُ الشَّكِّ، حَتَّى أَنَّ فَارِضًا لَوْ فُرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَشُكُّ أَوْ يُجَادِلُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ لَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْمِرَاءُ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَالْعُمُومُ هُوَ الصَّحِيحُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْفِ: 54] فَإِنْ قِيلَ: الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ نِعَمٌ وَالْآلَاءُ نِعَمٌ، فَكَيْفَ آلَاءُ رَبِّكَ؟ نَقُولُ: لَمَّا عَدَّ مِنْ قَبْلُ النِّعَمَ وَهُوَ الْخَلْقُ مِنَ النُّطْفَةِ وَنَفْخُ الرُّوحِ الشَّرِيفَةِ فِيهِ وَالْإِغْنَاءُ وَالْإِقْنَاءُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرَ بِنِعَمِهِ أُهْلِكَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فَيُصِيبُكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ الَّذِينَ تَمَارَوْا مِنْ قَبْلُ، أَوْ تَقُولُ: لَمَّا ذُكِرَ الْإِهْلَاكُ، قَالَ لِلشَّاكِّ: أَنْتَ مَا أَصَابَكَ الَّذِي أَصَابَهُمْ وَذَلِكَ بِحِفْظِ اللَّهِ إِيَّاكَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] في مواضع. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 56]
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ النُّذُرِ الْأُولَى ثَانِيهَا:
الْقُرْآنُ ثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُهْلَكِينَ، وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ هَذَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مُنْذِرَةٌ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فالنذير هو المنذر و (من) لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَعَلَى قَوْلِنَا: الْمُرَادُ هُوَ الْقُرْآنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَكَوْنُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقُرْآنِ بَعِيدٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا مَعْنًى: فَلِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصُّحُفِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَتِلْكَ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم: 55] قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ إِشَارَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللُّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِثْبَاتًا لِلرِّسَالَةِ، وَقَالَ بَعْدَ ذلك: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] إِشَارَةً إِلَى الْقِيَامَةِ لِيَكُونَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُرَتَّبَةِ إِثْبَاتُ أُصُولٍ ثَلَاثٍ مُرَتَّبَةٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ هُوَ اللَّهُ وَوَحْدَانِيَّتُهُ ثُمَّ الرَّسُولُ وَرِسَالَتُهُ ثُمَّ الْحَشْرُ وَالْقِيَامَةُ، وَأَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ النَّذِيرَ إِنْ كَانَ كَامِلًا، فَمَا ذَكَرَهُ مِنْ حِكَايَةِ الْمُهْلَكِينَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَيَكُونُ/ عَلَى هَذَا مِنْ بَقِيَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّبْعِيضِ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا جَرَى وَنُبَذٌ مِمَّا وَقَعَ، أَوْ يَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، بِمَعْنَى هَذَا إِنْذَارٌ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، يُقَالُ: هَذَا الْكِتَابُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ فُلَانٍ وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَيْسَ ذِكْرُ الْأُولَى لِبَيَانِ الْمَوْصُوفِ بِالْوَصْفِ وَتَمْيِيزِهِ عَنِ النُّذُرِ الْآخِرَةِ كَمَا يُقَالُ: الْفِرْقَةُ الْأُولَى احْتِرَازًا عَنِ الْفِرْقَةِ الْأَخِيرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الوصف(29/285)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
لِلْمَوْصُوفِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ جَاءَنِي فَيَذْكُرُ الْعَالِمَ، إِمَّا لِبَيَانِ أَنَّ زَيْدًا عَالِمٌ غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَذْكُرُهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَتَأْتِي بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ، وَإِمَّا لِمَدْحِ زَيْدٍ بِهِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْأَوْلَى عَلَى الْعَوْدِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ النُّذُرُ وَلَوْ كَانَ لِمَعْنَى الْجَمْعِ لَقَالَ: مِنَ النُّذُرِ الْأَوَّلِينَ يُقَالُ مِنَ الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 57]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الْوَاقِعَةِ: 1] وَيُقَالُ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا مَا إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ صَارَ فَاعِلًا لِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: فَعَلَ الْفَاعِلُ أَيِ الَّذِي كَانَ فَاعِلًا صَارَ فَاعِلًا مَرَّةً أُخْرَى، يُقَالُ: حَاكَهُ الْحَائِكُ أَيْ مَنْ شَغَلَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مَا يَصِيرُ الْفَاعِلُ فَاعِلًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ، وَمِنْهُ
يُقَالُ: «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ»
وَإِذَا غَصَبَ الْعَيْنَ غَاصِبٌ ضَمِنَهُ، فَقَوْلُهُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ قَرُبَتِ السَّاعَةُ الَّتِي كَلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ قُرْبُهَا فَهِيَ كَائِنَةٌ قَرِيبَةٌ وَازْدَادَتْ فِي الْقُرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قرب وقوعها وأزفت فَاعِلُهَا فِي الْحَقِيقَةِ الْقِيَامَةُ أَوِ السَّاعَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَزِفَتِ الْقِيَامَةُ الْآزِفَةُ أَوِ السَّاعَةُ أَوْ مثلها. وقوله تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 58]
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَا مُظْهِرَ لَهَا إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ يَعْلَمُهَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَإِظْهَارِهِ إِيَّاهَا لَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَافِ:
187] . ثَانِيهَا: لَا يَأْتِي بِهَا إِلَّا اللَّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: 17] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: (مِنْ) زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا غَيْرُ اللَّهِ كَاشِفَةٌ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى النَّفْيِ فَتُؤَكِّدُ مَعْنَاهُ، تَقُولُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ وَمَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ كَاشِفَةٍ دُونَ اللَّهِ، فَيَكُونُ نَفْيًا عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَوَاشِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ بَلْ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ نَفْسٌ تَكْتَشِفُهَا أَيْ تُخْبِرُ عَنْهَا كَمَا هِيَ وَمَتَى وَقْتُهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي مَنْ يَكْشِفُهَا فَإِنَّمَا يَكْشِفُهَا مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ يُقَالُ: كَشْفُ الْأَمْرِ مِنْ زيد، ودون يَكُونُ بِمَعْنَى غَيْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] أَيْ غَيْرَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَاشِفَةٌ صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ أَيْ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ، وَقِيلَ هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي الْعَلَّامَةِ وَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ بِأَنَّهُ نَفْيٌ أَنْ يَكُونَ لَهَا كَاشِفَةٌ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْكَاشِفِ الْفَائِقِ نَفْيُ/ نَفْسِ الْكَاشِفِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَشَفَهَا أَحَدٌ لَكَانَ كَاشِفًا بِالْوَجْهِ الْكَامِلِ، فَلَا كَاشِفَ لَهَا وَلَا يَكْشِفُهَا أَحَدٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] مِنْ حَيْثُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا مُبَالِغًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِهِ ظَالِمًا، وَقُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّهُ لَوْ ظَلَمَ عَبِيدَهُ الضُّعَفَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَكَانَ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَلَيْسَ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ فَلَا يَظْلِمُهُمْ أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْتَ: إِنْ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ كَاشِفَةٌ، فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى الْأَشْهَرِ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسًا لَهَا كَاشِفَةٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: لَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ قَالَ الله(29/286)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
تَعَالَى: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقَةُ. الثَّانِي: لَيْسَ هُوَ صَرِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَجُوزُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ نَفْسًا الثَّالِثُ: الِاسْتِثْنَاءُ الْكَاشِفُ المبالغ. ثم قال تعالى:
[سورة النجم (53) : آية 59]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
قِيلَ: مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثِ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حَشْرِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ العظام. بعد الفساد.
[سورة النجم (53) : آية 60]
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60)
وقوله تعالى: وَتَضْحَكُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَتَضْحَكُونَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [الزُّخْرُفِ: 47] فِي حَقِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا هُمْ أَيْضًا يَضْحَكُونَ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارًا عَلَى مُطْلَقِ الضَّحِكِ مَعَ سَمَاعِ حَدِيثِ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَتَضْحَكُونَ وَقَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَرُبَتْ، فَكَانَ حَقًّا أَنْ لَا تَضْحَكُوا حِينَئِذٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَبْكُونَ أَيْ كَانَ حَقًّا لَكُمْ أَنْ تَبْكُوا مِنْهُ فَتَتْرُكُونَ ذَلِكَ وَتَأْتُونَ بضده.
[سورة النجم (53) : آية 61]
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أَيْ غَافِلُونَ، وَذُكِرَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ دَائِمَةٌ، وَأَمَّا الضَّحِكُ وَالْعَجَبُ فَهُمَا أَمْرَانِ يَتَجَدَّدَانِ وَيَعْدَمَانِ.
[سورة النجم (53) : آية 62]
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اسْجُدُوا شُكْرًا عَلَى الْهِدَايَةِ وَاشْتَغِلُوا بِالْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِمَّا لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَإِمَّا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، فَقَالَ: وَاعْبُدُوا أَيِ ائْتُوا بِالْمَأْمُورِ، وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ، وَهَذَا يُنَاسِبُ السَّجْدَةَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ مُنَاسِبَةً أَشَدَّ وَأَتَمَّ مِمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.(29/287)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القمر
خمسون وخمس آيات مكية
[سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
أَوَّلُ السُّورَةِ مُنَاسِبٌ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النَّجْمِ: 57] فَكَأَنَّهُ أَعَادَ ذَلِكَ مَعَ الدَّلِيلِ، وَقَالَ قُلْتُ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وَهُوَ حَقٌّ، إِذِ الْقَمَرُ انْشَقَّ، وَالْمُفَسِّرُونَ بِأَسْرِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَحَصَلَ فِيهِ الِانْشِقَاقُ، وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَلَى حَدِيثِ الِانْشِقَاقِ،
وَفِي الصَّحِيحِ خَبَرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الِانْشِقَاقِ بِعَيْنِهَا مُعْجِزَةً، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَشَقَّهُ وَمَضَى،
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ سَيَنْشَقُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَلْسَفِيُّ يَمْنَعُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَنْ يُجَوِّزُهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الذَّاهِبُ، لِأَنَّ الِانْشِقَاقَ أَمْرٌ هَائِلٌ، فَلَوْ وَقَعَ لَعَمَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، نَقُولُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَتَحَدَّى بِالْقُرْآنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا نَأْتِي بِأَفْصَحِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ، وَعَجَزُوا عَنْهُ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَتَمَسَّكُ بِمُعْجِزَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَنْقُلْهُ الْعُلَمَاءُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُونَ فَتَرَكُوهُ، لِأَنَّ التَّوَارِيخَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُنَجِّمُ، وَهُوَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ قَالُوا: بِأَنَّهُ مِثْلُ خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَظُهُورِ شَيْءٍ فِي الْجَوِّ عَلَى شَكْلِ نِصْفِ الْقَمَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكُوا حِكَايَتَهُ فِي تَوَارِيخِهِمْ، وَالْقُرْآنُ أَدَلُّ دَلِيلٍ وَأَقْوَى مُثْبِتٍ لَهُ، وَإِمْكَانُهُ لَا يُشَكُّ فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ وُقُوعِهِ، وَحَدِيثُ امْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ حَدِيثُ اللِّئَامِ، وَقَدْ ثَبَتَ جواز الخرق والتخريب على السموات، وذكرناه مرارا فلا نعيده. وقوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 2]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
تَقْدِيرُهُ: وَبَعْدَ هَذَا إِنْ يَرَوْا آيَةً يَقُولُوا سِحْرٌ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا آيَاتٍ أَرْضِيَّةً، وَآيَاتٍ سَمَاوِيَّةً، وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلَمْ يَتْرُكُوا عِنَادَهُمْ، فَإِنْ يَرَوْا مَا يَرَوْنَ بَعْدَ هَذَا لَا يُؤْمِنُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ عَادَتَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، فَلَمَّا رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ أَعْرَضُوا لِتِلْكَ الْعَادَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: آيَةً مَاذَا؟ نَقُولُ آيَةُ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مِنْ آيَاتِهِ، وَقَدْ/ رَدُّوا وَكَذَّبُوا، فَإِنْ يَرَوْا غَيْرَهَا أَيْضًا يُعْرِضُوا، أَوْ آيَةُ الِانْشِقَاقِ فَإِنَّهَا مُعْجِزَةٌ، أَمَّا كَوْنُهَا مُعْجِزَةً فَفِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَأَمَّا كَوْنُهَا آية(29/288)
الساعة، فلأن منكر خراب الْعَالَمِ يُنْكِرُ انْشِقَاقَ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي كُلِّ جِسْمٍ سَمَاوِيٍّ مِنَ الْكَوَاكِبِ، فَإِذَا انْشَقَّ بَعْضُهَا ثَبَتَ خِلَافَ مَا يَقُولُ بِهِ، وَبَانَ جَوَازُ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ قِيَامِ السَّاعَةِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ عَنْ قَرِيبٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ضِيقُ الْمَكَانِ، وَخَفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْأَذْهَانِ، وَبَيَانُ ضَعْفِهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقَمَرَ يَنْشَقُّ، وَهُوَ عَلَّامَةُ قِيَامِ السَّاعَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ مِثْلَ خُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَلَا يَكُونُ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَجَائِبُ، وَلَيْسَتْ بِمُعْجِزَةٍ لِلنَّبِيِّ، لَا يُقَالُ: الْإِخْبَارُ عَنْهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا مُعْجِزَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُعْجِزَةً بِرَأْسِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَلَا يُقَالُ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً وَعَلَامَةً، فَأَخْبَرَ اللَّهُ فِي الصُّحُفِ وَالْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكُونُ السَّاعَةُ قَرِيبَةً حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَامَةٌ كَائِنَةٌ حَيْثُ
قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»
وَلِهَذَا يُحْكَى عَنْ سَطِيحٍ أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِوُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَنْ أُمُورٍ تَكُونُ، فَكَانَ وُجُودُهُ دَلِيلَ أُمُورٍ، وَأَيْضًا الْقَمَرُ لَمَّا انْشَقَّ كَانَ انْشِقَاقُهُ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ كَانُوا غَافِلِينَ عَمَّا فِي الْكُتُبِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْكُتُبِ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا إِلَى بَيَانِ عَلَامَةِ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهَا وَبِقُرْبِهَا، فَهِيَ إِذَنْ آيَةٌ دَالَّةٌ على جواز تخريب السموات وهو العمدة الكبرى، لأن السموات إِذَا طُوِيَتْ وَجُوِّزَ ذَلِكَ، فَالْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا لَا يُسْتَبْعَدُ فَنَاؤُهُمَا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَذْهَانِ، يَقُولُ: مَنْ يَسْمَعْ أَمْرًا لَا يَقَعُ هَذَا بَعِيدٌ مُسْتَبْعَدٌ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْأَذْهَانِ يُنْكِرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى قُرْبِ الْوُقُوعِ زَمَانًا لَا إِمْكَانًا يُمَكِّنُ الْكَافِرَ مِنْ مُجَادَلَةٍ فَاسِدَةٍ، فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْتَرَبَتِ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا فِي الْكُتُبِ [السَّابِقَةِ] كَانَ يَقُولُ: (اقترب الوعد) ثُمَّ مَضَى مِائَةُ سَنَةٍ وَلَمْ يَقَعْ، وَلَا يَبْعُدْ أَنْ يَمْضِيَ أَلْفٌ آخَرُ وَلَا يَقَعُ، وَلَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْقُرْبِ زَمَانًا عَلَى مِثْلِ هَذَا لَا يَبْقَى وُثُوقٌ بِالْإِخْبَارَاتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ:
اقْتَرَبَتِ لِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، وَالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِيمَانُ، فَلِلْكَافِرِ أَنْ يَقُولَ، إِذَا كَانَ الْقُرْبُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا خَوْفَ مِنْهَا، لِأَنَّهَا لَا تُدْرِكُنِي، وَلَا تُدْرِكُ أَوْلَادِي، وَلَا أَوْلَادَ أَوْلَادِي، وَإِذَا كَانَ إِمْكَانُهَا قَرِيبًا فِي الْعُقُولِ يَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا بَالِغًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوَّلَ مَا كَلَّفَ الِاعْتِرَافَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَشْرَ كَائِنٌ فَخَالَفَ الْمُشْرِكُ وَالْفَلْسَفِيُّ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ إِنْكَارِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَقَعُ أَوْ لَيْسَ بِكَائِنٍ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا أَيْضًا، بَلْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِهِ أَيْضًا، بَلْ قَالَ فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ ضَرُورِيٌّ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ إِعَادَةَ الْمَعْدُومِ وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى محال/ بالضرورة، ولهذا قالوا: أَإِذا مِتْنا [المؤمنون: 82] أَإِذا كُنَّا عِظاماً [الأسراء: 49] أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَةِ:
10] بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ مَعَ ظُهُورِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا اسْتَبْعَدُوا لَمْ يَكْتَفِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِبَيَانِ وُقُوعِهِ، بَلْ قَالَ:
أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَجِّ: 7] وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ بَلْ قَالَ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَابِ: 63] وَلَمْ يَتْرُكْهَا حَتَّى قَالَ (اقْتَرَبَتِ الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم) اقْتِرَابًا عَقْلِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْكَرَ مَا يَقَعُ فِي زَمَانٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لِأَنَّهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرُ، كَمَا أَنَّ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، وَالَّذِي يُقَوِّيهِ قَوْلُ الْعَامَّةِ: إِنَّ زَمَانَ وُجُودِ الْعَالَمِ زَمَانٌ مَدِيدٌ، وَالْبَاقِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاضِي شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَلِهَذَا قَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.(29/289)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»
فَمَعْنَاهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي فَإِنَّ زَمَانِي يَمْتَدُّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَزَمَانِي وَالسَّاعَةُ مُتَلَاصِقَانِ كَهَاتَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا دَامَتْ أَوَامِرُهُ نَافِذَةً فَالزَّمَانُ زَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ هُوَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ أَوَامِرُ الْمَلِكِ مَكَانُ الْمَلِكِ يُقَالُ لَهُ بِلَادُ فُلَانٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْقُرْبِ بِالْمَعْقُولِ مَعَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ؟ قُلْتُ: كَمَا صَحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الْأَحْزَابِ: 63] فَإِنَّ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي وَالْأَمْرُ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومٌ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ مُمْكِنٌ لَا إِمْكَانًا بَعِيدًا عَنِ الْعَادَاتِ كَحَمْلِ الْآدَمِيِّ فِي زَمَانِنَا حِمْلًا فِي غَايَةِ الثِّقَلِ أَوْ قَطْعِهِ مَسَافَةً بَعِيدَةً فِي زَمَانٍ يَسِيرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ إِمْكَانًا بَعِيدًا، وَأَمَّا تَقْلِيبُ الْحَدَقَةِ فَمُمْكِنٌ إِمْكَانًا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَمْعُ الَّذِينَ تَكُونُ الْوَاوُ ضَمِيرَهُمْ في قوله يَرَوْا ويُعْرِضُوا غَيْرُ مَذْكُورٍ فَمَنْ هُمْ؟
نَقُولُ: هُمْ مَعْلُومُونَ وَهُمُ الْكُفَّارُ تَقْدِيرُهُ: وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّنْكِيرُ فِي الْآيَةِ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ إِنْ يَرَوْا آيَةً قَوِيَّةً أَوْ عَظِيمَةً يُعْرِضُوا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ مَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ بَيَانُ كَوْنِ الْآيَةِ خَالِيَةً عَنْ شَوَائِبَ الشَّبَهِ، وَأَنَّ الِاعْتِرَافَ لَزِمَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقُولُوا: نَحْنُ نَأْتِي بِمِثْلِهَا وَبَيَانُ كَوْنِهِمْ مُعْرِضِينَ لَا إِعْرَاضَ مَعْذُورٍ، فَإِنَّ مَنْ يُعْرِضُ إِعْرَاضَ مَشْغُولٍ بِأَمْرٍ مُهِمٍّ فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْآيَةِ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ مِثْلَ مَا يُسْتَقْبَحُ لمن ينظر فيها إِلَى آخِرِهَا وَيَعْجَزُ عَنْ نِسْبَتِهَا إِلَى أَحَدٍ وَدَعْوَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ يَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هَذَا سِحْرٌ لِأَنَّ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَقُولَ فِيهَا هَذَا الْقَوْلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمُسْتَمِرُّ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: دَائِمٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي كُلُّ زَمَانٍ بِمُعْجِزَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ أَرْضِيَّةٍ أَوْ سَمَاوِيَّةٍ، فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ دَائِمٌ لَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ سِحْرِ السَّحَرَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرٍ وَأَمْرَيْنِ/ وَثَلَاثَةٍ وَيَعْجَزُ عَنْ غَيْرِهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكُلِّ وَثَانِيهَا:
مُسْتَمِرٌّ أَيْ قَوِيٌّ مِنْ حَبْلٍ مَرِيرِ الْفَتْلِ مِنَ الْمِرَّةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ وَثَالِثُهَا: مِنَ الْمَرَارَةِ أَيْ سِحْرٌ مُرٌّ مُسْتَبْشَعٌ وَرَابِعُهَا:
مُسْتَمِرٌّ أَيْ مَارٍّ ذَاهِبٍ، فَإِنَّ السِّحْرَ لَا بَقَاءَ له.
[سورة القمر (54) : آية 3]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا الْمُخْبِرَ عَنِ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَثَانِيهِمَا: كَذَّبُوا بِالْآيَةِ وَهِيَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أَيْ تَرَكُوا الْحُجَّةَ وَأَوَّلُوا الْآيَاتِ وَقَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ تُعِينُهُ الْجِنُّ وَكَاهِنٌ يَقُولُ: عَنِ النُّجُومِ وَيَخْتَارُ الْأَوْقَاتَ للأفعال وساحر، فهذه أهواءهم، وَإِنْ قُلْنَا: كَذَّبُوا بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَقَوْلُهُ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فِي أَنَّهُ سَحَرَ الْقَمَرَ، وَأَنَّهُ خُسُوفٌ والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي كُلِّ آيَةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ عَلَى سُنَنِ الْحَقِّ يَثْبُتُ وَالْبَاطِلُ يَزْهَقُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَهْدِيدًا لَهُمْ، وَتَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ [الزمر: 7] أَيْ بِأَنَّهَا حَقٌّ ثَانِيهَا: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شيء فَهُمْ كَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَالْأَنْبِيَاءُ صَدَّقُوا وَبَلَّغُوا مَا جَاءَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غَافِرٍ: 16] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى(29/290)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [الْقَمَرِ: 52، 53] ، ثَالِثُهَا: هُوَ جَوَابُ قَوْلِهِمْ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ لَيْسَ أَمْرُهُ بِذَاهِبٍ بَلْ كُلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ مستقر. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 4]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ لُطْفٌ بِالْعِبَادِ قَدْ وُجِدَ، فَأَخْبَرَهُمُ الرَّسُولُ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ، و. أقام الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِمْكَانِ قِيَامِ السَّاعَةِ عَقِيبَ دَعَوَاهُ بِانْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ لِأَنَّ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا لَا يُصَدِّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ فَكَذَّبُوا بِهَا وَاتَّبَعُوا الْأَبَاطِيلَ الذَّاهِبَةَ، وَذَكَرُوا الْأَقَاوِيلَ الْكَاذِبَةَ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنْبَاءَ الْمُهْلِكِينَ بِالْآيَتَيْنِ تَخْوِيفًا لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْحُكْمِيُّ، وَلِهَذَا قال بعد الآيات: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [القمر: 5] أَيْ هَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَالْأَنْبَاءُ هِيَ الْأَخْبَارُ الْعِظَامُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صِدْقِهِ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَرِدِ النَّبَأُ وَالْأَنْبَاءُ إِلَّا لِمَا لَهُ وَقْعٌ قَالَ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النَّمْلِ: 22] لِأَنَّهُ كَانَ خَبَرًا عَظِيمًا وَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ [الْحُجُرَاتِ: 6] أَيْ مُحَارَبَةٌ أَوْ مُسَالَمَةٌ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آلِ عِمْرَانَ: 44] فَكَذَلِكَ الْأَنْبَاءُ هَاهُنَا، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ [الْقَصَصِ: 29] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: نَبَأٌ/ وَلَمْ يَقْصِدْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْبَاءُ الْمُهْلِكِينَ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، وَتَقْدِيرُهُ جَاءَ فِيهِ الْأَنْبَاءُ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْمَوَاعِظِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَفِي: مَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ أَيْ جَاءَكُمُ الَّذِي فِيهِ مُزْدَجَرٌ ثَانِيهِمَا: مَوْصُوفَةٌ تَقْدِيرُهُ: جَاءَكُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَهَذَا أَظْهَرُ وَالْمُزْدَجَرُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ازْدِجَارٌ وَثَانِيهِمَا مَوْضِعُ ازْدِجَارٍ، كَالْمُرْتَقَى، وَلَفْظُ الْمَفْعُولِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَثِيرٌ لِأَنَّ المصدر هو المفعول الحقيقي.
[سورة القمر (54) : آية 5]
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، قَالَ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بَدَلٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ مَا فِي قَوْلِهِ:
مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الثَّانِي: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: هَذَا التَّرْتِيبُ الَّذِي فِي إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ وَالْإِنْذَارِ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْقُرُونِ وَانْقَضَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ثَانِيهَا: إِنْزَالُ مَا فِيهِ الْأَنْبَاءُ: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ثَالِثُهَا: هَذِهِ السَّاعَةُ الْمُقْتَرِبَةُ وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا حِكْمَةٌ الثَّالِثُ:
قُرِئَ بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ حَالًا وَذُو الْحَالِ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أَيْ جَاءَكُمْ ذَلِكَ حِكْمَةً، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ مَا مَوْصُولَةً تَكُونُ مُعَرَّفَةً فَيَحْسُنُ كَوْنُهُ ذَا الْحَالِ فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ شَيْءٌ فِيهِ ازْدِجَارٌ يَكُونُ مُنَكَّرًا وَتَنْكِيرُ ذِي الْحَالِ قَبِيحٌ نَقُولُ: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا يَحْسُنُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ مَا نَافِيَةٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النُّذُرَ لَمْ يُبْعَثُوا لِيُغْنُوا وَيُلْجِئُوا قَوْمَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَإِنَّمَا أُرْسِلُوا مُبَلِّغِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الشُّورَى:
48] وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [القمر: 6] أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ وَلَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْإِغْنَاءُ والإلجاء، فإذا(29/291)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
بَلَّغَتْ فَقَدْ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] وَتَوَلَّ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ ثَانِيهِمَا: (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَعْنَى الْآيَاتِ حِينَئِذٍ أَنَّكَ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الدَّعْوَى وَإِظْهَارِ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَكَذَّبُوا فَأَنْذَرْتَهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يُفِدْهُمْ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَمَا الَّذِي تُغْنِي النُّذُرُ غَيْرَ هذا فلم يبق عليك شيء آخر.
[سورة القمر (54) : آية 6]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ المفسرين يقولون إلى قوله: فَتَوَلَّ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تناظرهم بالكلام.
ثم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ يَنْصَحْ شَخْصًا وَلَا يُؤَثِّرْ فِيهِ النُّصْحُ يُعْرِضْ عَنْهُ وَيَقُولُ مَعَ غَيْرِهِ: مَا فِيهِ نُصْحُ الْمُعْرِضِ عَنْهُ، وَيَكُونُ فِيهِ قَصْدُ إِرْشَادِهِ أيضا فقال بعد ما قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ... يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ [المعارج: 43] لِلتَّخْوِيفِ، وَالْعَامِلُ/ فِي: يَوْمَ هُوَ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ وَالدَّاعِي مُعَرَّفٌ كالمنادي في قوله: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: 41] لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي وَدَاعِيًا يَدْعُو وَفِي الدَّاعِي وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِسْرَافِيلُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ وَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَقْطَعُ حَدَّ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِنَا: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: الرَّجُلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ فِي يَوْمِنَا هَذَا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ أَيْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ يَخْرُجُونَ ثَانِيهَا: نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ يَقُولُ: ذَلِكَ الْقَائِلُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُوجَدَ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّهُ يُرْدِيهِمْ فِي الْهَاوِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ النُّكُرُ؟ نَقُولُ: الْحِسَابُ أَوِ الْجَمْعُ لَهُ أَوِ النَّشْرُ لِلْجَمْعِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنْ قِيلَ: النَّشْرُ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا فَإِنَّهُ إِحْيَاءٌ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ وَقْتَ النَّشْرِ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ لِيُنْكِرَهُ؟ نَقُولُ: يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 7]
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ خَاشِعًا وَخَاشِعَةً وَخُشَّعًا، فَمَنْ قَرَأَ خَاشِعًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: يَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّأْنِيثِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ وَمَنْ قَرَأَ خاشعة على قوله: تخشع أبصارهم وَمَنْ قَرَأَ خُشَّعًا فَلَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ:
يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ثَانِيهَا: فِي: خُشَّعاً ضَمِيرُ أَبْصَارُهُمْ بَدَلٌ عَنْهُ، تَقْدِيرُهُ يَخْشَعُونَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْجَبُونِي حُسْنُهُمْ. ثَالِثُهَا: فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ يَخْرُجُونَ تَقْدِيرُهُ يَخْرُجُونَ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَالصَّحِيحُ خَاشِعًا، رُوِيَ أَنَّ مُجَاهِدًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أَوْ خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَاشِعًا، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ آخَرُ أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خُشَّعًا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ خُشَّعًا أَيْ يَدْعُو هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ، ثَانِيهَا:
قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بَعْدَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُونَ خُشَّعًا قَبْلَ الْخُرُوجِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ، ثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ خَاشِعًا تُبْطِلُ هَذَا، نَقُولُ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ يَدْفَعُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُدْعَى إِلَى(29/292)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
شَيْءٍ نُكُرٍ وَعَنِ الثَّانِي الْمُرَادُ: (مِنْ شَيْءٍ نكر) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إِلَى الْحِسَابِ الْعَسِرِ خُشَّعًا وَلَا يَكُونُ الْعَامِلُ في: يَوْمَ يَدْعُ يَخْرُجُونَ بَلِ اذْكُرُوا، أَوْ: فَما تُغْنِ النُّذُرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: 48] وَيَكُونُ يَخْرُجُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَعَنِ الثَّالِثِ أنه لا منافاة بين القراءتين، وخاشعا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يدعو/ كأنه يقول: يدعو الداعي قوما خاشعة أَبْصَارُهُمْ وَالْخُشُوعُ السُّكُونُ قَالَ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ [طه: 108] وَخُشُوعُ الْأَبْصَارِ سُكُونُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَنْفَلِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 43] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مَثَّلَهُمْ بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ فِي الْكَثْرَةِ وَالتَّمَوُّجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُنْتَشِرُ مُطَاوِعُ نَشَرَهُ إِذَا أَحْيَاهُ فَكَأَنَّهُمْ جَرَادٌ يَتَحَرَّكُ مِنَ الْأَرْضِ وَيَدِبُّ إِشَارَةً إِلَى كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَضَعْفِهِمْ.
[سورة القمر (54) : آية 8]
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
ثم قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أَيْ مُسْرِعِينَ إِلَيْهِ انْقِيَادًا يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ النَّاصِبُ ليوم في قوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] أَيْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي: يَقُولُ الْكافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ، وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: تَنْبِيهُ الْمُؤْمِنِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى الْكَافِرِ عَسِيرٌ فَحَسْبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [الْمُدَّثِّرِ: 9، 10] يَعْنِي لَهُ عُسْرٌ لَا يُسْرَ مَعَهُ ثَانِيَتُهُمَا:
هِيَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُتَّفِقَانِ مُشْتَرِكَانِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ وَالِانْقِطَاعُ إِلَى الدَّاعِي يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَخَافُ وَلَا يَأْمَنُ الْعَذَابَ إِلَّا بِإِيمَانِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فَيُؤْتِيهِ اللَّهُ الثَّوَابَ فَيَبْقَى الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ بَعْضَ الْأَنْبَاءِ فقال:
[سورة القمر (54) : آية 9]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
فِيهَا تَهْوِينٌ وَتَسْلِيَةٌ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ حَالَهُ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِلْحَاقُ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفَاعِلِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَسَنٌ، وَإِلْحَاقُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ بِهِ قَبِيحٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَلَا يُجَوِّزُونَ كَذَّبُوا قَوْمَ نُوحٍ، وَيُجَوِّزُونَ كَذَّبَتْ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: التَّأْنِيثُ قَبْلَ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ وَالذُّكُورَةَ لِلْفَاعِلِ أَمْرٌ لَا يتبدل ولا تَحْصُلِ الْأُنُوثَةُ لِلْفَاعِلِ بِسَبَبِ فِعْلِهَا الَّذِي هُوَ فَاعِلُهُ فَلَيْسَ إِذَا قُلْنَا: ضَرَبَتْ هَذِهِ كَانَتْ هَذِهِ أُنْثَى لِأَجْلِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ لِلْفَاعِلِينَ بِسَبَبِ فِعْلِهِمُ الَّذِي هُمْ فَاعِلُوهُ، فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: جَمْعٌ ضَرَبُوا وَهُمْ ضَارِبُونَ لَيْسَ مُجَرَّدُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي الْوُجُودِ يُصَحِّحُ قَوْلَنَا: ضَرَبُوا وَهُمْ ضَارِبُونَ، لِأَنَّهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا فِي مَكَانٍ فَهُمْ جَمْعٌ، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَضْرِبِ الْكُلُّ لَا يَصِحُّ قَوْلُنَا: ضَرَبُوا، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ مِنَ الْفِعْلِ فَاعِلُونَ جَمَعَهُمْ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِيَّةِ، وَلَيْسَ بِسَبَبِ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ:
ضَرَبُوا جَمْعٌ، لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُفْهَمْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ضَرَبُوا جَمِيعُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَوَّلًا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْفِعْلِ، فَيَقُولُ: الضَّارِبُونَ ضَرَبُوا، وَأَمَّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ فَصَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: التَّأْنِيثُ لَمْ يُفْهَمْ إِلَّا بِسَبَبِ أَنَّهَا ضَرَبَتْ، بَلْ هِيَ كَانَتْ أُنْثَى فَوُجِدَ مِنْهَا ضَرْبٌ فَصَارَتْ ضَارِبَةً، وَلَيْسَ الْجَمْعُ كَانُوا جَمْعًا فَضَرَبُوا/ فَصَارُوا ضَارِبِينَ، بَلْ صَارُوا ضَارِبِينَ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْفِعْلِ وَلِهَذَا وَرَدَ الْجَمْعُ عَلَى اللَّفْظِ بَعْدَ وُرُودِ التَّأْنِيثِ عَلَيْهِ فقيل:(29/293)
ضَارِبَةٌ وَضَارِبَاتٌ وَلَمْ يُجْمَعِ اللَّفْظُ أَوَّلًا لِأُنْثَى وَلَا لِذَكَرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ هِنْدٌ، وَحَسُنَ بِالْإِجْمَاعِ ضَرَبَ قَوْمٌ وَالْمُسْلِمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أَيْ بِآيَاتِنَا وَآيَةِ الانشقاق فكذبوا الثاني: كذبت قوم نوح الرسل وَقَالُوا: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا وَكَذَّبُوهُمْ فِي التَّوْحِيدِ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا كَمَا كَذَّبُوا غَيْرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَمَنْ يَعْبُدِ الْأَصْنَامَ يُكَذِّبْ كُلَّ رَسُولٍ وَيُنْكِرِ الرِّسَالَةَ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَعَلُّقَ لِلَّهِ بِالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِلَى الْكَوَاكِبِ فَكَانَ مَذْهَبُهُمُ التَّكْذِيبَ فَكَذَّبُوا الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا لِلتَّصْدِيقِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَقْدِيرُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ عَبْدَنَا أَيْ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا بِحَقٍّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: كَذَّبَنِي فَكَذَّبَ صَادِقًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَثِيرًا مَا يَخُصُّ اللَّهُ الصَّالِحِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي [الحجر: 42] يا عِبادِيَ
[العنكبوت: 56] وَاذْكُرْ عَبْدَنا [ص: 17] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا [يوسف: 24] وَكُلُّ وَاحِدٍ عَبْدُهُ فَمَا السِّرُّ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَا قِيلَ: فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ تَشْرِيفٌ مِنْهُ فَمَنْ خَصَّصَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدَهُ شُرِّفَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ [الْبَقَرَةِ: 125] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73] الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ عَبْدِنَا أَيِ الَّذِي عَبَدَنَا فَالْكُلُّ عِبَادٌ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: 56] لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ فَحَقَّقَ الْمَقْصُودَ فَصَارَ عَبْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا عِباداً لِي [آلِ عِمْرَانَ: 79] أَيْ حَقِّقُوا الْمَقْصُودَ الثَّالِثُ: الْإِضَافَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ فَمَعْنَى عَبْدَنَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَقُلْ: بِمَعْبُودِ سِوَانَا، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَقَدِ اتَّخَذَ إِلَهًا فَالْعَبْدُ الْمُضَافُ هُوَ الَّذِي بِكُلِّيَّتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِلَّهِ فَأَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَجَمِيعُ أُمُورِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَسُولُنَا لَكَانَ أَدَلَّ عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِمْ؟ نَقُولُ:
قَوْلُهُ عَبْدَنَا أَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَقُبْحِ تَكْذِيبِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ رَسُولَنَا لَوْ قَالَهُ لَأَنَّ الْعَبْدَ أَقَلُّ تَحْرِيفًا لِكَلَامِ السَّيِّدِ مِنَ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44- 46] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى وَقالُوا مَجْنُونٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَتَى بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ حَيْثُ رَأَوْا مَا عَجَزُوا مِنْهُ، وَقَالُوا: هُوَ مُصَابُ الْجِنِّ أَوْ هُوَ لِزِيَادَةِ بَيَانِ قُبْحِ صُنْعِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقْنَعُوا بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ كَاذِبٌ، بَلْ قالوا مجنون، أي يقول مالا يَقْبَلُهُ عَاقِلٌ، وَالْكَاذِبُ الْعَاقِلُ يَقُولُ مَا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَقَالُوا: مَجْنُونٌ أَيْ يَقُولُ مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ عَاقِلٌ فَبَيَّنَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وَازْدُجِرَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، نَقُولُ: فِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَذَّبُوا، وَقَالُوا: أَيْ هُمْ كَذَّبُوا وَهُوَ ازْدُجِرَ أَيْ أُوذِيَ وَزُجِرَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الْأَنْعَامِ: 34] وَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ كَذَّبُوا عَبْدَنَا وَزَجَرُوهُ/ كَانَ الْكَلَامُ أَكْثَرَ مُنَاسَبَةً، نَقُولُ: لَا بَلْ هَذَا أَبْلَغُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْوِيَةُ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَقَالَ: وَازْدُجِرَ أَيْ فَعَلُوا مَا يُوجِبُ الِانْزِجَارَ مِنْ دُعَائِهِمْ حَتَّى تَرَكَ دَعْوَتَهُمْ وَعَدَلَ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، ولو قال:(29/294)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
زَجَرُوهُ مَا كَانَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَأَذَّى مِنْهُمْ لِأَنَّ فِي السَّعَةِ يُقَالُ: آذَوْنِي وَلَكِنْ مَا تَأَذَّيْتُ، وَأَمَّا أُوذِيتُ فَهُوَ كَاللَّازِمِ لَا يُقَالُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: وَازْدُجِرَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ أَيْ هُمْ قَالُوا ازْدُجِرَ، تَقْدِيرُهُ قَالُوا:
مَجْنُونٌ مُزْدَجَرٌ، وَمَعْنَاهُ: ازْدَجَرَهُ الْجِنُّ أَوْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: جُنَّ وَازْدُجِرَ، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 10]
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
تَرْتِيبًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا زَجَرُوهُ وَانْزَجَرَ هُوَ عَنْ دُعَائِهِمْ دَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَغْلُوبٌ، وَبِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِأَنِّي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا مَعْنَى مَغْلُوبٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: غَلَبَنِي الْكُفَّارُ فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ الثَّانِي: غَلَبَتْنِي نَفْسِي وَحَمَلَتْنِي عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَانْتَصِرْ لِي مِنْ نَفْسِي، وَهَذَا الْوَجْهُ نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ الثَّالِثُ: وَجْهٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْهُمَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْعُو عَلَى قَوْمِهِ مَا دَامَ فِي نَفْسِهِ احْتِمَالٌ وَحِلْمٌ، وَاحْتِمَالُ نَفْسِهِ يَمْتَدُّ مَا دَامَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ محتملا، ثم إن يأسه يَحْصُلُ وَالِاحْتِمَالَ يَفِرُّ بَعْدَ الْيَأْسِ بِمُدَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف: 6] ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 27] فَقَالَ نُوحٌ: يَا إِلَهِي إِنَّ نَفْسِي غَلَبَتْنِي وَقَدْ أَمَرَتْنِي بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَأَهْلِكْهُمْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ [إِنِّي] مَغْلُوبٌ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ أَيْ غُلِبْتُ وَعِيلَ صَبْرِي فَانْتَصِرْ لِي مِنْهُمْ لَا مِنْ نَفْسِي:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَانْتَصِرْ مَعْنَاهُ انْتَصِرْ لِي أَوْ لِنَفْسِكَ فَإِنَّهُمْ كَفَرُوا بِكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: فَانْتَصِرْ لِي مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ مَغْلُوبٌ ثَانِيهَا: فَانْتَصِرْ لَكَ وَلِدِينِكَ فَإِنِّي غُلِبْتُ وَعَجَزْتُ عَنِ الِانْتِصَارِ لِدِينِكَ ثَالِثُهَا: فَانْتَصِرْ لِلْحَقِّ وَلَا يَكُونُ فِيهِ ذِكْرُهُ وَلَا ذِكْرُ رَبِّهِ، وَهَذَا يَقُولُهُ قَوِيُّ النَّفْسِ بِكَوْنِ الْحَقِّ مَعَهُ، يَقُولُ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْكَاذِبَ مِنَّا، وَانْصُرِ الْمُحِقَّ منا. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 11]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
عَقِيبَ دُعَائِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْفَتْحِ وَالْأَبْوَابِ وَالسَّمَاءِ حَقَائِقُهَا أَوْ هُوَ مَجَازٌ؟ نَقُولُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا:
حَقَائِقُهَا وَلِلسَّمَاءِ أَبْوَابٌ تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِيهِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مِنَ السَّحَابِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي الْمَطَرِ الْوَابِلِ جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاءِ وَفُتِحَ أَفْوَاهُ الْقِرَبِ أَيْ كَأَنَّهُ ذَلِكَ، فَالْمَطَرُ فِي الطُّوفَانِ كَانَ بِحَيْثُ يَقُولُ الْقَائِلَ/ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطَرَ مِنْ فَوْقُ كَانَ فِي غَايَةِ الْهَطَلَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَتَحْنا بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ انْتَصَرَ مِنْهُمْ وَانْتَقَمَ بِمَاءٍ لَا بِجُنْدٍ أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 28، 29] بَيَانًا لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْمَطَرَ سِنِينَ فَأَهْلَكَهُمْ بِمَطْلُوبِهِمْ.(29/295)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِماءٍ مُنْهَمِرٍ مَا وَجْهُهُ وَكَيْفَ مَوْقِعُهُ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ فَتَحْتُ الْبَابَ بِالْمِفْتَاحِ وَتَقْدِيرُهُ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ كَأَنَّ الْمَاءَ جَاءَ وَفَتَحَ الْبَابَ وَعَلَى هَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَفْتَحُ اللَّهُ لَكِ بِخَيْرٍ أَيْ يُقَدِّرُ خَيْرًا يَأْتِي وَيَفْتَحُ الْبَابَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ مِنْ بَدَائِعِ الْمَعَانِي، وَهِيَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَقْصُودُ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ، وَيَقُولُ كَأَنَّ مَقْصُودَكَ جَاءَ إِلَى بَابٍ مُغْلَقٍ فَفَتَحَهُ وَجَاءَكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَعَلَّ اللَّهَ يَفْتَحُ بِرِزْقٍ، أَيْ يُقَدِّرُ رِزْقًا يَأْتِي إِلَى الْبَابِ الَّذِي كَالْمُغْلَقِ فَيَدْفَعُهُ وَيَفْتَحُهُ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ فَتَحَهُ بِالرِّزْقِ ثَانِيهُمَا: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مَقْرُونَةٌ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَالِانْهِمَارُ الِانْسِكَابُ وَالِانْصِبَابُ صَبًّا شَدِيدًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَطَرَ يَخْرُجُ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ السَّحَابُ خُرُوجَ مُتَرَشِّحٍ مِنْ ظَرْفِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَانَ يَخْرُجُ خُرُوجَ مرسل خارج من باب. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 12]
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
[في قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ] وَفِيهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، وَهَذَا بَيَانُ التَّمْيِيزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، إِذَا قُلْتَ ضَاقَ زَيْدٌ ذَرْعًا، أَثْبَتَ مَا لَا يُثْبِتُهُ قَوْلُكَ ضَاقَ ذَرْعُ زَيْدٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وَلَمْ يَقُلْ فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أَبْوَابًا، لِأَنَّ السَّمَاءَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَبْوابَ السَّماءِ وَلَمْ يَقُلْ: أَنَابِيبُ وَلَا مَنَافِذُ وَلَا مَجَارِي أَوْ غَيْرُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْأَرْضِ عُيُونًا ثَلَاثَةً، وَلَا يَصْلُحُ مَعَ هَذَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً أَوْ مِيَاهًا، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَعْنَى لَا فِي الْمُعْجِزَةِ، وَالْحِكْمَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: 21] حَيْثُ لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ، وَكَلَامُهُ لَا يُمَاثِلُ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ، غَيْرَ أَنِّي ذَكَرْتُهُ مَثَلًا: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلِ: 60] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعُيُونُ فِي عُيُونِ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ/ مُشْتَرَكٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ آلَةُ الْإِبْصَارِ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهَا، أَمَّا فِي عُيُونِ الْمَاءِ فَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْعَيْنَ الْبَاصِرَةَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّمْعُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْعَيْنِ كَالنُّورِ الَّذِي فِي الْعَيْنِ غَيْرَ أَنَّهَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ صَارَ غَالِبًا حَتَّى لَا يَفْتَقِرَ إِلَى الْقَرِينَةِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ إِلَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، فَكَمَا لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، كَذَلِكَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَوَّارَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مِثْلِ: شَرِبْتُ مِنَ الْعَيْنِ وَاغْتَسَلْتُ مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْيَنْبُوعِ، وَيُقَالُ: عَانَهُ يَعِينُهُ إِذَا أَصَابَهُ بِالْعَيْنِ، وَعَيَّنَهُ تَعْيِينًا، حَقِيقَتُهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ تَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ، وَعَايَنَهُ مُعَايِنَةً وَعِيَانًا، وَعَيَّنَ أَيْ صَارَ بِحَيْثُ تَقَعُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْماءُ قُرِئَ فَالْتَقَى الْمَاءَانِ، أَيِ النَّوْعَانِ، مِنْهُ مَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْأَرْضِ، فَتُثَنَّى أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ عَلَى تأويل صنف، تجمع أَيْضًا، يُقَالُ: عِنْدِي تَمْرَانِ وَتُمُورٌ وَأَتْمَارٌ عَلَى تَأْوِيلِ نَوْعَيْنِ وَأَنْوَاعٍ مِنْهُ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: فَالْتَقَى الْماءُ وَلَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: 11] ذَكَرَ الْمَاءَ وَذَكَرَ الِانْهِمَارَ وَهُوَ النُّزُولُ بِقُوَّةٍ، فَلَمَّا قَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً كَانَ مِنَ الْحُسْنِ الْبَدِيعِ أَنْ يَقُولَ: مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَاءَ نَبَعَ مِنْهَا بِقُوَّةٍ، فَقَالَ: فَالْتَقَى الْماءُ أي من(29/296)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
العين فار الماء بِقُوَّةٍ حَتَّى ارْتَفَعَ وَالْتَقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلَوْ جَرَى جَرْيًا ضَعِيفًا لَمَا كَانَ هُوَ يَلْتَقِي مَعَ مَاءِ السَّمَاءِ بَلْ كَانَ مَاءُ السَّمَاءِ يَرِدُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَفارَ التَّنُّورُ [هُودٍ: 40] مَثَلُ هَذَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: عَلَى حَالٍ قَدْ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا شَاءَ الثَّانِي: عَلَى حَالِ قَدَّرَ أَحَدَ الْمَاءَيْنِ بِقَدْرِ الْآخَرِ الثَّالِثُ: عَلَى سَائِرِ الْمَقَادِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاءُ السَّمَاءِ كَانَ أَكْثَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَاءُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، فَقَالَ: عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، وَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَةِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، فَإِنَّ تَنْكِيرَ الْأَمْرِ يُفِيدُ ذَلِكَ، يَقُولُ الْقَائِلُ: جَرَى عَلَى فُلَانٍ شَيْءٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِشَارَةً إِلَى عَظَمَتِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْتَقَى الْمَاءُ، أَيِ اجْتَمَعَ عَلَى أَمْرِ هَلَاكِهِمْ، وَهُوَ كَانَ مَقْدُورًا مُقَدَّرًا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الطُّوفَانَ كَانَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ حَوْلَ بُرْجٍ مَائِيٍّ، وَالْغَرَقُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ لَزِمَ مِنَ الطُّوفَانِ الْوَاجِبِ وُقُوعُهُ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نُوحٍ بأنهم من المغرقين وقوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 13]
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
أَيْ سَفِينَةٍ، حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَلْوَاحٍ مُرَكَّبَةٍ موثقة بدثر، وَكَانَ انْفِكَاكُهَا فِي غَايَةِ السُّهُولَةِ، وَلَمْ يَقَعْ فهو بفضل الله، والدسر المسامير.
[سورة القمر (54) : آية 14]
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي أَيْ سَفِينَةٌ ذَاتُ أَلْوَاحٍ جَارِيَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَعْيُنِنا أَيْ بِمَرْأَى مِنَّا أَوْ بِحِفْظِنَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ آلَةُ ذَلِكَ فَتُسْتَعْمَلُ فيه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يَحْتَمِلُ وجوها أحدها: أن يكون نصبه بقوله: حَمَلْناهُ أَيْ حَمَلْنَاهُ جَزَاءً، أَيْ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْحَمْلُ جَزَاءَ الصَّبْرِ عَلَى كُفْرَانِهِمْ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى حِفْظِنَا، أَيْ مَا تَرَكْنَاهُ عَنْ أَعْيُنِنَا وَعَوْنِنَا جَزَاءً لَهُ ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ حَاصِلٍ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا وَحَمَلْنَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلْنَاهُ جَزَاءً لَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا كَانَ يَحْصُلُ إِلَّا بِحِفْظِهِ وَإِنْجَائِهِ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً مَنْصُوبًا بِكَوْنِهِ مَفْعُولًا لَهُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَلِنَذْكُرْ مَا فِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ في السماء: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [القمر: 11] لِأَنَّ السَّمَاءَ ذَاتُ الرَّجْعِ وَمَا لَهَا فُطُورٌ، وَلَمْ يَقُلْ: وَشَقَقْنَا السَّمَاءَ، وَقَالَ فِي الْأَرْضِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ [القمر: 12] لِأَنَّهَا ذَاتُ الصَّدْعِ.
الثَّانِيَةُ: لَمَّا جُعِلَ الْمَطَرُ كَالْمَاءِ الْخَارِجِ مِنْ أَبْوَابٍ مَفْتُوحَةٍ وَاسِعَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِي الْأَرْضِ وَأَجْرَيْنَا مِنَ الْأَرْضِ بِحَارًا وَأَنْهَارًا، بَلْ قَالَ: عُيُوناً وَالْخَارِجُ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ الْخَارِجِ مِنَ الْبَابِ ذَكَرَ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ تَعَالَى فَجَّرَهَا كُلَّهَا، فَقَالَ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ لِتُقَابِلَ كَثْرَةُ عُيُونِ الْأَرْضِ سَعَةَ أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَيَحْصُلُ بِالْكَثْرَةِ هَاهُنَا مَا حَصَلَ بِالسَّعَةِ هَاهُنَا.
الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ عِنْدَ الْغَضَبِ سَبَبَ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَفَجَّرَ الْأَرْضَ بِالْعُيُونِ، وَأَشَارَ إلى(29/297)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
الْإِهْلَاكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] أَيْ أَمْرِ الْإِهْلَاكِ وَلَمْ يُصَرِّحْ وَعِنْدَ الرَّحْمَةِ ذكر الإنجاء صَرِيحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ وَأَشَارَ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي موضع آخر:
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: 14] ، وَلَمْ يَقُلْ فَأُهْلِكُوا، وَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:
15] فَصَرَّحَ بِالْإِنْجَاءِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِهْلَاكِ إِشَارَةً إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَغَايَةِ الْكَرَمِ أَيْ خَلَقْنَا سَبَبَ الْهَلَاكِ وَلَوْ رَجَعُوا لَمَا ضَرَّهُمْ ذَلِكَ السَّبَبُ كما قال صلى الله عليه وسلم: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هُودٍ: 42] وَعِنْدَ الْإِنْجَاءِ أَنْجَاهُ وَجَعَلَ لِلنَّجَاةِ طَرِيقًا وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّفِينَةِ وَلَوِ انْكَسَرَتْ لَمَا ضَرَّهُ بَلْ كَانَ يُنْجِيهِ فَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِنْجَاءِ هُوَ النَّجَاةُ فَذَكَرَ الْمَحَلَّ وَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ إِظْهَارُ الْبَأْسِ فَذَكَرَ السَّبَبَ صَرِيحًا.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أَبْلَغُ مِنْ حِفْظِنَا، يَقُولُ الْقَائِلُ اجْعَلْ هَذَا نُصْبَ عَيْنِكَ وَلَا يَقُولُ احْفَظْهُ طَلَبًا لِلْمُبَالَغَةِ.
الْخَامِسَةُ: بِأَعْيُنِنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحِفْظِنَا، وَلِهَذَا يُقَالُ: الرُّؤْيَةُ لِسَانُ الْعَيْنِ.
السَّادِسَةُ: قَالَ: كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ لَا عَلَى إِيمَانِهِ وَشُكْرِهِ فَمَا جُوزِيَ بِهِ كَانَ جَزَاءَ صَبْرِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَمَّا جَزَاءُ شُكْرِهِ لَنَا فَبَاقٍ، وَقُرِئَ: جِزَاءً بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مُجَازَاةً كَقِتَالٍ/ وَمُقَاتَلَةٍ وَقُرِئَ: لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَأَمَّا: كُفِرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُفِرَ مِثْلَ شُكِرَ يُعَدَّى بِالْحَرْفِ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ يُقَالُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 152] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 256] . ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَا مِنَ الْكُفْرَانِ أَيْ جَزَاءً لِمَنْ سُتِرَ أَمْرُهُ وَأُنْكِرَ شَأْنُهُ وَيُحْتَمَلُ أن يقال: كفر به وترك الظهور المراد. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 15]
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
وَفِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ السَّفِينَةُ الَّتِي فِيهَا أَلْوَاحٌ وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَرَكَ اللَّهُ عَيْنَهَا مُدَّةً حَتَّى رُؤِيَتْ وَعُلِمَتْ وَكَانَتْ عَلَى الْجُودِيِّ بِالْجَزِيرَةِ وَقِيلَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَثَانِيهِمَا: تُرِكَ مَثَلُهَا فِي النَّاسِ يُذْكَرُ وَثَانِي: الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ أَيْ تَرَكْنَا السَّفِينَةَ آيَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَرَكْناها أَيْ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِأَنَّهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَارَتْ مَتْرُوكَةً وَمَجْعُولَةً يَقُولُ الْقَائِلُ:
تَرَكْتُ فُلَانًا مَثُلَةً أَيْ جَعَلْتُهُ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرٍ تَرَكَهُ وَجَعَلَهُ فَذَكَرَ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ جَانِبِ الرُّسُلِ قَدْ تَمَّ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَانِبُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ كَانُوا مُنْذَرِينَ مُتَفَكِّرِينَ يَهْتَدُونَ بِفَضْلِ اللَّهِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مُهْتَدٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ حَثًّا وَيَصْلُحُ تَخْوِيفًا وَزَجْرًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: قَالَ هَاهُنَا وَلَقَدْ تَرَكْناها وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَجَعَلْناها آيَةً [الْعَنْكَبُوتِ: 15] قُلْنَا هُمَا وَإِنْ كَانَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لَكِنَّ لَفْظَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ وَالْفَرَاغِ بِالْأَيَّامِ فَكَأَنَّهَا هُنَا مَذْكُورَةٌ بِالتَّفْصِيلِ حَيْثُ بَيَّنَ الْإِمْطَارَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَفْجِيرَ الْأَرْضِ وَذَكَرَ السَّفِينَةَ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر: 13] وَذَكَرَ جَرْيَهَا فَقَالَ: تَرَكْناها إِشَارَةً إِلَى تَمَامِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَقَالَ هُنَاكَ وَجَعَلْناها إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كذلك فكيف قال هاهنا وَحَمَلْناهُ [القمر: 13] وَلَمْ يَقُلْ: وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ هُنَاكَ فَأَنْجَيْناهُ(29/298)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ
؟ نَقُولُ: النَّجَاةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِمَّا ذَكَرَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ قَالَ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] أَيْ حِفْظِنَا وَحِفْظُ السَّفِينَةِ حِفْظٌ لِأَصْحَابِهِ وَحِفْظٌ لِأَمْوَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَهُمْ فَقَوْلُهُ:
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْجَاءُ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِبَيَانٍ آخَرَ وَالْحِكَايَةُ فِي سُورَةِ هُودٍ أَشَدُّ تَفْصِيلًا وَأَتَمُّ فَلِهَذَا قَالَ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هُودٍ: 40] يَعْنِي الْمَحْمُولَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: 44] تَصْرِيحًا بِخَلَاصِ السَّفِينَةِ وَإِشَارَةً إِلَى خَلَاصِ كُلِّ مَنْ فِيهَا وَقَوْلُهُ: آيَةً مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلتَّرْكِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَعْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حَالٌ فَإِنَّكَ تَقُولُ تَرَكْتُهَا وَهِيَ آيَةٌ وَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ/ فَهِيَ فِي مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ: تَرَكْنَاهَا دَالَّةً «1» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نَصْبُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّهَا بَعْضُ وُجُوهِ التِّرْكِ كَقَوْلِهِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّكِرٍ مُفْتَعِلٌ مِنْ ذَكَرَ يَذْكُرُ وَأَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ [لَمَّا] كَانَ مَخْرَجُ الذَّالِ قَرِيبًا مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ، وَالْحُرُوفُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ يَصْعُبُ النُّطْقُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَلِهَذَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الذَّالِ مَعَ التَّاءِ عِنْدَ النُّطْقِ تَقْرُبُ الذَّالُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ تَاءً وَالتَّاءُ تَقْرُبُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَالًا فَجُعِلَ التَّاءُ دَالًا ثُمَّ أُدْغِمَتِ الدَّالُ فِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْأَصْلِ مُذْتَكِرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ التَّاءَ دَالًا وَقَرَأَ مُذْدَكِرٌ وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ فِي مُدَّكِرٍ مُذْدَكِرٌ فَيَقْلِبُ التَّاءَ وَلَا يُدْغِمُ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ، وَالْمُدَّكِرُ الْمُعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: مُدَّكِرٍ إِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] أَيْ هَلْ مَنْ يَتَذَكَّرُ تِلْكَ الْحَالَةَ وَإِمَّا إِلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ حَصَلَ لِلْكُلِّ آيَاتُ اللَّهِ وَنَسُوهَا فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْهَا. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 16]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا لَهُ وَوَعْدًا بِالْعَاقِبَةِ وثانيهما: أن يكون عاما تنبيها للخلق ونذر أُسْقِطَ مِنْهُ يَاءُ الْإِضَافَةِ كَمَا حُذِفَ يَاءُ يسري في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ:
4] وَذَلِكَ عِنْدَ الْوَقْفِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[الْعَنْكَبُوتِ: 51] وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [يس: 43] وقوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزُّمَرِ: 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: 152] وَقُرِئَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ: عَذَابِي وَنُذُرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الأولى: ما الذي اقتضى الفاى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ؟ نَقُولُ: أَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ أَخْبَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَكَيْفَ كان أي بعد ما أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمُكَ بِنَقْلِهَا إِلَيْكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا الِاسْتِفْهَامُ عَامٌّ فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَرِ: 15] فَرَضَ وَجُودَهُمْ وَقَالَ: يَا مَنْ يَتَذَكَّرُ، وَعُلِمَ الْحَالُ بِالتَّذْكِيرِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقديره مدكر كَيْفَ كَانَ عَذَابِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَلَا النُّذُرَ فَكَيْفَ اسْتُفْهِمَ مِنْهُمْ؟ نَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الِاسْتِفْهَامُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عُلِمَ لَمَّا عُلِمَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا عَامٌّ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ يُعْلَمُ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ
__________
(1) في الأصل دالا، والمقصود بيان من معنى الآية أي لها دلالة الآية وقوتها.(29/299)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
[الحاقة: 1، 2] والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةِ: 1، 2] وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يُذْكَرُ لِلْإِخْبَارِ كَمَا أَنَّ صِيغَةَ هَلْ تُذْكَرُ لِلِاسْتِفْهَامِ فَيُقَالُ زَيْدٌ فِي الدَّارِ؟ بِمَعْنَى هَلْ زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَيَقُولُ الْمُنْجِزُ وَعْدَهُ هَلْ صَدَقْتُ؟ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَذَابِي وَقَعَ وَكَيْفَ كَانَ أَيْ كَانَ عَظِيمًا وَحِينَئِذٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مَنْ يُسْتَفْهَمُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تعالى من قبل: فَفَتَحْنا، وفَجَّرْنَا، وبِأَعْيُنِنا وَلَمْ يَقُلْ كَيْفَ كَانَ عَذَابُنَا نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ يُمْكِنُ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا فِي اللَّفْظِ تَسْقُطُ كَثِيرًا فِيمَا إِذَا الْتَقَى سَاكِنَانِ، تَقُولُ: غُلَامِي الَّذِي، وَدَارِي الَّتِي، وَهُنَا حُذِفَتْ لِتَوَاخِي آخِرِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا النُّونُ وَالْأَلِفُ فِي ضَمِيرِ الْجَمْعِ فَلَا تُحْذَفُ وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْمَعْنَوِيُّ فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الاستفهام من النبي صلى الله عليه وسلم فَتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ لِلْأَنْبَاءِ، وَفِي فَتَحْنَا وَفَجَّرْنَا لِتَرْهِيبِ الْعُصَاةِ، وَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: مُدَّكِرٍ [القمر: 15] فيه إشارة إلى قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] فَلَمَّا وُحِّدَ الضَّمِيرُ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالَ فَكَيْفَ كَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النُّذُرُ جَمْعُ نَذِيرٍ فَهَلْ هُوَ مَصْدَرٌ كَالنَّسِيبِ وَالنَّحِيبِ أَوْ فَاعِلٌ كَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ؟ نَقُولُ:
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ هَاهُنَا، أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ عَذَابِي وَعَاقِبَةُ إِنْذَارِي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَنْبَاءُ، أَيْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ؟ هَلْ أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَمْ لَا؟ فَإِذَا عَلِمْتَ الْحَالَ يَا مُحَمَّدُ فَاصْبِرْ فَإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِكَ كَعَاقِبَةِ أُولَئِكَ النُّذُرِ وَلَمْ يُجْمَعِ الْعَذَابُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ جُمِعَ لَكَانَ فِي جَمْعِهِ تَقْدِيرٌ وَفَرْضٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قيل: قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر) أَيْ بِالْإِنْذَارَاتِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَاتِ جَاءَتْهُمْ، وَأَمَّا الرُّسُلُ فَقَدْ جَاءَهُمْ وَاحِدٌ، نَقُولُ: كُلُّ مَنْ تَقَدَّمَ من الأمم الذين أشركوا بالله كذبوا بِالرُّسُلِ وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مُكَذِّبِينَ بِالْكُلِّ مَا خَلَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْخَيْرَ لِكَوْنِهِ شَيْخَ الْمُرْسَلِينَ فَلَا يُقَالُ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) ، أَيْ بِالْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ، كَمَا أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ تكذبون بهم.
[سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لِلْحِفْظِ فَيُمْكِنُ حِفْظُهُ وَيَسْهُلُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى يُحْفَظُ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ غَيْرَ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ هَلْ مَنْ يَحْفَظُ وَيَتْلُوهُ الثَّانِي: سَهَّلْنَاهُ لِلِاتِّعَاظِ حَيْثُ أَتَيْنَا فِيهِ بِكُلِّ حِكْمَةٍ الثَّالِثُ: جَعَلْنَاهُ بِحَيْثُ يَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ وَيُسْتَلَذُّ سَمَاعُهُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ يَتَفَهَّمُهُ وَلَا يَسْأَمُ مِنْ سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَلَا يَقُولُ قَدْ عَلِمْتُ فَلَا أَسْمَعُهُ بَلْ كُلَّ سَاعَةٍ يَزْدَادُ مِنْهُ لَذَّةً وَعِلْمًا. الرَّابِعُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذُكِّرَ بِحَالِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لَهُ مُعْجِزَةٌ قِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعْجِزَتَكَ الْقُرْآنُ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ تَذْكِرَةً لِكُلِّ أَحَدٍ وَتَتَحَدَّى بِهِ فِي الْعَالَمِ وَيَبْقَى عَلَى مُرُورِ الدُّهُورِ، وَلَا يَحْتَاجُ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُكَ إِلَى دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ فِي إِظْهَارِ مُعْجِزَةٍ، وَبَعْدَكَ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ وُقُوعَ مَا وَقَعَ كَمَا يُنْكِرُ الْبَعْضُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ مُتَذَكِّرٍ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ وَالتَّفَعُّلَ كَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِمَعْنًى، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي، تقول: مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ هُوَ كَالْمَنْسِيِّ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَرْجِعُ إِلَى مَا فُطِرَ عَلَيْهِ/ وَقِيلَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أَيْ حافظ(29/300)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
أَوْ مُتَّعِظٍ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وَقَوْلَهُ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مُتَذَكِّرٌ إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْأَمْرِ فَكَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نُكُرٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَاصِلٌ عِنْدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلى معاودة ما عند غيره. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 18]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشُّعَرَاءِ: 105] وَلَمْ يَقُلْ فِي عَادٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ كُلَّمَا أَمْكَنَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُؤْتَى بِهِ وَالتَّعْرِيفُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ أَوْلَى مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: بَيْتُ اللَّهِ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُكَ الْكَعْبَةُ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: رَسُولُ اللَّهِ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُكَ مُحَمَّدٌ فَعَادٌ اسْمُ عَلَمٍ لِلْقَوْمِ لَا يُقَالُ قَوْمُ هُودٍ أَعْرَفُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ عَادًا بِقَوْمِ هُودٍ حَيْثُ قَالَ: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] وَلَا يُوصَفُ الْأَظْهَرُ بِالْأَخْفَى وَالْأَخَصُّ بِالْأَعَمِّ ثَانِيهِمَا: أَنَّ قَوْمَ هُودٍ وَاحِدٌ وَعَادٌ، قِيلَ: إِنَّهُ لَفْظٌ يَقَعُ عَلَى أَقْوَامٍ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: 50] لِأَنَّا نَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: 60] فَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ وَيَجُوزُ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّكِرَةِ، وَأَمَّا عَادًا الْأُولَى فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِبَيَانِ تَقَدُّمِهِمْ أَيْ عَادًا الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّمْيِيزِ وَالتَّعْرِيفِ كَمَا تَقُولُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي وَاللَّهُ الْكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ لِبَيَانِ الشَّرَفِ لَا لِبَيَانِهَا وَتَعْرِيفِهَا كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الدَّارَ الْمَعْمُورَةَ مِنَ الدَّارَيْنِ وَخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فَتَبَيَّنَ الْمَقْصُودُ بِالْوَصْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ كَذَّبُوا هُودًا كَمَا قَالَ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَرِ: 9] وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَكْذِيبَ نُوحٍ كَانَ أَبْلَغَ وَأَشَدَّ حَيْثُ دَعَاهُمْ قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبَ نُوحٍ فِي مَوَاضِعَ وَلَمْ يَذْكُرْ تَكْذِيبَ غَيْرِ نُوحٍ صَرِيحًا وَإِنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ [فِي] وَاحِدٍ مِنْهَا في الأعراف قال: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [الأعراف: 64] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: 117] وَقَالَ: إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نُوحٍ: 21] وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَكْذِيبِ قَوْمِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِ ذِكْرِ شُعَيْبٍ فَكَذَّبُوهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً [الْأَعْرَافِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَافِ: 66] لِأَنَّهُ دَعَا قومه زمانا مديداو ثانيهما: أَنَّ حِكَايَةَ عَادٍ مَذْكُورَةٌ هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا تَكْذِيبَهُمْ وَتَعْذِيبَهُمْ فَقَالَ: كَذَّبَتْ عادٌ كما قال: كَذَّبَتْ (قَبْلَهُمْ) قَوْمُ نُوحٍ وَلَمْ يَذْكُرْ دُعَاءَهُ عَلَيْهِمْ وَإِجَابَتَهُ كَمَا قَالَ فِي نُوحٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ قَبْلَ أَنْ بَيَّنَ الْعَذَابَ وَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ بَيَّنَ الْعَذَابَ، ثُمَّ قَالَ: فَكَيْفَ كانَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حِكَايَةِ نُوحٍ/ مَذْكُورٌ هَاهُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كَمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ فِي حِكَايَةِ ثَمُودَ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي حِكَايَةِ عَادٍ فَكَيْفَ كانَ مَرَّتَيْنِ، الْمَرَّةُ الْأُولَى اسْتَفْهَمَ لِيُبَيِّنَ كَمَا يَقُولُ الْمُعَلِّمُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ كَيْفَ الْمَسْأَلَةُ الْفُلَانِيَّةُ لِيَصِيرَ الْمَسْئُولُ سَائِلًا، فَيَقُولُ: كَيْفَ هِيَ فَيَقُولُ إِنَّهَا كَذَا وَكَذَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فَقَالَ(29/301)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
السَّامِعُ: بَيِّنْ أَنْتَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا [القمر: 19] وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَاسْتَفْهَمَ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلْعَارِفِ الْمُشَاهِدِ كَيْفَ فَعَلْتَ وَصَنَعْتَ فَيَقُولُ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ وَيَقُولُ: أَتَيْتُ بِعَجِيبَةٍ فَيُحَقِّقُ عَظَمَةَ الْفِعْلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَاهُنَا الْمَرَّةَ الْأُولَى وَلَمْ يَذْكُرْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ ذَكَرَهَا مُخْتَصَرَةً فَكَانَ يُفَوِّتُ الِاعْتِبَارَ بِسَبَبِ الِاخْتِصَارِ فَقَالَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي حَثًّا عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَأَمَّا الِاخْتِصَارُ فِي حِكَايَتِهِمْ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْرِهِمُ الِاسْتِكْبَارُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْقُوَّةِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فُصِّلَتْ: 15] وَذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ كَثِيرًا، وَمَا كَانَ قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَالِغِينَ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُبَالَغَتُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، وَذَكَرَ حَالَةَ نُوحٍ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّ قَوْمَهُ جَمَعُوا بَيْنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَكَذَلِكَ حَالُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهَا بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة القمر (54) : آية 19]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي [القمر: 18] بِتَوْحِيدِ الضَّمِيرِ هُنَاكَ وَلَمْ يَقُلْ عَذَابُنَا، وَقَالَ: هَاهُنَا إِنَّا، وَلَمْ يَقُلْ إِنِّي، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: 11] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّرْصَرُ فِيهَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ مِنَ الصَّرِيرِ وَالصَّرَّةُ شِدَّةُ الصِّيَاحِ ثَانِيهَا: دَائِمَةُ الْهُبُوبِ مِنْ أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا دَامَ وَثَبَتَ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُشْتَقَّةَ هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ لِأَنْ يُوصَفَ بِهَا، وَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ فَلَا يُوصَفُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْرَامًا أَوْ مَعَانِيَ، فَلَا يُقَالُ: إِنْسَانٌ رَجُلٌ جَاءَ وَلَا يُقَالُ: لَوْنٌ أَبْيَضُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنْسَانٌ عَالِمٌ وَجِسْمٌ أَبْيَضُ. وَقَوْلُنَا: أَبْيَضُ مَعْنَاهُ شَيْءٌ لَهُ بَيَاضٌ، وَلَا يَكُونُ الْجِسْمُ مَأْخُوذًا فِيهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي قَوْلِنَا رَجُلٌ عَالِمٌ فَإِنَّ الْعَالِمَ شَيْءٌ لَهُ عِلْمٌ حَتَّى الْحَدَّادُ وَالْخَبَّازُ وَلَوْ أَمْكَنَ قِيَامُ الْعِلْمِ بِهِمَا لَكَانَ عَالِمًا وَلَا يَدْخُلُ الْحَيُّ فِي الْمَعْنَى مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: عَالِمٌ يُفْهَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَيٌّ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَا وُضِعَ لِحَيٍّ يَعْلَمُ بَلِ اللَّفْظُ وُضِعَ لِشَيْءٍ يُعْلَمُ وَيَزِيدُهُ ظُهُورًا قَوْلُنَا: مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ شَيْءٌ يُعْلَمُ أَوْ أَمْرٌ يُعْلَمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، وَلَوْ دَخَلَ الْجِسْمُ فِي الْأَبْيَضِ لَكَانَ قَوْلُنَا جِسْمٌ أَبْيَضُ كَقَوْلِنَا جِسْمٌ لَهُ بَيَاضٌ فَيَقَعُ الْوَصْفُ بِالْجُثَّةِ، إِذَا عَلِمْتَ هذا فمن المستفاد بالجنس شَيْءٍ، فَإِنَّ قَوْلَنَا الْهِنْدِيُّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْسُوبٍ إِلَى الْهِنْدِ وَأَمَّا الْمُهَنَّدُ فَهُوَ سَيْفٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْهِنْدِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَبْدٌ هِنْدِيٌّ وَتَمْرٌ هِنْدِيٌّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مُهَنَّدٌ وَكَذَا الْأَبْلَقُ وَلَوْنٌ آخَرُ/ فِي فَرَسٍ وَلَا يُقَالُ لِلثَّوْبِ أَبْلَقُ، كَذَلِكَ الْأَفْطَسُ أَنْفٌ فِيهِ تَقْعِيرٌ إِذَا قَالَ لِقَائِلٍ: أَنْفٌ أَفْطَسُ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْفٌ بِهِ فَطَسٌ فَيَكُونُ وَصَفَهُ بِالْجُثَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَالَ فَرَسٌ أَبْلَقُ وَلَا أَنْفٌ أَفْطَسُ وَلَا سَيْفٌ مُهَنَّدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ فَمَا الْجَوَابُ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يَرُدُّ عَلَى الصَّرْصَرِ لِأَنَّهَا الرِّيحُ الْبَارِدَةُ، فَإِذَا قَالَ: رِيحٌ صَرْصَرٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِنَا: رِيحٌ بَارِدَةٌ فَإِنَّ الصَّرْصَرَ هِيَ الرِّيحُ الْبَارِدَةُ فَحَسْبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: رِيحٌ بَارِدَةٌ فَنَقُولُ: الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِي مَعَانِيهَا أَمْرَانِ فَصَاعِدًا، كَقَوْلِنَا: عَالِمٌ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ لَهُ عِلْمٌ فَفِيهِ شَيْءٌ وَعِلْمٌ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَحَلُّ تَبَعٌ كَمَا فِي الْعَالِمِ وَالضَّارِبِ وَالْأَبْيَضِ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْعِلْمُ وَالضَّرْبُ وَالْبَيَاضُ بِخُصُوصِهَا، وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَمَقْصُودٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى أَنَّ الْبَيَاضَ لَوْ كَانَ يُبَدَّلُ بِلَوْنِ غَيْرِهِ اخْتَلَّ مَقْصُودُهُ كَالْأَسْوَدِ. وَأَمَّا الْجِسْمُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْبَيَاضِ إِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُبَدَّلَ وَأَمْكَنَ قِيَامُ الْبَيَاضِ(29/302)
بِجَوْهَرٍ غَيْرِ جِسْمٍ لَمَا اخْتَلَّ الْغَرَضُ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ هُوَ الْمَقْصُودُ كَقَوْلِنَا الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ مَا لَهُ الْحَيَاةُ لَا كَالْحَيِّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِشَيْءٍ لَهُ الْحَيَاةُ، فَالْمَقْصُودُ هُنَا الْمَحَلُّ وَهُوَ الْجِسْمُ حَتَّى لَوْ وُجِدَ حَيٌّ لَيْسَ بِجِسْمٍ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ مَنْ قَالَ: الْحَيَوَانُ وَلَوْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى اللَّهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ لَحَصَلَ غَرَضُ الْمُتَكَلِّمِ وَلَوْ حُمِلَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ عَلَى فَرَسٍ قَائِمٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَائِمٍ لَمْ تُفَارِقْهُ الْحَيَاةُ لَمْ يَبْقَ لِلسَّامِعِ نَفْعٌ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْمُتَكَلِّمِ غَرَضٌ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ قَائِمٌ وَهُوَ مَيِّتٌ هَذَا حَيَوَانٌ ثُمَّ بَانَ مَوْتُهُ لَا يَرْجِعُ عَمَّا قَالَ بَلْ يَقُولُ: مَا قُلْتُ إِنَّهُ حَيٌّ بَلْ قُلْتُ إِنَّهُ حَيَوَانٌ فَهُوَ حَيَوَانٌ فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ ثَالِثُهَا: مَا يَكُونُ الْأَمْرَانِ مَقْصُودَيْنِ كَقَوْلِنَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَنَاقَةٌ وَجَمَلٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِإِنْسَانٍ ذَكَرٍ وَالْمَرْأَةَ لِإِنْسَانٍ أُنْثَى وَالنَّاقَةَ لِبَعِيرٍ أُنْثَى وَالْجَمَلَ لِبَعِيرٍ ذَكَرٍ فَالنَّاقَةُ إِنْ أُطْلِقَتْ عَلَى حَيَوَانٍ فَظَهَرَ فرسا أو ثور اخْتَلَّ الْغَرَضُ وَإِنْ بَانَ جَمَلًا كَذَلِكَ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَفِي كُلِّ صُورَةٍ كَانَ الْمَحَلُّ مَقْصُودًا إِمَّا وَحْدَهُ وَإِمَّا مَعَ الْحَالِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ فَلَا يُقَالُ جِسْمٌ حَيَوَانٌ وَلَا يُقَالُ بَعِيرٌ نَاقَةٌ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ ذَلِكَ جُمْلَةً، فَيُوصَفُ بِالْجُمْلَةِ، فَيُقَالُ جِسْمٌ هُوَ حَيَوَانٌ وَبَعِيرٌ هُوَ نَاقَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْأَبْلَقَ وَالْأَفْطَسَ شَأْنُهُ الْحَيَوَانُ مِنْ وَجْهٍ وَشَأْنُهُ الْعَالِمُ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ الْمُهَنَّدُ لَكِنَّ دَلِيلَ تَرْجِيحِ الْحَالِ فِيهِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُهَنَّدَ لَا يُذْكَرُ إِلَّا لِمَدْحِ السَّيْفِ، وَالْأَفْطَسُ لَا يُقَالُ إِلَّا لِوَصْفِ الْأَنْفِ لَا لِحَقِيقَتِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَبْلَقُ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِوَصْفِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاقَةُ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالصَّرْصَرُ يُقَالُ لِشِدَّةِ الرِّيحِ أَوْ لِبَرْدِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مَا يُعْمَلُ بِالْبَارِدِ وَالشَّدِيدِ فَجَازَ الْوَصْفُ وَهَذَا بَحْثٌ عَزِيزٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى هَاهُنَا إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً وقال في الطور: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيَاتِ: 41] فَعَرَّفَ الرِّيحَ هُنَاكَ وَنَكَّرَهَا هُنَا لِأَنَّ الْعُقْمَ فِي الرِّيحِ أَظْهَرُ مِنَ الْبَرْدِ الَّذِي يَضُرُّ النَّبَاتَ أَوِ الشَّدَّةَ الَّتِي تَعْصِفُ الْأَشْجَارَ لِأَنَّ الرِّيحَ الْعَقِيمَ هِيَ الَّتِي لَا تُنْشِئُ سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، وَأَمَّا الرِّيحُ الْمُهْلِكَةُ الْبَارِدَةُ فَقَلَّمَا تُوجَدُ، فَقَالَ: الرِّيحَ الْعَقِيمَ أَيْ هَذَا الْجِنْسَ الْمَعْرُوفَ، ثُمَّ زَادَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذَّارِيَاتِ: 42] فَتَمَيَّزَتْ عن/ الرياح العقم، وَأَمَّا الصَّرْصَرُ فَقَلِيلَةُ الْوُقُوعِ فَلَا تَكُونُ مَشْهُورَةً فَنَكَّرَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هُنَا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ وقال في السجدة: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فُصِّلَتْ: 16] وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] وَالْمُرَادُ مِنَ الْيَوْمِ هُنَا الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مَرْيَمَ: 33] وَقَوْلُهُ: مُسْتَمِرٍّ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ الْأَيَّامُ لِأَنَّ الِاسْتِمْرَارَ يُنْبِئُ عَنْ إِمْرَارِ الزَّمَانِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْأَيَّامُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَا مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، فَذَكَرَ الزَّمَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِفْهَا، ثُمَّ إِنَّ فيه قراءتين أحدهما:
يَوْمِ نَحْسٍ بِإِضَافَةِ يَوْمٍ، وَتَسْكِينِ نَحْسٍ عَلَى وَزْنِ نَفْسٍ، وَثَانِيَتُهُمَا: يَوْمِ نَحْسٍ بِتَنْوِينِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى وَصْفِ الْيَوْمِ بِالنَّحِسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ فَإِنْ قِيلَ أَيَّتُهُمَا أَقْرَبُ؟ قُلْنَا: الْإِضَافَةُ أَصَحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقْرَأُ: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ يَجْعَلُ الْمُسْتَمِرَّ صِفَةً لِيَوْمٍ، وَمَنْ يَقْرَأُ يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ يَكُونُ الْمُسْتَمِرُّ وَصَفًّا لِنَحْسٍ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ اسْتِمْرَارُ النُّحُوسَةِ فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَلْيَقُ، فَإِنْ قِيلَ: مَنْ يَقْرَأُ يَوْمِ نَحْسٍ بِسُكُونِ الْحَاءِ، فَمَاذَا يَقُولُ فِي النَّحِسِ؟ نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هُوَ تَخْفِيفُ نَحْسٍ كَفَخْذٍ وَفَخِذٍ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ، وَنَصْرٍ وَنَصِرٍ وَرَعْدٍ وَرَعِدٍ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ تَقْدِيرَهُ: يَوْمٍ كَائِنٍ نَحِسٍ، كَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِجانِبِ(29/303)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
الْغَرْبِيِ
[الْقَصَصِ: 44] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ: نَحِسٍ لَيْسَ بِنَعْتٍ، بَلْ هُوَ اسْمُ مَعْنًى أَوْ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ بَرْدٍ وَحَرٍّ، وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى مُسْتَمِرٍّ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مُمْتَدٌّ ثَابِتٌ مُدَّةً مَدِيدَةً مِنِ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ إِذَا دَامَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: 16] لِأَنَّ الْجَمْعَ يُفِيدُ مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ وَالِامْتِدَادِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: 7] الثَّانِي: شَدِيدٌ مِنَ الْمَرَّةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَرِ: 2] وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ أَيَّامُ الشَّدَائِدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ (عذاب الخزي) «1» [فصلت: 16] فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 20]
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَنْزِعُ النَّاسَ وَصْفٌ أَوْ حَالٌ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَرْسَلَ رِيحًا صَرْصَرًا نَازِعَةً لِلنَّاسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُرْسِلَ الرِّيحُ نَازِعَةً، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَالًا، وَذُو الْحَالِ نَكِرَةٌ؟ نَقُولُ: الْأَمْرُ هُنَا أَهْوَنُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [الْقَمَرِ: 4] فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ (مَا) مَوْصُوفَةٌ فَتَخَصَّصَتْ فَحَسُنَ جَعْلُهَا ذَاتَ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا الرِّيحُ مَوْصُوفَةٌ بِالصَّرْصَرِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا فَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُهَا ذَاتَ حَالٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ عَلَى فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ جَذَبَنِي، وَتَقْدِيرُهُ جَاءَ فَجَذَبَنِي، كَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [القمر: 19] / فَأَصْبَحَتْ تَنْزِعُ النَّاسَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الْحَاقَّةِ: 7] فَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِعُ النَّاسَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: صَرْعى وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: نَزَعَتْهُمْ فَصَرَعَتْهُمْ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ كَمَا قَالَ: صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ [الْحَاقَّةِ: 7] ثَانِيهَا: نَزَعَتْهُمْ فَهُمْ بَعْدَ النَّزْعِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ الِانْقِعَارَ قَبْلَ الْوُقُوعِ، فَكَأَنَّ الرِّيحَ تَنْزِعُ [الْوَاحِدَ] وتقعر [هـ] فَيَنْقَعِرُ فَيَقَعُ فَيَكُونُ صَرِيعًا، فَيَخْلُو الْمَوْضِعُ عَنْهُ فَيَخْوَى، وَقَوْلُهُ فِي الْحَاقَّةِ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ الِانْقِعَارِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ النَّزْعِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحِكَايَةَ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةً حَيْثُ لَمْ يُشِرْ إِلَى صَرْعِهِمْ وَخُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ حَالَ الِانْقِعَارِ لَا يَحْصُلُ الْخُلُوُّ التَّامُّ إِذْ هُوَ مِثْلُ الشُّرُوعَ فِي الْخُرُوجِ وَالْأَخْذِ فِيهِ ثَالِثُهَا: تَنْزِعُهُمْ نَزْعًا بِعُنْفٍ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ تَقْعَرُهُمْ فَيَنْقَعِرُوا إِشَارَةً إِلَى قُوَّتِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى عَظَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَطُولِ أَقْدَادَهِمْ ثَانِيهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى ثَبَاتِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْمِلُونَ أَرْجُلَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَقْصِدُونَ الْمَنْعَ بِهِ عَلَى الرِّيحِ وَثَالِثُهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى يُبْسِهُمْ وَجَفَافِهِمْ بِالرِّيحِ، فَكَانَتْ تَقْتُلُهُمْ وَتَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهَا الْمُفْرِطِ فَيَقَعُونَ كَأَنَّهُمْ أَخْشَابٌ يَابِسَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا: مُنْقَعِرٍ فَذَكَّرَ النَّخْلَ، وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَأَنَّثَهَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَانَتْ أَوَاخِرُ الْآيَاتِ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: مُسْتَمِرٍّ ومُنْهَمِرٍ ومُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ:
19، 11، 7] وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَمَا يُزَيَّنُ بِحُسْنِ الْمَعْنَى يُزَيَّنُ بِحُسْنِ اللَّفْظِ، وَيُمْكِنُ أن يقال:
__________
(1) ما بين القوسين في المطبوعة (بعض الذي) وهو خطأ.(29/304)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
النَّخْلُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْوَاحِدِ، كَالْبَقْلِ وَالنَّمْلِ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ وَمُنْقَعِرَةٌ وَمُنْقَعِرَاتٌ، وَنَخْلٌ خَاوٍ وَخَاوِيَةٌ وَخَاوِيَاتٌ وَنَخْلٌ بَاسِقٌ وَبَاسِقَةٌ وَبَاسِقَاتٌ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مُنْقَعِرٌ أَوْ خَاوٍ أَوْ بَاسِقٌ جَرَّدَ النَّظَرَ إِلَى اللَّفْظِ وَلَمْ يُرَاعِ جَانِبَ الْمَعْنَى، وَإِذَا قَالَ: مُنْقَعِرَاتٌ أَوْ خَاوِيَاتٌ أَوْ بَاسِقَاتٌ جَرَّدَ النَّظَرَ إِلَى الْمَعْنَى وَلَمْ يُرَاعِ جَانِبَ اللَّفْظِ، وَإِذَا قَالَ: مُنْقَعِرَةٌ أَوْ خَاوِيَةٌ أَوْ بَاسِقَةٌ جَمَعَ بَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ مِنْ حَيْثُ وِحْدَةِ اللَّفْظِ، وَرُبَّمَا قَالَ: مُنْقَعِرَةٌ عَلَى الْإِفْرَادِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأُلْحِقُ بِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ الَّتِي فِي الْجَمَاعَةِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَفْظَ النَّخْلِ فِي مَوَاضِعَ ثَلَاثَةٍ، وَوَصَفَهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] فَإِنَّهَا حَالٌ مِنْهَا وَهِيَ كَالْوَصْفِ، وَقَالَ: نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 7] وَقَالَ: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَحَيْثُ قَالَ: مُنْقَعِرٍ كَانَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْقَعِرَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ كَالْمَفْعُولِ، لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ القعر فهو مقعور، والخاو وَالْبَاسِقُ فَاعِلٌ وَمَعْنَاهُ إِخْلَاءُ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ أَوَّلًا، كَمَا تَقُولُ: امْرَأَةٌ كَفِيلٌ، وَامْرَأَةٌ كَفِيلَةٌ، وَامْرَأَةٌ كَبِيرٌ، وَامْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا الْبَاسِقَاتُ، فَهِيَ فَاعِلَاتٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْبُسُوقَ أَمْرٌ قَامَ بِهَا، وَأَمَّا الْخَاوِيَةٌ، فَهِيَ مِنْ بَابِ حُسْنِ الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْخَاوِيَ مَوْضِعُهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَخْلٌ خَاوِيَةُ الْمَوَاضِعِ، وَهَذَا غَايَةُ الْإِعْجَازِ حَيْثُ أَتَى بِلَفْظٍ مُنَاسِبٍ لِلْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ حَيْثُ/ اللَّفْظِ، فَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ الشَّاعِرِ الَّذِي يَخْتَارُ اللَّفْظَ عَلَى الْمَذْهَبِ الضعيف لأجل الوزن والقافية. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : الآيات 21 الى 22]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
وَتَفْسِيرُهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّقْرِيرِ، وَفِي قَوْلِهِ: عَذابِي وَنُذُرِ لَطِيفَةٌ مَا ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ تَثْبُتُ بِسُؤَالٍ وَجَوَابٍ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ النُّذُرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعُ نَذِيرٍ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ إِنْذَارٌ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَذَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَكَيْفَ كَانَ أَنْوَاعُ عَذَابِي وَوَبَالِ إِنْذَارِي؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى غَلَبَةِ الرَّحْمَةِ الْغَضَبَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ إِشْفَاقٌ وَرَحْمَةٌ، فَقَالَ: الْإِنْذَارَاتُ الَّتِي هِيَ نِعَمٌ وَرَحْمَةٌ تَوَاتَرَتْ، فَلَمَّا لَمْ تَنْفَعْ وَقَعَ الْعَذَابُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَانَتِ النِّعَمُ كَثِيرَةً، وَالنِّقْمَةُ وَاحِدَةً وَسَنُبَيِّنُ هَذَا زِيَادَةَ بَيَانٍ حِينَ نُفَسِّرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] حَيْثُ جَمَعَ الْآلَاءَ وَكَثُرَ ذِكْرُهَا وَكَرَّرَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً، ثُمَّ بين الله تعالى حال قوم آخرين. فقال:
[سورة القمر (54) : آية 23]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ أنه في قصة عاد قال: كَذَّبَتْ [القمر: 18] وَلَمْ يَقُلْ: بِالنُّذُرِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ قَالَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ «1» [الشعراء: 105] فَنَقُولُ: هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ المراد بقوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] أَنَّ عَادَتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ إِنْكَارُ الرُّسُلِ وَتَكْذِيبُهُمْ فَكَذَّبُوا نُوحًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَإِنَّمَا صَرَّحَ هَاهُنَا لِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدَ قَوْمٍ وَأَتَاهُمَا رَسُولَانِ فَالْمُكَذِّبُ الْمُتَأَخِّرُ يُكَذِّبُ الْمُرْسَلِينَ جَمِيعًا حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُونَ يُكَذِّبُونَ رَسُولًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَيَلْزَمُهُمْ تَكْذِيبُ مَنْ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا مَنْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَالْحَشْرُ كَائِنٌ، وَمَنْ أُرْسِلَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَذْهَبُهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يُكَذِّبُوهُ وَيَدُلُّ على هذا
__________
(1) لم نعثر عليها في المعجم، ولفظ (بالنذر) مقحمة فإزالتها تستقيم الآية.(29/305)
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَافِ: 64] وَقَالَ فِي عَادٍ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هُودٍ: 59] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاءِ: 105] فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَقَالُوا مَا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ عَنْ نُوحٍ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: 117] وَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبُوا رُسُلَكَ إِشَارَةً إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَا أَنَّ مَا أَلْزَمَهُمْ لَزِمَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلَمَّا سَبَقَ قِصَّةُ ثَمُودَ ذَكَرَ رَسُولَيْنِ وَرَسُولُهُمْ ثَالِثُهُمْ قَالَ:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ النُّذُرَ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا الْإِنْذَارَاتُ فَنَقُولُ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ لَمْ تَسْتَمِرَّ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَأُنْذِرُوا وَأُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةٌ مِنْ صَخْرَةٍ وَكَانَتْ تَدُورُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبُوا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ بِإِنْذَارَاتٍ وَآيَاتٍ ظَاهِرَةٍ فَصَرَّحَ بِهَا، وقوله: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا/ واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ لَا أَتَّبِعُ بَشَرًا مِثْلِي وَجَمِيعُ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالنُّذُرِ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَدَّى التَّكْذِيبَ بِغَيْرِ حرف فقال: فَكَذَّبُوهُ [الأعراف: 64] وكَذَّبُوا (....) رُسُلَنا [غافر: 70] فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [القمر: 9] وكَذَّبُونِ [المؤمنون: 26] وقال: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [الأنفال: 54] وبِآياتِنا [البقرة: 39] فَعَدَّى بِحَرْفٍ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْقَائِلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ وَالْقَوْلُ يُقَالُ فِيهِ كَاذِبٌ مَجَازًا وَتَعَلُّقُ التَّكْذِيبِ بِالْقَائِلِ أَظْهَرُ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرْفِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا.
[سورة القمر (54) : آية 24]
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَيْدًا ضَرَبْتُهُ وَزَيْدٌ ضَرْبَتُهُ كِلَاهُمَا جَائِزٌ وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَذَا الْمَوْضِعُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ النَّصْبِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ يَطْلُبُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَجْعَلَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَبْدَأٌ لِكَلَامِهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ مَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ وَاذْكُرْ لِي حَالَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِعْلٌ مَذْكُورٌ تَرَجَّحَ جَانِبُ النَّصْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَالْأَحْسَنُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: من قرأ أبشر مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ كَيْفَ تَرَكَ الْأَجْوَدَ؟
نَقُولُ: نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِذْ مَا بعد القول لا يكون إلا جملة وَالِاسْمِيَّةُ أَوْلَى وَالْأَوْلَى أَقْوَى وَأَظْهَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ بَشَرًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَأَخُّرِ الْفِعْلِ فِي الظَّاهِرِ؟ نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْبَلِيغَ يُقَدِّمُ فِي الْكَلَامِ مَا يَكُونُ تَعَلُّقُ غَرَضِهِ بِهِ أَكْثَرَ وَهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ تَبْيِينَ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ فِي تَرْكِ الِاتِّبَاعِ فَلَوْ قَالُوا: أَنَتَّبِعُ بَشَرًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نَعَمِ اتَّبِعُوهُ وَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا قَدَّمُوا حَالَهُ وَقَالُوا هُوَ نَوْعُنَا بَشَرٌ وَمِنْ صِنْفِنَا رَجُلٌ لَيْسَ غَرِيبًا نَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ أَوْ يَقْدِرُ مَا لَا نَقْدِرُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَحِيدٌ وَلَيْسَ لَهُ جُنْدٌ وَحَشَمٌ وَخَيْلٌ وَخَدَمٌ فَكَيْفَ نَتَّبِعُهُ، فَيَكُونُونَ قَدْ قَدَّمُوا الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الِامْتِنَاعِ مِنْ الِاتِّبَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَاتٍ إِلَى ذَلِكَ أَحَدُهَا: نَكَّرُوهُ حَيْثُ قَالُوا أَبَشَراً وَلَمْ يَقُولُوا: أَنَتَّبِعُ صَالِحًا أَوِ الرَّجُلَ الْمُدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَرَّفَاتِ وَالتَّنْكِيرُ تَحْقِيرٌ ثَانِيهَا: قَالُوا أَبَشَرًا وَلَمْ يَقُولُوا أَرَجُلًا ثَالِثُهَا: قَالُوا مِنَّا وَهُوَ يَحْمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ صِنْفِنَا لَيْسَ غَرِيبًا، وَثَانِيهِمَا مِنَّا أَيْ تَبَعَنَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَنْتَ مِنَّا فَيَتَأَذَّى السَّامِعُ وَيَقُولُ: لَا بَلْ أَنْتَ مِنَّا وَلَسْتُ أَنَا مِنْكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْبَعْضُ يَتْبَعُ الْكُلَّ لَا الْكُلُّ يَتْبَعُ الْبَعْضَ رَابِعُهَا: واحِداً(29/306)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا: وَحِيدًا إِلَى ضَعْفِهِ وَثَانِيهِمَا: وَاحِدًا أَيْ هُوَ مِنَ الْآحَادِ لَا مِنَ الْأَكَابِرِ الْمَشْهُورِينَ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي اسْتِعْمَالِ الْآحَادِ فِي الْأَصَاغِرِ حَيْثُ يُقَالُ: هُوَ مِنْ آحَادِ النَّاسِ هُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مشهودا بِحَسَبٍ وَلَا نَسَبٍ إِذَا حَدَّثَ عَنْهُ/ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَنْهُ قَالَ فُلَانٌ أَوِ ابْنُ فُلَانٍ فَيَقُولُ قَالَ وَاحِدٌ وَفَعَلَ وَاحِدٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ غَايَةَ الْخُمُولِ، لِأَنَّ الْأَرْذَلَ لَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَيَبْقَى فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ وَاحِدًا فَيُقَالُ: لِلْأَرْذَالِ آحَادٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوا فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ إِنْ لَمْ تَتَّبِعُوهُ تَكُونُوا فِي ضَلَالٍ، فَيَقُولُونَ لَهُ: لَا بَلْ إِنْ تَبِعْنَاهُ نَكُونُ فِي ضَلَالٍ ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَرْتِيبًا عَلَى مَا مَضَى أَيْ حَالُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَحْدَةِ فَإِنِ اتَّبَعْنَاهُ نَكُونُ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَيْ جُنُونٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ فَيَكُونُ الْقَائِلُ قَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَتَّبِعُوهُ فَإِنَّا إِذًا فِي الْحَالِ فِي ضَلَالٍ وَفِي سُعُرٍ فِي الْعُقْبَى فَقَالُوا: لَا بَلْ لَوِ اتَّبَعْنَاهُ فَإِنَّا إِذًا فِي الْحَالِ فِي ضَلَالٍ وَفِي سُعُرٍ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ مَجَازًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالسَّعِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السَّعِيرُ فِي الْآخِرَةِ وَاحِدٌ فَكَيْفَ جُمِعَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: فِي جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَعِيرًا أَوْ فِيهَا سَعِيرٌ ثَانِيهَا: لِدَوَامِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يُبَدِّلُهُمْ جُلُودًا كَأَنَّهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي سَعِيرٍ آخَرَ وَعَذَابٍ آخَرَ ثَالِثُهَا: لِسِعَةِ السَّعِيرِ الْوَاحِدِ كَأَنَّهَا سُعُرٍ يُقَالُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ: فُلَانٌ لَيْسَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ بَلْ هُوَ رجال. ثم قال تعالى عنهم:
[سورة القمر (54) : آية 25]
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّفْيَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ أَبْلَغُ لِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ رُبَّمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَوْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السَّامِعَ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَإِذَا ذُكِرَ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ السَّامِعَ يُجِيبُنِي بِقَوْلِهِ: مَا أُنْزِلَ فَيُجْعَلُ الْأَمْرُ حِينَئِذٍ مَنْفِيًّا ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ: مَا أُنْزِلَ، وَالذِّكْرُ الرِّسَالَةُ أَوِ الْكِتَابُ إِنْ كَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَذْكُرُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ الْحَقُّ وَيُرَادُ بِهِ مَا يَحُلُّ مِنَ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ أَأُلْقِيَ بَدَلُ أَأُنْزِلَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ إِنْزَالٌ بِسُرْعَةٍ
وَالنَّبِيُّ كَانَ يَقُولُ: «جَاءَنِي الْوَحْيُ مَعَ الْمَلَكِ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ»
فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَكُ جِسْمٌ وَالسَّمَاءُ بَعِيدَةٌ فَكَيْفَ يَنْزِلُ فِي لَحْظَةٍ فَقَالُوا: أَأُلْقِيَ وَمَا قَالُوا: أَأُنْزِلَ، وَقَوْلُهُمْ عَلَيْهِ إِنْكَارٌ آخَرُ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أُلْقِيَ ذِكْرٌ أَصْلًا، قَالُوا: إِنْ أُلْقِيَ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا وَفِينَا مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الشَّرَفِ وَالذَّكَاءِ، وَقَوْلُهُمْ أَأُلْقِيَ بَدَلٌ عَنْ قَوْلِهِمْ أَأَلْقَى اللَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِلْقَاءَ مِنَ السَّمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَّفُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَقُولُوا: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ ذِكْرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى إِنْكَارَهُمْ/ لِمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَقَالَ: أَنْكَرُوا الذِّكْرَ الظَّاهِرَ الْمُبِينَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْكَرُوا الْمَعْلُومَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (بَلْ) يَسْتَدْعِي أَمْرًا مَضْرُوبًا عَنْهُ سَابِقًا فَمَا ذَاكَ؟ نَقُولُ قولهم: أألقي للإنكار فهم قالوا:
ما أألقي، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ: أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ، ثُمَّ قَالُوا: بَلْ هُوَ لَيْسَ بِصَادِقٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْكَذَّابُ فَعَّالٌ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ يُقَالُ: بَلْ مِنْ فَاعِلٍ كَخَيَّاطٍ وَتَمَّارٍ؟ نَقُولُ: الْأَوَّلُ(29/307)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
هُوَ الصَّحِيحُ الْأَظْهَرُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْمَنْسُوبَ إِلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ مُزَاوَلَةِ الشَّيْءِ فَإِنَّ مَنْ خَاطَ يَوْمًا ثَوْبَهُ مَرَّةً لَا يُقَالُ لَهُ خَيَّاطٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْمُبَالَغَةُ إِمَّا فِي الْكَثْرَةِ، وَإِمَّا فِي الشِّدَّةِ فَالْكَذَّابُ إِمَّا شَدِيدُ الْكَذِبِ يَقُولُ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ أَوْ كَثِيرُ الْكَذِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا وَصَفُوهُ بِهِ لِاعْتِقَادِهِمُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ وَقَوْلُهُمْ: أَشِرٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَذِبٌ لَا لِضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ إِلَى خَلَاصٍ كَمَا يَكْذِبُ الضَّعِيفُ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتَغْنَى وَبَطِرَ وَطَلَبَ الرِّيَاسَةَ عَلَيْكُمْ وَأَرَادَ اتِّبَاعَكُمْ لَهُ فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مَانِعًا مِنْ الِاتِّبَاعِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ كَذِبُهُ لَا لِضَرُورَةٍ، وَقُرِئَ: أَشَرُّ «1» فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ فِي الْأَشِرِ وَالْأَخِيرُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا رُفِضَ الْأَصْلُ فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَلَ إِذَا فُسِّرَ قَدْ يُفَسَّرُ بِأَفْعَلَ أَيْضًا وَالثَّانِي بِأَفْعَلَ ثَالِثٍ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ: مَا مَعْنَى الْأَعْلَمِ؟ يُقَالُ: هُوَ الْأَكْثَرُ عِلْمًا فَإِذَا قِيلَ: الْأَكْثَرُ مَاذَا؟ فَيُقَالُ: الْأَزْيَدُ عَدَدًا أَوْ شَيْءٌ مِثْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُفَسَّرُ بِهِ الأفعل لَا مِنْ بَابِهِ فَقَالُوا: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَالْفَضِيلَةُ أَصْلُهَا الْخَيْرُ وَالْخَيْرُ أَصْلٌ فِي بَابِ أَفْعَلَ فَلَا يُقَالُ: فِيهِ أَخْيَرُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرَّ فِي مُقَابَلَةِ الْخَيْرِ يُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْخَيْرِ فَيُقَالُ هُوَ شَرٌّ مِنْ كَذَا وَخَيْرٌ مِنْ كَذَا وَالْأَشَرُّ فِي مُقَابَلَةِ الْأَخْيَرِ، ثُمَّ إِنَّ خَيْرًا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُبَالَغَةُ الْخَيْرِ بِفَعْلٍ أَوْ أَفْعَلَ عَلَى اخْتِلَافٍ يُقَالُ: هَذَا خَيْرٌ وَهَذَا أَخْيَرُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي مُبَالَغَةِ خَيْرٍ عَلَى الْمُشَابَهَةِ لَا عَلَى الْأَصْلِ فَمَنْ يَقُولُ: أَشَرَّ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْأَصْلَ الْمُسْتَعْمَلَ لِأَنَّهُ أُخِذَ فِي الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ بِمَعْنَى هُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَا مَعْنَى الْأَعْلَمِ أَنَّ عِلْمَهُ خَيْرٌ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ غِرَّةِ الْجَهْلِ كَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الأضعف وغيره. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 26]
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: سَيَعْلَمُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَوَقْتُ إِنْزَالِ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا، لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَبَيَّنُ الْأُمُورُ وَقَدْ عَايَنُوا مَا عَايَنُوا فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مَفْرُوضَ الْوُقُوعِ فِي وَقْتِ قَوْلِهِمْ: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ يَوْمَ قَالُوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ بِالتَّعْذِيبِ لَا بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا عَذَابَ الْقَبْرِ فَهُمْ سَيُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَداً لِقُرْبِ الزَّمَانِ فِي الْإِمْكَانِ وَالْأَذْهَانِ/ ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ لِلتَّهْدِيدِ بِالتَّعْذِيبِ لَا لِلتَّكْذِيبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْسِيرِهِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِعَادَةً لِقَوْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى مَعْنَاهُ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ لِلرَّدِّ وَالْوَعْدِ بِبَيَانِ انْكِشَافِ الْأَمْرِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَعْنَاهُ سَيَعْلَمُونَ غَدًا أَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا لَا لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ، بَلْ بَطِرُوا وَأَشِرُوا لَمَّا اسْتَغْنَوْا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: غَداً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَوْمَ الْعَذَابِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 27]
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الأولى: قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِمَعْنَى الْمَاضِي أَوْ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، إِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَاضِي فَكَيْفَ يَقُولُ: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حِكَايَةِ عَادٍ وَحِكَايَةِ ثَمُودَ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: إِنَّا أَرْسَلْنا [القمر: 19] وقال هاهنا: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِمَعْنَى إِنَّا نُرْسِلُ؟ نَقُولُ: هُوَ بِمَعْنَى
__________
(1) أشر بفتح الهمزة والشين وتشديد الراء على زنة أفعل للتفضيل والمبالغة.(29/308)
الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: سَيَعْلَمُونَ غَداً يدل عليه، فإن قوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ كَالْبَيَانِ لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ سَيَعْلَمُونَ حَيْثُ: نُرْسِلُ النَّاقَةَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَارْتَقِبْهُمْ وَنَبِّئْهُمْ [القمر: 28] أَيْضًا يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنادَوْا [القمر: 29] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَاضِي قُلْنَا سَنُجِيبُ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا الْفَارِقُ فَنَقُولُ: حِكَايَةُ ثَمُودَ مُسْتَقْصَاةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ ذَكَرَ تَكْذِيبَ الْقَوْمِ بِالنَّذْرِ وَقَوْلَهُمْ لِرَسُولِهِمْ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ وَذَكَرَ الْمُعْجِزَةَ وَهِيَ النَّاقَةُ وَمَا فَعَلُوهُ بِهَا وَالْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ يَذْكُرُ حِكَايَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لِيَكُونَ وَصْفُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا فَيَقْتَدِي بِصَالِحٍ فِي الصَّبْرِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ وَيَثِقُ بِرَبِّهِ فِي النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ بِالْحَقِّ فَقَالَ: إِنِّي مُؤَيِّدُكَ بِالْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ قِصَصٍ، وَجَعَلَ الْقِصَّةَ الْمُتَوَسِّطَةَ مَذْكُورَةً عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ لِأَنَّ حَالَ صَالِحٍ كَانَ أَكْثَرَ مُشَابَهَةً بِحَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَتَى بِأَمْرٍ عَجِيبٍ أَرْضِيٍّ كَانَ أَعْجَبَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْيَا الْمَيِّتَ لَكِنَّ الْمَيِّتَ كَانَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فَأَثْبَتَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْحَيَاةَ فِي مَحَلٍّ كَانَ قَابِلًا لَهَا، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْقَلَبَتْ عَصَاهُ ثُعْبَانًا فَأَثْبَتَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخَشَبَةِ الْحَيَاةَ لَكِنَّ الْخَشَبَةَ نَبَاتٌ كَانَ لَهُ قُوَّةٌ فِي النَّمَاءِ يُشْبِهُ الْحَيَوَانَ فِي النُّمُوِّ فَهُوَ أَعْجَبُ، وَصَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الظَّاهِرُ فِي يَدِهِ خُرُوجَ النَّاقَةِ من الحجر والحجر جَمَادٌ لَا مَحَلَّ لِلْحَيَاةِ وَلَا مَحَلَّ لِلنُّمُوِّ [فِيهِ] وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِأَعْجَبَ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ الَّذِي يَقُولُ الْمُشْرِكُ لَا وَصُولَ لِأَحَدٍ إِلَى السَّمَاءِ وَلَا إِمْكَانَ لِشَقِّهِ وَخَرْقِهِ، وَأَمَّا الْأَرْضِيَّاتُ فَقَالُوا: إِنَّهَا أَجْسَامٌ مُشْتَرِكَةُ الْمَوَادِّ يَقْبَلُ كل واحد منها صورة الأخرى، والسموات لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ فَلَمَّا أَتَى بِمَا عَرَفُوا فِيهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ آدَمِيٌّ كَانَ أَتَمَّ وَأَبْلَغَ مِنْ مُعْجِزَةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ مُعْجِزَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ مَنْ كَانَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى/ الْمَاضِي. وَذُكِرَ مَعَهُ مَفْعُولُهُ فَالْوَاجِبُ الْإِضَافَةُ تَقُولُ: وَحْشِيٌّ قَاتِلُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قُلْنَا: قَاتِلٌ عَمَّ النَّبِيِّ بِالْإِعْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْحِكَايَةِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: 18] عَلَى أَنَّهُ يَحْكِي الْقِصَّةَ فِي حَالِ وُقُوعِهَا تَقُولُ: خَرَجْتُ أَمْسِ فَإِذَا زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا كَمَا تَقُولُ:
يَضْرِبُ عَمْرًا، وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ قَدْ مَضَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْأَحْسَنُ الْإِعْمَالٌ تَقُولُ: إِنِّي ضَارِبٌ عَمْرًا غَدًا، فَإِنْ قُلْتَ إِنِّي ضَارِبُ عَمْرٍو غَدًا حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ وَقَعَ وَكَانَ جَازَ لَكِنَّهُ غَيْرُ الْأَحْسَنِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَنَا:
ضَارِبٌ وَسَارِقٌ وَقَاتِلٌ أَسْمَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى الْفِعْلِ فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَحَقَّقَ فِي الْمَاضِي فَهُوَ قَدْ عُدِمَ حَقِيقَةً فَلَا وُجُودَ لِلْفِعْلِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي التَّوَقُّعِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لِلِاسْمِ مِنَ الْإِضَافَةِ وَتَرْكُ مَا لِلْفِعْلِ مِنَ الْأَعْمَالِ لِغَلَبَةِ الِاسْمِيَّةِ وَفِقْدَانِ الْفِعْلِ بِالْمَاضِي، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ حَاضِرًا أَوْ مُتَوَقَّعًا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَلَهُ وُجُودٌ حَقِيقَةً أَوْ فِي التَّوَقُّعِ فَتَجُوزُ الْإِضَافَةُ لِصُورَةِ الِاسْمِ، وَالْإِعْمَالُ لِتَوَقُّعِ الْفِعْلِ أَوْ لِوُجُودِهِ وَلَكِنَّ الْإِعْمَالَ أَوْلَى لِأَنَّ فِي الِاسْتِقْبَالِ لَنْ يَضْرِبَ يُفِيدُ لَا يَكُونُ ضَارِبًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ، أَمَّا الْإِعْمَالُ فَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ الْفِعْلِ أَوْ وُجُودِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْرًا فَالسَّامِعُ إِذَا سَمِعَ بِضَرْبِ عَمْرٍو عَلِمَ أَنَّهُ يَفْعَلُ فَإِذَا لَمْ يَرَهُ فِي الْحَالِ يَتَوَقَّعُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ غَيْرَ أَنَّ الْإِضَافَةَ تُفِيدُ تَخْفِيفًا حَيْثُ سَقَطَ بِهَا التَّنْوِينُ وَالنُّونُ فَتُخْتَارُ لَفْظًا لَا معنى، إذا عرفت هذا فنقول: مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّخْفِيفِ فِيهِ تَحْقِيقُ الْأَمْرِ وَتَقْدِيرُهُ كَأَنَّهُ وَقَعَ وَكَانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ:
إِنَّا نُرْسِلُ النَّاقَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِتْنَةً مَفْعُولٌ لَهُ فَتَكُونُ الْفِتْنَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ الْإِرْسَالِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَصْدِيقُ(29/309)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ فَمَا التَّحْقِيقُ فِي تَفْسِيرِهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِتْنَةٌ لِأَنَّ بِهَا يَتَمَيَّزُ حَالُ مَنْ يُثَابُ مِمَّنْ يُعَذَّبُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِالْمُعْجِزَةِ لَا يُعَذِّبُ الْكُفَّارَ إِلَّا إِذَا كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِصِدْقِهِ مِنْ حَيْثُ نُبُوَّتِهِ فَالْمُعْجِزَةُ ابْتِلَاءٌ لِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ وَبَعْدَ التَّصْدِيقِ يَتَمَيَّزُ الْمُصَدِّقُ عَنِ الْمُكَذِّبِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَدَقُّ أَنَّ إِخْرَاجَ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ كَانَ مُعْجِزَةً وَإِرْسَالَهَا إِلَيْهِمْ وَدَوَرَانَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقِسْمَةَ الْمَاءِ كَانَ فِتْنَةً وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا مُخْرِجُو النَّاقَةِ فِتْنَةً، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْفِتْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا وَإِلَيْهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلِلْهِدَايَةِ طُرُقٌ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ مَدْخَلٌ فِيهِ بِالْكَسْبِ، مِثَالُهُ يَخْلُقُ شَيْئًا دَالًّا وَيَقَعُ تَفَكُّرُ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَنَظَرُهُ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ الْحَقُّ فَيَتَّبِعُهُ وَتَارَةً يُلْجِئُهُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً وَيَصُونُهُ عَنِ الْخَطَأِ مِنْ صِغَرِهِ فَإِظْهَارُ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ أَمْرٌ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ اهْتِدَاءً مَعَ الْكَسْبِ وَهِدَايَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُمْ بَلْ يَخْلُقُ فيهم علوما غير كسبية فقوله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: وَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ فِتْنَةً وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ أَظْهَرَ يَكُونُ ثَوَابُ قَوْمِهِ أَقَلَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْهُمْ أَيْ فَارْتَقِبْهُمْ بِالْعَذَابِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَارْتَقِبِ الْعَذَابَ إِشَارَةً إِلَى حُسْنِ الْأَدَبِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ طَلَبِ الشَّرِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: / وَاصْطَبِرْ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بِمَعْنَى إِنْ كَانُوا يُؤْذُونَكَ فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ الْعَذَابَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى قُرْبِ الْوَقْتِ إِلَى أَمْرِهِمَا وَالْأَمْرُ بِحَيْثُ يَعْجِزُ عَنِ الصبر. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 28]
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
أي مقسوم وصف بالمصدر مرادا به المشتق منه كقوله ماء ملح وقوله زُورٌ وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ: كَرَمٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ الْكَرَمِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ لُطْفٌ مَحْضٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ عَظِيمَةً وَكَانَتْ حَيَوَانَاتُ الْقَوْمِ تَنْفِرُ مِنْهَا وَلَا تَرِدُ الْمَاءَ وَهِيَ عَلَى الْمَاءِ، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَجُعِلَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لِلْقَوْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ فَشِرْبُهُ يَوْمًا لِلنَّاقَةِ وَيَوْمًا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَانَ بَيْنَهُمْ قسمة يوم لقوم ويوم لِقَوْمٍ وَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّاقَةَ كَانَتْ تَرِدُ الماء يوم فَكَانَ الَّذِينَ لَهُمُ الْمَاءُ فِي غَيْرِ يَوْمِ وُرُودِهَا يَقُولُونَ: الْمَاءُ كُلُّهُ لَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَيَوْمُكُمْ كَانَ أَمْسِ وَالنَّاقَةُ مَا أَخَّرَتْ شَيْئًا فَلَا نُمَكِّنُكُمْ مِنَ الْوُرُودِ أَيْضًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَكُونُ النُّقْصَانُ وَارِدًا عَلَى الْكُلِّ وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَشْرَبُ الْمَاءَ بِأَسْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ وَمَنْقُولٌ وَالْمَشْهُورُ هُنَا الْوَجْهُ الْأَوْسَطُ، وَنَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا كَانُوا يَكْتَفُونَ بِلَبَنِهَا يَوْمَ وُرُودِهَا الْمَاءَ وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ وَالثَّالِثُ: قِطَعٌ وَهُوَ مِنَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ وَالسَّبَبُ فَلَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّالِثَ أَيْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ لِلْقَوْمِ بِأَسْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِبَيَانِ كَوْنِ الشِّرْبِ مُحْتَضَرًا لِلْقَوْمِ أَوِ النَّاقَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لَأَنَّ الْمَاءَ مَا كَانَ يُتْرَكُ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَإِنْ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ تَحْضُرُهُ النَّاقَةُ يَوْمًا وَالْقَوْمُ يَوْمًا فَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَادَةُ قَبْلَ النَّاقَةِ عَلَى أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ قَوْمٌ فِي يَوْمٍ وَآخَرُونَ فِي يَوْمٍ آخَرَ، ثُمَّ لَمَّا خُلِقَتِ النَّاقَةُ كَانَتْ تَنْقُصُ شِرْبَ الْبَعْضِ وَتَتْرُكُ شِرْبَ الْبَاقِينَ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، فَقَالَ: كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ كُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ فَرِدُوا كُلَّ يَوْمٍ الْمَاءَ وَكُلُّ شِرْبٍ نَاقِصٍ تقاسموه وكل شرب كامل تقاسموه.(29/310)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
[سورة القمر (54) : آية 29]
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا لَقُدَارٍ لِلْقَوْمِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: بِاللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبُهُمْ قُدَارٌ وَكَانَ أَشْجَعَ وَأَهْجَمَ عَلَى الْأُمُورِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَئِيسَهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعاطى فَعَقَرَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: تَعَاطَى آلَةَ الْعَقْرِ فَعَقَرَ الثَّانِي: تَعَاطَى النَّاقَةَ فَعَقَرَهَا وَهُوَ أَضْعَفُ الثَّالِثُ: التَّعَاطِي يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْعَظِيمِ وَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ يَقْدُمُ كُلُّ أَحَدٍ فِيهِ صَاحِبَهُ وَيُبْرِئُ نَفْسَهُ مِنْهُ فَمَنْ يَقْبَلُهُ وَيُقْدِمُ عَلَيْهِ يُقَالُ: تَعَاطَاهُ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَدَافُعٌ فَأَخَذَهُ هُوَ بَعْدَ التدافع أَنَّ الْقَوْمَ جَعَلُوا لَهُ عَلَى عَمَلِهِ جُعْلًا فتعاطاه وعقر الناقة. / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 30]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30)
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَتَفْسِيرُهُ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ذَكَرَهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا فِي حِكَايَةِ نُوحٍ بَعْدَ بَيَانِ الْعَذَابِ، وَذَكَرَهَا هَاهُنَا قَبْلَ بَيَانِ الْعَذَابِ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بَيَانِهِ، فَحَيْثُ ذَكَرَ قَبْلَ بَيَانِ الْعَذَابِ ذَكَرَهَا لِلْبَيَانِ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ فُلَانًا أَيَّ ضَرْبٍ وَأَيَّمَا ضَرْبٍ، وَتَقُولُ: ضَرَبْتُهُ وَكَيْفَ ضَرَبْتُهُ أَيْ قَوِيًّا، وَفِي حِكَايَةِ عَادٍ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ لِلْبَيَانِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَقَدْ ذَكَرْنَا السَّبَبَ فِيهِ، فَفِي حِكَايَةِ نُوحٍ ذَكَرَ الَّذِي لِلتَّعْظِيمِ وَفِي حِكَايَةِ ثَمُودَ ذَكَرَ الَّذِي لِلْبَيَانِ لِأَنَّ عَذَابَ قَوْمِ نُوحٍ كَانَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ عَامٍّ وَهُوَ الطُّوفَانُ الَّذِي عَمَّ الْعَالَمَ وَلَا كَذَلِكَ عَذَابُ قَوْمِ هُودٍ فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة القمر (54) : آية 31]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
سَمِعُوا صَيْحَةً فَمَاتُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَكانُوا مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ؟ نَقُولُ: قَالَ النُّحَاةُ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى صَارَ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
بِتَيْمَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
بِمَعْنَى صَارَتْ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِي هَذَا موضع إِنَّهَا بِمَعْنَى صَارَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كَانَ لَا تُخَالِفُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لا تتعدى والذي يقال إن كان تَامَّةً وَنَاقِصَةً وَزَائِدَةً وَبِمَعْنَى صَارَ فَلَيْسَ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَحْوَالِهَا اخْتِلَافًا يُفَارِقُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَانَ بِمَعْنَى وُجِدَ أَوْ حَصَلَ أَوْ تَحَقَّقَ غَيْرَ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ تَارَةً يَكُونُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ وَأُخْرَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ فَإِذَا قُلْتَ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَكُنْ فَيَكُونُ جَعَلْتَ الْوُجُودَ وَالْحُصُولَ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: وَجَدْتُ الْحَقِيقَةَ الْكَائِنَةَ وَكُنْ أَيِ احْصُلْ فَيُوجَدُ فِي نَفْسِهِ وَإِذَا قُلْتَ:
كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا أَيْ وُجِدَ عِلْمُ زَيْدٍ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ فِي وُجِدَ زَيْدٌ عَالِمًا إِنَّ عَالِمًا حَالٌ، وَفِي كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا نَقُولُ: إِنَّهُ خَبَرٌ كَقَوْلِنَا حَصَلَ زَيْدٌ عَالِمًا غَيْرَ أَنَّ قَوْلَنَا وُجِدَ زَيْدٌ عَالِمًا رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْوُجُودَ وَالْحُصُولَ لِزَيْدٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ قَامَ زَيْدٌ مُنْتَحِيًا حَيْثُ يَكُونُ القيامة لِزَيْدٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَوْلُنَا: كَانَ زَيْدٌ عَالِمًا لَيْسَ مَعْنَاهُ كَانَ زَيْدٌ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ هُوَ عَالِمٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ أَنَّ كَانَ عَلَى خِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَهَا بِالْحَالِ(29/311)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
تَعَلُّقٌ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا حَصَلَ زَيْدٌ الْيَوْمَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مَا نَفْهَمُهُ مِنْ قَوْلِنَا خَرَجَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فِي أَحْسَنِ زِيٍّ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا: كَانَ زَيْدٌ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِثْلَ مَا فَهِمَ هُنَاكَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَاضِي يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَّصِلِ/ بِالْحَاضِرِ، كَقَوْلِنَا: قَامَ زَيْدٌ فِي صِبَاهُ، وَيُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ كَقَوْلِنَا قَامَ زَيْدٌ فَقُمْ وَقُمْ فَإِنَّ زَيْدًا قَامَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كَانَ رُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا عَامَ كَذَا وَرُبَّمَا يُقَالُ كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا الْآنَ كَمَا فِي قَامَ زَيْدٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانُوا فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِيمَا اتَّصَلَ بِالْحَالِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ فَمَاتُوا أَيْ مُتَّصِلًا بِتِلْكَ الْحَالِ، نَعَمْ لَوِ اسْتُعْمِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَارَ يَجُوزُ لَكِنْ كَانَ وصار كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَذَا كَمَا فِي الْبَيْتِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْبُيُوضُ فِرَاخٌ، وَأَمَّا هُنَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُمْ كَهَشِيمٍ وَلَوْلَا الْكَافُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ حَمْلُ كَانَ عَلَى صَارَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ انْقَلَبُوا هَشِيمًا كَمَا يُقْلَبُ الْمَمْسُوخُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْهَشِيمُ؟ نَقُولُ هُوَ الْمَهْشُومُ أَيِ الْمَكْسُورُ وَسُمِّيَ هَاشِمٌ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثَّرِيدِ فِي الْجِفَانِ غَيْرَ أَنَّ الْهَشِيمَ اسْتُعْمِلَ كَثِيرًا فِي الْحَطَبِ الْمُتَكَسِّرِ الْيَابِسِ، فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانُوا كَالْحَشِيشِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْحَظَائِرِ بَعْدَ الْبِلَا بِتَفَتُّتٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الْكَهْفِ: 54] وَهُوَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ جَرِيحًا وَمِثْلُهُ السَّعِيرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَاذَا شَبَّهَهُمْ بِهِ؟ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ بِكَوْنِهِمْ يَابِسِينَ كَالْحَشِيشِ بَيْنَ الْمَوْتَى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ زَمَانٍ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: سَمِعُوا الصَّيْحَةَ فَكَانُوا كَأَنَّهُمْ مَاتُوا مِنْ أَيَّامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُمُ انْضَمُّوا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَمَا يَنْضَمُّ الرُّفَقَاءُ عِنْدَ الْخَوْفِ دَاخِلِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ فَاجْتَمَعُوا بعضهم فَوْقَ بَعْضٍ كَحَطَبِ الْحَاطِبِ الَّذِي يَصُفُّهُ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ مُنْتَظِرًا حُضُورَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّ الْحَطَّابَ الَّذِي عِنْدَهُ الْحَطَبُ الْكَثِيرُ يَجْعَلُ مِنْهُ كَالْحَظِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَحِيمِ أَيْ كَانُوا كَالْحَطَبِ الْيَابِسِ الَّذِي لِلْوَقِيدِ فَهُوَ مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وقوله تعالى: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنِّ: 15] وَقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نُوحٍ: 25] كَذَلِكَ مَاتُوا فَصَارُوا كَالْحَطَبِ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْإِحْرَاقِ لِأَنَّ الْهَشِيمَ لَا يَصْلُحُ للبناء. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 32]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
والتكرار للتذكار. ثم بين حال قوم آخرون وهم قوم لوط فقال:
[سورة القمر (54) : آية 33]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ وإهلاكهم، فقال:
[سورة القمر (54) : آية 34]
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْحَاصِبُ فَاعِلٌ مِنْ حَصَبَ إِذَا رَمَى الْحَصْبَاءَ وَهِيَ اسْمُ الْحِجَارَةِ وَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ/ هُوَ نَفْسُ(29/312)
الْحِجَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الْحِجْرِ: 74] وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ:
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذَّارِيَاتِ: 33] فَالْمُرْسَلُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَاصِبٍ فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ:
الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا حَاصِبًا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْحَصْبَاءُ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ الْحَاصِبِ فِي الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فَأَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ الرِّيحَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 6] ، بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى:
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ [ص: 36] وَقَالَ تَعَالَى: غُدُوُّها شَهْرٌ [سَبَأٍ: 12] وَقَالَ تَعَالَى فِي:
[وَأَرْسَلْنَا] الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] وَمَا قَالَ لِقَاحًا وَلَا لِقْحَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مُسَوَّمَةً عَلَيْهَا عَلَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَهِيَ لَا تُسَمَّى حَصْبَاءُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، نَقُولُ: تَأْنِيثُ الرِّيحِ لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَهَا أَصْنَافٌ الْغَالِبُ فِيهَا التَّذْكِيرُ كَالْإِعْصَارِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ [الْبَقَرَةِ: 266] فَلَمَّا كَانَ حَاصِبُ حِجَارَةٍ كَانَ كَالَّذِي فِيهِ نَارٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَانَ الرَّمْيُ بِالسِّجِّيلِ لَا بِالْحَصْبَاءِ، وَبِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا بِالرِّيحِ، فَنَقُولُ: كُلُّ رِيحٍ يَرْمِي بِحِجَارَةٍ يُسَمَّى حَاصِبًا، وَكَيْفَ لا والسحاب الذي يأتي بالبرد يسمى حاصبا تَشْبِيهًا لِلْبَرَدِ بِالْحَصْبَاءِ، فَكَيْفَ لَا يُقَالُ فِي السِّجِّيلِ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ حَرَّكُوا الرِّيحَ وَهِيَ حَصَبَتِ الْحِجَارَةَ عَلَيْهِمْ الْجَوَابُ الثَّانِي: الْمُرَادُ عَذَابٌ حَاصِبٌ وَهَذَا أَقْرَبُ لِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْحِسَابَ وَالرِّيحَ وَكُلَّ مَا يُفْرَضُ الْجَوَابُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: حاصِباً هُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْكُلِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَرْسَلْنا يَدُلُّ عَلَى مُرْسَلٍ هُوَ مُرْسَلُ الْحِجَارَةِ وَحَاصِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ حَاصِبِينَ، نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ رَجَّحَ جَانِبَ اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ شَيْئًا حَاصِبًا إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ جِنْسِ الْعَذَابِ لَا بَيَانُ مَنْ عَلَى يَدِهِ الْعَذَابُ، وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى مَنْ قَالَ: الرِّيحُ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّ تَرْكَ التَّأْنِيثِ هُنَاكَ كَتَرْكِ عَلَامَةِ الْجَمْعِ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَتَّبَ الْإِرْسَالَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْفَاءِ فَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ فَأَرْسَلْنَا كَمَا قَالَ:
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ [الْقَمَرِ: 11] لِأَنَّ الْحِكَايَةَ مَسُوقَةٌ عَلَى مَسَاقِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكَايَاتِ، فَكَأَنَّهُ قال:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 30] كَمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ قِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ وَإِنَّمَا أَنْتَ الْعَلِيمُ فَأَخْبِرْنَا، فَقَالَ:
إِنَّا أَرْسَلْنا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ الْعَذَابِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي كَمَا قَالَ فِي الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ، نَقُولُ: لِأَنَّ التَّكْرَارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَالِغٌ، وَلِهَذَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ بلغت ثلاثا»
وقال: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ»
وَالْإِذْكَارُ تَكَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبِثَلَاثِ مِرَارٍ حَصَلَ التَّأْكِيدُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي حِكَايَةِ نُوحٍ لِلتَّعْظِيمِ وَفِي حِكَايَةِ ثَمُودَ لِلْبَيَانِ وَفِي حِكَايَةِ عَادٍ أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي فِي ثَلَاثِ حِكَايَاتٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لِلْإِنْذَارِ، وَالْمَرَّاتُ الثَّلَاثُ لِلْإِذْكَارِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] ذَكَرَهُ مَرَّةً لِلْبَيَانِ وَأَعَادَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً غَيْرَ الْمَرَّةِ الْأُولَى كَمَا أَعَادَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَيْرَ الْمَرَّةِ/ الْأُولَى فَكَانَ ذِكْرُ الْآلَاءِ عَشَرَةَ أَمْثَالِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى الرَّحْمَةِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِهَا مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ: الرَّحْمَنِ.
المسألة الرابعة: إِلَّا آلَ لُوطٍ استثناء مما ذا؟ إِنْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً(29/313)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
فَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ثَمَّ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ لَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ وَآلُهُ مِنْ قَوْمِهِ فَيَكُونُ آلُهُ قَدْ كَذَّبُوا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؟ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِمَّنْ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْقَوْمُ بِأَسْرِهِمْ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَ آلِهِ مُكَذِّبِينَ، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَصَى أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ يُطِيعُونَ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَا غَيْرَ، فَإِنْ قِيلَ: ماله حَاجَةٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ يَصِحُّ وَإِنْ نَجَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ نَقُولُ: الْفَائِدَةُ لَمَّا كَانَتْ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِبَيَانِ إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ وَإِنْجَاءِ مَنْ آمَنَ فَكَانَ ذِكْرُ الْإِنْجَاءِ مَقْصُودًا، وَحَيْثُ يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مَقْصُودًا لَا يَجُوزُ التَّعْمِيمُ وَالْإِطْلَاقُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ مِثَالُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ [الْحِجْرِ: 30، 31] اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] وَلَمْ يَسْتَثْنِ إِذِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهَا أُوتِيَتْ، لَا بَيَانُ أَنَّهَا مَا أُوتِيَتْ، وَفِي حِكَايَةِ إِبْلِيسَ كِلَاهُمَا مُرَادٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ عُوقِبَ وَمَنْ تَوَاضَعَ أُثِيبَ كَذَلِكَ الْقَوْلُ هَاهُنَا، وَأَمَّا عِنْدَ التَّكْذِيبِ فَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يَسْتَثْنِ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا فَمَا أَنْجَيْنَا مِنَ الْحَاصِبِ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِمْ وَالْإِهْلَاكُ يَكُونُ عَامًّا كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] فَكَانَ الْحَاصِبُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ الْإِرْسَالُ عَلَيْهِ مَقْصُودًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَأَطْفَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ فَمَا نَجَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا آلُ لُوطٍ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ بَلْ كَانَ مَنْ أَمْرٍ عَامٍّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لُوطٌ أَيْضًا مُسْتَثْنًى؟ نَقُولُ: هُوَ مُسْتَثْنًى عَقْلًا لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَإِنْجَاءُ أَتْبَاعِهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 32] فِي جَوَابِهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام حيث قال: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: 32] فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ [الْحِجْرِ: 59] اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَآلُ لُوطٍ لَمْ يَكُونُوا مُجْرِمِينَ فَكَيْفَ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فَأَحَدُ الْجَوَابَيْنِ إِنَّا أَرْسَلَنَا إِلَى قَوْمٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُجْرِمْ ثَانِيهِمَا: إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ بِإِهْلَاكٍ يَعُمُّ الْكُلَّ إِلَّا آلَ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ وَقْتِ الْإِنْجَاءِ أَوْ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ آلَ لُوطٍ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِمْ وَلَا يُصِيبُهُمُ الْحَاصِبُ كَمَا فِي عَادٍ كَانْتِ الرِّيحُ تَقْلَعُ الْكَافِرَ وَلَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا مَكْرُوهٌ أَوْ يَجْعَلُ لَهُمْ مِدْفَعًا كَمَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَقَالَ: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَالسَّحَرُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ وَقِيلَ هو السدس الأخير من الليل. / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 35]
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
أَيْ ذَلِكَ الْإِنْجَاءُ كَانَ فَضْلًا مِنَّا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْإِهْلَاكَ كَانَ عَدْلًا وَلَوْ أُهْلِكُوا لَكَانَ ذَلِكَ عَدْلًا، قَالَ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] قَالَ الْحُكَمَاءُ الْعُضْوُ الْفَاسِدُ يُقْطَعُ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقْطَعَ مَعَهُ جُزْءٌ مِنَ الصَّحِيحِ لِيَحْصُلَ اسْتِئْصَالُ الْفَسَادِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى التَّمْيِيزِ التَّامِّ فَهُوَ مُخْتَارٌ إِنْ شَاءَ أهلك من آمن وكذب، ثُمَّ يُثَبِّتُ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَهْلَكَ مَنْ كَذَّبَ، فَقَالَ:
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ وَفِي نَصْبِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: نَجَّيْنَاهُمْ نِعْمَةً مِنَّا ثَانِيهِمَا(29/314)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنْهُ إِنْعَامٌ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْإِنْجَاءِ إِنْعَامًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: ظَاهِرٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ آمَنَ كَذَلِكَ نُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَلَا نُهْلِكُهُ وَعْدًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ يَصُونُهُمْ عَنِ الْإِهْلَاكَاتِ الْعَامَّةِ وَالسَّيِّئَاتِ الْمُطْبِقَةِ الشَّامِلَةِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ لَهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِالثَّوَابِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ نُنْعِمُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْإِهْلَاكَاتِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ لَازِمٌ بِحُكْمِ الْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ يُنَجِّي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَةِ: 85] وَالشَّاكِرُ مُحْسِنٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَزَاؤُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 36]
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
وَفِيهِ تَبْرِئَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَانُ أَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَتَّبَ التَّعْذِيبَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَكَانَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ الْإِنْذَارَاتِ الْبَالِغَةَ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَهْلَكْنَاهُمْ وَكَانَ قَدْ أَنْذَرَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَفِي قَوْلِهِ:
بَطْشَتَنا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ الْبَطْشَةُ الَّتِي وَقَعَتْ وَكَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [القمر: 34] فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ، ذكرها للإنذار بِهَا وَالتَّخْوِيفِ وَثَانِيهِمَا:
الْمُرَادُ بِهَا مَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى [الدُّخَانِ: 16] وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَانُوا يُنْذِرُونَ قَوْمَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] وَقَالَ:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِرٍ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النَّبَإِ: 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [الْبُرُوجِ: 12] وَقَالَ هَاهُنَا: بَطْشَتَنا وَلَمْ يَقُلْ: بَطَشْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ بَطْشَ/ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ بَيَانٌ لِجِنْسِ بَطْشِهِ، فَإِذَا كَانَ جِنْسُهُ شَدِيدًا فَكَيْفَ الْكُبْرَى مِنْهُ، وَأَمَّا لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَذَكَرَ لَهُمُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي التَّبْلِيغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ يَدُلُّ على أن النذر هي الإنذارات. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 37]
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَالْمُرَاوَدَةُ مِنَ الرَّوْدِ، وَمِنْهُ الْإِرَادَةُ وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمُطَالَبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعَيْنِ يُقَالُ: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْرًا بِالدَّرَاهِمِ، وَالْمُرَاوَدَةُ لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْعَمَلِ يُقَالُ: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، وَلِهَذَا تُعَدَّى الْمُرَاوَدَةُ إلى مفعول ثان بعن، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّغْلَ مَنُوطٌ بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ، وَالْعَيْنُ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَهَذَا فَرْقُ الْحَالِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَخْبِرْنِي بِأَمْرِهِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ الْعَيْنُ بِخِلَافٍ مَا إِذَا قِيلَ عَنْ كَذَا، وَيُزِيدُ هَذَا ظُهُورًا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلَانٍ، وَقَوْلُهُ: أَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ عَنْ مَجِيئِهِ رُبَّمَا يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْمَجِيءِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَنِي بِمَجِيئِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نَفْسِ الْمَجِيءِ وَالضَّيْفُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ وَكَيْفِيَّةُ الْمُرَاوَدَةِ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كانوا مفسدين وسمعوا يضيف(29/315)
دَخَلُوا عَلَى لُوطٍ فَرَاوَدُوهُ عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ نَقُولُ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ فِيهِمْ فَضَرَبَ بِبَعْضِ جَنَاحِهِ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَأَعْمَاهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي رَاوَدُوهُ إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فَمَا فِي قَوْلِهِ: أَعْيُنَهُمْ أَيْضًا عَائِدًا إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ قَدْ طَمَسَ أَعْيُنَ قَوْمٍ وَلَمْ يَطْمِسْ إِلَّا أَعْيُنَ قَلِيلٍ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ دَخَلُوا دَارَ لُوطٍ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ دَخَلُوا الدَّارَ فَلَا ذِكْرَ لَهُمْ فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ نَقُولُ: الْمُرَاوَدَةُ حَقِيقَةً حَصَلَتْ مِنْ جَمْعٍ مِنْهُمْ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْقَوْمِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ أَسْنَدَهَا إِلَى الْكُلِّ ثُمَّ بِقَوْلِهِ رَاوَدُوهُ حَصَلَ قَوْمٌ هُمُ الْمُرَاوِدُونَ حَقِيقَةً فَعَادَ الضَّمِيرُ فِي أَعْيُنِهِمْ إِلَيْهِمْ مِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوْا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فَيَكُونُ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ صَلَّوْا بَعْدَ مَا آمَنُوا وَلَا يَعُودُ إِلَى مُجَرَّدِ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّكَ لَوِ اقْتَصَرْتَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَنْظُومًا وَلَوْ قُلْتَ الَّذِينَ صَلَّوْا فَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ صَحَّ الْكَلَامُ، فَعُلِمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى مَا حَصَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
راوَدُوهُ وَالضَّمِيرُ فِي رَاوَدُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُنْذِرِينَ الْمُتَمَارِينَ بِالنُّذُرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وَقَالَ فِي يس: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ: هَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الطَّمْسِ الْحَجْبُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فَمَا جُعِلَ عَلَى بَصَرِهِمْ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا وَلَمْ يَرَوْا هُنَاكَ شَيْئًا فَكَانُوا كَالْمَطْمُوسِينَ، وَفِي يس أَرَادَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِمْ غِشَاوَةً، أَيْ أَلْزَقَ أَحَدَ الْجَفْنَيْنِ بِالْآخَرِ فَيَكُونُ عَلَى/ الْعَيْنِ جِلْدَةٌ فَيَكُونُ قَدْ طُمِسَ عَلَيْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُمْ عَمُوا وَصَارَتْ عَيْنُهُمْ مَعَ وَجْهِهِمْ كَالصَّفْحَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي لِأَنَّهُمْ إِنْ بَقُوا مُصِرِّينَ وَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا هُنَاكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَذَابًا وَالطَّمْسُ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَذَابٌ، فَنَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى هَاهُنَا مَا وَقَعَ وَهُوَ طَمْسُ الْعَيْنِ وَإِذْهَابُ ضَوْئِهَا وَصُورَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى صَارَتْ وُجُوهُهُمْ كَالصَّفْحَةِ الْمَلْسَاءِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْإِنْكَارُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَقَعَ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَدَ خَوَّفَهُمْ بِالْمُمْكِنِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فَاخْتَارَ مَا يُصَدِّقُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَيُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ الطَّمْسُ عَلَى الْعَيْنِ، لِأَنَّ إِطْبَاقَ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَهُوَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ فَقَالَ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] وما شققنا جفنهم عَنْ عَيْنِهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرُ الْإِمْكَانِ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَالطَّمْسُ عَلَى مَا وَقَعَ لِقَوْمِ لُوطٍ نَادِرٌ، فَقَالَ: هُنَاكَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ خِطَابٌ مِمَّنْ وَقَعَ وَمَعَ مَنْ وَقَعَ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: فِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ فَقُلْتُ: عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ ذُوقُوا عَذَابِي ثَانِيهَا: هَذَا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مُكَذِّبٍ تَقْدِيرُهُ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا عَذَابِي فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا ذَاقُوهُ ثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ كَلَامِ النَّاسِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْمُلُوكِ إِذَا أَمَرَ بِضَرْبِ مُجْرِمٍ وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ فَإِذَا ضرب ضربا مبرحا وهو يصرح وَالْمَلِكُ يَسْمَعُ صُرَاخَهُ يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ صُرَاخِهِ ذُقْ إِنَّكَ مُجْرِمٌ مُسْتَأْهِلٌ وَيَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ الْمُعَذَّبَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ وَيُخَاطِبُ بِكَلَامِهِ الْمُسْتَغِيثَ الصَّارِخَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُسْمَعُ إِذَا عَذَّبَ مُعَانِدًا كَانَ قَدْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَقُولُ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] فَذُوقُوا (بِما نَسِيتُمْ) لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [السَّجْدَةِ: 14] فَذُوقُوا عَذابِي وَلَا يَكُونُ بِهِ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَسْمَعُ وَيُجِيبُ، وَذَلِكَ إِظْهَارُ الْعَدْلِ أَيْ لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْ تَعْذِيبِكَ فَتَتَخَلَّصَ بِالصُّرَاخِ وَالضَّرَاعَةِ، وَإِنَّمَا أَنَا بِكَ عَالِمٌ وَأَنْتَ لَهُ أَهْلٌ لِمَا قَدْ صَدَرَ مِنْكَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْفَاءِ، وَأَمَّا(29/316)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
بِالْفَاءِ فَلَا تَقُولُ: وَبِالْفَاءِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَقُولُ: كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النُّذُرُ كَيْفَ يُذَاقُ؟ نَقُولُ: مَعْنَاهُ ذُقْ فِعْلَكَ أَيْ مُجَازَاةَ فِعْلِكَ وَمُوجَبَهُ وَيُقَالُ: ذُقِ الْأَلَمَ عَلَى فِعْلِكَ وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا عَذابِي كَقَوْلِهِمْ: ذُقِ الْأَلَمَ، وَقَوْلُهُ: وَنُذُرِ كَقَوْلِهِمْ ذُقْ فِعْلَكَ أَيْ ذُقْ مَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَذُوقُوا عَذابِي وَمَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي وَهُوَ الْعَذَابُ يَكُونُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: ذُوقُوا عَذَابِي وَعَذَابِي؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي أَيِ الْعَاجِلَ مِنْهُ، وَمَا لَزِمَ مِنْ إِنْذَارِي وَهُوَ الْعَذَابُ الْآجِلُ، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ كَانَ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا عَذَابِي الْعَاجِلَ وَعَذَابِي الْآجِلَ، فَإِنْ قِيلَ: هُمَا لَمْ يَكُونَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ: ذُوقُوا، نَقُولُ: الْعَذَابُ الْآجِلُ أَوَّلُهُ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، فَهُمَا كَالْوَاقِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] . / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 38]
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
أَيِ الْعَذَابُ الَّذِي عَمَّ الْقَوْمَ بَعْدَ الْخَاصِّ الَّذِي طَمَسَ أَعْيُنَ الْبَعْضِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: صَبَّحَهُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الصُّبْحِ، فَمَا مَعْنَى: بُكْرَةً؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ تَبْيِينُ انْطِرَاقِهِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: بُكْرَةً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا ظرف، ومثله نقوله فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] وَفِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: لَيْلًا وَقَالَ:
جَوَابًا فِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَتَمَسَّكَ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالْأَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ يُذْكَرُ لِبَيَانِ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ بَيَانَهُ، كَمَا يَقُولُ: خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّ الْخُرُوجَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بيان الوقت المعين، وَلَوْ قَالَ: خَرَجْنَا، فَرُبَّمَا يَقُولُ السَّامِعُ: مَتَى خَرَجْتُمْ، فَإِذَا قَالَ: فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَشَارَ إِلَى أَنَّ غَرَضَهُ بَيَانُ الْخُرُوجِ لَا تَعْيِينُ وَقْتِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أَيْ بكرة من البكر وأَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا أَيْ لَيْلًا مِنَ اللَّيَالِي فَلَا أُبَيِّنُهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ نَفْسُ الْإِسْرَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لَكَانَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّمَا لَيْلَةٍ؟ فَإِذَا قَالَ: لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَطَعَ سُؤَالَهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُبَيِّنُهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ الْوَقْتَ، فَهَذَا أَقْرَبُ فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فِي أَسْرَى لَيْلًا، فَاعْلَمْ مِثْلَهُ فِي: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: صَبَّحَهُمْ بِمَعْنَى قَالَ لَهُمْ: عِمُوا صَبَاحًا اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، كَمَا قَالَ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَهُمُ الْعَذَابُ بُكْرَةً كَالْمُصَبِّحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُحْتَمَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وَهُوَ أَنَّ: صَبَّحَهُمْ مَعْنَاهُ أَتَاهُمْ وَقْتَ الصُّبْحِ، لَكِنَّ التَّصْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِتْيَانِ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِ الصُّبْحِ إِلَى مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ، فَإِذَا قَالَ: بُكْرَةً أَفَادَ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْهُ، وَمَا أُخِّرَ إِلَى الْأَسْفَارِ، وَهَذَا أَوْجَهُ وَأَلْيَقُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْعَدَهُمْ بِهِ وَقْتَ الصُّبْحِ، بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هُودٍ: 81] وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِخْبَارِ تَحَقُّقُهُ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ فِي أَوَّلِ الصُّبْحِ، وَمُجَرَّدُ قِرَاءَةِ: صَبَّحَهُمْ مَا كَانَ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَقْوَى لِأَنَّكَ تَقُولُ: صَبِيحَةُ أَمْسِ بُكْرَةً وَالْيَوْمُ بُكْرَةً، فَيَأْتِي فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بُكْرَةٌ مِنَ الْبِكْرِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ بَابِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا فَإِنَّ الْمَنْصُوبَ فِي ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ(29/317)
فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
يَكُونُ غَيْرَ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي ضَرَبْتُهُ سَوْطًا ضَرْبًا، لَا يُقَالُ: ضَرْبًا سَوْطًا بَيْنَ أَحَدِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، لِأَنَّ الضَّرْبَ قَدْ يَكُونُ بِسَوْطٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا: بُكْرَةً فَلَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بُكْرَةً بَيْنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الصُّبْحَ قَدْ يَكُونُ بِالْإِتْيَانِ وَقْتَ الْإِسْفَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِتْيَانِ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي/ أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا قُلْنَا: نَعَمْ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هُنَاكَ بَيَانُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِسْرَاءِ، نَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: ضَرَبْتُهُ شَيْئًا، فَإِنَّ شَيْئًا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ ضَرْبٍ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفَائِدَتُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَيَانِ عَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِأَنْوَاعِهِ، وَكَأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أُبَيِّنُ مَا ضَرَبْتُهُ بِهِ، وَلَا أَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْمَقْصُودِ بِهِ لِيَقْطَعَ سُؤَالَ السَّائِلِ: بِمَاذَا ضَرَبَهُ بِسَوْطٍ أَوْ بِعَصَا، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا يَقْطَعُ سُؤَالَ السَّائِلِ عَنِ الْإِسْرَاءِ، لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ هُوَ السَّيْرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَالسُّرَى هُوَ السَّيْرُ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُسْتَقِرٌّ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: عَذَابٌ لَا مَدْفَعَ لَهُ، أَيْ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمْ وَيَثْبُتُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِزَالَتِهِ وَرَفْعِهِ أَوْ إِحَالَتِهِ وَدَفْعِهِ ثَانِيهَا: دَائِمٌ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُهْلِكُوا نُقِلُوا إِلَى الْجَحِيمِ، فَكَأَنَّ مَا أَتَاهُمْ عَذَابٌ لَا يَنْدَفِعُ بِمَوْتِهِمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يُخَلِّصُ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي يَجِدُهُ الْمَضْرُوبُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْمَحْبُوسُ مِنَ الْحَبْسِ، وَمَوْتُهُمْ مَا خَلَّصَهُمْ ثَالِثُهَا: عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّى غَيْرَهُمْ، أَيْ هُوَ أَمْرٌ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَرَّرَهُ فَاسْتَقَرَّ، وَلَيْسَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَمْرٌ أَصَابَهُمُ اتِّفَاقًا كَالْبَرْدِ الَّذِي يَضُرُّ زَرْعَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، وَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ، وَلَيْسَ لَوْ خَرَجُوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ لَنَجَوْا كَمَا نَجَا آلُ لُوطٍ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ يَتْبَعُهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ أَمْرًا قَدِ اسْتَقَرَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الضَّمِيرُ فِي صَبَّحَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَيَعُودُ لَفْظًا إِلَيْهِمْ لِلْقُرْبِ، وَمَعْنًى إِلَى الَّذِينَ تَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، أَوِ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا [القمر:
36] . ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 39]
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39)
مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّ الْعَذَابَ كان مرتين خاص بالمراودين، والآخر عام. وقوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 40]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قَدْ فَسَّرْنَاهُ مِرَارًا وَبَيَّنَّا مَا لِأَجْلِهِ تَكْرَارًا. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي لَفْظِ: آلَ فِرْعَوْنَ بَدَلَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ؟ نَقُولُ: الْقَوْمُ أَعَمُّ مِنَ الْآلِ، فَالْقَوْمُ كُلُّ مَنْ يَقُومُ الرَّئِيسُ بِأَمْرِهِمْ أَوْ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ، وَالْآلُ كُلُّ مَنْ يَؤُولُ إِلَى/ الرَّئِيسِ خَيْرُهُمْ وَشَرُّهُمْ أَوْ يَؤُولُ إِلَيْهِمْ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، فَالْبَعِيدُ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ الرَّئِيسُ وَلَا يَعْرِفُ هُوَ عَيْنَ الرَّئِيسِ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ اسْمَهُ، فَلَيْسَ هُوَ بِآلِهِ، إِذَا عَرَفْتَ الْفَرْقَ، نَقُولُ: قَوْمُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ قَاهِرٌ يَقْهَرُ الْكُلَّ وَيَجْمَعُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا هُمْ رُؤَسَاءَ وَأَتْبَاعًا، وَالرُّؤَسَاءُ إِذَا كَثُرُوا لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حُكْمٌ نَافِذٌ عَلَى أحد،(29/318)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
أَمَّا عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَرَاذِلِ فَلِأَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَدْفَعُونَ بِهِ الْآخَرَ، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِرَأْسِهِ، فَكَأَنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَكَانَ قَاهِرًا يَقْهَرُ الْكُلَّ، وَجَعَلَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الرَّسُولَ وَحْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ الْمُقَرَّبِينَ مِثْلُ قَارُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَهُ لِمَالِهِ الْعَظِيمِ، وَهَامَانَ لِدَهَائِهِ، فَاعْتَبَرَهُمُ اللَّه فِي الْإِرْسَالِ، حَيْثُ قَالَ: فِي مَوَاضِعَ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ [الزخرف: 46] وقال تعالى: بِآياتِنا ... إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ [غَافِرٍ:
23، 24] وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى [الْعَنْكَبُوتِ: 39] لِأَنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا آمَنَ الْكُلُّ بِخِلَافِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ، فَقَالَ: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَقَالَ كَثِيرًا مِثْلَ هَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] ، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ [غَافِرٍ: 28] وَقَالَ: بِلَفْظِ الْمَلَأِ أَيْضًا كَثِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَلَقَدْ جاءَ وَلَمْ يَقُلْ فِي غَيْرِهِمْ جَاءَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جَاءَهُمْ، كَمَا جَاءَ الْمُرْسَلُونَ أَقْوَامَهُمْ، بَلْ جَاءَهُمْ حَقِيقَةً حَيْثُ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْقَوْمِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] حَقِيقَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّه من السموات بَعْدَ الْمِعْرَاجِ، كَمَا جَاءَ مُوسَى قَوْمَهُ مِنَ الطُّورِ حَقِيقَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النُّذُرُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْإِنْذَارَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْكَلَامُ الَّذِي جَاءَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَيَدِهِ تِلْكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّسُلَ فَهُوَ لِأَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ جَاءَهُ وَكُلُّ مُرْسَلٍ تَقَدَّمَهُمَا جَاءَ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا مَا قَالَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّه وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنْ غَيْرِ فَاءٍ تَقْتَضِي تَرَتُّبَ التَّكْذِيبِ عَلَى الْمَجِيءِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَقَوْلُهُ: كَذَّبُوا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحِكَايَةَ مَسُوقَةٌ عَلَى سِيَاقِ مَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: (فَكَيْفَ كان عذابي ونذر وَقَدْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ) ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ آيَاتُنَا كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُرَادُ آيَاتُهُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ التِّسْعُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه كُلِّهَا السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ واحد. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَالْآبِقِينَ أَوْ إِلَى أَنَّهُمْ عَاصُونَ يُقَالُ: أَخَذَ الْأَمِيرُ فُلَانًا إِذَا حَبَسَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْعَزِيزَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَالِبُ لَكِنَّ الْعَزِيزَ قَدْ يَكُونُ [الَّذِي] يَغْلِبُ عَلَى الْعَدُوِّ وَيَظْفَرُ بِهِ وَفِي الْأَوَّلِ يَكُونُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ أَخْذِهِ لِبُعْدِهِ إِنْ كَانَ هاربا ولمنعته إن/ كان محاربا، فقال أحد غَالِبٍ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَإِنَّمَا كَانَ مُمْهِلًا. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 43]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
تَنْبِيهًا لَهُمْ لِئَلَّا يَأْمَنُوا الْعَذَابَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُفَّارُهُمْ بَعْضَهُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ، وَإِذَا كَانَ كُفَّارُهُمْ بَعْضَهُمْ فَكَيْفَ قَالَ: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ ولم يقل: أم لَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: جَاءَنَا الْكُرَمَاءُ فَأَكْرَمْنَاهُمْ، وَلَا يَقُولُ: فَأَكْرَمْنَاكُمْ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَكُفَّارُكُمُ الْمُسْتَمِرُّونَ(29/319)
عَلَى الْكُفْرِ الَّذِينَ لَا يَرْجِعُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعًا عَظِيمًا مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْخِطَابِ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ، وَالْعَذَابُ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ يُؤْمِنُ فَقَالَ: الَّذِينَ يُصِرُّونَ مِنْكُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ خَيْرٌ، أَمِ الَّذِينَ أَصَرُّوا مِنْ قَبْلُ؟ فَيَصِحُّ كَوْنُ التَّهْدِيدِ مَعَ بَعْضِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَمْ لَكُمْ لِعُمُومِكُمْ بَرَاءَةٌ فَلَا يَخَافُ الْمُصِرُّ مِنْكُمْ لِكَوْنِهِ فِي قَوْمٍ لَهُمْ بَرَاءَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ إِنْ أَصْرَرْتُمْ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَامًّا وَالتَّهْدِيدُ كَذَلِكَ، فَالشَّرْطُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْإِصْرَارُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَيْرٌ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: خَيْرٌ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ أَمْرَيْنِ فِي صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَيْرٌ وَلَا صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَنْعُ اقْتِضَاءِ الاشتراك يدل عليه قول حسان:
[أتهجوه وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ] ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
مَعَ اخْتِصَاصِ الْخَيْرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالشَّرِّ بِمَنْ هَجَاهُ وَعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا ثَانِيهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي زَعْمِهِمْ أَيْ: أَيَزْعُمُ كُفَّارُكُمْ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي أَنْفُسِهِمُ الْخَيْرَ، وَكَذَا فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَمُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْهَلَاكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ عَلَى هَيْئَةٍ مَذْمُومَةٍ ثَالِثُهَا: الْمُرَادُ: أَكُفَّارُكُمْ أَشَدُّ قُوَّةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ فِي الْقُوَّةِ؟ وَالْقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ فِي الْعُرْفِ رَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ فَفِيهِ صِفَاتٌ مَحْمُودَةٌ وَأُخْرَى غَيْرُ مَحْمُودَةٍ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَحْمُودَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَابَلْتَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، تَسْتَعْمِلُ فِيهَا لَفْظَ الْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا لَفْظُ الشَّرِّ؟ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَافِرَيْنِ وَقُلْتَ: أَحَدُهُمَا خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ فَلَكَ حِينَئِذٍ أَنْ تُرِيدَ أَحَدُهُمَا خَيْرٌ مِنَ الْآخَرِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مُؤْمِنَيْنِ يُؤْذِيَانِكَ قُلْتَ: أَحَدُهُمَا شَرٌّ مِنَ الْآخَرِ، أَيْ فِي الْأَذِيَّةِ لَا الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ لِأَنَّ النَّظَرَ وَقَعَ عَلَى مَا يَصْلُحُ مُخَلِّصًا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ أَكُفَّارُكُمْ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا يُخَلِّصُهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِمْ فَهُمْ خَيْرٌ أَمْ لَا شَيْءَ فِيهِمْ يُخَلِّصُهُمْ لَكِنَّ اللَّه بفضله أمنهم لا بخصال فيهم.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْخَلَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُمْ فَيَكُونُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لَا بِسَبَبِ أَمْرٍ فِيهِمْ فَيَكُونُ بِفَضْلِ اللَّه وَمُسَامَحَتِهِ إِيَّاهُمْ وَإِيمَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَلَا تَهْلِكُونَ أَمْ لَسْتُمْ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ لَكِنَّ اللَّه آمَنَكُمْ وَأَهْلَكَهُمْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا تَأْمَنُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَأْمَنُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ لَهُ الْجَزْمُ بِالْأَمْنِ أَوْ صَارَ لَهُ آيَاتٌ تُقَرِّبُ الْأَمْرَ مِنَ الْقَطْعِ، فَقَالَ: لَكُمْ بَرَاءَةٌ يُوثَقُ بِهَا وَتَكُونُ مُتَكَرِّرَةً فِي الْكُتُبِ، فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ رُبَّمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَكُونُ قَدْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَقَالَ: هَلْ حَصَلَ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي كُتُبٍ تَأْمَنُونَ بِسَبَبِهَا الْعَذَابَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْأَمْنُ لَكِنَّ الْبَرَاءَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي كُتُبٍ وَلَا كِتَابٍ وَاحِدٍ وَلَا شِبْهِ كِتَابٍ، فَيَكُونُ أَمْنُهُمْ مِنْ غَايَةِ الْغَفْلَةِ وَعِنْدَ هَذَا تَبَيَّنَ فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ مَعَ مَا فِي كِتَابِ اللَّه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، مِنَ الْوَعْدِ لَا يَأْمَنُ وَإِنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِمَا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ مِنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْأُمَّةِ(29/320)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
وَيَخْرُجُ عَنْهَا فَالْمُؤْمِنُ خَائِفٌ وَالْكَافِرُ آمِنٌ فِي الدنيا، وفي الآخرة الأمر على العكس. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 44]
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
تَتْمِيمًا لِبَيَانِ أَقْسَامِ الْخَلَاصِ وَحَصْرِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاسْتِحْقَاقِ مَنْ يُخَلِّصُ عَنِ الْعَذَابِ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَذَّبَ جَمَاعَةً وَرَأَى فِيهِمْ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَلَا يُعَذِّبُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ فِي الْمُخَلَّصِ كَمَا إِذَا رَأَى فِيهِمْ مَنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَوْ أُمٌّ ضَعِيفَةٌ فَيَرْحَمُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَيُكْتَبُ لَهُ الْخَلَاصُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَا يَسْتَحِقُّ الْخَلَاصَ بِسَبَبِهِ وَلَا فِي نَفْسِ الْمُعَذِّبِ مِمَّا يُوجِبُ الرَّحْمَةَ لَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَتَعَصُّبِ إِخْوَانِهِ، كَمَا إِذَا هَرَبَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَلِكِ وَالْتَجَأَ إِلَى عَسْكَرٍ يَمْنَعُونَ الْمَلِكَ عَنْهُ، فَكَمَا نَفَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَذَلِكَ نَفَى الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَهُوَ التمتع بالأعوان والتحزب الْإِخْوَانِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حُسْنِ التَّرْتِيبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِذَاتِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْمَرْحُومِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ سَبَبُ الْعَذَابِ وَالْمَرْحُومَ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ، وَوُجِدَ الْمَانِعُ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا لَا سَبَبَ له لا يتحقق أصلا، وماله مَانِعٌ رُبَّمَا لَا يَقْوَى الْمَانِعُ عَلَى دَفْعِ السَّبَبِ، وَمَا فِي نَفْسِ الْمُعَذِّبِ مِنَ الْمَانِعِ أَقْوَى مِنَ الَّذِي بِسَبَبِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ الَّذِي مِنْ عِنْدِهِ يَمْنَعُ الدَّاعِيَةَ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّاعِيَةِ، وَالَّذِي مِنَ الْغَيْرِ بِسَبَبِ التمتع لَا يَقْطَعُ قَصْدَهُ بَلْ يَجْتَهِدُ وَرُبَّمَا يَغْلِبُ فَيَكُونُ تَعْذِيبُهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، بِخِلَافِ مَنْ يَرِقُّ لَهُ قَلْبُهُ وَتَمْنَعُهُ الرَّحْمَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْهُ/ لَكِنْ لَا يَزِيدُ فِي حَمْلِهِ وَحَبْسِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي التَّعْذِيبِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَمِيعٌ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا الْكَثْرَةُ وَالْأُخْرَى الِاتِّفَاقُ، كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ كَثِيرٌ مُتَّفِقُونَ فَلَنَا الِانْتِصَارُ وَلَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَقَامَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ فَائِدَتَيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِحُرُوفِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ ج م ع وَبِوَزْنِهِ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ عَلَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا جَمْعِيَّتَهُمُ الْعَصَبِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ نَحْنُ الْكُلُّ لَا خَارِجَ عَنَّا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا اعْتِدَادَ بِهِ قَالَ تَعَالَى فِي نُوحٍ:
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشُّعَرَاءِ: 111] إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هُودٍ: 27] وَعَلَى هَذَا جَمِيعٌ يَكُونُ التَّنْوِينُ فِيهِ لِقَطْعِ الْإِضَافَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ جَمْعُ النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الْمُنْتَصِرِ مَعَ أَنَّ نَحْنُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ؟ نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْجُزْءَ الْآخَرَ الْوَاقِعَ خَبَرًا فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ جِنْسٌ مُنْتَصِرٌ وَهُمْ عَسْكَرٌ غَالِبٌ وَالْجَمِيعُ كَالْجِنْسِ لَفْظُهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ فِيهِ الْكَثْرَةُ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ جَمِيعَ النَّاسِ لَا خَارِجَ عَنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَكِنْ لَمَّا قُطِعَ وَنُوِّنَ صَارَ كَالْمُنْكَرِ فِي الْأَصْلِ فَجَازَ وَصْفُهُ بِالْمُنْكَرِ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ فَعَادَ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نَكِرَةً، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [الْبُرُوجِ: 14- 16] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أَفْرَدَهُ لِمُجَاوَرَتِهِ جَمِيعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أَنْ جَمِيعًا بِمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُنْتَصِرٌ، كَمَا تَقُولُ: هُمْ جَمِيعُهُمْ أَقْوِيَاءُ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوِيٌّ، وَهُمْ كُلُّهُمْ عُلَمَاءُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَالِمٌ فَتَرَكَ الْجَمْعَ وَاخْتَارَ الْإِفْرَادَ لِعَوْدِ الْخَبَرِ إِلَى كُلِّ(29/321)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
وَاحِدٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَغْلِبُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَالِبٌ، واللَّه رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ بِقَوْلِهِ:
[سورة القمر (54) : آية 45]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا الْقُوَّةَ الْعَامَّةَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ ضَعْفَهُمُ الظَّاهِرَ الَّذِي يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ قال: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَلَمْ يَقُلْ: يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 111] وَقَالَ: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَابِ: 15] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَالِ: 15] فَكَيْفَ تَصْحِيحُ الْإِفْرَادِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوَاضِعِ؟ نَقُولُ: أَمَّا التَّصْحِيحُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فَعَلُوا كَقَوْلِهِ فَعَلَ هَذَا وَفَعَلَ ذَاكَ وَفَعَلَ الآخر. قالوا: وفي الْجَمْعِ تَنُوبُ مَنَابَ الْوَاوَاتِ الَّتِي فِي الْعَطْفِ، وقوله: يُوَلُّونَ بمثابة يول هذا/ الدبر، ويول ذاك ويول الْآخَرُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوَلِّي دُبُرَهُ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَنَقُولُ اقْتِضَاءُ أَوَاخِرِ الْآيَاتِ حُسْنَ الْإِفْرَادِ، فقوله: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ إِفْرَادُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فِي التَّوْلِيَةِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنِ الْجَمْعِ وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ لِلزَّحْفِ فَهُمْ كَانُوا فِي التَّوْلِيَةِ كَدُبُرٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوجَدُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يُوَلِّيَ دُبُرَهُ، فَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ هُنَاكَ تَوْلِيَتَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ بَلِ الْمَنْهِيُّ أَنْ يُوَلِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دُبُرَهُ، فَكُلُّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنْ تَوْلِيَةِ دُبُرِهِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِرَأْسِهِ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ جَمَعَ الْفِعْلَ بِقَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: الْأَدْبارَ وَكَذَلِكَ في قوله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ [الأحزاب: 15] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ قَالَ: أَنَا أَثْبُتُ وَلَا أُوَلِّي دُبُرِي، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الْحَشْرِ: 12] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوا الْيَهُودَ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الْحَشْرِ: 14] ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُمْ كَانُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 46]
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى انْهِزَامِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ بَلِ الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّبُرِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا هُوَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِصْرَارِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِالسَّاعَةِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِكَ وَأَصَرُّوا وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا، ثُمَّ إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَيْسَ لِإِتْمَامِ الْمُجَازَاةِ فَإِتْمَامُ الْمُجَازَاةِ بِالْأَلِيمِ الدَّائِمِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ اخْتِصَاصِ السَّاعَةِ مَوْعِدَهُمْ مَعَ أَنَّهَا مَوْعِدُ كُلِّ أَحَدٍ؟ نَقُولُ: الْمَوْعِدُ الزَّمَانُ الَّذِي فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمُؤْمِنُ مَوْعُودٌ بِالْخَيْرِ وَمَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فَلَا يَقُولُ هُوَ: مَتَى يَكُونُ، بَلْ يُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى اللَّه، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُصَدِّقٍ فَيَقُولُ: مَتَى يَكُونُ الْعَذَابُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإِنَّهُ آتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَجِّ: 47] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَدْهَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا مَضَى مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ الدُّنْيَا ثَانِيهِمَا: أَدْهَى الدَّوَاهِي فَلَا دَاهِيَةَ مِثْلُهَا.(29/322)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَرُّ؟ قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْمُرِّ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا عَذابِي [القمر: 37] وقوله: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48] وَعَلَى هَذَا فَأَدْهَى أَيْ أَشَدُّ وَأَمَرُّ أَيْ آلَمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّدِيدِ وَالْأَلِيمِ أَنَّ الشَّدِيدَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ لِقُوَّتِهِ وَلَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ بِقُوَّتِهِ، مِثَالُهُ ضَعِيفٌ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ يَغْلِبُهُ أَوْ نَارٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَقَوِيٌّ أُلْقِيَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ عَظِيمَةٍ يَسْتَوِيَانِ فِي الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِي الْإِيلَامِ لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي الشِّدَّةِ فَإِنَّ نَجَاةَ الضَّعِيفِ مِنَ الْمَاءِ الضَّعِيفِ بِإِعَانَةِ مُعِينٍ مُمْكِنٌ، وَنَجَاةَ الْقَوِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْعَظِيمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثَانِيهِمَا: أَمَرُّ مُبَالِغَةٌ/ فِي الْمَارِّ إِذْ هِيَ أَكْثَرُ مُرُورًا بِهِمْ إِشَارَةً إِلَى الدَّوَامِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَشُدُّ وَأَدْوَمُ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا إِنِ اشْتَدَّ قُتِلَ الْمُعَذَّبُ وَزَالَ فَلَا يَدُومُ وَإِنْ دَامَ بِحَيْثُ لَا يُقْتَلُ فَلَا يَكُونُ شَدِيدًا ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْمَرِيرُ وَهُوَ مِنَ الْمِرَّةِ الَّتِي هِيَ الشِّدَّةُ، وَعَلَى هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ نَحِيفٌ نَحِيلٌ وَقَوِيٌّ شَدِيدٌ، فَيَأْتِي بِلَفْظَيْنِ مُتَرَادِفَيْنِ إِشَارَةً إِلَى التَّأْكِيدِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْهَى مُبَالَغَةً مِنَ الدَّاهِيَةِ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ دَهَاهُ أَمْرُ كَذَا إِذَا أَصَابَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ صَعْبٌ لِأَنَّ الدَّاهِيَةَ صَارَتْ كَالِاسْمِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّدِيدِ عَلَى وَزْنِ الْبَاطِيَةِ وَالسَّائِبَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّاهِيَةُ أَصْلُهَا ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ وَكُتِبَتْ فِي أَبْوَابِهَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ أَلْزَمَ وَأَضْيَقَ، أَيْ هِيَ بِحَيْثُ لَا تُدْفَعُ.
[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 48]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: فِيمَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَقِّهِمْ؟ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِي الْقَدَرِيَّةِ
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ رَضِيَّ الدِّينِ الْمُؤَيِّدَ الطُّوسِيَّ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَاحِدِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّه الْكَعْبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 47- 49]
وَكَذَلِكَ
نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في القدرة.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةُ»
وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَكَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْقَدَرِيَّةِ وَفِيهَا مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْنَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ، فَنَقُولُ: كُلُّ فَرِيقٍ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّ خَصْمُهُ، فَالْجَبْرِيُّ يَقُولُ: الْقَدَرِيُّ مَنْ يَقُولُ: الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتَا بِخَلْقِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَهُمْ قَدَرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ وَالْمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ: الْقَدَرِيُّ هُوَ الْجَبْرِيُّ الَّذِي يَقُولُ حِينَ يَزْنِي وَيَسْرِقُ اللَّه قَدَّرَنِي فَهُوَ قَدَرِي لِإِثْبَاتِهِ الْقَدَرَ، وَهُمَا جَمِيعًا يَقُولَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِخَلْقِ اللَّه وَلَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ إِنَّهُ قَدَرِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ الْقَدَرَ وَيَقُولُ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا حَادِثَةٌ بِالْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله جاء مشركوا قُرَيْشٍ يُحَاجُّونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فِي الْقَدَرِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ ذَلِكَ، وَمَا كَانُوا يَقُولُونَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّ اللَّه خَلَقَ لِي سَلَامَةَ الْأَعْضَاءِ وَقُوَّةَ الْإِدْرَاكِ(29/323)
وَمَكَّنَنِي مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، واللَّه قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِي الطَّاعَةِ إِلْجَاءً وَالْمَعْصِيَةِ إِلْجَاءً، وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْعِمَ الْفَقِيرَ الَّذِي أُطْعِمُهُ أَنَا بِفَضْلِ اللَّه، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] مُنْكِرِينَ لِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْإِطْعَامِ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ»
فَنَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِمَّا الْأُمَّةُ الَّتِي كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا بِهِ أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا كَلَفْظِ الْقَوْمِ، وَإِمَّا أُمَّتُهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْأَوَّلَ فَالْقَدَرِيَّةُ فِي زَمَانِهِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا قُدْرَةَ اللَّه عَلَى الْحَوَادِثِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ
فَقَوْلُهُ: «مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
يَكُونُ مَعْنَاهُ الَّذِينَ نِسْبَتُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كَنِسْبَةِ الْمَجُوسِ إِلَى الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَكِنَّ الْأُمَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَكْثَرُهُمْ كَفَرَةٌ، وَالْمَجُوسُ نَوْعٌ مِنْهُمْ أَضْعَفُ شُبْهَةً وَأَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْعَقْلِ فَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَكُونُ نَوْعًا مِنْهُمْ أَضْعَفُ دَلِيلًا وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْجَزْمَ بِكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ فَالْحَقُّ أَنَّ الْقَدَرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّسْبَةَ لِلنَّفْيِ أَوِ الَّذِي يُثْبِتُ قُدْرَةَ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْحَوَادِثِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّسْبَةَ لِلْإِثْبَاتِ وَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ: فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وَإِنَّهُ ذَائِقٌ مَسَّ سَقَرَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَدَرِيَّةِ الَّتِي فِي النَّصِّ مِمَّنْ هُوَ مُنْتَسِبٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ قُلْنَا: الْقَدَرِيَّةُ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ لِنَفْيِهِمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى فَالَّذِي يَقُولُ لَا قُدْرَةَ للَّه عَلَى تَحْرِيكِ الْعَبْدِ بِحَرَكَةٍ هِيَ الصَّلَاةُ وَحَرَكَةٍ هِيَ الزِّنَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ لَا يَبْعُدُ دُخُولُهُ فِيهِمْ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: بِأَنَّ اللَّه قَادِرٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجْبِرْهُ وَتَرَكَهُ مَعَ دَاعِيَةِ الْعَبْدِ كَالْوَالِدِ الَّذِي يُجَرِّبُ الصَّبِيَّ فِي حَمْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ مَعَهُ لَا لِعَجْزِ الْوَالِدِ بَلْ لِلِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، لَا كَالْمَفْلُوجِ الَّذِي لَا قُوَّةَ لَهُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: احْمِلْ هَذَا فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ ظَاهِرًا وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْقَدَرِيَّةَ سُمُّوا بِهَذَا الِاسْمِ لِإِثْبَاتِهِمُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَوَادِثِ لِغَيْرِ اللَّه مِنَ الْكَوَاكِبِ، وَالْجَبْرِيُّ الَّذِي قَالَ: هُوَ الْحَائِطُ السَّاقِطُ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ بِشَيْءٍ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ، فَلَا شَكَّ فِي دُخُولِهِ فِي الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِنَفْيِهِ التَّكْلِيفَ وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: خَلَقَ اللَّه تَعَالَى فِينَا الْأَفْعَالَ وَقَدَّرَهَا وكلفنا، ولا يسأل عما يفعل فَمَا هُوَ مِنْهُمْ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ في التعصب أن الاسم بالمعتزلة أحق أن بِالْأَشَاعِرَةِ؟ فَقَالَتِ: الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْمُ بِكُمْ أَحَقُّ لِأَنَّ النِّسْبَةَ تَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، يُقَالُ لِلدَّهْرِيِّ: دَهْرِيٌّ لِقَوْلِهِ بِالدَّهْرِ، وَإِثْبَاتِهِ، وَلِلْمُبَاحِيِّ إِبَاحِيٌّ لِإِثْبَاتِهِ الإباحة وللتنوية ثَنَوِيَّةٌ لِإِثْبَاتِهِمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمَا النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، وَكَذَلِكَ أمثله وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَ الْقَدَرَ، وَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّ مَنْ يَنْفِي قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمُشْرِكُو قُرَيْشٍ مَا كَانُوا قَدَرِيَّةً إِلَّا لِإِثْبَاتِهِمْ قُدْرَةً لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَتِ: الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّمَا سُمِّيَ الْمُشْرِكُونَ قَدَرِيَّةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَوَادِثِ كَمَا تَقُولُ يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَانَا وَلَوْ شَاءَ/ لَأَطْعَمَ الْفَقِيرَ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَوَادِثِ خَلْقَهُ الْهِدَايَةَ فِيهِمْ إِنْ شَاءَ، وَهَذَا مَذْهَبُكُمْ أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةُ، وَالْحَقُّ الصُّرَاحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى الْمَذْهَبَيْنِ خَارِجٌ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَدَرِيًّا إِلَّا إِذَا صَارَ النَّافِي نَافِيًا لِلْقُدْرَةِ وَالْمُثَبِتُ مُنْكِرًا لِلتَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُجْرِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَةِ: 12] وَقَوْلِهِ: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي [الْمَعَارِجِ: 11] وَفِي قَوْلِهِ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرَّحْمَنِ: 41] فَالْآيَةُ عَامَّةٌ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَاصٍّ. وَجُرْمُهُمْ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَالنُّذُرِ بِالْإِشْرَاكِ(29/324)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
وَإِنْكَارِ الْحَشْرِ وَإِنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الدُّنْيَا أَيْ هُمْ فِي الدُّنْيَا فِي ضَلَالٍ وَجُنُونٍ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: يُسْحَبُونَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ ثَانِيهَا: الْجَمْعُ فِي الْآخِرَةِ أَيْ هُمْ فِي ضَلَالِ الْآخِرَةِ وَسُعُرٍ أَيْضًا. أَمَّا السُّعُرُ فَكَوْنُهُمْ فِيهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الضَّلَالُ فَلَا يَجِدُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ أَوْ إِلَى مَا يَصْلُحُ مَقْصِدًا وَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ سَبِيلًا، فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ لَا غَيْرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظَرْفُ الْقَوْلِ أَيْ يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِعَامِلٍ مَذْكُورٍ أَوْ مَفْهُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْعَامِلُ سَابِقٌ وَهُوَ مَعْنًى كَائِنٌ وَمُسْتَقِرٌّ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا ثَانِيهِمَا: الْعَامِلُ مُتَأَخِّرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: ذُوقُوا تَقْدِيرُهُ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ الْمُجْرِمُونَ، وَالْخِطَابُ حِينَئِذٍ مَعَ مَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ [الْقَمَرِ: 43] وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ «1» : أَنَّ الْمَفْهُومَ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: يَوْمَ يُسْحَبُونَ ذُوقُوا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُوقُوا اسْتِعَارَةٌ وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَهُوَ أَنَّ الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لَاقَى اللِّسَانَ يُدْرِكُ أَيْضًا حَرَارَتَهُ وَبُرُودَتَهُ وَخُشُونَتَهُ وَمَلَاسَتَهُ، كَمَا يُدْرِكُ سَائِرُ أَعْضَائِهِ الْحِسِّيَّةِ وَيُدْرِكُ أَيْضًا طَعْمَهُ وَلَا يُدْرِكُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ، فَإِدْرَاكُ اللِّسَانِ أَتَمُّ، فَإِذَا تَأَذَّى مِنْ نَارٍ تَأَذَّى بِحَرَارَتِهِ وَمَرَارَتِهِ إِنْ كَانَ الْحَارُّ أَوْ غَيْرُهُ لَا يُتَأَذَّى إِلَّا بِحَرَارَتِهِ فَإِذَنِ الذَّوْقُ إِدْرَاكٌ لَمْسِيٌّ أَتَمُّ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْمَلْمُوسَاتِ فَقَالَ:
ذُوقُوا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ إِدْرَاكَهُمْ بِالذَّوْقِ أَتَمُّ الْإِدْرَاكَاتِ فَيَجْتَمِعُ فِي الْعَذَابِ شِدَّتُهُ وَإِيلَامُهُ بِطُولِ مُدَّتِهِ وَدَوَامِهِ، وَيَكُونُ الْمُدْرِكُ لَهُ لَا عُذْرَ لَهُ يَشْغَلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْإِدْرَاكِ فَيَحْصُلُ الْأَلَمُ الْعَظِيمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ يُقَالُ لَهُمْ أَوْ نَقُولُ مُضْمَرٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ مَعَ غَيْرِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ سَقَرَ يَوْمَ يُسْحَبُ الْمُجْرِمُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي النار. / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْمَشْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: ذُوقُوا فَإِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48] ثُمَّ ذَكَرَ بَيَانَ الْعَذَابِ لِأَنَّ عَطْفَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [الْقَمَرِ: 50] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
لَيْسَ آخِرَ الْكَلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الْخَلْقَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ فَيَكُونُ مِنَ اللَّائِقِ أَنْ يَذْكُرَ الْأَمْرَ فَقَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ الْجَدَلِ فَنَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَسَّكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ إِلَى قَوْلِهِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 47، 48] وَتَلَا آيَةً أُخْرَى عَلَى قَصْدِ التِّلَاوَةِ، وَلَمْ يَقْرَأِ الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ مَنْ عَلِمَ الْآيَةَ كَمَا تَقُولُ فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
__________
(1) في النسخة الأميرية والاحتمال الثاني وهو خطأ ظاهر وقد علق عليها بما لا طائل تحته.(29/325)
[النساء: 29] الآية: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] الآية: وإِذا تَدايَنْتُمْ [الْبَقَرَةِ:
283] الْآيَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُلَّ قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَشْهُورُ، وَبِالرَّفْعِ فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: 39] وَقَوْلِهِ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ [الْإِنْسَانِ: 31] وَذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ خَلَقْنَاهُ وَقَدْ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: خَلَقْناهُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَخَلَقْنَاهُ عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ صِفَةً لِشَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيَاتِ: 49] غَيْرَ أَنْ هُنَاكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً كَوْنُهُ خَالِيًا عَنْ ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَانِعُ، وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ أَفْعَالَنَا شَيْءٌ فَتَكُونُ دَاخِلَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَتَكُونُ مَخْلُوقَةً للَّه تَعَالَى، وَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فُصِّلَتْ: 17] حَيْثُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فَلَا يَصِحُّ مُبْتَدَأً فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ فَهُوَ بِقَدَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: 8] فِي الْمَعْنَى، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ يَتَمَسَّكُ بِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
الْقِرَاءَةُ الْأُولَى وَهُوَ النَّصْبُ لَهُ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مَعْلُومٍ لَا بِمُضْمَرٍ مُفَسَّرٍ وَهُوَ قَدَّرْنَا أَوْ خَلَقْنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خَلَقْنَا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرِ، أَوْ قَدَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَعْلُومٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غَافِرٍ: 62] دَلَّ عَلَيْهِ، وَقَوْلَهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدَرٌ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بطلان قوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:
62] وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الرَّفْعُ، فَنَقُولُ: جاز أن يكون كل شيء مبتدأ وخلقناه بِقَدَرٍ خَبَرَهُ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْحُجَّةُ قَائِمَةً عَلَيْهِمْ بِأَبْلَغَ وَجْهٍ، وَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فَلَا يَصْلُحُ مُبْتَدَأً ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلَّ شَيْءٍ عَمَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِأَسْرِهَا، فَلَيْسَ فِيهِ/ الْمَحْذُورُ الَّذِي فِي قَوْلِنَا: رَجُلٌ قَائِمٌ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً ظَاهِرَةً، وَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ يُفِيدُ مَا يُفِيدُ زَيْدٌ خَلَقْنَاهُ وَعَمْرٌو خَلَقْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، وَلِهَذَا جَوَّزُوا مَا أَحَدَ خَيْرٌ مِنْكَ لِأَنَّهُ أَفَادَ الْعُمُومَ وَلَمْ يَحْسُنْ قَوْلُ الْقَائِلِ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنْكَ حَيْثُ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى الْقَدَرِ؟ قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمِقْدَارُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8] وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ شَيْءٍ مُقَدَّرٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي صِفَاتِهِ، أَمَّا الْمُقَدَّرُ فِي الذَّاتِ فَالْجِسْمُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ بِالْجِسْمِ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَأَمَّا الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ مَا لَا مِقْدَارَ لَهُ وَالْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ مَا لَا مِقْدَارَ لَهُ بِمَعْنَى الِامْتِدَادِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَغَيْرِهِمَا، فنقول: هاهنا مقادير لا بمعنى الامتداد، أما الجواهر الْفَرْدُ فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ أَصْغَرُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ حَجْمًا يَزْدَادُ بِهِ الِامْتِدَادُ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ دُونَ الِامْتِدَادِ فِيهِ، وَأَمَّا الْقَائِمُ بِالْجَوْهَرِ فَلَهُ نِهَايَةٌ وَبِدَايَةٌ، فَمِقْدَارُ الْعُلُومِ الْحَادِثَةِ وَالْقُدُرُ الْمَخْلُوقَةُ مُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ ابْتُدِئَ زَمَانًا فَلَهُ مِقْدَارٌ فِي الْبَقَاءِ لِكَوْنِ كُلِّ شَيْءٍ حَادِثًا، فَإِنْ قِيلَ: اللَّه تَعَالَى وُصِفَ بِهِ، وَلَا مِقْدَارَ لَهُ وَلَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ، نَقُولُ: الْمُتَكَلِّمُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أَوْ مُسَمًّى بِاسْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُسَمَّاةَ بِذَلِكَ الِاسْمِ أَوِ الْأَشْيَاءَ الْمَوْصُوفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَأَسْنَدَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ إِلَيْهِ يَخْرُجُ هُوَ عَنْهُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ جَمِيعَ مَنْ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَرَأَيْتُهُمْ كُلُّهُمْ أَكْرَمَنِي، وَيَقُولُ مَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا وَضَرَبَنِي أَوْ ضَرَبْتُهُ يَخْرُجُ هُوَ عَنْهُ لَا لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الِاسْمِ، بَلْ بِمَا فِي التَّرْكِيبِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنِ الْإِرَادَةِ، فَكَذَلِكَ قوله: خَلَقْناهُ وخالِقُ كُلِّ(29/326)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
شَيْءٍ
[الزمر: 62] يَخْرُجُ عَنْهُ لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكِيبَ وَضْعِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَمْ يُوضَعْ حِينَئِذٍ إِلَّا لِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ ثَانِيهَا: الْقَدَرُ التَّقْدِيرُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: 23] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَا هُوَ قَادِرُ
أَيْ قَدَّرَ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَمَا يَرْمِي الرَّامِي السَّهْمَ فَيَقَعُ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرَهُ، بَلْ خَلَقَ اللَّه كَمَا قَدَّرَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّهُ فَاعِلٌ لِذَاتِهِ وَالِاخْتِلَافُ لِلْقَوَابِلِ، فَالَّذِي جَاءَ قَصِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَلِاسْتِعْدَادِ مَادَّتِهِ، وَالَّذِي جَاءَ طَوِيلًا أَوْ كَبِيرًا فَلِاسْتِعْدَادٍ آخَرَ، فَقَالَ تَعَالَى:
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ مِنَّا فَالصَّغِيرُ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا، وَالْكَبِيرُ جَازَ خَلْقُهُ صَغِيرًا ثَالِثُهَا: بِقَدَرٍ هُوَ مَا يُقَالُ مَعَ الْقَضَاءِ، يُقَالُ بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، وَقَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْقَدَرِ الَّذِي مَعَ الْقَضَاءِ: إِنَّ مَا يُقْصَدُ إِلَيْهِ فَقَضَاءٌ وَمَا يَلْزَمُهُ فَقَدَرٌ، فَيَقُولُونَ: خَلْقُ النَّارِ حَارَّةً بِقَضَاءٍ وَهُوَ مَقْضِيٌّ بِهِ لِأَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، لَكِنْ مِنْ لَوَازِمِهَا أَنَّهَا إِذَا تَعَلَّقَتْ بِقُطْنِ عَجُوزٍ أَوْ وَقَعَتْ فِي قصب صعلوك تخرقه، فَهُوَ بِقَدَرٍ لَا بِقَضَاءٍ، وَهُوَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، بَلِ الْقَضَاءُ مَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدَرُ مَا فِي الْإِرَادَةِ فَقَوْلُهُ: كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أَيْ بِقَدَرِهِ مَعَ إِرَادَتِهِ، لَا عَلَى مَا يقولون إنه موجب ردا على المشركين. / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
أَيْ إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ: (كُنْ) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ، وَعَلَى هَذَا فاللَّه إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: (كُنْ) فَهُنَاكَ شَيْئَانِ: الْإِرَادَةُ وَالْقَوْلُ، فَالْإِرَادَةُ قَدَرٌ، وَالْقَوْلُ قَضَاءٌ، وَقَوْلُهُ: واحِدَةٌ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكْرِيرِ الْقَوْلِ إِشَارَةً إِلَى نَفَاذِ الْأَمْرِ ثَانِيهِمَا: بَيَانُ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْحَالِ، فَأَمْرُهُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ كَأَمْرِهِ عِنْدَ خَلْقِ النَّمْلِ الصَّغِيرِ، فَأَمْرُهُ عِنْدَ الْكُلِّ وَاحِدٌ وَقَوْلُهُ: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تَشْبِيهُ الْكَوْنِ لَا تَشْبِيهَ الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَمْرُنَا وَاحِدَةٌ، فَإِذْنُ الْمَأْمُورُ كَائِنٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةَ مَدْحٍ يَلِيقُ بِهِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (كُنْ) شَيْءٌ أَيْضًا يُوجَدُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، وَهِيَ أَنَّ مَقْدُورَاتِ اللَّه تَعَالَى هِيَ الْمُمْكِنَاتُ يُوجِدُهَا بِقُدْرَتِهِ، وَفِي عَدَمِهَا خِلَافٌ لَا يَلِيقُ بَيَانُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لِطُولِهِ لَا لِسَبَبِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي يُوجِدُهَا اللَّه تَعَالَى قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: أُمُورٌ لَهَا أَجْزَاءٌ مُلْتَئِمَةٌ عِنْدَ الْتِئَامِهَا يَتِمُّ وُجُودُهَا، كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ والمعدنية وكذلك الأركان الأربعة، والسموات، وَسَائِرُ الْأَجْسَامِ وَسَائِرُ مَا يَقُومُ بِالْأَجْسَامِ مِنَ الْأَعْرَاضِ، فَهِيَ كُلُّهَا مُقَدَّرَةٌ لَهُ وَحَوَادِثُ، فَإِنَّ أَجْزَاءَهَا تُوجَدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُوجَدُ فِيهَا التَّرْكِيبُ وَالِالْتِئَامُ بِعَيْنِهَا، فَفِيهَا تَقْدِيرَاتٌ نَظَرًا إِلَى الْأَجْزَاءِ وَالتَّرْكِيبِ وَالْأَعْرَاضِ وَثَانِيهِمَا: أُمُورٌ لَيْسَ لَهَا أَجْزَاءٌ وَمَفَاصِلُ وَمَقَادِيرُ امْتِدَادِيَّةٍ، وَهِيَ الْأَرْوَاحُ الشَّرِيفَةُ الْمُنَوِّرَةُ لِلْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا جَمِيعُ الْفَلَاسِفَةِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَوَافَقَهُمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَطَعَ بِهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ مِنْ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ وَأَرْبَابِ الْمُجَاهَدَاتِ، فَتِلْكَ الْأُمُورُ وُجُودُهَا وَاحِدٌ لَيْسَ يُوجَدُ أَوَّلًا أَجْزَاءٌ، وَثَانِيًا تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِهَا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا قَالُوا: الْأَجْسَامُ خَلْقِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَالْأَرْوَاحُ إِبْدَاعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ، وَقَالُوا إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] فَالْخَلْقُ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَمْرُ فِي الْأَرْوَاحِ ثُمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَخْبَارِ
فَإِنَّهُ صَلَّى(29/327)
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه الْعَقْلُ» ،
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِأَلْفَيْ عَامٍ»
وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] فَالْخَلْقُ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الْأَرْوَاحِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْخَلْقِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ جَائِزٌ، وَإِنَّ الْعَالَمَ بِالْكُلِّيَّةِ حَادِثٌ وَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْإِحْدَاثِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِيقَةِ الْخَلْقِ تَقْدِيرٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْإِحْدَاثِ، وَلَوْلَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَإِلَّا لَاسْتَقْبَحَ الْفَلْسَفِيُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ قَدِيمٌ كما يستقبح من أن المحدث قديم، فإذن قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ بِمَعْنَى أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ وَقَالَ فِي الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ/ بِالْأَمْرِ وَالْأَجْسَامِ بِالْخَلْقِ لَظَنَّ الَّذِي لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّه الْعِلْمَ الْكَثِيرَ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ بِمَعْنَى لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَكَانَ يَضِلُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ رَحْمَةً، وقالوا: إذا نظرت إلى قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] وَإِلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الحديد: 4] وَإِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [الْمُؤْمِنُونَ: 14] تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَشْبَاحِ حَيْثُ جَعَلَ لِخَلْقِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ زَمَانًا مُمْتَدًّا هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ وَجَعَلَ لِبَعْضِهَا تَرَاخِيًا وَتَرْتِيبًا بقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا وبقوله: فَخَلَقْنَا وَلَمْ يَجْعَلْ لِلرُّوحِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُظَنَّ بِقَوْلِنَا هَذَا إِنَّ الْأَجْسَامَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ وَأَيَّامٍ حَتَّى يُوجِدَهَا اللَّه تَعَالَى فِيهِ، بَلِ اللَّه مختار إن أراد خلق السموات وَالْأَرْضَ وَالْإِنْسَانَ وَالدَّوَابَّ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ لَخَلَقَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَاتٍ حَصَلَتْ لَهَا أَجْزَاءٌ وَوُجُودُ أَجْزَائِهَا قَبْلَ وُجُودِ التَّرْكِيبِ فِيهَا وَوُجُودُهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَجْزَاءِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهَا فَهِيَ سِتَّةٌ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا يَخْلُقُ اللَّه الْكَسْرَ وَالِانْكِسَارَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا تَرْتِيبٌ عَقْلِيٌّ.
فَالْجِسْمُ إِذَنْ كَيْفَمَا فَرَضْتَ خَلْقَهُ فَفِيهِ تَقْدِيرُ وُجُودَاتٍ كُلُّهَا بِإِيجَادِ اللَّه عَلَى التَّرْتِيبِ وَالرُّوحُ لَهَا وُجُودٌ وَاحِدٌ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى هَذَا قَوْلُهُمْ. وَلْنَذْكُرْ مَا فِي الْخَلْقِ والأمر من الوجود الْمَنْقُولَةِ وَالْمَعْقُولَةِ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ كَلِمَةُ: كُنْ وَالْخَلْقَ هُوَ مَا بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ ثَانِيهَا: مَا ذَكَرُوا فِي الْأَجْسَامِ أَنَّ مِنْهَا الْأَرْوَاحَ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّه لَهُ قُدْرَةٌ بِهَا الْإِيجَادُ وَإِرَادَةٌ بِهَا التَّخْصِيصُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَهُ وُجُودٌ مُخْتَصٌّ بِزَمَانٍ وَلَهُ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ فَوُجُودُهُ بِالْقُدْرَةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالزَّمَانِ بِالْإِرَادَةِ فَالَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلْقٌ وَالَّذِي بِالْإِرَادَةِ أَمْرٌ حَيْثُ يُخَصِّصُهُ بِأَمْرِهِ بِزَمَانٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] جَعَلَ كُنْ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ: كُنْ لَيْسَ هُوَ الْحَرْفَ وَالْكَلِمَةَ الَّتِي مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، لِأَنَّ الْحُصُولَ أَسْرَعُ مِنْ كَلِمَةِ كُنْ إِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْكَافَ وَالنُّونَ لَا يُوجِدُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ إِلَّا التَّرْتِيبَ فَفِي كُنْ لَفْظُ زَمَانٍ وَالْكَوْنُ بَعْدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَكُونُ بِالْفَاءِ فَإِذَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكُنْ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَكَانَ الْحُصُولُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الْحَرْفَانِ مَعًا وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى كَكَلَامِنَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّمَانِ قُلْنَا: قَدْ جَعَلَ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِالزَّمَانِ لَيْسَ لِمَعْنًى وَعِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ لِحِكْمَةٍ وَقَالَ: بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ لِتَكُونَ مَقَرَّ النَّاسِ أَوْ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْحُكْمِ وَلَمْ يِمْكِنْهُ أَنْ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ لِتَكُونَ مَقَرًّا لَهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَتْ أَيْضًا مَقَرًّا لَهُمْ فَإِذَنِ التَّخْصِيصُ لَيْسَ لِمَعْنًى فَهُوَ لِمَحْضِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي يَأْمُرُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ أَمَرْتَ وَلِمَ فَعَلْتَ وَلَا يُعْلَمُ مَقْصُودُ الْآمِرِ إِلَّا مِنْهُ رَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَخْلُوقَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ أَوْ عَنْ وَصْفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، مِثَالُهُ الْجِسْمُ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ(29/328)
خَلْقِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ/ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا فَإِيجَادُهُ أولا يخلقه وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِلَى أَنْ قَالَ: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف: 54] فجعل مالها بَعْدَ خَلْقِهَا مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِهِمَا بِأَمْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ فَقَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ»
جَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَمْرَ فِي الْوَصْفِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ [السجدة: 4، 5] وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ خَامِسُهَا: مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ كَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِ وَثَانِيهِمَا: خَلَقَهُ بِمُهْلَةٍ كَالسَّمَاوَاتِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، فَالْمَخْلُوقُ سَرِيعًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَالْمَخْلُوقُ بِمُهْلَةٍ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ، وَهَذَا مِثْلُ الْوَجْهِ الثَّانِي.
سَادِسُهَا: مَا قاله فخر الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فُصِّلَتْ:
11] وَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْإِيجَادُ بَعْدَهُ بَعْدِيَّةٌ تَرْتِيبِيَّةٌ لَا زَمَانِيَّةٌ فَفِي عِلْمِ اللَّهِ تعالى أن السموات تكون سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ تَقْدِيرِيَّةٌ فَهُوَ قَدَّرَ خَلْقَهُ كَمَا عَلِمَ وَهُوَ إِيجَادٌ فَالْأَوَّلُ خَلْقٌ وَالثَّانِي وَهُوَ الْإِيجَادُ أَمْرٌ وَأُخِذَ هَذَا مِنَ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَعْضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
أَيْ يُقَدِّرُ وَلَا يَقْطَعُ وَلَا يَفْصِلُ كَالْخَيَّاطِ الَّذِي يُقَدِّرُ أَوَّلًا وَيَقْطَعُ ثَانِيًا وَهُوَ قَرِيبٌ إِلَى اللُّغَةِ لَكِنَّهُ بَعِيدُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْخَلْقَ أَرَادَ الْإِيجَادَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ [العنكبوت: 61] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس: 77] وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّا قَدَّرْنَا أَنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. سَابِعُهَا: الْخَلْقُ هُوَ الْإِيجَادُ ابْتِدَاءً وَالْأَمْرُ هُوَ مَا بِهِ الْإِعَادَةُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ أَوَّلًا بِمُهْلَةٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْعَثُهُمْ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَحْظَةٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: 19] وقوله: صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] ونَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الْحَاقَّةِ: 13] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] إِشَارَةٌ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إِلَى الْحَشْرِ فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَالْأَصْلَ الْآخِرَ بِالْآيَاتِ. ثَامِنُهَا: الْإِيجَادُ خَلْقٌ وَالْإِعْدَامُ أَمْرٌ، يَعْنِي يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ أَهْلِكُوا وَافْعَلُوا فَلَا يعصون الله ما أمرهم ولا يقفون الِامْتِثَالَ عَلَى إِعَادَةِ الْأَمْرِ مَرَّةً أُخْرَى فَأَمْرُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً يَعْقُبُهُ الْعَدَمُ وَالْهَلَاكُ.
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وهي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيجَادَ الَّذِي هُوَ مِنَ الرَّحْمَةِ بِيَدِهِ، وَالْإِهْلَاكُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ، وَجَعَلَ الْمَوْتَ بِيَدِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَجْعَلِ الْحَيَاةَ بِيَدِ مَلَكٍ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَى النِّقْمَةِ فَقَالَ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 18] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [المؤمنون: 27] عِنْدَ الْعَذَابِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً [هُودٍ: 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [هُودٍ: 82] وَكَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الْعَذَابَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَبَيَّنَ الإهلاك به كذلك هاهنا/ وَلَا سِيَّمَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحِكَايَاتِ وَوَجَدْتَهَا عَيْنَ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51] يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَاسِعُهَا: فِي مَعْنَى اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ(29/329)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ يُقَالُ: لَمَحْتُهُ بِبَصَرِي كَمَا يُقَالُ: نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ كَمَا يُذْكَرُ فِي الْآيَاتِ فَيُقَالُ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَاخْتَارَ هَذَا الْمِثَالَ لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَيْنِ أَسْرَعُ حَرَكَةٍ تُوجَدُ فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الْعَيْنَ وُجِدَ فِيهَا أُمُورٌ تُعِينُ عَلَى سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ أَحَدُهَا: قُرْبُ الْمُحَرِّكِ مِنْهَا فَإِنَّ الْمُحَرِّكَ الْعَصَبِيَّةُ وَمَنْبَتُهَا الدِّمَاغُ وَالْعَيْنُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنْهُ ثَانِيهَا: صِغَرُ حَجْمِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْصَى عَلَى الْمُحَرِّكِ وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعِظَامِ ثَالِثُهَا: اسْتِدَارَةُ شَكْلِهَا فَإِنَّ دَحْرَجَةَ الْكُرَةِ أَسْهَلُ مِنْ دَحْرَجَةِ الْمُرَبَّعِ وَالْمُثَلَّثِ رَابِعُهَا: كَوْنُهَا فِي رُطُوبَةٍ مَخْلُوقَةٍ فِي الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهَا وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْمَرْئِيَّاتِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَقَاصِدِ الَّتِي تُقْصَدُ بِالْأَرْجُلِ وَالْمَذُوقَاتِ، فَلَوْلَا سُرْعَةُ حَرَكَةِ الْآلَةِ الَّتِي بِهَا إِدْرَاكُ الْمُبْصَرَاتِ لَمَا وَصَلَ إِلَى الْكُلِّ إِلَّا بَعْدَ طُولِ زَمَانٍ.
وَثَانِيهِمَا: اللَّمْحُ بِالْبَصَرِ مَعْنَاهُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ بِالْبَصَرِ وَيَمُرُّ بِهِ سَرِيعًا وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ لِلْإِلْصَاقِ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِهِ:
مَرَرْتُ بِهِ وَذَلِكَ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَقَوْلُهُ: بِالْبَصَرِ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ غَايَةُ السُّرْعَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: كَلَمْحِ الْبَرْقِ حِينَ بَرَقَ وَيَبْتَدِئُ حَرَكَتَهُ مِنْ مَكَانٍ وَيَنْتَهِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ يُفْرَضُ لَصَحَّ، لَكِنْ مَعَ هَذَا فَالْقَدْرُ الَّذِي مُرُورُهُ يَكُونُ بِالْبَصَرِ أَقَلُّ مِنَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُبْتَدَاهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ، فَقَالَ: كَلَمْحٍ لَا كَمَا قِيلَ: مِنَ الْمَبْدَأِ إِلَى الْمُنْتَهَى بَلِ الْقَدْرُ الَّذِي يَمُرُّ بِالْبَصَرِ وَهُوَ غَايَةُ الْقِلَّةِ ونهاية السرعة. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَالْأَشْيَاعُ الْأَشْكَالُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أن قوله: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [القمر: 50] تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر. وقوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَلِ الْإِهْلَاكُ هُوَ الْعَاجِلُ وَالْعَذَابُ الْآجِلُ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالزُّبُرُ هِيَ كُتُبُ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 9- 11] وَ: فَعَلُوهُ صِفَةُ شيء والنكرة توصف بالجمل. وقوله تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
تَعْمِيمٌ لِلْحُكْمِ أَيْ لَيْسَتِ الْكِتَابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَى مَا فَعَلُوهُ بَلْ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا مَسْطُورٌ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْكُتُبِ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ/ إِلَّا فِي كِتابٍ
[سَبَأٍ: 3] أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَكْبَرُ فَائِدَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنَّ مَنْ يَكْتُبُ حِسَابَ إِنْسَانٍ فَإِنَّمَا يَكْتُبُهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ لِئَلَّا يَنْسَى فَإِذَا جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَأْمَنُ نِسْيَانَهَا رُبَّمَا يَتْرُكُ كِتَابَتَهَا وَيَشْتَغِلُ بِكِتَابَةِ مَا يَخَافُ نسيانه، فلما قال: وَلا أَكْبَرُ أَشَارَ إِلَى الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي يُؤْمَنُ مِنْ نِسْيَانِهَا أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ أَيْ لَيْسَتْ كِتَابَتُنَا مِثْلَ كِتَابَتِكُمُ الَّتِي يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْأَمْنُ مِنَ النسيان، فكذلك نقول: هاهنا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: 49] وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ فَيْبَتَدِئُ بِهَا حِفْظًا عَنِ النِّسْيَانِ فِي عَادَةِ الْخَلْقِ فَأَجْرَى اللَّهُ الذكر على(29/330)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
عَادَتِهِمْ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ كُلًّا وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ به للعموم وعدم الإبهام. ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 54]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
قَدْ ذَكَرْنَا تفسير المتقين والجنات في سور منها: الطُّورِ وأما النهر ففيه قراءات فَتْحُ النُّونِ وَالْهَاءِ كَحَجَرٍ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَيَقُومُ مَقَامَ الْأَنْهَارِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْأَصَحُّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ بِالْبِسْتَانِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّذَّةِ بِالنَّهَرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، بَلْ لَذَّتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ النَّهَرِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَهَرٍ؟ نَقُولُ: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات: 15] فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ، وَقُلْنَا: الْمُرَادُ فِي خِلَالِ الْعُيُونِ، وَفِيمَا بَيْنَهَا مِنَ الْمَكَانِ وَكَذَلِكَ فِي جَنَّاتٍ لِأَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْأَشْجَارُ الَّتِي تَسْتُرُ شُعَاعَ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [الْمُرْسَلَاتِ: 41] . وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ هِيَ الْأَشْجَارَ السَّاتِرَةَ فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ فِي الْأَشْجَارِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَوْ خِلَالَهَا، فَكَذَلِكَ النَّهَرُ، وَنُزِيدُ هاهنا وَجْهًا آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي جَنَاتٍ وَعِنْدَ نَهَرٍ لِكَوْنِ الْمُجَاوَرَةِ تُحَسِّنُ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُجَاوَرَةِ كَمَا قَالَ:
«عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا»
وَقَالُوا: تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ وَالرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ وَلَكِنْ لِمُجَاوَرَةِ التِّبْنِ وَالسَّيْفِ حَسُنَ الْإِطْلَاقُ فَكَذَلِكَ هُنَا لَمْ يَأْتِ فِي الثَّانِي بِمَا أَتَى بِهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ كَلِمَةِ فِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَحَدَّ النَّهْرَ مَعَ جَمْعِ الجنات وجمع الأنهار وفي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25] إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: أَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى فِي نَهَرٍ فِي خِلَالٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّامِعِ حَاجَةٌ إِلَى سَمَاعِ الْأَنْهَارِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ النَّهَرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ خِلَالٌ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَلَوْ لَمْ يَجْمَعِ الْأَنْهَارَ لَجَازَ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ فِي الْجَنَّاتِ كُلِّهَا نَهَرًا وَاحِدًا كَمَا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ نَهَرٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ جَارٍ فِي جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ يَكُونُ فِي جَنَّاتٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ فِي جَنَّاتٍ إِشَارَةٌ إلى سعتها وكثرة/ أشجارها وتنوعها والتوحيد عند ما قَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ [مُحَمَّدٍ: 15] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التَّوْبَةِ: 111] لِاتِّصَالِ أَشْجَارِهَا وَلِعَدَمِ وُقُوعِ الْقِيعَانِ الْخَرِبَةِ بَيْنَهَا، وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ فِي دَارٍ وَتِلْكَ الدَّارُ فِي مَحَلَّةٍ، وَتِلْكَ الْمَحَلَّةُ فِي مَدِينَةٍ، يُقَالُ إِنَّهُ فِي بَلْدَةِ كَذَا، وَأَمَّا الْقُرْبُ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ نَهْرَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يُقَالُ إِنَّهُ جَالِسٌ عِنْدَ نَهْرَيْنِ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ أَحَدِهِمَا يُقَالُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِ نَهْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لَكِنْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ثَلَاثَةِ أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ نَهْرَيْنِ، وَالثَّالِثُ مِنْهُ أَبْعَدُ مِنَ النَّهْرَيْنِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ يكون في زمان واحد عند أَنْهَارٍ واللَّه تَعَالَى يَذْكُرُ أَمْرَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَفْهَمُهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: عِنْدَ نَهَرٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَرٍ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي فِي نَهَرٍ لَكِنْ ذَلِكَ لِلْمُجَاوَرَةِ كَمَا فِي تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَحَقِيقَتُهُ مَفْهُومَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يَجْرِي فِيهَا أَنْهَارٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، فَهَذَا مَا فِيهِ مَعَ أَنَّ أَوَاخِرَ(29/331)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
الْآيَاتِ يَحْسُنُ فِيهَا التَّوْحِيدُ دُونَ الْجَمْعِ، وَيُحْتَمَلُ أن يقال وَنَهَرٍ التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ. وَفِي الْجَنَّةِ نَهَرٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَنْهُرِ وَأَحْسَنُهَا، وَهُوَ الَّذِي مِنَ الْكَوْثَرِ، وَمِنْ عَيْنِ الرِّضْوَانِ وَكَانَ الْحُصُولُ عِنْدَهُ شَرَفًا وَغِبْطَةً وَكُلُّ أَحَدٍ يَكُونُ لَهُ مَقْعَدٌ عِنْدَهُ وَسَائِرُ الْأَنْهَارُ تَجْرِي فِي الْجَنَّةِ وَيَرَاهَا أَهْلُهَا وَلَا يَرَوْنَ الْقَاعِدَ عِنْدَهَا فَقَالَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ ذَلِكَ النَّهَرُ الَّذِي عِنْدَهُ مَقَاعِدُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [الْبَقَرَةِ: 249] لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لَهُمْ، وَفِي هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ أَيْضًا وَلَا يُحْتَاجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَنْ نَقُولَ: نَهَرٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لكونه اسم جنس.
المسألة الثالثة: قال هاهنا: وَنَهَرٍ وَقَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: وَعُيُونٍ [الذَّارِيَاتِ: 15] فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
نَقُولُ: إِنَّا إِنْ قُلْنَا فِي نَهَرٍ مَعْنَاهُ فِي خِلَالٍ فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا فِي خِلَالِ عُيُونٍ كَثِيرَةٍ تُحِيطُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْعُيُونُ تَنْفَجِرُ مِنْهُ وَتَجْرِي فَتَصِيرُ أَنْهَارًا عِنْدَ الِامْتِدَادِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وفي خِلَالِ أَنْهَارٍ وَإِنَّمَا هِيَ نَهْرَانِ فَحَسْبُ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ نَهَرٍ فَكَذَلِكَ وإن قلنا: ... «1» أي عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَقَاعِدُ، فَنَقُولُ: يَكُونُ ذَلِكَ النَّهَرُ مُمْتَدًّا وَاصِلًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَهُ عِنْدَهُ مقعد عيون كَثِيرَةٌ تَابِعَةٌ، فَالنَّهَرُ لِلتَّشْرِيفِ وَالْعُيُونُ لِلتَّفَرُّجِ وَالتَّنَزُّهِ مَعَ أَنَّ النَّهَرَ الْعَظِيمَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْعُيُونِ الْكَثِيرَةِ فَكَانَ النَّهَرُ مَعَ وَحْدَتِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعُيُونِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ النَّظَرِ إلى أواخر الآيات هاهنا وهناك يحسن ذكر لفظ الواحد هاهنا وَالْجَمْعُ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ نَهَارٍ إِذْ لَا لَيْلَ هُنَاكَ وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ فِي حَقِيقَةٌ فِيهِ فَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَنَهَرٍ أَيْ وَفِي نَهَرٍ إِشَارَةٌ إِلَى ظَرْفِ زمان، وقرئ وَنَهَرٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَهَرٍ كَأُسْدٍ فِي جَمْعِ أَسَدٍ نَقَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نُهُرٌ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمْعُ نهر كثمر في جمع ثمر. / ثم قال تعالى:
[سورة القمر (54) : آية 55]
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى صُورَةِ بَدَلٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ فِي بَلْدَةِ كَذَا فِي دَارِ كَذَا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَقْعَدِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَنَّاتِ مَوْضِعًا مُخْتَارًا لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى مَا فِي الْجَنَّاتِ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: عِنْدَ مَلِيكٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَحَدِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْمُرَادَ من قوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] فِي جَنَّاتٍ عِنْدَ نَهَرٍ فَقَالَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةُ مَقْعَدِ صِدْقٍ تَقُولُ دِرْهَمٌ في ذمة ملئ خَيْرٌ مِنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ مُعْسِرٍ، وَقَلِيلٌ عِنْدَ أَمِينٍ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ عِنْدَ خَائِنٍ فَيَكُونُ صِفَةً وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ كَالصِّفَةِ لِجَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أَيْ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ مَوْصُوفَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ، تَقُولُ: وَقْفَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّه أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَ: عِنْدَ مَلِيكٍ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يَدُلُّ عَلَى لُبْثٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَعَدَ وَجَلَسَ لَيْسَا عَلَى مَا يُظَنُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لِلْبَارِعِ، وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ
__________
(1) هنا كلمة محذوفة بالأصل لم نهتد إليها.(29/332)
الْقُعُودَ جُلُوسٌ فِيهِ مُكْثٌ حَقِيقَةً وَاقْتِضَاءً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الزَّمَنَ يُسَمَّى مَقْعَدًا وَلَا يُسَمَّى مَجْلِسًا لِطُولِ الْمُكْثِ حَقِيقَةً وَمِنْهُ سُمِّيَ قَوَاعِدُ الْبَيْتِ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ قَوَاعِدُ وَلَا يُقَالُ لَهُنَّ: جَوَالِسُ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ فَذَكَرَ الْقَوَاعِدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِهِ مُسْتَقِرًّا بَيْنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُقَالُ لِلْمَرْكُوبِ مِنَ الْإِبِلِ قَعُودٌ لِدَوَامِ اقْتِعَادِهِ اقْتِضَاءً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فَهُو لِصَوْنِهِ عَنِ الْحَمْلِ وَاتِّخَاذِهِ لِلرُّكُوبِ كَأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ نَوْعُ قُعُودٍ دَائِمٍ اقْتَضَى ذَلِكَ وَلَمْ يُرَدْ لِلْإِجْلَاسِ الثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى تَقَالِيبِ الْحُرُوفِ فَإِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى ق ع د وَقَلَبْتَهَا تَجِدُ مَعْنَى الْمُكْثِ فِي الْكُلِّ فَإِذَا قَدَّمْتَ الْقَافَ رَأَيْتَ قَعَدَ وَقَدَعَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ تَقَادَعَ الْفَرَاشُ بِمَعْنَى تَهَافَتَ، وَإِذَا قَدَّمْتَ الْعَيْنَ رَأَيْتَ عَقَدَ وَعَدَقَ بِمَعْنَى الْمُكْثِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَفِي عَدَقَ لِخَفَاءٍ يُقَالُ: أَعْدِقْ بِيَدِكَ الدَّلْوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا أَمَرَهُ بِطَلَبِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهَا وَالْعَوْدَقَةُ خَشْبَةٌ عَلَيْهَا كُلَّابٌ يَخْرُجُ مَعَهُ الدَّلْوُ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ، وَإِذَا قَدَّمْتَ الدَّالَ رَأَيْتَ دَقَعَ وَدَعَقَ وَالْمُكْثُ فِي الدَّقْعِ ظَاهِرٌ وَالدَّقْعَاءُ هِيَ التُّرَابُ الْمُلْتَصِقُ بِالْأَرْضِ وَالْفَقْرُ الْمُدْقَعُ هُوَ الَّذِي يُلْصَقُ صَاحِبُهُ بِالتُّرَابِ. وَفِي دَعَقَ أَيْضًا إِذِ الدَّعْقُ مَكَانٌ تَطَؤُهُ الدَّوَابُّ بِحَوَافِرِهَا فَيَكُونُ صَلْبًا أَجْزَاؤُهُ مُتَدَاخِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَا يَتَحَرَّكُ شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ مَوْضِعِهِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الِاسْتِعْمَالَاتُ فِي الْقُعُودِ إِذَا اعْتُبِرَتْ ظَهَرَ مَا ذَكَرْنَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاءِ: 95] وَالْمُرَادُ الَّذِي لَا يَكُونُ بَعْدَهُ اتِّبَاعٌ وَقَالَ تَعَالَى: مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آلِ عِمْرَانَ: 121] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ/ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصَّفِّ: 4] فَأَشَارَ إِلَى الثَّبَاتِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَالِ: 45] فَالْمَقَاعِدُ إِذَنْ هِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُقَاتِلُ بِثَبَاتٍ وَمُكْثٍ وَإِطْلَاقُ مَقْعَدَةٍ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ الْقُعُودُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ حَصَلَ لَكَ فَوَائِدُ مِنْهَا هاهنا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ الْمُكْثِ وَطُولِ اللُّبْثِ، وَمِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] فَإِنَّ الْقَعِيدَ بِمَعْنَى الْجَلِيسِ وَالنَّدِيمِ، ثُمَّ إِذَا عُرِفَ هَذَا وَقِيلَ لِلْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ الْقَعِيدِ يدل لَفْظِ الْجَلِيسِ مَعَ أَنَّ الْجَلِيسَ أَشْهَرُ؟ يَكُونُ جَوَابُهُمْ أَنَّ آخِرَ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ولَدَيَّ عَتِيدٌ [ق: 23] وَقَوْلِهِ: جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هُودٍ: 59] يُنَاسِبُ القعيد، ولا الْجَلِيسَ وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِي السَّجْعِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا ذُكِرَ تَبَيَّنَ لَكَ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ حِكْمِيَّةٌ فِي وَضْعِ اللَّفْظِ الْمُنَاسِبِ لِأَنَّ الْقَعِيدَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُفَارِقَانِهِ وَيُدَاوِمَانِ الْجُلُوسَ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْجِزُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ يَخْتَارُ اللَّفْظَ الْفَاسِدَ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَالسَّجْعِ وَيَجْعَلُ الْمَعْنَى تَبَعًا لِلَّفْظِ، واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ الْحِكْمَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَجَاءَ بِاللَّفْظِ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَنْبَغِي، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى فِي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [الْمُجَادَلَةِ: 11] فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَافْسَحُوا إشارة إلى الحركة، وقوله: فَانْشُزُوا إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْجُلُوسِ فَذَكَرَ الْمَجْلِسَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ جُلُوسٍ فَلَا يَجِبُ مُلَازَمَتُهُ وَلَيْسَ بِمَقْعَدٍ حَتَّى لَا يُفَارِقُونَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَقْعَدِ صِدْقٍ، أَيْ صَالِحٍ يُقَالُ: رَجُلُ صِدْقٍ لِلصَّالِحِ وَرَجُلُ سَوْءٍ لِلْفَاسِدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ: إِنَّا فَتَحْنا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْحِ: 12] ، وَثَانِيهِمَا: الصِّدْقُ الْمُرَادُ مِنْهُ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَعَلَى هذا ففيه ووجهان الْأَوَّلُ: مَقْعَدُ صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَهُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ الثَّانِي: مَقْعَدٌ نَالَهُ مَنْ صَدَقَ فَقَالَ: بِأَنَّ اللَّه وَاحِدٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَقْعَدٌ لَا(29/333)
يُوجَدُ فِيهِ كَذِبٌ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى صَادِقٌ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ لِأَنَّ مَظَنَّةَ الْكَذِبِ الْجَهْلُ وَالْوَاصِلُ إِلَيْهِ، يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ وَيَسْتَغْنِي بِفَضْلِ اللَّه عَنْ أَنْ يَكْذِبَ لِيَسْتَفِيدَ بِكَذِبِهِ شَيْئًا فَهُوَ مَقْعَدُ صِدْقٍ وَكَلِمَةُ عِنْدَ قَدْ عَرَفْتَ مَعْنَاهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ قُرْبُ الْمَنْزِلَةِ وَالشَّأْنِ لَا قُرْبُ الْمَعْنَى وَالْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ مِنَ الْمُلُوكِ لَذِيذَةٌ كُلَّمَا كَانَ الْمَلِكُ أَشَدَّ اقْتِدَارًا كَانَ الْمُتَقَرِّبُ مِنْهُ أَشَدَّ الْتِذَاذًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى الْقُرْبِ مِنْهُ مِنْ مَعْنَى الْقُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يُقَرِّبُونَ مَنْ يَكُونُ مِمَّنْ يُحِبُّونَهُ وَمِمَّنْ يرهبونه، مخالفة أَنْ يَعْصُوا عَلَيْهِ وَيَنْحَازُوا إِلَى عَدُوِّهِ فَيَغْلِبُونَهُ، واللَّه تَعَالَى قَالَ: مُقْتَدِرٍ لَا يُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا بِفَضْلِهِ.
وَالْحَمْدُ للَّه وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه.(29/334)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
سورة الرحمن
خمسون وخمس آيات مكية
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
[في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ] اعلم أولا أَنَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى افْتَتَحَ السُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْهَيْبَةِ وَهُوَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْقَمَرِ يَقْدِرُ عَلَى هَدِّ الْجِبَالِ وَقَدِّ الرِّجَالِ، وَافْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالرَّحَمُوتِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَإِنَّ شِفَاءَ الْقُلُوبِ بِالصَّفَاءِ عَنِ الذُّنُوبِ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [القمر:
16] غَيْرَ مَرَّةٍ، وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَنِ: 13] مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ سُورَةُ إِظْهَارِ الْهَيْبَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ إِظْهَارِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ إِنَّ أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] ، وَالِاقْتِدَارُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهَيْبَةِ والعظمة وقال هاهنا: الرَّحْمنُ أَيْ عَزِيزٌ شَدِيدٌ مُنْتَقِمٌ مُقْتَدِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، رَحْمَنٌ مُنْعِمٌ غَافِرٌ لِلْأَبْرَارِ. ثُمَّ فِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ الرَّحْمنُ أَبْحَاثٌ، وَلَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُهَا إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ فِي كَلِمَةِ اللَّه فَنَقُولُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ اسْمُ عَلَمٍ لِمُوجِدِ الْمُمْكِنَاتِ وَعَلَى هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الرَّحْمنُ أَيْضًا اسْمُ عَلَمٍ لَهُ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْإِسْرَاءِ: 110] أَيْ أَيًّا مَا مِنْهُمَا، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْقَائِلِ: يَا الرَّحْمَنُ كَمَا يَجُوزُ يَا اللَّه وَتَمَسَّكَ بِالْآيَةِ وَكُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ وَبَعْضُهَا أَضْعَفُ مِنْ بَعْضٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: اللَّه مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ اسْمُ عَلَمٍ فَفِيهِ بَعْضُ الضَّعْفِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ أَصْلِيَّةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ وَصْلِيَّةً، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ:
خَلَقَ اللَّه كَمَا يُقَالُ: عَلِمَ أَحْمَدُ وَفَهِمَ إِسْمَاعِيلُ، بَلِ الْحَقُّ فِيهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِلَهٌ أَوْ لَاهٌ اسْمٌ لِمُوجِدِ الْمُمْكِنَاتِ اسْمُ عَلَمٍ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا فِي الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ وَالْحَسَنِ وَالْخَلِيلِ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ(29/335)
سَمَّى غَيْرَهُ إِلَهًا فَهُوَ كَمَنْ يَسْتَعْمِلُ فِي مَوْلُودٍ لَهُ فَيَقُولُ لِابْنِهِ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِنْ كَانَ عَلَمَيْنِ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ فِي أَنَّهُ جَائِزٌ لأن من سمى ابنه أحمد لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْمُطَاعِ/ مَا يَمْنَعُ الْغَيْرَ عَنِ التَّسْمِيَةِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِاحْتِجَارُ وَأَخْذُ الِاسْمِ لِنْفَسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ بِخِلَافِ الْمَلِكِ الْمُطَاعِ إِذَا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لَا يَسْتَجْرِئُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مَا دَامَ لَهُ الْمُلْكُ أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ أَوْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ خُصُوصًا مَنْ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِاسْمِ الْمَلِكِ وَلَا أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بِهِ، واللَّه تَعَالَى مَلِكٌ مُطَاعٌ وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُ تَحْتَ أَمْرِهِ فَإِذَا اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ اسْمًا لَا يَجُوزُ لِلْعَبِيدِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِذَلِكَ الِاسْمِ، فَمَنْ يُسَمِّي فَقَدْ تَعَدَّى فَالْمُشْرِكُونَ فِي التَّسْمِيَةِ مُتَعَدُّونَ، وَفِي الْمَعْنَى ضَالُّونَ وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِلَهٌ أَوْ لَاهٌ اسْمٌ لِمَنْ يُعْبَدُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَمَّا امْتَنَعَ الْمَعْنَى عَنْ غَيْرِ اللَّه امْتَنَعَ الِاسْمُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ سَمَّى أَحَدٌ ابْنَهُ بِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؟ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ الِابْنِ لِمَعْنًى لَا لِكَوْنِهِ عَلَمًا، فَإِنْ قِيلَ: تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِالْكَرِيمِ وَالْوَدُودِ جَائِزَةٌ قُلْنَا: كُلُّ مَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَلَمِ وَعَلَى اسْمٍ لِمَعْنًى مَلْحُوظٍ فِي اللَّفْظِ الذِّكْرِيِّ لَا يُفْضِي إِلَى خَلَلٍ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِالْكَرِيمِ وَالْوَدُودِ وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِالْخَالِقِ، وَالْقَدِيمِ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ غَيْرُ مَلْحُوظٍ فِيهِ الْمَعْنَى يَجُوزُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنًى هُوَ قَائِمٌ بِهِ كَالْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا بَقَاءُ الْخَلْقِ أَوِ الْعَدَمِ، فَلَا يَجُوزُ لَكِنِ اسْمُ الْمَعْبُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يَجُوزُ التَّسْمِيةُ بِهِ، فَأَحَدُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ وَقَوْلُهُمْ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَمٌ لَيْسَ بِحَقٍّ، إِذَا عَرَفْتَ الْبَحْثَ فِي اللَّه فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّحْمَنَ اسْمٌ عَلَى أَضْعَفَ مِنْهُ، وَتَجْوِيزُ يَا الرَّحْمَنُ أَضْعَفُ مِنَ الْكُلِّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اللَّه وَالرَّحْمَنُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى كَالِاسْمِ الْأَوَّلِ وَالْوَصْفُ الْغَالِبُ الَّذِي يَصِيرُ كَالِاسْمِ بَعْدَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: عُمَرُ الْفَارُوقُ، وَعَلِيٌّ الْمُرْتَضَى وَمُوسَى الرِّضَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَجِدُهُ فِي أَسْمَاءِ الْخُلَفَاءِ وَأَوْصَافِهِمُ الْمُعَرِّفَةِ لَهُمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ وَصْفًا وَخَرَجَتْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَنِ الْوَصْفِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ الشَّخْصَ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ أَوْ فَارَقَهُ الْوَصْفُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ فَإِذَنْ لِلرَّحْمَنِ اخْتِصَاصٌ باللَّه تَعَالَى، كَمَا أَنَّ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ اخْتِصَاصًا بِأُولَئِكَ غَيْرَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ جَازَ الْوَضْعُ لِمَا بَيَّنَّا حَيْثُ اسْتَوَى النَّاسُ فِي الِاقْتِدَارِ وَالْعَظَمَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الرَّحْمَنِ عَلَى الْيَمَامِيِّ، نَقُولُ: هُوَ كَمَا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِلَهِ عَلَى غَيْرِ اللَّه تَعَدِّيًا وَكُفْرًا، نَظَرًا إِلَى جَوَازِهِ لُغَةً وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: للَّه تَعَالَى رَحْمَتَانِ سَابِقَةٌ وَلَاحِقَةٌ فَالسَّابِقَةُ هِيَ الَّتِي بِهَا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاللَّاحِقَةُ هِيَ الَّتِي أَعْطَى بِهَا الْخَلْقَ بَعْدَ إِيجَادِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَالْفِطْنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى الرَّحْمَةِ السَّابِقَةِ رَحْمَنٌ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى اللَّاحِقَةِ رَحِيمٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ، فَهُوَ رَحْمَنٌ، لِأَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ أَوَّلًا بِرَحْمَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَلَمْ يَخْلُقْ أَحَدٌ أَحَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِهِ: رَحْمَنٌ، وَلَمَّا تَخَلَّقَ الصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِهِ بِبَعْضِ أَخْلَاقِهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَطْعَمَ الْجَائِعَ وَكَسَا الْعَارِيَ، وُجِدَ شَيْءٌ مِنَ الرَّحْمَةِ اللَّاحِقَةِ الَّتِي بِهَا الرِّزْقُ وَالْإِعَانَةُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ رَحِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ غَيْرَ أَنَّا أَرَدْنَا أن يصير ما ذكرنا مضموما إلى ما ذكرناه هناك، / فأعدناه هاهنا لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَالتَّفْصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَاتِحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّحْمنُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَقِيلَ الرَّحْمنُ(29/336)
[خَبَرُ] مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ أَتَى بِجُمْلَةٍ بَعْدَ جُمْلَةٍ فَقَالَ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ الرَّحْمَنُ آيَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ ثَانٍ فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: قِيلَ: عَلَّمَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ عَلَامَةً أَيْ هُوَ عَلَامَةُ النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَةٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [الْقَمَرِ: 1] عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ تِلْكَ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِنْ بَابِ الْهَيْئَةِ وَهُوَ أَنَّهُ شَقَّ مَا لَا يَشُقُّهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةً مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ نَشَرَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَا يَنْشُرُهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْجَوَابِ فَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يُعَلَّمُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَرِ: 17] وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَجَازٌ. يُقَالُ: إِنْ أُنْفِقَ عَلَى مُتَعَلِّمٍ وَأُعْطِيَ أُجْرَةً عَلَى تَعْلِيمِهِ عَلِمَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَّمَهُمُ الْقُرْآنَ ثُمَّ أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّه تَعَالَى لَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ الْقُرْآنَ الْإِنْسَانَ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِيَكُونَ الْإِنْعَامُ أَتَمَّ وَالسُّورَةُ مُفْتَتَحَةٌ لِبَيَانِ الْأَعَمِّ مِنَ النِّعَمِ الشَّامِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِمَ تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي؟ نَقُولُ: إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي تَعْمِيمِ التَّعْلِيمِ لَا فِي تَعْلِيمِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ إِشَارَةً إِلَى كَرَمِهِ، وَلَا يُبَيِّنُ مَنْ يُطْعِمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى التَّعْلِيمِ؟ نَقُولُهُ عَلَى قَوْلِنَا لَهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِفَادَةُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ مَعَ قَوْلَهُ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 7] نَقُولُ: مَنْ لَا يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ ويعطف: الرَّاسِخُونَ عَلَى اللَّه عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا، وَمَنْ يَقِفُ وَيَعْطِفُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ عَلَى قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ كِتَابًا عَظِيمًا وَوَقَعَ عَلَى مَا فِيهِ، وَفِيهِ مَوَاضِعُ مُشْكِلَةٌ فَعَلِمَ مَا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، يُقَالَ: فُلَانٌ يَعْلَمُ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ وَيُتْقِنُهُ بِقَدْرِ وُسْعِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ مُرَادَ صَاحِبِ الْكِتَابِ بِيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تعليم القرآن، أو تقول: لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مَا فِيهَا بِقُوَّةِ الذَّكَاءِ وَالْعُلُومِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عَلَّمَ عَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَتَعْلِيمُهُ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَعَلَّمَ تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً/ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْوَاقِعَةِ: 77- 80] إِشَارَةً إِلَى تَنْزِيلِهِ بَعْدَ تَعْلِيمِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي النَّظْمِ حُسْنٌ زَائِدٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أُمُورًا عُلْوِيَّةً وَأُمُورًا سُفْلِيَّةً، وَكُلُّ عُلْوِيٍّ قَابَلَهُ بِسُفْلِيٍّ، وَقَدَّمَ الْعُلْوِيَّاتِ عَلَى السُّفْلِيَّاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ إِشَارَةً إِلَى تَعْلِيمِ الْعُلْوِيِّينَ، وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ إِشَارَةً إِلَى تَعْلِيمِ السُّفْلِيِّينَ، وَقَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الرَّحْمَنِ: 5] فِي الْعُلْوِيَّاتِ وَقَالَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا مِنَ السُّفْلِيَّاتِ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرَّحْمَنِ: 6] .(29/337)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالسَّماءَ رَفَعَها [الرَّحْمَنِ: 7] وَفِي مُقَابِلَتِهَا: وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرَّحْمَنِ: 10] ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ تَقْدِيمَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ أَتَمَّ نِعْمَةٍ وَأَعْظَمَ إِنْعَامًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ:
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَأَنْفَقْتُ عَلَيْهِ مَالِي، فَقَوْلُهُ:
حَمَلْتُهُ وَأَنْفَقْتُ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ الْعَظِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ الْعَلَقِ، حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [الْعَلَقِ: 1] ثُمَّ قَالَ: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [الْعَلَقِ: 3، 4] فَقَدَّمَ الْخَلْقَ عَلَى التَّعْلِيمِ؟ نَقُولُ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ لَمْ يُصَرِّحْ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَالتَّعْلِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
خَلَقَ الْإِنْسانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ؟ نَقُولُ: هُوَ الْجِنْسُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ فِي خَلَقَ وَيَدْخُلُ فِيهِ مُحَمَّدٌ وَآدَمُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْبَيَانُ وَكَيْفَ تَعْلِيمُهُ؟ نَقُولُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْبَيَانُ الْمَنْطِقُ فَعَلَّمَهُ مَا يَنْطِقُ بِهِ وَيَفْهَمُ غَيْرُهُ مَا عِنْدَهُ، فَإِنَّ بِهِ يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَوْلُهُ: خَلَقَ الْإِنْسانَ إِشَارَةٌ إِلَى تقدير خلق جسمه الخاص، وعَلَّمَهُ الْبَيانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهِ بِالْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ خَرَجَ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَعَادَهُ لِيُفَصِّلَ مَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ كَمَا قُلْنَا فِي الْمِثَالِ حَيْثُ يَقُولُ الْقَائِلُ: عَلَّمْتُ فُلَانًا الْأَدَبَ حَمَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْبَيَانُ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا فِيهِ الْمَصْدَرُ، وَإِطْلَاقُ الْبَيَانِ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 138] وَقَدْ سَمَّى اللَّه تَعَالَى الْقُرْآنَ فُرْقَانًا وَبَيَانًا وَالْبَيَانُ فُرْقَانٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْبَيَانِ، وَإِرَادَةُ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَفْعُولَيْنِ فِي عِلْمِهِ الْبَيَانَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ نَقُولُ: أَمَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ هُوَ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْقُرْآنَ، فَنَقُولُ حَذَفَهُ لِعِظَمِ نِعْمَةِ التَّعْلِيمِ وَقَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ وَعَلَى بَيَانِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَصَّلَ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ الْمَلَائِكَةَ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَمُطَالَبَتُهُ بِالشُّكْرِ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ لِلْمَلَائِكَةِ لَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ أَنَّهُ فَائِدَةٌ/ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ «1» وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا قَالَ في: اقْرَأْ قال مرة: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُعَلَّمِ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أخرى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ الْبَيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ حَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا بتعليم اللَّه. ثم قال تعالى:
__________
(1) أقول: إن كان اطراد علم الملائكة فيه نعمة أعظم على الإنسان وإشارة إلى نوع المنة التي أنعم بها عليه بالقرآن وإلى شرف القرآن بأنه مما تعلمه الملائكة ولا ريب أن الملائكة وقد نزلوا بالقرآن على محمد صلى اللَّه عليه وسلم وحملوه إليه فإن علمهم به ولا شك ألزم وإنزال ملائكة موصوفين بالعلم على الرسول فيه تبجيل للرسول ولأمته وللقرآن نفسه، وبهذا تظهر الفائدة في إرادة هذا المعنى ربما تعين هذا المراد مراعاة للترتيب الذي في الآية، ووقوع خلق الإنسان بعد خلقه الملائكة. [.....](29/338)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 6]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6)
وَفِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما ثبت كونه رحمن وَأَشَارَ إِلَى مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ نِعَمَهُ وَبَدَأَ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ جَمِيعُ النِّعَمِ بِهِ تَتِمُّ، وَلَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا انْتُفِعَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَيَّنَ نِعْمَةَ الْإِدْرَاكِ بقوله: عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 4] وَهُوَ كَالْوُجُودِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ أَنْوَاعِ النِّعَمِ السَّمَاوِيَّةِ وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ، وَلَوْلَا الْقَمَرُ لَفَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ نِعَمَهَا لَا تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِثْلَ مَا تَظْهَرُ نِعْمَتُهُمَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ نَفْعِهِمَا فِي حَرَكَتِهِمَا بِحِسَابٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ ثَابِتَةً فِي مَوْضِعٍ لَمَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ سَيْرُهَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْخَلْقِ لَمَا انْتَفَعُوا بِالزِّرَاعَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْفُصُولِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالَّذِي لَهُ سَاقٌ، فَإِنَّ الرِّزْقَ أَصْلُهُ مِنْهُ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ رِزْقٌ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَصْلُ النِّعَمِ عَلَى الرِّزْقِ الدَّارِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّبَاتُ هُوَ أَصْلُ الرِّزْقِ لِأَنَّ الرِّزْقَ إِمَّا نَبَاتِيٌّ وَإِمَّا حَيَوَانِيٌّ كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا عَاشَ الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَهُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قِسْمَانِ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَشْجَارِ الْكِبَارِ وَأُصُولِ الثِّمَارِ وَغَيْرُ قَائِمٍ كَالْبُقُولِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحَشِيشِ وَالْعُشْبِ الَّذِي هُوَ غَذَاءُ الْحَيَوَانِ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَكَانَ هُوَ كَافِيًا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ قَالَ بَعْدَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنْ تَكُنْ لَهُ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الَّتِي يُغْنِيهَا اللَّهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُ فِي الْآفَاقِ آيَاتٌ مِنْهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُمَا لِلذِّكْرِ لِأَنَّ حَرَكَتَهُمَا بِحُسْبَانٍ تَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ سَخَّرَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَوِ اجْتَمَعَ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَتَوَاطَئُوا أَنْ يُثَبِّتُوا حَرَكَتَهُمَا عَلَى الْمَمَرِّ الْمُعَيَّنِ عَلَى الصَّوَابِ الْمُعَيَّنِ وَالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ لَمَا بَلَغَ أَحَدٌ مُرَادَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ/ وَيَقُولَ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَرَادَ، وَذَكَرَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَغَيْرَهُمَا إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُفْتَتَحَةٌ بِمُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْهَيْئَةِ فَذَكَرَ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ بِمَا يَكُونُ جَوَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بِأَشْرَفِ خِطَابٍ، فَقَالَ: بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ كَيْفَ يُمْكِنُ نُزُولُ الْجِرْمِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَكَيْفَ يَصْعَدُ مَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ؟ فَقَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ إِشَارَةً إِلَى [أَنَّ] حَرَكَتَهُمَا بِمُحَرِّكٍ مُخْتَارٍ لَيْسَ بِطَبِيعِيٍّ وَهُمْ وَافَقُونَا فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْحَرَكَةَ الدَّوْرِيَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ طَبِيعِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً فَنَقُولُ: مَنْ حَرَّكَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ثُمَّ النَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَتَحَرَّكَانِ إِلَى فَوْقُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مَعَ أَنَّ الثَّقِيلَ عَلَى مَذْهَبِكُمْ لَا يَصْعَدُ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْمَلَكِ جَائِزَةٌ مِثْلَ الْفَلَكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِحُسْبانٍ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَوَابِ عن قولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا اخْتَارَ لِحَرَكَتِهِمَا مَمَرًّا مُعَيَّنًا وَصَوْبًا مَعْلُومًا وَمِقْدَارًا مَخْصُوصًا كَذَلِكَ اخْتَارَ لِلْمَلَكِ وَقْتًا مَعْلُومًا وَمَمَرًّا مُعَيَّنًا بِفَضْلِهِ وَفِي التَّفْسِيرِ مَبَاحِثُ:(29/339)
الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَعْرِيفِهِ عَمَّا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ هُمَا: بِحُسْبانٍ وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ بِحُسْبَانٍ أَوْ سَخَّرَهُمَا أَوْ أَجْرَاهُمَا كَمَا قَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ؟ [الرحمن: 3، 4] نَقُولُ:
فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ أَتَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْمَنَافِعِ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ صَرَّحَ هُنَاكَ بِأَنَّهُ فَاعِلُهُ وَصَانِعُهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هاهنا بِمِثْلِ هَذَا فِي الْعِظَمِ يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ الْأُلُوفَ وَالْمِئَاتِ مِرَارًا وَحَصَلَ لَكَ الْآحَادُ وَالْعَشَرَاتُ كَثِيرًا وَمَا شَكَرْتَ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ حَصَلَ لَكَ مِنِّي وَمِنْ عَطَائِي لَكِنَّهُ يُخَصِّصُ التَّصْرِيحَ بِالْعَطَاءِ عِنْدَ الْكَثِيرِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ مُؤَكِّدٍ السَّمْعِيَّ وَلَمْ يَقُلْ: فَعَلْتُ صَرِيحًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنِّي وَاعْتَرَفْتَ بِهِ، وَأَمَّا السَّمْعِيُّ فَصَرَّحَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ الثَّانِي: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَعَلُّقُ الْبَاءِ مِنْ بِحُسْبانٍ، نَقُولُ: هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَيْضًا مَرَّ بَيَانُهُ وَخَرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ: فِي الْحُسْبَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحِسَابُ يُقَالُ: حَسِبَ حِسَابًا وَحُسْبَانًا، وَعَلَى هَذَا فالباء للمصالحة تَقُولُ:
قَدِمْتَ بِخَيْرٍ أَيْ مَعَ خَيْرٍ وَمَقْرُونًا بِخَيْرٍ فَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَجْرِيَانِ وَمَعَهُمَا حِسَابُهُمَا ومثله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: 8] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا فِي قَوْلِكَ:
بعون الله غلبت، وبتوفيق الله حجت، فَكَذَلِكَ يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ مِنَ اللَّهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُسْبَانَ هُوَ الْفَلَكُ تَشْبِيهًا لَهُ بِحُسْبَانِ الرَّحَا وَهُوَ مَا يَدُورُ فَيُدِيرُ الْحَجَرَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْآلَاتِ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَهُمَا يَدُورَانِ بِالْفَلَكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] ، الثَّالِثُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ هَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَجْرِي بِحُسْبَانٍ أَوْ كِلَاهُمَا بِحُسْبَانٍ وَاحِدٍ مَا الْمُرَادُ؟ نَقُولُ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَيْهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِسَابٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ/ كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْكُلَّ مَجْمُوعٌ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ وَكَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: 8] وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِلْكُلِّ حِسَابٌ وَاحِدٌ قَدْرَ الْكُلِّ بِتَقْدِيرِ حُسْبَانِهِمَا بِحِسَابٍ، مِثَالُهُ مَنْ يُقَسِّمُ مِيرَاثَ نَفْسِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا مَعْلُومًا بِحِسَابٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فَيَأْخُذُ الْبَعْضُ السُّدُسَ وَالْبَعْضُ كَذَا وَالْبَعْضُ كَذَا، فَكَذَلِكَ الْحِسَابُ الْوَاحِدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فَفِيهِ أَيْضًا مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ عَاطِفَةٍ، وَمِنْ هُنَا ذَكَرَهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ؟ نَقُولُ لِيَتَنَوَّعَ الْكَلَامُ نَوْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ من بعد النِّعَمَ عَلَى غَيْرِهِ تَارَةً يَذْكُرُ نَسَقًا مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَنْعَمَ عَلَيْكَ كَثِيرًا، أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذلك، قَوَّاكَ بَعْدَ ضَعْفٍ، وَأُخْرَى يَذْكُرُهَا بِحَرْفٍ عَاطِفٍ وَذَلِكَ الْعَاطِفُ قَدْ يَكُونُ وَاوًا وَقَدْ يَكُونُ فَاءً وَقَدْ يَكُونُ ثُمَّ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَكْرَمَكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَيَقُولُ: رَبَّاكَ فَعَلَّمَكَ فَأَغْنَاكَ، وَيَقُولُ: أَعْطَاكَ ثُمَّ أَغْنَاكَ ثُمَّ أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَيْكَ، فَكَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ التَّعْدِيدَ بِالنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ قِيلَ:
زِدْهُ بَيَانًا وَبَيِّنِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى، قُلْنَا: الَّذِي يَقُولُ بِغَيْرِ حَرْفٍ كَأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ بَيَانَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ فَيَتْرُكُ الْحَرْفَ لِيَسْتَوْعِبَ الْكُلَّ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلِ كَلَامٍ، وَلِهَذَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ فِي أَغْلَبِ الْأَمْرِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ النِّعَمِ ثَلَاثًا أَوْ عند ما تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِعْمَتَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ نِعْمَتَيْنِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَعْطَاكَ الْمَالَ وَزَوَّجَكَ الْبِنْتَ، فَيَكُونُ فِي كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ لِلْأُنْمُوذَجِ، وَالَّذِي يَقُولُ بِحَرْفٍ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ نِعْمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِذْهَابِ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ أَعْطَاكَ الْمَالَ هو تفسير(29/340)
لِلْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ ذِكْرُ نِعْمَتَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ بِحَرْفٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلَوْ ذَكَرَ النِّعَمَ الْأُوَلَ بِالْوَاوِ ثُمَّ عِنْدَ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآخِرِ سَرَدَهَا سَرْدًا، هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ؟ وَوُرُودُ كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبْلَغُ، وَلَهُ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ ظَاهِرٌ يُبَيَّنُ بِبَحْثٍ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَشْرَعُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا عَلَى قَصْدِ الِاخْتِصَارِ فَيَقْتَضِي الْحَالُ التَّطْوِيلَ، إِمَّا لِسَائِلٍ يُكْثِرُ السُّؤَالَ، وَإِمَّا لِطَالِبٍ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ لِلُطْفِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ يَشْرَعُ عَلَى قَصْدِ الْإِطْنَابِ وَالتَّفْصِيلِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شُغْلِ السَّامِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَائِدُهُ لِعِبَادِهِ لَا لَهُ فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ أَتَمِّ النِّعَمِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَتَى بِمَا يَخْتَصُّ بِالْكَثْرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَدَأَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَإِذْهَابُ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَطْفِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالِابْتِدَاءِ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ وَلَا بِمَا بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: لِيَكُونَ النَّوْعَانِ عَلَى السَّوَاءِ فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النِّعَمِ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَرْبَعًا مِنْهَا بِغَيْرِ وَاوٍ وَأَرْبَعًا بِوَاوٍ، / وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ [الرَّحْمَنِ: 11] وَقَوْلُهُ:
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: 12] فَلِبَيَانِ نِعْمَةِ الْأَرْضِ عَلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ الثَّمَانِيَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ كَامِلٌ وَالثَّمَانِيَةَ هِيَ السَّبْعَةُ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ التَّعْدِيدِ لِمَا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا مُبَيَّنًا، فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنْهَا إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ الْعَدَدِ لَا لِبَيَانِ الِانْحِصَارِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّجْمُ مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالثَّانِي: نَجْمُ السَّمَاءِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مَعَ الشَّجَرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ذَكَرَ أَرْضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ سَمَاوَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:
يَسْجُدانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ نَجْمَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ بِهِ قَالَ: يَسْجُدُ بِالْغُرُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ يَغْرُبَانِ، فَلَا يَبْقَى لِلِاخْتِصَاصِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: هُمَا أَرْضَانِ فَنَقُولُ: يَسْجُدانِ بِمَعْنَى ظِلَالِهِمَا تَسْجُدُ فَيَخْتَصُّ السُّجُودُ بِهِمَا دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفِي سُجُودِهِمَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ ثَانِيهَا: خُضُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجُهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَدَوَامُهُمَا وَثَبَاتُهُمَا عَلَيْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ وَالنَّجْمَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ إِلَى فَوْقُ، فَشَبَّهَ النَّبَاتَ فِي مَكَانِهَا بِالسُّجُودِ لِأَنَّ السَّاجِدَ يَثْبُتُ. ثَالِثُهَا: حَقِيقَةُ السُّجُودِ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْئِيَّةً كما يسمح كُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُفْقَهْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، رَابِعُهَا: السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ مَقَادِيمِ الرَّأْسِ عَلَى الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ وَأَرْجُلُهُمَا فِي الْهَوَاءِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ من الحيوان ما به شربه واغذاؤه، وَلِلنَّجْمِ وَالشَّجَرِ اغْتَذَاؤُهُمَا وَشُرْبُهُمَا بِأَجْذَالِهِمَا وَلِأَنَّ الرَّأْسَ لَا تَبْقَى بِدُونِهِ الْحَيَاةُ وَالشَّجَرُ وَالنَّجْمُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهُمَا ثَابِتًا غَضًّا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أُصُولِهِمَا، وَيَبْقَى عِنْدَ قَطْعِ فُرُوعِهِمَا وأعاليهما، وإنما يقال:
للفروع رؤوس الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ مَا يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ دَائِمًا، فَهُوَ سُجُودُهُمَا بِالشَّبَهِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْدِيمِ النَّجْمِ عَلَى الشَّجَرِ مُوَازَنَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ النَّجْمَ فِي(29/341)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
مَعْنَى السُّجُودِ أَدْخَلُ لِمَا أَنَّهُ يَنْبَسِطُ عَلَى الْأَرْضِ كَالسَّاجِدِ حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْحُسْبَانِ أَدْخَلُ، لِأَنَّ حِسَابَ سَيْرِهَا أَيْسَرُ عِنْدَ الْمُقَوِّمِينَ مِنْ حِسَابِ سَيْرِ الْقَمَرِ، إِذْ لَيْسَ عِنْدَ الْمُقَوِّمِينَ أَصْعَبُ مِنْ تَقْوِيمِ الْقَمَرِ فِي حساب الزيج. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 7]
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
وَرَفْعُ السَّمَاءِ مَعْلُومٌ مَعْنًى، وَنَصْبُهَا مَعْلُومٌ لَفْظًا فَإِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: رَفَعَها كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
رَفَعَ السَّمَاءَ، وَقُرِئَ وَالسَّماءَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الرحمن: 5] وأما وضع الْمِيزَانَ/ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَدْلِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا فِيهِ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْعَدْلَ وَذَكَرَ أَخَصَّ الْأُمُورِ لَهُ وَهُوَ الْمِيزَانُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيدِ: 25] لِيَعْمَلَ النَّاسُ بِالْكِتَابِ وَيَفْعَلُوا بِالْمِيزَانِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2] وَوَضَعَ الْمِيزانَ مِثْلَ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فَإِنْ قِيلَ: الْعِلْمُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا الْمِيزَانُ فَمَا الَّذِي فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يُعَدُّ فِي الآلاء؟ نقول: النفوس تأبى الْغُبْنَ وَلَا يَرْضَى أَحَدٌ بِأَنْ يَغْلِبَهُ الْآخَرُ وَلَوْ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهِ فَلَا يَتْرُكُهُ لِخَصْمِهِ لِغَلَبَةٍ، فَلَا أَحَدَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ خَصْمَهُ يَغْلِبُهُ فَلَوْلَا التَّبْيِينُ ثُمَّ التَّسَاوِي لَأَوْقَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ الْبَغْضَاءَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ الْجَهْلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ وَالسُّكْرِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ صَارَا سَبَبًا لِبَقَاءِ عِمَارَةِ الْعَالَمِ، فَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْحِكْمَةِ سَبَبٌ، وَأَخَصُّ الْأَسْبَابِ الْمِيزَانُ فَهُوَ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ وَلَا يُنْظَرُ إِلَى عَدَمِ ظُهُورِ نِعْمَتِهِ لِكَثْرَتِهِ وَسُهُولَةِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ اللَّذَيْنِ لَا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 8]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8)
وَعَلَى هَذَا قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ الْأَوَّلِ الْعَدْلُ وَوَضْعُهُ شَرْعُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: شَرَعَ اللَّهُ الْعَدْلَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْعَدْلِ، هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعْكَسَ الْأَمْرُ، وَيُقَالَ: الْمِيزَانُ الْأَوَّلُ هُوَ الْآلَةُ، وَالثَّانِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَاهُ وَضَعَ الْمِيزَانَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ أَوْ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَهُوَ إِعْطَاءُ كُلِّ مُسْتَحَقٍّ حَقَّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَضَعَ الْآلَةَ لِئَلَّا تَطْغَوْا فِي إِعْطَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ حُقُوقَهُمْ. وَيَجُوزُ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ مِنَ الْمِيزَانِ كَإِرَادَةِ الْوُثُوقِ مِنَ الْمِيثَاقِ وَالْوَعْدِ مِنَ الْمِيعَادِ، فَإِذَنِ الْمُرَادُ مِنَ الْمِيزَانِ آلَةُ الْوَزْنِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: (أَنَّ) (أَنْ) مُفَسِّرَةٌ وَالتَّقْدِيرُ شَرَعَ الْعَدْلَ، أَيْ لَا تَطْغَوْا، فَيَكُونُ وَضَعَ الْمِيزَانَ بِمَعْنَى شَرَعَ الْعَدْلَ، وَإِطْلَاقُ الْوَضْعِ لِلشَّرْعِ وَالْمِيزَانِ لِلْعَدْلِ جَائِزٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: وَضَعَ الْمِيزَانَ أَيِ الْوَزْنَ.
وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَزْنُ، فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الْوَزْنِ، وَالِاتِّزَانِ وَإِعَادَةُ الْمِيزَانِ بِلَفْظِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَلَّا تَطْغَوْا فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَزْنَ، لَقَالَ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ، نَقُولُ: لَوْ قَالَ فِي الْوَزْنِ لَظُنَّ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْوَزْنِ لِلْغَيْرِ لَا بِالِاتِّزَانِ لِلنَّفْسِ، فَذُكِرَ بِلَفْظِ الْآلَةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ لَوْ وَزَنَ وَرَجَّحَ رُجْحَانًا ظَاهِرًا يَكُونُ قَدْ أَرْبَى، وَلَا سيما في الصرف وبيع المثل.(29/342)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
[سورة الرحمن (55) : آية 9]
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ هُوَ بِمَعْنَى لَا تَطْغَوْا فِي الْوَزْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ إِقَامَتِهِ بِالْعَدْلِ، وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَقِيمُوا بِمَعْنَى قُومُوا بِهِ كَمَا فِي قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة: 43] أَيْ قُومُوا بِهَا دَوَامًا، لِأَنَّ الْفِعْلَ تَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَتَارَةً بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ، تَقُولُ: أَذْهَبَهُ وَذَهَبَ بِهِ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ أَقِيمُوا بِمَعْنَى قُومُوا، يُقَالُ: فِي الْعُودِ أَقَمْتُهُ وَقَوَّمْتُهُ، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَسَطَ بِمَعْنَى جَارَ لَا بِمَعْنَى عَدَلَ؟ نَقُولُ: الْقِسْطُ اسْمٌ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا تَكُونُ مَصَادِرَ إِذَا أَتَى بِهَا آتٍ أَوْ وَجَدَهَا مُوجِدٌ، يُقَالُ فِيهَا: أَفْعَلَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ، كَمَا قَالَ: فُلَانٌ أَطْرَفَ وَأَتْحَفَ وَأَعْرَفَ بِمَعْنَى جَاءَ بِطُرْفَةٍ وَتُحْفَةٍ وَعُرْفٍ، وَتَقُولُ: أَقْبَضَ السَّيْفَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ لَهُ قَبْضَةً، وَأَعْلَمَ الثَّوْبَ بِمَعْنَى جَعَلَ لَهُ عَلَمًا، وَأَعْلَمَ بِمَعْنَى أَثْبَتَ الْعَلَامَةَ، وَكَذَا أَلْجَمَ الْفَرَسَ وَأَسْرَجَ، فَإِذَا أَمَرَ بِالْقِسْطِ أَوْ أَثْبَتَهُ فَقَدْ أَقْسَطَ، وَهُوَ بِمَعْنَى عَدَلَ، وَأَمَّا قَسَطَ فَهُوَ فَعَلَ مِنَ اسْمٍ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَالِاسْمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ، وَيُورَدُ عَلَيْهِ فِعْلٌ فَرُبَّمَا يُغَيِّرُهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ، مِثَالُهُ الْكَتِفُ إِذَا قُلْتَ كَتَّفْتُهُ كِتَافًا فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: أَخْرَجْتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ وَغَيَّرْتُهُ، فَإِنَّ مَعْنَى كَتَّفْتُهُ شَدَدْتُ كَتِفَيْهِ بَعْضَهُمَا إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ مَكْتُوفٌ، فَالْكَتِفُ كَالْقِسْطِ صَارَا مَصْدَرَيْنِ عَنِ اسْمٍ وَصَارَ الْفِعْلُ مَعْنَاهُ تَغَيَّرَ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: الْقَاسِطُ وَالْمُقْسِطُ لَيْسَ أَصْلُهُمَا وَاحِدًا وَكَيْفَ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَطَ بِمَعْنَى أَزَالَ الْقِسْطَ، كَمَا يُقَالُ: أَشْكَى بِمَعْنَى أَزَالَ الشَّكْوَى أَوْ أَعْجَمَ بِمَعْنَى أَزَالَ الْعُجْمَةَ، وَهَذَا الْبَحْثُ فِيهِ فَائِدَةٌ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَقْسَطُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 282] وَالْأَصْلُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ تَقُولُ: أَظْلَمُ وَأَعْدَلُ مِنْ ظَالِمٍ وَعَادِلٍ، فَكَذَلِكَ أَقْسَطُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ قَاسِطٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا الْأَصْلُ الْقِسْطُ، وَقَسَطَ فِعْلٌ فِيهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ، وَالْإِقْسَاطُ إِزَالَةُ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْقِسْطَ إِلَى أَصْلِهِ، فَصَارَ أَقْسَطُ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يُؤْخَذُ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ لَا مِنَ الَّذِي فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: أَظْلَمُ مِنْ ظَالِمٍ لَا مِنْ مُتَظَلِّمٍ وَأَعْلَمُ مِنْ عَالِمٍ لَا مِنْ مُعَلِّمٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَطَ وَإِنْ كَانَ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَاسِطِ، لَكِنَّهُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقْسِطِ، لِأَنَّ الْمُقْسِطَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَصْلِ الْمُشْتَقِّ وَهُوَ الْقِسْطُ، وَلَا كَذَلِكَ الظَّالِمُ وَالْمُظْلِمُ، فَإِنَّ الْأَظْلَمَ صَارَ مُشْتَقًّا مِنَ الظَّالِمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَصْلِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ والمعلم والخبر والمخبر.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أَيْ لَا تُنْقِصُوا الْمَوْزُونَ. وَالْمِيزَانُ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ مَرَّةٍ بِمَعْنًى آخَرَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الآلة وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] ، والثاني بمعنى المصدر أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ [الرحمن: 8] أَيِ الْوَزْنِ، وَالثَّالِثُ لِلْمَفْعُولِ: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أَيِ الْمَوْزُونَ، وَذَكَرَ الْكُلَّ بِلَفْظِ الْمِيزَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمِيزَانَ أَشْمَلُ لِلْفَائِدَةِ وَهُوَ كَالْقُرْآنِ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[الْقِيَامَةِ: 18] وَبِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[الْقِيَامَةِ: 17] وَبِمَعْنَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ الْمَقْرُوءُ فِي/ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] فكأنه آلة ومجل له، وفي قوله تعالى: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الْحِجْرِ: 87] وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ الْقُرْآنَ لِهَذَا(29/343)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَبَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْمِيزَانِ مُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْمِيزَانُ فِيهِ مِنَ العدل مالا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ السَّمَاءِ عَلَى الْفِعْلِ حَيْثُ قَالَ:
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَتَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى الميزان حيث قال: وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] نَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّه فَوَائِدُ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمُ الْبَشَرِ إِلَّا مَا ظَهَرَ وَالظَّاهِرُ هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّ النِّعَمَ الثَّمَانِيَةَ كَمَا بَيَّنَّا وَكَانَ بَعْضُهَا أَشَدَّ اخْتِصَاصًا بِالْإِنْسَانِ مِنْ بَعْضٍ فَمَا كَانَ شَدِيدَ الِاخْتِصَاصِ بِالْإِنْسَانِ قَدَّمَ فِيهِ الْفِعْلَ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ: أَعْطَيْتُكَ الْأُلُوفَ وَحَصَّلْتُ لَكَ الْعَشَرَاتِ، فَلَا يُصَرِّحُ فِي الْقَلِيلِ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: فِي النِّعَمِ الْمُخْتَصَّةِ، أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَفِي التَّشْرِيكِ وَصَلَ إِلَيْكَ مِمَّا اقْتَسَمْتُمْ بَيْنَكُمْ كَذَا، فَيُصَرِّحُ بِالْإِعْطَاءِ عِنْدَ الِاخْتِصَاصِ، وَلَا يُسْنِدُ الْفِعْلَ إلى نفسه عند التشريك، فكذلك هاهنا ذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، قَالَ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 2- 4] وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرَّحْمَنِ:
7] وَأُمُورًا أَرْبَعَةً بِتَقْدِيمِ الِاسْمِ، قَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ ... وَالسَّماءَ رَفَعَها ...
وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرحمن: 5- 10] لِمَا أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ نَفْعُهُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَعْوَدُ، وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَتَعْلِيمُهُ الْبَيَانَ كَذَلِكَ وَوَضْعُ الْمِيزَانِ، كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا غَيْرَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَّا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ حَيَوَانٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وتحت السماء. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 10]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10)
فِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَنَّ تَقْدِيمَ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ كَانَ فِي مَوَاضِعِ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِلْأَنامِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ اللَّامَ لِعَوْدِ النَّفْعِ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قِيلَ: إِنَّ الْأَنَامَ يَجْمَعُ الْإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَقَوْلُهُ لِلْأَنامِ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْإِنْسَانِ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَرْضَ مَوْضُوعَةٌ لِكُلِّ مَا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِنْسَانَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا وَبِمَا فِيهَا وَبِمَا عَلَيْهَا، فَقَالَ لِلْأَنامِ لِكَثْرَةِ انْتِفَاعِ الْأَنَامِ بِهَا، إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَنَامَ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ الْخَلْقُ فَالْخَلْقُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وقوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 11]
فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11)
إِشَارَةٌ إِلَى الْأَشْجَارِ، وَقَوْلُهُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: 12] إِشَارَةٌ إِلَى النَّبَاتِ الَّذِي لَيْسَ بِشَجَرٍ وَالْفَاكِهَةُ مَا تَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ إِمَّا عَلَى طريقة: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أَيْ ذَاتُ رِضًى يَرْضَى بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَإِمَّا عَلَى تَسْمِيَةِ الْآلَةِ بِالْفَاعِلِ يُقَالُ: رَاوِيَةٌ لِلْقِرْبَةِ الَّتِي يُرْوَى بِهَا الْعَطْشَانُ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ كَالرَّاحِلَةِ لِمَا يُرْحَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَارَ اسْمًا لِبَعْضِ الثِّمَارِ/ وُضِعَتْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ اشْتِقَاقِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلْتَكْثِيرِ، أَيْ كَثِيرَةٌ كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ أَيْ عَظِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ التَّنْكِيرِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عَظِيمٌ لَا يُحِيطُ بِهِ مَعْرِفَةُ كُلِّ أَحَدٍ فَتَنْكِيرُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُهُ.(29/344)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعِ الْآخَرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ أَفْضَلُ الْأَشْجَارِ وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِ ثِمَارٍ هِيَ فَوَاكِهُ لَا يُقْتَاتُ بِهَا وَإِلَى أَشْجَارِ ثِمَارٍ هِيَ قُوتٌ وَقَدْ يُتَفَكَّهُ بِهَا، كَمَا أَنَّ الْفَاكِهَةَ قَدْ يُقْتَاتُ بِهَا، فَإِنَّ الْجَائِعَ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ الْفَوَاكِهِ يَتَقَوَّتُ بِهَا وَيَأْكُلُ غَيْرَ مُتَفَكِّهٍ بِهَا، وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى الْقُوتِ؟ نَقُولُ: هُوَ بَابُ الِابْتِدَاءِ بِالْأَدْنَى وَالِارْتِقَاءِ إِلَى الْأَعْلَى، وَالْفَاكِهَةُ فِي النَّفْعِ دُونَ النَّخْلِ الَّذِي مِنْهُ الْقُوتُ، وَالتَّفَكُّهُ وَهُوَ دُونَ الْحَبِّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَبِهِ يَتَغَذَّى الْأَنَامُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَبَدَأَ بِالْفَاكِهَةِ ثُمَّ ذَكَرَ النَّخْلَ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَبَّ الَّذِي هُوَ أَتَمُّ نِعْمَةٍ لِمُوَافَقَتِهِ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ، وَلِهَذَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَخَصَّصَ النَّخْلَ بِالْبِلَادِ الْحَارَّةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَنْكِيرِ الْفَاكِهَةِ وَتَعْرِيفِ النَّخْلِ؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُوتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ مُتَدَاوَلٌ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ فَهُوَ أَعْرَفُ وَالْفَاكِهَةُ تَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ وَتَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ وَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ كُلِّ وَقْتٍ شَيْءٌ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَرَارَةٌ وَعَطَشٌ، يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالْحَامِضِ وَأَمْثَالِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُرِيدُ التَّفَكُّهَ بِالْحُلْوِ وَأَمْثَالِهِ، فَالْفَاكِهَةُ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فَنَكَّرَهَا وَالنَّخْلُ وَالْحَبُّ مُعْتَادَانِ مَعْلُومَانِ فَعَرَّفَهُمَا وَثَالِثُهَا: النَّخْلُ وَحْدَهَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ فَنَوْعٌ مِنْهَا كَالْخَوْخِ وَالْإِجَّاصِ مَثَلًا لَيْسَ فِيهِ عَظِيمُ النِّعْمَةِ كَمَا فِي النَّخْلِ، فَقَالَ: فاكِهَةٌ بِالتَّنْكِيرِ لَيَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَثْرَةِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ فَقَالَ: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [ص: 51] وَقَالَ: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 32، 33] ، فَالْفَاكِهَةُ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَهَا بِالْكَثْرَةِ صَرِيحًا وَذَكَرَهَا مُنَكَّرَةً، لِتُحْمَلَ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْكَثْرَةِ اللَّائِقَةِ بِالنِّعْمَةِ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بِخِلَافِ النَّخْلِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْفَاكِهَةِ بِاسْمِهَا لَا بِاسْمِ أَشْجَارِهَا، وَذِكْرِ النَّخْلِ بِاسْمِهَا لَا بِاسْمِ ثَمَرِهَا؟
نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ: يس حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [يس: 34] وَهُوَ أَنَّ شَجَرَةَ الْعِنَبِ، وَهِيَ الْكَرْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهَا وَهِيَ الْعِنَبُ حَقِيرَةٌ، وَشَجَرَةُ النَّخْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهَا عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ اتِّخَاذِ الظُّرُوفِ مِنْهَا وَالِانْتِفَاعِ بِجُمَّارِهَا وَبِالطَّلْعِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَمَرَتُهَا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَأَنَّهَا ثَمَرَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَهِيَ أَتَمُّ نِعْمَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَذَكَرَ النَّخْلَ بِاسْمِهِ وَذَكَرَ الْفَاكِهَةَ دُونَ أَشْجَارِهَا، فَإِنَّ فَوَائِدَ أَشْجَارِهَا فِي عَيْنِ ثِمَارِهَا.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى: ذاتُ الْأَكْمامِ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْأَكْمَامُ كُلُّ مَا يُغَطِّي/ جَمْعُ كُمٍّ بِضَمِّ الْكَافِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ لِحَاؤُهَا وَلِيفُهَا وَنَوَاهَا وَالْكُلُّ مُنْتَفَعٌ بِهِ، كَمَا أَنَّ النَّخْلَ مُنْتَفَعٌ بِهَا وَأَغْصَانِهَا وَقَلْبِهَا الَّذِي هُوَ الْجُمَّارُ ثَانِيهِمَا: الْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَهُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا فِي وِعَاءٍ فَيَنْشَقُّ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الطَّلْعُ، فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: ذاتُ الْأَكْمامِ فِي ذِكْرِهَا فَائِدَةٌ لِأَنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ النِّعَمِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهَا؟ نَقُولُ: الْإِشَارَةُ إِلَى سُهُولَةِ جَمْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا فَإِنَّ النَّخْلَةَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُمْكِنُ هَزُّهَا لِتَسْقُطَ مِنْهَا الثَّمَرَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْفِ الشَّجَرَةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلَ الْجُمَّيْزِ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الشَّجَرَةِ مُتَفَرِّقًا وَاحِدَةً لَصَعُبَ قِطَافُهَا فَقَالَ: ذاتُ الْأَكْمامِ أَيْ يَكُونُ فِي كِمٍّ شَيْءٌ كَثِيرٌ إِذَا أُخِذَ عُنْقُودٌ وَاحِدٌ مِنْهُ كَفَى رَجُلًا وَاثْنَيْنِ كَعَنَاقِيدِ الْعِنَبِ، فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَلَوْ كَانَ الْعِنَبُ حَبَّاتُهَا فِي الْأَشْجَارِ مُتَفَرِّقَةٌ كَالْجُمَّيْزِ وَالزُّعْرُورِ لَمْ يُمْكِنْ(29/345)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
جَمْعُهُ بِالْهَزِّ مَتَى أُرِيدَ جَمْعُهُ، فَخَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنَاقِيدَ مُجْتَمِعَةً، كَذَلِكَ الرُّطَبُ فَكَوْنُهَا ذاتُ الْأَكْمامِ من جملة إتمام الإنعام. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 12]
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12)
اقْتَصَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ عَلَى النَّخْلِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُهَا وَدَخَلَ فِي الْحَبِّ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَكُلُّ حَبٍّ يُقْتَاتُ بِهِ خُبْزًا أَوْ يُؤْدَمُ بِهِ بَيَّنَّا أَنَّهُ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الِارْتِقَاءِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً فَالْحُبُوبُ أَنْفَعُ مِنَ النَّخْلِ وَأَعَمُّ وُجُودًا فِي الْأَمَاكِنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْعَصْفِ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: التِّبْنُ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ دَوَابُّنَا الَّتِي خُلِقَتْ لَنَا ثَانِيهَا:
أَوْرَاقُ النَّبَاتِ الَّذِي لَهُ سَاقٌ الْخَارِجَةُ مِنْ جَوَانِبِ السَّاقِ كَأَوْرَاقِ السُّنْبُلَةِ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا ثَالِثُهَا: الْعَصْفُ هُوَ وَرَقُ مَا يُؤْكَلُ فَحَسْبُ وَالرَّيْحانُ فِيهِ وُجُوهٌ، قِيلَ: مَا يُشَمُّ وَقِيلَ: الْوَرَقُ، وَقِيلَ: هُوَ الرَّيْحَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا وَبَزْرُهُ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رَأْسَهَا كَالزَّهْرِ وَهُوَ أَصْلُ وُجُودِ الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّهْرَ يَتَكَوَّنُ بِذَلِكَ الْحَبِّ وَيَنْعَقِدُ إلى أن يدرك فالعصف إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَرَقِ وَالرَّيْحَانُ إِلَى ذَلِكَ الزَّهْرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا لِأَنَّهُمَا يَؤُولَانِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلْفَ الدَّوَابِّ، وَمِنَ الْآخَرِ دَوَاءَ الْإِنْسَانِ، وَقُرِئَ الرَّيْحَانُ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْحَبِّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ الْمَشْمُومَ فَيَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لِلْحَبِّ فَيُعْطَفَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ذُو الرَّيْحَانِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما في: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، لِيَكُونَ الرَّيْحَانُ الَّذِي خَتَمَ بِهِ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْضِيَّةِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّيْحَانِ هُوَ الْمَعْرُوفَ أَوِ الْمَشْمُومَاتِ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ التَّرْتِيبُ، وَقُرِئَ: وَالرَّيْحانُ وَلَا يَقْرَأُ هَذَا إِلَّا مَنْ يَقْرَأُ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَيَعُودُ الوجهان فيه. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 13]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: يُقَالُ: الْأَنَامُ اسْمٌ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا فِي الْأَنَامِ مِنَ الجنس ثانيها: الأنام اسم الإنسان والجان لَمَّا كَانَ مَنْوِيًّا وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرَّحْمَنِ: 15] جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ جَازَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَنْوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ شَيْءٌ، تَقُولُ: لَا أَدْرِي أَيَّهُمَا خَيْرٌ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ فِي النِّيَّةِ لَا فِي اللَّفْظِ كَأَنَّهُ قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ الثَّانِي: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. فَعَادَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِمَا وَالْخِطَابُ مَعَهُمَا الثَّالِثُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تُكَذِّبُ، بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْمُرَادُ التَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، لَكِنَّ الْعَامَّ يَدْخُلُ فِيهِ قِسْمَانِ بِهِمَا يَنْحَصِرُ الْكُلُّ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْعَامِّ خَارِجًا عَنْهُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ قُلْتَ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا ظَهَرَ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّقَاسِيمِ الْحَاصِرَةِ يَلْزَمُ التَّعْمِيمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقِسْمَانِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْحَاصِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَمْرَيْنِ أَصْلًا وَلَا يَحْصُلُ الْحَصْرُ إِلَّا بِهِمَا، فَإِنْ زَادَ فَهُنَاكَ قِسْمَانِ قَدْ طُوِيَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ: اللَّوْنُ إِمَّا سَوَادٌ وَإِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا صُفْرَةٌ وَإِمَّا غَيْرُهَا فَكَأَنَّكَ قُلْتَ:
اللَّوْنُ إِمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَوَادٍ أَوْ إِمَّا بَيَاضٌ، وَإِمَّا لَيْسَ بِبَيَاضٍ، ثُمَّ الَّذِي لَيْسَ بِبَيَاضٍ إِمَّا حُمْرَةٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِحُمْرَةٍ(29/346)
وَكَذَلِكَ إِلَى جُمْلَةِ التَّقْسِيمَاتِ، فَأَشَارَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ وَلَا لِشَيْءٍ أَنْ يُنْكِرَ نِعَمَ اللَّهِ الْخَامِسُ: التَّكْذِيبُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ، كَمَا فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُعَانِدِينَ وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَالْكَذِبُ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِنَّ النِّعَمَ بَلَغَتْ حَدًّا لَا يُمْكِنُ الْمُعَانِدُ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى تَكْذِيبِهَا، السَّادِسُ:
الْمُكَذِّبُ مُكَذِّبٌ بِالرَّسُولِ وَالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ الَّتِي بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٌ بِالْعَقْلِ وَالْبَرَاهِينِ وَالَّتِي فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبَانِ بِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ آيَاتُ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَآيَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ وَوَضَعَ الْأَرْضَ السَّابِعُ: الْمُكَذِّبُ قَدْ يَكُونُ مُكَذِّبًا بِالْفِعْلِ وَقَدْ يَكُونُ التَّكْذِيبُ مِنْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ بَعْدُ لَكِنَّهُ مُتَوَقَّعٌ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُكَذِّبُ تَكْذِبُ وَتَتَلَبَّسُ بِالْكَذِبِ، وَيَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ أَنَّكَ تَكْذِبُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَرِيبَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بعض والظاهر منها الثقلان، لذكر هما فِي الْآيَاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] ، وبقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرَّحْمَنِ: 33] وَبِقَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرحمن: 14، 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، (وَالزَّوْجَانِ) لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ كثير وَالتَّعْمِيمُ بِإِرَادَةِ نَوْعَيْنِ حَاصِرَيْنِ لِلْجَمِيعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: التَّعْمِيمُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اللَّذَّانِ خَاطَبَهُمَا بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، بَلْ كَانَ يُخَاطِبُ وَيَقُولُ: خَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مِنْ صَلْصَالٍ وَخَلَقْنَاكَ يَا أَيُّهَا الْجَانُّ أَوْ يَقُولُ: خَلَقَكَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ/ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَارَ خِطَابًا مَعَهُمَا، وَلَمَّا قَالَ الْإِنْسَانُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ غَيْرُهُ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْخَلْقُ وَالسَّامِعُونَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقْنَا الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَسَيَأْتِي بَاقِي الْبَيَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِي:
مَا الْحِكْمَةُ فِي الْخِطَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ مُخَاطَبٍ، نَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ مَبْنَى افْتِتَاحِ السُّورَةِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1، 2] قَالَ: اسْمَعُوا أَيُّهَا السَّامِعُونَ، وَالْخِطَابُ لِلتَّقْرِيعِ وَالزَّجْرِ كَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ الْغَافِلَ الْمُكَذِّبَ عَلَى أَنَّهُ يَفْرِضُ نَفْسَهُ كَالْوَاقِفِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهِ يَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِنْدَ هَذَا يَسْتَحِي اسْتِحْيَاءً لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَرْضُ الْغَيْبَةِ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي اخْتِيَارِ لَفْظَةِ الرَّبِّ وَإِذَا خَاطَبَ أَرَادَ خِطَابَ الْوَاحِدِ فَلِمَ قَالَ:
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَهُوَ الْحَاضِرُ الْمُتَكَلِّمُ فَكَيْفَ يَجْعَلُ التَّكْذِيبَ الْمُسْنَدَ إِلَى الْمُخَاطَبِ وَارِدًا عَلَى الْغَائِبِ وَلَوْ قَالَ: بِأَيِّ آلَائِي تُكَذِّبَانِ كَانَ أَلْيَقَ فِي الْخِطَابِ؟ نَقُولُ: فِي السُّورَةِ المتقدمة قال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:
23] وكَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [الْقَمَرِ: 33] وَقَالَ: كَذَّبُوا بِآياتِنا [القمر: 42] وقال: فَأَخَذْناهُمْ [القمر: 42] وَقَالَ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَرِ: 21] كُلُّهَا بِالِاسْتِنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْشَى فَلَوْ قَالَ: أَخَذَهُمُ الْقَادِرُ أَوِ الْمُهْلِكُ لَمَا كان في التعظيم مثل قوله:
فَأَخَذْناهُمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ بِالْقُوَّةِ يَقُولُ أَنَا الَّذِي تَعْرِفُنِي فَيَكُونُ فِي إِثْبَاتِ الْوَعِيدِ فَوْقَ قَوْلِهِ أَنَا الْمُعَذِّبُ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى النَّفْسِ مُسْتَعْمَلًا فِي تِلْكَ السُّورَةِ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ بَيَانِ الرَّحْمَةِ لَفْظٌ يُزِيلُ الْهَيْبَةَ وَهُوَ لَفْظُ الرَّبِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَهُوَ رَبَّاكُمَا الرَّابِعُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَكْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَكَوْنِهِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً؟
نقول: الجواب عنه من وجوه الأول: أن فَائِدَةَ التَّكْرِيرِ التَّقْرِيرُ وَأَمَّا هَذَا الْعَدَدُ الْخَاصُّ فَالْأَعْدَادُ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا تَطَّلِعُ(29/347)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
عَلَى تَقْدِيرِ الْمُقَدَّرَاتِ أَذْهَانُ النَّاسِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُبَالِغَ الْإِنْسَانُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأُمُورِ الْبَعِيدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ مَعَ نفسه عند قراءته سورة عَبَسَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْأَبُّ ثُمَّ رَفَعَ عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ وَقَالَ هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكْلِيفُ وَمَا عَلَيْكَ يَا عُمَرُ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ ثُمَّ قَالَ: اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ وَسَيَأْتِي فَائِدَةُ كَلَامِهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابُ الثَّانِي:
مَا قُلْنَاهُ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِبَيَانِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّكْرِيرِ وَلِلثَّلَاثِ وَالسَّبْعِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْدَادِ فَوَائِدُ ذَكَرْنَاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لُقْمَانَ: 27] فلما ذكرنا الْعَذَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ذَكَرَ الْآلَاءَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لِبَيَانِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى وَثَلَاثِينَ مرة للتقرير الآلاء مَذْكُورَةٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَضْعَافَ مَرَّاتِ ذِكْرِ الْعَذَابِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] ، الثَّالِثُ: أَنَّ الثَّلَاثِينَ مَرَّةً تَكْرِيرٌ بَعْدَ الْبَيَانِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِأَنَّ/ الْخِطَابَ مَعَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالنِّعَمُ مُنْحَصِرَةٌ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ وَتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، لَكِنَّ أعظم المكروهات عذاب جهنم ولها سبعة أبواب وَأَتَمُّ الْمَقَاصِدِ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ فَإِغْلَاقُ الْأَبْوَابِ السَّبْعَةِ وَفَتْحُ الْأَبْوَابِ الثَّمَانِيَةِ جَمِيعُهُ نِعْمَةٌ وَإِكْرَامٌ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ تِلْكَ النِّعَمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِنْسَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً وَهِيَ مَرَّاتُ التَّكْرِيرِ لِلتَّقْرِيرِ، وَالْمَرَّةُ الْأُولَى لِبَيَانِ فَائِدَةِ الْكَلَامِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذكره اقتصار عَلَى بَيَانِ نِعَمِ الْآخِرَةِ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ أَبْوَابَ النَّارِ سَبْعَةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سَبْعَ آيَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّخْوِيفِ مِنَ النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 31- 44] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَلِكُلِّ جَنَّةٍ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ تُفْتَحُ كُلُّهَا لِلْمُتَّقِينَ، وَذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ آيَاتِ التَّخْوِيفِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَبْعَ مَرَّاتٍ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ اسْتِيفَاءً لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبْعَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ اخْتِصَاصِهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
[لقمان: 27] وَسَنُعِيدُ مِنْهُ طَرَفًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثِينَ مَرَّةً الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي هِيَ عَقِيبَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ لِبَيَانِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ وَالتَّكْثِيرُ تَكْرَارٌ فَصَارَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَرَّةً. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 14]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
وَفِي الصَّلْصَالِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ بِمَعْنَى الْمَسْنُونِ مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ إِذَا أَنْتَنَ، وَيَكُونُ الصَّلْصَالُ حِينَئِذٍ مِنَ الصُّلُولِ وَثَانِيهِمَا: مِنَ الصَّلِيلِ يُقَالُ: صَلَّ الْحَدِيدُ صَلِيلًا إِذَا حَدَثَ مِنْهُ صَوْتٌ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي يَقَعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَحْدُثُ فِيمَا بَيْنَهُمَا صَوْتٌ، إِذْ هُوَ الطِّينُ اللَّازِبُ الْحَرُّ الَّذِي إِذَا الْتَزَقَ بِالشَّيْءِ ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْهُ دَفْعَةً سُمِعَ مِنْهُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ صَوْتٌ، فَإِنْ قِيلَ: الْإِنْسَانُ إِذَا خُلِقَ من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَوَرَدَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الطِّينِ وَمِنْ حَمَأٍ وَمِنْ مَاءٍ مَهِينٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] تارة، ومِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] أُخْرَى، فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَخْصَيْنِ آدَمُ خُلِقَ مِنَ الصَّلْصَالِ وَمِنْ حَمَأٍ وَأَوْلَادُهُ خُلِقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَوْلَا خَلْقُ آدَمَ لَمَا خُلِقَ أَوْلَادُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ خُلِقَ مِنْ حَمَأٍ بِمَعْنَى أَنَّ أَصْلَهُ الَّذِي هُوَ جَدُّهُ خُلِقَ منه، وأما قوله: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات: 11] ومِنْ حَمَإٍ [الحجر:
26] وَغَيْرُ ذَلِكَ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خُلِقَ أَوَّلًا مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ صَارَ طِينًا ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا ثُمَّ لَازِبًا،(29/348)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
فَكَأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ هَذَا وَمِنْ ذَاكَ، وَمِنْ ذَلِكَ، وَالْفَخَّارُ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ وَهُوَ الْخَزَفُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ مُبَالَغَةُ الْفَاخِرِ كَالْعَلَّامِ فِي الْعَالِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ التُّرَابَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّفَتُّتُ إِذَا صَارَ بِحَيْثُ يُجْعَلُ ظَرْفَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ وَلَا يَتَفَتَّتُ وَلَا يَنْقَعُ فكأنه يفخر على أفراد جنسه. / ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 15 الى 16]
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
وَفِي الْجَانِّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَذْكُورَ هُنَا هُوَ أَبُو الْإِنْسِ وَهُوَ آدَمُ ثَانِيهِمَا: هُوَ الْجِنُّ بِنَفْسِهِ فَالْجَانُّ وَالْجِنُّ وَصْفَانِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: مِلْحٌ وَمَالِحٌ، أَوْ نَقُولُ الْجِنُّ اسْمُ الْجِنْسِ كَالْمِلْحِ وَالْجَانُّ مِثْلُ الصِّفَةِ كَالْمَالِحِ.
وَفِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جُنَّ الرَّجُلُ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ فَاعِلٌ يبني الفعل معه على المذكور، و. أصل ذَلِكَ جَنَّهُ الْجَانُّ فَهُوَ مَجْنُونٌ، فَلَا يُذْكَرُ الْفَاعِلُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَيُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِمْ: جُنَّ فَهُوَ مَجْنُونٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ لَا يَقُولُ: الْجَانُّ اسْمُ عَلَمٍ لِأَنَّ الْجَانَّ لِلْجِنِّ كَآدَمَ لَنَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَانِّ أَبُوهُمْ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَبُونَا آدَمُ، فَالْأَوَّلُ مِنَّا خُلِقَ مِنْ صَلْصَالٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ خُلِقَ مِنْ صُلْبِهِ، كَذَلِكَ الْجِنُّ الْأَوَّلُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ، وَالْمَارِجُ الْمُخْتَلِطُ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَارِجَ هُوَ النَّارُ الْمَشُوبَةُ بِدُخَانٍ وَالثَّانِي: النَّارُ الصَّافِيَةُ وَالثَّانِي أَصَحُّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَمَّا اللَّفْظُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ أَيْ نَارٍ مَارِجَةٍ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: هُوَ مَصُوغٌ مِنْ ذَهَبٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ بَيَانُ تَنَاسُبِ الْأَخْلَاطِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْكُلُّ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مُخْتَلِطَةً بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ: هَذَا قَمْحٌ مُخْتَلِطٌ فَلَكَ أَنْ تَقُولَ: مُخْتَلِطٌ بِمَاذَا فَيَقُولُ: مِنْ كَذَا وَكَذَا فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ قَمْحٍ وَكَانَ مِنْهُ وَمِنْ وغيره أيضا لكان اقتصاره عليه مختلط بِمَا طُلِبَ مِنَ الْبَيَانِ وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرحمن: 14] أَيْ مِنْ طِينٍ حَرٍّ كَذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ خَلْقَ الْجَانِّ مِنْ نَارٍ خَالِصَةٍ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: مارِجٍ بِمَعْنَى مُخْتَلَطٍ مَعَ أَنَّهُ خَالِصٌ؟ نَقُولُ: النَّارُ إِذَا قَوِيَتِ الْتَهَبَتْ، وَدَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَالشَّيْءِ الْمُمْتَزِجِ امْتِزَاجًا جَيِّدًا لَا تُمَيِّزُ فِيهِ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ وَكَأَنَّهُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي الطِّينِ الْمُخْتَمِرِ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ، إِنْ قَرُبَ مِنْهُ الْحَطَبُ تَحْرِقُهُ فَكَذَلِكَ مَارِجٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَا يُعْقَلُ بَيْنَ أَجْزَائِهَا دُخَانٌ وَأَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الرحمن: 19] فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ تَعْدِيدُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَمَا وَجْهُ بَيَانِ خَلْقِ الْجَانِّ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عندي مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: مَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّكُما خِطَابٌ مَعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُعَدِّدُ عَلَيْهِمَا النِّعَمَ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ بَيَانُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَصْلٍ كَثِيفٍ كَدِرٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ أَصْلٍ لَطِيفٍ، وَجُعِلَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ مِنَ الْجَانِّ فَإِنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى أَصْلِهِ، عَلِمَ أَنَّهُ مَا نَالَ الشَّرَفَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُكَذِّبُ بِآلَاءِ اللَّهِ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ الْقُدْرَةِ لَا لِبَيَانِ النِّعْمَةِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ النِّعَمَ الثَّمَانِيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ لِبَيَانِ خُرُوجِهَا عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبْعَةٌ وَدُخُولُهَا فِي/ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الثَّمَانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّا وَقُلْنَا إِنَّ الْعَرَبَ عِنْدَ الثَّامِنِ تَذْكُرُ الْوَاوَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الثَّامِنَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، فَبَعْدَ تَمَامِ السَّبْعَةِ الْأُوَلِ شَرَعَ فِي بَيَانِ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ تُرَابٍ والجان من نار: (فبأي آلاء) الْكَثِيرَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَ السَّبْعَةِ،(29/349)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
وَالَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الثَّامِنَةُ: (تُكَذِّبَانِ) وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الثَّمَانِيَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 29، 30] ، يَظْهَرُ لَكَ صِحَّةَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ بَيَّنَ قُدْرَتَهُ وَعَظَمَتَهُ ثُمَّ يَقُولُ: فَبِأَيِّ تِلْكَ الْآلَاءِ الَّتِي عَدَدْتُهَا أَوَّلًا تُكَذِّبَانِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ عِنْدَ تلك الآيات. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
وَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبُهُمَا، وَالْبَيَانُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ إِعَادَةِ مَا سَبَقَ مَعَ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: 5] دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا مَشْرِقَيْنِ وَمَغْرِبَيْنِ، وَلَمَّا ذكر:
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 3، 4] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ شَيْءٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّلْصَالُ الثَّانِي:
مَشْرِقُ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقُ الصَّيْفِ فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِهِمَا مَعَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلشَّمْسِ مَشْرِقٌ وَمَغْرِبٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ؟ نَقُولُ: غَايَةُ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ وَغَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي الصَّيْفِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِي وَصْفِ مَلِكٍ عَظِيمٍ لَهُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَيُفْهَمُ أَنَّ لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا الثَّالِثُ: التَّثْنِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَنْحَصِرُ فِي قِسْمَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبُّ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَشْرِقِ غَيْرِهَا فَهُمَا مَشْرِقَانِ فَتَنَاوَلَ الْكُلَّ، أَوْ يُقَالُ: مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يغرض إِلَيْهِمَا الْعَاقِلُ مِنْ مَشْرِقِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ تَثْنِيَةٌ في معنى الجمع. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 21]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فَنَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَهُمَا حَرَكَتَانِ فِي الْفَلَكِ نَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرَ الْبَحْرَيْنِ لِأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَجْرِيَانِ فِي الْفَلَكِ كَمَا يَجْرِي الْإِنْسَانُ فِي الْبَحْرِ قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] فَذَكَرَ الْبَحْرَيْنِ عَقِيبَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْبَحْرِ لِانْحِصَارِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لَكِنَّ الْبَرَّ كَانَ مَذْكُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَها [الرَّحْمَنِ: 10] فَذَكَرَ هاهنا مَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرَجَ، إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ بِمَعْنَى خَلَطَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ مَمْرُوجٍ؟ نَقُولُ: مَرَجَ مُتَعَدٍّ وَمَرِجَ بِكَسْرِ الرَّاءِ لَازِمٌ فَالْمَارِجُ وَالْمَرِيجُ مِنْ مَرِجَ يَمْرَجُ كَفَرِحَ يَفْرَحُ، وَالْأَصْلُ فِي فَعَلَ أَنْ يَكُونَ غَرِيزِيًّا وَالْأَصْلُ فِي الْغَرِيزِيِّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْغَرِيزِيِّ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: في البحرين وجوه أحدها: بحر السماء وبحر الْأَرْضِ ثَانِيهَا: الْبَحْرُ الْحُلْوُ وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [فَاطِرٍ: 12] وَهُوَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ ثَالِثُهَا: مَا ذُكِرَ فِي الْمَشْرِقَيْنِ وَفِي قَوْلِهِ: تُكَذِّبانِ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعَيْنِ الْحَاصِرَيْنِ فَدَخَلَ فِيهِ(29/350)
بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ، رَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْأَرْضِ بِحَارًا تُحِيطُ بِهَا الْأَرْضُ وَبِبَعْضِ جَزَائِرِهَا يُحِيطُ الْمَاءُ وَخَلَقَ بَحْرًا مُحِيطًا بِالْأَرْضِ وَعَلَيْهِ الْأَرْضُ وَأَحَاطَ بِهِ الْهَوَاءَ كَمَا قَالَ بِهِ أَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَوَرَدَ بِهِ أَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَذِهِ البِّحَارُ الَّتِي فِي الْأَرْضِ لَهَا اتِّصَالٌ بِالْبَحْرِ الْمُحِيطِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا لَا يَبْغِيَانِ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُغَطِّيَانِهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكُونَ الْأَرْضُ بَارِزَةً يَتِّخَذُهَا الْإِنْسَانُ مَكَانًا وَعِنْدَ النَّظَرِ إِلَى أَمْرِ الْأَرْضِ يَحَارُ الطَّبِيعِيُّ وَيَتَلَجْلَجُ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ مَوْضِعُ الْأَرْضِ بِطَبْعِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَرْكَزِ وَيَكُونُ الْمَاءُ مُحِيطًا بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَكَيْفَ ظَهَرَتِ الْأَرْضُ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ تَرْسُبْ يَقُولُونَ لِانْجِذَابِ الْبِحَارِ إِلَى بَعْضِ جَوَانِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا انْجَذَبَ؟ فَالَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ قَلِيلٌ مِنَ الْعَقْلِ يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ وَيَجْعَلُهُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالَّذِي يَكُونُ عَدِيمَ الْعَقْلِ يَجْعَلُ سَبَبَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَأَوْضَاعِهَا وَاخْتِلَافِ مُقَابَلَاتِهَا، وَيَنْقَطِعُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ إِذَا قِيلَ لَهُ: أَوْضَاعُ الْكَوَاكِبِ لِمَ اخْتَلَفَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَ الْبَرْدَ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ آخَرَ صَارَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [الْبَقَرَةِ: 258] وَيَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ إِنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْمَرَجُ بِمَعْنَى الْخَلْطِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَلْتَقِيانِ؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ أَرْسَلَ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ وَهُمَا عِنْدَ الْإِرْسَالِ بِحَيْثُ يَلْتَقِيَانِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِمَا الِاخْتِلَاطُ وَالِالْتِقَاءُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمَا عَمَّا فِي طَبْعِهِمَا، وَعَلَى هَذَا يَلْتَقِيَانِ حَالٌ مِنَ البحرين، ويحتمل أن يقال: من محذوف تقديره تَرْكُهُمَا فَهُمَا يَلْتَقِيَانِ إِلَى الْآنَ وَلَا يَمْتَزِجَانِ وَعَلَى الْأَوَّلِ: فَالْفَائِدَةُ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ فِي النَّفْعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ الْمَاءَيْنِ بَعْضَهُمَا عَلَى بَعْضٍ وَفِي طَبْعِهِمَا بِخَلْقِ اللَّهِ وَعَادَتُهُ السَّيَلَانُ وَالِالْتِقَاءُ وَيَمْنَعُهُمَا الْبَرْزَخُ الَّذِي هُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُونَا عَلَى حَالِ يَلْتَقِيَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حِكْمِيَّةٍ وَهِيَ: أَنَّ الْحُكَمَاءَ اتفقوا على أن الماء له حيز واحد بعضه ينجذب إلى بعض كأجزاء الزئبق غير أن عند الْحُكَمَاءَ الْمُحَقِّقِينَ ذَلِكَ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مَنْ يَدَّعِي الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُوَفِّقْهُ اللَّهُ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ يَقُولُ: ذَلِكَ لَهُ بِطَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ: يَلْتَقِيانِ أَيْ مِنْ شَأْنِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَكَانُهُمَا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّهُمَا بَقِيَا/ فِي مَكَانٍ مُتَمَيِّزَيْنِ فَذَلِكَ بُرْهَانُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ الْقُدْرَةِ أَيْضًا عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ، فَإِنَّ الْمَاءَيْنِ إِذَا تَلَاقَيَا لَا يَمْتَزِجَانِ فِي الْحَالِ بَلْ يَبْقَيَانِ زَمَانًا يَسِيرًا كَالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ إِذَا غُمِسَ إِنَاءٌ مَمْلُوءٌ مِنْهُ فِي مَاءٍ بَارِدٍ إِنْ لَمْ يَمْكُثْ فِيهِ زَمَانًا لَا يَمْتَزِجُ بِالْبَارِدِ، لَكِنْ إِذَا دَامَ مُجَاوَرَتُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِزَاجِ فَقَالَ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خَلَّاهُمَا ذَهَابًا إِلَى أَنْ يلتقيان ولا يمتزجان فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَنْعِهِ إِيَّاهُمَا مِنَ الْجَرَيَانِ عَلَى عَادَتِهِمَا، وَالْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ وَهُوَ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَعْضِ وَبِقُدْرَةِ اللَّهِ فِي الْبَاقِي، فَإِنَّ الْبَحْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ أَرْضِيٌّ مَحْسُوسٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغِيانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مِنَ الْبَغْيِ أَيْ لَا يَظْلِمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِ الطَّبِيعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: الْمَاءَانِ كِلَاهُمَا جُزْءٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ: هُمَا لَا يَبْغِيانِ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْغِيَانِ مِنَ الْبَغْيِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ أَيْ لَا يَطْلُبَانِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُو أَنْ يُقَالَ: إِنَّ يَبْغِيَانِ لَا مَفْعُولَ لَهُ مُعَيَّنٌ، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَنَّهُمَا لَا يَبْغِيَانِ فِي ذَاتِهِمَا وَلَا يَطْلُبَانِ شَيْئًا أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الطَّبِيعِيُّ: إِنَّهُ يَطْلُبُ الْحَرَكَةَ والسكون في موضع عن موضع. ثم قال تعالى:(29/351)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي فِيهَا قُرِئَ يَخْرُجُ مِنْ خَرَجَ وَيُخْرَجُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ أَخْرَجَ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَاللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانِ مَرْفُوعَانِ وَيُخْرِجُ بِكَسْرِ الرَّاءِ بِمَعْنَى يُخْرِجُ اللَّهُ وَنُخْرِجُ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَالرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ يُنْصَبُ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، اللُّؤْلُؤُ كِبَارُ الدُّرِّ وَالْمَرْجَانُ صِغَارُهُ وَقِيلَ: الْمَرْجَانُ هُوَ الْحَجَرُ الْأَحْمَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللُّؤْلُؤُ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْمَالِحِ فَكَيْفَ قَالَ: مِنْهُمَا؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ وَهَبْ أَنَّ الْغَوَّاصِينَ مَا أَخْرَجُوهُ إِلَّا مِنَ الْمَالِحِ وَمَا وَجَدُوهُ إِلَّا فِيهِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ لَا يُوجَدَ فِي الْغَيْرِ سَلَّمْنَا لِمَ قُلْتُمْ: أَنَّ الصَّدَفَ يَخْرُجُ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى الْمَاءِ الْمَالِحِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْجَزْمُ وَالْأُمُورُ الْأَرْضِيَّةُ الظَّاهِرَةُ خَفِيَتْ عَنِ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَطَعُوا الْمَفَاوِزَ وَدَارُوا الْبِلَادَ فَكَيْفَ لَا يَخْفَى أَمْرُ مَا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ ثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ: إِنْ صَحَّ قَوْلُهُمْ فِي اللُّؤْلُؤِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّدَفَ لَا يَتَوَلَّدُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ إِلَّا مِنَ الْمَطَرِ وَهُوَ بَحْرُ السَّمَاءِ ثَانِيهَا: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِي مُلْتَقَاهُمَا ثُمَّ يَدْخُلُ الصَّدَفَ فِي الْمَالِحِ عِنْدَ انْعِقَادِ الدُّرِّ فِيهِ طَالِبًا لِلْمُلُوحَةِ كَالْمُتَوَحِّمَةِ الَّتِي تَشْتَهِي الْمُلُوحَةَ أَوَائِلَ/ الْحَمْلِ فَيَثْقُلُ هُنَاكَ فَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ فِي الْعَذْبِ ثَالِثُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ إِنَّمَا كَانَ يَرِدُ أَنْ لَوْ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا لَا يَرِدُ إِذِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُبْهَمٌ خَارِجٌ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نُوحٍ: 16] يُقَالُ: فُلَانٌ خَرَجَ مِنْ بِلَادِ كَذَا وَدَخَلَ فِي بِلَادِ كَذَا وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ بَيْتٍ مِنْ مَحَلَّةٍ فِي بَلْدَةٍ رَابِعُهَا: أَنَّ (مِنْ) ليست لابتداء شيء كما يقال: خرجت الْكُوفَةِ بَلْ لِابْتِدَاءٍ عَقْلِيٍّ كَمَا يُقَالُ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ وَوُجِدَتِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ اللُّؤْلُؤُ يَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ أَيْ مِنْهُ يَتَوَلَّدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيُّ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ حَتَّى يَذْكُرَهُمَا اللَّهُ مَعَ نِعْمَةِ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ؟ وَفِي الْجَوَابِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: النِّعَمُ مِنْهَا خَلْقُ الضَّرُورِيَّاتِ كَالْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَكَانُنَا وَلَوْلَا الْأَرْضُ لَمَا أَمْكَنَ وُجُودُ التَّمْكِينِ وَكَذَلِكَ الرُّزْقُ الَّذِي بِهِ الْبَقَاءُ وَمِنْهَا خَلْقُ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا كَأَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَإِجْرَاءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمِنْهَا النَّافِعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ كَأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَخَلْقِ الْبِحَارِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الْبَقَرَةِ: 164] وَمِنْهَا الزِّينَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَافِعًا كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فَاطِرٍ: 12] فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنْوَاعَ النِّعَمِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ وَصَدَّرَهَا بِالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ الروح وهي العلم بقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2] وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ بَيَانُ عَجَائِبِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بَيَانُ النِّعَمِ، وَالنِّعَمُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ صَلْصَالٍ، وَخَلْقَ الْجَانِّ مِنْ نَارٍ، مِنْ بَابِ الْعَجَائِبِ لَا مِنْ بَابِ النِّعَمِ، وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ لَكَانَ إِنْعَامًا، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَرْكَانُ أَرْبَعَةٌ، التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ فَاللَّهُ تَعَالَى(29/352)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
بين بقوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرحمن: 14] أَنَّ الْإِنْسَانَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَطِينٍ وَبَيَّنَ بقوله: خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] أَنَّ النَّارَ أَيْضًا أَصْلٌ لِمَخْلُوقٍ عَجِيبٍ، وَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ لِمَخْلُوقٍ آخَرَ، كَالْحَيَوَانِ عَجِيبٌ، بَقِيَ الْهَوَاءُ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَصْلُ مَخْلُوقٍ بَلْ بَيَّنَ كَوْنَهُ مَنْشَأً لِلْجَوَارِي فِي البحر كالأعلام. فقال:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ في جعل الجواري خاصة له وله السموات وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا؟ نَقُولُ:
هَذَا الْكَلَامُ مَعَ الْعَوَامِّ، فَذَكَرَ مَا لَا يَغْفَلُ عَنْهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ فَضْلًا عَنِ الْفَاضِلِ الذَّكِيِّ، فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدٌ إِذْ لَا تَصَرُّفَ لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْفُلْكِ وَإِنَّمَا كُلُّهُمْ مُنْتَظِرُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَقُولُونَ لَكَ: الْفُلْكُ وَلَكَ الْمُلْكُ وَيَنْسِبُونَ الْبَحْرَ وَالْفُلْكَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا وَنَظَرُوا إِلَى/ بُيُوتِهِمُ الْمَبْنِيَّةِ بِالْحِجَارَةِ وَالْكِلْسِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ وُجُوهُ الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ مَالِكَ الْفُلْكِ، وَيَنْسِبُونَ مَا كَانُوا يَنْسِبُونَ الْبَحْرَ وَالْفُلْكَ إِلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (الْجَوَارِي) جَمْعُ جَارِيَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ أَوْ صِفَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ اسْمًا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً الْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ جَارِيَةً عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَوْصُوفَ هُنَا، فَنَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلَّتِي تَجْرِي وَنُقِلَ عَنِ الْمَيْدَانِيِّ أَنَّ الْجَارِيَةَ السَّفِينَةُ الَّتِي تَجْرِي لِمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْجَرْيِ، وَسُمِّيَتِ الْمَمْلُوكَةُ جَارِيَةً لِأَنَّ الْحُرَّةَ تُرَادُ لِلسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ، وَالْمَمْلُوكَةُ لِتَجْرِيَ فِي الْحَوَائِجِ، لَكِنَّهَا غَلَبَتِ السَّفِينَةَ، لِأَنَّهَا فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا تَجْرِي، وَدَلَّ الْعَقْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السَّفِينَةَ هِيَ الَّتِي تَجْرِي غَيْرَ أَنَّهَا غَلَبَتْ بِسَبَبِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى السَّفِينَةِ الْجَارِيَةِ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَجْرِ، حَتَّى يُقَالُ: لِلسَّفِينَةِ السَّاكِنَةِ أَوِ الْمَشْدُودَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ جَارِيَةٌ، لِمَا أَنَّهَا تَجْرِي، وَلِلْمَمْلُوكَةِ الْجَالِسَةِ جَارِيَةٌ لِلْغَلَبَةِ، تُرِكَ الْمَوْصُوفُ، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَاتُ، عَلَى أَنَّ السَّفِينَةَ أَيْضًا فَعِيلَةٌ مِنَ السَّفَنِ وَهُوَ النَّحْتُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ عِنْدَ ابْنِ دُرَيْدٍ أَيْ تَسْفِنُ الْمَاءَ، أَوْ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ بِمَعْنَى مَنْحُوتَةٍ فَالْجَارِيَةُ وَالسَّفِينَةُ جَارِيَتَانِ عَلَى الْفُلْكِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ لَفْظِيَّةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاتِّخَاذِ السَّفِينَةِ، قَالَ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [هُودٍ: 37] فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَالَ لَهَا: الْفُلْكُ لِأَنَّهَا بَعْدُ لَمْ تكن جرت، ثم سماها بعد ما عَمِلَهَا سَفِينَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: 15] وَسَمَّاهَا جَارِيَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 11] وَقَدْ عَرَفْنَا أَمْرَ الْفُلْكِ وَجَرْيَهَا وَصَارَتْ كَالْمُسَمَّاةِ بِهَا، فَالْفُلْكُ قَبْلَ الْكُلِّ، ثُمَّ السَّفِينَةُ ثم الجارية.
المسألة الثالثة: ما معنى المنشآت؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَرْفُوعَاتُ مِنْ نَشَأَتِ السحابة إذا ارتفعت، وأنشأ اللَّهُ إِذَا رَفَعَهُ وَحِينَئِذٍ إِمَّا هِيَ بِأَنْفِسِهَا مُرْتَفِعَةٌ فِي الْبَحْرِ، وَإِمَّا مَرْفُوعَاتُ الشِّرَاعِ وَثَانِيهِمَا:(29/353)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
الْمُحْدَثَاتُ الْمَوْجُودَاتُ مِنْ أَنْشَأَ اللَّهُ الْمَخْلُوقَ أَيْ خَلَقَهُ فَإِنْ قِيلَ: الْوَجْهُ الثَّانِي بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُنْشَآتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُ الْجَوَارِي الَّتِي خُلِقَتْ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، وَهَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فيكون كأنه قال: الجواري التي رفعت فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، وَذَلِكَ جَيْدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّكَ تَقُولُ: الرَّجُلُ الْجَرِيءُ فِي الْحَرْبِ كَالْأَسَدِ فَيَكُونُ حَسَنًا، وَلَوْ قُلْتَ: الرَّجُلُ الْعَالِمُ بَدَلَ الْجَرِيءِ فِي الْحَرْبِ كَالْأَسَدِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، نَقُولُ: إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْجَارِيَةِ صِفَةً أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، كَانَ الْإِنْشَاءُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ لَهُ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ بَيَانًا لِلْقُدْرَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَهُ السُّفُنُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، أَيْ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ وَالْجِبَالُ لَا تَجْرِي إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْأَعْلَامُ جَمْعُ الْعَلَمِ الَّذِي هُوَ الْجَبَلُ وَأَمَّا الشِّرَاعُ الْمَرْفُوعُ كَالْعَلَمِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ، فَلَا عَجَبَ فِيهِ، وَلَيْسَ الْعَجَبُ فِيهِ كَالْعَجَبِ فِي جَرْيِ الْجَبَلِ فِي الْمَاءِ وَتَكُونُ الْمُنْشَآتُ/ مَعْرُوفَةً، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ:
الرَّجُلُ الْحَسَنُ الْجَالِسُ كَالْقَمَرِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ قَوْلِكَ كَالْقَمَرِ الْحَسَنَ لَا الْجَالِسَ فَيَكُونُ مَنْشَأً لِلْقُدْرَةِ، إِذِ السُّفُنُ كَالْجِبَالِ والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ الْمُنْشَآتُ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَيُحْتَمَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كَالْأَعْلامِ، يَقُومُ مَقَامَ الْجُمْلَةِ، وَالْجَوَارِي مَعْرِفَةٌ وَلَا تُوصَفُ الْمَعَارِفُ بِالْجُمَلِ، فَلَا نَقُولُ: الرَّجُلُ كَالْأَسَدِ جَاءَنِي وَلَا الرَّجُلُ هُوَ أَسَدٌ جَاءَنِي، وَتَقُولُ: رَجُلٌ كَالْأَسَدِ جَاءَنِي، وَرَجُلٌ هُوَ أَسَدٌ جَاءَنِي، فَلَا تُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْفَتْحِ إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ حَالًا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَ الْكَافَ اسْمًا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ شَبَهُ الْأَعْلَامِ ثَانِيهِمَا: يُقَدِّرُ حَالًا هَذَا شَبَهُهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَالْأَعْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ [هُودٍ: 42] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي جَمْعِ الْجَوَارِي وَتَوْحِيدِ الْبَحْرِ وَجَمْعِ الْأَعْلَامِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَةِ الْبَحْرِ، وَلَوْ قَالَ: فِي الْبِحَارِ لَكَانَتْ كُلُّ جَارِيَةٍ فِي بَحْرٍ، فَيَكُونُ الْبَحْرُ دُونَ بَحْرٍ يَكُونُ فِيهِ الْجَوَارِي الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ وَاحِدًا وَفِيهِ الْجَوَارِي الَّتِي هِيَ كَالْجِبَالِ يَكُونُ ذَلِكَ بَحْرًا عَظِيمًا وَسَاحِلُهُ بَعِيدًا فَيَكُونُ الْإِنْجَاءُ بقدرة كاملة. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 26]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا [فَاطِرٍ: 45] الْآيَةَ وَعَلَى هَذَا فَلَهُ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: 24] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْرِفُ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَرُوحُهُ وَجِسْمُهُ وَمَالُهُ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَرَجَ إِلَى الْبَرِّ وَنَظَرَ إِلَى الثَّبَاتِ الَّذِي لِلْأَرْضِ وَالتَّمَكُّنِ الَّذِي لَهُ فِيهَا يَنْسَى أَمْرَهُ فَذَكَّرَهُ وَقَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ كَمَنْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَوْ أَمْعَنَ الْعَاقِلُ النَّظَرَ لَكَانَ رُسُوبُ الْأَرْضِ الثَّقِيلَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ أَقْرَبَ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ رُسُوبِ الْفُلْكِ الْخَفِيفَةِ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْجَارِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ بِضَرُورَةِ مَا قَبْلَهَا كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
الْجَوَارِي وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهَا إِلَى الْفَنَاءِ أَقْرَبُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ إِنْكَارُ كَوْنِهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:(29/354)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَنْ) لِلْعُقَلَاءِ وَكُلُّ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْأَرْضِ فَانٍ، فَمَا فَائِدَةُ الِاخْتِصَاصِ بِالْعُقَلَاءِ؟ نَقُولُ: الْمُنْتَفِعُ بِالتَّخْوِيفِ هُوَ الْعَاقِلُ فَخَصَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَانِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ وَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا سَيَفْنَى فَهُوَ بَاقٍ بَعْدُ لَيْسَ بِفَانٍ، نَقُولُ كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] وَكَمَا يُقَالُ لِلْقَرِيبِ إِنَّهُ وَاصِلٌ، وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ وُجُودَ الْإِنْسَانِ/ عَرَضٌ وهو غير باق وما ليس بِبَاقٍ فَهُوَ فَانٍ، فَأَمْرُ الدُّنْيَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ حُدُوثٍ وَعَدَمٍ، أَمَّا الْبَقَاءُ فَلَا بَقَاءَ لَهُ لِأَنَّ الْبَقَاءَ اسْتِمْرَارٌ، وَلَا يُقَالُ هَذَا تَثْبِيتٌ بِالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كَمَا قِيلَ فِي الْعَرَضِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ (مَنْ) بَدَلُ قَوْلِهِ (مَا) يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَهُّمَ لِأَنِّي قُلْتُ: (مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) لَا بَقَاءَ لَهُ، وَمَا قُلْتُ: مَا عَلَيْهَا فَانٍ، وَمَنْ مَعَ كَوْنِهِ عَلَى الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جِسْمًا قَامَ بِهِ أَعْرَاضٌ بَعْضُهَا الْحَيَاةُ وَالْأَعْرَاضُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، فَالْمَجْمُوعُ لَمْ يَبْقَ كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا الْبَاقِي أَحَدُ جُزْأَيْهِ وَهُوَ الْجِسْمُ وَلَيْسَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَفْظَةُ (مَنْ) ، فَالْفَانِي لَيْسَ مَا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا لَيْسَ بِبَاقٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فانٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: الْحَثُّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَصَرْفِ الزَّمَانِ الْيَسِيرِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَمِنْهَا: الْمَنْعُ مِنَ الْوُثُوقِ بِمَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ فَلَا يَقُولُ: إِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ إِنَّهَا لَنْ تَذْهَبَ فَيَتْرُكَ الرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ مُعْتَمِدًا عَلَى مَالِهِ وَمُلْكِهِ، وَمِنْهَا: الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ إِنْ كَانَ فِي ضُرٍّ فَلَا يَكْفُرُ بِاللَّهِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ ذَاهِبٌ وَالضُّرَّ زَائِلٌ، وَمِنْهَا: تَرْكُ اتِّخَاذِ الْغَيْرِ مَعْبُودًا وَالزَّجْرُ عَلَى الِاغْتِرَارِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُلُوكِ وَتَرْكِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى الزَّوَالِ قَرِيبٌ فَيَبْقَى الْقَرِيبُ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيبٍ فِي نَدَمٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ يَلْقَى اللَّهَ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَلِكُ قَبْلَهُ فَيَبْقَى بَيْنَ الْخَلْقِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَيَتَشَفَّى فِيهِ، وَيَسْتَحِي مِمَّنْ كَانَ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَا جَمِيعًا فَلِقَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ التوفي في غاية الصعوبة، ومنها: حسن التَّوْحِيدِ وَتَرْكُ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ جَمِيعًا لِأَنَّ الفاني لا يصلح لأن يعبد. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 27 الى 28]
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَجْهُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ وَالْمُجَسِّمُ يَحْمِلُ الْوَجْهَ عَلَى الْعُضْوِ وَهُوَ خِلَافُ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَعْنِي الْقُرْآنَ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] يدل على أن لَا يَبْقَى إِلَّا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَبْقَى غَيْرُ حَقِيقَةِ اللَّهِ أَوْ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ شَيْءٌ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُجَسِّمِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا وَرِجْلُهُ الَّتِي قَالَ بِهَا، لَا يُقَالُ: فَعَلَى قَوْلِكُمْ أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى عِلْمُ اللَّهِ وَلَا قُدْرَةُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ جَعَلْتُمُوهُ ذَاتًا، وَالذَّاتُ غَيْرُ الصِّفَاتِ فَإِذَا قُلْتَ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا حَقِيقَةَ اللَّهِ خَرَجَتِ الصِّفَاتُ عَنْهَا فَيَكُونُ قَوْلُكُمْ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ، نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَذَلِكَ أَمْرٌ يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَمْ يَبْقَ لِفُلَانٍ إِلَّا ثَوْبٌ يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ وَمَا قَامَ بِهِ مِنَ اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَإِذَا قَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا كُمُّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ جَيْبِهِ وَذَيْلِهِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: يَبْقَى ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ صِفَاتِهِ وَإِذَا قُلْتُمْ: لَا يَبْقَى غَيْرُ وَجْهِهِ بِمَعْنَى الْعُضْوِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْقَى يَدُهُ.(29/355)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَمَا السَّبَبُ فِي حُسْنِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوَجْهِ عَلَى الذَّاتِ؟ نَقُولُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ عُرْفِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْوَجْهَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى وَجْهَ غَيْرِهِ يَقُولُ: رَأَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْوَجْهِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَثَلًا لَا يَقُولُ: رَأَيْتُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اطِّلَاعَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَحْصُلُ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَىَ شَيْئًا عَلِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حَالَ غَيْبَتِهِ، لِأَنَّ الْحِسَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَرْئِيِّ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْحِسَّ يُدْرِكُ وَالْحَدْسَ يَحْكُمُ فَإِذَا رَأَىَ شَيْئًا بِحِسِّهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ بِحَدْسِهِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ اجْتَمَعَ فِي وَجْهِهِ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ، فَإِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ وَجْهَ الْإِنْسَانِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَحْكَامٍ مَا كَانَ يَحْكُمُ بِهَا لَوْلَا رُؤْيَتُهُ وَجْهَهُ، فَكَانَ أَدَلَّ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَأَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَاسْتُعْمِلَ الْوَجْهُ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْإِنْسَانِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ، ثم نقل لي مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ، يُقَالُ فِي الْكَلَامِ هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَجْهَ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ كَمَا هُوَ الْمَسْطُورُ فِي الْبَعْضِ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِذِ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَ الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرَ مِنَ الِاسْمِ الْأَصْلِيِّ وَإِنْ كَانَ بِالنَّقْلِ، فَالْوَجْهُ أَوَّلُ مَا وُضِعَ لِلْعُضْوِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ وَاشْتُقَّ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَارِفُ بِالتَّصْرِيفِ الْبَارِعِ فِي الْأَدَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ: وَيَبْقَى رَبُّكَ أَوِ اللَّهُ أَوْ غَيْرُهُ فَحَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ فِي توهم ما هو ابتدع، نَقُولُ: مَا كَانَ يَقُومُ مَقَامَ الْوَجْهِ لَفَظٌ آخَرُ وَلَا وَجْهَ فِيهِ إِلَّا مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءُ الْفَاعِلِ كَالرَّبِّ وَالْخَالِقِ وَاللَّهُ عِنْدَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْمَعْبُودِ، فَلَوْ قَالَ: وَيَبْقَى رَبُّكَ رَبُّكَ، وَقَوْلُنَا: رَبُّكَ مَعْنَيَانِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: شَيْءٌ مِنْ كُلِّ رَبِّكَ، ثَانِيهِمَا أَنْ يُقَالَ: يَبْقَى رَبُّكَ مَعَ أَنَّهُ حَالَةَ الْبَقَاءِ رَبُّكَ فَيَكُونُ الْمَرْبُوبَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَبْقَى الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ وَغَيْرُهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي لَفْظِ الرَّبِّ وَإِضَافَةِ الْوَجْهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 115] وَقَالَ: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الرُّومِ: 38] نَقُولُ: الْمُرَادُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُوَ الْعِبَادَةُ. أَمَّا قَوْلُهُ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَالْمَذْكُورُ هُوَ الزَّكَاةُ قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الرُّومِ: 38] ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم: 38] وَلَفْظُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ النِّعَمُ الَّتِي بِهَا تَرْبِيَةُ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: وَجْهُ رَبِّكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ خِطَابًا مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَقَالَ: وَجْهُ رَبِّكَ خِطَابًا مَعَ الْوَاحِدِ؟ نَقُولُ: عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى فَنَاءِ كُلِّ أَحَدٍ، وَبَقَاءِ اللَّهِ فَقَالَ/ وَجْهُ ربك أي يا أَيُّهَا السَّامِعُ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَدَاهُ فَانٍ، وَالْمُخَاطِبُ كَثِيرًا مَا يَخْرُجُ عَنِ الْإِرَادَةِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لِمَنْ يَشْكُو إِلَيْكَ مِنْ أَهْلِ مَوْضِعٍ سَأُعَاقِبُ لِأَجْلِكَ كُلَّ مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَخْرُجُ الْمُخَاطِبُ عَنِ الْوَعِيدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْضِعِ فَقَالَ: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ لِيُعْلِمَ كُلَّ أَحَدٍ أَنَّ غَيْرَهُ فَانٍ، وَلَوْ قَالَ: وَجْهُ رَبِّكُمَا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يُخْرِجُ نَفْسَهُ وَرَفِيقَهُ الْمُخَاطَبَ مِنَ الْفَنَاءِ، فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قَالَ وَيَبْقَى وَجْهُ الرَّبِّ مِنْ غَيْرِ خِطَابٍ كَانَ أَدَلَّ عَلَى فَنَاءِ الْكُلِّ؟
نَقُولُ: كَأَنَّ الْخِطَابَ فِي الرَّبِّ إِشَارَةٌ إِلَى اللُّطْفِ وَالْإِبْقَاءَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهْرِ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضُعُ بَيَانِ اللُّطْفِ وَتَعْدِيدِ(29/356)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
النِّعَمِ، فَلَوْ قَالَ: بِلَفْظِ الرَّبِّ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، وَفِي لَفْظِ الرَّبِّ عَادَةٌ جَارِيَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْإِضَافَةِ. فالعبد يقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، وَرَبِّ اغْفِرْ لِي، وَاللَّهُ تعالى يقول: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ [الدخان: 8] ورَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وَحَيْثُ تَرَكَ الْإِضَافَةَ ذَكَرَهُ مَعَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سَبَأٍ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وَلَفْظُ الرَّبِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ، يُقَالُ: رَبَّهُ يُرَبِّهِ رَبًّا مِثْلَ رَبَّاهُ يُرَبِّيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنَ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّابِّ كَالطِّبِّ لِلطَّبِيبِ، وَالسَّمْعِ لِلْحَاسَّةِ، وَالْبُخْلِ لِلْبَخِيلِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَكِنْ مِنْ بَابِ فَعَلَ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ بَابِ فَعَلَ يَفْعَلُ أَيْ فَعَلَ الَّذِي لِلْغَرِيزِيِّ كَمَا يُقَالُ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: فُلَانٌ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، فَكَانَ وَصْفًا لَهُ مِنْ بَابِ فَعَلَ اللَّازِمِ لِيَخْرُجَ عَنِ التَّعَدِّي.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْجَلالِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، كَقَوْلِنَا: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ: جَلَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا، وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجَلَالَ هُوَ بِمَعْنَى الْعَظَمَةِ غَيْرَ أَنَّ الْعَظَمَةَ أَصْلُهَا فِي الْقُوَّةِ، وَالْجَلَالُ فِي الْفِعْلِ، فَهُوَ عَظِيمٌ لَا يَسَعُهُ عَقْلٌ ضَعِيفٌ فَجَلَّ أَنْ يَسَعَهُ كُلُّ فَرْضٍ مَعْقُولٍ: وَالْإِكْرامِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِنَا: حَيٌّ قَادِرٌ عَالِمٌ، وَأَمَّا السَّمِيعُ وَالْبَصِيرُ فَإِنَّهُمَا مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ، وَصِفَاتُ بَابِ النَّفْيِ قَبْلَ صِفَاتِ بَابِ الْإِثْبَاتِ عِنْدَنَا، لِأَنَّا أَوَّلًا نَجِدُ الدَّلِيلَ وَهُوَ الْعَالَمُ فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ لَيْسَ مِثْلَ الْعَالَمِ فَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَلَا مُحْتَاجٍ، وَلَا مُمْكِنٍ، ثُمَّ نُثْبِتُ لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْعِلْمَ وَغَيْرَهُمَا، وَمِنْ هُنَا قَالَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ:
لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [الصَّافَّاتِ: 35]
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، نَفْيُ صِفَاتِ غَيْرِ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الْجِسْمُ لَيْسَ بِإِلَهٍ لَزِمَ مِنْهُ قَوْلُكَ: اللَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَ (الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) وَصْفَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَمْرَيْنِ سَابِقَيْنِ، فَالْجَلَالُ مُرَتَّبٌ عَلَى فَنَاءِ الْغَيْرِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى بَقَائِهِ تَعَالَى، فَيَبْقَى الْفَرْدُ وَقَدْ عَزَّ أَنْ يُحَدَّ أَمْرُهُ بِفَنَاءِ مَنْ عَدَاهُ وَمَا عَدَاهُ، وَيَبْقَى وَهُوَ مُكْرِمٌ قَادِرٌ عَالِمٌ فَيُوجِدُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ من يريد، وقرئ: ذُو الْجَلالِ، وذِي الْجَلالِ. وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تَفْسِيرِ آخر السورة إن شاء الله تعالى. / ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
وَفِيهِ وجهان أحدهما: أنه حال تقديره: يبقى وَجْهُ رَبِّكَ مَسْئُولًا وَهَذَا مَنْقُولٌ مَعْقُولٌ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُضِ لِأَنَّهُ لما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] كَانَ إِشَارَةً إِلَى بَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَسْئُولًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى [الْأُمُورِ] الْجَارِيَةِ [فِي يَوْمِنَا] فَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا عَلَى الصَّحِيحِ فَنَقُولُ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ أَحَدُهَا: لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ فَانٍ نَظَرًا إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى إِلَّا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَسْئُولًا ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَسْئُولًا مَعْنًى لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْكُلَّ إِذَا فَنَوْا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودٌ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَأَنَّ الْقَوْمَ فَرَضُوا سَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ ثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَبْقى لِلِاسْتِمْرَارِ فَيَبْقَى وَيُعِيدُ مَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ مَسْئُولًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَهُوَ أَظْهَرُ وَفِيهِ مسائل:(29/357)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَاذَا يَسْأَلُهُ السَّائِلُونَ؟ فَنَقُولُ: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِعْطَاءٍ فَيَسْأَلُهُ كُلُّ أَحَدٍ الرَّحْمَةَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ أَيْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَسْأَلُهُ عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَعَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْتَرِفُ بِجَهْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ نَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ جَاهِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جَاهِلٍ مُعَانِدٍ فَهُوَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَارِدٌ، فَإِنَّ مِنَ الْمُعَانِدِينَ مَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ فَلَا يَسْأَلُهُ شَيْئًا بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ يَسْأَلُهُ بِلِسَانِ حَالِهِ لِإِمْكَانِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ أَيْ كُلُّ أَحَدٍ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ أَيْ كُلُّ أَحَدٍ جَاهِلٌ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ سُؤَالُ اسْتِخْرَاجِ، أَمْرٍ. وَقَوْلُهُ: مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسْأَلُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَقُولُونَ: إِلَهَنَا مَاذَا نَفْعَلُ وَبِمَاذَا تَأْمُرُنَا، وَهَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا آخَرَ عَنِ الْإِشْكَالِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ:
يَسْأَلُهُ حَالٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَالَ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ومن عليها تكون الأرض مكانه ومعتمده ولو لاها لَا يَعِيشُ وَأَمَّا مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْضِيَّةِ فَهُمْ فِيهَا وَلَيْسُوا عَلَيْهَا وَلَا تَضُرُّهُمْ زلزلتها، فعند ما يَفْنَى مَنْ عَلَيْهَا وَيَبْقَى اللَّهُ تَعَالَى لَا يَفْنَى هَؤُلَاءِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَيَسْأَلُونَهُ وَيَقُولُونَ: مَاذَا نَفْعَلُ فَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون، ثم يقول لهم: عند ما يَشَاءُ مُوتُوا فَيَمُوتُوا هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قال: يَسْئَلُهُ حَالٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ لَا إِشْكَالَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الشَّأْنِ فَقَالَ: «يَغْفِرُ/ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا، وَيَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَضَعُ مَنْ يَشَاءُ»
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى يَوْمٍ وكُلَّ يَوْمٍ ظَرْفُ سُؤَالِهِمْ أَيْ يَقَعُ سُؤَالُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَهُوَ فِي شَأْنٍ يَكُونُ جُمْلَةً وُصِفَ بِهَا يَوْمٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ كَمَا يُقَالُ: يَسْأَلُنِي فُلَانٌ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يَوْمُ رَاحَتِي أَيْ يَسْأَلُنِي أَيَّامَ الرَّاحَةِ، وَقَوْلُهُ: هُوَ فِي شَأْنٍ يَكُونُ صِفَةً مُمَيِّزَةً لِلْأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا شَأْنٌ عَنِ الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] فَإِنَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ هُوَ السَّائِلَ وَهُوَ الْمُجِيبَ، وَلَا يُسْأَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَوْمًا هُوَ فِي شَأْنٍ يَتَعَلَّقُ بِالسَّائِلِينَ مِنَ النَّاسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُونَهُ فِي يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ فَيَطْلُبُونَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ أَوْ يَسْتَخْرِجُونَ أَمْرَهُ بِمَا يَفْعَلُونَ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ، نَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: مَا هَذَا الشَّأْنُ؟ فَقَالَ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا [وَيُفَرِّجُ كَرْبًا] »
أَيْ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَ الْأَيَّامِ مَوْسُومَةً بِوَسْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ مِنْ مَغْفِرَةِ الذنوب والتفريج عن المكروب فقال تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ وَجَعَلَ بَعْضَهَا مَوْسُومَةً بِأَنْ لَا دَاعِي فِيهَا وَلَا سَائِلٌ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ بِهَذَا، وَلَوْ تَرَكْنَا كُلَّ يَوْمٍ عَلَى عُمُومِهِ لَكَانَ كُلُّ يَوْمٍ فِيهِ فِعْلٌ وَأَمْرٌ وَشَأْنٌ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقِدَمِ وَالدَّوَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 25] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَوَقْتٍ فِي شَأْنٍ، وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، نَقُولُ: فِيهِ أَجْوِبَةٌ مَنْقُولَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَلَا نَبْخَلُ بِهَا وَأَجْوِبَةٌ مَعْقُولَةٌ نَذْكُرُهَا بَعْدَهَا: أَمَّا الْمَنْقُولَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْمُرَادُ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا يَكُونُ فِي كُلِّ [يَوْمٍ وَ] وَقْتٍ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِالْفِعْلِ فِيهِ فَيُوَجَدُ، وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وقال بعضهم: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها،(29/358)
وَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ مَعْنًى، أَيْ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَلَكِنْ يَأْتِي وَقْتٌ قَدَّرَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلَهُ فَيَبْدُو فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يُنْسَبَانِ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ الْفَضْلِ أَجَابَ بِهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل ويخرج الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيَشْفِي سَقِيمًا وَيُمْرِضُ سَلِيمًا، وَيُعِزُّ ذَلِيلًا وَيُذِلُّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا»
وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ حَيْثُ بَيَّنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَالْآخَرُ بِالدُّنْيَا، وَقَدَّمَ الْأُخْرَوِيَّ عَلَى الدُّنْيَوِيِّ وَأَمَّا الْمَعْقُولَةُ: فَهِيَ أَنْ نَقُولَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَنْ يَسْأَلُهُ مِنْ أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِمَا أَرَادَ وَقَضَى وَأَبْرَمَ فِيهِ حُكْمَهُ وَأَمْضَى، غَيْرَ أَنَّ مَا حَكَمَهُ يَظْهَرُ كُلَّ يَوْمٍ، فَنَقُولُ: أَبْرَمَ اللَّهُ الْيَوْمَ رِزْقَ فُلَانٍ وَلَمْ يَرْزُقْهُ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُ خَلْقِهِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، فَتَسْأَلُهُ الْمَلَائِكَةُ كُلَّ يَوْمٍ إِنَّكَ يَا إِلَهَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي أَيِّ شَأْنٍ فِي نَظَرِنَا وَعِلْمِنَا الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ بِأَمْرٍ خَاصٍّ، وَمِنْ جَانِبِ الْمَفْعُولِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ وَعَلَى وَجْهٍ يَخْتَارُهُ الْفَاعِلُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِثَالُ الْأَوَّلِ: تَحْرِيكُ السَّاكِنِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِإِزَالَةِ السُّكُونِ/ عَنْهُ وَالْإِتْيَانِ بِالْحَرَكَةِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمِثَالُ الثَّانِي: تَسْكِينُ السَّاكِنُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مَعَ إِبْقَاءِ السُّكُونِ فِيهِ وَمَعَ إِزَالَتِهِ عَقِيبَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ أَوْ مَعَ فَصْلٍ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ السُّكُونَ وَلَا يُحَرِّكُهُ مَعَ بَقَاءِ الْجِسْمِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَجْسَامَ الْكَثِيرَةَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَخَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِيجَادُهَا فِيهِ لَا فِي زَمَانٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَمَنْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ لَمْ يُمْكِنْ خَلْقُهُ غَنِيًّا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ خَلْقِهِ فَقِيرًا فِيهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالَّذِي يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَجْزُ أَوْ يُتَوَهَّمُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْعَجْزُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فَقِيرًا فِي زَمَانٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ غَنِيًّا لَمَا وَقَعَ الْغِنَى فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَرَادَهُ، فَيَلْزَمُ الْعَجْزُ مِنْ خِلَافِ مَا قُلْنَا:
لَا فِيمَا قُلْنَا، فَإِذَنْ كُلُّ زَمَانٍ هُوَ غَيْرُ الزَّمَانِ الْآخَرِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ: أَغْنَى فَقِيرًا وَأَفْقَرَ غَنِيًّا، وَأَعَزَّ ذَلِيلًا وَأَذَلَّ عَزِيزًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَضْدَادِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَيْسَا مُنْحَصِرَيْنِ فِي مُخْتَلِفَيْنِ بَلِ الْمِثْلَانِ فِي حُكْمِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَمَنْ وُجِدَ فِيهِ حَرَكَةٌ إِلَى مَكَانٍ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ حَرَكَةٌ أُخْرَى أَيْضًا إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلَيْسَ شَأْنُ اللَّهِ مُقْتَصِرًا عَلَى إِفْقَارِ غَنِيٍّ أَوْ إِغْنَاءِ فَقِيرٍ فِي يَوْمِنَا دُونَ إِفْقَارِهِ أَوْ إِغْنَائِهِ أَمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ فِي زَيْدٍ إِغْنَاءً هُوَ أَمْسِي مَعَ إِغَنَاءٍ هُوَ يَوْمِي، فَالْغِنَى الْمُسْتَمِرُّ لِلْغَنِيِّ فِي نَظَرِنَا فِي الْأَمْرِ مُتَبَدِّلُ الْحَالِ، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ شَأْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِكَوْنِهِ: لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّأْنَ الْوَاحِدَ لَا يَصِيرُ مَانِعًا لَهُ تَعَالَى عَنْ شَأْنٍ آخَرَ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مَانِعًا لَنَا، مِثَالُهُ: وَاحِدٌ مِنَّا إِذَا أَرَادَ تَسْوِيدَ جِسْمٍ بِصَبْغَةٍ يُسَخِّنُهُ بِالنَّارِ أَوْ تَبْيِيضَ جِسْمٍ يُبَرِّدُهُ بِالْمَاءِ وَالْمَاءُ وَالنَّارُ مُتَضَادَّانِ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا وَشَرَعَ فِيهِ يَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُ مِنْ فِعْلِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ تَسْوِيدَ جِسْمٍ وَتَبْيِيضَ آخَرَ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ تَسْخِينُهُ وَتَسْوِيدُهُ بِصَبْغَةٍ لَا تَنَافِيَ فِيهِ، فَالْفِعْلُ صَارَ مَانِعًا لِلْفَاعِلِ مِنْ فِعْلِهِ وَلَمْ يَصِرْ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ، وَفِي حَقِّ اللَّهِ مَا لَا يَمْنَعُ الْفِعْلَ لَا يَمْنَعُ الْفَاعِلَ، فَيُوجِدُ تَعَالَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا لَا يُحْصَرُ وَلَا يُحْصَى فِي آنٍ وَاحِدٍ، أَمَّا مَا يُمْنَعُ مِنَ الْفِعْلِ كَالَّذِي يُسَوِّدُ جِسْمًا فِي آنٍ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُبَيِّضَهُ فِي ذَلِكَ الْآنِ، فَهُوَ قَدْ يَمْنَعُ الْفَاعِلَ أَيْضًا وَقَدْ لَا يَمْنَعُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَنْعِهِ لِلْفَاعِلِ، فَالتَّسْوِيدُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ التَّبْيِيضُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ أَصْلًا لَكِنَّ أَسْبَابَهُ تَمْنَعُ أَسْبَابًا أُخَرَ لَا تَمْنَعُ الْفَاعِلَ. إِذَا عَلِمْتَ هذا البحث فقد أفادك.(29/359)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
التحقيق في قوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)
وَلْنَذْكُرْ أَوَّلًا مَا قِيلَ فِيهِ تَبَرُّكًا بِأَقْوَالِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ نُحَقِّقُهُ بِالْبَيَانِ الشَّافِي فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سَنَقْصِدُكُمْ بِالْفِعْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ التَّهْدِيدِ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ اسْتِعْمَالِ النَّاسِ/ فَإِنَّ السَّيِّدَ يَقُولُ لِعَبْدِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ: سَأَفْرُغُ لَكَ، وَقَدْ يَكُونُ السَّيِّدُ فَارِغًا جَالِسًا لَا يَمْنَعُهُ شُغْلٌ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فِيهِ، فَنَقُولُ: عَدَمُ الْفَرَاغِ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِي فِعْلٍ لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ إِيجَادُ فِعْلٍ آخَرَ فَإِنَّ مَنْ يَخِيطُ يَقُولُ: مَا أَنَا بِفَارِغٍ لِلْكِتَابَةِ، لَكِنْ عَدَمُ الْفَرَاغِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ مَانِعًا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفِعْلِ الْآخَرِ، يُقَالُ:
هُوَ مَشْغُولٌ بِكَذَا عَنْ كَذَا كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا مَشْغُولٌ بِالْخِيَاطَةِ عَنِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ الْفَرَاغِ لِكَوْنِ الْفِعْلِ مَانِعًا مِنَ الْفِعْلِ لَا لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الْفَاعِلِ كَالَّذِي يُحَرِّكُ جِسْمًا فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ تَسْكِينُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَهُوَ لَيْسَ بِفَارِغٍ لِلتَّسْكِينِ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ أَنَا مَشْغُولٌ بِالتَّحْرِيكِ عَنِ التَّسْكِينِ، فَإِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِهِ بَلْ كَانَ فِي نَفْسِ الْمَحَلِّ حَرَكَةٌ لَا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْكِينُ فَلَيْسَ امْتِنَاعُهُ مِنْهُ إِلَّا لِاسْتِحَالَتِهِ بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَوْلَا اشْتِغَالُهُ بِالْخِيَاطَةِ لَتَمَكَّنَ مِنَ الْكِتَابَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا صَارَ عَدَمُ الْفَرَاغِ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِشُغْلٍ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِشُغْلٍ، فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِيَارِهِ أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ وَأَبْقَاهُ مُدَّةً أَرَادَهَا بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يُمْكِنُ مَعَ هَذَا إِعْدَامُهُ، فَهُوَ فِي فِعْلٍ لَا يَمْنَعُ الْفَاعِلَ لَكِنْ يَمْنَعُ الْفِعْلَ وَمِثْلُ هَذَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرَاغٍ، وَإِنْ كَانَ لَهُ شُغْلٌ، فَإِذَا أَوْجَدَ مَا أَرَادَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْكَنَ الْإِعْدَامُ وَالزِّيَادَةُ فِي آنِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَرَاغُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ مُشَاهَدَةٌ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى أَفْعَالِ نَفْسِهِ وَأَفْعَالِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَعَدَمُ الْفِرَاغِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ الشُّغْلِ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَارِغٌ فَحَمَلَ الْخَلْقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَارِغٍ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفِعْلُ وَهُوَ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ يَلْزَمُهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ قَوْلًا آخَرَ غَيْرُ قَوْلِ الْمَشَايِخِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِمْ: سَنَقْصِدُكُمْ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا مُبَيَّنٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ هَدَانَا لِلْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَنْ قَوْلِ أَرْبَابِ اللِّسَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْفَرَاغِ بِمَعْنَى الْخُلُوِّ، لَكِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي الْمَكَانِ فَيَتَّسِعُ لِيَتَمَكَّنَ آخَرُ، وإن كان في الزمان فَيَتَّسِعُ لِلْفِعْلِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ زَمَانَ الْفَاعِلِ فَارِغٌ عَنْ فِعْلِهِ وَغَيْرُ فَارِغٍ لَكِنَّ الْمَكَانَ مَرْئِيٌّ بِالْخُلُوِّ فِيهِ، فَيُطْلَقُ الْفَرَاغَ عَلَى خُلُوِّ الْمَكَانِ فِي الظَّرْفِ الْفُلَانِيِّ وَالزَّمَانُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فَلَا يُرَى خُلُوُّهُ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي زَمَانِ كَذَا فَارِغٌ لِأَنَّ فُلَانًا هُوَ الْمَرْئِيُّ لَا الزَّمَانَ وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ مِنْ أَزْمِنَةِ فُلَانٍ فارغ فَيُمْكِنُهُ وَصْفُهُ لِلْفِعْلِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ اسْتِعْمَالٌ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمَكَانَ إِذَا خَلَا يُقَالُ: لِكَذَا وَلَا يُقَالُ: إِلَى كَذَا فَكَذَلِكَ الزَّمَانُ لَكِنْ لَمَّا نُقِلَ إِلَى الْفَاعِلِ وَقِيلَ: الْفَاعِلُ عَلَى فَرَاغٍ وَهُوَ عِنْدَ الْفَرَاغِ يَقْصِدُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ قِيلَ فِي الْفَاعِلِ: فَرَغَ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، وَفِي الظَّرْفِ يُقَالُ: فَرَغَ مِنْ كَذَا لِكَذَا فَقَالَ لَكُمْ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْأَصْلِ، وَهُوَ يُقَوِّي مَا ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل. وأما أَيُّهَ فَنَقُولُ: الْحِكْمَةُ فِي نِدَاءِ الْمُبْهَمِ وَالْإِتْيَانُ بِالْوَصْفِ بَعْدَهُ هِيَ أَنَّ الْمُنَادِيَ يُرِيدُ صَوْنَ كَلَامِهِ عَنِ الضَّيَاعِ، فَيَقُولُ أَوَّلًا: يَا أَيْ نِدَاءٌ لِمُبَهَمٍ لِيُقْبِلَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ وَيَتَنَبَّهُ لِكَلَامِهِ مَنْ يَقْصِدُهُ، ثُمَّ عِنْدَ إِقْبَالِ السَّامِعِينَ يُخَصِّصُ الْمَقْصُودَ فَيَقُولُ: الرَّجُلُ وَالْتُزِمَ فِيهِ(29/360)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
أمران أحدهما: الوصف بِالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، فَتَقُولُ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ/ أَوْ يَا أَيُّهَذَا لَا الْأَعْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الْعَلَمُ، لِأَنَّ بَيْنَ الْمُبْهَمِ الْوَاقِعِ عَلَى كُلِّ جِنْسٍ وَالْعَلَمِ الْمُمَيَّزِ عَنْ كُلِّ شخص تباعد أو ثانيهما: توسط (ها) التَّنْبِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصْفِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَيِ الْإِضَافَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِبْهَامِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ، وَأَصْلُ التَّمْيِيزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا الْإِضَافَةُ، فَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا لِتَعْوِيضِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْتُزِمَ أَيْضًا حَذْفُ لَامِ التَّعْرِيفِ عِنْدَ زَوَالِ أَيْ فَلَا تَقُولُ: يَا الرَّجُلُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَطْوِيلًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَإِنَّكَ لَا تُفِيدُ بِاللَّامِ التَّنْبِيهَ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَقَوْلُكَ: يَا رَجُلُ مُفِيدٌ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اللَّامِ فَهُوَ يُوجِبُ إِسْقَاطَ اللَّامِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَمَّا أَفَادَتِ التَّعْرِيفَ كَانَ إِثْبَاتُ اللَّامِ تَطْوِيلًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْمُعَرَّفَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الثَّقَلانِ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا مُثْقَلَيْنِ بِالذُّنُوبِ ثَانِيهِمَا: سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا ثَقِيلَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِنَّ التُّرَابَ وَإِنْ لَطُفَ فِي الْخَلْقِ لِيَتَمَّ خَلْقُ آدَمَ لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا، وَأَمَّا النَّارُ فَلَمَّا وُلِدَ فِيهَا خَلْقُ الْجِنِّ كَثُفَتْ يَسِيرًا، فَكَمَا أَنَّ التُّرَابَ لَطُفَ يَسِيرًا فَكَذَلِكَ النَّارُ صَارَتْ ثَقِيلَةً، فَهُمَا ثَقَلَانِ فَسُمِّيَا بِذَلِكَ ثَالِثُهَا: الثَّقِيلُ أَحَدُهُمَا: لَا غَيْرُ وَسُمِّيَ الْآخَرُ بِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ وَالِاصْطِحَابِ كَمَا يُقَالُ: الْعُمَرَانِ وَالْقَمَرَانِ وَأَحَدُهُمَا عُمَرُ وَقَمَرٌ، أَوْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ العموم بالنوعين الحاصرين، تَقُولُ: يَا أَيُّهَا الثَّقَلُ الَّذِي هُوَ كَذَا، وَالثَّقَلُ الَّذِي لَيْسَ كَذَا، وَالثَّقَلُ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ.
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ» .
ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ التَّرْتِيبِ وَحُسْنِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُغْلٌ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَلِمَ كَانَ التَّأْخِيرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ شُغْلٌ هُنَاكَ مَانِعٌ؟ فَقَالَ:
الْمُسْتَعْجِلُ يَسْتَعْجِلُ. إِمَّا لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَمْرِ بِالتَّأْخِيرِ وَإِمَّا لِحَاجَةٍ فِي الْحَالِ، وَإِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ، وَبَيَّنَ عَدَمَ الْحَاجَةِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 26، 27] لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، فَبَيَّنَ عَدَمَ الْخَوْفِ مِنَ الْفَوَاتِ، وَقَالَ: لَا يَفُوتُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الخروج من السموات وَالْأَرْضِ، وَلَوْ أَمْكَنَ خُرُوجُهُمْ عَنْهُمَا لَمَا خَرَجُوا عَنْ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ آخِذُهُمْ أَيْنَ كَانُوا وَكَيْفَ كَانُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَعْشَرُ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الْمَعْشَرَ الْعَدَدُ الْكَامِلُ الكثير الذي لا عدد بعده إلا بابتداء فِيهِ حَيْثُ يُعِيدُ الْآحَادَ وَيَقُولُ: أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَا عَشَرَ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ، / أَيْ ثَلَاثُ عَشَرَاتٍ فَالْمَعْشَرُ كَأَنَّهُ مَحَلُّ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ الْكَثْرَةُ الْكَامِلَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْخِطَابُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يُرِيدُونَ الْفِرَارَ مِنَ الْعَذَابِ فَيَجِدُونَ سَبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ محيطين بأقطار السموات وَالْأَرْضِ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَامٌّ بِمَعْنَى لَا مَهْرَبَ وَلَا مَخْرَجَ لَكُمْ عَنْ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْنَمَا تَوَلَّيْتُمْ فَثَمَّ مُلْكُ اللَّهِ، وَأَيْنَمَا تَكُونُوا أَتَاكُمْ حُكْمُ اللَّهِ.(29/361)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْجِنِّ على الإنس هاهنا وَتَقْدِيمِ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ؟ [الإسراء: 88] نقول: النفوذ من أقطار السموات وَالْأَرْضِ بِالْجِنِّ أَلْيَقُ إِنْ أَمْكَنَ، وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ بِالْإِنْسِ أَلْيَقُ إِنْ أَمْكَنَ، فَقَدَّمَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟ نَقُولُ: ذَلِكَ يَحْتِمُلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ مَا تَنْفُذُونَ وَلَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِقُوَّةٍ وَلَيْسَ لَكُمْ قُوَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ مَا تَنْفُذُوا وَإِنْ نَفَذْتُمْ مَا تَنْفُذُونَ إِلَّا وَمَعَكُمْ سُلْطَانُ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِأَهْلِهِمْ أَيْ مَعَهُمْ ثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّفُوذِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُفُوذَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى طَلَبِ خَلَاصِهِمْ فَقَالَ: لَا تَنْفُذُونَ مِنْ أَقْطَارِ السموات لا تَتَخَلَّصُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا تَجِدُونَ مَا تَطْلُبُونَ من النفود وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ مِنَ اللَّهِ يُجِيرُكُمْ وَإِلَّا فَلَا مُجِيرَ لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ: لَا يَنْفَعُكَ الْبُكَاءُ إِلَّا إِذَا صَدَقْتَ وَتُرِيدُ بِهِ أَنَّ الصِّدْقَ وَحْدَهُ يَنْفَعُكَ، لَا أَنَّكَ إِنْ صَدَقْتَ فَيَنْفَعُكَ الْبُكَاءُ رَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَوَجْهُهُ هُوَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ لَا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَا أَنْتَ أَبَدًا تُشَاهِدُ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ هَبْ أَنَّكَ تَنْفُذُ مِنْ أقطار السموات وَالْأَرْضِ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَنْفُذُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ تجده خارج السموات وَالْأَرْضِ قَاطِعٍ دَالٍّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى وَالسُّلْطَانُ هو القوة الكاملة. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 35 الى 36]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الآية بما قَبْلَهَا؟ نَقُولُ: إِنْ قُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نِدَاءٌ يُنَادَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَوْمَ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ فَلَا يَبْقَى لَكُمَا انْتِصَارٌ/ إِنِ اسْتَطَعْتُمَا النُّفُوذَ فَانْفُذَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّدَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ فَيُمْكِنُكُمُ الْفِرَارُ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ فَيُخَلِّصُكُمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ وُقُوعِكُمْ فِيهَا وَإِرْسَالِهَا عَلَيْكُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتُمُ الْفِرَارَ لِئَلَّا تَقَعُوا فِي الْعَذَابِ فَفِرُّوا ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمْ أَنْ لَا فِرَارَ لَكُمْ وَلَا بُدَّ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ فَإِذَا وَقَعْتُمْ فِيهِ وَأُرْسِلَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَا تُنْصَرُونَ فَلَا خَلَاصَ لَكُمْ إِذَنْ، لِأَنَّ الْخَلَاصَ إِمَّا بِالدَّفْعِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَإِمَّا بِالرَّفْعِ بَعْدَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكُما مَعَ أَنَّهُ جُمِعَ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ [الرحمن: 33] وَالْخِطَابُ مَعَ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَ: فَلا تَنْتَصِرانِ وَقَالَ من قبل: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ؟
[الرحمن: 33] نَقُولُ: فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ لِبَيَانِ عَجْزِهِمْ وَعَظَمَةِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ:
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا بِاجْتِمَاعِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ فَانْفُذُوا، وَلَا تَسْتَطِيعُونَ لِعَجْزِكُمْ فَقَدْ بَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِكُمْ وَاعْتِضَادِكُمْ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَهُوَ عِنْدَ افْتِرَاقِكُمْ أَظْهَرُ، فَهُوَ خِطَابٌ عَامٌّ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ الِانْضِمَامِ إِلَى جَمِيعِ مَنْ عَدَاهُ مِنَ(29/362)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
الْأَعْوَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما فَهُوَ لِبَيَانِ الْإِرْسَالِ عَلَى النَّوْعَيْنِ لَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ جَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَا يُرْسَلُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَالنَّارُ، فَهُوَ يُرْسَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ وَيَتَخَلَّصُ مِنْهُ بَعْضٌ مِنْهُمَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقْطَارِ أَصْلًا، وَهَذَا يَتَأَيَّدُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَالَ: لَا فِرَارَ لَكُمْ قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَلَا خَلَاصَ لَكُمْ عِنْدَ الْوُقُوعِ لَكِنْ عَدَمُ الْفِرَارِ عَامٌّ وَعَدَمُ الْخَلَاصِ لَيْسَ بِعَامٍّ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمَعْشَرِ فَقَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَيُّهَا الْمَعْشَرُ وَقَوْلُهُ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما لَيْسَ خِطَابًا مَعَ النِّدَاءِ بَلْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْحَاضِرِينَ وَهُمَا نَوْعَانِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ مَذْكُورًا بِحَرْفِ وَاوِ الْعَطْفِ حَتَّى يَكُونَ النَّوْعَانِ مُنَادَيَيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالنِّدَاءِ فَالتَّثْنِيَةُ أَوْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما وَهَذَا يتأيد بقوله تعالى:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وَحَيْثُ صَرَّحَ بِالنِّدَاءِ جَمَعَ الضَّمِيرَ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالنِّدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الشُّوَاظُ وَمَا النُّحَاسُ؟ نَقُولُ: الشُّوَاظُ لَهَبُ النَّارِ وَهُوَ لِسَانُهُ، وَقِيلَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلْمُخْتَلِطِ بِالدُّخَانِ الَّذِي مِنَ الْحَطَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْحُكَمَاءِ إِنَّ النَّارَ إِذَا صَارَتْ خَالِصَةً لَا تُرَى كَالَّتِي تَكُونُ فِي الْكِيرِ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الِاتِّقَادِ، وَكَمَا فِي التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ فَإِنَّهُ يُرَى فِيهِ نُورٌ وَهُوَ نَارٌ، وَأَمَّا النُّحَاسُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا الدُّخَانُ، وَالثَّانِي الْقِطْرُ وَهُوَ النُّحَاسُ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، ثُمَّ إِنَّ ذِكْرَ الْأَمْرَيْنِ بَعْدَ خِطَابِ النَّوْعَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ. وَحِينَئِذٍ فَالنَّارُ الْخَفِيفُ لِلْإِنْسِ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ جَوْهَرَهُ، وَالنُّحَاسُ الثَّقِيلُ لِلْجِنِّ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ جَوْهَرَهُ أَيْضًا. فَإِنَّ الْإِنْسَ ثَقِيلٌ وَالنَّارَ خَفِيفَةٌ، وَالْجِنَّ خِفَافٌ وَالنُّحَاسَ ثَقِيلٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ النُّحَاسِ الدُّخَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْأَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ قَرَأَ نُحاسٌ بِالْجَرِّ كَيْفَ يَعْرِبُهُ وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى النَّارِ يَكُونُ شُوَاظٌ مِنْ نُحَاسٍ وَالشُّوَاظُ لَا يَكُونُ مِنْ نُحَاسٍ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَقْدِيرُهُ شَيْءٌ مِنْ نُحَاسٍ كَقَوْلِهِمْ:
تَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَرُمْحًا وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ: الشُّوَاظُ لَمْ يَكُنْ إلا عند ما يَكُونُ فِي النَّارِ أَجْزَاءٌ هُوَائِيَّةٌ وَأَرْضِيَّةٌ، وَهُوَ الدُّخَانُ، فَالشُّوَاظُ مُرَكَّبٌ مِنْ نَارٍ وَمِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ الدُّخَانُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرْسَلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا شَيْئَانِ غَيْرَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا لَا فَائِدَةَ لِتَخْصِيصِ الشُّوَاظِ بِالْإِرْسَالِ إِلَّا بَيَانُ كَوْنِ تِلْكَ النَّارِ بَعْدُ غَيْرَ قَوِيَّةٍ قُوَّةً تُذْهِبُ عَنْهُ الدُّخَانُ، نَقُولُ: الْعَذَابُ بِالنَّارِ الَّتِي لَا تُرَى دُونَ الْعَذَابُ بِالنَّارِ الَّتِي تُرَى، لِتَقَدُّمِ الْخَوْفِ عَلَى الْوُقُوعِ فِيهِ وَامْتِدَادِ الْعَذَابِ وَالنَّارُ الصِّرْفَةُ لَا تُرَى أَوْ تُرَى كَالنُّورِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا لَهِيبٌ وَهَيْبَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَنْتَصِرانِ نَفْيٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِصَارِ، فَلَا يَنْتَصِرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَا هُمَا بِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَرِ: 44] وَالِانْتِصَارُ التَّلَبُّسُ بِالنُّصْرَةِ، يُقَالُ لِمَنْ أَخَذَ الثَّأْرَ انْتَصَرَ مِنْهُ كَأَنَّهُ انْتَزَعَ النُّصْرَةَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَتَلَبَّسَ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الِانْتِقَامُ وَالِادِّخَارُ وَالِادِّهَانُ، وَالَّذِي يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الِانْتِصَارَ بِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ: فَلا تَنْتَصِرانِ بِمَعْنَى لَا تَمْتَنِعَانِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِالنُّصْرَةِ فهو ممتنع لذلك. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)(29/363)
إِشَارَةً إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَخَافُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَخَافُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَهُ إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أَمَاكِنُهُمْ بِالشَّقِّ وَمَسَاكِنُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِالْخَرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] إِشَارَةً إِلَى سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانًا لِحَالِ سُكَّانِ السَّمَاءِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي الْأَصْلِ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا: التَّعْقِيبُ الزَّمَانِيُّ لِلشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ قَعَدَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو، لِمَنْ سَأَلَكَ عن قعود زيد وقيام عمر، وَإِنَّهُمَا كَانَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ الذِّهْنِيُّ لِلَّذِينَ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو إِكْرَامًا لَهُ إِذْ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا قِيَامُ عَمَرٍو مَعَ مَجِيءِ زَيْدٍ زَمَانًا وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ فِي الْقَوْلِ كَقَوْلِكَ: لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ فَالْمَلِكَ فَالسُّلْطَانَ، كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَقُولُ لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ الْمَلِكَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ السُّلْطَانَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْفَاءُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ جَمِيعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ إِرْسَالَ الشُّوَاظِ عَلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ انشقاق السموات، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْإِرْسَالُ/ إِشَارَةً إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ عِنْدَ سَوْقِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى الْمَحْشَرِ، إِذْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الشُّوَاظَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ، فَيَهْرَبُونَ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَالْحِسَابُ الشَّدِيدُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الثَّانِي:
فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِ السَّمَاءِ تَكُونُ حَمْرَاءَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهِيبَهَا يَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَجْعَلُهَا كَالْحَدِيدِ الْمُذَابِ الْأَحْمَرِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَوَجْهُهُ أن يقال: لما قال: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: 35] أَيْ فِي وَقْتِ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَيْكُمَا قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَصَارَتْ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ كَالطِّينِ الذَّائِبِ، كَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشُّوَاظَ الْمُرْسَلَ لَهَبٌ وَاحِدٌ، أَوْ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَذَابَتْ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ وَالْجَوُّ وَالسَّمَاءُ كُلُّهَا نَارًا فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ (إِذَا) قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُفَاجَأَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَوْجُهِهَا ظَرْفًا لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْقٌ فَالْأَوَّلُ: مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1، 2] وَالثَّانِي: مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذَا أَكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ وَفِي الثَّانِي لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِذَا عَلَّمْتَنِي تُثَابُ يَكُونُ الثَّوَابُ بَعْدَهُ زَمَانًا لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ يَثْبُتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُتَّصِلًا بِهِ وَالثَّالِثُ: مِثَالُ مَا يَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا قَدْ أَقْبَلَ الرَّكْبُ أَمَّا لو قال: خرجت إذا أَقْبَلَ الرَّكْبُ فَهُوَ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ مَتَى خَرَجْتَ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اسْتَعْمَلَ (إِذَا) هَاهُنَا؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
الظَّرْفِيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الزَّمَانِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ أَيْ بَعْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ، وَعِنْدَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ يَكُونُ وَثَانِيهِمَا: الشَّرْطِيَّةُ وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُنَا: فَلا تَنْتَصِرانِ عِنْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَلَا تَتَوَقَّعُوا الِانْتِصَارَ أَصْلًا، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ عَلَى أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ فَإِذَا السَّمَاءُ قَدِ انْشَقَّتْ، فَبَعِيدٌ وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّهْنِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَوْجُهِ؟ نَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وَحِينَئِذٍ لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ(29/364)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
مَحْذُوفًا رَأْسًا لِيَفْرِضَ السَّامِعُ بَعْدَهُ كُلَّ هَائِلٍ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ عَلَى فُلَانٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَاذَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ رُبَّمَا يَسْكُتُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ مُتَعَجِّبًا آتِيًا بِقَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى تَهْوِيلِ الْأَمْرِ، لِيَذْهَبَ السَّامِعُ مَعَ كُلِّ مَذْهَبٍ، وَيَقُولُ: كَأَنَّهُ إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَقْتُلُ وَيَقُولُ الْآخَرُ: إِذَا غَضِبَ السُّلْطَانُ يَنْهَبُ وَيَقُولُ الْآخَرُ غَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: مَا بَيَّنَّا مِنْ بَيَانِ عَدَمِ الِانْتِصَارِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفُرْقَانِ: 25، 26] فَكَأَنَّهُ تَعَالَى/ قَالَ: إِذَا أرسل عليهم شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٍ فَلَا يَنْتَصِرَانِ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ كَيْفَ يَنْتَصِرَانِ؟ فَيَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْأَمْرُ عَسِيرًا فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَلْقَى الْمَرْءُ فِعْلَهُ وَيُحَاسَبُ حِسَابَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إلى أن قال: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الِانْشِقَاقِ: 1- 6] الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنَ الِانْشِقَاقِ؟ نَقُولُ: حَقِيقَتُهُ ذَوَبَانُهَا وَخَرَابُهَا كَمَا قَالَ تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [السماء: 104] إِشَارَةً إِلَى خَرَابِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: انْشَقَّتْ بِالْغَمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وَفِيهِ وُجُوهٌ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْغَمامِ أَيْ مع الغمام فيكون مثل ما ذكرنا هاهنا مِنَ الِانْفِطَارِ وَالْخَرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهَا فِي الْحَالِ تَكُونُ حَمْرَاءَ يُقَالُ: فَرَسٌ وَرْدٌ إِذَا أُثْبِتَ لِلْفَرَسِ الْحُمْرَةُ، وَحُجْرَةٌ وَرْدَةٌ أَيْ حَمْرَاءُ اللَّوْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لَهِيبَ النَّارِ يَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ فَتَذُوبُ فَتَكُونُ كَالصُّفْرِ الذَّائِبِ حَمْرَاءَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَرْدَةٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الْوُرُودِ كَالرَّكْعَةِ وَالسَّجْدَةِ وَالْجَلْسَةِ وَالْقَعْدَةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ، وَحِينَئِذٍ الضَّمِيرُ فِي كَانَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 53] أَيِ الكائنة أو الداهية وأنت الضَّمِيرَ لِتَأْنِيثِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا مُذَكَّرًا، فكذا هاهنا قَالَ: فَكانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً أَيِ الْحَرَكَةُ الَّتِي بِهَا الِانْشِقَاقُ كَانَتْ وَرْدَةً وَاحِدَةً، وَتَزَلْزَلَ الْكُلُّ وَخَرِبَ دُفْعَةً، وَالْحَرَكَةُ مَعْلُومَةٌ بِالِانْشِقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ يَتَحَرَّكُ، وَيَتَزَلْزَلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
كَالدِّهانِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: جَمْعُ دُهْنٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ، فَإِنْ قِيلَ: الْأَدِيمُ الْأَحْمَرُ مُنَاسِبٌ لِلْوَرْدَةِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ كَانَتِ السَّمَاءُ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ، وَلَكِنْ مَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْوَرْدَةِ وَبَيْنَ الدِّهَانِ؟ نَقُولُ:
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ الدِّهَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [الْمَعَارِجِ: 8] وَهُوَ عَكَرُ الزَّيْتِ وَبَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ الْوَرْدَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَسَدِ فَيُقَالُ: أَسَدٌ وَرْدٌ، فَلَيْسَ الْوَرْدُ هُوَ الْأَحْمَرَ الْقَانِي وَالثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالدُّهْنِ لَيْسَ فِي اللَّوْنِ بَلْ فِي الذَّوَبَانِ وَالثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الدُّهْنَ الْمُذَابَ يَنْصَبُّ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً وَيَذُوبُ دُفْعَةً وَالْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ لَا يَذُوبُ غَايَةَ الذَّوَبَانِ، فَتَكُونُ حَرَكَةُ الدُّهْنِ بَعْدَ الذَّوَبَانِ أَسْرَعَ مِنْ حَرَكَةِ غَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَرَكَتُهَا تَكُونُ وَرْدَةً وَاحِدَةً كَالدِّهَانِ الْمَصْبُوبَةِ صَبًّا لَا كَالرَّصَاصِ الَّذِي يَذُوبُ مِنْهُ أَلْطَفُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ، وَجَمَعَ الدِّهَانَ لِعَظَمَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَةِ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَوَبَانِهَا لِاخْتِلَافِ أجزائها، فإن الكواكب تخالف غيرها. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 40]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)(29/365)
وَفِيهِ/ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عَنْ ذَنْبِهِ، فَلَا يُقَالُ: لَهُ أَنْتَ الْمُذْنِبُ أَوْ غَيْرُكَ، وَلَا يُقَالُ: مَنِ الْمُذْنِبُ مِنْكُمْ بَلْ يَعْرِفُونَهُ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي ذَنْبِهِ عَائِدٌ إِلَى مُضْمَرٍ مُفَسَّرٍ بِمَا يعده، وَتَقْدِيرُهُ لَا يُسْأَلُ إِنْسٌ عَنْ ذَنْبِهِ وَلَا جَانٌّ يُسْأَلُ، أَيْ عَنْ ذَنْبِهِ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ قريب من المعنى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: 164] كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ مُذْنِبٌ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ وَفِيهِ إِشْكَالٌ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي ذَنْبِهِ إِنْ عَادَ إِلَى أَمْرٍ قَبْلَهُ يَلْزَمُ اسْتِحَالَةُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَعْنَى بَلْ يَلْزَمُ فَسَادُ الْمَعْنَى رَأْسًا لِأَنَّكَ إذا قلت: لا يسأل مسؤول وَاحِدٌ أَوْ إِنْسِيٌّ مَثَلًا عَنْ ذَنْبِهِ فَقَوْلُكَ بَعْدُ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، يَقْتَضِي تَعَلُّقَ فِعْلٍ بِفَاعِلَيْنِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَفْرِضَ عَائِدًا وَإِنَّمَا يُجْعَلُ بِمَعْنَى الْمُظْهَرِ لَا غَيْرُ وَيُجْعَلُ عَنْ ذَنْبِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَنْ ذَنْبِ مُذْنِبٍ ثَانِيهِمَا. وَهُوَ أَدَقُّ وَبِالْقَبُولِ أَحَقُّ أَنْ يُجْعَلَ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَيُقَالُ:
تَقْدِيرُهُ فَالْمُذْنِبُ يَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وفيه مسائل لفظية ومعنوية:
[أما اللفظية] المسألة الأولى: اللفظية الفاء للتعذيب وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَمَانِيًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَقَعُ الْعَذَابُ، فَيَوْمَ وُقُوعِهِ لَا يُسْأَلُ، وَبَيْنَ الْأَحْوَالِ فَاصِلٌ زَمَانِيٌّ غَيْرُ مُتَرَاخٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَقَعُ الْعَذَابُ فَلَا يَتَأَخَّرُ تَعَلُّقُهُ بِهِمْ مِقْدَارَ مَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذَنْبِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّرْتِيبَ الْكَلَامِيَّ كَأَنَّهُ يَقُولُ:
تَهْرَبُونَ بِالْخُرُوجِ من أقطار السموات، وَأَقُولُ لَا تَمْتَنِعُونَ عِنْدَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ، فَأَقُولُ: لَا تُمْهَلُونَ مِقْدَارَ مَا تُسْأَلُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ لَا يُقَالُ لَهُمْ: مَنِ الْمُذْنِبُ مِنْكُمْ، وَهُوَ عَلَى هَذَا سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي سُؤَالُ تَوْبِيخٍ أَيْ لَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ أَذْنَبَ الْمُذْنِبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالَ مَوْهِبَةٍ وَشَفَاعَةٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَسْأَلُكَ ذَنْبَ فُلَانٍ، أَيْ أَطْلُبُ مِنْكَ عَفْوَهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ السُّؤَالَ إِذَا عُدِّيَ بِعَنْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ أَوِ التَّوْبِيخِ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْطَاءِ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَيُقَالُ: نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ثَانِيهَا: الْكَلَامُ لَا يَحْتَمِلُ تَقْدِيرًا وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِحَيْثُ يُطَابِقُ الْكَلَامَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسْأَلُ وَاحِدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ بَلْ أَحَدٌ لَا يُسْأَلُ ذَنْبَ نفسه ثالثها: قوله:
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ السُّؤَالَ رُبَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الِاسْتِعْلَامِ يُحْذَفُ الثَّانِي وَيُؤْتَى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يُقَالُ: سَأَلْتُهُ عَنْ كَذَا أَيْ سَأَلْتُهُ الْإِخْبَارَ عَنْ كَذَا فَيَحْذِفُ الْإِخْبَارَ وَيَكْتَفِي بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَنِي عن كذاو عن الثاني: أن يكون التَّقْدِيرَ لَا يُسْأَلُ إِنْسٌ ذَنْبَهُ وَلَا جَانٌّ، وَالضَّمِيرُ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى الْمُضْمَرِ لَفْظًا لَا معنى، كما نقول: قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَالضَّمِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِكَ: قَتَلُوا لَفْظًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَا فِي قَتَلُوا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ، إِذِ الْوَاحِدُ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ قَتَلَ وَاحِدًا غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ [كُلُّ] إِنْسٍ لَا يُسْأَلُ [عَنْ] ذَنْبِهِ أَيْ ذَنْبِ إِنْسٍ غَيْرِهِ، / وَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يُقَالُ: لِأَحَدٍ اعْفُ عَنْ فُلَانٍ، لِبَيَانِ أَنْ لَا مَسْئُولَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَإِنَّمَا كُلُّهُمْ سَائِلُونَ اللَّهَ وَاللَّهُ تَعَالَى حِينَئِذٍ هُوَ الْمَسْئُولُ.
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَالْأَوْلَى: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحِجْرِ:
92] وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ؟ [الصافات: 24] نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْآخِرَةِ مَوَاطِنَ. فَلَا يُسْأَلُ فِي مَوْطِنٍ، وَيُسْأَلُ فِي مَوْطِنٍ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَحْسَنُ لَا يُسْأَلُ عن فعله(29/366)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)
أَحَدٌ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ بِقَوْلِهِ: لِمَ فَعَلَ الْفَاعِلُ فَلَا يُسْأَلُ سُؤَالَ اسْتِعْلَامٍ، بَلْ يُسْأَلُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ الْجَمْعِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِ عَدَمِ السُّؤَالِ؟ نَقُولُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فَائِدَتُهُ التَّوْبِيخُ لَهُمْ كقوله تعالى:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: 40، 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَعَلَى الثَّانِي بَيَانُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ، فَيَكُونُ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ أَحْسَنَ، لِأَنَّ فِيهَا حِينَئِذٍ بَيَانَ أَنْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرحمن: 33] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا مَانِعَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: 35] ثُمَّ بَيَانَ أَنْ لَا فِدَاءَ لَهُمْ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يُسْأَلُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، بَيَانُ أَنْ لَا شَفِيعَ لَهُمْ وَلَا رَاحِمَ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا مُؤَخَّرٌ بِقَوْلِهِ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ [الرحمن: 31] بَيَّنَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُؤَخَّرُ بِقَدْرِ مَا يُسْأَلُ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ لَا مَفَرَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: لا تَنْفُذُونَ [الرحمن: 33] وَلَا نَاصِرَ لَهُمْ يُخَلِّصُهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلا تَنْتَصِرانِ بَيَّنَ أَمْرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُذْنِبُ:
رُبَّمَا أَنْجُو فِي ظِلِّ خُمُولٍ وَاشْتِبَاهِ حَالٍ، فَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَحَدٌ مِنَ الْمُذْنِبِينَ بِخِلَافِ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الشِّرْذِمَةَ الْقَلِيلَةَ رُبَّمَا تَنْجُو من العذاب العام بسبب خمولهم. وقال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 42]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)
اتِّصَالُ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ، ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، إِذْ قَوْلُهُ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ كَالتَّفْسِيرِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ غَيْرُهُ كَيْفَ قَالَ: يُعْرَفُ وَيُؤْخَذُ وَعَلَى قَوْلِنَا: لَا يُسْأَلُ سُؤَالَ حَطٍّ وَعَفْوٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السِّيمَا كَالضِّيزَى وَأَصْلُهُ سَوْمَى مِنَ السَّوْمَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: كَيٌّ عَلَى جِبَاهِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ [التَّوْبَةِ: 35] ثَانِيهَا: سَوَادٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَقَالَ تَعَالَى: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] ثَالِثُهَا: غَبَرَةٌ وَقَتَرَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ (يُؤْخَذُ) مَعَ أَنَّ (الْمُجْرِمِينَ) جَمْعٌ، وَهُمُ الْمَأْخُوذُونَ؟ نَقُولُ فِيهِ/ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يُؤْخَذَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالنَّواصِي كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ذُهِبَ بِزَيْدٍ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فَيُؤْخَذُونَ بِالنَّوَاصِي، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ عُدِّيَ الْأَخْذُ بِالْبَاءِ وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الْحَدِيدِ: 15] وَقَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ [طه: 21] نَقُولُ: الْأَخْذُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنْتَ، وَبِالْبَاءِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
[طه: 94] لَكِنْ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَدْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ تَوَجَّهَ الْفِعْلُ نَحْوَهُ فَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ غَيْرَ الشَّيْءِ الْمَأْخُوذِ حِسًّا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَكَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَأْخُوذُ، وَكَأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَذَكَرَ الْحَرْفَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ فِي الْعَصَا وَقَالَ تَعَالَى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] وأَخَذَ الْأَلْواحَ [الأعراف: 154](29/367)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ عُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ مِنْ غير حرف، وقال تعالى: تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
وَقَالَ تَعَالَى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ وَيُقَالُ: خُذْ بِيَدِي وَأَخَذَ اللَّهُ بِيَدِكَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِالْأَخْذِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَوْجِيهِ الْفِعْلِ إِلَى غَيْرِ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ، وَلِمَ قَالَ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي؟ نَقُولُ فِيهِ بَيَانُ نَكَالِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ وَنُبَيِّنُ هَذَا بِتَقْدِيمِ مِثَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ ضُرِبَ زَيْدٌ فَقُتِلَ عَمْرٌو فَإِنَّ الْمَفْعُولَ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ وَلِهَذَا أُعْرِبَ إِعْرَابُهُ فَلَوْ لَمْ يُوَجَّهْ يُؤْخَذْ إِلَى غَيْرِ مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ يُعْرَفُ لَكَانَ الْأَخْذُ فِعْلٌ مِنْ عَرَفَ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَعْرِفُ الْمُجْرِمِينَ عَارِفٌ فَيَأْخُذُهُمْ ذَلِكَ الْعَارِفُ، لَكِنِ الْمُجْرِمُ يَعْرِفُهُ بِسِيمَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يَأْخُذُهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ بِسِيمَاهُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ الْمُرَادُ يَعْرِفُهُمُ النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ إِلَى عَلَامَةٍ، أَمَّا كَتَبَةُ الْأَعْمَالِ وَالْمَلَائِكَةُ الْغِلَاظُ الشِّدَادُ فَيَعْرِفُونَهُمْ كَمَا يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى عَلَامَةٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: يُعْرَفُ مَعْنَاهُ يَكُونُونَ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَلَوْ قَالَ: يُؤْخَذُونَ يَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُونَ مَأْخُوذِينَ لِكُلِّ أَحَدٍ، كَذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: شُغِلْتُ فَضُرِبَ زَيْدٌ عَلِمْتَ عِنْدَ تَوْجِهِ التَّعْلِيقِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ دَلِيلُ تَغَايُرِ الشَّاغِلِ وَالضَّارِبِ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنِّي شَغَلَنِي شَاغِلٌ فَضَرَبَ زَيْدًا ضَارِبٌ، فَالضَّارِبُ غَيْرُ ذَلِكَ الشَّاغِلِ، وَإِذَا قُلْتَ: شُغِلَ زَيْدٌ فَضُرِبَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ تَوَجَّهَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ فَلَا يَظْهَرُ مِثْلَ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَمَّا بَيَانُ النَّكَالِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ:
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْأَخْذِ وَجَعْلَهَا مَقْصُودَ الْكَلَامِ، وَلَوْ قَالَ: فَيُؤْخَذُونَ لَكَانَ الْكَلَامُ يَتِمُّ عِنْدَهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بِالنَّواصِي فَائِدَةً جَاءَتْ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: فَيُؤْخَذُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَنْتَظِرُ السَّامِعُ وُجُودَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ: بِالنَّواصِي يَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ ظُهُورُ نَكَالِهِمْ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ إِذْلَالًا وَإِهَانَةً، وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ بِالْقَدَمِ، لَا يُقَالُ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ حَيْثُ لَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مَقْصُودًا وَالْآنَ ذَكَرْتَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالنَّوَاصِي هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالنَّوَاصِي مَقْصُودُ الْكَلَامِ وَالنَّاصِيَةُ مَا أُخِذَتْ لِنَفْسِ كَوْنِهَا/ نَاصِيَةً وَإِنَّمَا أُخِذَتْ لِيَصِيرَ صَاحِبُهَا مَأْخُوذًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَقْصُودِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِمْ وَقَدَمِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ جَانِبِ ظُهُورِهِمْ فَيَرْبِطُ بِنَوَاصِيهِمْ أَقْدَامَهُمْ مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ فَتَخْرُجُ صُدُورُهُمْ نَتَأً وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جَانِبِ وُجُوهِهِمْ فَتَكُونُ رُءُوسُهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ وَنَوَاصِيهِمْ فِي أَصَابِعِ أَرْجُلِهِمْ مَرْبُوطَةً الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسْحَبُونَ سَحْبًا فَبَعْضُهُمْ يُؤْخَذُ بِنَاصِيَتِهِ وَبَعْضُهُمْ يُجَرُّ بِرِجْلِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وأوضح. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 43]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
وَالْمَشْهُورُ أن هاهنا إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ جَهَنَّمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي مَوَاضِعَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
مَعْنَاهُ هَذِهِ صِفَةُ جَهَنَّمَ فَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَ الْمُضَافِ وَيَكُونُ مَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ:
الْكَلَامُ عِنْدَ النَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ قَدْ تَمَّ، وَقَوْلُهُ: هذِهِ جَهَنَّمُ لِقُرْبِهَا كَمَا يُقَالُ هَذَا زَيْدٌ قَدْ وَصَلَ إِذَا قَرُبَ مَكَانُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ هَذِهِ قَرِيبَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ عَنْهُمْ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: يُكَذِّبُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَوْ كَانَ بِإِضْمَارٍ يُقَالُ، لَقَالَ تَعَالَى لَهُمْ: هَذِهِ جَهَنَّمُ التي يكذب بِهَا الْمُجْرِمُونَ لِأَنَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَا يبقى مكذب،(29/368)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يُضْمَرُ فِيهِ: كَانَ يُكَذِّبُ. وقوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 44]
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الْكَهْفِ: 29] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ بُعْدٍ شَيْءٌ مَائِعٌ هُوَ صَدِيدُهُمُ الْمَغْلِيُّ فَيَظُنُّونَهُ مَاءٌ، فَيَرِدُونَ عَلَيْهِ كَمَا يَرِدُ الْعَطْشَانُ فَيَقَعُونَ وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ شُرْبَ الْهِيمِ، فَيَجِدُونَهُ أَشَدَّ حَرًّا فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْعَطْشَانَ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَاءٍ مَالِحٍ لَا يَبْحَثُ عَنْهُ وَلَا يَذُوقُهُ، وَإِنَّمَا يَشْرَبُهُ عَبًّا فَيَحْرِقُ فُؤَادَهُ وَلَا يُسَكِّنُ عَطَشَهُ. وَقَوْلُهُ: حَمِيمٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُعِلَ فِيهِ مِنَ الْإِغْلَاءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آنٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَكَأَنَّهُ حَمَتْهُ النَّارُ فَصَارَ فِي غَايَةِ السُّخُونَةِ وَآنَ الْمَاءُ إِذَا انْتَهَى فِي الْحَرِّ نِهَايَةً. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة الرحمن (55) : آية 45]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِنَ الْآلَاءِ فَكَيْفَ قَالَ: فَبِأَيِّ آلاءِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. تُكَذِّبانِ فَتَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] هِيَ الْجِنَانُ ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْآلَاءَ لَا تُرَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْجِنَانَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْإِيمَانُ بِهَا بِالْغَيْبِ، فَلَا/ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ مِثْلَ مَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ هَيْئَةِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالنَّجْمِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُدْرَكُ وَيُشَاهَدُ، لَكِنَّ النَّارَ وَالْجَنَّةَ ذُكِرَتَا لِلتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ فَبِأَيِّهِمَا تُكَذِّبَانِ فَتَسْتَحِقَّانِ الْعَذَابَ وَتُحْرَمَانِ الثَّوَابَ. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 47]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)
وَفِيهِ لَطَائِفُ: الْأُولَى: التَّعْرِيفُ فِي عذاب جهنم قال: هذِهِ جَهَنَّمُ [الرحمن: 43] وَالتَّنْكِيرُ فِي الثَّوَابِ بِالْجَنَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي لَا تُحَدُّ وَنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ آخِرَ الْعَذَابِ جَهَنَّمُ وَأَوَّلَ مَرَاتِبِ الثَّوَابِ الْجَنَّةُ ثُمَّ بَعْدَهَا مَرَاتِبُ وَزِيَادَاتٌ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] أَنَّ الْخَوْفَ خَشْيَةٌ سَبَبُهَا ذُلُّ الْخَاشِي، وَالْخَشْيَةُ خَوْفٌ سَبَبُهُ عَظَمَةُ الْمَخْشِيِّ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم، بل لعظمة جانب الله، وكذلك قوله: مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: 21] أَيْ لَوْ كَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْعَالِمَ بِالْمُنَزَّلِ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ فِي الْقُوَّةِ وَالِارْتِفَاعِ لَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْخَشْيَةَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الشَّيْخَ لِلسَّيِّدِ وَالرَّجُلِ الْكَبِيرِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَعْنَى الْعَظَمَةِ فِي خ ش ي، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَوْفِ: وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها [طه: 21] لَمَّا كَانَ الْخَوْفُ يُضْعِفُ(29/369)
فِي مُوسَى، وَقَالَ: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ [العنكبوت: 33] وقال: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء: 14] وقال إني: خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مَرْيَمَ: 5] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تقاليب خ وف فَإِنَّ قَوْلَكَ خَفِيَ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْخَافِي فِيهِ ضُعْفٌ وَالْأَخْيَفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى مَخُوفٌ وَمَخْشِيٌّ، وَالْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ خَائِفٌ وَخَاشٍ، لِأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ رَآهَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ فَهُوَ خَائِفٌ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى حَضْرَةِ اللَّهِ رَآهَا فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ فَهُوَ خَاشٍ، لَكِنَّ دَرَجَةَ الْخَاشِي فَوْقَ دَرَجَةِ الْخَائِفِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ جَعَلَهُ مُنْحَصِرًا فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ فَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَوَائِجِ لَا يَتْرُكُونَ خَشْيَتَهُ، بَلْ تَزْدَادُ خَشْيَتُهُمْ، وَأَمَّا الَّذِي يَخَافُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفْقِرُهُ أَوْ يَسْلُبُ جَاهَهُ، فَرُبَّمَا يَقِلُّ خَوْفُهُ إِذَا أَمِنَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وَإِذَا كَانَ هَذَا لِلْخَائِفِ فَمَا ظَنُّكَ بِالْخَاشِي؟ الثَّالِثَةُ:
لَمَّا ذَكَرَ الْخَوْفَ ذَكَرَ الْمَقَامَ، وَعِنْدَ الْخَشْيَةِ ذَكَرَ اسْمَهُ الْكَرِيمَ فَقَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ وَقَالَ: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَشْيَةُ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ»
لِأَنَّهُ يَعْرِفُ رَبَّهُ بِالْعَظَمَةِ فَيَخْشَاهُ. وَفِي مَقَامِ رَبِّهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَقَامُ رَبِّهِ أَيِ الْمَقَامُ الَّذِي يَقُومُ هُوَ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَهُوَ مَقَامُ عِبَادَتِهِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَعْبَدُ اللَّهِ وَهَذَا مَعْبَدُ الْبَارِي أَيِ الْمَقَامُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهِ وَالثَّانِي: مَقَامُ رَبِّهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ اللَّهُ قَائِمٌ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: / أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرَّعْدِ: 33] أَيْ حَافِظٌ وَمُطَّلِعٌ أَخْذًا مِنَ الْقَائِمِ عَلَى الشَّيْءِ حَقِيقَةً الْحَافِظِ لَهُ فَلَا يَغِيبُ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَقَامٌ مُقْحَمٌ يُقَالُ: فُلَانٌ يَخَافُ جَانِبَ فُلَانٍ أَيْ يَخَافُ فُلَانًا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ غَايَةَ الظُّهُورِ بَيْنَ الْخَائِفِ وَالْخَاشِي، لِأَنَّ الْخَائِفَ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَالْخَاشِي لَوْ قِيلَ لَهُ: افْعَلْ مَا تُرِيدُ فَإِنَّكَ لَا تُحَاسَبُ وَلَا تُسْأَلُ عَمَّا تَفْعَلُ لَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ التَّعْظِيمِ وَالْخَائِفُ رُبَّمَا كَانَ يُقْدِمُ عَلَى مَلَاذِّ نَفْسِهِ لَوْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ وَكَيْفَ لَا، وَيُقَالُ: خَاصَّةُ اللَّهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ سَابِحُونَ فِي مُطَالَعَةِ جَمَالِهِ غَائِصُونَ فِي بِحَارِ جَلَالِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قَرُبَ الْخَائِفُ مِنَ الْخَاشِي وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: جَنَّتانِ وهذه اللطيفة نبينها بعد ما نَذْكُرُ مَا قِيلَ فِي التَّثْنِيَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
وَمَهْمَهَيْنِ سَرَتْ مَرَّتَيْنِ ... قَطَعْتُهُ بِالسَّهْمِ لَا السَّهْمَيْنِ
فَقَالَ: أَرَادَ مَهْمَهًا وَاحِدًا بِدَلِيلِ تَوْحِيدِ الضَّمِيرِ فِي قَطَعْتُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِالسَّهْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَهْمَهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَهْمَهًا وَاحِدًا لَمَا كَانُوا فِي قَطَعْتُهُ يَقْصِدُونَ جَدَلًا، بَلْ يَقْصِدُونَ التَّعَجُّبَ وَهُوَ إِرَادَتُهُ قَطْعَ مَهْمَهَيْنِ بِأُهْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَهْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِنَ الْعَزْمِ الْقَوِيِّ، وَأَمَّا الضَّمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى مَفْهُومٍ تَقْدِيرُهُ قَطَعْتُ كِلَيْهِمَا وَهُوَ لَفْظٌ مَقْصُورٌ مَعْنَاهُ التَّثْنِيَةُ وَلَفْظُهُ لِلْوَاحِدِ، يُقَالُ: كِلَاهُمَا مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، قَالَ تَعَالَى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها [الْكَهْفِ: 33] فَوَحَّدَ اللَّفْظَ وَلَا حَاجَةَ هاهنا إِلَى التَّعَسُّفِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ جَنَّتَيْنِ وَجِنَانًا عَدِيدَةً، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ بعد: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وَقَالَ: فِيهِمَا. وَالثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا جَنَّتَانِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا جَنَّةٌ لِلْجِنِّ وَجَنَّةٌ لِلْإِنْسِ لِأَنَّ الْمُرَادَ هَذَانِ النَّوْعَانِ وَثَانِيهِمَا: جَنَّةٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ الْمَعَاصِي لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَثَالِثُهَا: جَنَّةٌ هِيَ جَزَاءٌ وَجَنَّةٌ أُخْرَى زِيَادَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: جَنَّتَانِ جَنَّةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْأُخْرَى رُوحِيَّةٌ فَالْجِسْمِيَّةُ فِي نَعِيمٍ وَالرُّوحِيَّةُ فِي رَوْحٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ تعالى: فَرَوْحٌ(29/370)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَائِفَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقَرَّبُ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَجَنَّةِ نَعِيمٍ وَأَمَّا اللَّطِيفَةُ: فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُجْرِمِ إِنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَ نَارٍ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، وَهُمَا نَوْعَانِ ذَكَرَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْخَائِفُ جَنَّتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ مَا ذَكَرَ فِي حَقِّ الْمُجْرِمِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ فَيُفَارِقُونَ عَذَابًا وَيَقَعُونَ فِي الْآخَرِ، وَلَمْ يقل: هاهنا يَطُوفُونَ بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ بَلْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُلُوكًا وَهُمْ فِيهَا يُطَافُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطَافُ بِهِمُ احْتِرَامًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا فِي حَقِّهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: 15] أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَالْجَنَّاتِ، فَهِيَ لِاتِّصَالِ أَشْجَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا وَعَدَمِ وُقُوعِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا كَمَهَامِّهِ وَقِفَارٍ صَارَتْ كَجَنَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِسِعَتِهَا وَتَنَوُّعِ أَشْجَارِهَا وَكَثْرَةِ مَسَاكِنِهَا كَأَنَّهَا جَنَّاتٌ، وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا تَلْتَذُّ بِهِ الرُّوحُ وَالْجِسْمُ كَأَنَّهَا جَنَّتَانِ، فَالْكُلُّ عائد إلى صفة مدح. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 48 الى 49]
ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49)
هِيَ جَمْعُ فَنَنٍ أَيْ ذَوَاتَا أَغْصَانٍ أَوْ جَمْعُ فَنٍّ أَيْ فِيهِمَا فُنُونٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الثِّمَارِ. فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْوَجْهَيْنِ أَقْوَى؟ نَقُولُ: الْأَوَّلُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَفْنَانَ فِي جَمْعِ فَنَنٍ هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْفُنُونُ فِي جَمْعِ الْفَنِّ كَذَلِكَ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ الْأَفْنَانَ وَالْفُنُونَ جَمْعُ فَنٍّ بَلْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَالْأَفْعَالُ فِي فَعَلَ كَثِيرٌ وَالْفُعُولُ فِي فَعَلَ أَكْثَرُ ثَانِيهِمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] مُسْتَقِلٌّ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ ثَابِتًا لَا تَفَاوُتَ فِيهِ ذِهْنًا وَوُجُودًا أَكْثَرُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُمْدَحُ بِالْأَفْنَانِ وَالْجَنَّاتُ فِي الدُّنْيَا ذَوَاتُ أَفْنَانٍ كَذَلِكَ؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَنَّاتِ فِي الْأَصْلِ ذَوَاتُ أَشْجَارٍ، وَالْأَشْجَارُ ذَوَاتُ أَغْصَانٍ، وَالْأَغْصَانُ ذَوَاتُ أَزْهَارٍ وَأَثْمَارٍ، وَهِيَ لِتَنَزُّهِ النَّاظِرِ إِلَّا أَنَّ جَنَّةَ الدُّنْيَا لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ وَجَنَّةَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا مَا فِيهِ اللَّذَّةُ وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَلَا، وَأُصُولُ الْأَشْجَارِ وَسُوقُهَا أُمُورٌ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا مَانِعَةٌ لِلْإِنْسَانِ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي الْبُسْتَانِ كَيْفَمَا شَاءَ، فَالْجَنَّةُ فِيهَا أَفْنَانٌ عَلَيْهَا أَوْرَاقٌ عَجِيبَةٌ، وَثِمَارٌ طَيِّبَةٌ مِنْ غَيْرِ سُوقٍ غِلَاظٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصِفِ الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا فِيهِ اللَّذَّةُ بِقَوْلِهِ: ذَواتا أَفْنانٍ أَيِ الْجَنَّةُ هِيَ ذَاتُ فَنَنٍ غَيْرِ كَائِنٍ عَلَى أَصْلٍ وَعِرْقٍ بَلْ هِيَ وَاقِفَةٌ فِي الْجَوِّ وَأَهْلُهَا مِنْ تَحْتِهَا وَالثَّانِي: مِنَ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلْأَفْنَانِ لِلتَّكْثِيرِ أو للتعجب. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 50 الى 53]
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53)
أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَوَاكِهِ نَوْعَانِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ بَعْضُهَا يُذْكَرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
... فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ(29/371)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
وَرُمَّانٌ [الرحمن: 66- 68] وبعضها يذكر هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وفِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وفِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ كُلُّهَا أَوْصَافٌ لِلْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَهُوَ كَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ تَقْدِيرُهُ: جَنَّتَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، ثَابِتٌ فِيهِمَا عَيْنَانِ، كَائِنٌ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي فَصْلِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعَ أَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْعَذَابِ مَا فَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ بِهَا حَيْثُ قَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ [الرَّحْمَنِ: 35] مَعَ أَنَّ إِرْسَالَ نُحَاسٍ غَيْرُ/ إِرْسَالِ شُوَاظٍ، وَقَالَ:
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرَّحْمَنِ: 44] مَعَ أَنَّ الْحَمِيمَ غَيْرُ الْجَحِيمِ، وَكَذَا قَالَ تَعَالَى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: 43] وَهُوَ كَلَامٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] كَلَامٌ آخَرُ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ؟ نَقُولُ: فِيهِ تَغْلِيبُ جَانَبِ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ آيَاتِ الْعَذَابِ سَرَدَهَا سَرْدًا وَذَكَرَهَا جُمْلَةً لِيُقْصِرَ ذِكْرَهَا، وَالثَّوَابُ ذَكَرَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَطِيبُ لِلسَّامِعِ فَقَالَ بِالْفَصْلِ وَتَكْرَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: فِيهِما عَيْنانِ، فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ لِأَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالتَّطْوِيلُ بِذِكْرِ اللَّذَّاتِ مُسْتَحْسَنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُهُ:
فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ مَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ، أَوْ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَوَاكِهِ زَوْجَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ زَوْجٌ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ فَفِيهِمَا جَمِيعًا زَوْجَانِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، وَهَذَا إِذَا جَعَلْنَا الْكِنَايَتَيْنِ فِيهِمَا لِلزَّوْجَيْنِ، أَوْ نَقُولُ: مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ لِبَيَانِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَمِثَالُهُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَائِنًا فِي شَيْءٍ كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ مِنَ الشَّرْقِ رَجُلٌ، أَيْ فِيهَا رَجَلٌ مِنَ الشَّرْقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا زَوْجَانِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالصِّفَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، أَيْ كَائِنٌ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ، وَذَلِكَ الْكَائِنُ زَوْجَانِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِيمَا تَكُونُ مِنْ دَاخِلِهِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَائِنٌ فِي الشَّيْءِ غَيْرُهُ، كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ مِنْ كُلِّ سَاكِنٍ، فَإِذَا قُلْنَا: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ الثَّالِثُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْأَفْنَانِ لَوْ قَالَ: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ كَانَ مُتَنَاسِبًا لِأَنَّ الْأَغْصَانَ عَلَيْهَا الْفَوَاكِهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعَيْنَيْنِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَّصِلِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؟ نَقُولُ: جَرَى ذِكْرُ الْجَنَّةِ عَلَى عَادَةِ الْمُتْنَعِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْبُسْتَانَ لَا يُبَادِرُونَ إِلَى أَكْلِ الثِّمَارِ بَلْ يُقَدِّمُونَ التَّفَرُّجَ عَلَى الْأَكْلِ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي بُسْتَانِ الدُّنْيَا لَا يَأْكُلُ حَتَّى يَجُوعَ وَيَشْتَهِيَ شَهْوَةً مُؤْلِمَةً فَكَيْفَ فِي الْجَنَّةِ فَذَكَرَ مَا يَتِمُّ بِهِ النُّزْهَةُ وَهُوَ خُضْرَةُ الْأَشْجَارِ، وَجَرَيَانُ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَكُونُ بَعْدَ النُّزْهَةِ وَهُوَ أَكْلُ الثِّمَارِ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَأْتِي بِالْآيِ بِأَحْسَنِ الْمَعَانِي في أبين المباني. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 54 الى 55]
مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
وَفِيهِ مَسَائِلُ نَحْوِيَّةٌ وَلُغَوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنَ النَّحْوِيَّةِ: هُوَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ (مُتَّكِئِينَ) حَالٌ وَذُو الْحَالِ مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَلِمَنْ خافَ(29/372)
مَقامَ رَبِّهِ
[الرحمن: 46] وَالْعَامِلُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْجَارَّةُ تَقْدِيرُهُ لَهُمْ فِي حَالِ الِاتِّكَاءِ جَنَّتَانِ/ وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنَّمَا حَمْلُهُ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَالٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ لَهُمْ حَالَ الِاتِّكَاءِ بَلْ هِيَ لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ فَهِيَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَالٌ وَذُو الْحَالِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاكِهَةُ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] يَدُلُّ عَلَى مُتَفَكِّهِينَ بِهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَتَفَكَّهُ الْمُتَفَكِّهُونَ بِهَا، مُتَّكِئِينَ، وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَكْلَ إِنْ كَانَ ذَلِيلًا كَالْخَوَلِ وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْغِلْمَانِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ لِدَفْعِ الْجُوعِ يَأْكُلُ قَاعِدًا وَلَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا إِلَّا عَزِيزٌ مُتَفَكِّهٌ لَيْسَ عِنْدَهُ جُوعٌ يُقْعِدُهُ لِلْأَكْلِ، وَلَا هُنَالِكَ مَنْ يَحْسِمُهُ، فَالتَّفَكُّهُ مُنَاسِبٌ لِلِاتِّكَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ: عَلى فُرُشٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَيِّ فِعْلٍ هُوَ؟ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي مُتَّكِئِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشٍ كَمَا كَانَ يُقَالُ: فُلَانٌ اتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ أَوْ عَلَى فَخْذَيْهِ فَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ فَمَاذَا هُوَ؟ نَقُولُ: مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِهِ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّهُ الْكَائِنُونَ عَلَى فُرُشٍ مُتَّكِئِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مَا يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اتِّكَاؤُهُمْ عَلَى الْفُرُشِ غَيْرَ أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا ذَكَرْنَا لِيَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِمَا تَحْتَهُمْ وَهُمْ بِجَمِيعِ بَدَنِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْعَمُ وَأَكْرَمُ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فُرُشًا كَثِيرَةً لَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِرَاشًا فَلِكُلِّهِمْ فُرُشٌ عَلَيْهَا كَائِنُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُغَوِيَّةٌ: الْإِسْتَبْرَقُ هُوَ الدِّيبَاجُ الثَّخِينُ وَكَمَا أَنَّ الدِّيبَاجَ مُعَرَّبٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْعَجَمِ، اسْتَعْمَلَ الِاسْمَ الْمُعْجَمَ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفًا وَهُوَ أَنَّ اسْمَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ ستبرك بِمَعْنَى ثَخِينٍ تَصْغِيرُ «ستبر» فَزَادُوا فِيهِ هَمْزَةً مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ، وَبَدَّلُوا الْكَافَ بِالْقَافِ، أَمَّا الْهَمْزَةُ، فَلِأَنَّ حَرَكَاتِ أَوَائِلِ الكلمة في لسان العجم غير مبنية فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ فَصَارَتْ كَالسُّكُونِ، فَأَثْبَتُوا فِيهِ هَمْزَةً كَمَا أَثْبَتُوا هَمْزَةَ الْوَصْلِ عِنْدَ سُكُونِ أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَعْضَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ وَصْلٍ وَقَالُوا: مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَالْأَكْثَرُونَ جَعَلُوهَا هَمْزَةَ قَطْعٍ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكٌ لَكِنْ بِحَرَكَةٍ فَاسِدَةٍ فَأَتَوْا بِهَمْزَةٍ تُسْقِطُ عَنْهُمُ الْحَرَكَةَ الْفَاسِدَةَ وَتُمَكِّنُهُمْ مِنْ تَسْكِينِ الْأَوَّلِ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْحَرَكَةِ، فَالْعَوْدُ إِلَى السُّكُونِ أَقْرَبُ، وَأَوَاخِرُ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْوَقْفِ تُسَكَّنُ وَلَا تُبْدَلُ حَرَكَةٌ بِحَرَكَةٍ، وَأَمَّا الْقَافُ فَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْكَافَ لَاشْتَبَهَ ستبرك بِمَسْجِدِكَ وَدَارِكَ، فَأَسْقَطُوا مِنْهُ الْكَافَ الَّتِي هِيَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ فِي آخِرِ الْكَلِمِ لِلْخِطَابِ وَأَبْدَلُوهَا قَافًا ثُمَّ عَلَيْهِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنَّ اللَّفْظَةَ فِي أَصْلِهَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَ الْعَرَبِ بِلُغَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أُنْزِلَ بِلُغَةٍ هِيَ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِلِسَانٍ لَا يَخْفَى مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ فِيهِ لُغَةً لَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِهَا، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُهُ لِعَدَمِ مُطَاوَعَةِ لِسَانِهِمُ التَّكَلُّمَ بِهَا فَعَجْزُهُمْ عَنْ مِثْلِهِ لَيْسَ إِلَّا لِمُعْجِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَعْنَوِيَّةٌ الِاتِّكَاءُ مِنَ الْهَيْئَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَفَرَاغِ الْقَلْبِ، فَالْمُتَّكِئُ تَكُونُ أُمُورُ جِسْمِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَأَحْوَالُ قَلْبِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ الْعَلِيلَ يَضْطَجِعُ وَلَا يَسْتَلْقِي أَوْ يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ بِحَيْثُ يَضَعُ كَفَّهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَمِرْفَقَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيُجَافِي جَنْبَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ فَذَاكَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَشْغُولُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ فَتَحَرُّكُهُ تَحَرُّكُ مُسْتَوْفِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ شَرَفِهَا فَإِنَّ مَا تَكُونُ(29/373)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
بَطَائِنُهَا مِنَ الْإِسْتَبْرَقِ تَكُونُ ظَهَائِرُهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَكَأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ مِنْ سُنْدُسٍ وَهُوَ الدِّيبَاجُ الرَّقِيقُ النَّاعِمُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا يُظْهِرُونَ الزِّينَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا الْبَطَائِنَ كَالظَّهَائِرِ، لِأَنَّ غَرَضَهُمْ إِظْهَارُ الزِّينَةِ وَالْبَطَائِنُ لَا تَظْهَرُ، وَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى الْمُسَبَّبُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ فِي جَعْلِ الْبَطَائِنِ مِنَ الدِّيبَاجِ مَقْصُودُهُمْ وَهُوَ الْإِظْهَارُ تَرَكُوهُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِكْرَامِ وَالتَّنْعِيمِ فَتَكُونُ الْبَطَائِنُ كَالظَّهَائِرِ فَذَكَرَ الْبَطَائِنَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَتِهَا لِجَنَّةِ دَارِ الدُّنْيَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّمَرَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرَةِ وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الِاتِّكَاءِ يَبْعُدُ عَنْ رُءُوسِهَا وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ مُتَّكِئٌ وَالثَّمَرَةُ تَنْزِلُ إِلَيْهِ ثَانِيهَا: فِي الدُّنْيَا مَنْ قَرُبَ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةٍ بَعُدَ عَنِ الْأُخْرَى وَفِي الْآخِرَةِ كُلُّهَا دَانٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ وَاحِدٍ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمُسْتَقِرُّ فِي جَنَّةٍ عِنْدَهُ جَنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَجَائِبَ كُلَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْجَنَّةِ فَكَانَ أَشْجَارُهَا دَائِرَةً عَلَيْهِمْ سَاتِرَةً إِلَيْهِمْ وَهُمْ سَاكِنُونَ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّاتِهَا وَفِي الدُّنْيَا الْإِنْسَانُ مُتَحَرِّكٌ وَمَطْلُوبُهُ سَاكِنٌ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسَلْ وَلَمْ يَتَقَاعَدْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَعَى فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرَاتِ انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى سُكُونٍ لَا يُحْوِجُهُ شَيْءٌ إِلَى حَرَكَةٍ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ إِنْ تَحَرَّكُوا تَحَرَّكُوا لَا لِحَاجَةٍ وَطَلَبٍ، وَإِنْ سَكَنُوا سَكَنُوا لَا لِاسْتِرَاحَةٍ بَعْدَ التَّعَبِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ تَصِيرُ لَهُ الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَاكِنًا فِي بَيْتِهِ وَيَأْتِيهِ الرِّزْقُ مُتَحَرِّكًا إِلَيْهِ دَائِرًا حَوَالَيْهِ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آلِ عِمْرَانَ: 37] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْجَنَّتَانِ إِنْ كَانَتَا جِسْمِيَّتَيْنِ فَهُوَ أَبَدًا يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ هُوَ يَتَنَاوَلُ ثِمَارَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا رُوحِيَّةً وَالْأُخْرَى جِسْمِيَّةً فَلِكُلِّ واحد منهما فواكه وفرش تليق بها. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 56 الى 57]
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
وَفِيهِ مسائل:
الْأَوَّلُ: فِي التَّرْتِيبِ وَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَيَّنَ الْمَسْكَنَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَنَزَّهُ بِهِ فَإِنَّ مَنْ يَدْخُلُ بُسْتَانًا يَتَفَرَّجُ أَوَّلًا فَقَالَ: ذَواتا أَفْنانٍ ... فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: 48- 50] ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْمَأْكُولِ فَقَالَ: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: 52] ثُمَّ ذَكَرَ مَوْضِعَ الرَّاحَةِ بَعْدَ التَّنَاوُلِ وَهُوَ الْفِرَاشُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِي الْفِرَاشِ مَعَهُ.
الثَّانِي: فِيهِنَّ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: إِلَى الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ أَيْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ ثَانِيهَا: إِلَى الْفِرَاشِ أَيْ فِي الْفُرُشِ قَاصِرَاتٌ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْقَاصِرَاتِ بِكَوْنِهِنَّ فِي الْآلَاءِ مَعَ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْآلَاءِ وَالْعَيْنَيْنِ فِيهِمَا وَالْفَوَاكِهُ كَذَلِكَ لَا يَبْقَى لَهُ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْفُرُشَ جَعَلَهَا ظَرْفَهُمْ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: 54] وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَيْهَا بقوله: بَطائِنُها [الرحمن: 54] وَلَمْ يَقُلْ: بَطَائِنُهُنَّ، فَقَوْلُهُ فِيهِنَّ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلضَّمِيرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ [الرحمن: 70] وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ الْفُرُشِ فَالْأَصَحُّ إِذَنْ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلى الجنتين، وجمع الضمير هاهنا وثنى في قوله: فِيهِما عَيْنانِ [الرحمن: 50](29/374)
و: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: 52] وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَنَّةَ لَهَا اعْتِبَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: اتِّصَالُ أَشْجَارِهَا وَعَدَمُ وُقُوعِ الْفَيَافِي وَالْمَهَامَةِ فِيهَا وَالْأَرَاضِي الْغَامِرَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ وَثَانِيهَا:
اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات، فإن فيها ما في الدنيا، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف، ومالا يعرف، وفيها ما يقدر على وصفه، وفيها مالا يقدر، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها عَلَى النَّوْعَيْنِ كَأَنَّهَا جَنَّتَانِ وَثَالِثُهَا: لِسِعَتِهَا وَكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا كَأَنَّهَا جَنَّاتٌ، فَهِيَ مِنْ وَجْهٍ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّتَانِ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّاتٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: اجْتِمَاعُ النِّسْوَانِ لِلْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَزْوَاجِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْفِرَاشِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ لِضِيقِ الْمَكَانِ، أَوْ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَوْ دَلِيلِ ذِلَّةِ النِّسْوَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي بَيْتٍ إِلَّا إِذَا كُنَّ جَوَارِيَ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِنَّ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةَ النَّفْسِ كَثِيرَةَ الْمَالِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَزْدَادُ بِالْحُسْنِ الَّذِي فِي الْأَزْوَاجِ تَزْدَادُ بِسَبَبِ الْعَظَمَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَظَايَا فِي الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُ فِيهِنَّ حُسْنُ الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ لَهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ فَتَزْدَادُ اللَّذَّةُ بِسَبَبِ كَمَالِهَا، فَإِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ فَتَصِيرُ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ كَثِيرَةً مِنْ حَيْثُ تَفَرُّقِ الْمَسَاكِنِ فِيهَا فَقَالَ: فِيهِنَّ وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِيهَا تَفَرُّقُ الْمَسَاكِنِ دَلِيلًا لِلْعَظَمَةِ وَاللَّذَّةِ فَقَالَ فِيهِما [الرحمن: 50] وَهَذَا مِنَ اللَّطَائِفِ الثَّالِثُ: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ حُذِفَ، وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَكَانَهُ، وَالْمَوْصُوفُ النِّسَاءُ أَوِ الْأَزْوَاجُ كَأَنَّهُ قَالَ فِيهِنَّ، نِسَاءٌ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ:
فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ إِلَّا بِأَوْصَافِهِنَّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْجِنْسِ فِيهِنَّ، فَقَالَ تَارَةً: وَحُورٌ عِينٌ [الْوَاقِعَةِ: 22] / وَتَارَةً: عُرُباً أَتْراباً [الرحمن: 56] وَتَارَةً: قاصِراتُ الطَّرْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ نِسَاءَ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَخْدِرِهِنَّ وَتَسَتُّرِهِنَّ، فَلَمْ يَذْكُرْهُنَّ بِاسْمِ الْجِنْسِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَكْشِفُ مِنَ الْحَقِيقَةِ مَا لَا يَكْشِفُهُ الْوَصْفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ الْآكِلُ الشَّارِبُ لَا تَكُونُ بَيِّنَتُهُ بِالْأَوْصَافِ الْكَثِيرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا بينته بقوله: حَيَوَانٌ وَإِنْسَانٌ وَثَانِيهِمَا: إِعْظَامًا لَهُنَّ لِيَزْدَادَ حُسْنُهُنَّ فِي أَعْيُنِ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ فَإِنَّ بَنَاتِ الْمُلُوكِ لَا يُذْكَرْنَ إِلَّا بِالْأَوْصَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قاصِراتُ الطَّرْفِ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ أَيِ الْمَانِعَاتُ أَعْيُنَهُنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْغَيْرِ، أَوْ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ كَوْنِ أَعْيُنِهِنَّ قَاصِرَةً لَا طَمَاحَ فِيهَا لِلْغَيْرِ، أَقُولُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْقَصْرِ إِذِ الْقَصْرُ مَدْحٌ وَالْقُصُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُنَّ قَصَرْنَ أَبْصَارَهُنَّ، فَأَبْصَارُهُنَّ مَقْصُورَةٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْقَصْرَ مَدْحٌ وَالْقُصُورَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ [الرَّحْمَنِ: 72] فَهُنَّ مَقْصُورَاتٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هُنَّ قَاصِرَاتٌ أَبْصَارَهُنَّ كَمَا يَكُونُ شُغْلُ الْعَفَائِفِ، وَهُنَّ قَاصِرَاتُ أَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُخَدَّرَاتِ لِأَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ وَلِأَبْصَارِهِنَّ عَنِ الطِّمَاحِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِعَظَمَتِهِنَّ وَعَفَافِهِنَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ لَهَا رَادِعٌ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا يَكُونُ لَهَا أَوْلِيَاءُ يَكُونُ فِيهَا نَوْعُ هَوَانٍ، وَإِذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَعِزَّةٌ امْتَنَعَتْ عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِنَّ، وَإِذَا كُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَنْظُرْنَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَفَائِفُ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(29/375)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
مَقْصُوراتٌ منعهن أولياؤهن وهاهنا وَلِيُّهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عِفَّتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ ثُمَّ تَمَامُ اللُّطْفِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِفَّةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَذَكَرَ فِي أَعْلَى الْجَنَّتَيْنِ قَاصِرَاتٍ وَفِي أَدْنَاهُمَا مَقْصُورَاتٍ، وَالذَّيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُورَاتِ يَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ أَنَّهُنَّ يُوصَفْنَ بِالْمُخَدَّرَاتِ لَا بِالْمُتَخَدِّرَاتِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُنَّ خَدَّرَهُنَّ خَادِرٌ لَهُنَّ غَيْرُهُنَّ كَالَّذِي يَضْرِبُ الْخِيَامَ وَيُدْلِي السِّتْرَ، بِخِلَافِ مَنْ تَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهَا وَتُغْلِقُ بَابَهَا بِيَدِهَا، وَسَنَذْكُرُ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْدُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قاصِراتُ الطَّرْفِ فِيهَا دَلَالَةُ عِفَّتِهِنَّ، وَعَلَى حُسْنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أعينهن، فيجبن أَزْوَاجَهُنَّ حُبًّا يَشْغَلُهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْحَيَاءِ لِأَنَّ الطَّرْفَ حَرَكَةُ الْجَفْنِ، وَالْحُورِيَّةُ لَا تُحَرِّكُ جَفْنَهَا وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: لَمْ يَفْرَعْهُنَّ ثَانِيهَا: لَمْ يُجَامِعْهُنَّ ثَالِثُهَا: لَمْ يَمْسَسْهُنَّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى حَالِهِنَّ وَأَلْيَقُ بِوَصْفِ كَمَالِهِنَّ، لَكِنْ لَفْظُ الطَّمْثِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسَّ لَذَكَرَ اللَّفْظَ الَّذِي يُسْتَحْسَنُ، وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: 237] وَقَالَ:
فَاعْتَزِلُوا [الْبَقَرَةِ: 222] وَلَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ/ الْإِشْكَالِ بَاقٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى عَنِ الْوَطْءِ فِي الدُّنْيَا بِاللَّمْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءِ: 43] عَلَى الصَّحِيحِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَسَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِالْمَسِّ في قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسَّ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، نَقُولُ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْجِمَاعَ فِي الدُّنْيَا بِالْكِنَايَةِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا قَضَاءً لِلشِّهْوَةِ وَأَنَّهُ يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيَمْنَعُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قُبْحُهُ كَقُبْحِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ هُوَ كَالْأَكْلِ الْكَثِيرِ وَفِي الْآخِرَةِ مُجَرَّدٌ عَنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ، وَكَيْفَ لَا وَالْخَمْرُ فِي الْجَنَّةِ مَعْدُودَةٌ مِنَ اللَّذَّاتِ وَأَكْلُهَا وَشُرْبُهَا دَائِمٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي الدُّنْيَا بِلَفْظٍ مَجَازِيٍّ مَسْتُورٍ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ بِالْكِنَايَةِ إِشَارَةً إِلَى قُبْحِهِ وَفِي الْآخِرَةِ ذَكَرَهُ بِأَقْرَبِ الْأَلْفَاظِ إِلَى التَّصْرِيحِ أَوْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ، لِأَنَّ الطَّمْثَ أَدَلُّ مِنَ الْجِمَاعِ وَالْوِقَاعِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْجَمْعِ وَالْوُقُوعِ إِشَارَةً إِلَى خُلُوِّهِ عَنْ وُجُوهِ الْقُبْحِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ قَبْلَهُمْ؟ قُلْنَا لَوْ قَالَ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ يَكُونُ نَفْيًا لِطَمْثِ الْمُؤْمِنِ إِيَّاهُنَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْجَانِّ مَعَ أَنَّ الْجَانَّ لَا يُجَامِعُ؟ نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْجِنُّ لَهُمْ أَوْلَادٌ وَذُرِّيَّاتٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ هُلْ يُوَاقِعُونَ الْإِنْسَ أَمْ لَا؟ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ يُوَاقِعُونَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَابٌ وَلَا أَنْسَابٌ، فَكَأَنَّ مُوَاقَعَةَ الْإِنْسِ إِيَّاهُنَّ كَمُوَاقَعَةِ الجن من حيث الإشارة إلى نفيها. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 59]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)
وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَشْبِيهٌ بِصَفَائِهِمَا وَثَانِيهِمَا: بِحُسْنِ بَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ وَحُمْرَةِ الْيَاقُوتِ، وَالْمَرْجَانُ صِغَارُ اللُّؤْلُؤِ وَهِيَ أَشَدُّ بَيَاضًا وَضِيَاءً مِنَ الْكِبَارِ بِكَثِيرٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّشْبِيهَ لِبَيَانِ صَفَائِهِنَّ، فَنَقُولُ:
فِيهِ لَطِيفَةٌ هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوصِهِنَّ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَقَوْلَهُ: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ(29/376)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
وَالْمَرْجانُ
إِشَارَةٌ إِلَى صَفَائِهِنَّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَوَّلُ مَا بَدَأَ بِالْعَقْلِيَّاتِ وَخَتَمَ بِالْحِسِّيَّاتِ، كَمَا قُلْنَا: إِنَّ التَّشْبِيهَ لِبَيَانِ مُشَابَهَةِ جِسْمِهِنَّ بِالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ فِي الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيهِ حَيْثُ قَدَّمَ بَيَانَ الْعِفَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحُسْنِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا مَضَى لِأَنَّهُنَّ لَمَّا كُنَّ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ مُمْتَنِعَاتٍ عَنِ الاجتماع بالإنس والجن لم يطمثهن فَهُنَّ كَالْيَاقُوتِ الَّذِي يَكُونُ فِي مَعْدِنِهِ وَالْمَرْجَانِ الْمَصُونِ فِي صَدَفِهِ لَا يَكُونُ قَدْ مَسَّهُ يَدُ لَامِسٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَرَّةً أُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: 49] أَنَّ (كَأَنَّ) الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ لَا تُفِيدُ مِنَ التَّأْكِيدِ مَا تُفِيدُهُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُشَبَّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ، كَانَ مَعْنَاهُ زَيْدٌ يُشْبِهُ الْأَسَدَ، وَإِذَا قُلْتَ كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ فَمَعْنَاهُ يُشْبِهُ أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْأَسَدُ حَقِيقَةً، لَكِنَّ قَوْلَنَا: زَيْدٌ يُشْبِهُ الْأَسَدَ لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي أَنَّهُمَا حَيَوَانَانِ/ وَجِسْمَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَوْلُنَا: زَيْدٌ يُشْبِهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ فَنَقُولُ: إِذَا دَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ زَيْدًا كَالْأَسَدِ عَمِلَتِ الْكَافُ فِي الْأَسَدِ عَمَلًا لَفْظِيًّا وَالْعَمَلُ اللَّفْظِيُّ مَعَ الْعَمَلِ الْمَعْنَوِيِّ، فَكَأَنَّ الْأَسَدَ عُمِلَ بِهِ عَمَلٌ حَتَّى صَارَ زَيْدًا، وَإِذَا قُلْتَ: كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ تَرَكْتَ الْأَسَدَ عَلَى إِعْرَابِهِ فَإِذَنْ هُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى حَالِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَزَيْدٌ يُشَبَّهُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ زَيْدًا إِذَا شُبِّهَ بِأَسَدٍ هُوَ عَلَى حَالِهِ بَاقٍ يَكُونُ أَقْوَى مِمَّا إِذَا شُبِّهَ بِأَسَدٍ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالِهِ، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ نَزَّلَ الْأَسَدَ عَنْ دَرَجَتِهِ فَسَاوَاهُ زَيْدٌ، وَمَنْ قَالَ: كَأَنَّ زَيْدًا الْأَسَدُ رَفَعَ زَيْدًا عَنْ دَرَجَتِهِ حَتَّى سَاوَى الْأَسَدَ، وَهَذَا تدقيق لطيف. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 61]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
وَفِيهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، الثانية: قوله تعالى: إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاءِ: 8] ، الثَّالِثَةُ: قَوْلِهِ تَعَالَى:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وَلْنَذْكُرِ الْأَشْهَرَ مِنْهَا وَالْأَقْرَبَ. أَمَّا الْأَشْهَرُ فَوُجُوهٌ أَحَدُهَا: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ غَيْرُ الْجَنَّةِ، أَيْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ثَانِيهَا: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْإِحْسَانُ فِي الْآخِرَةِ ثَالِثُهَا: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ وَفِي الْعُقْبَى بِالنَّعِيمِ إِلَّا أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى، وَأَمَّا الْأَقْرَبُ فَإِنَّهُ عَامٌّ فَجَزَاءُ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ يُحْسِنَ هُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَلْنَذْكُرْ تَحْقِيقَ الْقَوْلِ فِيهِ وَتَرْجِعُ الْوُجُوهُ كُلُّهَا إِلَى ذَلِكَ، فَنَقُولُ: الْإِحْسَانُ يُسْتَعْمَلُ فِي ثَلَاثِ مَعَانٍ أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ الْحُسْنِ وَإِيجَادُهُ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ:
7] ثَانِيهَا: الْإِتْيَانُ بِالْحُسْنِ كَالْإِظْرَافِ وَالْإِغْرَابِ لِلْإِتْيَانِ بِالظَّرِيفِ وَالْغَرِيبِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَامِ: 160] ثَالِثُهَا: يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَيْ لَا يَعْلَمُهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِحْسَانِ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ وَالثَّالِثُ مَأْخُوذٌ مِنْهُمَا، وَهَذَا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِقَرِينَةِ الِاسْتِعْمَالِ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِرَادَةُ الْعِلْمِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُ الْإِحْسَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى مَعْنًى مُتَّحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ فِيهِمَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أَيْ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَتَى بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ إِلَّا أَنْ يُؤْتَى فِي مُقَابَلَتِهِ بِفِعْلٍ حَسَنٍ، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْحَسَنَ مِنَ الْعَبْدِ لَيْسَ كُلَّ مَا يَسْتَحْسِنُهُ هُوَ، بَلِ الْحُسْنُ هُوَ مَا اسْتَحْسَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ رُبَّمَا يَكُونُ الْفِسْقُ فِي نَظَرِهِ حَسَنًا وَلَيْسَ بِحَسَنٍ بَلِ الْحَسَنُ مَا طَلَبَهُ الله منه،(29/377)
كَذَلِكَ الْحَسَنُ مِنَ اللَّهِ هُوَ كُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ مِمَّا يَطْلُبُهُ الْعَبْدُ كَمَا أَتَى الْعَبْدُ بِمَا يَطْلُبُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: 71] وقوله تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 102] وَقَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] أَيْ مَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَقُولُ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَثْبَتَ/ الْحُسْنَ فِي عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُثْبِتَ اللَّهُ الْحُسْنَ فِيهِ وَفِي أَحْوَالِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَبِالْعَكْسِ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَثْبَتَ الْحُسْنَ فِينَا وَفِي صُوَرِنَا وَأَحْوَالِنَا إِلَّا أَنْ نُثْبِتَ الْحُسْنَ فِيهِ أَيْضًا، لَكِنَّ إِثْبَاتَ الْحُسْنِ فِي اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، فَإِثْبَاتُ الْحُسْنِ أَيْضًا فِي أَنْفُسِنَا وَأَفْعَالِنَا فَنُحَسِّنُ أَنْفُسَنَا بِعِبَادَةِ حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَفْعَالَنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَأَحْوَالَ بَاطِنِنَا بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى، وَإِلَى هَذَا رَجَعَتِ الْإِشَارَةُ، وَوَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ حُسْنِ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُبْحِ وُجُوهِ الْكَافِرِينَ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ أَنْ تَقُولَ: عَلَى جَزَاءِ مَنْ أَتَى بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ إِلَّا أَنْ يُثَبِّتَ اللَّهُ فِيهِ الْحُسْنَ، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ حَسَنًا وَحَالَهُ حَسَنًا، ثُمَّ فِيهِ لَطَائِفُ:
اللَّطِيفَةُ الْأُولَى: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنِ الْعَوَامِّ فِي الْآخِرَةِ، وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْخَوَاصِّ فِيهَا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وَالْمُؤْمِنُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يُثَابُ بِالْجَنَّةِ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْإِحْسَانُ جَزَاءً لَهُ وَمَنْ جَازَى عَبْدًا عَلَى عَمَلِهِ لَا يَأْمُرُهُ بِشُكْرِهِ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَوْ بَقِيَ فِي الْآخِرَةِ فَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ الْقِيَامَ بِالتَّكْلِيفِ لَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَالْعِقَابُ تَرْكُ الْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا عَبَدَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا مَا دَامَ وَبَقِيَ يَلِيقُ بِكَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ مَا دَامَ وَبَقِيَ، فَلَا عِقَابَ عَلَى تركه بلا تكليف وأما الثاني: فنقول:
خَاصَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا لِنِعَمٍ قَدْ سَبَقَتْ لَهُ عَلَيْنَا، فَهَذَا الَّذِي أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءَ نِعْمَةٍ وَإِحْسَانٍ جَدِيدٍ فَلَهُ عَلَيْنَا شُكْرُهُ، فَيَقُولُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَفْسُ الْإِحْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ سَبَبًا لِقِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ، فَيَعْرِضُونَ هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِبَادَتَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ لَهُمْ بِأَدْنَى عِبَادَةٍ شُغْلٌ شَاغِلٌ عَنِ الْحُورِ وَالْقُصُورِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَنَابَذُونَ وَلَا يَلْعَبُونَ فَيَكُونُ حَالُهُمْ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي يَوْمِنَا هَذَا لَا يَتَنَاكَحُونَ وَلَا يَلْعَبُونَ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مِثْلَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَذَّةً زَائِدَةً عَلَى كُلِّ لَذَّةٍ فِي غَيْرِهَا.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُحَكَّمٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَ مَنْ أَتَى بِالْإِحْسَانِ، لَكِنَّ اللَّهَ لَمَّا طَلَبَ مِنَّا الْعِبَادَةَ طَلَبَ كَمَا أَرَادَ، فَأَتَى بِهِ الْمُؤْمِنُ كَمَا طُلِبَ مِنْهُ، فَصَارَ مُحْسِنًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْسِنَ اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ وَيَأْتِي بِمَا هُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ كَمَا يُرِيدُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أَيْ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَتَى بِمَا طَلَبْتُهُ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِي إِلَّا أَنْ يُؤْتَى بِمَا طَلَبَهُ مِنِّي عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، لَكِنَّ الْإِرَادَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّؤْيَةِ، فَيَجِبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ آيَةً دَالَّةً عَلَى الرُّؤْيَةِ الْبَلْكَفِيَّةِ.
اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفْرِضُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ دُونَ الْإِحْسَانِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ لِلْفَقِيرِ: افْعَلْ كَذَا وَلَكَ كَذَا دِينَارًا، وَقَالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ كَذَا عَلَى أَنْ أُحْسِنَ إِلَيْكَ يَكُونُ رَجَاءُ مَنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ أَجْرًا أَكْثَرُ مِنْ/ رَجَاءِ مَنْ عَيَّنَ لَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ الْكَرِيمُ فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَنِهَايَةِ الْغِنَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ: جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ أَنْ أُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا يُغْبَطُ بِهِ، وَأُوصِلُ إِلَيْهِ فَوْقَ مَا يَشْتَهِيهِ فَالَّذِي يُعْطِي اللَّهُ فَوْقَ مَا يَرْجُوهُ وَذَلِكَ عَلَى وفق كرمه وإفضاله. ثم قال تعالى:(29/378)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 67]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67)
لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَهُوَ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دُونِهِما وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: دُونِهِمَا فِي الشَّرَفِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقَالَ قَوْلُهُ: مُدْهامَّتانِ مَعَ قَوْلِهِ فِي الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ [الرحمن: 48] وقوله في هذه:
ْنانِ نَضَّاخَتانِ
مَعَ قَوْلِهِ فِي الْأُولَيَيْنِ: عَيْنانِ تَجْرِيانِ [الرحمن: 50] لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأولين: مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] مَعَ قَوْلِهِ فِي هَاتَيْنِ: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] وَقَوْلُهُ فِي الْأُولَيَيْنِ: فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ حَيْثُ تَرَكَ ذِكْرَ الظَّهَائِرِ لِعُلُوِّهَا وَرِفْعَتِهَا وَعَدَمِ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ إِيَّاهَا مَعَ قَوْلِهِ فِي هَاتَيْنِ: رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرَّحْمَنِ: 76] دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَطَايَا اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ مُتَتَابِعَةٌ لَا يُعْطِي شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَّا وَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ ذَلِكَ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ تَقْرِيرًا لِمَا اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين أَلْحَقَهُمُ اللَّهُ بِهِمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهُمَا لَهُمْ إِنْعَامًا عَلَيْهِمْ، أَيْ هَاتَانِ الْأُخْرَيَانِ لَكُمْ أَسْكِنُوا فِيهِمَا مَنْ تُرِيدُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ دُونَهُمَا فِي الْمَكَانِ كَأَنَّهُمْ فِي جَنَّتَيْنِ وَيَطَّلِعُوا مِنْ فَوْقُ عَلَى جَنَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ دُونَهُمَا، وَيَدُلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزُّمَرِ: 20] الْآيَةَ. وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ عِنْدَهَا أَفْنَانٌ، وَالْغُرَفُ الَّتِي دُونَهَا أَرْضُهَا مُخْضَرَّةٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَاتِ لَطَائِفُ:
الْأُولَى: قَالَ فِي الْأُولَيَيْنِ: ذَواتا أَفْنانٍ وَقَالَ فِي هَاتَيْنِ: مُدْهامَّتانِ أَيْ مُخْضَرَّتَانِ فِي غَايَةِ الْخُضْرَةِ، وَادْهَامَّ الشَّيْءُ أَيِ اسْوَادَّ لَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَرْضُ إِذَا اخْضَرَّتْ غَايَةَ الْخُضْرَةِ تَضْرِبُ إِلَى أَسْوَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ عَنِ الزَّرْعِ يُقَالُ لَهَا: بَيَاضٌ أرض وَإِذَا كَانَتْ مَعْمُورَةً يُقَالُ لَهَا: سَوَادُ أَرْضٍ كَمَا يُقَالُ: سَوَادُ الْبَلَدِ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَلْوَانِ هُوَ الْبَيَاضُ/ وَانْتِهَاءَهَا هُوَ السَّوَادُ، فَإِنَّ الْأَبْيَضَ يَقْبَلُ كُلَّ لَوْنٍ وَالْأَسْوَدَ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الْأَلْوَانِ، وَلِهَذَا يُطْلَقُ الْكَافِرُ عَلَى الْأَسْوَدِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْخَالِيَةُ عَنِ الزَّرْعِ مُتَّصِفَةً بالبياض واللاخالية بِالسَّوَادِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا تَحْتَ الْأُولَيَيْنِ مَكَانًا، فَهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَى مَا فَوْقَهُمْ، يَرَوْنَ الْأَفْنَانَ تُظِلُّهُمْ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى مَا تحتهم يرون الأرض مخضرة، وقوله تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أَيْ فَائِرَتَانِ مَاؤُهُمَا مُتَحَرِّكٌ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ، وَأَمَّا الْعَيْنَانِ الْمُتَقَدِّمَتَانِ فَتَجْرِيَانِ إِلَى صَوْبِ الْمُؤْمِنِينَ فَكِلَاهُمَا حَرَكَتُهُمَا إِلَى جِهَةِ مَكَانِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» : النَّضْخُ دُونَ الْجَرْيِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْجَرْيُ يَسِيرًا وَالنَّضْخُ قَوِيًّا كَثِيرًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ النَّضْخَ فِيهِ الْحَرَكَةُ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَالْعَيْنَانِ فِي مَكَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَرَكَةُ الْمَاءِ تَكُونُ إلى(29/379)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
جِهَتِهِمْ، فَالْعَيْنَانِ الْأُولَيَانِ فِي مَكَانِهِمْ فَتَكُونُ حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جريا. وأما قوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 68 الى 69]
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه الْبِطِّيخِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَرْضِيَّاتِ الْمَزْرُوعَاتِ وَشَجَرِيَّةٌ نَحْوَ النخل وغيره من الشجريات فقال: مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] بِأَنْوَاعِ الْخُضَرِ الَّتِي مِنْهَا الْفَوَاكِهُ الْأَرْضِيَّةُ وَفِيهِمَا أَيْضًا الْفَوَاكِهُ الشَّجَرِيَّةُ وَذَكَرَ مِنْهَا نَوْعَيْنِ وَهُمَا الرَّمَّانُ وَالرُّطَبُ لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ فَأَحَدُهُمَا حُلْوٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ حُلْوٍ وَكَذَلِكَ أَحَدُهُمَا حَارٌّ وَالْآخَرُ بَارِدٌ وَأَحَدُهُمَا فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ، وَالْآخَرُ فَاكِهَةٌ، وَأَحَدُهُمَا مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ فَوَاكِهِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَأَحَدُهُمَا أَشْجَارُهُ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَالْآخَرُ أَشْجَارُهُ بِالضِّدِّ وَأَحَدُهُمَا مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ بَارِزٌ ومالا يُؤْكَلُ كَامِنٌ، وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ فَهُمَا كَالضِّدَّيْنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ تَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرَّحْمَنِ: 17] وقدمنا ذلك. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 71]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
أَيْ فِي بَاطِنِهِنَّ الْخَيْرُ وَفِي ظَاهِرِهِنَّ الْحُسْنُ وَالْخَيْرَاتُ جَمْعُ خَيْرَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاصِراتُ الطَّرْفِ إِلَى أَنْ قَالَ: كَأَنَّهُنَّ [الرحمن: 56- 58] إشارة إلى كونهن حسانا. وقوله تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 72 الى 75]
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75)
إِشَارَةٌ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ فَإِنَّهُنَ مَا قَصُرْنَ حَجْرًا عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَرْبِ الْخِيَامِ لَهُنَّ وَإِدْلَاءِ السِّتْرِ عَلَيْهِنَّ، وَالْخَيْمَةُ مَبِيتُ الرَّجُلِ كَالْبَيْتِ مِنَ الْخَشَبِ، حَتَّى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبَيْتَ مِنَ الشَّعْرِ خَيْمَةً لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْإِقَامَةِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّحَرُّكِ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْأَشْيَاءُ تَتَحَرَّكُ إِلَيْهِ فَالْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ مِنْهُ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَهُ فَالْحُورُ يَكُنَّ فِي بُيُوتٍ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْتِ إِرَادَتِهِمْ تَسِيرُ بِهِنَّ لِلِارْتِحَالِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ خِيَامٌ وَلِلْمُؤْمِنِينَ قُصُورٌ تَنْزِلُ الْحُورُ مِنَ الْخِيَامِ إِلَى الْقُصُورِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قد سبق تفسيره. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : الآيات 76 الى 77]
مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77)(29/380)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِ اتِّكَائِهِمْ عَنْ ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى ذِكْرِ نِسَائِهِمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرَّحْمَنِ: 54] ثُمَّ قال:
قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56] وقال هاهنا: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 70] ثُمَّ قَالَ: مُتَّكِئِينَ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ تَعَبٌ وَحَرَكَةٌ فَهُمْ مُنَعَّمُونَ دَائِمًا لَكِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ يَجْتَمِعْ مَعَ أَهْلِهِ اجْتِمَاعَ مُسْتَفِيضٍ وَعِنْدَ قَضَاءِ وَطَرِهِ يَسْتَعْمِلُ الِاغْتِسَالَ وَالِانْتِشَارَ فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا فِي طَلَبِ الْكَسْبِ وَعِنْدَ تَحْصِيلِهِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنَ التَّعَبِ قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ فَيَكُونُ التَّعَبُ لَازِمًا قَبْلَ قَضَاءِ الْوَطَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَاللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: مُتَّكِئِينَ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك، ليعلم أنهم دائم عَلَى السُّكُونِ فَلَا تَعَبَ لَهُمْ لَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَلَا بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ جَاهُدُوا وَالْمُتَأَخِّرِينَ لِذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِهِمْ، فَهُمْ فِيهِمَا وَأَهْلُهُمْ فِي الْخِيَامِ مُنْتَظِرَاتٌ قُدُومَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ جَنَّتَهُ الَّتِي هِيَ سُكْنَاهُ يَتَّكِئُ عَلَى الْفُرُشِ وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ أَزْوَاجُهُ الْحِسَانُ، فَكَوْنُهُنَّ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ بَعْدَ اتِّكَائِهِمْ عَلَى الْفُرُشِ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ فِي الْجَنَّتَيْنِ الْمُتْأَخِّرَتَيْنِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي يَوْمِنَا، وَاتِّكَاءُ المؤمن غير حاصل في يومنا، فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك. ومُتَّكِئِينَ حَالٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ/ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ [الرحمن: 74] وَذَلِكَ فِي قُوَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَطْمِثُوهُنَّ مُتَّكِئِينَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ [الرحمن: 54] يُقَالُ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّفْرَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ رَفَّ الزَّرْعُ إِذَا بَلَغَ مِنْ نَضَارَتِهِ فَيَكُونُ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
مُدْهامَّتانِ [الرحمن: 64] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى الرِّيَاضِ وَالثِّيَابِ الْعَبْقَرِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَفْرَفَةِ الطَّائِرِ، وَهِيَ حَوْمُهُ فِي الْهَوَاءِ حَوْلَ مَا يُرِيدُ النُّزُولَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى بُسُطٍ مَرْفُوعَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 34] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن:
62] أَنَّهُمَا دُونَهُمَا فِي الْمَكَانِ حَيْثُ رُفِعَتْ فُرُشُهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خُضْرٍ صِيغَةُ جَمْعٍ فَالرَّفْرَفُ يَكُونُ جَمْعًا لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ وَيَكُونُ وَاحِدُهُ رَفْرَفَةً كحنظلة وحنظل وَالْجَمْعُ فِي مُتَّكِئِينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: مُتَّكِئِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى رَفَارِفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفُرُشِ وَالرَّفْرَفِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: رَفَارِفَ اكْتِفَاءً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مُتَّكِئِينَ وَقَالَ: فُرُشٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ نَقُولُ: جَمْعُ الرُّبَاعِيِّ أثقل من جمع الثلاثي، ولهذا لم يجيء لِلْجَمْعِ فِي الرُّبَاعِي إِلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَأَمْثِلَةُ الْجَمْعِ فِي الثُّلَاثِي كَثِيرَةٌ وَقَدْ قُرِئَ: (عَلَى رفارف خضر) ، و (رفارف خضار وعباقر) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرَّفْرَفَ هِيَ الْبُسُطُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْخُضْرِ حَيْثُ وَصَفَ تَعَالَى ثِيَابَ الْجَنَّةِ بِكَوْنِهَا خُضْرًا قَالَ تَعَالَى: ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ؟ [الْإِنْسَانِ: 21] نَقُولُ: مَيْلُ النَّاسِ إِلَى اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُ، وَسَبَبُ الْمَيْلِ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْأَلْوَانَ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا أُصُولُ الْأَلْوَانِ سَبْعَةٌ وَهِيَ الشَّفَّافُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَصَرِ فِيهِ وَلَا يَحْجُبُ مَا وَرَاءَهُ كَالزُّجَاجِ وَالْمَاءِ الصَّافِي وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ الْأَبْيَضُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْأَصْفَرُ ثُمَّ الْأَحْمَرُ ثم(29/381)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
الْأَخْضَرُ ثُمَّ الْأَزْرَقُ ثُمَّ الْأَسْوَدُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَلْوَانَ الْأَصْلِيَّةَ ثَلَاثَةٌ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ وَالْأَحْمَرُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ فَإِنَّ الدَّمَ خُلِقَ عَلَى اللَّوْنِ الْمُتَوَسِّطِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصِّحَّةُ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ الْبُرُودَةِ فِيهِ كَانَ أَبْيَضَ وَإِنْ كَانَ لِفَرْطِ الْحَرَارَةِ فِيهِ كَانَ أَسْوَدَ لَكِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْأَلْوَانُ الْأُخَرُ فَالْأَبْيَضُ إِذَا امْتَزَجَ بِالْأَحْمَرِ حَصَلَ الْأَصْفَرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَزْجُ اللَّبَنِ الْأَبْيَضِ بِالدَّمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَبْيَضُ بِالْأَسْوَدِ حَصَلَ اللَّوْنُ الْأَزْرَقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَلْطُ الْجَصِّ الْمَدْقُوقِ بِالْفَحْمِ وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَحْمَرُ بِالْأَسْوَدِ حَصَلَ الْأَزْرَقُ أَيْضًا لَكِنَّهُ إِلَى السَّوَادِ أَمْيَلُ، وَإِذَا امْتَزَجَ الْأَصْفَرُ بِالْأَزْرَقِ حَصَلَ الْأَخْضَرُ مِنَ الْأَصْفَرِ وَالْأَزْرَقِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَصْفَرَ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَزْرَقَ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فَالْأَخْضَرُ حَصَلَ فِيهِ الْأَلْوَانُ الثَّلَاثَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَيَكُونُ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْأَلْوَانِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَبْيَضَ يُفَرِّقُ الْبَصَرُ وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إِدَامَةِ النَّظَرِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ كَوْنِهَا مَسْتُورَةً بِالثَّلْجِ وَإِنَّهُ يُورِثُ الْجَهْرَ وَالنَّظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ السُّودِ يَجْمَعُ الْبَصَرَ وَلِهَذَا كَرِهَ الْإِنْسَانُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْأَشْيَاءِ الْحُمْرِ كَالدَّمِ وَالْأَخْضَرُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ دَفَعَ بَعْضُهَا أَذَى بَعْضٍ وَحَصَلَ اللَّوْنُ الْمُمْتَزِجُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الْأَحْمَرُ/ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَسْوَدُ وَلَمَّا كَانَ مَيْلُ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْأَخْضَرِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ عَلَى مُقْتَضَى طَبْعِهِ فِي الدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْعَبْقَرِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْقَرٍ وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْجِنِّ فَالثِّيَابُ الْمَعْمُولَةُ عَمَلًا جَيِّدًا يُسَمُّونَهَا عَبْقَرِيَّاتٍ مُبَالَغَةً فِي حُسْنِهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ الْإِنْسِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الثِّيَابِ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلًا عَجِيبًا: هُوَ عَبْقَرِيٌّ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي رَآهُ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ»
وَاكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ الْجِنْسِ عَنِ الْجَمْعِ وَوَصَفَهُ بِمَا تُوصَفُ بِهِ الْجُمُوعُ فَقَالَ حِسَانٍ: وَذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ جَمْعَ الرُّبَاعِيِّ يُسْتَثْقَلُ بَعْضَ الِاسْتِثْقَالِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: عَبَاقِرِيٍّ فَقَدْ جَعَلَ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَبَاقِرَ فَإِنْ زَعَمَ أَنَهُ جَمَعَهُ فَقَدْ وَهِمَ، وَإِنْ جَمَعَ الْعَبْقَرِيَّ ثُمَّ نَسَبَ فَقَدِ الْتَزَمَ تَكَلُّفًا خِلَافَ مَا كَلَّفَ الْأُدَبَاءُ الْتِزَامَهُ فَإِنَّهُمْ فِي الْجَمْعِ إِذَا نَسَبُوا رَدُّوهُ إِلَى الْوَاحِدِ وَهَذَا القارئ تكلف في الواحد وروده إِلَى الْجَمْعِ ثُمَّ نَسَبَهُ لِأَنَّ عِنْدَ الْعَرَبِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بِلَادٌ كُلُّهَا عَبْقَرٌ حَتَّى تُجْمَعَ وَيُقَالُ: عَبَاقِرُ، فَهَذَا تَكَلُّفُ الْجَمْعِ فِيمَا لَا جَمْعَ لَهُ ثُمَّ نُسِبَ إِلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَالْأُدَبَاءُ تَكْرَهُ الْجَمْعَ فِيمَا يُنْسَبُ لِئَلَّا يجمعوا بين الجمع والنسبة. ثم قال تعالى:
[سورة الرحمن (55) : آية 78]
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَتَمَ نِعَمَ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرَّحْمَنِ: 27] خَتَمَ نِعَمَ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْبَاقِيَ وَالدَّائِمَ لِذَاتِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَ والدنيا فانية، والآخرة وإن كَانَتْ بَاقِيَةً لَكِنْ بَقَاؤُهَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّوَرِ كُلِّهَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَقَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: 55] وَكَوْنُ الْعَبْدِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَتَمِّ النعم كذلك هاهنا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ قَالَ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ أَتَمَّ النِّعَمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَكْمَلَ اللَّذَّاتِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: 89] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخر(29/382)
السُّورَةِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 96] ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَمِيعَ اللَّذَّاتِ فِي الْجَنَّاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَذَّةَ السَّمَاعِ وَهِيَ مِنْ أَتَمِّ أَنْوَاعِهَا، فَقَالَ: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ يَسْمَعُونَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ التَّبَارُكِ مِنَ الْبَرَكَةِ وَهِيَ الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ، وَمِنْهَا بُرُوكُ الْبَعِيرِ وَبِرْكَةُ الْمَاءِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَكُونُ فِيهَا دَائِمًا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: دَامَ اسْمُهُ وَثَبَتَ وَثَانِيهَا: دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَثَالِثُهَا: تَبَارَكَ بِمَعْنَى عَلَا وَارْتَفَعَ شَأْنًا لَا مَكَانًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِعَمِ الدُّنْيَا: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: 27] وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِعَمِ الْآخِرَةِ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بَعْدَ عَدِّ نِعَمِ الدُّنْيَا وَقَعَتْ إِلَى عَدَمِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَفَنَائِهَا فِي ذَوَاتِهَا، وَاسْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَنْفَعُ الذَّاكِرِينَ وَلَا ذَاكِرَ هُنَاكَ يُوَحِّدُ اللَّهَ غَايَةَ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَيَبْقَى وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِشَارَةُ هُنَا، وَقَعَتْ إِلَى أَنَّ بَقَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ ذَاكِرِينَ اسْمَ اللَّهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ فَقَالَ: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَبْقَى اسْمُ أَحَدٍ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ تَدُورُ الْأَلْسُنُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ حَاجَةٌ بِذِكْرِهِ وَلَا مِنْ أَحَدٍ خَوْفٌ، فَإِنْ تَذَاكَرُوا تَذَاكَرُوا بِاسْمِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الِاسْمُ مُقْحَمٌ أَوْ هُوَ أَصْلٌ مَذْكُورٌ لَهُ التَّبَارُكُ، نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُقْحَمٌ كَالْوَجْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنين: 14] وَ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: 1] وَغَيْرُهُ مِنْ صُوَرِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ تَبَارَكَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الِاسْمَ تَبَارَكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى بَلِيغٍ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: تَبَارَكَ بِمَعْنَى عَلَا فَمَنْ عَلَا اسْمُهُ كَيْفَ يَكُونُ مُسَمَّاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَظُمَ شَأْنُهُ لَا يُذْكَرُ اسْمُهُ إِلَّا بِنَوْعِ تَعْظِيمٍ ثُمَّ إِذَا انْتَهَى الذَّاكِرُ إِلَيْهِ يَكُونُ تَعْظِيمُهُ لَهُ أَكْثَرَ، فَإِنَّ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لِلِاسْمِ أَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَهُ قَامَ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الرَّسَائِلِ اسْمَ سُلْطَانٍ عَظِيمٍ يَقُومُونَ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ، ثُمَّ إِنْ أَتَاهُمُ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ بَدَلًا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي فِيهِ اسْمُهُ يَسْتَقْبِلُونَهُ وَيَضَعُونَ الْجِبَاهَ عَلَى الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّ عُلُوَّ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى عُلُوٍّ زَائِدٍ فِي الْمُسَمَّى، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِمَعْنَى دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّه تَعَالَى يُزِيلُ الشَّرَّ وَيُهَرِّبُ الشَّيْطَانَ وَيَزِيدُ الْخَيْرَ وَيُقَرِّبُ السَّعَادَاتِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: بِمَعْنَى دَامَ اسْمُ اللَّه، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى دَوَامِ الذَّاكِرِينَ فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
المسألة الخامسة: القراءة المشهورة هاهنا: ذِي الْجَلالِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ لِأَنَّ الْجَلَالَ لِلرَّبِّ، وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، وَأَمَّا وَجْهُ الرَّبِّ فَهُوَ الرَّبُّ فوصف هناك الوجه ووصف هاهنا الرَّبَّ، دُونَ الِاسْمِ وَلَوْ قَالَ: وَيَبْقَى الرَّبُّ للتوهم أَنَّ الرَّبَّ إِذَا بَقِيَ رَبًّا فَلَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَرْبُوبٌ، فَإِذَا قَالَ وَجْهُ أُنْسِيَ الْمَرْبُوبُ فَحَصَلَ الْقَطْعُ بِالْبَقَاءِ لِلْحَقِّ فَوَصْفُ الْوَجْهِ يُفِيدُ هَذِهِ الْفَائِدَةَ، واللَّه أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصحبه وسلامه.(29/383)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
وَهِيَ سِتٌّ وَتِسْعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
أَمَّا تَعَلُّقُ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَعْدِيدِ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالشُّكْرِ وَمَنْعِهِ عَنِ التَّكْذِيبِ كَمَا مَرَّ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ لِمَنْ شَكَرَ وَبِالشَّرِّ لِمَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ ثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّنْبِيهَاتِ بِذِكْرِ الْآلَاءِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ كَذَلِكَ لِذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي حَقِّهِمْ يَوْمَ التَّنَادِ ثَالِثُهَا: أَنَّ تِلْكَ السُّورَةَ سُورَةُ إِظْهَارِ الرَّحْمَةِ وَهَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ إِظْهَارِ الْهَيْبَةِ عَلَى عَكْسِ تِلْكَ السُّورَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْأَوَّلِ بِالْآخِرِ فَفِي آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ مِنْ بَابِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى الْقِيَامَةِ وَإِلَى ما فيها من المثوبات والعقوبات، وكل واحد مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ اسْمِهِ وَعَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزِّ سُلْطَانِهِ. ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَفِي تَفْسِيرِهَا جُمْلَةُ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ إِذَا وَقَعَتِ الْقِيَامَةُ الْوَاقِعَةُ أَوِ الزَّلْزَلَةُ الْوَاقِعَةُ يَعْتَرِفُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ إِنْكَارِهَا، وَيَبْطُلُ عِنَادُ الْمُعَانِدِينَ فَتُخْفِضُ الْكَافِرِينَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ، وَتَرْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ فِي الْجَحِيمِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّعِيمِ الثَّانِي: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَزَلْزَلَ النَّاسُ، فَتُخْفِضُ الْمُرْتَفِعَ، وَتَرْفَعُ الْمُنْخَفِضَ، وَعَلَى هَذَا فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها [الْحِجْرِ:
74] فِي الْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الْوَاقِعَةِ، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي جَعَلَ الْعَالِيَ سَافِلًا بِالْهَدْمِ، وَالسَّافِلَ عَالِيًا حَتَّى صَارَتِ الْأَرْضُ الْمُنْخَفِضَةُ كَالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَالْجِبَالُ الرَّاسِيَةُ كَالْأَرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ أَشَدُّ وَأَبْلَغُ، فَصَارَتِ الْبُرُوجُ الْعَالِيَةُ مَعَ الْأَرْضِ مُتَسَاوِيَةً، وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي تَقَعُ تَرْفَعُ الْمُنْخَفِضَةَ فَتَجْعَلُ مِنَ الْأَرْضِ أَجَزَاءً عَالِيَةً وَمِنَ السَّمَاءِ أَجْزَاءً سَافِلَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا [الواقعة: 4، 5] فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ مُزْعِجَةٍ، وَالْجِبَالَ تَتَفَتَّتُ، فَتَصِيرُ الْأَرْضُ الْمُنْخَفِضَةُ كَالْجِبَالِ الرَّاسِيَةِ، وَالْجِبَالُ الشَّامِخَةُ كَالْأَرْضِ السَّافِلَةِ، كَمَا يَفْعَلُ هُبُوبُ الرِّيحِ فِي الْأَرْضِ الْمُرْمِلَةِ الثَّالِثُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يَظْهَرُ وُقُوعُهَا/ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَكَيْفِيَّةُ وُقُوعِهَا، فَلَا يُوجَدُ لَهَا كَاذِبَةٌ وَلَا مُتَأَوَّلٌ يَظْهَرُ فَقَوْلُهُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى كاذِبَةٌ نسقا،(29/384)
فَيَكُونُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ لِي فِي الْأَمْرِ شَكٌّ وَلَا خَطَأٌ، أَيْ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى رَفْعِ الْمُنْخَفِضِ وَلَا خَفْضِ الْمُرْتَفِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ وَهِيَ الْقِيَامَةُ أَوِ الزَّلْزَلَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَتَكُونُ تَاءُ التَّأْنِيثِ مُشِيرَةً إِلَى شِدَّةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ وَهَوْلِهِ، كَمَا يُقَالُ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَالْمُرَادُ كَانَ الْأَمْرُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَقَوْلُنَا: الْأَمْرُ كَائِنٌ لَا يُفِيدُ إِلَّا حُدُوثَ أَمْرٍ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ، إِذْ فِي الْكَائِنَةِ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ كَوْنِهِ شَيْئًا، وَلْنُبَيِّنْ هَذَا بِبَيَانِ كَوْنِ الْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ رَاوِيَةٌ وَنَسَّابَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا بِالْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِهِ رَاوِيًا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِوَصْفٍ بَعْدَ الْخَبْرِ وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ رَاوٍ جَيِّدٌ أَوَ حَسَنٌ أَوْ فَاضِلٌ، فَعَدَلُوا عَنِ التَّطْوِيلِ إِلَى الْإِيجَازِ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، فَقَالُوا: نَأْتِي بِحَرْفِ نِيَابَةٍ عَنْ كَلِمَةٍ كَمَا أَتَيْنَا بِهَاءِ التَّأْنِيثِ حَيْثُ قُلْنَا: ظَالِمَةٌ بَدَلَ قَوْلَ الْقَائِلِ: ظَالِمٌ أُنْثَى، وَلِهَذَا لَزِمَهُمْ بيان الأنثى عند ما لَا يُمْكِنُ بَيَانُهَا بِالْهَاءِ فِي قَوْلِهِمْ شَاةٌ أُنْثَى وَكَالْكِتَابَةِ فِي الْجَمْعِ حَيْثُ قُلْنَا: قَالُوا بَدَلًا عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَالَ وَقَالَ وَقَالَ، وَقَالَا بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: قَالَ وَقَالَ فَكَذَلِكَ فِي الْمُبَالَغَةِ أَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا بِحَرْفٍ يُغْنِي عَنْ كَلِمَةٍ وَالْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى الزِّيَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ أَصْلِ الشَّيْءِ، فَوَضَعُوا الْهَاءَ عِنْدَ عَدَمِ كَوْنِهَا لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّوْحِيدِ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ لَا فِي الْجَمْعِ لِلْمُبَالَغَةِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي كَانَتِ الْكَائِنَةُ وَوَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ حَصَلَ هَذَا مَعْنًى لَا لَفْظًا، أَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِقَوْلِهِمْ: كَانَتِ الْكَائِنَةُ أَنَّ الْكَائِنَ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا لَفْظًا فَلِأَنَّ الْهَاءَ لَوْ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ لَمَا جَازَ إِثْبَاتُ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ فِي الْفِعْلِ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا: كَانَ الْكَائِنَةُ وَوَقَعَ الْوَاقِعَةُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: العامل في إِذا ماذا؟ نقول: فيه ثلاث أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: فِعْلٌ مُتَقَدِّمٌ يَجْعَلُ إِذَا مَفْعُولًا بِهِ لَا ظَرْفًا وَهُوَ اذْكُرْ، كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرِ الْقِيَامَةَ ثَانِيهَا: الْعَامِلُ فِيهَا لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ كَمَا تَقُولُ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ لِي شُغْلٌ ثَالِثُهَا: يُخْفَضُ قَوْمٌ وَيُرْفَعُ قَوْمٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ خافِضَةٌ رافِعَةٌ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] أَيْ فِي يَوْمِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ دُفْعَةً واحدة فالواقعة لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ:
كاذِبَةٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: كَاذِبَةٌ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أُقِيمَتْ مَقَامُهُ تَقْدِيرُهُ لَيْسَ لَهَا نَفْسٌ تَكْذِبُ ثَانِيهَا: الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقُولُ فِي الْوَاقِعَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ثَالِثُهَا: هِيَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَاللَّامُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لَا تَكْذِبُ نَفْسٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا كَمَا يُقَالُ: لَا كَاذِبَ عِنْدَ الْمَلِكِ لِضَبْطِهِ الْأُمُورَ فَيَكُونُ نَفْيًا عَامًّا بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ فِيمَا يَقُولُ وَقَالَ: وَقَبْلَهُ نُفُوسٌ كَوَاذِبُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَلَا كَاذِبَ فَيَقُولُ: / لَا قِيَامَةَ لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا وَظُهُورِ الْأَمْرِ وَكَمَا يُقَالُ: لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ الْإِنْكَارَ لِظُهُورِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَكُونُ نَفْيًا خَاصًّا بِمَعْنَى لَا يُكَذِّبُ أَحَدٌ فَيَقُولُ: لَا قِيَامَةَ وَقَبْلَهُ نُفُوسٌ قَائِلَةٌ بِهِ كَاذِبَةٌ فِيهِ ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ لِزَيْدٍ ضَارِبٌ، وَحِينَئِذٍ تَقْدِيرُهُ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لوقعتها امرؤ يُوجَدُ لَهَا كَاذِبٌ إِنْ أَخْبَرَ عَنْهَا فَهِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ تُخْفِضُ قَوْمًا وَتَرْفَعُ قَوْمًا وَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ عَامِلًا فِي إِذا وَهُوَ بِمَعْنَى لَيْسَ لَهَا كَاذِبٌ يَقُولُ: هِيَ أَمْرٌ سَهْلٌ يُطَاقُ يُقَالُ لِمَنْ يُقْدِمُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيقُهُ سَلْ نَفْسَكَ أَيْ سَهَّلْتَ الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَلَيْسَ بِسَهْلٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا كَاذِبٌ عَظِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يكذب(29/385)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
وَيُقْدِمُ عَلَى الْكَذِبِ الْعَظِيمِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْذِبَ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا لَوْ كَذَّبَ وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا قِيَامَةَ وَلَا وَاقِعَةَ لَكَانَ كَاذِبًا عَظِيمًا وَلَا كَاذِبَ لَهِذِهِ الْعَظَمَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى هَوْلِ الْيَوْمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَعُودُ مَا ذَكَرْنَا إِلَى أَنَّهُ لَا كَاذِبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خافِضَةٌ رافِعَةٌ تَقْدِيرُهُ هِيَ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ الْجُمْلِيِّ وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى أَحَدُهَا: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ صِفَتَانِ لِلنَّفْسِ الْكَاذِبَةِ أَيْ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا مَنْ يُكَذِّبُ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ فَتُخْفِضُ أَمْرًا وَتَرْفَعُ آخَرَ فَهِيَ خَافِضَةٌ أَوْ يَكُونُ هُوَ زِيَادَةً لِبَيَانِ صِدْقِ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَدَمِ إِمْكَانِ كَذِبِهِمْ وَالْكَاذِبُ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ مَا عَرَفْتُ مِمَّا كَانَ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَرُبَّمَا يَقُولُ مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يَكْذِبُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ في صفة من صِفَاتِهِ وَالصِّفَةُ قَدْ يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا الْتِفَاتًا مُعْتَبَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ مُلْتَفَتًا إِلَيْهَا أَصْلًا مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الْقَائِلِ: مَا جَاءَ زَيْدٌ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ وَمِثَالُ الثَّانِي: مَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَمِثَالُ الثَّالِثُ: مَا جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَيَكُونُ قَدْ جَاءَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا جَاءَ أَوَّلَ بُكْرَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ دُونَ الْكُلِّ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا أَعْرِفُ كَلِمَةً كَاذِبَةً نَفَى عَنْهُ الْكَذِبَ فِي الْإِخْبَارِ وَفِي صِفَتِهِ وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ حَرْفًا وَاحِدًا نَفَى أَمْرًا وَرَاءَهُ، وَالَّذِي يَقُولُ: مَا عَرَفْتُ أَعْرَافَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فَوْقَ ذلك فقوله: يْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ
أَيْ مَنْ يُغَيِّرُ تغييرا ولو كان يسيرا. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 6]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
أَيْ كَانَتِ الْأَرْضُ كَثِيبًا مُرْتَفِعًا وَالْجِبَالُ مَهِيلًا مُنْبَسِطًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْجِبَالِ: كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [الْقَارِعَةِ: 5] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَائِدَةِ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ وَهِيَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ قَوْلًا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا مُعْتَبَرًا لَا يَقُولُ الْقَائِلُ فِيهِ: لَيْسَ بِضَرْبٍ مُحْتَقِرًا لَهُ كَمَا يُقَالُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ/ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِذَا رُجَّتِ بَدَلًا عَنْ إِذَا وَقَعَتْ فَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ثَانِيهَا: أن يكون العامل في:
إِذا وَقَعَتِ [الواقعة: 1] هو قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها [الواقعة: 2] وَالْعَامِلُ فِي: إِذا رُجَّتِ هُوَ قَوْلُهُ:
خافِضَةٌ رافِعَةٌ [الواقعة: 3] تَقْدِيرُهُ تُخْفَضُ الْوَاقِعَةُ وَتُرْفَعُ وَقْتَ رَجِّ الْأَرْضِ وَبَسِّ الْجِبَالِ وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَا لَمْ تَتَحَرَّكْ وَالْجِبَالَ مَا لَمْ تَنْبَسَّ لَا تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَالْبَسُّ التَّقْلِيبُ، وَالْهَبَاءُ هُوَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِأَجْزَاءٍ أَرْضِيَّةٍ تَظْهَرُ فِي خَيَالِ الشَّمْسِ إِذَا وَقَعَ شُعَاعُهَا فِي كُوَّةٍ، وَقَالَ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي مُنَاسَبَةً إِنَّ الْهَوَاءَ إِذَا خَالَطَهُ أَجْزَاءٌ ثَقِيلَةٌ أَرْضِيَّةٌ ثَقُلَ مِنْ لَفْظِهِ حَرْفٌ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ الْخَفِيفَةُ بِالْبَاءِ الَّتِي لَا يُنْطَقُ بِهَا إِلَّا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 9]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)(29/386)
أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنْتُمْ أَزْوَاجٌ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ وَفَسَّرَهَا بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ مَا وَرَدَ عَلَى التَّقْسِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: (أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) إِلَخْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ كُلِّ قَوْمٍ، فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فَتَرَكَ التَّقْسِيمَ أَوَّلًا وَاكْتَفَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مَعَ أَحْوَالِهَا، وَسَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً يُغْنِي عَنْ تَعْدِيدِ الْأَقْسَامِ، ثُمَّ أَعَادَ كُلَّ وَاحِدَةٍ لِبَيَانِ حَالِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَتَسْمِيَتُهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَإِمَّا لِكَوْنِ أَيْمَانِهِمْ تَسْتَنِيرُ بِنُورٍ مِنَ اللَّه تعالى، كما قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] وَإِمَّا لِكَوْنِ الْيَمِينِ يُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْعَرَبُ تَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ، وَ [هُوَ] الَّذِي يَقْصِدُ جَانِبَ الْيَمِينِ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ عِنْدَ الزَّجْرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، حَتَّى أَنَّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ دَلَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَدَلَائِلُ الِاخْتِيَارِ إِثْبَاتُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَشَابِهَيْنِ، أَوْ إِثْبَاتُ مُتَشَابِهَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ حَالُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَشَدِّ الْأَشْيَاءِ مُشَابَهَةً فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مُتَشَابِهٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ الْإِنْسَانِ قُوَّةً لَيْسَتْ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا لَهُ مُرَجِّحًا غَيْرَ قُدْرَةِ اللَّه وَإِرَادَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي كِيَاسَةً وَذَكَاءً يَقُولُ: إِنَّ الْكَبِدَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَبِهَا قُوَّةُ التَّغْذِيَةِ، وَالطِّحَالَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ قُوَّةٌ ظَاهِرَةُ/ النَّفْعِ فَصَارَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ قَوِيًّا لِمَكَانِ الْكَبِدِ عَلَى الْيَمِينِ؟ فَنَقُولُ: هَذَا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْيَمِينَ كَالشِّمَالِ، وَتَخْصِيصُ اللَّه اليمين يجعله مَكَانَ الْكَبِدِ دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِينُهُ أَقْوَى مِنْ شِمَالِهِ، فَضَّلُوا الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ، وَجَعَلُوا الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ لِلْأَكَابِرِ، وَقِيلَ: لِمَنْ لَهُ مَكَانَةٌ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَوَضَعُوا لَهُ لَفْظًا عَلَى وَزْنِ الْعَزِيزِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ، وَمَا لَا يَتَغَيَّرُ كَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَقِيلَ لَهُ، الْيَمِينُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ، وَوَضَعُوا مُقَابَلَتَهُ الْيَسَارَ عَلَى الْوَزْنِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ الِاسْمُ الْمَذْمُومِ عِنْدَ النِّدَاءِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ، وَهُوَ الْفَعَالِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّتْمِ وَالنِّدَاءِ بِالِاسْمِ الْمَذْمُومِ يؤتى بهذا الْوَزْنُ مَعَ الْبِنَاءِ عَلَى الْكَسْرِ، فَيُقَالُ: يَا فَجَارِ يَا فَسَاقِ يَا خَبَاثِ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْيَسَارُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ فِي الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْمَيْمَنَةُ فَهِيَ مَفْعَلَةٌ كَأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْيَمِينُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ بِيَمِينِ الْإِنْسَانِ فِي جَانِبٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَذَلِكَ مَوْضِعُ الْيَمِينِ فَهُوَ مَيْمَنَةٌ كَقَوْلِنَا: مَلْعَبَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: جَعْلُ اللَّه تعالى الْخَلْقَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ دَلِيلُ غَلَبَةِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَانِبَ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةٌ، يَمِينُهُ وَشِمَالُهُ، وَخَلْفُهُ وَقُدَّامُهُ، وَالْيَمِينُ فِي مُقَابَلَةِ الشِّمَالِ وَالْخَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدَّامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى النَّاجِينَ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَانِبِ الْأَشْرَفِ الْمُكْرَمُونَ، وَبِأَصْحَابِ الشِّمَالِ إِلَى الَّذِينَ حَالُهُمْ عَلَى خِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَهُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهْمُ بِشَمَائِلِهِمْ مُهَانُونَ وَذِكْرُ السَّابِقِينَ الَّذِينَ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَيَسْبِقُونَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ بِيَمِينٍ أَوْ شِمَالٍ، أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه يَتَكَلَّمُونَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَيَشْفَعُونَ لِلْغَيْرِ ويقضون(29/387)
أَشْغَالَ النَّاسِ وَهَؤُلَاءِ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فِي مُقَابَلَتِهِمْ قَوْمًا يَكُونُونَ مُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرِينَ عَنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ فِي الْعَادَةِ رُبَاعِيَّةً فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْفَضْلِ ثُلَاثِيَّةً وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: 32] لم يَقُلْ: مِنْهُمْ مُتَخَلِّفٌ عَنِ الْكُلِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ ثُمَّ إِلَى السَّابِقِينَ مَعَ أَنَّهُ فِي الْبَيَانِ بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ ثُمَّ أَصْحَابِ الشِّمَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْجَوَابُ: أَنْ نَقُولَ: ذِكْرُ الْوَاقِعَةِ وَمَا يَكُونُ عِنْدَ وُقُوعِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى مَا يَكْفِهِ مَانِعًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سِرُّهُمْ مَشْغُولٌ بربهم فلا يجزون بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: 1] وكان فيه من التخويف مالا يَخْفَى وَكَانَ التَّخْوِيفُ بِالَّذِينَ يَرْغَبُونَ وَيَرْهَبُونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ لَا نَفْعِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا السَّابِقُونَ فَهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ فَقَدَّمَ سُبْحَانَهُ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَيَرْغَبُونَ ثُمَّ ذَكَرَ السَّابِقِينَ لِيَجْتَهِدَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَيَقْرُبُوا مِنْ دَرَجَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهَا أَحَدٌ إِلَّا بِجَذْبٍ مِنَ اللَّه فَإِنَّ السَّابِقَ يَنَالُهُ مَا يَنَالُهُ بِجَذْبٍ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ: جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟ نَقُولُ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُتَكَلِّمُ فِي بَيَانِ أَمْرٍ ثُمَّ يَسْكُتُ عَنِ الْكَلَامِ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَمَاعِهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: أُخْبِرُكَ بِمَا جَرَى عَلَيَّ ثُمَّ يَقُولُ هُنَاكَ هُوَ مُجِيبًا لِنَفْسِهِ لَا أَخَافُ أَنْ يَحْزُنَكَ وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا فَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ أَنْ يَصِفَهُ، لِأَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ وَصْفَهُ يَقُولُ: هَذَا نِهَايَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: مَنْ يَعْرِفُ فُلَانًا بِفَرْضِ السَّامِعِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُ: فُلَانٌ عِنْدَ هَذَا الْمُخْبَرِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرَضْتُهُ وَأَنْبَهُ مِمَّا عَلِمْتُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا إِعْرَابُهُ وَمِنْهُ يُعْرَفُ مَعْنَاهُ؟ نَقُولُ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَذْكُرَ خَبَرَهُ فَرَجَعَ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَرْكِهِ وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَمَا تَقُولُ:
لِمُدَّعِي الْعِلْمِ مَا مَعْنَى كَذَا مُسْتَفْهِمًا مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْجَوَابَ حَتَّى إِنَّكَ تُحِبُّ وَتَشْتَهِي أَلَّا يُجِيبُ عَنْ سُؤَالِكَ وَلَوْ أَجَابَ لَكَرِهَتَهُ لِأَنَّ كَلَامَكَ مَفْهُومٌ كَأَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَعْرِفُ الْجَوَابَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِي الْأَخْبَارِ تَطْوِيلًا ثُمَّ لَمْ يَسْكُتْ وَقَالَ ذَلِكَ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّكَ لَا تَعْرِفُ كُنْهَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَشْرَعْ فِي كَلَامٍ وَيَذْكُرُ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ يَسْكَتُ عَنِ الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السُّكُوتُ لِحُصُولِ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ عَلِمَ الْخَبَرَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ قَائِلًا: إذا أراد أن يخبره غَيْرَهُ بِأَنَّ زَيْدًا وَصَلَ، وَقَالَ: إِنَّ زَيْدًا ثُمَّ قَبْلَ قَوْلِهِ: جَاءَ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى زَيْدٍ وَرَآهُ جَالِسًا عِنْدَهُ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ جَاءَ لِخُرُوجِ الْكَلَامِ عَنِ الْفَائِدَةِ وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِ الْخَبَرِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَحْدَهُ يَكْفِي لِمَنْ قَالَ: مَنْ جَاءَ فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ:
زَيْدٌ يَكُونُ جَوَابًا وَكَثِيرًا مَا نَقُولُ: زَيْدٌ وَلَا نَقُولُ: جَاءَ، وَقَدْ يَكُونُ السُّكُوتُ عَنِ الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى طُولِ الْقِصَّةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْغَضْبَانُ مِنْ زَيْدٍ وَيَسْكُتُ ثُمَّ يَقُولُ: مَاذَا أَقُولُ عَنْهُ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ كَانَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَبَرِ فَسَكَتَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ السُّكُوتَ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لِظُهُورِ حَالِ الْخَبَرِ كَمَا يُسْكَتُ عَلَى زَيْدٍ فِي جَوَابِ مَنْ جَاءَ فَقَالَ: مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مُمْتَحِنًا زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ لِيَكُونَ ذَلِكَ(29/388)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لَمْ يَكُنْ لِظُهُورِ الْأَمْرِ بَلْ لِخَفَائِهِ وَغَرَابَتِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ، وَفِيهِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا هُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ أَنَّهُ أَقَامَ الْمُظْهَرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَقَالَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالْإِتْيَانُ بِالْمُظْهَرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ حَيْثُ ذَكَرَهُمْ ظاهرا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وكذلك في قوله: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1، 2] وفي قوله: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ لفظ الْمَشْئَمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِهِمْ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ؟ نَقُولُ: الْيَمِينُ وُضِعَ لِلْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ أَوَّلًا ثُمَّ تَفَاءَلُوا بِهِ وَاسْتَعْمَلُوا مِنْهُ أَلْفَاظًا فِي مَوَاضِعَ وَقَالُوا: هَذَا مَيْمُونٌ وَقَالُوا: أَيْمِنْ بِهِ وَوَضَعُوا لِلْجَانِبِ الْمُقَابِلِ/ لَهُ الْيَسَارَ مِنَ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِهِ، فَصَارَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ كَيْفَمَا يَدُورُ فَيُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيُمْنَى الْيُسْرَى، وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَيْمَنِ الْأَيْسَرُ، وَفِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ الْمَيْسَرَةُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ الشِّمَالُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْيَمِينُ، فَلَا يُقَالُ: الْأَشْمَلُ وَلَا الْمَشْمَلَةُ، وَتُسْتَعْمَلُ الْمَشْأَمَةُ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْمَيْمَنَةُ، فَلَا يُقَالُ: فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ لَفْظٌ مِنْ بَابِ الشُّؤْمِ، وَأَمَّا الشَّآمُ فَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ الْيَمِينِ بَلْ فِي مُقَابَلَةِ يمان، إذا علم هذا فنقول: بعد ما قَالُوا بِالْيَمِينِ لَمْ يَتْرُكُوهُ وَاقْتَصَرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْيَمِينِ فِي الْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْآدَمِيِّ، وَلَفْظِ الشِّمَالِ فِي مُقَابَلَتِهِ وَحَدَثَ لَهُمْ لَفْظَانِ آخَرَانِ فِيهِ أَحَدُهُمَا: الشِّمَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْكَوَاكِبِ مِنَ السَّمَاءِ وَجَعَلُوا مَمَرَّهَا وَجْهَ الْإِنْسَانِ وَجَعَلُوا السَّمَاءَ جَانِبَيْنِ وَجَعَلُوا أَحَدَهُمَا أَقْوَى كَمَا رَأَوْا فِي الْإِنْسَانِ، فَسَمَّوُا الْأَقْوَى بِالْجَنُوبِ لقوة الجانب كما يقال: غضوب ورؤوف، ثُمَّ رَأَوْا فِي مُقَابَلَةِ الْجَنُوبِ جَانِبًا آخَرَ شَمِلَ ذَلِكَ الْجَانِبُ عِمَارَةَ الْعَالَمِ فَسَمَّوْهُ شِمَالًا وَاللَّفْظُ الْآخَرُ:
الْمَشْأَمَةُ وَالْأَشْأَمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْمَنَةِ وَالْأَيْمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا مِنَ الْيَمِينِ الْيُمْنَ وَغَيْرَهُ لِلْتَفَاؤُلِ وَضَعُوا الشُّؤْمَ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا فِي أَعْضَائِهِمْ وَجَوَانِبِهِمْ تَكَرُّهًا لِجَعْلِ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ نَفْسِهِ شُؤْمًا، وَلَمَّا وَضَعُوا ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ نَقَلُوا الْيَمِينَ مِنَ الْجَانِبِ إِلَى غَيْرِهِ، فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِلَفْظَيْنِ مختلفين فقال: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: 41] وَتَرَكَ لَفْظَ الْمَيْسَرَةِ وَالْيَسَارِ الدَّالِ عَلَى هَوْنِ الأمر، فقال هاهنا: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ بِأَفْظَعِ الِاسْمَيْنِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَسَاكِرِ: الْمَيْمَنَةُ والميسرة اجتنابا من لفظ الشؤم. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 11]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَالسَّابِقُونَ عطف على فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:
8] وعنده تم الكلام، وقوله: وَالسَّابِقُونَ ... أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنْتَ أَنْتَ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِشُهْرَةِ أَمْرِ الْمُبْتَدَأِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْهُ وَهُوَ مُرَادُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ النُّحَاةِ وَالثَّانِي: لِلْإِشَارَةِ إلى أن في المبتدأ مالا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا يُخْبَرُ عَنْهُ وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ إِلَّا(29/389)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
نَفْسُ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ الْمَلِكِ فَيَقُولُ: لَا أَعْرِفُ مِنَ الْمَلِكِ إِلَّا أَنَّهُ مَلِكٌ فَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أَيْ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ إِلَّا بِنَفْسِهِمْ فَإِنَّ حَالَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ فَوْقَ أن يحيط به علم البشر وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ فِي أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ قَالَ: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] بِالِاسْتِفْهَامِ وَإِنْ كَانَ لِلْإِعْجَازِ لَكِنْ جَعْلَهُمْ مَوْرِدَ الاستفهام وهاهنا لَمْ يَقُلْ: وَالسَّابِقُونَ مَا السَّابِقُونَ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي لِلْإِعْجَازِ يُورَدُ عَلَى مُدَّعِي الْعِلْمَ فَيُقَالُ/ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَعَلَمُ فَبَيَّنَ الْكَلَامَ وَأَمَّا إِذَا كَانَ يَعْتَرِفُ بِالْجَهْلِ فَلَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ كَذَا، وَمَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ فِي: وَالسَّابِقُونَ مَا جَعَلَهُمْ بِحَيْثُ يَدَّعُونَ، فَيُورَدُ عَلَيْهِمُ الِاسْتِفْهَامُ فَيُبَيِّنُ عَجْزَهُمْ بَلْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْعَجْزِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ كَقَوْلِ الْعَالِمِ: لِمَنْ سَأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مُعْضِلَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْهَمُهَا وَإِنْ كَانَ أَبَانَهَا غَايَةَ الْإِبَانَةِ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْبَيَانِ وَثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ السَّابِقُونَ ثَانِيًا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ وَالْوَجْهُ الْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْدَلُ الْأَصَحُّ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوْسَطِ قَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ السَّابِقِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُهُمْ مُقَرَّبًا، وَقَدْ قَالَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ، نَقُولُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، نَقُولُ: لِلتَّقْرِيبِ دَرَجَاتٌ وَالسَّابِقُونَ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ، وَلَا حَدَّ هُنَاكَ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ السَّابِقُونَ مُقَرَّبُونَ مِنَ الْجَنَّاتِ حَالَ كَوْنِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا يُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ السَّابِقُونَ قَدْ قَرُبُوا مِنَ الْمَنْزِلِ أَوْ قَرَّبَهُمْ إِلَى اللَّه فِي الْجَنَّةِ وَأَصَحَابُ الْيَمِينِ بَعْدُ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُقَرَّبُونَ، ثُمَّ إِنَّ السَّيْرَ وَالِارْتِفَاعَ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّ السَّيْرَ فِي اللَّه لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَالِارْتِفَاعَ لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ دَرَجَةِ السَّابِقِ، يَكُونُ قَدِ انْتَقَلَ هُوَ إِلَى مَوْضِعٍ أَعْلَى مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ حَالَ وُصُولِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إِلَى الْحُورِ الْعِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: بَعْدَ بَيَانِ أَقْسَامِ الْأَزْوَاجِ لَمْ يَعُدْ إِلَى بَيَانِ حَالِهِمْ عَلَى تَرْتِيبِ ذِكْرِهِمْ، بَلْ بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ مَعَ أَنَّهُ أَخَّرَهُمْ، وَأَخَّرَ ذِكْرَ أَصْحَابِ الشِّمَالِ مَعَ أَنَّهُ قَدَّمَهُمْ أَوَّلًا فِي الذِّكْرِ عَلَى السَّابِقِينَ، نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَاقِعَةِ قَدَّمَ مَنْ يَنْفَعُهُ ذِكْرُ الْأَهْوَالِ، وَأَخَّرَ مَنْ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَيَانِ فَذَكَرَ السَّابِقَ لفضيلته وفضيلة حاله. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 12]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عرف النعيم باللام هاهنا وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ:
89] بِدُونِ اللَّامِ، وَالْمَذْكُورُ فِي آخِرِ السُّورَةِ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَلَهُ جَنَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْجَنَّاتِ وَهَذِهِ مُعَرَّفَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، وَتِلْكَ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيُّ هُوَ أَنَّ السَّابِقِينَ مُعَرَّفُونَ بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِجِنْسِهِمْ، فَجَعَلَ مَوْضِعَ الْمُعَرَّفَيْنِ مُعَرَّفًا، وَأَمَّا هُنَاكَ فَهُوَ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، لأن قوله:(29/390)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة: 88] أَيْ إِنْ كَانَ فَرْدًا مِنْهُمْ فَجَعَلَ مَوْضِعَهُ غَيْرَ مُعَرَّفٍ/ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُعَرَّفًا وَمَوْضِعُهُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات: 15] وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [الْقَمَرِ: 54] وَبِالْعَكْسِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ: فَنَقُولُ: عِنْدَ ذِكْرِ الْجَمْعِ جَمَعَ الْجَنَّاتِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ [الواقعة: 11، 12] لَكِنِ السَّابِقُونَ نَوْعٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَفِي الْمُتَّقِينَ غَيْرُ السَّابِقِينَ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّ السَّابِقِينَ لَهُمْ مَنَازِلُ لَيْسَ فَوْقَهَا مَنَازِلُ، فَهِيَ صَارَتْ مَعْرُوفَةً لِكَوْنِهَا فِي غَايَةِ الْعُلُوِّ أَوْ لِأَنَّهَا لَا أَحَدَ فَوْقَهَا، وَأَمَّا بَاقِي الْمُتَّقِينَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَرْتَبَةٌ وَفَوْقَهَا مَرْتَبَةٌ فَهُمْ فِي جَنَّاتٍ مُتَنَاسِبَةٍ فِي الْمَنْزِلَةِ لَا يَجْمَعُهَا صُقْعٌ وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِمْ، وَجَنَّاتُ السَّابِقِينَ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي على عِلِّيِّينَ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ، وَلَا يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ السَّابِقِ فَلَمْ يَعْرِفْهَا، وَأَمَّا مَنَازِلُهُمْ فَيَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لِلسَّابِقِينَ، وَلَمْ يَعْرِفِ الَّذِي لِلْمُتَّقِينَ عَلَى وَجْهِ كَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِضَافَةُ الْجَنَّةِ إِلَى النَّعِيمِ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ؟ نَقُولُ: إِضَافَةُ الْمَكَانِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْمَكَانِ يُقَالُ:
دَارُ الضِّيَافَةِ، وَدَارُ الدَّعْوَةِ، وَدَارُ الْعَدْلِ، فَكَذَلِكَ جَنَّةُ النَّعِيمِ، وَفَائِدَتُهَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ لِلنَّعِيمِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاشْتِغَالِ وَالتَّعَيُّشِ بِأَثْمَانِ ثِمَارِهَا، بِخِلَافِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا لِلنَّعِيمِ لَا غَيْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَاحِدًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْدِيرُهُ: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ كَائِنُونَ فِي جَنَّاتٍ، كَقَوْلِهِ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 16] ، وأما الثاني فتقديرهم الْمُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّاتِ مِنَ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ: هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَائِدَتُهُ بَيَانُ تَنْعِيمِ جِسْمِهِمْ، وَكَرَامَةِ نَفْسِهِمْ فَهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَهُمْ فِي غَايَةِ اللَّذَّةِ وَفِي جَنَّاتٍ، فَجِسْمُهُمْ فِي غَايَةِ النَّعِيمِ، بِخِلَافِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ يَلْتَذُّونَ بِالْقُرْبِ لَكِنْ لَا يَكُونُ لِجِسْمِهِمْ رَاحَةٌ، بَلْ يَكُونُونَ فِي تَعَبٍ مِنَ الْوُقُوفِ وَقَضَاءِ الْأَشْغَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى جَنَّاتٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَائِدَتُهُ التَّمْيِيزُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ الْمُقَرَّبِينَ فِي يَوْمِنَا هذا في السموات هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالسَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّةِ فَيَكُونُ الْمُقَرَّبُونَ فِي غَيْرِهَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قُرْبَ الْمَلَائِكَةِ قُرْبُ الْخَوَاصِّ عِنْدَ الْمَلِكِ الَّذِينَ هُمْ لِلْأَشْغَالِ، فَهُمْ لَيْسُوا فِي نَعِيمٍ، وَإِنْ كَانُوا فِي لَذَّةٍ عَظِيمَةٍ وَلَا يَزَالُونَ مُشْفِقِينَ قَائِمِينَ بِبَابِ اللَّهِ يَرِدُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، وَالسَّابِقُونَ لَهُمْ قُرْبٌ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمُلُوكِ، فَهُمْ لَا يَكُونُ بِيَدِهِمْ شُغْلٌ وَلَا يَرِدُ عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
وَهَذَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قد ذكرت أن قوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: 10] جُمْلَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَبَرُ عَيْنَ الْمُبْتَدَأِ لِظُهُورِ حَالِهِمْ أَوْ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَكَيْفَ جَاءَ خَبَرٌ بَعْدَهُ؟ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَقْصُودُ قَدْ أَفَادَ ذِكْرَ خَبَرٍ آخَرَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ وَاحِدًا يَقُولُ: زَيْدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ حَالُهُ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ ثُمَّ يشرع(29/391)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
فِي حَالٍ يَخْفَى عَلَى السَّامِعِ مَعَ أَنَّهُ قال: لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك هاهنا قَالَ:
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ لِبَيَانِ عَظَمَتِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ عَدَدِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَوَّلِينَ مَنْ هُمْ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ: ثُلَّةٌ وَالثُّلَّةُ الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَ نَبِيِّنَا مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِهِمْ إِذَا جُمِعُوا يَكُونُونَ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ السَّابِقِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَعُبَ عَلَيْهِمْ قِلَّتُهُمْ، فَنَزَلَ بعده: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة: 13] ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 40] هذا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ عَدَدَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَلْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ مَضَى فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَمَاذَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَمَا هَذَا إِلَّا خُلْفٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذَا كَالنَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ثَالِثُهَا: مَا وَرَدَ بَعْدَهَا لَا يَرْفَعُ هَذَا لِأَنَّ الثُّلَّةَ مِنَ الْأَوَّلِينَ هُنَا فِي السَّابِقِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرُوا وَرَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَفَا عَنْهُمْ أُمُورًا لَمْ تُعْفَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَجَعَلَ لِلنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَةَ فَكَثُرَ عَدَدُ النَّاجِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَرْتَكِبِ الْكَبِيرَةَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَهُمُ السَّابِقُونَ وَرَابِعُهَا: هَذَا تَوَهُّمٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ دَخَلَ فِيهِمُ الْأَوَّلُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَعَلَ قَلِيلًا مِنْ أُمَّتِهِ مَعَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، يَكُونُ ذَلِكَ إِنْعَامًا فِي حَقِّهِمْ وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ»
الْوَجْهُ الثَّانِي: المراد منه: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَةِ: 100] فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَهُمُ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ [الْحَدِيدِ:
10] الْآيَةَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وعلى هذا فقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَوْجُودِينَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ بِالدَّلِيلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فيهم: وأتبعتهم ذرياتهم [الطور: 21] فَالْمُؤْمِنُونَ وَذُرِّيَّاتُهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَهُمْ فِي الْكَثْرَةِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ صَبِيٍّ مَاتَ وَأَحَدُ أَبَوَيْهِ مُؤْمِنٌ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، فَقَلَّمَا يُدْرِكُ وَلَدُهُمْ دَرَجَةَ السَّابِقِينَ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ وَلَدُ الْمُؤْمِنِ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْأَبِ لِتَقْصِيرٍ فِي أَبِيهِ وَمَعْصِيَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الِابْنِ الصَّغِيرِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: الْآخِرِينَ الْمُرَادُ منه الآخرون التابعون من الصغار. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 16]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
وَالْمَوْضُونَةُ هِيَ الْمَنْسُوجَةُ الْقَوِيَّةُ اللُّحْمَةِ وَالسَّدَى، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ: مَوْضُونَةٌ وَالْوَضِينُ هُوَ الْحَبْلُ الْعَرِيضُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحَزْمُ لِقُوَّةِ سُدَاهُ وَلُحْمَتِهِ، وَالسُّرُرُ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُلُوكِ يَكُونُ لَهَا قَوَائِمُ مِنْ شَيْءٍ صُلْبٍ وَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا مَعْمُولًا بِحَرِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْعَمُ مِنَ الْخَشَبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي الصَّلَابَةِ وَهَذِهِ السُّرُرُ قَوَائِمُهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَأَرْضُهَا مِنَ الذَّهَبِ الْمَمْدُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَيْها لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، فَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ هُوَ أَنْ لَا يُظَنَّ أَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَى(29/392)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
غَيْرِهَا كَمَا يَكُونُ حَالُ مَنْ يَكُونُ عَلَى كُرْسِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَسَعُهُ لِلِاتِّكَاءِ فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ آخَرُ لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَهُمْ وَاتِّكَاءَهُمْ جَمِيعًا عَلَى سُرُرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَقابِلِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّابِقِينَ لَا يَرَى غَيْرَهُ فَوْقَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَقابِلِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: مُتَقَابِلِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُقَابِلُ أَحَدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُفْهَمُ هَذَا إِلَّا فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِهَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَيْسَ لَهُمْ أَدْبَارٌ وَظُهُورٌ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ السَّابِقِينَ هُمُ الَّذِينَ أَجْسَامُهُمْ أَرْوَاحٌ نُورَانِيَّةٌ جَمِيعُ جِهَاتِهِمْ وَجْهٌ كَالنُّورِ الَّذِي يُقَابِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَوْصَافِ الْمَكَانِيَّاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة الواقعة (56) : آية 17]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
وَالْوِلْدَانُ جَمْعُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَوْلُودُ لَكِنْ غَلَبَ عَلَى الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ وَلِيدَةٌ، وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى الْأَصْلِ لَجَرَّدُوهَا عَنِ الْهَاءِ كَالْقَتِيلِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْوِلْدَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُمْ صِغَارُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ صِغَارَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا غَيْرَهُ، فَيَلْزَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مَنْ يَطُوفُ عَلَيْهِ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْآخَرِ يَخْدِمُ غَيْرَ أَبِيهِ وَفِيهِ مَنْقَصَةٌ بِالْأَبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ: هُمْ صِغَارُ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الَّذِي لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْأَصْلُ وَهُوَ إِرَادَةُ الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطُّورِ: 24] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُخَلَّدُونَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ وَالدَّوَامِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ/ وَجْهَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ وَلَا مَوْتَ لَهُمْ وَلَا فَنَاءَ وَثَانِيهِمَا: لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ حَالِهِمْ وَيَبْقَوْنَ صِغَارًا دَائِمًا لَا يَكْبَرُونَ وَلَا يَلْتَحُونَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْخَلَدَةِ وَهُوَ الْقُرْطُ بِمَعْنَى فِي آذانهم حلق، والأول أظهر وأليق. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 18]
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
أَوَانِي الْخَمْرِ تَكُونُ فِي الْمَجَالِسِ، وَفِي الْكُوبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَقْدَاحِ وَهُوَ قَدَحٌ كَبِيرٌ ثانيهما: مِنْ جِنْسِ الْكِيزَانِ وَلَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ وَالْإِبْرِيقُ لَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ وَالْكَأْسِ حَيْثُ ذَكَرَ الْأَكْوَابَ وَالْأَبَارِيقَ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ وَالْكَأْسَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقُلْ: وَكُئُوسٍ؟ نَقُولُ: هُوَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الشُّرْبِ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَوَانٍ كَثِيرَةٌ فِيهَا الْخَمْرُ مُعَدَّةٌ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْكَأْسُ فَهُوَ الْقَدَحُ الَّذِي يُشْرَبُ بِهِ الْخَمْرُ إِذَا كَانَ فِيهِ الْخَمْرُ وَلَا يَشْرَبُ وَاحِدٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إِلَّا مِنْ كَأْسٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَوَانِي الْخَمْرِ الْمَمْلُوءَةُ مِنْهَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَتُوجَدُ كَثِيرًا، فَإِنْ قِيلَ:
الطَّوَافُ بِالْكَأْسِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الطَّوَافُ بِالْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: عَدَمُ الطَّوَافِ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنِ الطَّائِفِ لِثِقَلِهَا وَإِلَّا فَهِيَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ يرجع إلى الموضع الذي هي فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْآنِيَةُ تَدُورُ بِنَفْسِهَا وَالْوَلِيدُ مَعَهَا إِكْرَامًا لَا لِلْحَمْلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخر من(29/393)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
حَيْثُ اللُّغَةُ وَهُوَ أَنَّ الْكَأْسَ إِنَاءٌ فِيهِ شَرَابٌ فَيَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْمَشْرُوبُ، وَالْإِبْرِيقُ آنِيَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِبْرِيقِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَرَابٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الْإِنَاءُ الْمَمْلُوءُ الِاعْتِبَارُ لِمَا فِيهِ لَا لِلْإِنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْكَأْسِ بِمَا فِيهِ لَكِنْ فِيهِ مَشْرُوبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَالْجِنْسُ لَا يُجْمَعُ إِلَّا عِنْدَ تَنَوُّعِهِ فَلَا يُقَالُ لِلْأَرْغِفَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: أخباز، وإنما يقال: أخباز عند ما يَكُونُ بَعْضُهَا أَسْوَدَ وَبَعْضُهَا أَبْيَضَ وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ يُقَالُ عِنْدَ تَنَوُّعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مِنْهَا اللُّحُومُ وَلَا يُقَالُ لِلْقِطْعَتَيْنِ مِنَ اللَّحْمِ لَحْمَانِ، وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمُصَنَّفَةُ فَتُجْمَعُ، فَالْأَقْدَاحُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَكِنَّهَا لَمَّا مُلِئَتْ خَمْرًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَهَا: خُمُورٌ فَلَمْ يَقُلْ:
كُئُوسٌ وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلظُّرُوفِ، لِأَنَّ الْكَأْسَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا شَرَابٌ مِنْ جنس واحد لا بجمع وَاحِدٌ فَيُتْرَكُ الْجَمْعُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْمَظْرُوفِ بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الْإِنَاءُ فَحَسْبُ، وَعَلَى هَذَا يَتَبَيَّنُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لَفْظُ الْكُئُوسِ إِذْ كَانَ مَا فِيهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْرِ، وَهَذَا بَحْثٌ عَزِيزٌ فِي اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْخِيرِ الْكَأْسِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، فَكَذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الْأَكْوَابِ إِذَا كَانَ الْكُوبُ مِنْهُ يُصَبُّ الشَّرَابُ فِي الْإِبْرِيقِ وَمِنَ الْإِبْرِيقِ الْكَأْسُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ مَعِينٍ بَيَانُ مَا فِي الْكَأْسِ أَوْ بَيَانُ مَا فِي الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ، نَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مِنْ مَعِينٍ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ بِالْوَضْعِ، وَالثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ: وَكَأْسٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَشْرُوبٍ، وَكَأَنَّ السَّامِعَ مُحْتَاجًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَشْرُوبِ، وَأَمَّا الْإِبْرِيقُ فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَشْرُوبِ لَيْسَ بِالْوَضْعِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكُلِّ مَلْآنًا هُوَ الْحَقُّ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْفَارِغِ لَا يَلِيقُ فَكَانَ الظَّاهِرُ بَيَانَ مَا فِي الْكُلِّ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأَوَانِي ذَكَرَ جِنْسَهَا لَا نَوْعَ مَا فِيهَا فَقَالَ تَعَالَى: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ [الْإِنْسَانِ: 15] الْآيَةَ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْكَأْسِ بَيَّنَ مَا فِيهَا فَقَالَ: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْأَبَارِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ فَارِغَةً لِلزِّينَةِ وَالتَّجَمُّلِ وَفِي الْآخِرَةِ تَكُونُ لِلْإِكْرَامِ وَالتَّنَعُّمِ لَا غَيْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى الْمَعِينِ؟ قُلْنَا: ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّهُ فَعِيلٌ أَوْ مَفْعُولٌ وَمَضَى فِيهِ خِلَافٌ، فَإِنْ قُلْنَا: فَعِيلٌ فَهُوَ من معن الْمَاءِ إِذَا جَرَى وَإِنْ قُلْنَا: مَفْعُولٌ فَهُوَ مِنْ عَانَهُ إِذَا شَخَّصَهُ بِعَيْنِهِ وَمَيَّزَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَعْيُونَ يُوهِمُ بِأَنَّهُ مَعْيُوبٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: عَانَنِي فُلَانٌ مَعْنَاهُ ضَرَّنِي إِذَا أَصَابَتْنِي عَيْنُهُ، وَلِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمَفْعُولِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَرَيَانُ فِي الْمَشْرُوبِ فَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ فَهُوَ صِفَةُ مَدْحٍ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ أَمْرٌ عَجِيبٌ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ [محمد: 15] ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 19]
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يُصَدَّعُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا صُدَاعٌ يُقَالُ: صَدَّعَنِي فُلَانٌ أَيْ أَوْرَثَنِي الصُّدَاعَ وَالثَّانِي: لَا يُنْزِفُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْفِدُونَهَا مِنَ الصَّدْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الصُّدَاعِ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَلَمَ الَّذِي فِي الرَّأْسِ يَكُونُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ بِخِلْطٍ وَرِيحٍ فِي أَغْشِيَةِ الدِّمَاغِ فَيُؤْلِمُهُ فَيَكُونُ الَّذِي بِهِ صداع كأنه يتطرف فِي غِشَاءِ دِمَاغِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الصُّدَاعِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ عَنْهَا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي السَّبَبِ كَلِمَةُ مِنْ،(29/394)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
فَيُقَالُ: مَرِضَ مِنْ كَذَا وَفِي الْمُفَارَقَةِ يُقَالُ: عن، فيقال: برىء عَنِ الْمَرَضِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ هُوَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا فِي شَيْءٍ كَأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ شَيْءٌ وَيُثْبِتُ فِي مَكَانِهِ فِعْلَهُ، فَهُنَاكَ أَمْرَانِ وَنَظَرَانِ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَحَلِّ وَرَأَيْتَ فِيهِ شَيْئًا تَقُولُ: هَذَا مِنْ مَاذَا، أَيِ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَيَقَعُ نَظَرُكَ عَلَى السَّبَبِ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ هَذَا أَيِ ابْتِدَاءُ وَجُودِهِ مِنْهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى جَانِبِ الْمُسَبِّبِ تَرَى الْأَمْرَ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ كَأَنَّهُ فَارَقَهُ وَالْتَصَقَ بِالْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، وَالسَّبَبُ كَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ فَهَهُنَا يَكُونُ الْأَمْرَانِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَهَا قُرْبٌ وَبُعْدٌ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ هاهنا بَيَانُ خَمْرِ الْآخِرَةِ فِي/ نَفْسِهَا وَبَيَانُ مَا عَلَيْهَا، فَالنَّظَرُ وَقَعَ عَلَيْهَا لَا عَلَى الشَّارِبِينَ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا لِوَصْفٍ مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مَدْحًا لَهَا، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَا تُصَدِّعُ لِأَمْرٍ فِيهَا يَكُونُ مَدْحًا لَهَا فَلَمَّا وَقَعَ النَّظَرُ عَلَيْهَا قَالَ عَنْهَا، وَأَمَّا إِذَا كُنْتَ تَصِفُ رَجُلًا بِكَثْرَةِ الشُّرْبِ وَقُوَّتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: فِي حَقِّهِ هُوَ لَا يُصَدَّعُ مِنْ كَذَا مِنَ الْخَمْرِ، فَإِذَا وَصَفْتَ الْخَمْرَ تَقُولُ هَذِهِ لَا يُصَدَّعُ عَنْهَا أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُنْزِفُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الصَّافَّاتِ وَالَّذِي يَحْسُنُ ذِكْرُهُ هُنَا أَنْ نَقُولَ:
إِنْ كَانَ معنى لا يُنْزِفُونَ لَا يَسْكَرُونَ، فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ مَعْنَى: لَا يُصَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ لَا يَفْقِدُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالتَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِارْتِقَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ مَعْنَاهُ لَا يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي السُّكْرَ فَقَالَ: بَعْدَهُ وَلَا يُورِثُ السُّكْرَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْسَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ يَقُولُ: وَلَا قَلِيلَةٌ، تَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ، وَلَوْ عَكَسْتَ الترتيب لا يكون حسنا، وإن قلنا: لا يُنْزِفُونَ لَا يَفْقِدُونَ فَالتَّرْتِيبُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: لَا يُصَدَّعُونَ أَيْ لَا يَفْقِدُونَهُ وَمَعَ كَثْرَتِهِ وَدَوَامِ شُرْبِهِ لَا يَسْكَرُونَ فَإِنَّ عَدَمَ السُّكْرِ لِنَفَادِ الشَّرَابِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، لَكِنَّ عَدَمَ سُكْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَدِيمُونَ لِلشَّرَابِ عَجِيبٌ وَإِنْ قلنا: لا يُنْزِفُونَ بِمَعْنَى لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ كَمَا بَيَّنَّا هُنَاكَ. فَنَقُولُ: أَيْضًا إِنْ كَانَ لَا يُصَدَّعُونَ بِمَعْنَى لَا يُصِيبُهُمْ صُدَاعٌ فَالتَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُصَدَّعُونَ لَا يَكُونُ بَيَانَ أَمْرٍ عَجِيبٍ إِنْ كَانَ شَرَابُهُمْ قَلِيلًا فَقَالَ: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْها مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَفْقِدُونَ الشَّرَابَ وَلَا يَنْزِفُونَ الشَّرَابَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى لَا يَنْزِفُونَ عَنْهَا فَالتَّرْتِيبُ حَسَنٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْزِفُونَ عَنْهَا بِمَعْنَى لَا يَخْرُجُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أُعْطُوا مِنَ الشَّرَابِ، ثُمَّ إِذَا أَفْنَوْهَا بالشراب يعطون. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 20 الى 21]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ الْجَرِّ، وَالْفَاكِهَةُ لَا يَطُوفُ بِهَا الْوِلْدَانُ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاكِهَةَ وَاللَّحْمَ فِي الدُّنْيَا يُطْلَبَانِ فِي حَالَتَيْنِ أَحَدُهُمَا: حَالَةُ الشُّرْبِ وَالْأُخْرَى حَالُ عَدَمِهِ، فَالْفَاكِهَةُ مِنْ رُءُوسِ الْأَشْجَارِ تُؤْخَذُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الْحَاقَّةِ: 23] وَقَالَ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرَّحْمَنِ: 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا حَالَةُ الشَّرَابِ فَجَازَ أَنْ يَطُوفَ بِهَا الْوِلْدَانُ، فَيُنَاوِلُوهُمُ الْفَوَاكِهَ الْغَرِيبَةَ وَاللُّحُومَ الْعَجِيبَةَ لَا لِلْأَكْلِ بَلْ لِلْإِكْرَامِ، كَمَا يَضَعُ الْمُكْرِمُ لِلضَّيْفِ أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ بِيَدِهِ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ(29/395)
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشَارِكًا لِلْآخَرِ فِي الْقُرْبِ مِنْهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا فِي الْمَعْنَى عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَيْ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتٍ وَفَاكِهَةٍ، وَلَحْمٍ وَحُورٍ، أَيْ فِي هَذِهِ النِّعَمِ يَتَقَلَّبُونَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَطْفٌ فِي اللَّفْظِ لِلْمُجَاوَرَةِ لَا فِي الْمَعْنَى، وَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَذَا، وَقَدْ جَازَ تَقَلَّدَ سَيْفًا وَرُمْحًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ فِي تَخْصِيصِ التَّخْيِيرِ بِالْفَاكِهَةِ وَالِاشْتِهَاءِ بِاللَّحْمِ بَلَاغَةٌ؟ قُلْتُ: وَكَيْفَ لَا وَفِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةٌ وَفَصَاحَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحِيطُ بِهَا ذِهْنِيَ الْكَلِيلُ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا عِلْمِيَ الْقَلِيلُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِيهِ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْفَاكِهَةَ إِذَا حَضَرَا عِنْدَ الْجَائِعِ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى اللَّحْمِ، وَإِذَا حَضَرَا عِنْدَ الشَّبْعَانِ تَمِيلُ إِلَى الْفَاكِهَةِ، وَالْجَائِعُ مُشْتَهٍ وَالشَّبْعَانُ غَيْرُ مُشْتَهٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخْتَارٌ إِنْ أَرَادَ أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يَأْكُلُ، وَلَا يُقَالُ فِي الْجَائِعِ إِنْ أَرَادَ أَكَلَ لِأَنَّ إِنْ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمَشْكُوكِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا اللَّحْمَ عِنْدَ الْمُشْتَهِي مُخْتَارٌ وَالْفَاكِهَةَ عِنْدَ غَيْرِ الْمُشْتَهِي مُخْتَارَةٌ وَحِكَايَةُ الْجَنَّةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ في الدنيا فحص اللَّحْمُ بِالِاشْتِهَاءِ وَالْفَاكِهَةُ بِالِاخْتِيَارِ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ أَخْذُ الْخَيْرِ مِنْ أَمْرَيْنِ وَالْأَمْرَانِ اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاخْتِيَارُ في الظاهر لا يكون للمختار أو لا مَيْلٌ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ وَيَتَرَوَّى، وَيَأْخُذُ مَا يُغَلِّبُهُ نَظَرُهُ عَلَى الْآخَرِ فَالتَّفَكُّهُ هُوَ مَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا إِنِ اشْتَهَى وَاحِدٌ فَاكِهَةً بِعَيْنِهَا فَاسْتَحْضَرَهَا وَأَكَلَهَا فَهُوَ لَيْسَ بِمُتَفَكِّهٍ وَإِنَّمَا هُوَ دَافِعُ حَاجَةٍ، وَأَمَّا فَوَاكِهُ الْجَنَّةِ تَكُونُ أَوَّلًا عِنْدَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مَيْلٍ مِنْهُمْ إِلَيْهَا ثُمَّ يَتَفَكَّهُونَ بِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ، وَأَمَّا اللَّحْمُ فَتَمِيلُ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ أَدْنَى مَيْلٍ فَيَحْضُرُ عِنْدَهُمْ، وَمَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الْمَأْكُولِ شَهْوَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى هذا قوله تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ [الحاقة: 23] وقوله: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: 54] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32، 33] فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا دَائِمَةُ الْحُضُورِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ
فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الطَّائِرَ يَطِيرُ فَتَمِيلُ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ إِلَى لَحْمِهِ فَيَنْزِلُ مَشْوِيًّا وَمَقْلِيًّا عَلَى حَسَبِ مَا يَشْتَهِيهِ،
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَاكِهَةَ تَحْضُرُ عِنْدَهُمْ فَيَتَخَيَّرُ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ الْحُضُورِ وَاللَّحْمُ يَطْلُبُهُ الْمُؤْمِنُ وَتَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَدْنَى مَيْلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بِحُضُورِهَا، وَاللَّحْمُ لَا تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بِحُضُورِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِي اللَّفْظِ لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَمْ يَقُلْ: مِمَّا يَخْتَارُونَ مَعَ قُرْبِ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ التَّخَيُّرَ مِنْ بَابِ التَّكَلُّفِ فَكَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَا يَكُونُ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا مِمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ وَلَا اضْطِرَارٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى اللَّحْمِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: الْعَادَةُ فِي الدُّنْيَا التَّقْدِيمُ لِلْفَوَاكِهِ فِي الْأَكْلِ وَالْجَنَّةُ وُضِعَتْ بِمَا عُلِمَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَوْصَافِ وَعَلَى مَا عُلِمَ فِيهَا، وَلَا سِيَّمَا عَادَةُ أَهْلِ الشُّرْبِ وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حَالِ شُرْبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَثَانِيهَا: الْحِكْمَةُ فِي الدُّنْيَا تَقْتَضِي أَكْلَ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَسْرَعُ انْحِدَارًا وَأَقَلُّ حَاجَةً إِلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ فِي الْمَعِدَةِ لِلْهَضْمِ، وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ تُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ لِلْأَكْلِ وَاللَّحْمُ يَدْفَعُهَا وَثَالِثُهَا: يَخْرُجُ مِمَّا ذَكَرْنَا جَوَابًا خَلَا عَنْ لَفْظِ التَّخْيِيرِ وَالِاشْتِهَاءِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ دَائِمَةُ الْحُضُورِ وَالْوُجُودِ، وَاللَّحْمَ يُشْتَهَى وَيَحْضُرُ عِنْدَ الِاشْتِهَاءِ دَلَّ هَذَا عَلَى عَدَمِ الْجُوعِ لِأَنَّ الْجَائِعَ حَاجَتُهُ إِلَى اللَّحْمِ أَكْثَرُ مِنَ اخْتِيَارِهِ اللَّحْمَ فَقَالَ: وَفاكِهَةٍ لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْجَنَّةِ يُشْبِهُ حَالَ الشَّبْعَانِ فِي الدُّنْيَا فَيَمِيلُ إِلَى الْفَاكِهَةِ أَكْثَرَ فَقَدَّمَهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ لِأَنَّ مِنَ الْفَوَاكِهِ مَا لَا يُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ الطَّعَامِ، فلا يصح الأول جوابا في الكل/. ثم قال تعالى:(29/396)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 22 الى 23]
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ الْأُولَى: الرَّفْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى وِلْدَانٌ، فَإِنْ قِيلَ قَالَ قَبْلَهُ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [الرَّحْمَنِ: 72] إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهَا مُخَدَّرَةً وَمَسْتُورَةً، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ: إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى وِلْدَانٌ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنْ نَقُولَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَيْهِمْ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى، أَوْ فِي الْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرِ وَالْمَفْهُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ [الواقعة: 17] مَعْنَاهُ لَهُمْ وِلْدَانٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطور: 24] فَيَكُونُ: وَحُورٌ عِينٌ بِمَعْنَى وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتِ الْحُورُ مُنْحَصِرَاتٍ فِي جِنْسٍ، بَلْ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ في حظائر معظمات ولهن جواري وخوادم، وَحُورٌ تَطُوفُ مَعَ الْوِلْدَانِ السُّقَاةِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ وَنِسَاءٌ الثَّانِيَةُ: الْجَرُّ عَطْفًا عَلَى أَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُطَافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ سَبَقَ عِنْدَ قوله: وَلَحْمِ طَيْرٍ [الواقعة: 21] أو عطفا على: جَنَّاتِ [الواقعة: 12] أَيْ: أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورٌ. وَقُرِئَ حُورًا عِينًا بِالنَّصْبِ، وَلَعَلَّ الْحَاصِلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى غَيْرِ الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْعَطْفِ لَكِنَّ هَذَا الْقَارِئَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيرِ نَاصِبٍ فَيَقُولُ: يُؤْتَوْنَ حُورًا فَيُقَالُ: قَدْ رَافِعًا فَقَالَ: وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ فَلَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ عَنْ مُوَافَقَةِ الْعَاطِفِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْمِثْلُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: أَمْثَالُ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ لَمْ يَكُنْ إِلَى الْكَافِ حَاجَةٌ، فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَتَيِ التَّشْبِيهِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ الْمَشْهُورُ أَنَّ كَلِمَتَيِ التَّشْبِيهِ يُفِيدَانِ التَّأْكِيدَ وَالزِّيَادَةَ فِي التَّشْبِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا يُفِيدَانِ مَا يُفِيدُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّكَ إِنْ قُلْتَ مَثَلًا: هُوَ كَاللُّؤْلُؤَةِ لِلْمُشَبَّهِ، دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهِ التَّشْبِيهُ؟ نَقُولُ: التَّحْقِيقُ فِيهِ، هُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ مَثَلٌ فَهُوَ مِثْلُهُ، فَإِذَا قُلْتَ هُوَ مِثْلُ الْقَمَرِ لَا يَكُونُ فِي الْمُبَالَغَةِ مِثْلَ قَوْلِكَ هُوَ قَمَرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: هُوَ كَالْأَسَدِ، وَهُوَ أَسَدٌ، فَإِذَا قُلْتَ: كَمِثْلِ اللُّؤْلُؤِ كَأَنَّكَ قُلْتَ: مِثْلُ اللُّؤْلُؤِ وَقَوْلُكَ: هُوَ اللُّؤْلُؤُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: هُوَ كَاللُّؤْلُؤِ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُفِيدُنَا هاهنا، وَلَا يُفِيدُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: 11] لِأَنَّ النَّفْيَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا يُفْهَمُ مَعْنَى النَّفْيِ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَنَفَى مَا أَثْبَتَهُ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ نَقُلْ بِزِيَادَةِ الْكَافِ هُوَ أَنَّ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهَذَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلًا، ثُمَّ إِنَّ لِمِثْلِهِ مِثْلًا، فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ كَانَ رَدًّا عَلَيْهِ، وَالرَّدُّ عَلَيْهِ صَحِيحٌ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّادَّ عَلَى مَنْ يُثْبِتُ أُمُورًا لَا يَكُونُ نَافِيًا لِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: زَيْدٌ عَالِمٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ قِيلَ رَدًّا عَلَيْهِ: لَيْسَ زَيْدٌ عَالِمًا جَيِّدًا لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِكَوْنِهِ عَالِمًا، فَمَنْ يَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بِمَعْنَى لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمِثْلِهِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِمِثْلِ الْمِثْلِ، فَلَا يَكُونُ/ الرَّادُّ أَيْضًا مُوَحِّدًا فَيُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ إِفَادَةِ التَّوْحِيدِ، فَنَقُولُ: يَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّوْحِيدِ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مِثْلَ مِثْلِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: 19] فَإِنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ هُوَ الْمَوْجُودُ فَيَكُونُ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِنَا: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ لَا(29/397)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
يَخْرُجُ عَنْ إِفَادَةِ التَّوْحِيدِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُفِيدُ فِي الْكَلَامِ مُبَالِغَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَمْثالِ وَأَمَّا عَدَمُ الْحَمْلِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَهُوَ أَوْجَزُ فَتُجْعَلُ الْكَافُ زَائِدَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّعْطِيلُ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِلَهِ، نَقُولُ: فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَفْيًا مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَقَدْ وَافَقَنَا مَنْ قَالَ بِالشَّرِيكِ، وَلَا يخالفنا إلا المعطل، وذلك إثباته ظاهرا، وَإِذَا كَانَ هُوَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ مَعَ مِثْلِهِ تَعَادَلَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ ذَلِكَ مِثْلَهُ وَقَدْ تَعَدَّدَ فَلَا بُدَّ مِنَ انْضِمَامِ مُمَيِّزٍ إِلَيْهِ بِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ مِثْلِهِ، فَلَوْ كَانَ مُرَكَّبًا فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مُمْكِنٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَا كَانَ هُوَ هُوَ فَيَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْمِثْلِ لَهُ نَفْيُهُ، فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إِذَا حَمَلْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَيَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ قَوْلُ الْكَافِرِ: مِثْلُ مِثْلِهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ مُثْبِتًا لِكَوْنِهِ مِثْلَ مِثْلِهِ وَيَكُونُ مِثْلُهُ يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ وَمِنْهُ لَا يَبْقَى وَاجِبَ الْوُجُودِ فَذِكْرُ الْمِثْلَيْنِ لَفْظًا يُفِيدُ التَّوْحِيدَ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُشْرِكِ وَلَوْ قُلْنَا: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ يَكُونُ نَفْيًا مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّا نَقُولُ: فِي نَفْيِ الْمِثْلِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِ لَا مِثْلَ لِلَّهِ، ثُمَّ نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ وَنَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ هُوَ مِثْلًا لِذَلِكَ الْمِثْلِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا مُحْتَاجًا فَلَا يَكُونُ إِلَهًا وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَا كَانَ اللَّهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ، لِأَنَّ عِنْدَ فَرْضِ مِثْلٍ لَهُ يُشَارِكُهُ بِشَيْءٍ وَيُنَافِيهِ بِشَيْءٍ، فَيَلْزَمُ تَرْكُهُ فَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ كَوْنِهِ إِلَهًا فَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ يُفْضِي إِلَى نَفْيِ الْإِلَهِ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تَوْحِيدٌ بِالدَّلِيلِ وَلَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ تَوْحِيدٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا رَأَيْتُهُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ فخر الدين الرازي رحمه الله «1» بعد ما فَرَغْتُ مِنْ كِتَابَةِ هَذَا مِمَّا وَافَقَ خَاطِرِي خَاطِرَهُ عَلَى أَنِّي مُعْتَرِفٌ بِأَنِّي أَصَبْتُ مِنْهُ فوائد لا لَا أُحْصِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ صَفَائِهِنَّ أَيِ اللُّؤْلُؤِ الَّذِي لم يغير لونه الشمس والهواء. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 24]
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
وَفِي نَصْبِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ تَقْدِيرُهُ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا لِيَقَعَ جَزَاءً وَلِيُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنْ نَقُولَ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ جَزَاءُ عَمَلِكُمْ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ/ فَلَا يُدْرِكُهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ جَزَاءٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُجْزَوْنَ جَزَاءً، وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا قَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في حق المؤمنين: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] وَفِي حَقِّ الْكَافِرِينَ: إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّحْرِيمِ: 7] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ عَيْنُ جَزَاءِ مَا فَعَلُوا فَلَا زِيَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَالثَّوَابَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] فَلَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ عَيْنَ عَمَلِهِمْ، بَلْ يُعْطِيهِمْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ مَا يُعْطِيهِمْ، وَالْكَافِرُ يُعْطِيهِ عَيْنَ مَا فَعَلَ، فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أُصُولِيَّةٌ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا فَالْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُقَالَ: الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا أَقُولُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا ذَكَرُوهُ. ولو صح
__________
(1) هذه العبارة تشعر وتؤكد أن الكتاب أو هذه السورة لمؤلف آخر غير فخر الدين الرازي وإنما هذا لأحد تلاميذه أكملها بعد وفاته أو نقص بالأصل وكمله أحد العلماء المتأخرين والله أعلم.(29/398)
لَمَا كَانَ فِي الْوَعْدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا حَكَمَ بِأَنَّ تَرْكَ الْجَزَاءِ قَبِيحٌ وَعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْقَبِيحَ مِنَ اللَّهِ لَا يُوجَدُ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهَا أَجْزِيَةٌ، وَإِيصَالُ الْجَزَاءِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: بِمَذْهَبِنَا تَكُونُ الْآيَاتُ مُفِيدَةً مُبَشِّرَةً، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْخَيْرِ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، لَا يُقَالُ: الْجَزَاءُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ وَأَمَّا الْخَبَرُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَذْكُرُهَا مُبَشِّرًا، لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا وَجَبَ نَفْسُ الْجَزَاءِ فَمَا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً فَثَوَابُ الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا تَفَضُّلًا مِنْهُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَّلَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: هَذَا جَزَاؤُكُمْ، أَيْ جَعَلْتُهُ لَكُمْ جَزَاءً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا وَلَا وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَعْطَى مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ إِيدَاعًا أَوْ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ فَيَفْرَحُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا إِنْعَامٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ عَلَيَّ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَيَقُولُ لَهُ هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَيْتَ بِهِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذَا خِدْمَةً، فَإِنْ أَتَيْتَ بِخِدْمَةٍ فَلَهَا ثَوَابٌ جَدِيدٌ، فَيَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْفَضْلِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْآتِي غَيْرَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَتَى بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نَوْعِ اخْتِلَالٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَالِنَا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا الْبِنْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ مِنَّا أَنْفُسَنَا وَأَجْسَامَنَا، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجِدُهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يُحَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُعَامَلَةً تُوجِبُ مُطَالَبَةً، ونرجو أن يحقق الله تعالى معناه الْمَالِكِيَّةَ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَيَدْفَعَ حَاجَاتِنَا الْأَصْلِيَّةَ وَيُطَهِّرَ أَعْمَالَنَا، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَدْفَعُ حَاجَةَ عَبْدِهِ بِإِطْعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ، وَيُطَهِّرُ صَوْمَهُ بِزَكَاةِ فِطْرِهِ، وَإِذَا جَنَى جِنَايَةً لَمْ يُمَكِّنِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، بَلْ يَخْتَارُ فِدَاءَهُ وَيُخَلِّصُ رَقَبَتَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ، كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ حَاجَاتِنَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَهَمُّ الْحَاجَاتِ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَعْفُوَ عَنَّا، وَيَتَغَمَّدَنَا/ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ، حَيْثُ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ تَمَلُّكِ رِقَابِنَا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَنَّا، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعَ إِخْوَانِنَا الْمُعْتَزِلَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَعَامِلَانِ فِي الْمُحَاسَبَةِ بِالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِمَا يَفْضُلُ لِأَحَدِهِمَا مِنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ رُؤْيَةٌ لَكَانَتْ جَزَاءً، وَقَدْ حَصَرَ اللَّهُ الْجَزَاءَ فِيمَا ذَكَرَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ نَقُولَ: لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَكُونُ جَزَاءً، بَلْ تَكُونُ فَضْلًا مِنْهُ فَوْقَ الْجَزَاءِ، وَهَبْ أَنَّهَا تَكُونُ جَزَاءً، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذِكْرَ الْجَزَاءِ حَصْرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: وَأَعْطَيْتُكَ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَهُ أَيْضًا جَزَاءً عَلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّهُ حَصْرٌ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ في حق الملائكة: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء: 172] ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ قُرْبِهِمُ الرُّؤْيَةُ، نَقُولُ:
أَجَبْنَا أَنَّ قُرْبَهُمْ مِثْلُ قُرْبِ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ الْمَلِكِ لِقَضَاءِ الْأَشْغَالِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْبَابِ تَخْرُجُ أَوَامِرُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: 6] وَقُرْبُ الْمُؤْمِنِ قُرْبُ الْمُنَعَّمِ مِنَ الْمَلِكِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُكَالَمَةِ وَالْمُجَالَسَةِ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُقَرَّبَ الْمُكَلَّفَ لَيْسَ كُلَّمَا يَرُوحُ إِلَى بَابِ الْمَلِكِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمُنَعَّمُ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَّا وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤْيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ ذَكَرَ الْأَبْرَارَ وَالْفُجَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْفُجَّارِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 15] وَقَالَ فِي الْأَبْرَارِ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 28] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحْجُوبُونَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِ الْأَبْرَارِ حَالَ الْفُجَّارِ فِي الْحِجَابِ وَالْقُرْبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: 18](29/399)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْقُرْبِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَفِي سِجِّينٍ [الْمُطَفِّفِينَ: 7] فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الْإِنْسَانِ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِجُلَسَاءِ الْمَلِكِ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فِي تِلْكَ السُّورَةِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 21] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْكِتَابِ وَالْحِسَابِ عِنْدَ الْمَلِكِ لِمَا أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يَحْسُدُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ قُرْبُهُ مِنَ الْمَلِكِ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ لَا يَخْتَارُ قُرْبَ الْكِتَابِ وَالْحِسَابِ، بَلْ قُرْبَ النَّدِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَيْنَ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْقُرْبِ الَّذِي بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَفِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ قَوْلُهُ: لَمَحْجُوبُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْظَرَ إِلَى اللَّهِ قَوْلُنَا: جُلَسَاءُ الْمَلِكِ فِي ظَاهِرِ النَّظَرِ الَّذِي يَقْتَضِي فِي نَظَرِ الْقَوْمِ الْجِهَةَ وَإِلَى الْقُرْبِ الَّذِي يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ مِنْهُ الْمَكَانَ إِلَّا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عَمَلُهُمْ وَحَاصِلٌ بفعلهم، نقول: لا نزاع في أن العلم فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وُضِعَ لِلْفِعْلِ وَالْمَجْنُونَ لِلَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَالْعَاقِلَ لِلَّذِي بَلَغَ الْكَمَالَ فِيهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِوَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَرَى/ الْحَرَكَةَ مِنَ الْجِسْمَيْنِ فَيَقُولُ: تَحَرَّكَ وَسَكَنَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، كَمَا يَقُولُ: تَدُورُ الرَّحَا وَيَصْعَدُ الْحَجَرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا الْفِعْلُ فِي الْمَحَلِّ الْمَرْئِيِّ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 25 الى 26]
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ذِكْرِهِ عَنِ الْجَزَاءِ مَعَ أَنَّهُ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ؟ نَقُولُ فِيهِ لَطَائِفُ الْأُولَى:
أَنَّ هَذَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، فَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ الَّتِي مِنْهَا الرُّؤْيَةُ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا مِنْ أَتَمِّ النِّعَمِ، لِأَنَّهَا نِعْمَةُ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلاماً هُوَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ يس: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] فَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا جَعَلَهُ جَزَاءً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 11] لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا، وَهِيَ الرُّؤْيَةُ بِالنَّظَرِ كَمَا مَرَّ وَخَتَمَ بِمِثْلِهَا، وَهِيَ نِعْمَةُ الْمُخَاطَبَةِ الثَّالِثَةُ: هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الْفِعْلِيَّةَ وَقَابَلَهَا بِأَعْمَالِهِمْ حَيْثُ قال: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 24] ذَكَرَ النِّعَمَ الْقَوْلِيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ أَذْكَارِهِمُ الْحَسَنَةِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ لَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ، فَمَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعْمَةِ تَكُونُ نِعْمَةً لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهَا أُذُنٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: «مالا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَلَا خَطَرَ»
إِشَارَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النِّعْمَةِ الْقَوْلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمُ الطَّيِّبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا إِلَى قَوْلِهِ: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: 30- 32] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً نَفْيٌ لِلْمَكْرُوهِ لِمَا أَنَّ اللَّغْوَ كَلَامٌ غَيْرُ(29/400)
مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمُعْتَبَرَينَ مِنَ الرِّجَالِ مَكْرُوهٌ، وَنَفْيُ الْمَكْرُوهِ لَا يُعَدُّ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، كَيْفَ وَقَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِكَوْنِهَا أَتَمَّ، وَلَوْ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا فِي بَلْدَةِ كَذَا مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ لَا يُضْرَبُ وَلَا يُشْتَمُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَرَّمٍ وَهُوَ مَذْمُومٌ وَالْوَاغِلُ مَذْمُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَوْمٍ يَشْرَبُونَ وَيَأْكُلُونَ فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَلَا إِذْنٍ فَكَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ كَلَامٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ اللَّغْوُ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مِثْلُ الْوُلُوغِ لَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَالِغُ كَلْبًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ مِنَ السِّبَاعِ، وَأَمَّا التَّأْثِيمُ فَهُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْإِثْمِ وَمَعْنَاهُ لَا يَذْكُرُ إِلَّا بَاطِلًا وَلَا يَنْسُبُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِلَى الْبَاطِلِ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ فَلِأَنَّ اللَّغْوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْثِيمِ أَيْ يَجْعَلُهُ آثِمًا كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ سَارِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَنْ يَلْغُوَ وَإِلَى أَنْ لَا يَلْغُوَ وَالَّذِي لَا يَلْغُو يَقْصِدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَأْخُذُ النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ/ تَعَالَى: لَا يَلْغُو أَحَدٌ وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَغْوٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ اللَّغْوَ فَيَقُولُ لَهُ: الصَّادِقُ لَا يَلْغُو وَلَا يَأْثَمُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبَاطِلَ أَقْبَحُ مَا يُشْبِهُهُ فَقَالَ:
لَا يَأْثَمُ أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّبَأِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: 35] فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ الْكِذَّابُ كَثِيرُ التَّكْذِيبِ وَمَعْنَاهُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ كَذِبًا وَلَا أَحَدًا يَقُولُ لِآخَرَ: كَذَبْتَ وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَذِبًا مِنْ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ حَالِهِمْ وَحَالِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بِأَعْيَانِهِمْ كَذَّابُونَ فَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ نَقْطَعْ بِأَنَّ فِي النَّاسِ كَذَّابًا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: كَذَبْتَ فَإِنْ صَدَقَ فَصَاحِبُهُ كَذَّابٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ فَهُوَ كَاذِبٌ فَيَعْلَمُ أَنَّ فِي الدُّنْيَا كَذَّابًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا كَذِبَ فِيهَا، وقال هاهنا: وَلا تَأْثِيماً وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ: إِنَّهُ زَانٍ أَوْ شَارِبٌ الْخَمْرَ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَأْثَمُ وَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا، فَالَّذِي لَيْسَ عَنْ عِلْمٍ إِثْمٌ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ: قُلْتَ ما لا علم لك به فالكلام هاهنا أَبْلَغُ لِأَنَّهُ قَصَرَ السُّورَةَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ الْأَقْسَامِ لِأَنَّ الْمَذْكُورِينَ هُنَا هُمُ السَّابِقُونَ وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّابِقَ فَوْقَ الْمُتَّقِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِلَّا قِيلًا استثناء متصل أو مُنْقَطِعٌ، فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَوَجْهُهُ أَنْ نَقُولَ:
الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّكَ تقول: مالي ذنب إلا أُحِبُّكَ، فَلِهَذَا تُؤْذِينِي فَتَسْتَثْنِي مَحَبَّتَهُ مِنَ الذَّنْبِ وَلَا تُرِيدُ الْمُنْقَطِعَ لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيَانَ أَنَّكَ تُحِبُّهُ إِنَّمَا تُرِيدُ فِي تَبْرِئَتِكَ عَنِ الذُّنُوبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَوَسِّطَةٌ مِثَالُهُ: الْحَارُّ وَالْبَارِدُ وَبَيْنَهُمَا الْفَاتِرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَارِّ مِنَ الْبَارِدِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْبَارِدِ مِنَ الْحَارِّ، وَالْمُتَوَسِّطُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَارِدِ عِنْدَ النِّسْبَةِ إِلَى الْحَارِّ فَيُقَالُ: هَذَا بَارِدٌ وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِدِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَارٌّ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل: مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، مَعْنَاهُ لَا تَجِدُ مَا يُقَرِّبُ مِنَ الذَّنْبِ إِلَّا الْمَحَبَّةَ فَإِنَّ عِنْدِي أُمُورًا فَوْقَهَا إِذَا نَسَبْتَهَا إِلَى الذَّنْبِ تَجِدُ بَيْنَهَا غَايَةَ الْخِلَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: دَرَجَاتُ الْحُبِّ عِنْدِي طَاعَتُكَ وَفَوْقَهَا إِنَّ أَفْضَلَ جَانِبٍ أَقَلُّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ عَلَى جَانِبِ الْحِفْظِ لِرُوحِي، إِشَارَةً إِلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ مُسْتَحْقَرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ فَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أَيْ يَسْمَعُونَ فِيهَا كَلَامًا فَائِقًا عَظِيمَ الْفَائِدَةِ كَامِلَ اللَّذَّةِ أَدْنَاهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى اللَّغْوِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ:
سَلَامٌ عَلَيْكَ فَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَقْرُبُ مِنَ اللَّغْوِ إِلَّا سَلَامًا، فَمَا ظَنُّكَ بالذين يَبْعُدُ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ الْمَاءُ الْبَارِدُ الصَّادِقُ(29/401)
وَالْمَاءُ الَّذِي كَسَرَتِ الشَّمْسُ بُرُودَتَهُ وَطُلِبَ مِنْهُ ماء حار ليس عندي ماء جار إِلَّا هَذَا أَيْ لَيْسَ عِنْدِي مَا يَبْعُدُ مِنَ الْبَارِدِ الصَّادِقِ الْبُرُودَةِ وَيَقْرُبُ مِنَ الْحَارِّ إِلَّا هَذَا وَفِيهِ الْمُبَالَغَةُ الْفَائِقَةُ وَالْبَلَاغَةُ الرَّائِقَةُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّغْوُ مَجَازًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَجَازٍ وَحُمِلَ اللَّغْوُ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلْيُحْمَلْ إِلَّا عَلَى لَكِنْ لِأَنَّهُمَا/ مُشْتَرِكَانِ فِي إِثْبَاتِ خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، نَقُولُ: الْمَجَازُ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْلَى مِنَ الْمَجَازِ فِي الْحُرُوفِ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ فِي الدَّلَالَةِ وَتَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحُرُوفُ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تَصِيرُ مَجَازًا إِلَّا بِالِاقْتِرَانِ بِاسْمٍ وَالِاسْمُ يَصِيرُ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ الِاقْتِرَانِ بِحَرْفٍ فَإِنَّكَ تَقُولُ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي وَيَكُونُ مَجَازًا وَلَا اقْتِرَانَ لَهُ بِحَرْفٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ لِرَجُلٍ: هَذَا أَسَدٌ وَتُرِيدُ بِأَسَدٍ كَامِلَ الشَّجَاعَةِ، وَلِأَنَّ عَرْضَ المتكلم في قوله مالي ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّكَ، لَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَجَازِ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالْبَلَاغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْقَوْلِ فَيَكُونُ قِيلًا مَصْدَرًا، كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ مَصْدَرٌ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لَهُ فِي بَابِ فَعَلَ يَفْعُلُ إِلَّا حَرْفٌ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ اسْمٌ وَالْقَوْلُ مَصْدَرٌ فَهُوَ كَالسِّدْلِ وَالسِّتْرِ بِكَسْرِ السِّينِ اسْمٌ وَبِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلٍ هُوَ: قَالَ وَقِيلَ، لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، وَمَا قِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ، يَكُونُ مَعْنَاهُ نَهَى عَنِ الْمُشَاجَرَةِ، وَحِكَايَةِ أُمُورٍ جَرَتْ بَيْنَ أَقْوَامٍ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ مِنْ غَيْرِ وَعْظٍ وَلَا حِكْمَةٍ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّه عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ»
وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ اسْمٌ لِلْقَوْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُ، تَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: كَذَا، فَقَالَ: كَذَا، فَيَكُونُ حَاصِلُ كَلَامِهِ قِيلَ وَقَالَ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيلُ اسْمٌ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ، وَالْقَالُ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ هُوَ قَالَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا بَاطِلٌ لقوله تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزُّخْرُفِ: 88] فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ يَعْلَمُ اللَّه قِيلَ مُحَمَّدٍ: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا قَالَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ [نُوحٍ: 27] ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: 89] إِرْشَادٌ لَهُ لِئَلَّا يَدْعُوَ عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَ يَأْسِهِ مِنْهُمْ كَمَا دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ مُضَافًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ الْقِيلُ اسْمًا لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَنَا: إِنَّهُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قِيلَ الْمَوْضُوعِ لِقَوْلٍ لَمْ يُعْلَمْ قَائِلُهُ فِي الْأَصْلِ لَا يُنَافِي جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي قَوْلِ مَنْ عُلِمَ بِغَيْرِ الْمَوْضُوعِ وَثَانِيهِمَا:
وَهُوَ الْجَوَابُ الدَّقِيقُ أَنْ نَقُولَ: الْهَاءُ فِي: وَقِيلِهِ ضَمِيرٌ كَمَا فِي رَبِّهِ وَكَالضَّمِيرِ الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ قَالَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَجِّ: 46] وَالْهَاءُ غَيْرُ عَائِدٍ إِلَى مَذْكُورٍ، غَيْرَ أَنَّ الْكُوفِيِّينَ جَعَلُوهُ لِغَيْرِ مَعْلُومٍ وَالْبَصْرِيِّينَ جَعَلُوهُ ضَمِيرَ الْقِصَّةِ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِمْ بَلَغَ غَايَةَ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى قِيلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ فِي كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهَذَا وَأَنَّهُمْ عَالِمُونَ، وَأَهْلُ السَّمَاءِ عَلِمُوا بِأَنَّ عِنْدَ اللَّه عِلْمَ السَّاعَةِ يَعْلَمُهَا فَيَعْلَمُ قول من يقول: يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 88] مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَوْلٍ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ لَوْ كَانَ عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى مَذْكُورٍ قَبْلَهُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا/ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا إِلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ الخطاب بقوله: فَاصْفَحِ [الحجر: 85] كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ، وَقِيلِكَ يَا رَبِّ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا بِكَلَامِ اللَّه، وَقَدْ قَالَ(29/402)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
قبله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [الزخرف: 87] وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزُّخْرُفِ: 81] وَكَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ أَوَّلًا، إِذَا تَحَقَّقَ هَذَا؟ نَقُولُ: إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْقِيلِ فِي الْقُرْآنِ ترى ما ذكرنا ملحوظا مراعى، فقال هاهنا: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ هَذَا الْقَوْلِ بِقَائِلٍ دُونَ قَائِلٍ فَيَسْمَعُ هَذَا الْقَوْلَ دَائِمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ [الرعد: 23، 24] وَقَالَ تَعَالَى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] حَيْثُ كَانَ الْمُسَلِّمُ مُنْفَرِدًا، وَهُوَ اللَّه كَأَنَّهُ قَالَ: سَلَامٌ قَوْلًا مِنَّا، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً [فُصِّلَتْ: 33] وَقَالَ: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 6] لِأَنَّ الدَّاعِيَ مُعَيَّنٌ وَهُمُ الرُّسُلُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ لَيْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: قَوِيمٌ، وَنَهْجَهُ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ [الزخرف: 88] لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ:
إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. أَمَّا هُمْ فَلِاعْتِرَافِهِمْ وَلِإِقْرَارِهِمْ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلِكُفْرَانِهِمْ بِإِسْرَافِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ يُقَرِّبُ إِلَى الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، فَقَالَ: إِلَّا قِيلًا وَهُوَ سَلَامٌ عَلَيْكَ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يُعْرَفُ وَهُوَ اللَّه فَهُوَ الْأَبْعَدُ عَنِ اللَّغْوِ غَايَةَ الْبُعْدِ وَبَيْنَهُمَا نِهَايَةُ الْخِلَافِ فَقَالَ: سَلامٌ قَوْلًا [يس: 58] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: (سَلَامٌ) ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى بِهَا قِيلًا كَمَا يُوصَفُ الشَّيْءُ بِالْمَصْدَرِ حَيْثُ يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وَقَوْمٌ صَوْمٌ، وَمَعْنَاهُ إِلَّا قِيلًا سَالِمًا عَنِ الْعُيُوبِ، وَثَانِيهَا: هُوَ مَصْدَرٌ تَقْدِيرُهُ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا سَلَامًا وَثَالِثُهَا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قِيلًا، تَقْدِيرُهُ: إِلَّا سَلَامًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: تَكْرِيرُ السَّلَامِ هَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ السَّلَامِ فِي الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَرَدِّ السَّلَامِ، فَكَمَا أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا يَقُولُ لِلْآخَرِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَيَقُولُ الْآخَرُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ يَقُولُونَ: سَلاماً سَلاماً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدٌّ لِأَنَّ تَسْلِيمَ اللَّه عَلَى عَبْدِهِ مُؤَمِّنٌ لَهُ، فَأَمَّا اللَّه تَعَالَى فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُؤَمِّنَهُ أَحَدٌ، بَلِ الرَّدُّ إِنْ كَانَ فَهُوَ قَوْلُ الْمُؤَمَّنِ: سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَلاماً سَلاماً بِنَصْبِهِمَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَتَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَلَامًا عَلَيْكَ فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالذِّكْرِ وَيُجِيبَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا حَيَّوْا، وَأَمَّا هُنَا فَلَا يَتَفَضَّلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى الْآخَرِ مِثْلَ التَّفَضُّلِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ إِذْ هُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يَنْسُبُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ تَقْصِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: سَلامٌ عَلَيْكَ أَتَمَّ وَأَبْلَغَ فَمَا بَالُ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ/ صَارَتْ بِالنَّصْبِ، وَمَنْ قَرَأَ (سَلَامٌ) لَيْسَ مِثْلَ الَّذِي قَرَأَ بِالنَّصْبِ، نَقُولُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنَ الْمَسْمُوعِ وَهُوَ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ، فَالنَّصْبُ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُمْ: سَلامٌ أَبْعَدُ مِنَ اللَّغْوِ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَلاماً فَقَالَ: إِلَّا قِيلًا سَلاماً لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى اللَّغْوِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي نفسه بعيدا عنه. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 29]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)(29/403)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ السَّابِقِينَ شَرَعَ فِي شَأْنِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ مِنَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمْ بِلَفْظِ: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] عند ذكر الأقسام، وبلفظ أَصْحابُ الْيَمِينِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْعَامِ؟ نَقُولُ: الْمَيْمَنَةُ مَفْعَلَةٌ إِمَّا بِمَعْنَى مَوْضِعِ الْيَمِينِ كَالْمَحْكَمَةِ لِمَوْضِعِ الْحُكْمِ، أَيِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْيَمِينُ وَإِمَّا بِمَعْنَى موضع اليمين كَالْمَنَارَةِ مَوْضِعِ النَّارِ، وَالْمَجْمَرَةِ مَوْضِعِ الْجَمْرِ، فَكَيْفَمَا كَانَ الْمَيْمَنَةُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، لَكِنَّ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَتَفَرَّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] وقال: يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] فَيَتَفَرَّقُونَ بِالْمَكَانِ فَأَشَارَ فِي الْأَوَّلِ إِلَيْهِمْ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ، ثُمَّ عِنْدَ الثَّوَابِ وَقَعَ تَفَرُّقُهُمْ بِأَمْرٍ مُبْهَمٍ لَا يَتَشَارَكُونَ فِيهِ كَالْمَكَانِ، فَقَالَ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَصْحَابُ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِأَيْمَانِهِمْ كُتُبَهُمْ ثَانِيهَا: أَصْحَابُ الْقُوَّةِ ثَالِثُهَا: أَصْحَابُ النُّورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سِدْرٍ وَأَيَّةُ نِعْمَةٍ تَكُونُ فِي كَوْنِهِمْ فِي سِدْرٍ، وَالسِّدْرُ مِنْ أَشْجَارِ الْبَوَادِي، لَا بِمُرٍّ وَلَا بِحُلْوٍ وَلَا بِطَيِّبٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ غَفَلَتْ عَنْهَا الْأَوَائِلُ وَالْأَوَاخِرُ، وَاقْتَصَرُوا فِي الْجَوَابِ وَالتَّقْرِيبِ أَنَّ الْجَنَّةَ تُمَثَّلُ بِمَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَزِيزًا مَحْمُودًا، وَهُوَ صَوَابٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ فَائِقٍ، وَالْفَائِقُ الرَّائِقُ الَّذِي هُوَ بِتَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّه لَائِقٌ، هُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْبَلِيغَ يَذْكُرُ طَرَفَيْ أَمْرَيْنِ، يَتَضَمَّنُ ذِكْرُهُمَا الْإِشَارَةَ إِلَى جَمِيعِ مَا بَيْنَهُمَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مَلِكُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَلِكُهُمَا وَمَلِكُ مَا بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَرْضَى الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَرْضَى كُلَّ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَزَيُّنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُتَفَرَّجُ فِيهَا بِالْأَشْجَارِ، وَتِلْكَ الْأَشْجَارُ تَارَةً يُطْلَبُ مِنْهَا نَفْسُ الْوَرَقِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ وَالِاسْتِظْلَالُ بِهِ، وَتَارَةً يُقْصَدُ إِلَى ثِمَارِهَا، وَتَارَةً يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، لَكِنَّ الْأَشْجَارَ أَوْرَاقُهَا عَلَى أَقْسَامٍ كثيرة، ويجمعها نوعان: أوراث صِغَارٌ، وَأَوْرَاقٌ كِبَارٌ، وَالسِّدْرُ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، وَالطَّلْحُ وَهُوَ شَجَرُ الْمَوْزِ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ وَرَقُهُ/ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ وَرَقُهُ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ مِنْهَا، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الطَّرَفَيْنِ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَشْجَارِ نَظَرًا إِلَى أَوْرَاقِهَا، وَالْوَرَقُ أَحَدُ مَقَاصِدِ الشَّجَرِ وَنَظِيرُهُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرُ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى ذِكْرِ الثِّمَارِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا غَايَةَ الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْأَشْجَارِ نَظَرًا إِلَى ثِمَارِهَا، وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، فَإِنَّ النَّخْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَالْكَرْمُ مِنْ أَصْغَرِ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَبَيْنَهُمَا أَشْجَارٌ فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا جَامِعَةً لِسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَهَذَا جَوَابٌ فَائِقٌ وَفَّقَنَا اللَّه تَعَالَى لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا مَعْنَى الْمَخْضُودِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَأْخُوذُ الشَّوْكِ، فَإِنَّ شَوْكَ السِّدْرِ يَسْتَقْصِفُ وَرَقَهَا، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ مُنْتَزَهَ الْعَرَبِ، ذَلِكَ لِأَنَّهَا تُظِلُّ لِكَثْرَةِ أَوْرَاقِهَا وَدُخُولِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَثَانِيهِمَا: مَخْضُودٌ أَيْ مُتَعَطِّفٌ إِلَى أَسْفَلُ، فإن رؤوس أَغْصَانِ السِّدْرِ فِي الدُّنْيَا تَمِيلُ إِلَى فَوْقُ بخلاف أشجار الثمار، فإن رؤوسها تَتَدَلَّى، وَحِينَئِذٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَالِفُ سِدْرَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ لَهَا ثَمَرًا كَثِيرًا.(29/404)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الطَّلْحُ؟ نَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَجَرُ الْمَوْزِ، وَبِهِ يَتِمُّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ مَنْ يَقْرَأُ: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فَقَالَ: مَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ (وَطَلْعٍ) ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] فَقَالُوا: فِي الْمَصَاحِفِ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تُحَوَّلُ الْمَصَاحِفُ،
فَنَقُولُ: هَذَا دليل معجزة القرآن، وغرارة عِلْمِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أَمَّا الْمُعْجِزَةُ فَلِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَلَمَّا سَمِعَ هَذَا حَمَلَهُ عَلَى الطَّلْعِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ قَدِ اتَّفَقَ حَرْفُهُ لِمُبَادَرَةِ ذِهْنِهِ إِلَى مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الشَّجَرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْوَرَقُ لِلِاسْتِظْلَالِ بِهِ، وَالشَّجَرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الثَّمَرُ لِلِاسْتِغْلَالِ بِهِ، فَذَكَرَ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ عَلِمَ أَنَّ الطَّلْحَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى، وَهُوَ أَفْصَحُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَقَالَ: الْمُصْحَفُ بَيَّنَ لِي أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا كَانَ فِي ظَنِّي فَالْمُصْحَفُ لَا يُحَوَّلُ.
وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلْعٌ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [الواقعة: 32] تَكْرَارَ أَحْرُفٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا عَلَى الطَّلْحِ فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ وَسَنُبَيِّنُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمَنْضُودُ؟ فَنَقُولُ: إِمَّا الْوَرَقُ وَإِمَّا الثَّمَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَرَقُ، لِأَنَّ شَجَرَ الْمَوْزِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ يَكُونُ وَرَقًا بَعْدَ وَرَقٍ، وَهُوَ يَنْبُتُ كَشَجَرِ الْحِنْطَةِ وَرَقًا بَعْدَ وَرَقِ وَسَاقُهُ يَغْلُظُ وَتَرْتَفِعُ أَوْرَاقُهُ، وَيَبْقَى بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، كَمَا فِي الْقَصَبِ، فَمَوْزُ الدُّنْيَا إِذَا ثَبَتَ كَانَ بَيْنَ الْقَصَبِ وَبَيْنَ بَعْضِهَا فُرْجَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَمَوْزُ الْآخِرَةِ يَكُونُ وَرَقُهُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ أَكْثَرُ أَوْرَاقًا، وَقِيلَ: الْمَنْضُودُ الْمُثْمِرُ، فَإِنْ قِيلَ:
إِذَا كَانَ الطَّلْحُ شَجَرًا فَهُوَ لَا يَكُونُ مَنْضُودًا وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ ثَمَرٌ مَنْضُودٌ، فَكَيْفَ وَصَفَ بِهِ الطَّلْحَ؟ نَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ حَسَنُ الْوَجْهِ وُصِفَ بِسَبَبِ اتِّصَافِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ، يُقَالُ: زَيْدٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، وَقَدْ يُتْرَكُ الْوَجْهُ وَيُقَالُ: زَيْدٌ حَسَنٌ وَالْمُرَادُ/ حَسَنُ الْوَجْهِ وَلَا يُتْرَكُ إِنْ أَوْهَمَ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ مَضْرُوبُ الْغُلَامِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الْخَطَأَ، وأما حسن الوجه فيجوز ترك الوجه. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 30]
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَمْدُودٌ زَمَانًا، أَيْ لَا زَوَالَ لَهُ فَهُوَ دَائِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها [الرَّعْدِ:
35] أَيْ كَذَلِكَ الثَّانِي: مَمْدُودٌ مَكَانًا، أَيْ يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ كَبِيرٍ وَيَسْتُرُهُ مِنْ بُقْعَةِ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مَمْدُودٌ أَيْ مُنْبَسِطٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها [الْحِجْرِ: 19] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَجْهُ الثَّانِي؟ نَقُولُ: الظِّلُّ قَدْ يَكُونُ مُرْتَفِعًا، فَإِنَّ الشَّمْسَ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ يَقَعُ ظِلُّهَا فِي الْجَوِّ فَيَتَرَاكَمُ الظِّلُّ فَيَسْوَدُّ وَجْهُ الْأَرْضِ وَإِذَا كَانَتْ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهَا قَرِيبَةً مِنَ الْأُفُقِ يَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيُضِيءُ الْجَوُّ وَلَا يَسْخُنُ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي غَايَةِ الطِّيبَةِ، فَقَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أَيْ عِنْدِ قِيَامِهِ عَمُودًا عَلَى الْأَرْضِ كَالظِّلِّ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا فَالظِّلُّ لَيْسَ ظِلَّ الْأَشْجَارِ بَلْ ظِلٌّ يخلقه الله تعالى. وقوله تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 31]
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
فِيهِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَسْكُوبٌ مِنْ فَوْقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمُ الْآبَارُ وَالْبِرَكُ فَلَا سَكْبَ لِلْمَاءِ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا الْعُيُونُ النَّابِعَةُ مِنَ الْجِبَالِ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْأَرْضِ تَسْكُبُ عَلَيْهَا الثَّانِي:
جَارٍ فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَسْكُوبَ يَكُونُ جَارِيًا فِي الْهَوَاءِ وَلَا نَهْرَ هُنَاكَ، كَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْجَنَّةِ الثَّالِثُ:(29/405)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)
كَثِيرٌ وَذَلِكَ الْمَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَزِيزٌ لَا يُسْكَبُ، بَلْ يُحْفَظُ وَيُشْرَبُ، فَإِذَا ذَكَرُوا النِّعَمَ يَعُدُّونَ كَثْرَةَ الْمَاءِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ كَثْرَتِهَا بِإِرَاقَتِهَا وسكبها، والأول أصح. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 33]
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)
لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْجَارَ الَّتِي يُطْلَبُ مِنْهَا وَرَقُهَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْأَشْجَارَ الَّتِي يُقْصَدُ ثَمَرُهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُورِقَةِ؟ نَقُولُ: هِيَ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَرَقَ عَلَى الشَّجَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِارْتِقَاءِ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةٍ فَوْقَهَا، وَالْفَوَاكِهُ أَتَمُّ نِعْمَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ بِأَنْفُسِهَا، وَذِكْرِ أَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ بِثِمَارِهَا؟ نَقُولُ: هِيَ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْرَاقَ حُسْنُهَا عِنْدَ كَوْنِهَا عَلَى الشَّجَرِ، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مَطْلُوبَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَيْهَا أَوْ مَقْطُوعَةً، وَلِهَذَا صَارَتِ الْفَوَاكِهُ لَهَا أَسْمَاءٌ بِهَا تُعْرَفُ أَشْجَارُهَا، فَيُقَالُ: شَجَرُ التِّينِ وَوَرَقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي وَصْفِ الْفَاكِهَةِ بِالْكَثْرَةِ، لَا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فَاعِلَةٌ كَالرَّاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أي ذات فكهة، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِالطَّبِيعَةِ إِلَّا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَأَمَّا الْكَثْرَةُ، فَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ حَتَّى تَكُونَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، بَلْ هِيَ لِلتَّنَعُّمِ، فَوَصَفَهَا بِالْكَثْرَةِ وَالتَّنَوُّعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا مَقْطُوعَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَفَوَاكِهِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمَانِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَمَاكِنِ وَلا مَمْنُوعَةٍ أَيْ لَا تُمْنَعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ، وَالْمَمْنُوعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ ظَاهِرٌ فِي الْحِسِّ، لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا تُمْنَعُ عَنِ الْبَعْضِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مَمْنُوعَةً. وَأَمَّا الْقَطْعُ فَيُقَالُ فِي الدُّنْيَا: إِنَّهَا انْقَطَعَتْ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ لَا مَقْطُوعَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مَقْطُوعَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى دَلِيلِ عَدَمِ الْقَطْعِ، كَمَا أن في: لا مَمْنُوعَةٍ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمَنْعِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تُمْنَعُ إِلَّا لِطَلَبِ الْعِوَضِ، وَحَاجَةِ صَاحِبِهَا إِلَى ثَمَنِهَا لِدَفْعِ حَاجَةٍ بِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَالِكُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ لَهُ، فَلَزِمَ أَنْ لَا تُمْنَعَ الْفَاكِهَةُ مِنْ أَحَدٍ كَالَّذِي لَهُ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَبِيعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا شَكَّ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ فَنَقُولُ الَّذِي يُقَالُ فِي الدُّنْيَا: الْفَاكِهَةُ انْقَطَعَتْ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ وُجُودِهَا: امْتَنَعَتْ، بَلْ يُقَالُ: مُنِعَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَلَكِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْفَاكِهَةِ زَمَانَ وُجُودِهَا يَرَى أَحَدًا يَحُوزُهَا وَيَحْفَظُهَا وَلَا يَرَاهَا بِنَفْسِهَا تَمْتَنِعُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهَا وَفَقْدِهَا لَا يَرَى أَحَدًا قَطَعَهَا حِسًّا وَأَعْدَمَهَا فَيَظُنُّهَا مُنْقَطِعَةً بِنَفْسِهَا لِعَدَمِ إِحْسَاسِهِ بِالْقَاطِعِ وَوُجُودِ إِحْسَاسِهِ بِالْمَانِعِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَوْ نَظَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا حَقَّ النَّظَرِ عَلِمْتُمْ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُمْكِنٌ فِيهِ الْفَاكِهَةُ فَهِيَ بِنَفْسِهَا لَا تَنْقَطِعُ، وَإِنَّمَا لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ لِقَطْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا وَتَخْصِيصِهَا بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ لِبَرْدِ الزَّمَانِ وَحَرِّهِ، وَكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الظُّهُورِ وَالنُّمُوِّ وَالزَّهْرِ وَلِذَلِكَ تَجْرِي الْعَادَةُ بِأَزْمِنَةٍ فَهِيَ يَقْطَعُهَا الزَّمَانُ فِي نَظَرِ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ(29/406)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
ظلها ممدودا لَا شَمْسَ هُنَاكَ وَلَا زَمْهَرِيرَ اسْتَوَتِ الْأَزْمِنَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقْطَعُهَا فَلَا تَكُونُ مَقْطُوعَةً بِسَبَبٍ حَقِيقِيٍّ وَلَا ظَاهِرٍ، فَالْمَقْطُوعُ يَتَفَكَّرُ الْإِنْسَانُ فِيهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ لَا مُنْقَطِعٌ مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ، وَفِي الْجَنَّةِ لَا قَاطِعَ فَلَا تَصِيرُ مَقْطُوعَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَدَّمَ نَفْيَ كَوْنِهَا مَقْطُوعَةً لِمَا أَنَّ الْقَطْعَ لِلْمَوْجُودِ وَالْمَنْعَ بَعْدَ الْوُجُودِ لِأَنَّهَا تُوجَدُ أَوَّلًا ثُمَّ تُمْنَعُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً لَا تَكُونُ مَمْنُوعَةً مَحْفُوظَةً فَقَالَ: لَا تُقْطَعُ فَتُوجَدَ أَبَدًا ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَوْجُودَ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَحَدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ غَيْرَ أَنَّا نُحِبُّ أَنْ لَا نَتْرُكَ شَيْئًا مما يخطر بالبال ويكون صحيحا. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 34]
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْفُرُشِ وَنَذْكُرُ وَجْهًا آخَرَ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْمَرْفُوعَةُ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَرْفُوعَةُ الْقَدْرِ يُقَالُ: ثَوْبٌ رَفِيعٌ أَيِ عَزِيزٌ مُرْتَفِعُ الْقَدْرِ وَالثَّمَنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها [الرَّحْمَنِ: 54] وَثَانِيهَا: مَرْفُوعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ثَالِثُهَا: مَرْفُوعَةٌ فَوْقَ السَّرِيرِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 35 الى 38]
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38)
وَفِي الْإِنْشَاءِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي: أَنْشَأْناهُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَنْ؟ فِيهِ ثلاثة أوجه أحدها: إلى حُورٌ عِينٌ [الواقعة: 22] وَهُوَ بَعِيدٌ لِبُعْدِهِنَّ وَوُقُوعِهِنَّ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى ثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفُرُشِ النِّسَاءُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَيُقَالُ لِلْجَارِيَةِ صَارَتْ فِرَاشًا وَإِذَا صَارَتْ فِرَاشًا رُفِعَ قَدْرُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَارِيَةٍ لَمْ تَصِرْ فِرَاشًا، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَبْعُدُ ظَاهِرًا لِأَنَّ وَصْفَهَا بِالْمَرْفُوعَةِ يُنْبِئُ عَنْ خِلَافِ ذَلِكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ دَلَّ عَلَيْهِ فُرُشٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الدُّنْيَا وَفِي مَوَاضِعَ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ، أَنَّ فِي الْفُرُشِ حَظَايَا تَقْدِيرُهُ وَفِي فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ حَظَايَا مُنْشَآتٌ وَهُوَ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي قوله تعالى: قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56] ومَقْصُوراتٌ [الرَّحْمَنِ: 72] فَهُوَ تَعَالَى أَقَامَ الصِّفَةَ مُقَامَ الْمَوْصُوفِ وَلَمْ يَذْكُرْ نِسَاءَ الْآخِرَةِ بِلَفْظٍ حَقِيقِيٍّ أَصْلًا وَإِنَّمَا عَرَّفَهُنَّ بِأَوْصَافِهِنَّ وَلِبَاسِهِنَّ إِشَارَةً إِلَى صَوْنِهِنَّ وَتَخَدُّرِهِنَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحُورَ فَيَكُونَ الْمُرَادُ الْإِنْشَاءَ الَّذِي هُوَ الِابْتِدَاءُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَنَاتِ آدَمَ فَيَكُونَ الْإِنْشَاءُ بِمَعْنَى إِحْيَاءِ الْإِعَادَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَبْكاراً يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَوْ كَانَ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ لَعُلِمَ مِنْ كَوْنِهِنَّ أَبْكَارًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَيَانٍ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ إِحْيَاءَ بَنَاتِ آدَمَ قَالَ: أَبْكاراً أَيْ نَجْعَلُهُنَّ أَبْكَارًا وَإِنْ مِتْنَ ثَيِّبَاتٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْوَصْفَ بَعْدَهَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كُنَّ أَزْوَاجَهُمْ بَيِّنُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْبِكْرَ فِي الدُّنْيَا لَا تَكُونُ عَارِفَةً بِلَذَّةِ الزَّوْجِ فَلَا(29/407)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
تَرْضَى بِأَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ رَجُلٍ لَا تَعْرِفُهُ وَتَخْتَارُ التَّزْوِيجَ بِأَقْرَانِهَا وَمَعَارِفِهَا لَكِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنَّ مِنْ جِنْسِ أَبْنَاءِ آدَمَ وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ بِكْرًا لَمْ تَرَ زَوْجًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهَا سُوءُ عِشْرَةٍ فَقَالَ: أَبْكاراً فَلَا يُوجَدُ فِيهِنَّ مَا يُوجَدُ فِي أَبْكَارِ الدُّنْيَا الثَّانِي: الْمُرَادُ أَبْكَارًا بَكَارَةً تُخَالِفُ بَكَارَةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْبَكَارَةَ لَا تَعُودُ إِلَّا عَلَى بُعْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتْراباً يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مُسْتَوِيَاتٌ فِي السِّنِّ فَلَا تَفْضُلُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الْأُخْرَى بِصِغَرٍ وَلَا كِبَرٍ كُلُّهُنَّ خُلِقْنَ فِي زَمَانٍ/ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْحَقُهُنَّ عَجْزٌ وَلَا زَمَانَةٌ وَلَا تَغَيُّرُ لَوْنٍ، وَعَلَى هَذَا إِنْ كُنَّ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ فَاللَّفْظُ فِيهِنَّ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كُنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ فَمَعْنَاهُ مَا كَبِرْنَ سُمِّينَ بِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ تُمَسُّ وَقْتَ مَسِّ الْأُخْرَى لَكِنْ نُسِيَ الْأَصْلُ، وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ كَاللَّذَّةِ لِلْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنَ الْعُقَلَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَى حُورِ الْجَنَّةِ أَتْرَابًا ثَانِيهَا:
أَتْرَابًا مُتَمَاثِلَاتٍ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ كَالْأَتْرَابِ سَوَاءٌ وُجِدْنَ فِي زَمَانٍ أَوْ فِي أَزْمِنَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي أَزْمِنَةٍ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا خُلِقَ لَهُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ثَالِثُهَا: أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَيْ عَلَى سِنِّهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْآخَرِ فَالشَّابُّ يُعَيِّرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُنَّ؟ نَقُولُ: فَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ تَتَبَيَّنُ بِالنَّظَرِ إِلَى اللَّامِ فِي: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ فنقول: إن كانت اللام متعلقة بأترابا يَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنْشَأْناهُنَّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كانت متعلقة بأنشأناهن يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْإِنْشَاءُ حَالَ كَوْنِهِنَّ أَبْكَارًا وَأَتْرَابًا فَلَا يَتَعَلَّقُ الْإِنْشَاءُ بِالْأَبْكَارِ بِحَيْثُ يَكُونُ كَوْنُهُنَّ أَبْكَارًا بِالْإِنْشَاءِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ تَأْثِيرًا وَاجِبًا فَنَقُولُ: صَرْفُهُ لِلْإِنْشَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَانَ بِفِعْلٍ فَيَكُونُ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِمُجَرَّدِ إِنْشَائِهِنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً لِيَكُونَ تَرْتِيبُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَوْنَهُنَّ أَبْكَارًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْإِنْشَاءُ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلْأَزْوَاجِ مَا كَانَ يَقْتَضِي جَعْلَهُنَّ أَبْكَارًا فَالْفَاءُ لترتيب المقتضى على المقتضى. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 الى 40]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ لَكِنَّ هُنَا لَطِيفَةً: وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي السَّابِقِينَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة: 13] قَبْلَ ذِكْرِ السُّرُرِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْحُورِ وَذَكَرَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ، نَقُولُ: السَّابِقُونَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحُورِ الْعِينِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَنِعَمُ الْجَنَّةِ تَتَشَرَّفُ بِهِمْ، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا فَقَدَّمَ ذِكْرَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَأَمَّا السَّابِقُونَ فَذَكَرَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ مَكَانَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ وَارِدُونَ عَلَيْكُمْ. وَالَّذِي يُتَمِّمُ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّمْ ثُلَّةَ السَّابِقِينَ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ مُقَرَّبِينَ حِسًّا فَقَالَ:
الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ [الْوَاقِعَةِ: 11، 12] ثُمَّ قَالَ: ثُلَّةٌ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعَمَ لِكَوْنِهَا فَوْقَ الدُّنْيَا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشُّورَى: 23] أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى [ص: 25] وأما قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 12] فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لِتَمْيِيزِ مُقَرَّبِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُقَرَّبِي الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ فِي الْجَنَّةِ وَهُمْ مُقَرَّبُونَ فِي أَمَاكِنِهِمْ لِقَضَاءِ الْأَشْغَالِ الَّتِي لِلنَّاسِ وَغَيْرِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَقَدْ بَانَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ هُمُ النَّاجُونَ الَّذِينَ أَذْنَبُوا وَأَسْرَفُوا وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ أَدْنَى حَسَنَةٍ لَا الَّذِينَ غَلَبَتْ(29/408)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
حَسَنَاتُهُمْ وَكَثُرَتْ وَسَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] . / ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 43]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ السَّمُومِ وَالْحَمِيمِ وَتَرْكِ ذِكْرِ النَّارِ وَأَهْوَالِهَا؟ نَقُولُ: فِيهِ إِشَارَةٌ بِالْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَقَالَ: هَوَاؤُهُمُ الَّذِي يَهُبُّ عَلَيْهِمْ سَمُومٌ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يَسْتَغِيثُونَ بِهِ حَمِيمٌ، مَعَ أَنَّ الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ أَبْرَدُ الْأَشْيَاءِ، وَهُمَا أَيِ السُّمُومُ وَالْحَمِيمُ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ بِخِلَافِ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمَا مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ فَمَا ظَنُّكَ بِنَارِهِمُ الَّتِي هِيَ عِنْدَنَا أَيْضًا أَحَرُّ، وَلَوْ قَالَ: هُمْ فِي نَارٍ، كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ نَارَهُمْ كَنَارِنَا لِأَنَّا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا أَحَرَّ مِنَ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، وَلَا أَحَرَّ مِنَ السَّمُومِ، وَلَا أَبْرَدَ مِنَ الزُّلَالِ، فَقَالَ: أَبْرَدُ الْأَشْيَاءِ لَهُمْ أَحَرُّهَا فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ أَحَرِّهَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّمُومُ؟ نَقُولُ: الْمَشْهُورُ هِيَ رِيحٌ حَارَّةٌ تَهُبُّ فَتُمْرِضُ أَوْ تَقْتُلُ غَالِبًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ:
هِيَ هَوَاءٌ مُتَعَفِّنٌ، يَتَحَرَّكُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فَإِذَا اسْتَنْشَقَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ بِسَبَبِ الْعُفُونَةِ وَيُقْتَلُ الْإِنْسَانُ، وَأَصْلُهُ مِنَ السُّمِّ كَسُمِّ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السُّمُّ مِنَ السَّمِّ، وَهُوَ خُرْمُ الْإِبْرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَافِ: 40] لِأَنَّ سُمَّ الْأَفْعَى يَنْفُذُ فِي الْمَسَامِّ فَيُفْسِدُهَا، وَقِيلَ: إِنَّ السَّمُومَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا يَهُبُّ لَيْلًا، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: سَمُومٍ إِشَارَةٌ إِلَى ظُلْمَةِ مَا هُمْ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ السَّمُومَ قَدْ تُرَى بِالنَّهَارِ بِسَبَبِ كَثَافَتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمِيمُ هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ حَمِمَ الْمَاءُ بكسر الميم، أو بمعنى مفعول من حمم الْمَاءَ إِذَا سَخَّنَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا غَيْرَ أن هاهنا لَطِيفَةً لُغَوِيَّةً: وَهِيَ أَنَّ فَعُولًا لَمَّا تَكَرَّرَ مِنْهُ الشَّيْءُ وَالرِّيحَ لَمَّا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْهُبُوبِ تَهُبُّ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ خُصَّ السَّمُومُ بِالْفَعُولِ، وَالْمَاءُ الْحَارُّ لَمَّا كَانَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُرُودُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُقَلْ: فِيهِ حَمُومٌ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْيَحْمُومُ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ ثَانِيهَا: أَنَّهُ الدُّخَانُ ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الظُّلْمَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ فَكَأَنَّهُ لِسَوَادِهِ فَحْمٌ فَسَمَّوْهُ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْهُ، وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ فِيهِ لِزِيَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ، وَرُبَّمَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيهِ جَاءَتْ لِمَعْنَيَيْنِ: الزِّيَادَةُ فِي سَوَادِهِ وَالزِّيَادَةُ فِي حَرَارَتِهِ، وَفِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ إِشَارَةٌ إِلَى دُونِهِمْ فِي الْعَذَابِ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ إِنْ تَعَرَّضُوا لِمَهَبِّ الْهَوَاءِ أَصَابَهُمُ الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ السَّمُومُ، وَإِنِ اسْتَكَنُّوا كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ السَّمُومَ بِالِاسْتِكْنَانِ فِي الْكِنِّ يَكُونُوا فِي ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا الرَّدَّ عَنْ أَنْفُسِهِمُ السَّمُومَ بِالِاسْتِكْنَانِ فِي مَكَانٍ مِنْ حَمِيمٍ فَلَا انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَرْتِيبٌ وَهُوَ أَنَّ السَّمُومَ يَضْرِبُهُ فَيَعْطَشُ وَتَلْتَهِبُ نَارُ السَّمُومِ فِي أَحْشَائِهِ فَيَشْرَبُ الْمَاءَ/ فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُ وَيُرِيدُ الِاسْتِظْلَالَ بِظِلٍّ فَيَكُونُ ذَلِكَ الظِّلُّ ظِلَّ الْيَحْمُومِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ اسْتِعْمَالِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ يَحْمُومٍ؟ فَنَقُولُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اسْمُ جَهَنَّمَ فَهُوَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا تَقُولُ:
جَاءَنِي نَسِيمٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ دُخَانٌ فَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِنَا: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ الظُّلْمَةُ فَكَذَلِكَ،(29/409)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِجَهَنَّمَ مَعَ أَنَّهُ اسْمٌ مُنْصَرِفٌ مُنَكَّرٌ فَكَيْفَ وُضِعَ لِمَكَانٍ مُعَرَّفٍ، وَلَوْ كَانَ اسْمًا لَهَا، قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَالْجَحِيمِ، أَوْ كَانَ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ كَأَسْمَاءِ جَهَنَّمَ يَكُونُ مِثْلَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ كلها يحموم. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 44]
لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَمُ الظِّلِّ نَفْعُهُ الْمَلْهُوفَ، وَدَفْعُهُ أَذَى الْحَرِّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْبَارِدُ وَالْكَرِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: فَائِدَةُ الظِّلِّ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا دَفْعُ الْحَرِّ، وَالْآخَرُ كَوْنُ الْإِنْسَانِ فِيهِ مُكْرَمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْبَرْدِ يَقْصِدُ عَيْنَ الشَّمْسِ لِيَتَدَفَّأَ بِحَرِّهَا إِذَا كَانَ قَلِيلَ الثِّيَابِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُكْرَمِينَ يَكُونُ أَبَدًا فِي مَكَانٍ يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الظِّلِّ، أَمَّا الْحَرُّ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْبَرْدُ فَيَدْفَعُهُ بِإِدْفَاءِ الْمَوْضِعِ بِإِيقَادِ مَا يُدْفِئُهُ، فَيَكُونُ الظل في الحر مطلوبا للبرد فيطلب كونه بَارِدًا، وَفِي الْبَرْدِ يُطْلَبُ لِكَوْنِهِ ذَا كَرَامَةٍ لَا لِبَرْدٍ يَكُونُ فِي الظِّلِّ فَقَالَ: لَا بارِدٍ يُطْلَبُ لِبَرْدِهِ، وَلَا ذِي كَرَامَةٍ قَدْ أُعِدَّ لِلْجُلُوسِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا ظِلٌّ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تَحْتَ أَشْجَارٍ وَأَمَامَ الْجِدَارِ يُتَّخَذُ مِنْهَا مَقَاعِدُ فَتَصِيرُ تِلْكَ الْمَقَاعِدُ مَحْفُوظَةً عَنِ الْقَاذُورَاتِ، وَبَاقِي الْمَوَاضِعِ تَصِيرُ مَزَابِلَ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَتِ الشَّمْسُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَيْهَا تُطْلَبُ لِنَظَافَتِهَا، وَكَوْنِهَا مُعَدَّةً لِلْجُلُوسِ، فَتَكُونُ مَطْلُوبَةً فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لِأَجْلِ كَرَامَتِهَا لَا لِبَرْدِهَا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ يَحْتَمِلُ هَذَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظِّلَّ يُطْلَبُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْحِسِّ، أَوْ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْلِ، فَالَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْحِسِّ هُوَ بَرْدُهُ، وَالَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ كَرَامَةً، وَهَذَا لَا بَرْدَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِمَا نَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ تُتْبِعُ كُلَّ مَنْفِيٍّ بِكَرِيمٍ إِذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ أَكْرَمَ فَيُقَالُ: هَذِهِ الدَّارُ لَيْسَتْ بِوَاسِعَةٍ وَلَا كَرِيمَةٍ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَ الْكَمَالِ، إِمَّا حِسِّيٌّ، وَإِمَّا عَقْلِيٌّ، وَالْحِسِّيُّ يُصَرَّحُ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا الْعَقْلِيُّ فَلِخَفَائِهِ عَنِ الْحِسِّ يُشَارُ إِلَيْهِ بِلَفْظٍ جَامِعٍ، لِأَنَّ الْكَرَامَةَ، وَالْكَرَامَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَشْهَرِ أَوْصَافِ الْمَدْحِ وَنَفْيُهُمَا نَفْيُ وَصْفِ الْكَمَالِ الْعَقْلِيِّ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ مَعْنَاهُ لَا مَدْحَ فِيهِ أَصْلًا لَا حِسًّا وَلَا عَقْلًا.
ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
وَفِي الْآيَاتِ لَطَائِفُ، نَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي بَيَانِ سَبَبِ كَوْنِهِمْ فِي الْعَذَابِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ كَوْنِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي النَّعِيمِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ شَاكِرِينَ مُذْعِنِينَ؟ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ إِيصَالِ الثَّوَابِ لَا يَذْكُرُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ الصَّالِحَةَ، وَعِنْدَ إِيصَالِ الْعِقَابِ يَذْكُرُ أَعْمَالَ الْمُسِيئِينَ لِأَنَّ الثَّوَابَ فَضْلٌ وَالْعِقَابَ عَدْلٌ، وَالْفَضْلُ سَوَاءٌ ذُكِرَ سَبَبُهُ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمُتَفَضِّلِ بِهِ نَقْصٌ وَظُلْمٌ، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَإِنْ لَمْ(29/410)
يُعْلَمْ سَبَبُ الْعِقَابِ، يُظَنُّ أَنَّ هُنَاكَ ظُلْمًا فَقَالَ: هُمْ فِيهَا بِسَبَبِ تَرَفِهِمْ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ السَّابِقِينَ: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 24] وَلَمْ يَقُلْ: فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ذَلِكَ لِأَنَّا أَشَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ هُمُ النَّاجُونَ بِالْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ [الْوَاقِعَةِ: 91] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَضْلُ فِي حَقِّهِمْ مُتَمَحِّضٌ فَقَالَ: هَذِهِ النِّعَمُ لَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ جَزَاءً لِأَنَّ قَوْلَهُ: جَزاءً فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ لا يثبت لَهُمْ سُرُورًا بِخِلَافِ مَنْ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: نِعْمَ مَا فَعَلْتَ خُذْ هَذَا لَكَ جَزَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جُعِلَ السَّبَبَ كَوْنُهُمْ مُتْرَفِينَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ يَكُونُ مُتْرَفًا فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ فَقِيرًا؟ نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ لَيْسَ بِذَمٍّ، فَإِنَّ الْمُتْرَفَ هُوَ الَّذِي جُعِلَ ذَا تَرَفٍ أَيْ نِعْمَةٍ، فَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ ذَمًّا، لَكِنَّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ قُبْحَ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يُصِرُّونَ لِأَنَّ صُدُورَ الْكُفْرَانِ مِمَّنْ عَلَيْهِ غَايَةُ الْإِنْعَامِ أَقْبَحُ الْقَبَائِحِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مُتْرَفِينَ، وَلَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ بَلْ أَصَرُّوا عَلَى الذَّنْبِ وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: النِّعَمُ الَّتِي تَقْتَضِي شُكْرَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ فِي كُلِّ أَحَدٍ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَتَتَوَقَّفُ مَصَالِحُهُ عَلَيْهِ حَاصِلٌ لِلْكُلِّ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ حَالَ النَّاسِ فِي الْإِتْرَافِ مُتَقَارِبٌ، فَيُقَالُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ: إِنَّهُ فِي ضُرٍّ، وَلَوْ حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَنَاعَةِ لَكَانَ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ وَكَيْفَ لَا وَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرَ إِلَى حَالِهِ يَجِدُهَا مُفْتَقِرَةً إِلَى مَسْكَنٍ يَأْوِي إِلَيْهِ وَلِبَاسِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا يَسُدُّ جُوعَهُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَغَيْرِ هَذَا مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْهَا شُحُّ النَّفْسِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدًا لَا يُغْلَبُ عَنْ تَحْصِيلِ مَسْكَنٍ بِاشْتِرَاءٍ أَوِ اكْتِرَاءٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ هُوَ أَعْجَزَ مِنَ الْحَشَرَاتِ، لَا تَفْقِدُ مُدَّخَلًا أَوْ مَغَارَةً، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَلَوِ اقْتَنَعَ بِمَا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ كَانَ يَكْفِيهِ فِي عُمُرِهِ لِبَاسٌ وَاحِدٌ، كُلَّمَا تَمَزَّقَ مِنْهُ مَوْضِعٌ يرفعه مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، بَقِيَ أَمْرُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَإِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ يَجِدُ كُلَّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَنْ كِسْرَةِ خُبْزٍ وَشَرْبَةِ مَاءٍ، غَيْرَ أَنَّ طَلَبَ الْغِنَى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتا مزخرفا ولباسا فاخرا وَمَأْكُولًا طَيِّبًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ/ وَالثِّيَابِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَ الْمَشَاقَّ، وَطَلَبُ الْغِنَى يُورِثُ فَقْرَهُ، وَارْتِيَادُ الِارْتِفَاعِ يَحُطُّ قَدْرَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ شَهْوَةُ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ تَكْسِرُ ظَهْرَهُ عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ لَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ لَمَّا فَقَدُوا الْأَيْدِيَ الْبَاطِشَةَ، وَالْأَعْيُنَ الْبَاصِرَةَ، وَبَانَ لَهُمُ الْحَقَائِقُ، عَلِمُوا إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْإِصْرَارُ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ؟ نَقُولُ: الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَفِيهَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَشَارَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ إِلَى الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّهِمْ بِإِنْكَارِ الرُّسُلِ، إِذِ الْمُتْرَفُ مُتَكَبِّرٌ بِسَبَبِ الْغِنَى فَيُنْكِرُ الرِّسَالَةَ، وَالْمُتْرَفُونَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَرِ: 34] وقوله: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ [الواقعة: 46] إِشَارَةٌ إِلَى الشِّرْكِ وَمُخَالَفَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ فِيهِ مُبَالَغَاتٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تعالى: كانُوا يُصِرُّونَ وَهُوَ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَصَرُّوا لِأَنَّ اجْتِمَاعَ لَفْظَيِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: فُلَانٌ كَانَ يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ، يُفِيدُ كَوْنَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُ ثَانِيهَا:(29/411)
لَفْظُ الْإِصْرَارِ فَإِنَّ الْإِصْرَارَ مُدَاوَمَةُ الْمَعْصِيَةِ وَالْغُلُولِ، وَلَا يُقَالُ: فِي الْخَيْرِ أَصَرَّ ثَالِثُهَا: الْحِنْثُ فَإِنَّهُ فَوْقَ الذَّنْبِ فَإِنَّ الْحِنْثَ لَا يَكَادُ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالذَّنْبُ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ فَاسْتَعْمَلُوهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْكَذِبِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَبِيحٌ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَالَمِ مَنُوطَةٌ بِالصِّدْقِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ بِقَوْلِ أَحَدٍ ثِقَةٌ فَلَا يُبْنَى عَلَى كَلَامِهِ مَصَالِحُ، وَلَا يُجْتَنَبُ عَنْ مَفَاسِدَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَذِبَ لَمَّا وُجِدَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ لِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ أَرَادُوا تَوْكِيدَ الْأَمْرِ بِضَمِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ يَدْفَعُ تَوَهُّمَهُ فَضَمُّوا إِلَيْهِ الْأَيْمَانَ وَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا، فَإِذَا حَنِثَ لَمْ يَبْقَ أَمْرٌ يُفِيدُ الثِّقَةَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادٌ فَوْقَ فَسَادِ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، غَيْرَ أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ وَرَأَى الْحَالِفُ غَيْرَهُ جَوَّزَ الشَّرْعُ الْحِنْثَ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الْكَبِيرَةِ كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْأَيْمَانِ وَقِلَّةِ وُقُوعِ الْقَتْلِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنْثَ هُوَ الْكَبِيرَةُ قَوْلُهُمْ لِلْبَالِغِ: بَلَغَ الْحِنْثَ، أَيْ بَلَغَ مَبْلَغًا بِحَيْثُ يَرْتَكِبُ الْكَبِيرَةَ وَقَبْلَهُ مَا كَانَ يُنْفَى عَنْهُ الصَّغِيرَةُ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ بِالْمُعَاقَبَةِ عَلَى إِسَاءَةِ الْأَدَبِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْعَظِيمِ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ الشِّرْكُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَجْتَمِعُ فِي غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ اشْتُهِرَ مِتْنا بِكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى عَنْ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَيَوْمَ أَمُوتُ [مَرْيَمَ: 33] وَلَمْ يُقْرَأْ أَمَاتُ عَلَى وَزْنِ أَخَافُ، وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ مُوتُوا [آلِ عمران: 119] ولم يقل: قل ماتوا، وقال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَمَاتُوا كَمَا قَالَ: أَلَّا تَخافُوا [فُصِّلَتْ: 30] قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ خَالَفَتْ غَيْرَهَا، فَقِيلَ فِيهَا: أَمُوتُ وَالسَّمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالثَّانِي: مَاتَ يَمَاتُ لُغَةٌ فِي مَاتَ يَمُوتُ، فَاسْتُعْمِلَ مَا فِيهَا الْكَسْرُ لِأَنَّ/ الْكَسْرَ فِي الْمَاضِي يُوجَدُ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ يَفْعَلُ عَلَى يَفْعُلُ وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهُ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ، مِثْلُ خَافَ يَخَافُ، وَفِي مُسْتَقْبَلِهَا الضَّمُّ لِأَنَّهُ يُوجَدُ لِسَبَبَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْفِعْلِ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ، مِثْلُ طَالَ يَطُولُ، فَإِنَّ وَصْفَهُ بِالتَّطْوِيلِ دُونَ الطَّائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَصَرَ يَقْصُرُ، وَثَانِيهِمَا: كَوْنُهُ عَلَى فَعِلَ يَفْعُلُ، تَقُولُ: فَعِلْتُ فِي الْمَاضِي بِالْكَسْرِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالضَّمِّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ أَتَى بِاللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمَبْعُوثُونَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّفْيُ وَفِي النَّفْيِ لَا يُذْكَرُ فِي خَبَرِ إِنَّ اللَّامُ يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا لَيَجِيءُ وَإِنَّ زَيْدًا لَا يَجِيءُ، فَلَا تُذْكَرُ اللَّامُ، وَمَا مُرَادُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ إِلَّا الْإِنْكَارَ بِمَعْنَى إِنَّا لَا نُبْعَثُ؟ نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: عِنْدَ إِرَادَةِ التَّصْرِيحِ بِالنَّفْيِ يُوجَدُ التَّصْرِيحُ بِالنَّفْيِ وَصِيغَتُهُ ثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا تَكْذِيبَ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الْبَعْثِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ يُبَالِغُ فِي الْإِخْبَارِ وَنَحْنُ نَسْتَكْثِرُ مُبَالَغَتَهُ وَتَأْكِيدَهُ فَحَكَوْا كَلَامَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَشَارُوا فِي الْإِنْكَارِ إِلَى أُمُورٍ اعْتَقَدُوهَا مُقَرَّرَةً لصحة إنكارهم فقالوا أولا: أَإِذا مِتْنا وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَيْهِ بَلْ قَالُوا بَعْدَهُ: وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَيْ فَطَالَ عَهْدُنَا بَعْدَ كَوْنِنَا أَمْوَاتًا حَتَّى صَارَتِ اللُّحُومُ تُرَابًا وَالْعِظَامُ رُفَاتًا، ثُمَّ زَادُوا وَقَالُوا: مَعَ هَذَا يُقَالُ لَنَا: إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: اسْتِعْمَالُ كَلِمَةٍ إِنَّ ثَانِيهَا: إِثْبَاتُ اللَّامِ فِي خَبَرِهَا ثَالِثُهَا: تَرْكُ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَفْعُولِ كَأَنَّهُ كَائِنٌ، فَقَالُوا لَنَا: إِنَّكُمْ لَمَبْعُوثُونَ ثُمَّ زَادُوا وَقَالُوا:
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يَعْنِي هَذَا أَبْعَدُ فَإِنَّا إِذَا كُنَّا تُرَابًا بَعْدَ مَوْتِنَا وَالْآبَاءُ حَالُهُمْ فَوْقَ حَالِ الْعِظَامِ الرُّفَاتِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْبَعْثُ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ هَذَا كُلَّهُ وَقُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: 17](29/412)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
مَعْنَاهُ: أَوْ يَقُولُوا: آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْإِشْكَالِ أَعْظَمُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْجَوَابِ فِي كل مبالغة بمبالغة أخرى فقال:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 50]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
فَقَوْلُهُ: قُلْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي الرِّسَالَةِ أَسْرَارًا لَا تُقَالُ إِلَّا لِلْأَبْرَارِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا تَعْيِينُ وَقْتِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ عَلِمُوا لَاتَّكَلُوا وَالْأَنْبِيَاءُ رُبَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى عَلَامَاتِهَا أَكْثَرَ مِمَّا بَيَّنُوا وَرُبَّمَا بَيَّنُوا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَامَاتٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: قُلْ يَعْنِي أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الَّتِي بَلَغَتْ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَدٍّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَوَامُّ وَالْخَوَاصُّ، فَقَالَ: قُلْ قَوْلًا عَامًّا وَهَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، قَالَ:
قُلْ كَانَ الْأَمْرُ ظَاهِرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الصمد: 1] وقال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110] وَقَالَ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: 85] أَيْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ الرُّوحِ وَغَيْرُهُ خَفِيٌّ ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِتَقْدِيمِ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْآخَرِينَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 48] فَإِنَّهُمْ أَخَّرُوا ذِكْرَ الْآبَاءِ لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ فِيهِمْ أَكْثَرَ، فَقَالَ إِنَّ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ تَسْتَبْعِدُونَ بَعْثَهُمْ وَتُؤَخِّرُونَهُمْ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فِي أَمْرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى الْآخِرِينَ، يَتَبَيَّنُ مِنْهُ إِثْبَاتُ/ حَالِ مَنْ أَخَّرْتُمُوهُ مُسْتَبْعِدِينَ، إِشَارَةً إِلَى كَوْنِ الْأَمْرِ هَيِّنًا ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَجْمُوعُونَ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ: لَمَبْعُوثُونَ فَقَالَ: هُوَ وَاقِعٌ مَعَ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَيُجْمَعُونَ فِي عَرْصَةِ الْحِسَابِ، وَهَذَا فَوْقَ الْبَعْثِ، فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ التُّرَابِ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ حُشِرَ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَكَيْفَ لَوْ كَانَ حَيًّا مَحْبُوسًا فِي قَبْرِهِ مُدَّةً لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ يُحَرِّكُهُ بِأَسْرَعِ حَرَكَةٍ وَيَجْمَعُهُ بِأَقْوَى سَيْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَجْمُوعُونَ فَوْقَ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَجْمُوعُونَ كَمَا قُلْنَا: إِنَّ قول قَوْلَ الْقَائِلِ: إِنَّهُ يَمُوتُ فِي إِفَادَةِ التَّوْكِيدِ دُونَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ مَيِّتٌ رَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْمَعُهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْلُومٍ، وَاجْتِمَاعُ عَدَدٍ مِنَ الْأَمْوَاتِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَعْجَبُ مِنْ نَفْسِ الْبَعْثِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصَّافَّاتِ: 19] أَيْ أَنْتُمْ تَسْتَبْعِدُونَ نَفْسَ الْبَعْثِ، وَالْأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ بِزَجْرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ صَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ: فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ يُبْعَثُونَ مَعَ زِيَادَةِ أَمْرٍ، وَهُوَ فَتْحُ أَعْيُنِهِمْ وَنَظَرُهُمْ، بِخِلَافِ مَنْ نَعَسَ فَإِنَّهُ إِذَا انْتَبَهَ يَبْقَى سَاعَةً ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَشْيَاءِ، فَأَمْرُ الْإِحْيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَهْوَنُ مِنْ تَنْبِيهِ نَائِمٍ خَامِسُهَا: حَرْفُ (إِلَى) أَدَلُّ عَلَى الْبَعْثِ مِنَ اللَّامِ، وَلْنَذْكُرْ هَذَا فِي جَوَابِ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التَّغَابُنِ: 9] وَقَالَ هُنَا: لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقُلْ: لِمِيقَاتِنَا وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَافِ: 143] نَقُولُ: لَمَّا كَانَ ذكر الجمع جوابا للمنكرين المستبعدين ذَكَرَ كَلِمَةَ (إِلَى) الدَّالَّةِ عَلَى التَّحَرُّكِ وَالِانْتِقَالِ لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى فِعْلٍ غَيْرِ الْبَعْثِ وَلَا يَجْمَعُ هُنَاكَ قَالَ: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ وَلَا يُفْهَمُ النُّشُورُ مِنْ نَفْسِ الْحَرْفِ وَإِنْ كَانَ يفهم من الكلام، ولهذا قال هاهنا: لَمَجْمُوعُونَ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ، وَقَالَ هُنَاكَ: يَجْمَعُكُمْ وَقَالَ هاهنا: إِلى مِيقاتِ وَهُوَ مَصِيرُ الْوَقْتِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا فَنَقُولُ: الْمَوْضِعُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُضُورَ، لِأَنَّ مَنْ وُقِّتَ لَهُ وَقْتٌ وَعُيِّنَ لَهُ مَوْضِعٌ كَانَتْ حَرَكَتُهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَمْرٍ بِالتَّبَعِ إِلَى أَمْرٍ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْأَمْرُ الْأَعْظَمُ(29/413)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
الْوُقُوفُ فِي مَوْضِعِهِ لَا زَمَانِهِ فَقَالَ بِكَلِمَةٍ دلالتها على الموضع والمكان أظهر. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 55]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ مَعَ كُلِّ ضَالٍّ مُكَذِّبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ تَمَامُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْعَذَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: قال هاهنا: الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقْدِيمِ الضَّالِّ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الْوَاقِعَةِ: 92] بِتَقْدِيمِ الْمُكَذِّبِينَ، فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟ قُلْتُ: نعم، وذلك أن المراد من الضالين هاهنا هُمُ الَّذِينَ صَدَرَ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، فَضَلُّوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُوَحِّدُوهُ، وَذَلِكَ ضَلَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ كذبوا رسله وقالوا: أَإِذا مِتْنا فَكَذَّبُوا بِالْحَشْرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الَّذِينَ أَشْرَكْتُمْ: الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ أَنْكَرْتُمُ الْحَشْرَ لَتَأْكُلُونَ مَا تَكْرَهُونَ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبْتُمْ بِالْحَشْرِ الضَّالُّونَ فِي طَرِيقِ الْخَلَاصِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى النَّعِيمِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مَعَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ضَلَلْتُمْ أَوَّلًا وَكَذَّبْتُمْ ثَانِيًا، وَالْخِطَابُ فِي آخِرِ السُّورَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ لَهُ حَالَ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: الْمُقَرَّبُونَ فِي رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وجنة ونعيم، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سَلَامٍ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَقَدْ ضَلُّوا فَقَدَّمَ تَكْذِيبَهُمْ إِشَارَةً إِلَى كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَى سَبَبٍ فِي عِقَابِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الزَّقُّومُ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَقْوَالُ النَّاسِ وَمَآلُ الْأَقْوَالِ إِلَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي الطَّعْمِ مُرًّا وَفِي اللَّمْسِ حَارًّا، وَفِي الرَّائِحَةِ مُنْتِنًا، وَفِي الْمَنْظَرِ أَسْوَدَ لَا يَكَادُ آكِلُهُ يُسِيغُهُ فَيُكْرَهُ عَلَى ابْتِلَاعِهِ، وَالتَّحْقِيقُ اللُّغَوِيُّ فِيهِ أَنَّ الزَّقُّومَ لُغَيَّةٌ عَرَبِيَّةٌ دَلَّنَا تَرْكِيبُهُ عَلَى قُبْحِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زق لَمْ يَجْتَمِعْ إِلَّا فِي مُهْمَلٍ أَوْ فِي مَكْرُوهٍ مِنْهُ مَزَقَ، وَمِنْهُ زَمَقَ شَعْرُهُ إِذَا نَتَفَهُ، وَمِنْهُ الْقَزْمُ لِلدَّنَاءَةِ، وَأَقْوَى مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَافَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْحَرْفَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَالْقَافُ مَعَ الْمِيمِ قُمَامَةٌ وَقُمْقُمَةٌ، وَبِالْعَكْسِ مُقَامِقٌ، الْغَلِيظُ الصَّوْتِ وَالْقُمْقُمَةُ هُوَ السُّورُ، وَأَمَّا الْقَافُ مَعَ الزَّايِ فَالْزَّقُّ رَمْيُ الطَّائِرِ بِذَرْقِهِ، وَالزَّقْزَقَةُ الْخِفَّةُ، وَبِالْعَكْسِ الْقَزْنُوبُ فَيَنْفِرُ الطَّبْعُ مِنْ تَرْكِيبِ الْكَلِمَةِ مِنْ حُرُوفٍ اجْتِمَاعُهَا دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وَالْقُبْحِ، ثُمَّ قُرِنَ بِالْأَكْلِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَعَامٌ ذو غضة، وَأَمَّا مَا يُقَالُ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: زَقَمْتَنِي بِمَعْنَى أَطْعَمْتَنِي الزُّبْدَ وَالْعَسَلَ وَاللَّبَنَ، فَذَلِكَ لِلْمَجَانَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْشَقَنِي بِثَوْبٍ حَسَنٍ، وَأَرْجَمَنِي بِكِيسٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَوْلُهُ: مِنْ شَجَرٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْ تناولكم منه،(29/414)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
وقوله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا زِيَادَةٌ فِي بَيَانِ الْعَذَابِ أَيْ لَا يُكْتَفَى مِنْكُمْ بِنَفْسٍ كَمَا الْأَكْلُ يَكْتَفِي مَنْ يَأْكُلُ الشَّيْءَ لِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ، بَلْ يُلْزَمُونَ بِأَنْ تملأوا مِنْهَا الْبُطُونَ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الشَّجَرَةِ، وَالْبُطُونُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ أَيْ يَمْلَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بَطْنَهُ/ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَمْلَأُ الْبُطُونَ، وَالْبُطُونُ حِينَئِذٍ تَكُونُ بُطُونَ الْأَمْعَاءِ، لِتَخَيُّلِ وَصْفِ الْمِعَى فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ لَهُ، كَيَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، فَيَمْلَئُونَ بُطُونَ الْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَالثَّانِي أَدْخَلُ فِي التَّعْذِيبِ وَالْوَعِيدِ، قَوْلُهُ: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أَيْ عَقِيبَ الْأَكْلِ تَجُرُّ مَرَارَتُهُ وَحَرَارَتُهُ إِلَى شُرْبِ الْمَاءِ فَيَشْرَبُونَ عَلَى ذَلِكَ الْمَأْكُولِ وَعَلَى ذَلِكَ الزَّقُّومِ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْحَمِيمِ، وَقَوْلُهُ: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ بَيَانٌ أَيْضًا لِزِيَادَةِ الْعَذَابِ أَيْ لَا يَكُونُ أَمْرُكُمْ أَمْرَ مَنْ شرب ماءا حَارًّا مُنْتِنًا فَيُمْسِكُ عَنْهُ بَلْ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تشربوا منه مثل ما تشرب إليهم وَهِيَ الْجِمَالُ الَّتِي أَصَابَهَا الْعَطَشُ فَتَشْرَبُ وَلَا تَرْوَى، وَهَذَا الْبَيَانُ فِي الشُّرْبِ لِزِيَادَةِ الْعَذَابِ، وقوله: فَمالِؤُنَ مِنْهَا فِي الْأَكْلِ، فَإِنْ قِيلَ:
الْأَهْيَمُ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ الْكَثِيرَ يَضُرُّهُ وَلَكِنْ فِي الْحَالِ يَلْتَذُّ بِهِ، فَهَلْ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ مِنْ شُرْبِ الْحَمِيمِ الْحَارِّ فِي النَّارِ لَذَّةٌ؟ قُلْنَا: لَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِبَيَانِ زِيَادَةِ الْعَذَابِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: يُلْزَمُونَ بِشُرْبِ الْحَمِيمِ وَلَا يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ الشُّرْبِ بَلْ يُلْزَمُونَ أَنْ يَشْرَبُوا كَمَا يَشْرَبُ الْجَمَلُ الْأَهْيَمُ الَّذِي بِهِ الْهُيَامُ، أَوْ هُمْ إِذَا شَرِبُوا تَزْدَادُ حَرَارَةُ الزَّقُّومِ فِي جَوْفِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ لَا مِنَ الْحَمِيمِ فَيَشْرَبُونَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا بِنَاءً عَلَى وَهْمِ الرِّيِّ، وَالْقَوْلُ فِي الْهِيمِ كَالْقَوْلِ فِي الْبِيضِ، أَصْلُهُ هُومٌ، وَهَذَا مِنْ هَامَ يَهِيمُ كَأَنَّهُ مِنَ الْعَطَشِ يَهِيمُ، وَالْهُيَامُ ذَلِكَ الدَّاءُ الذي يجعله كالهائم من العطش. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 56]
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
يَعْنِي لَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ بَلْ هَذَا أَوَّلُ مَا يَلْقَوْنَهُ وَهُوَ بَعْضٌ مِنْهُ وَأَقْطَعُ لِأَمْعَائِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 59]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِمْ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي الْحَشْرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ إِلْزَامٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْخَالِقَ فِي الِابْتِدَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ أَوَّلًا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ ثَانِيًا، وَلَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، بل يشكون ويقولن: الْخَلْقُ الْأَوَّلُ مِنْ مَنِيٍّ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَنَقُولُ:
الْمَنِيُّ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ وَلَا وُجُودَ لِلْمُمْكِنِ بِذَاتِهِ بَلْ بِالْغَيْرِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَيَكُونُ الْمَنِيُّ مِنَ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ، وَكَذَلِكَ خَلْقُ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَادِثَاتِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ تَشُكُّونَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا نَشُكُّ فِي أَنَّهُ خالقا، فَيُقَالُ: فَهَلْ تُصَدِّقُونَ أَيْضًا بِخَلْقِكُمْ ثَانِيًا؟ فَإِنَّ مَنْ خَلَقَكُمْ أَوَّلًا مِنْ لَا شَيْءٍ لَا يَعْجِزُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ ثَانِيًا مِنْ أَجْزَاءٍ هِيَ عِنْدَهُ مَعْلُومَةٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَشُكُّونَ وَتَقُولُونَ: الْخَلْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ (مَنِيٍّ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا وَالِدَةَ وَلَا مَنِيَّ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الْمَنِيُّ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمِ اللَّهُ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ، فَذَلِكَ/ يُلْزِمُكُمُ القول بجواز الحشر وصحته، و (لولا) كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مَعْنَاهَا التَّحْضِيضُ وَالْحَثُّ وَالْأَصْلُ فِيهِ: لِمَ لَا، فَإِذَا قُلْتَ: لِمَ لَا أَكَلْتَ وَلِمَ مَا أَكَلْتَ، جَازَ الِاسْتِفْهَامَانِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا عِلَّةَ لِعَدَمِ(29/415)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
الْأَكْلِ وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَذْكُرَ عِلَّةً لَهُ، كَمَا تَقُولُ: لِمَ فَعَلْتَ؟ مُوَبِّخًا، يَكُونُ مَعْنَاهُ فَعَلْتَ أَمْرًا لَا سَبَبَ لَهُ وَلَا يُمْكِنُكَ ذِكْرُ سَبَبٍ لَهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ تَرَكُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ وَأَتَوْا بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحُكْمِ، فَقَالُوا: هَلَّا فَعَلْتَ؟
كَمَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِعٍ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَسَادَهُ، أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ عَاقِلٌ؟ وَفِيهِ زِيَادَةُ حَثٍّ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لِمَ فَعَلْتَ حَقِيقَتُهُ سُؤَالٌ عَنِ الْعِلَّةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِلَّتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَغَيْرُ ظَاهِرَةٍ، فَلَا يَجُوزُ ظُهُورُ وُجُودِهِ، وَقَوْلُهُ: أَفَعَلْتَ، سُؤَالٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي جِنْسِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالسَّائِلُ عَنِ الْعِلَّةِ كَأَنَّهُ سَلَّمَ الْوُجُودَ وَجَعَلَهُ مَعْلُومًا وَسَأَلَ عَنِ الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: زَيْدٌ جَاءَ فَلِمَ جَاءَ، وَالسَّائِلُ عَنِ الْوُجُودِ لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لِمَ فَعَلْتَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ دُونَ قَوْلِهِ: أَفَعَلْتَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ جَعَلَهُ كَالْمُصِيبِ فِي فِعْلِهِ لِعِلَّةٍ خَفِيَّةٍ تُطْلَبُ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي جَعَلَهُ مُخْطِئًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَإِذَا عُلِمَ مَا بَيْنَ لِمَ فَعَلْتَ، وَأَفَعَلْتَ، عُلِمَ مَا بَيْنَ لِمَ تفعل وهلا تفعل، وأما (لولا) فَنَقُولُ: هِيَ كَلِمَةُ شَرْطٍ فِي الْأَصْلِ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ غَيْرُ مَجْزُومَةٍ بِهَا كَمَا أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِهِ لَكِنَّ لَوْلَا تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِسَافِ وَتَزِيدُ نَفْيَ النَّظَرِ وَالتَّوَانِي، فَيَقُولُ: لَوْلَا تُصَدِّقُونَ، بَدَلَ قَوْلِهِ: لِمَ لَا، وَهَلَّا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ لَوْلَا تَدْخُلُ عَلَى فِعْلٍ مَاضٍ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التَّوْبَةِ: 122] فَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ الْمُسْتَقْبَلِ هاهنا بِالذِّكْرِ وَهَلَّا قَالَ: فَلَوْلَا صَدَّقْتُمْ؟ نَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْإِسْلَامُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَيَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَقَالَ: لِمَ لَا تُصَدِّقُونَ في ساعتكم، والدلائل واضحة مستمر وَالْفَائِدَةُ حَاصِلَةٌ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ لَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَقَالَ: لَوْ سَافَرْتُمْ لَحَصَلَ لَكُمُ الْفَائِدَةُ فِي الْحَالِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تُسَافِرُونَ فِي الْحَالِ تَفُوتُكُمُ الْفَائِدَةُ أَيْضًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ مِنْ تَقْرِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ قَالَ الطَّبِيعِيُّونَ: نَحْنُ مَوْجُودُونَ مِنْ نُطَفِ الْخَلْقِ بِجَوَاهِرَ كَامِنَةٍ وَقَبْلَ كُلِّ وَاحِدٍ نُطْفَةُ وَاحِدٍ فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: هَلْ رَأَيْتُمْ هَذَا الْمَنِيَّ وَأَنَّهُ جِسْمٌ ضَعِيفٌ مُتَشَابِهُ الصُّورَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُكَوِّنٍ، فَأَنْتُمْ خَلَقْتُمُ النُّطْفَةَ أَمْ غَيْرُكُمْ خَلَقَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِخَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْبَاطِلِ وَإِلَى رَبِّنَا الْمُنْتَهَى، وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ النُّطْفَةَ وَصَوَّرَهَا وَأَحْيَاهَا وَنَوَّرَهَا فَلِمَ لَا تُصَدِّقُونَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ كَمَا أَنْشَأَكُمْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَقْرِيرٍ وَقَدْ علمت ذلك مرارا. قوله تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 60 الى 62]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] فقال: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَهُمَا ضِدَّانِ ثَبَتَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فَيُمْكِنُ الْإِحْيَاءُ ثَانِيًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْإِحْيَاءُ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِمَاتَةِ فَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ مُوجَبٌ لَا مُخْتَارٌ، وَالْمُوجَبُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(29/416)
مُمْكِنٍ فَقَالَ: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ وَقَدَّرْنَا الْمَوْتَ بَيْنَكُمْ فَانْظُرُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّا قَادِرُونَ أَنْ نُنْشِئَكُمْ، ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُبْطِلٍ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ بِأُمُورٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْأَجْسَامِ مِنْ حَرَارَاتٍ وَرُطُوبَاتٍ إِذَا تَوَفَّرَتْ بَقِيَتْ حَيَّةً، وَإِذَا نَقَصَتْ وَفَنِيَتْ مَاتَتْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْتُ وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا يُتْقِنُ خَلْقَهُ وَيُحْسِنُ صُورَتَهُ ثُمَّ يُفْسِدُهُ وَيُعْدِمُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَيُنْشِئُهُ، فَقَالَ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنَا الْمَوْتَ، وَلَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ: لِمَاذَا أَعْدَمَ وَلِمَاذَا أَنْشَأَ، وَلِمَاذَا هَدَمَ، لِأَنَّ كَمَالَ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْبُحُ مِنَ الصَّائِغِ وَالْبَانِي صياغة شيء وبناؤه وكسره وإفناؤه لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى صَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهِ وَتَحَمُّلِ مَشَقَّةٍ وَمَا مَثَلُهُ إِلَّا مَثَلُ إِنْسَانٍ يَنْظُرُ إِلَى شَيْءٍ فَيَقْطَعُ نَظَرَهُ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ثُمَّ يُعَاوِدُهُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ قَطَعْتَ النَّظَرَ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مِنْ هَذَا، لِأَنَّ هُنَا لَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ وَزَمَانٍ وَلَوْ تَوَارَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَمْثَالُهُ لَتَعِبَ لَكِنْ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَثْبُتُ التَّعَبُ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّعَبِ وَلَا افْتِقَارَ لِفِعْلِهِ إِلَى زَمَانٍ وَلَا زَمَانَ لِفِعْلِهِ وَلَا إِلَى حَرَكَةٍ بِجِرْمٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ [الواقعة: 58] مَعْنَاهُ أَفَرَأَيْتُمْ ذَلِكَ مَيِّتًا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَهُوَ مَنِيٌّ، وَلَوْ تَفَكَّرْتُمْ فِيهِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حَيًّا مُتَّصِلًا بِحَيٍّ وَكَانَ أَجْزَاءً مُدْرِكَةً مُتَأَلِّمَةً مُتَلَذِّذَةً ثُمَّ إِذَا أَمْنَيْتُمُوهُ لَا تَسْتَرِيبُونَ فِي كَوْنِهِ مَيِّتًا كَالْجَمَادَاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ آدَمِيًّا وَيَجْعَلُهُ بَشَرًا سَوِيًّا فَالنُّطْفَةُ كَانَتْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ حَيَّةً، ثُمَّ صَارَتْ مَيِّتَةً ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى فَاعْلَمُوا أَنَّمَا إِذَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلًا ثُمَّ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ثَانِيًا ثُمَّ نُنْشِئُكُمْ مَرَّةً أخرى فلا تستعبدوا ذَلِكَ كَمَا فِي النُّطَفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ أَوَّلِ سُورَةِ تَبَارَكَ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ؟ نَقُولُ: الْكَلَامُ هُنَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَصْلِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 12] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 15] وَأَمَّا فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَائِدَتَهَا وَمَرْجِعَهَا إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ الْمَوْتَ فِي النُّطَفِ بَعْدَ كَوْنِهَا حَيَّةً عِنْدَ الِاتِّصَالِ ثُمَّ خَلَقَ الْحَيَاةَ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ دَلِيلُ الْحَشْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَوْتِ هُنَا الْمَوْتُ الَّذِي بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ هُنَاكَ الَّذِي قَبْلَ الْحَيَاةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال هاهنا: نَحْنُ قَدَّرْنا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ بِلَفْظِ الْخَلْقِ، وهاهنا قَالَ: خَلَقْناكُمْ وَقَالَ: قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فَنَقُولُ: كَانَ الْمُرَادُ هُنَاكَ بَيَانَ كَوْنِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ مَخْلُوقَيْنِ مُطْلَقًا لَا فِي النَّاسِ عَلَى الْخُصُوصِ، وهنا لما قال: خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] خَصَّصَهُمْ بِالذِّكْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: خَلَقْنَا حَيَاتَكُمْ، فَلَوْ قَالَ: نَحْنُ قَدَّرْنَا مَوْتَكُمْ، كَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ يُوجَدُ مَوْتُهُمْ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ كَانَا مَخْلُوقَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ مَخْصُوصٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَكُمُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: نَعَمْ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ تَبِينُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَهَا فَنَقُولُ: قَدَّرْنَا لَكُمُ الْمَوْتَ، وَقَدَّرْنَا فِيكُمُ الْمَوْتَ، فَقَوْلُهُ: قَدَّرْنَا فِيكُمْ يُفِيدُ مَعْنَى الْخَلْقِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ ظَرْفًا لَهُ إِمَّا ظَرْفُ حُصُولٍ فِيهِ أَوْ ظَرْفُ حُلُولٍ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: الْبَيَاضُ فِي الْجِسْمِ وَالْكَحَلُ فِي الْعَيْنِ، فَلَوْ قَالَ: قَدَّرْنَا فِيكُمُ الْمَوْتَ لَكَانَ مَخْلُوقًا فِينَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا: قَدَّرْنَا لَكُمُ الْمَوْتَ كَانَ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ تَأَخُّرِهِ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: هَذَا مُعَدٌّ لَكَ كان(29/417)
مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْيَوْمَ لِغَيْرِكَ وَغَدًا لَكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 140] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: وَمَا نَحْنُ بِمَغْلُوبِينَ عَاجِزِينَ عَنْ خَلْقِ أَمْثَالِكُمْ وَإِعَادَتِكُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَوْصَالِكُمْ، يُقَالُ: فَاتَهُ الشَّيْءُ إِذَا غَلَبَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ سَبَقَهُ وَعَلَى هَذَا نُعِيدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ لِبَيَانِ أَنَّهُ خَلَقَ الْحَيَاةَ وَقَدَّرَ الْمَوْتَ، وَهُمَا ضِدَّانِ وَخَالِقُ الضِّدَّيْنِ يَكُونُ قَادِرًا مُخْتَارًا فَقَالَ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَاجِزِينَ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ الْمُوجِبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مِنْ إِيقَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضِّدَّيْنِ فَيَسْبِقُهُ وَيَفُوتُهُ، فَإِنَّ النَّارَ لَا يُمْكِنُهَا التَّبْرِيدُ لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّسْخِينِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا بِأَنَّهُ ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ مِنْ فَنَاءِ الرُّطُوبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَانْطِفَاءِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَكَانَ بِخَلْقِ حَكِيمٍ مُخْتَارٍ مَا كَانَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ لِأَنَّ الْحَكِيمَ كَيْفَ يَبْنِي وَيَهْدِمُ وَيُوجِدُ وَيُعْدِمُ فَقَالَ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أَيْ عَاجِزِينَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَسْتَبْعِدُونَهَا مِنَ الْبَنَّاءِ وَالصَّائِغِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي الْإِيجَادِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَتَمْكِينٍ مِنَ الْمَفْعُولِ وَإِمْكَانٍ وَيَلْحَقُهُ تَعَبٌ مِنْ تَحْرِيكٍ وَإِسْكَانٍ وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ بِكُنْ فَيَكُونُ، فَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَثَلِ مِنْ قَطْعِ النَّظَرِ وَإِعَادَتِهِ فِي أَسْرَعِ حِينٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لِمَ قَطَعْتَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ اللَّطِيفِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَسُّ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ مُدَّعِي الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَى الشَّيْءِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ بِالْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ يَأْتِي بِشَيْءٍ ثُمَّ يُبْطِلُهُ ثُمَّ يَأْتِي بِمِثْلِهِ ثُمَّ يُبْطِلُهُ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ فِعْلُ أَصْحَابِ خِفَّةِ الْيَدِ، حَيْثُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ شَيْئًا ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ تَبَارَكَ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ [الْمُلْكِ: 2] مَعْنَاهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، فَتَعْبُدُونَهُ وَتَعْتَقِدُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ فَيَحْسُنُ عَمَلُكُمْ وَلَوِ اعْتَقَدْتُمُوهُ/ مُوجِبًا لَمَا عَمِلْتُمْ شَيْئًا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ حَقِيقَتُهُ وَهِيَ أَنَّا مَا سُبِقْنَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَثَانِيهِمَا: فِي خَلْقِ النَّاسِ وَتَقْدِيرِ الْمَوْتِ فِيهِمْ مَا سُبِقَ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْعٍ آخَرَ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ أَمَّا إِذَا قُلْنَا: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مَعْنَاهُ مَا سَبَقَنَا شَيْءٌ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَسْلُكُونَ طَرِيقَ النَّظَرِ تَنْتَهُونَ إِلَى اللَّهِ وَتَقِفُونَ عِنْدَهُ وَلَا تُجَاوِزُونَهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ: قَبْلَ النُّطْفَةِ أَبٌ وَقَبْلَ الْأَبِ نُطْفَةٌ فَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِانْتِهَاءِ النُّطَفِ وَالْآبَاءِ إِلَى خَالِقٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، وَأَنَا ذَلِكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَسْبُوقٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ خَالِقٌ وَلَا سَابِقٌ غَيْرِي، وَهَذَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَرُّجِ وَالنُّزُولِ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ، وَالْعَاقِلُ الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْهِدَايَةَ الْقَوِيَّةَ يَعْرِفُ أَوَّلًا وَالَّذِي دُونَهُ يَعْرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُتْبَةٍ، وَالْمُعَانِدُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ إِنْ عَادَ إِلَى عَقْلِهِ بَعْدَ الْمَرَاتِبِ، وَيَقُولُ: لَا بُدَّ لِلْكُلِّ مِنْ إِلَهٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَسْبُوقٍ فِيمَا فَعَلَهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَفْعُولِهِ مِثَالٌ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْبُوقٍ، وَأَيُّ حَاجَةٍ فِي إِعَادَتِهِ لَهُ بِمِثَالٍ هُوَ أَهْوَنُ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا وَرَدَ فِي سُؤَالِ سَائِلٍ، وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، أَيْ لَسْنَا بِعَاجِزِينَ مَغْلُوبِينَ فَهَذَا دَلِيلُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّا لَقادِرُونَ أَفَادَ فَائِدَةَ انْتِفَاءِ الْعَجْزِ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أَيْ عَلَى التَّبْدِيلِ، وَمَعْنَاهُ وَمَا نَحْنُ عَاجِزِينَ عَنِ التَّبْدِيلِ.(29/418)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الشَّيْءُ كَأَنَّهُ غَلَبَهُ فَعَجَزَ عَنْهُ، وَكَلِمَةُ عَلَى فِي هَذَا الْوَجْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْمُسَابَقَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ مَنْ سَبَقَ غَيْرَهُ عَلَى أَمْرٍ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَدَّرْنا وَتَقْدِيرُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ عَلَى وَجْهِ التَّبْدِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ قَطْعِ النَّسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: خَرَجَ فُلَانٌ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَاجِلًا، أَيْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَرَجَ، وَتَعَلُّقُ كَلِمَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَظْهَرُ، فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ لَا إِشْكَالَ فِي تَبْدِيلِ أَمْثَالِكُمْ، أَيْ أَشْكَالِكُمْ وَأَوْصَافِكُمْ، وَيَكُونُ الْأَمْثَالُ جَمْعَ مِثْلٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَا نَحْنُ بِعَاجِزِينَ عَلَى أَنْ نَمْسَخَكُمْ، وَنَجْعَلَكُمْ فِي صُورَةِ قِرَدَةٍ وَخَنَازِيرَ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ [يس: 67] وَعَلَى مَا قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ الْمَسْبُوقِينَ، وَجَعَلْتُ الْمُتَعَلِّقَ لِقَوْلِهِ: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
هُوَ قَوْلَهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
مَعْنَاهُ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَهُمْ لَا عَلَى عَمَلِهِمْ، نَقُولُ: هَذَا إِيرَادٌ وَارِدٌ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ بِأَسْرِهِمْ إِذَا فَسَّرُوا الْأَمْثَالَ بِجَمْعِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَانِ: 28] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِذا دَلِيلُ الْوُقُوعِ، وَتَغَيُّرُ أَوْصَافِهِمْ بِالْمَسْخِ لَيْسَ أَمْرًا يَقَعُ وَالْجَوَابُ: أَنْ يُقَالَ: الْأَمْثَالُ/ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِثْلٍ، وَإِمَّا جَمْعَ مَثَلٍ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ مِثْلٍ فَنَقُولُ مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ نُغَيِّرَ أَوْصَافَكُمْ فَتَكُونُوا أَطْفَالًا، ثُمَّ شُبَّانًا، ثُمَّ كُهُولًا، ثُمَّ شُيُوخًا، ثُمَّ يُدْرِكَكُمُ الْأَجَلُ، وَمَا قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُهْلِكَكُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا إِذَا جَاءَ وَقْتُ ذَلِكَ فَتُهْلَكُونَ بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ جَمْعُ مَثَلٍ فَنَقُولُ مَعْنَى: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
نَجْعَلُ أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا وَبَدَّلَهُ بِمَعْنَى جَعَلَهُ بَدَلًا، وَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: بَدَّلْنَاكُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّا جَعَلْنَا بَدَلًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِمْ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: جَعَلْتُ كَذَا بَدَلًا لَا تَتِمُّ فَائِدَتُهُ إِلَّا إِذَا قَالَ: جَعَلْتُهُ بَدَلًا عَنْ كَذَا لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
فَالْمَثَلُ يَدُلُّ عَلَى الْمَثَلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَا أَمْثَالَكُمْ بَدَلًا لَكُمْ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ نُقَدِّرِ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُفْنِيَ الْخَلْقَ دُفْعَةً بَلْ قَدَّرْنَاهُ عَلَى أَنْ نَجْعَلَ مَثَلَهُمْ بَدَلَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ نُهْلِكَهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نُنْشِئَهُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالْأَخْلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
مِنَ الْأَوْصَافِ وَالزَّمَانِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَتَى يَمُوتُ وَمَتَى يُنْشَأُ أَوْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَتَى السَّاعَةُ وَالْإِنْشَاءُ؟ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِمَا، هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ مَا ذُكِرَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ
تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ [الواقعة: 59] وكأنه قال: كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقُ الشَّيْءِ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ؟ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النَّجْمِ: 32] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ وَالْإِنْشَاءَ وَهُوَ الْمَوْتُ وَالْحَشْرُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا فِي زَمَانٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَّكِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَلَا يَغْفُلَ عَنْ إِعْدَادِ الْعُدَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى تَقْرِيرًا لِإِمْكَانِ النَّشْأَةِ الثانية. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 64]
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)(29/419)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
ذَكَرَ بَعْدَ دَلِيلِ الْخَلْقِ دَلِيلَ الرِّزْقِ فَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الْخَلْقِ وَبِهِ الِابْتِدَاءُ، وَقَوْلُهُ:
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلِ الرِّزْقِ وَبِهِ الْبَقَاءُ، وَذَكَرَ أُمُورًا ثَلَاثَةً الْمَأْكُولُ، وَالْمَشْرُوبُ، وَمَا بِهِ إِصْلَاحُ الْمَأْكُولِ، وَرَتَّبَهُ تَرْتِيبًا فَذَكَرَ الْمَأْكُولَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ هُوَ الْغِذَاءُ، ثُمَّ الْمَشْرُوبَ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِمْرَاءَ، ثُمَّ النار للتي بِهَا الْإِصْلَاحُ وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا هُوَ الْأَصْلُ، فَذَكَرَ مِنَ الْمَأْكُولِ الْحَبَّ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَمِنَ الْمَشْرُوبِ الْمَاءَ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ، وَذَكَرَ مِنَ الْمُصْلِحَاتِ النَّارَ لِأَنَّ بِهَا إِصْلَاحَ أَكْثَرِ الْأَغْذِيَةِ وَأَعَمِّهَا، وَدَخَلَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَهُ، هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ هُوَ أَنَّ الْحَرْثَ أَوَائِلُ الزَّرْعِ وَمُقَدِّمَاتُهُ/ مِنْ كِرَابِ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ، وَسَقْيِ الْمَبْذُورِ، وَالزَّرْعُ هُوَ آخِرُ الْحَرْثِ مِنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَاسْتِغْلَاظِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى السَّاقِ، فَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَيْ مَا تَبْتَدِئُونَ مِنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ أَأَنْتُمْ تُبْلِغُونَهَا الْمَقْصُودَ أَمِ اللَّهُ؟ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ إِيجَادَ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِفِعْلِهِمْ إِنْ كَانَ سِوَى إِلْقَاءِ الْبَذْرِ وَالسَّقْيِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الزَّارِعُ، فَكَيْفَ قَالَ تَعَالَى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الْفَتْحِ: 29]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ»
قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ مِنَ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْحَرْثَ مُتَّصِلٌ بِالزَّرْعِ، فَالْحَرْثُ أَوَائِلُ الزَّرْعِ، وَالزَّرْعُ أَوَاخِرُ الْحَرْثِ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: يُعْجِبُ الْحُرَّاثَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَارِثَ إِذَا كَانَ هُوَ المبتدي، فَرُبَّمَا يَتَعَجَّبُ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ خُرُوجِ النَّبَاتِ وَالزَّارِعُ لَمَّا كَانَ هُوَ الْمُنْتَهِيَ، وَلَا يُعْجِبُهُ إِلَّا شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا أَخْذَ الْحِرَاثِ، فَمَا ظَنُّكَ بِإِعْجَابِهِ الْحُرَّاثَ،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزَّرْعُ لِلزَّارِعِ»
فِيهِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِلْحَارِثِ فَمَنِ ابْتَدَأَ بِعَمَلِ الزَّرْعِ وَأَتَى بِكِرَابِ الْأَرْضِ وَتَسْوِيَتِهَا يَصِيرُ حَارِثًا، وَذَلِكَ قَبْلَ إِلْقَاءِ الْبَذْرَةِ لِزَرْعٍ لِمَنْ أَتَى بِالْأَمْرِ الْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الْبَذْرِ، أَيْ مَنْ لَهُ الْبَذْرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ يُجْعَلُ الزَّرْعُ لِلْمُلْقِي سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ غاصبا. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 الى 67]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
وَهُوَ تَدْرِيجٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64] لَمْ يَبْعُدْ مِنْ مُعَانِدٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَحْرُثُ وَهُوَ بِنَفْسِهِ يَصِيرُ زَرْعًا، لَا بِفِعْلِنَا وَلَا بِفِعْلِ غَيْرِنَا، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ سَلِمَ لكم هذا الباطل هَذَا الْبَاطِلُ، فَمَا تَقُولُونَ فِي سَلَامَتِهِ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهُ، فَيَفْسُدُ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ انْعِقَادِهِ، أَوْ قَبْلَ اشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ الْحَبِّ فِيهِ، فَهَلْ تَحْفَظُونَهُ مِنْهَا أَوْ تَدْفَعُونَهَا عَنْهُ، أَوْ هَذَا الزَّرْعُ بِنَفْسِهِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الْآفَاتِ، كَمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ بِنَفْسِهِ يَنْبُتُ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ دَفْعَ الْآفَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِفْظَهُ عَنْهَا بِفَضْلِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا أَعَادَهُ لِيَذْكُرَ أُمُورًا مُرَتَّبَةً بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: لِلْمُهْتَدِينَ وَالثَّانِي: لِلظَّالِمِينَ وَالثَّالِثُ: لِلْمُعَانِدِينَ الضَّالِّينَ فَيَذْكُرُ الْأَمْرَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَى الضَّالِّ الْمُعَانِدِ.
وَفِيهِ سُؤَالٌ وهو أنه تعالى هاهنا قَالَ: لَجَعَلْناهُ بِلَامِ الْجَوَابِ وَقَالَ فِي الْمَاءِ: جَعَلْناهُ أُجاجاً(29/420)
[الْوَاقِعَةِ: 7] مِنْ غَيْرِ لَامٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ نَقُولُ: ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً كَانَ قَرِيبَ الذِّكْرِ فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ اللَّامِ فِيهِ عَنْ ذِكْرِهَا ثانيا، وهذا ضعيف لأن/ وقوله تعالى:
لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] مَعَ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [يس: 67] أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِهِ:
لَجَعَلْناهُ حُطاماً وجَعَلْناهُ أُجاجاً [الواقعة: 70] اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: هُنَاكَ أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ مِنَ الْآخَرِ ذِكْرًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ الطَّمْسَ لَا يَلْزَمُهُ الْمَسْخُ وَلَا بِالْعَكْسِ وَالْمَأْكُولَ مَعَهُ الْمَشْرُوبُ فِي الدَّهْرِ، فَالْأَمْرَانِ تَقَارَبَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ يُفِيدُ نَوْعَ تَأْكِيدٍ فَذَكَرَ اللَّامَ فِي الْمَأْكُولِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَمْرَ الْمَأْكُولِ أَهَمُّ مِنْ أَمْرِ الْمَشْرُوبِ وَأَنَّ نِعْمَتَهُ أَعْظَمُ وَمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَمْرَ الطَّمْسِ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرِ الْمَسْخِ وَأَدْخَلَ فيهما اللام، وهاهنا جَوَابٌ آخَرُ يَبِينُ بِتَقْدِيمِ بَحْثٍ عَنْ فَائِدَةِ اللَّامِ فِي جَوَابِ لَوْ، فَنَقُولُ: حَرْفُ الشَّرْطِ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً فِي الْمَعْنَى فَاحْتَاجُوا إِلَى عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى، فَأَتَوْا بِالْجَزْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي جَزَاءً، وَفِيهِ تَطْوِيلٌ فَالْجَزْمُ الَّذِي هُوَ سُكُونٌ أَلْيَقُ بِالْمَوْضِعِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْنَى أَيْضًا مُنَاسَبَةٌ لَكِنَّ كَلِمَةَ لَوْ مُخْتَصَّةٌ بِالدُّخُولِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنًى فَإِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ جَعَلَتْهُ مَاضِيًا، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَقْسَامٍ فَإِنَّهَا إِذَا ذُكِرَتْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ فَالْجَزَاءُ لَازِمُ الْوُقُوعِ فَجَعْلُ الْكَلَامِ جُمْلَةً شَرْطِيَّةً عُدُولٌ عَنْ جُمْلَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ إِلَى جُمْلَةٍ تَعْلِيقِيَّةٍ وَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: آتِيكَ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَطْوِيلٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: آتِيكَ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَحَالُ الشَّرْطِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْعَدَمِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالشَّرْطُ إِذَا وَقَعَ عَلَى قِسْمَيْنِ فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ لَفْظَيْنِ وَهُمَا إِنْ وَلَوْ، وَاخْتَصَّتْ إِنْ بِالشُّكُوكِ، وَلَوْ بِمَعْلُومٍ لِأَمْرٍ بَيَّنَّاهُ في موضع آخر لكن ما علم عدم يَكُونُ الْآخَرُ فَقَدْ أَثْبَتَ مِنْهُ فَهُوَ مَاضٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ يَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَمَا يُشَكُّ فِيهِ فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّنَا نَشُكُّ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَنَّهَا تَكُونُ أَوْ لَا تَكُونُ وَالْمَاضِي خَرَجَ عَنِ التَّرَدُّدِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ:
لَمَّا دَخَلَ لَوْ عَلَى الْمَاضِي وَمَا اخْتَلَفَ آخَرُ بِالْعَامِلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ إِعْرَابٌ، وَإِنْ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ بَانَ فِيهِ الْإِعْرَابُ، ثُمَّ إِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الشَّرْطِ وَكَانَ الْجَزَاءُ فِي بَابِ لَوْ مَاضِيًا فَلَمْ يَتَبَيَّنْ فيه الحال وَلَا سُكُونٍ، فَيُضَافُ لَهُ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ جُمْلَةً وَدُخُولِهِ فِي كَوْنِهِ جزء جملة، إذا ثبت هذا فنقول: عند ما يَكُونُ الْجَزَاءُ ظَاهِرًا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرْفِ الصَّارِفِ، لَكِنَّ كَوْنَ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمَشْرُوبُ الْمُنَزَّلُ مِنَ الْمُزْنِ أُجَاجًا لَيْسَ أَمْرًا وَاقِعًا يُظَنُّ أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَقِلٌّ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: جَعَلْناهُ أُجاجاً عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ وَالْحَرْثُ وَالزَّرْعُ كَثِيرًا مَا وَقَعَ كَوْنُهُ حُطَامًا فَلَوْ قَالَ: جَعَلْنَاهُ حُطَامًا، كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ فَقَالَ هُنَاكَ: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ لِيُخْرِجَهُ عَمَّا هُوَ صَالِحٌ لَهُ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ الْحُطَامِيَّةُ وَقَالَ الْمَاءُ الْمُنَزَّلُ الْمَشْرُوبُ مِنَ الْمُزْنِ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فَاسْتَغْنَى عَنِ اللَّامِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: أُخْرَى نَحْوِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ إِسْقَاطَ اللَّامِ عَنْ جَزَاءِ لَوْ حَيْثُ كَانَتْ لَوْ دَاخِلَةً عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَفْظًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَوْ مَاضِيًا، وَكَانَ الْجَزَاءُ مُوجَبًا فَلَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا [السجدة: 13] ولَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ [إِبْرَاهِيمَ:
21] وَذَلِكَ لِأَنَّ لَوْ إذا دخلت على فعل مستقل كَمَا فِي/ قَوْلِهِ: لَوْ نَشاءُ فَقَدْ أُخْرِجَتْ عَنْ حَيِّزِهَا لَفْظًا، لِأَنَّ لَوْ لِلْمَاضِي فَإِذَا خَرَجَ الشَّرْطُ عَنْ حَيِّزِهِ جَازَ فِي الْجَزَاءِ الْإِخْرَاجُ عَنْ حَيِّزِهِ لَفْظًا وَإِسْقَاطُ اللَّامِ عَنْهُ، لِأَنَّ إِنْ كَانَ حَيِّزُهَا الْمُسْتَقْبَلَ وَتَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا جُعِلَ مَا دَخَلَ إِنْ عَلَيْهِ مَاضِيًا كَقَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي، جَازَ فِي الْخَبَرِ الْإِخْرَاجُ عَنْ حَيِّزِهِ وَتَرْكُ الْجَزْمِ فَنَقُولُ: أُكْرِمُكَ بِالرَّفْعِ، وَأُكْرِمْكَ بِالْجَزْمِ، كَمَا تَقُولُ فِي: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ(29/421)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
وفي: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ [الواقعة: 70] وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ تَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا، وَحَيْثُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ، عُلِمَ أَنَّ الْآخَرَ جَزَاءٌ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ تَوَهُّمٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ، وَإِمَّا أَنْ يكون عندهم وذلك غير جائز هاهنا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ رَدٌّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي زَعْمِهِمْ يَعْنِي أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إن اللَّه لو شاء فعل فَلَا نُطْعِمُ مِنْ لَوْ شَاءَ اللَّه أَطْعَمَهُ عَلَى زَعْمِكُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَطْعَمَهُ جَزَاءً مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ وَالْمُتَكَلِّمِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّامِ، وَالْحُطَامُ كَالْفُتَاتِ وَالْجُذَاذِ وَهُوَ مِنَ الْحَطْمِ كَمَا أَنَّ الْفُتَاتَ وَالْجُذَاذَ مِنَ الْفَتِّ وَالْجَذِّ وَالْفُعَالُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُنْكَرٍ، إِمَّا فِي الْمَعَانِي: فَكَالسُّبَاتِ وَالْفُوَاقِ وَالزُّكَامِ وَالدُّوَارِ وَالصُّدَاعِ لِأَمْرَاضٍ وَآفَاتٍ فِي النَّاسِ وَالنَّبَاتِ. وَإِمَّا فِي الْأَعْيَانِ: فَكَالْجُذَاذِ وَالْحُطَامِ وَالْفُتَاتِ وَكَذَا إِذَا لَحِقَتْهُ الْهَاءُ كَالْبُرَادَةِ وَالسُّحَالَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ وَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الْفَاءِ مِنَ الْكَلِمَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّا نَقُولُ: فُعِلَ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ أَوَائِلَ الْكَلِمِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ التَّخْفِيفُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ السُّكُونُ لَمْ يَثْبُتِ التَّثْقِيلُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الضَّمُّ، فَإِذَا ثَبَتَ فَهُوَ لِعَارِضٍ، فإن عُلِمَ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَمَا فِي بُرْدٍ وَقُفْلٍ فَالْأَمْرُ خَفِيٌّ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَالْوَضْعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الثُّلَاثِيِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: كَأَنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُقَدَّرٌ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَحِينَئِذٍ يَحِقُّ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّا لَمُعَذَّبُونَ دَائِمُونَ فِي الْعَذَابِ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَيَقُولُونَ: إِنَّا لمعذبون ومحرمون عَنْ إِعَادَةِ الزَّرْعِ مَرَّةً أُخْرَى، يَقُولُونَ: إِنَّا لَمُعَذَّبُونَ بِالْجُوعِ بِهَلَاكِ الزَّرْعِ وَمَحْرُومُونَ عَنْ دَفْعِهِ بغير الزرع لفوات الماء والوجه الثالث: فِي الْغُرْمِ إِنَّا لَمُكْرَهُونَ بِالْغَرَامَةِ مِنْ غَرِمَ الرجل وأصل الغرم والغرام لزوم المكروه. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَلْطَفُ وَأَنْظَفُ أَوْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُزْنُ السَّحَابُ الثَّقِيلُ بِالْمَاءِ لَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ يَدُلُّ عَلَى ثِقَلِهِ قَلْبُ اللَّفْظِ وَعَلَى مدافعة الأمر وهو التزم فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ/ السَّحَابُ الَّذِي مَسَّ الْأَرْضَ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأُجَاجِ أَنَّهُ الْمَاءُ الْمُرُّ مِنْ شِدَّةِ الْمُلُوحَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الْحَارُّ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ كَالْحُطَامِ مِنَ الْحَطِيمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الْفُرْقَانِ: 53] ذَكَرَ فِي الْمَاءِ الطَّيِّبِ صِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَائِدَةٌ إِلَى طَعْمِهِ وَالْأُخْرَى عَائِدَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ مَلْمَسِهِ وَهِيَ الْبُرُودَةُ وَاللَّطَافَةُ، وَفِي الْمَاءِ الْآخَرِ أَيْضًا صِفَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَائِدَةٌ إلى طعمه والأخرى عائدة إلى كيفية لمسه وَهِيَ الْحَرَارَةُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ ذِكْرِ الطَّعَامِ الشُّكْرَ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَأْكُولِ أَكْلَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ: تَأْكُلُونَ لَمْ يَقُلْ: تَشْكُرُونَ وَقَالَ فِي الْمَاءِ: تَشْرَبُونَ فَقَالَ: تَشْكُرُونَ والثاني: أن في المأكول قال: تَحْرُثُونَ [الواقعة: 63] فَأَثْبَتَ لَهُمْ سَعْيًا فَلَمْ يَقُلْ: تَشْكُرُونَ وَقَالَ في الماء: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ لَا عَمَلَ لَكُمْ فِيهِ أَصْلًا فَهُوَ مَحْضُ النِّعْمَةِ فَقَالَ: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: النِّعْمَةُ لَا تَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَرَارِيِّ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِيهَا الْمَاءُ لَا يَأْكُلُ الْإِنْسَانُ شَيْئًا(29/422)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
مَخَافَةَ الْعَطَشِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْمَأْكُولَ أَوَّلًا وَأَتَمَّهُ بِذِكْرِ الْمَشْرُوبِ ثَانِيًا قَالَ: فَلَوْلا تَشْكُرُونَ عَلَى هذه النعمة التامة. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 71]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أي: تقدمون.
[سورة الواقعة (56) : آية 72]
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
وَفِي شَجَرَةِ النَّارِ وَجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الشَّجَرَةُ الَّتِي تُورِي النَّارَ مِنْهَا بِالزَّنْدِ وَالزَّنْدَةِ كَالْمَرْخِ وثانيهما: الشَّجَرَةُ الَّتِي تَصْلُحُ لِإِيقَادِ النَّارِ كَالْحَطَبِ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَمْ يَسْهُلْ إِيقَادُ النَّارِ، لَأَنَّ النَّارَ لَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَطَبِ وَثَالِثُهَا: أُصُولُ شَعْلِهَا وَوَقُودُ شَجَرَتِهَا وَلَوْلَا كَوْنُهَا ذَاتَ شَعْلٍ لَمَا صَلَحَتْ لِإِنْضَاجِ الأشياء والباقي ظاهر.
[سورة الواقعة (56) : آية 73]
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
فِي قَوْلِهِ: تَذْكِرَةً وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَذْكِرَةً لِنَارِ الْقِيَامَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْشَى اللَّه تَعَالَى وَعَذَابَهُ إِذَا رَأَى النَّارَ الْمُوقَدَةَ وَثَانِيهِمَا: تَذْكِرَةً بِصِحَّةِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِيدَاعِ النَّارِ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِيدَاعِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي بَدَنِ الْمَيِّتِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا [يس: 80] وَالْمُقْوِي: هُوَ الَّذِي أَوْقَدَهُ فَقَوَّاهُ وَزَادَهُ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ كَوْنَهَا تَذْكِرَةً عَلَى كَوْنِهَا مَتَاعًا لِيُعْلَمَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ أَتَمُّ وَبِالذِّكْرِ أهم. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : آية 74]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حَالَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَشْرِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِمَا بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَمْ يُفِدْهُمُ الْإِيمَانُ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: / إِنَّ وَظِيفَتَكَ أَنْ تَكْمُلَ فِي نَفْسِكَ وَهُوَ عِلْمُكَ بِرَبِّكَ وَعَمَلُكَ لِرَبِّكَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [طه: 130] وفي مَوْضِعٍ آخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الِاسْمِ وَلَمْ يَقُلْ: فَسَبِّحْ بِرَبِّكَ الْعَظِيمِ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ مُقْحَمٌ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَنَقُولُ: فِيهِ فَائِدَةٌ زِيَادَةُ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَ عَظِيمًا وَبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ إِلَّا وَعَظَّمَهُ، فَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ فِي مَوْضِعٍ وَضِيعٍ وَلَا عَلَى وَجْهِ الِاتِّفَاقِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُعَظِّمُ شَخْصًا عِنْدَ حُضُورِهِ رُبَّمَا لَا يُعَظِّمُهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ فَيَذْكُرُهُ بِاسْمِ عَلَمِهِ، فَإِنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَظُمَ عِنْدَهُ لَا يَذْكُرُهُ فِي حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ إِلَّا بِأَوْصَافِ الْعَظَمَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا فَمَا فَائِدَةُ الْبَاءِ وَكَيْفَ صَارَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ: فَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، أَوِ الرَّبَّ الْعَظِيمَ، نَقُولُ:
قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَفْعُولِ ظَاهِرًا غَايَةَ الظُّهُورِ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفٍ فَلَا يُقَالُ: ضَرَبْتُ بِزَيْدٍ بِمَعْنَى ضَرَبْتُ زَيْدًا، وَإِذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ إِلَّا بِحَرْفٍ فَلَا يُقَالُ: ذَهَبْتُ زَيْدًا بِمَعْنَى ذَهَبْتُ بِزَيْدٍ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا جَازَ الْوَجْهَانِ فَنَقُولُ: سَبَّحْتُهُ وَسَبَّحْتُ بِهِ وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا عَلَّقَ(29/423)
التَّسْبِيحَ بِالِاسْمِ وَكَانَ الِاسْمُ مُقْحَمًا كَانَ التَّسْبِيحُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الرَّبُّ وَكَانَ التَّعَلُّقُ خَفِيًّا مِنْ وَجْهٍ فَجَازَ إِدْخَالُ الْبَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ الْإِسْقَاطُ وَالْإِثْبَاتُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟ [الأعلى: 1] فنقول: هاهنا تَقْدِيمُ الدَّلِيلِ عَلَى الْعَظَمَةِ أَنْ يُقَالَ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِاسْمِ غَيْرُ زَائِدَةٍ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأُمُورَ وَقَالَ: نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ، فَاعْتَرَفَ الْكُلُّ بِأَنَّ الْأُمُورَ مِنَ اللَّه، وَإِذَا طُولِبُوا بِالْوَحْدَانِيَّةِ قَالُوا: نَحْنُ لَا نُشْرِكُ فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا نَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً فِي الِاسْمِ وَنُسَمِّيهَا آلِهَةً وَالَّذِي خَلَقَهَا وخلق السموات هُوَ اللَّه فَنَحْنُ نُنَزِّهُهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَقَالَ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَكَمَا أَنَّكَ أَيُّهَا الْعَاقِلُ اعْتَرَفْتَ بِعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ اعْتَرِفْ بِعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ، وَلَا تَقُلْ لِغَيْرِهِ إِلَهٌ، فَإِنَّ الِاسْمَ يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَالْحَقِيقَةَ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِطَابُ لَا يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَكُونُ كَمَا يَقُولُ الْوَاعِظُ: يَا مِسْكِينُ أَفْنَيْتَ عُمُرَكَ وَمَا أَصْلَحْتَ عَمَلَكَ، وَلَا يُرِيدُ أَحَدًا بِعَيْنِهِ، وَتَقْدِيرُهُ يَا أَيُّهَا الْمِسْكِينُ السَّامِعُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ رَبِّكَ، أَيْ إِذَا قُلْتَ: وَتَوَلَّوْا، فَسَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ اسْمِهِ بَيْنَ قَوْمِكَ وَاشْتَغِلْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى اذْكُرْهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَبَيِّنْ وَصْفَهُ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا فَإِنَّكَ مُقْبِلٌ عَلَى شُغْلِكَ الَّذِي هُوَ التَّبْلِيغُ، وَلَوْ قَالَ: فَسَبِّحْ رَبَّكَ، مَا أَفَادَ الذِّكْرَ لَهُمْ، وَكَانَ يُنْبِئُ عَنِ التَّسْبِيحِ بِالْقَلْبِ، وَلَمَّا قَالَ: فَسَبِّحْ بَاسْمِ رَبِّكَ، وَالِاسْمُ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ لَفْظًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَسَبِّحْ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ يُسَبَّحُ رَبُّنَا؟ نَقُولُ: إِمَّا مَعْنًى، فَبِأَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ/ الشَّرِيكِ وَقَادِرٌ بَرِيءٌ عَنِ الْعَجْزِ فَلَا يَعْجِزُ عَنِ الْحَشْرِ وَإِمَّا لَفْظًا فَبِأَنْ يُقَالَ: سُبْحَانَ اللَّه وَسُبْحَانَ اللَّه الْعَظِيمِ، وَسُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالْعَجْزِ فَإِنَّكَ إِذَا سَبَّحْتَهُ وَاعْتَقَدْتَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِيقَتِهِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا لِأَنَّ الْجِسْمَ فِيهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ حَقِيقِيٌّ لَا كَثْرَةَ لِذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ عَرَضًا وَلَا فِي مكان، وكل مالا يَجُوزُ لَهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِالتَّوْحِيدِ وَلَا يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا فِي شَيْءٍ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ، وَإِذَا قُلْتَ: هُوَ قَادِرٌ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَظِيمِ وَبَيْنَ الْأَعْلَى، وَهَلْ فِي ذِكْرِ الْعَظِيمِ هُنَا بَدَلَ الْأَعْلَى وَذِكْرِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: 1] بَدَلَ الْعَظِيمِ فَائِدَةٌ؟ نَقُولُ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَظِيمِ وَالْأَعْلَى فَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، وَالْأَعْلَى يَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ، بَيَانُهُ هُوَ أَنَّ مَا عَظُمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مُمْكِنٍ، لِأَنَّهُ لَوْ بَعُدَ عَنْهُ لَخَلَا عَنْهُ مَوْضِعُهُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ أَجْزَاءٌ أُخَرُ لَكَانَ أَعْظَمَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَالْعَظِيمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ هُوَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنَ الْكُلِّ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ إِذَا قَرُبَ مِنْ جِهَةٍ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَلِيُّ فَهُوَ الْبَعِيدُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِهَةِ فَوْقُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهُ وَكَانَ أَعْلَى فَالْعَلِيُّ الْمُطْلَقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الَّذِي فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْأَشْيَاءُ الْمُدْرِكَةُ تُسَبِّحُ اللَّه، وَإِذَا عَلِمْنَا مِنَ اللَّه مَعْنًى سَلْبِيًّا فَصَحَّ أَنْ نَقُولَ: هُوَ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ إِدْرَاكُنَا وَإِذَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ يُزِيدُ تَعْظِيمَهُ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُنَا، فَنَقُولُ: هُوَ أَعْظَمُ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُنَا، وَقَوْلُنَا: أَعْظَمُ مَعْنَاهُ عَظِيمٌ لَا عَظِيمَ مِثْلُهُ، فَفِيهِ مَفْهُومٌ سَلْبِيٌّ وَمَفْهُومٌ ثُبُوتِيٌّ وَقَوْلُهُ: أَعْلَى، مَعْنَاهُ هُوَ عَلِيٌّ وَلَا عَلِيَّ مِثْلُهُ، وَالْعَلِيُّ(29/424)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومٍ سَلْبِيٍّ وَالْأَعْلَى مِثْلُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْأَعْلَى مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالْأَعْظَمُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَفْظًا، وَفِيهِ مَعْنًى سَلْبِيٌّ، وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَظِيمِ مَفْهُومٌ ثُبُوتِيٌّ لَا سَلْبَ فِيهِ فَالْأَعْلَى أَحْسَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الأعظم هذا هو الفرق. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 76]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
[في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آتَاهُ كُلَّ مَا يَنْبَغِي له وطهره عن كل مالا يَنْبَغِي لَهُ فَآتَاهُ الْحِكْمَةَ وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ وَاسْتِعْمَالُهَا عَلَى وُجُوهِهَا، وَالْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ وَهِيَ الْأُمُورُ الْمُفِيدَةُ الْمُرَقِّقَةُ لِلْقُلُوبِ الْمُنَوِّرَةُ لِلصُّدُورِ، وَالْمُجَادَلَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ فَأَتَى بِهَا وَعَجَزَ الْكُلُّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَالَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِ، كُلُّ ذَلِكَ وَلَا يُؤْمِنُ لَا يَبْقَى لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا الْبَيَانُ لَيْسَ لِظُهُورِ الْمُدَّعَى بَلْ لِقُوَّةِ ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَقُوَّتِهِ عَلَى تَرْكِيبِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِقُوَّةِ جِدَالِهِ لَا بِظُهُورِ مَقَالِهِ وَرُبَّمَا يَقُولُ أَحَدُ الْمُنَاظِرَيْنِ لِلْآخَرِ عِنْدَ/ انْقِطَاعِهِ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِي لَكِنْ تَسْتَضْعِفُنِي وَلَا تُنْصِفُنِي وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِلْخَصْمِ جَوَابٌ غَيْرَ الْقَسَمِ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي لَا مَخَارِجَ عَنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُكَابِرٍ وَأَنَّهُ مُنْصِفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِدَلِيلٍ آخَرَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ أَيْضًا غَلَبْتَنِي فِيهِ بِقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا آتَاهُ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ مَا يَنْبَغِي قَالُوا: إِنَّهُ يُرِيدُ التَّفَضُّلَ عَلَيْنَا وَهُوَ يُجَادِلُنَا فِيمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقْسِمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْقَسَمِ بَعْدَ الدَّلَائِلِ، وَلِهَذَا كَثُرَتِ الْأَيْمَانُ فِي أَوَائِلِ التَّنْزِيلِ وَفِي السُّبُعِ الْأَخِيرِ خَاصَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ، نَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَهُ الْعَظَمَةُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَسَمُ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ. فَلا أُقْسِمُ مَعَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّهُ قَسَمٌ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ مَنْقُولَةٌ وَمَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَأَحَدُهَا: أَنَّ (لَا) زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الْحَدِيدِ:
29] مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ ثَانِيهَا: أَصْلُهَا لَأُقْسِمُ بِلَامِ التَّأْكِيدِ أُشْبِعَتْ فَتْحَتُهَا فَصَارَتْ لَا كَمَا فِي الْوَقْفِ ثَالِثُهَا: لَا، نَافِيَةٌ وَأَصْلُهُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ وَالْقَسَمُ بَعْدَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: لَا، واللَّه لَا صِحَّةَ لِقَوْلِ الْكُفَّارِ أُقْسِمُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ لَا هِيَ نَافِيَةٌ عَلَى مَعْنَاهَا غَيْرَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَجَازًا تَرْكِيبِيًّا، وَتَقْدِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: لَا فِي النَّفْيِ هُنَا كَهِيَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَسْأَلْنِي عَمَّا جَرَى عَلَيَّ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُشْرَحَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ فَإِنَّ غَرَضَهُ مِنَ السُّؤَالِ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْيِ إِلَّا بَيَانَ عَظَمَةِ الْوَاقِعَةِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: جَرَى عَلَيَّ أَمْرٌ عَظِيمٌ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السَّامِعَ يَقُولُ لَهُ مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَوْ فَهِمَ مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ لَمَا قَالَ:
مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ، فَيَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَخْطَأْتُ حَيْثُ مَنَعْتُكَ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ سَأَلْتَنِي وَكَيْفَ لَا، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَائِلُ الَّذِي قال: لا تسألني عند سكون صَاحِبِهِ عَنِ السُّؤَالِ، أَوْ لَا تَسْأَلْنِي، وَلَا تَقُولُ: مَاذَا جَرَى عَلَيْكَ وَلَا يَكُونُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّكَ مَنَعْتَنِي عَنِ السُّؤَالِ كُلُّ ذَلِكَ تَقَرَّرَ فِي أَفْهَامِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ تَعْظِيمُ الْوَاقِعَةِ لَا النَّهْيُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْقَسَمِ: مِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا لِكَوْنِ الْوَاقِعَةِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فيقول: لا(29/425)
أُقْسِمُ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشْهَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، فَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْقَسَمَ وَنَفْيَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْوَاقِعَةَ ظَاهِرَةٌ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوْقَ مَا يُقْسِمُ بِهِ، وَالْمُقْسِمُ صَارَ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ لَا أُقْسِمُ يَمِينًا بَلْ أَلْفَ يَمِينٍ، وَلَا أُقْسِمُ بِرَأْسِ الْأَمِيرِ بَلْ بِرَأْسِ السُّلْطَانِ وَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِكَذَا مُرِيدًا لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْجَزْمِ وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُقْسَمُ بِهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ وَالْأَوَّلُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ رَبُّ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ [الصَّافَّاتِ: 1] الْمُرَادُ مِنْهُ رَبُّ الصَّافَّاتِ وَرَبُّ الْقِيَامَةِ وَرَبُّ الشَّمْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذًا قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أَيْ الْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَوَاقِعُ النُّجُومِ مَا هِيَ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ أَوِ الْمَغَارِبُ وَحْدَهَا، فَإِنَّ عِنْدَهَا سُقُوطَ النُّجُومِ الثَّانِي: هِيَ مَوَاضِعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي بُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا الثَّالِثُ: مَوَاقِعُهَا فِي اتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ الرَّابِعُ: مَوَاقِعُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ تَنْتَثِرُ النُّجُومُ، وَأَمَّا مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ، فَهِيَ قُلُوبُ عِبَادِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامُهَا الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ فِي اخْتِصَاصِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ لِلْقَسَمِ بِهَا فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَبَيَانُهَا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِمَوَاقِعِهَا كَمَا هِيَ قَسَمٌ كَذَلِكَ هِيَ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الذَّارِيَاتِ، وَفِي الطُّورِ، وَفِي النَّجْمِ، وَغَيْرِهَا، فَنَقُولُ: هِيَ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْآدَمِيِّ مِنَ الْمَنِيِّ وَمَوْتَهُ، بَيَّنَ بِإِشَارَتِهِ إِلَى إِيجَادِ الضِّدَّيْنِ فِي الْأَنْفُسِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ أَيْضًا قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الْوَاقِعَةِ: 63] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ [الْوَاقِعَةِ: 68] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى زَرْعِهِ وَجَعْلِهِ حُطَامًا، وَخَلْقِهِ الْمَاءَ فُرَاتًا عَذْبًا، وَجَعْلِهِ أُجَاجًا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الضِّدَّيْنِ مُخْتَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الدَّلِيلَ السَّمَاوِيَّ فِي مَعْرِضِ الْقَسَمِ، وَقَالَ:
مَوَاقِعُ النُّجُومِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ مِنَ السَّمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَوَاضِعِ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَقَالَ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ لَيْسَ إِلَى الْبَرَاهِينِ النَّفْسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: 22] حَيْثُ ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ كَذَلِكَ هُنَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْمَصْدَرِ، وَلِهَذَا تُوصَفُ الْمَصَادِرُ الَّتِي لَمْ تَظْهَرُ بَعْدَ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: ضَرَبْتُهُ قَوِيًّا، وَفِيهِ مَسَائِلُ نَحْوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، أَمَّا النَّحْوِيَّةُ:
فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هُوَ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَاذَا؟ وَرُبَّمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ: إِنَّ جَوَابَهُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَا يَتَقَدَّمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ فِي مَعْمُولَاتِهَا لَا يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَا يُقَالُ: زَيْدًا إِنْ قَامَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُرُوفِ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ مُشَبَّهٌ بِعَمَلِ الْمَعَانِي، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ مَعْنًى لَا مَوْضِعَ لَهُ فِي الْحِسِّ فَيُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَتَأَخُّرُ مُدْرَكٍ بِالْحِسِّ، جاز أن يقال: قائما ضربت زيد، أَوْ ضَرْبًا شَدِيدًا ضَرْبَتُهُ، وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَلَهَا تَقَدُّمٌ وَتَأَخُّرٌ مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ عِلْمِنَا بِتَأَخُّرِهَا فَرْضُ وُجُودِهَا مُتَقَدِّمَةً بِخِلَافِ الْمَعَانِي، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَمَلُ(29/426)
حَرْفِ الشَّرْطِ فِي الْمَعْنَى إِخْرَاجُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإِذَا قُلْتَ: مَنْ، وَإِنْ، لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ كَوْنِهَا جُمْلَةً بَعْدِ وُقُوعِهَا جُمَلٌ، لِيُعْلَمَ أَنَّ حَرْفَهَا أَضْعَفُ مِنْ عَمَلِ الْمَعْنَى لِتَوَقُّفِهِ عَلَى/ عَمَلِهِ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْكَنَ فَرْضُهُ مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا، وَعَمَلُ الْأَفْعَالِ عَمَلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَعَمَلُ الْحُرُوفِ عَمَلٌ مُشَبَّهٌ بِالْمَعْنَى، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى [يُوسُفَ: 24] قَالَ بَعْضُ الْوُعَّاظِ مُتَعَلِّقٌ بِلَوْلَا، فَلَا يَكُونُ الْهَمُّ وَقَعَ مِنْهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهُنَا أَدْخَلُ فِي الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِلْمُتَأَخِّرِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ، لَمْ يَأْتِ بِالْعَرَبِيَّةِ، إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالْقَوْلُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يُقْصَدْ بِذَلِكَ جَوَابٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ نَفْيُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَوْ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَا تَعْلَمُونَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لَوْ تُذْكَرُ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ، فَإِدْخَالُ لَوْ عَلَى تَعْلَمُونَ أَفَادَنَا أَنَّ عِلْمَهُمْ مُنْتَفٍ، سَوَاءٌ عَلِمْنَا الْجَوَابَ أَوْ لَمْ نَعْلَمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، حَيْثُ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَفْعُولٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ إِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ إِلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَتَرْكِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَسَمٌ وَلَا تَعْلَمُونَ؟ فَنَقُولُ: فَائِدَتُهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ كَانَ ذَلِكَ دَعْوَى مِنْهُ، فَإِذَا طُولِبَ وَقِيلَ: لِمَ قُلْتَ إِنَّا لَا نَعْلَمُ يَقُولُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَفَعَلْتُمْ كَذَا، فَإِذَا قَالَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ: لَا تَعْلَمُونَ كَانَ مُرِيدًا لِلنَّفْيِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ بِدَلِيلٍ وَسَبَبٍ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ جَوَابٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظَّمْتُمُوهُ لَكِنَّكُمْ مَا عَظَّمْتُمُوهُ، فَعُلِمَ أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ، إِذْ لَوْ تَعْلَمُونَ لَعَظُمَ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَلَا تَعْظِيمَ فَلَا تَعْلَمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: لَوْ تَعْلَمُونَ هَلْ لَهُ مَفْعُولٌ أَمْ لَا؟ قُلْنَا: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا مَفْعُولَ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا عِلْمَ لَكُمْ بِعِظَمِ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَأَدْخَلُ فِي الْحُسْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا أَصْلًا لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ [الْبَقَرَةِ: 18] وَقَوْلِهِ: كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: 179] وَعَلَى الثَّانِي أَيْضًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِالْقَسَمِ لَعَظَّمْتُمُوهُ وَثَانِيهِمَا: لَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِعَظَمَتِهِ لَعَظَّمْتُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ تَعْلَمُونَ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ؟ فَنَقُولُ: هُوَ كَلَامُ اعْتِرَاضٍ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ لَصَدَّقْتُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ؟ نَقُولُ: الِاهْتِمَامُ بِقَطْعِ اعْتِرَاضِ الْمُعْتَرِضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ أَرَادَ أَنْ يَصِفَهُ بِالْعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: عَظِيمٌ وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ الْعِلْمَ بِأُمُورِ النَّجْمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُهُ لَا يَحْصُلُ لَنَا عِلْمٌ وَظَنٌّ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ لَحَصَلَ لَكُمُ الْقَطْعُ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: فَلا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَاضِحٌ مِنْ أَنْ يُصَدَّقَ بِيَمِينٍ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ: أَيْنَ الظُّهُورُ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِعَدَمِهِ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ قَسَمًا فَهُوَ فِي نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْقَسَمِ، فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ مَعْنَاهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَإِنَّهُ دَلِيلٌ وَبُرْهَانٌ قَوِيٌّ لَوْ تَعْلَمُونَ وَجْهَهُ لَاعْتَرَفْتُمْ بِمَدْلُولِهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ/ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْحَشْرِ، وَذَلِكَ لَأَنَّ دَلَالَةَ اخْتِصَاصِ الْكَوَاكِبِ بِمَوَاضِعِهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَلَا يَلْزَمُ الْفَلَاسِفَةَ دَلِيلٌ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَأَمَّا المعنوية:(29/427)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ ووجهان الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ تَارَةً شِعْرًا وَأُخْرَى سِحْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُهُ: لَقُرْآنٌ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا لِوُضُوحِ الْمُقْسَمِ بِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: لَسْتُ تَارِكًا لِلْقَسَمِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ أَوْ لَيْسَ بِقَسَمٍ عَظِيمٍ، بَلْ هُوَ قَسَمٌ عَظِيمٌ وَلَا أُقْسِمُ بِهِ، بَلْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ أُقْسِمُ لِجَزْمِي بِالْأَمْرِ وَعِلْمِي بِحَقِيقَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْيَمِينُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تُوصَفُ بِالْمُغَلَّظَةِ، وَالْعِظَمِ يُقَالُ: فِي الْمُقْسِمِ حَلَفَ فُلَانٌ بِالْأَيْمَانِ الْعِظَامِ، ثُمَّ تَقُولُ فِي حَقِّهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ لِأَنَّ آثَامَهَا كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبِالْعَظِيمِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الَّذِي قَرُبَ قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ وَمَلَأَ الصَّدْرَ بِالرُّعْبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْعَظِيمِ فِيهِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي قَرُبَ مِنْ أَشْيَاءَ عَظِيمَةٍ وَمَلَأَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنَ الْعِظَمِ، كَذَلِكَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ قَرُبَ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَلَأَ صُدُورًا كثيرة. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 77 الى 80]
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى مَعْلُومٍ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْكُلِّ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شِعْرٌ وَإِنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ جَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْقَسَمِ الَّذِي قال فيه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ [الواقعة: 76] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَمُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْآنُ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَقْرُوءُ وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْجِسْمِ الْعَظِيمِ: انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَقْدُورِهِ وَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي [لقمان: 11] ثانيهما: اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن/ وَعَلَى هَذَا سَنُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ رَدَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُمْ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: يُعْطِي شَيْئًا أَعْلَى مِمَّا وَجَبَ وَيَأْخُذُ الْجُبْرَانَ أَوْ يُعْطِي شَيْئًا دُونَهُ، وَيُعْطِي الْجُبْرَانَ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ: الْجُبْرَانُ مَصْدَرٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُعْطَى، فَيُقَالُ لَهُ هُوَ كَالْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِمَا أُخِذَ جَابِرٌ أَوْ مَجْبُورٌ أَوْ يُقَالُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُجْبَرُ بِهِ كَالْقُرْبَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مَقْرُوءًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عن الكل وهو قوله: قرآن كَرِيمٌ فَهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ(29/428)
كَوْنَهُ قُرْآنًا كَرِيمًا وَهُمْ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِهِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ مُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهُ مَسْمُوعٌ سَمِعْتُهُ وَتَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ
فَمَا كَانَ الْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ مَقْرُوءًا، وَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالْإِنْشَاءِ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ أَثْبَتَ كَوْنَهُ مَقْرُوءًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقْرَأَ وَيُتْلَى فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ سَمَّاهُ قُرْآنًا لِكَثْرَةِ مَا قُرِئَ، وَيُقْرَأُ إِلَى الْأَبَدِ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْضُهُ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كَرِيمٌ فِيهِ لَطِيفَةٌ؟ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا قُرِئَ كَثِيرًا يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ وَالْآذَانِ، وَلِهَذَا تَرَى مَنْ قَالَ: شَيْئًا فِي مَجْلِسِ الْمُلُوكِ لَا يَذْكُرُهُ ثَانِيًا، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ: يُقَالُ لِقَائِلِهِ لِمَ تُكَرِّرُ هَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ أَيْ مَقْرُوءٌ قُرِئَ وَيُقْرَأُ، قَالَ: كَرِيمٌ أَيْ لَا يَهُونُ بِكَثْرَةِ التِّلَاوَةَ وَيَبْقَى أَبَدَ الدَّهْرِ كَالْكَلَامِ الْغَضِّ وَالْحَدِيثِ الطَّرِيِّ، وَمِنْ هُنَا يَقَعُ أَنَّ وَصْفَ الْقُرْآنِ بِالْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُ قَدِيمٌ يَسْتَمِدُّ مِنْ هَذَا مَدَدًا فَهُوَ قَدِيمٌ يَسْمَعُهُ السَّامِعُونَ كَأَنَّهُ كَلَامُ السَّاعَةِ، وَمَا قَرَعَ سَمْعَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عَلِمُوهُ قَبْلَ النَّبِيِّ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ إِذَا سَمِعُوهُ مِنْ أَحَدِنَا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ الْتِذَاذَ السَّامِعِ بِكَلَامٍ جَدِيدٍ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْكَرِيمُ اسْمٌ جَامِعٌ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ، قِيلَ: الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي كَانَ طَاهِرَ الْأَصْلِ ظَاهِرَ الْفَضْلِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَصْلُهُ غَيْرُ زَكِيٍّ لَا يُقَالُ لَهُ كَرِيمٌ مُطْلَقًا، بَلْ يُقَالُ لَهُ: كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ يَكُونُ زَكِيَّ الْأَصْلِ غَيْرَ زَكِيِّ النَّفْسِ لَا يُقَالُ لَهُ: كَرِيمٌ إِلَّا مَعَ تَقْيِيدٍ، فَيُقَالُ: هُوَ كَرِيمُ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ خَسِيسٌ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّ السَّخِيَّ الْمُجَرَّدَ هُوَ الَّذِي يَكْثُرُ عَطَاؤُهُ لِلنَّاسِ، أَوْ يَسْهُلُ عَطَاؤُهُ وَيُسَمَّى كَرِيمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ آخَرُ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِسَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يُحِبُّونَ مَنْ يُعْطِيهِمْ، وَيَفْرَحُونَ بِمَنْ يُعْطِي أَكْثَرَ مِمَّا يَفْرَحُونَ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا رَأَوْا زَاهِدًا أَوْ عَالِمًا لَا يُسَمُّونَهُ كَرِيمًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا وَاحِدًا لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا يُسَمُّونَهُ كَرِيمَ النَّفْسِ لِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الِاسْتِعْطَاءَ لَمَّا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ صَعْبٌ عَلَيْهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ، وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ فَيُقَالُ: الْكَرِيمُ هُوَ الَّذِي اسْتُجْمِعَ فِيهِ مَا يَنْبَغِي مِنْ طَهَارَةِ الْأَصْلِ وَظُهُورِ الْفَضْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ السَّخِيَّ فِي مُعَامَلَتِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ مَا يُقَالُ بِسَبَبِهِ إِنَّهُ لَئِيمٌ، فَالْقُرْآنُ أَيْضًا كَرِيمٌ بِمَعْنَى طَاهِرِ الْأَصْلِ ظَاهِرِ الْفَضْلِ لَفْظُهُ فَصِيحٌ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ لَكِنَّ الْقُرْآنَ أَيْضًا كَرِيمٌ عَلَى مَفْهُومِ الْعَوَامِّ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ/ طَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا أَعْطَاهُ، فَالْفَقِيهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ، وَالْحَكِيمُ يستمد به وَيَحْتَجُّ بِهِ، وَالْأَدِيبُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ، واللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا، وَبِكَوْنِهِ عَزِيزًا، وَبِكَوْنِهِ حَكِيمًا، فَلِكَوْنِهِ كَرِيمًا كُلُّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ نَالَ مِنْهُ مَا يُرِيدُهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْعُلُومِ شَيْئًا وَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقُرْآنِ سَهُلَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَقَلَّمَا يُرَى شَخْصٌ يَحْفَظُ كِتَابًا يَقْرَؤُهُ بِحَيْثُ لَا يُغَيِّرُ مِنْهُ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ، وَلَا يُبَدِّلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ وَجَمِيعُ الْقُرَّاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، وَلِكَوْنِهِ عَزِيزًا أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْكُتُبِ، فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا وَحَفِظَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ يَتَعَلَّقُ بِقَلْبِهِ مَعْنَاهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ صَحِيحًا، وَالْقُرْآنُ مَنْ تَرَكَهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ مِنْهُ شَيْءٌ لِعِزَّتِهِ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْحِفْظِ، وَلِكَوْنِهِ حَكِيمًا مَنِ اشْتَغَلَ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ أَغْنَاهُ عَنْ سَائِرِ الْعُلُومِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي كِتابٍ جَعَلَهُ شَيْئًا مَظْرُوفًا بِكِتَابٍ فَمَا ذَلِكَ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمَظْرُوفُ: الْقُرْآنُ، أَيْ هُوَ قُرْآنٌ فِي كِتَابٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ فِي بَيْتِهِ، لَا يَشُكُّ السَّامِعُ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ: أَنَّهُ فِي الدَّارِ قَاعِدٌ وَلَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ، وَغَيْرُ كَرِيمٍ إِذَا كَانَ خَارِجًا وَلَا يَشُكُّ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ فِي بَيْتِهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ رجل كريم وهو في البيت، فكذلك هاهنا أن القرآن الكريم وهو في(29/429)
كِتَابٍ، أَوِ الْمَظْرُوفَ كَرِيمٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ، فَيَفْهَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَجْعَلْهُ رَجُلًا مَظْرُوفًا فَإِنَّ الْقَائِلَ: لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ رَجُلٌ فِي نَفْسِهِ قَاعِدٌ أَوْ نَائِمٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ كَرَمُهُ فِي نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ فَالْقُرْآنُ كَرِيمٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَرِيمًا عِنْدَ الْكُفَّارِ ثَانِيهِمَا: الْمَظْرُوفُ هُوَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أَيْ هُوَ كَذَا فِي كِتَابٍ كَمَا يُقَالُ: وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ [الْمُطَفِّفِينَ: 19] فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ نَعْتُهُ مَكْتُوبٌ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ بِالْمَقْرُوءِ السَّمَاوِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [الْبُرُوجِ: 20، 21] الثَّانِي: الْكِتَابُ هُوَ الْمُصْحَفُ الثَّالِثُ: كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ فَهُوَ قُرْآنٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ سُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا وَالْكِتَابُ فِعَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ لِلْوَاحِدِ فَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ كَالْحِسَابِ وَالْقِيَامِ وَغَيْرِهِمَا، أَوِ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ كَاللِّبَاسِ وَاللِّثَامِ وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَمَا كَانَ فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ فِي كِتَابٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكْتُوبٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا فِي لَوْحٍ أَوْ وَرَقٍ، فَالْمَكْتُوبُ لَا يَكُونُ فِي الْكِتَابِ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقِرْطَاسِ، نَقُولُ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْمَوَازِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ الْمَكْتُوبَ وَلَا هُوَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ أَوِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللِّثَامَ مَا يُلْثَمُ بِهِ، وَالصِّوَانَ مَا يُصَانُ فِيهِ الثَّوْبُ، لَكِنَّ اللَّوْحَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِلَّا الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ صَحَّ تَسْمِيَتُهُ كِتَابًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمَكْتُوبُ هُوَ الْمَسْتُورُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الْوَاقِعَةِ: 23] ، قَالَ:
بَيْضٌ/ مَكْنُونٌ [الصَّافَّاتِ: 49] فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَسْتُورٍ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ فِيهِ مَنْشُورٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْمُصْحَفَ فَعُدِمَ كَوْنُهُ مَكْتُوبًا مَسْتُورًا، فَكَيْفَ الْجَوَابُ عَنْهُ؟ فَنَقُولُ: الْمَكْنُونُ الْمَحْفُوظُ إِذَا كَانَ غَيْرَ عَزِيزٍ يُحْفَظُ بِالْعَيْنِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَإِذَا كَانَ شَرِيفًا عَزِيزًا لَا يُكْتَفَى بِالصَّوْنِ وَالْحِفْظِ بِالْعَيْنِ بَلْ يُسْتَرُ عَنِ الْعُيُونِ، ثُمَّ كَلَّمَا تَزْدَادُ عِزَّتُهُ يَزْدَادُ سَتْرُهُ فَتَارَةً يَكُونُ مَخْزُونًا ثُمَّ يُجْعَلُ مَدْفُونًا، فَالسَّتْرُ صَارَ كَاللَّازِمِ لِلصَّوْنِ الْبَالِغِ فَقَالَ: مَكْنُونٍ أَيْ مَحْفُوظٍ غَايَةَ الْحِفْظِ، فَذَكَرَ اللَّامَ وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ وَهُوَ بَابٌ مِنَ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ تَقُولُ مَثَلًا: فُلَانٌ كِبْرِيتٌ أَحْمَرُ، أَيْ قَلِيلُ الْوُجُودِ وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَسْتُورٌ عَنِ الْعَيْنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَلَائِكَةٌ مَخْصُوصُونَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِلَّا قَوْمٌ مُطَهَّرُونَ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ مَسْتُورٌ أَبَدَ الدَّهْرِ عَنْ أَعْيُنِ الْمُبَدِّلِينَ، مَصُونٌ عَنْ أَيْدِي الْمُحَرِّفِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتابٍ وَكُلُّ مَقْرُوءٍ فِي كِتَابٍ؟ نَقُولُ: هُوَ لِتَأْكِيدِ الرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ مُفْتَرًى، فَلَمَّا قَالَ: مَقْرُوءٌ عَلَيْهِ انْدَفَعَ كَلَامُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَقْرُوءًا عَلَيْهِ فَهُوَ كَلَامُ الْجِنِّ فَقَالَ: فِي كِتابٍ أَيْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ عَلَيْهِ الملك إلا بعدم أَخَذَهُ مِنْ كِتَابٍ فَهُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ كَلَامَ الْجِنِّ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِذَا كَانَ كَرِيمًا فَهُوَ فِي كِتَابٍ، فَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا فَائِدَةُ كَوْنِهِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي كُتُبٍ ظَاهِرَةٍ، أَيْ فَلِمَ لَا يُطَالِعُهَا الْكُفَّارُ، وَلِمَ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ لَا بَلْ هُوَ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فإذا بين فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا صَارَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: يَذْكُرُهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي كِتابٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: يَتْلُوهُ عَلَيْهِ الْجِنُّ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ مَقْرُوءًا وَنَازَعَ فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: مَكْنُونٍ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ مَقْرُوءٌ فِي كِتَابٍ لَكِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.(29/430)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لَا يَمَسُّهُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الْمُضْمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ وَمَعْنَاهُ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَالصِّيغَةُ إِخْبَارٌ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى النَّهْيِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [الْبَقَرَةِ: 228] إِخْبَارٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا بَيَّنَّا، قَالَ: هُوَ إِخْبَارٌ مَعْنًى كَمَا هُوَ إِخْبَارٌ لَفْظًا، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُضْمَرَ فِي يَمَسُّهُ لِلْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْمُصْحَفُ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ نَهْيٌ لَفْظًا وَمَعْنًى وَجُلِبَتْ إِلَيْهِ ضَمَّةُ الْهَاءِ لَا لِلْإِعْرَابِ وَلَا وَجْهَ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَا يَمَسُّهُ لِلْكِتَابِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ، نَقُولُ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ صَرِيحِ الْآيَةِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنَ السُّنَّةِ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ مَنْ هُوَ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ»
أَوْ أَخَذَهُ مِنَ الْآيَةِ على طريق الاستنباط، وقال: إن المس يطهر صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْمَسَّ بِغَيْرِ طُهُورٍ/ نَوْعُ إِهَانَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَضْدَادَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَابَلَ بِالْأَضْدَادِ، فَالْمَسُّ بِالْمُطَهَّرِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَسِّ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ، وَتَرْكُ الْمَسِّ خُرُوجٌ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ الْإِكْرَامُ فِي مُقَابَلَةِ الْإِهَانَةِ وَهُنَاكَ شَيْءٌ لَا إِكْرَامَ وَلَا إِهَانَةَ فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ لَا يَكُونُ مُكَرَّمًا وَلَا مَهِينًا وَبِتَرْكِ الْمَسِّ خَرَجَ عَنِ الضِّدَّيْنِ فَفِي المس عن الطُّهْرِ التَّعْظِيمُ، وَفِي الْمَسِّ عَلَى الْحَدَثِ الْإِهَانَةُ فَلَا تَجُوزُ وَهُوَ مَعْنًى دَقِيقٌ يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الدَّرَجَةِ.
ثُمَّ إِنَّ هَهُنَا لَطِيفَةً فِقْهِيَّةً: لَاحَتْ لِهَذَا الضَّعِيفِ فِي حَالِ تَفَكُّرِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَرَادَ تَقْيِيدَهَا هُنَا فَإِنَّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّه فَيَجِبُ عَلَيَّ إِكْرَامُهَا بِالتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابِ، وَهِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه مَنَعَ الْمُحْدِثَ وَالْجُنُبَ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَجَعَلَهُمَا غَيْرَ مُطَهَّرَيْنِ ثُمَّ مَنَعَ الْجُنُبَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَمْنَعِ الْمُحْدِثَ وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَهُ عَنِ الْمَسْجِدِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ: وَلا جُنُباً [النِّسَاءِ: 43] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لَمَا مَنَعَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَذِنَ لِأَهْلِ الذِّكْرِ فِي الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النُّورِ: 36] الْآيَةَ، وَالْمَأْذُونُ فِي الذِّكْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَأْذُونٌ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ ضَرُورَةً فَلَوْ كَانَ الْجُنُبُ أَهْلًا لِلذِّكْرِ لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُكْثِ فِيهِ وَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُمَا وَعَنْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَجَوَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمَ الْقَوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ النَّوْمُ حَدَثًا إِذِ النَّوْمُ الْخَاصُّ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِالْحَدَثِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلذِّكْرِ فَجَازَ لَهُ الْقِرَاءَةُ، فَإِنْ قِيلَ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْجُنُبِ أَنْ يُسَبِّحَ وَيَسْتَغْفِرَ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، نَقُولُ: الْقُرْآنُ هُوَ الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] وَقَوْلُهُ:
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْجِدَ يُسَمَّى مَسْجِدًا، وَمَسْجِدُ الْقَوْمِ مَحَلُّ السُّجُودِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ الْوَاجِبُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَالْقُرْآنُ، مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ هُوَ أَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ رُبَّمَا يُذْكَرُ مُرِيدًا بِهِ مَعْنَاهُ فَيَكُونُ كَلَامًا غَيْرَ ذكرا، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّه أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَمْرٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ كَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ كَائِنٍ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(29/431)
[الصمد: 1] فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِلٌ لَهُ غَيْرُ آمِرٍ لِغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ، فَالْقُرْآنُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى قَصْدِ الذِّكْرِ لَا عَلَى قَصْدِ الْكَلَامِ فَهُوَ الْمُطْلَقُ وَغَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ ذِكْرًا، وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَالَ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الْحِجْرِ: 46] وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قُرْآنًا وَذِكْرًا، نَقُولُ: هُوَ فِي نَفْسِهِ قُرْآنٌ، وَمَنْ ذَكَرَهُ عَلَى قَصْدِ الْإِخْبَارِ، وَأَرَادَ الْأَمْرَ وَالْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَلِهَذَا نَقُولُ نَحْنُ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَلَوْ كَانَ قَارِئًا لَمَا بَطَلَتْ، وَهَذَا جَوَابٌ فِيهِ لُطْفٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ الْمُطَالِعُ لِهَذَا الْكِتَابِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنِّي فَرَّقْتُ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ قَوْلُ/ الْقَائِلٍ: ادْخُلُوها بِسَلامٍ عَلَى قَصْدِ الْإِذْنِ قُرْآنًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْقَائِلُ ادْخُلُوها بِسَلامٍ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ بِقَارِئٍ لِلْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى مُنَافَاةِ الشَّهْوَةِ، وَالشَّهْوَةُ إِمَّا شَهْوَةُ الْبَطْنِ، وَإِمَّا شَهْوَةُ الْفَرْجِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَخْلُو عَنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِ شَيْئًا آخَرَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَنْكُوحِ، لَكِنَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ قَدْ لَا تَبْقَى شَهْوَةً بَلْ تَصِيرُ حَاجَةً عِنْدَ الْجُوعِ وَضَرُورَةً عِنْدِ الْخَوْفِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 21] أَيْ لَا يَكُونُ لِحَاجَةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا شَهْوَةُ الْفَرْجِ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهْوَةً وَإِنْ خَرَجَتْ تَكُونُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ لَا الضَّرُورَةِ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ لَيْسَتْ شَهْوَةً مَحْضَةً، وَالْعِبَادَةُ فِيهَا مُنْضَمَّةٌ لِلشَّهْوَةِ، فَلَمْ تَخْرُجْ شَهْوَةُ الْفَرْجِ عَنْ كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع بِبُطْلَانِ الْحَجِّ بِهِ، وَبُطْلَانِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَأَمَّا قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَهْوَةً مُجَرَّدَةً بَطَلَ بِهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ دُونَ الْحَجِّ، وَرُبَّمَا لَمْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَيْضًا، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: خُرُوجُ الْخَارِجِ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْبَطْنِيَّةِ، وَخُرُوجُ الْمَنِيِّ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ الْفَرْجِيَّةِ، فَوَاجِبٌ بِهِمَا تَطْهِيرُ النَّفْسِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ مُتَحَاذِيَانِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِتَطْهِيرِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَدَثِ وَالْإِنْزَالِ لِمُوَافَقَةِ الْبَاطِنِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ وَيَنْظُرُ فِي تَطْهِيرِ بَاطِنِهِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ لِلْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ خِفَّةً وَرَغْبَةً فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَهُنَا تَتِمَّةٌ لِهَذِهِ اللَّطِيفَةِ وَهِيَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: لَوْ صَحَّ قَوْلُكَ لَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ الْوُضُوءُ بِالْأَكْلِ كَمَا يَجِبُ بِالْحَدَثِ لِأَنَّ الْأَكْلَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الِاغْتِسَالَ لَمَّا وَجَبَ بِالْإِنْزَالِ، لِكَوْنِهِ دَلِيلَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَكَذَا بِالْإِيلَاجِ، لِكَوْنِهِ قَضَاءً بالإيلاج، فكذلك الإحداث والأكل فنقول: هاهنا سِرٌّ مَكْنُونٌ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ لِحَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَنَقُولُ: الْأَكْلُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ لِلشَّهْوَةِ إِلَّا بِعَلَامَةٍ، فَإِذَا أَحْدَثَ عُلِمَ أَنَّهُ أَكَلَ وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ لِلشَّهْوَةِ وَأَمَّا الْإِيلَاجُ فَلَا يَكُونُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ فَهُوَ شَهْوَةٌ كَيْفَمَا كَانَ، فَنَاطَ الشَّارِعُ إِيجَابَ التَّطْهِيرِ بِدَلِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ»
فَإِنَّ الْإِنْزَالَ كَالْإِحْدَاثِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْخَارِجُ وَهُوَ أَصْلٌ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْزَالُ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ هُوَ الْأَصْلَ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَتَبَيَّنُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالشَّهْوَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْإِنْزَالِ لَا يَشْتَهِي الْجِمَاعَ فِي الظَّاهِرِ وَثَانِيهِمَا: مَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ
فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الْحَدَثِ دَلِيلُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَسْتَوِيَ الطَّعَامُ بِالنَّارِ بَلْ يَأْكُلُ كَيْفَمَا كَانَ، فَأَكْلُ الشَّيْءِ بَعْدَ الطَّبْخِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاضٍ بِهِ الشَّهْوَةَ لَا دَافِعٌ بِهِ الضَّرُورَةَ، وَنَعُودُ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ وَنَقُولُ: إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَضَى بِأَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَهْوَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَا تُجَامِعُ الْعِبَادَةُ الْجَنَابَةَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ، وَالْمُحْدِثُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ مَحْضَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ طَهَّرَهُمُ اللَّه فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ وَأَبْقَاهُمْ/ كَذَلِكَ طول عمرهم(29/432)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْحَدَثِ لَقَالَ: لَا يمسه إلا المطهرون أَوِ الْمُطَّهَّرُونَ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ التَّطْهِيرِ لَا مِنَ الْإِطْهَارِ، وَعَلَى هَذَا يَتَأَيَّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ بِهِ الْجِنُّ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي حَقِّ الْكَهَنَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاهِنٌ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّهُ الْجِنُّ وَإِنَّمَا يَمَسُّهُ الْمُطَهَّرُونَ الَّذِينَ طُهِّرُوا عَنِ الْخُبْثِ، وَلَا يَكُونُونَ مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ وَالسَّفْكِ، فَلَا يُفْسِدُونَ وَلَا يَسْفِكُونَ، وَغَيْرُهُمْ لَيْسَ بِمُطَهَّرٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ هَذَا رَدًّا عَلَى الْقَائِلِينَ: بِكَوْنِهِ مُفْتَرِيًا، وَبِكَوْنِهِ شَاعِرًا، وَبِكَوْنِهِ مَجْنُونًا بِمَسِّ الْجِنِّ، وَبِكَوْنِهِ كَاهِنًا، وَكُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَالْكُلُّ رُدَّ عليهم بما ذكر اللَّه تعالى هاهنا مِنْ أَوْصَافِ كِتَابِ اللَّه الْعَزِيزِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مَصْدَرٌ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي فِي كِتَابٍ لَيْسَ تَنْزِيلًا إِنَّمَا هُوَ مُنَزَّلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: 193] نَقُولُ: ذِكْرُ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 11] فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَقُولُ: التَّنْزِيلُ وَالْمُنَزَّلُ كِلَاهُمَا مَفْعُولَانِ وَلَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْفَاعِلِ بِالْمَصْدَرِ أَكْثَرُ، وَتَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِهِ، فَنَقُولُ: هَذَا فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّه أَيْضًا وَصْفٌ قَائِمٌ باللَّه عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ وَاللَّفْظُ وَلَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي مِثَالٍ آخَرَ لِيَتَيَسَّرَ لَكَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ غَلَطٍ وَخَطَأٍ فِي الِاعْتِقَادِ، فَنَقُولُ: فِي الْقُدْرَةِ وَالْمَقْدُورِ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْفَاعِلِ أَبْلَغُ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَقْدُورِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ فِي الْقَادِرِ وَالْمَقْدُورُ لَيْسَ فِيهِ، فَإِذَا قَالَ: هَذَا قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى كَانَ لَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَقْدُورُ اللَّه، لِأَنَّ عَظَمَةَ الشَّيْءِ بِعَظَمَةِ اللَّه، فَإِذَا جَعَلْتَ الشَّيْءَ قَائِمًا بِالتَّعْظِيمِ غَيْرَ مُبَايِنٍ عَنْهُ كَانَ أَعْظَمَ، وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِلَفْظٍ يُقَالُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَقُومُ باللَّه وَهُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَانَ دُونَهُ، فَقَالَ: تَنْزِيلٌ وَلَمْ يقل: منزل، ثم إن هاهنا: بَلَاغَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْعُولَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] أَيْ دُخُولَ صِدْقٍ أَوْ إِدْخَالَ صِدْقٍ وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: 7] أَيْ تَمْزِيقٍ، فَالْمُمَزَّقُ بِمَعْنَى التَّمْزِيقِ، كَالْمُنَزَّلِ بِمَعْنَى التَّنْزِيلِ، وَعَلَى الْعَكْسِ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ الْبَلَاغَةُ هِيَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُرَى، وَالْمَفْعُولَ بِهِ يَصِيرُ مَرْئِيًّا، وَالْمَرْئِيُّ أَقْوَى فِي الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: مَزَّقَهُمْ تَمْزِيقًا وَهُوَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عِلْمًا بَيِّنًا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الرُّؤْيَةِ وَيَصِيرُ التَّمَزُّقُ هُنَا كَمَا صَارَ الْمُمَزَّقُ ثَابِتًا مَرْئِيًّا، وَالْكَلَامُ يَخْتَلِفُ بِمَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَيَسْتَخْرِجُ الْمُوَفَّقُ بِتَوْفِيقِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْضًا لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَعْظُمُ بِعَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِرَسُولِ الْمَلِكِ هَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ أَوْ كَلَامُكَ وَهَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ أَوْ كَلَامُ الْمَلِكِ الَّذِي دُونَهُ، إِذَا كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ مُلُوكٍ، فَيَعْظُمُ الْكَلَامُ بِقَدْرِ عَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا قَالَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَبَيَّنَ مِنْهُ عَظَمَةٌ لَا عَظَمَةَ مِثْلُهَا وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لَكِنَّ الْمَلَكَ يَأْخُذُ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا/ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الرَّوَافِضِ يَقُولُونَ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَنَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ مِنَ اللَّه لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْمَلَكِ أَيْضًا، وَعِنْدَ هَذَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ فَعَادَ إلى توبيخ الكفار. فقال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 82]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)(29/433)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ كَثِيرٌ بِمَعْنَى كَوْنِهِ اسْمًا لَا وَصْفًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ اسْمٌ لِمَا يُتَحَدَّثُ بِهِ، وَوَصْفٌ يُوصَفُ بِهِ مَا يَتَجَدَّدُ، فَيُقَالُ: أَمْرٌ حَادِثٌ وَرَسْمٌ حَدِيثٌ أَيْ جَدِيدٌ، وَيُقَالُ: أَعْجَبَنِي حَدِيثُ فُلَانٍ وَكَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ لَهُ لَذَّةُ الْكَلَامِ الْجَدِيدِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَحَدَّثُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الْوَاقِعَةِ: 47، 48] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِلٌّ مُنْتَظِمٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ [الْوَاقِعَةِ:
49] وذكر الدليل عليهم بقوله: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ [الواقعة: 57] وبقوله: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ [الواقعة: 58] أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ [الواقعة: 63] وَأَقْسَمَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ بِقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ [الواقعة: 75] وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ [الواقعة: 77] ثُمَّ عَادَ إِلَى كَلَامِهِمْ، وَقَالَ: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ الَّذِي تَتَحَدَّثُونَ بِهِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لِأَصْحَابِكُمْ تَعْلَمُونَ خِلَافَهُ وَتَقُولُونَهُ، أَمْ أَنْتُمْ بِهِ جَازِمُونَ، وَعَلَى الْإِصْرَارِ عَازِمُونَ، وَسَنُبَيِّنُ وَجْهَهُ بِتَفْسِيرِ الْمُدْهِنِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُدْهِنَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُكَذِّبُ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَفَبِالْقُرْآنِ أَنْتُمْ تُكَذِّبُونَ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْإِدْهَانَ تَلْيِينُ الْكَلَامِ لِاسْتِمَالَةِ السَّامِعِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ صِحَّةِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا أَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا عَجَزَ عَنْ عَدُوِّهِ يَقُولُ لَهُ أَنَا دَاعٍ لَكَ وَمُثْنٍ عَلَيْكَ مُدَاهَنَةً وَهُوَ كَاذِبٌ، فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الْمُدْهِنِ فِي الْمُكَذِّبِ اسْتِعْمَالًا ثَانِيًا وَهَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْحَدِيثَ هُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُدْهِنُ هُوَ الَّذِي يَلِينَ فِي الْكَلَامِ وَيُوَافِقُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ مصر على الخلاف فقال: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ كَاذِبٌ، وَإِنَّ الْحَشْرَ مُحَالٌ وَذَلِكَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَتَخَافُونَ أَنَّكُمْ إِنْ صَدَّقْتُمْ وَمَنَعْتُمْ ضُعَفَاءَكُمْ عَنِ الْكُفْرِ يَفُوتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ مَا تَرْبَحُونَهُ بِسَبَبِهِمْ فَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ، وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، لَكِنَّ الثَّانِيَ مُطَابِقٌ لِصَرِيحِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِكَلَامِهِمْ أَوْلَى وهو عبارة عن قولهم: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 47] وَالْمُدْهِنُ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا مُدْهِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: مُكَذِّبُونَ جَاءَ بَعْدَهُ صَرِيحًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: تَجْعَلُونَ شُكْرَ النِّعَمِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهَذَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، الثَّانِي: تَجْعَلُونَ مَعَاشَكُمْ وَكَسْبَكُمْ تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَطَعَ الطَّرِيقُ مَعَاشَهُ، وَالرِّزْقُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُرْزَقُ، يُقَالُ لِلْمَأْكُولِ رِزْقٌ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْدُورِ قُدْرَةٌ، وَالْمَخْلُوقِ خَلْقٌ، وَعَلَى هَذَا/ فَالتَّكْذِيبُ مَصْدَرٌ قُصِدَ بِهِ مَا كَانُوا يُحَصِّلُونَ بِهِ مَقَاصِدَهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُكَذِّبُونَ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمُرَادُ تَكْذِيبُهُمْ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعَلَى الثَّانِي الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ من التكذيب، وهو أقرب إلى اللفظ. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
وفيه مسائل:(29/434)
المسألة الأولى: المراد من كلمة: لولا مَعْنَى هَلَّا مِنْ كَلِمَاتِ التَّحْضِيضِ وَهِيَ أَرْبَعُ كلمات: لولا، ولو ما، وَهَلَّا، وَأَلَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَصْلُ الْكَلِمَاتِ لِمَ لَا، عَلَى السُّؤَالِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَلِمَ لَا يَظْهَرُ صِدْقُكَ، ثُمَّ إِنَّمَا قُلْنَا: الْأَصْلُ لِمَ لَا لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا أَشْبَهَ قَوْلَنَا: هَلَّا، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ تَارَةً يَكُونُ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ وَأُخْرَى عَنْ سَبَبِ وُجُودِهِ، فَيُقَالُ: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَلِمَ جَاءَ، وَالِاسْتِفْهَامُ بِهَلْ قَبْلَ الِاسْتِفْهَامِ بِلِمَ، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ كَثِيرٌ، ومنه قوله تعالى هاهنا: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] وَقَوْلُهُ: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ [الصَّافَّاتِ: 125] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ:
86] وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَكَ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَهِيَ أَنَّ النَّافِيَ وَالنَّاهِيَ لَا يَأْمُرُ أَنْ يُكَذَّبَ الْمُخَاطَبُ فَعَرَّضَ بِالنَّفْيِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانِ النَّفْيِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالِاسْتِفْهَامُ «بِهَلْ» لِإِنْكَارِ الْفِعْلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ «بِلِمَ» لِإِنْكَارِ سَبَبِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْفِعْلِ، وَيَقُولُ: كَانَ الْفِعْلُ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا قَالَ: هَلْ فَعَلْتَ، يُنْكِرُ نَفْسَ الْفِعْلِ لَا الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَكَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ يَقُولُ:
لَوْ وُجِدَ لِلْفِعْلِ سَبَبٌ لَكَانَ فِعْلُهُ أَلْيَقَ، وَفِي الثَّانِي يَقُولُ: الْفِعْلُ غَيْرُ لَائِقٍ وَلَوْ وُجِدَ لَهُ سَبَبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَيَسْتَدْعِي كَلَامًا مُرَكَّبًا مِنْ كَلَامَيْنِ فِي الْأَصْلِ، أَمَّا فِي «هَلْ» فَلِأَنَّ أَصْلَهَا أَنَّكَ تَسْتَعْمِلُهَا فِي جُمْلَتَيْنِ، فَتَقُولُ: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ أَوْ مَا جَاءَ، لَكِنَّكَ رُبَّمَا تَحْذِفُ إحداهما، وَأَمَّا فِي (لَوْ) فَإِنَّكَ تَقُولُ: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَرُبَّمَا تَحْذِفُ الْجَزَاءَ كَمَا ذكرنا في قوله تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ [الواقعة: 76] لِأَنَّهُ يُشِيرُ بِلَوْ إِلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَهُ دَلِيلٌ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقِيلَ لَهُ لِمَ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لَوْ يَعْلَمُونَ لَفَعَلُوا كَذَا، فَدَلِيلُهُ مُسْتَحْضَرٌ إِنْ طُولِبَ بِهِ بَيَّنَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّفْيَّ بِلَوْ، وَالنَّفْيَ بِهَلْ، أَبْلَغُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، وَالنَّفْيُ بِقَوْلِهِ: لِمَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ مَعْنًى وَلَفْظًا وَحُكْمًا وَصَارَتْ كَلِمَاتُ التَّحْضِيضِ وَهِيَ: لو ما، وَلَوْلَا، وَهَلَّا وَأَلَا، كَمَا تَقُولُ: لِمَ لَا فَإِذَنْ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَلْ تَفْعَلُ وَأَنْتَ عَنْهُ مُسْتَغْنٍ، كَقَوْلِهِ: لِمَ تَفْعَلُ وَهُوَ قَبِيحٌ، وَقَوْلُهُ: وَهَلَّا تَفْعَلُ وَأَنْتَ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ، وَأَلَا تَفْعَلُ/ وأنت إليه محتاج، وقوله: لولا، ولو ما، كَقَوْلِهِ: لِمَ لَا تَفْعَلُ، وَلِمَ لَا فَعَلْتَ، فَقَدْ وُجِدَ فِي أَلَا زِيَادَةُ نَصٍّ، لِأَنَّ نَقْلَ اللَّفْظِ لَا يَخْلُو مِنْ نَصٍّ، كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى صَارَ فِيهِ زِيَادَةٌ مَا، عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ أَيْ لِمَ لَا يَقُولُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الْأُمُورِ وَزَمَانُ اتِّفَاقِ الْكَلِمَاتِ، وَلَوْ كَانَ مَا يَقُولُونَهُ حَقًّا ظَاهِرًا كَمَا يَزْعُمُونَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُشْرِكُوا عِنْدَ النَّزْعِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَمْ يُقْبَلْ إِيمَانُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَبْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: مَا سُمِعَ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَقْتَ النَّزْعِ بَلْ يَقُولُونَ: نَحْنُ نُكَذِّبُ الرُّسُلَ أَيْضًا وَقْتَ بُلُوغِ النَّفْسِ إِلَى الْحُلْقُومِ وَنَمُوتُ عَلَيْهِ؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا إِشَارَةٌ وَبِشَارَةٌ، أَمَّا الْإِشَارَةُ فَإِلَى الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِلرُّسُلِ، أَمَّا الْإِشَارَةُ وَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ لِلْكُفَّارِ حَالَةً لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهَا وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَفَرُوا بِالْحَشْرِ وَهُوَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا الْمَوْتَ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مَنْ مِثْلُهُ فَلَا يَشُكُّونَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَبْقَى لَهُمْ لِسَانٌ يَنْطِقُ، وَلَا إِنْكَارٌ بِعَمَلٍ فَتَفُوتُهُمْ قُوَّةُ الِاكْتِسَابِ لِإِيمَانِهِمْ وَلَا يُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَثًّا لَهُمْ عَلَى تَجْدِيدِ النَّظَرِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ قَبْلَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِأَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا كُذِّبُوا وَكُذِّبَ مُرْسِلُهُمْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ، فَبُشِّرُوا بِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ سَيَرْجِعُونَ عَمَّا يَقُولُونَ، ثُمَّ هُوَ إِنْ كَانَ قَبْلَ النَّزْعِ فَذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَعِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ، والضمير في بَلَغَتِ للنفس(29/435)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
أو الحياة أَوِ الرُّوحِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ تَأْكِيدٌ لِبَيَانِ الْحَقِّ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَصِيرُ الْأُمُورُ مَرْئِيَّةً مُشَاهَدَةً يَنْظُرُ إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ حَقًّا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّحْقِيقَ فِي حِينَئِذٍ في قوله: يَوْمَئِذٍ [الطور: 11] فِي سُورَةِ وَالطُّورِ وَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مُتَطَابِقَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، وَصَرَّحَ بِهِ اللَّه فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَنْهُمْ حيث قال: إنهم كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا [الواقعة: 46، 47] وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مُنْزِلٌ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ أَيْضًا الْكَوَاكِبَ مِنَ الْمُنْزِلِينَ، وَأَمَّا الْمُضْمَرُ فَذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الواقعة: 68] ثُمَّ قَالَ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 69] بِالْوَاسِطَةِ وَبِالتَّفْوِيضِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُشْرِكِينَ أَوْ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ. وَأَيْضًا التَّفْسِيرُ الْمَشْهُورُ مُحْتَاجٌ إِلَى إِضْمَارٍ تَقْدِيرُهُ أَتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ، وَأَمَّا جَعْلُ الرِّزْقِ بِمَعْنَى الْمَعَاشِ فَأَقْرَبُ، يُقَالُ: فُلَانٌ رِزْقُهُ فِي لِسَانِهِ، وَرِزْقُ فُلَانٍ فِي رِجْلِهِ وَيَدِهِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ فَلِمَ لَا تُكَذِّبُونَهُمْ وَقْتَ النَّزْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 63] فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ الْمُنَجِّمُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»
وَلَمْ يَكْذِبُوا وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ تَكْذِبُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا الْمُدْهِنُ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَيُوَافِقُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَمِ: 9] فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ لَيْسَ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ، لأنهم أرادوا النفاق لا التكذيب الظاهر. / ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 87]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَكْثَرُ المفسرين على أن (لولا) فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مُكَرَّرَةٌ وَهِيَ بِعَيْنِهَا هِيَ الَّتِي قَالَ تَعَالَى:
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] وَلَهَا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَوْلَا تَرْجِعُونَهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [الْبَقَرَةِ: 38] حَيْثُ جَعَلَ فَلا خَوْفٌ جَزَاءَ شَرْطَيْنِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ مَا قَالُوا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ يَعْنِي تُكَذِّبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ جَاعِلِينَ التَّكْذِيبَ رِزْقَكُمْ وَمَعَاشَكُمْ فَلَوْلَا تُكَذِّبُونَ وَقْتَ النَّزْعِ وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْلَمُونَ الْأُمُورَ وَتُشَاهِدُونَهَا، وَأَمَّا لَوْلَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَجَوَابُهَا: تَرْجِعُونَها.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي مَدِينِينَ أَقْوَالٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مَمْلُوكِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَجْزِيِّينَ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ دَانَهُ السُّلْطَانُ إِذَا سَاسَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ غَيْرُ مُقِيمِينَ مِنْ مَدَنَ إِذَا أَقَامَ، هُوَ حِينَئِذٍ فَعَيْلٌ، وَمِنْهُ الْمَدِينَةُ، وَجَمْعُهَا مَدَائِنُ، مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْيَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ مَفْعَلَةً لَكَانَ جَمْعُهَا مَدَايِنَ كَمَعَايِشَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ قَوْمٌ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ، وَقَوْمٌ يُنْكِرُونَ الْعَذَابَ وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهِ كَانَ يُنْكِرُ دَوَامَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ لَا تَبْقَوْنَ فِي(29/436)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
الْعَذَابِ الدَّائِمِ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْآخِرَةُ دَارَ الْإِقَامَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ: (مَجْزِيِّينَ) فَالتَّفْسِيرُ مِثْلُ هَذَا كَأَنَّهُ قَالَ: سَتُصَدِّقُونَ وَقْتَ النَّزْعِ رُسُلَ اللَّه فِي الْحَشْرِ، فَإِنْ كُنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى دُنْيَاكُمْ، فَإِنَّ التَّعْوِيقَ لِلْجَزَاءِ لَا غَيْرُ، وَلَوْلَا الْجَزَاءُ لَكُنْتُمْ مُخْتَارِينَ كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ الْجَزَاءِ مُخْتَارِينَ تَكُونُونَ حَيْثُ تُرِيدُونَ مِنَ الْأَمَاكِنِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا: مَمْلُوكِينَ مِنَ الملك، ومنه المدينة للمملوكة، فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ بِمَعْنَى أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ، فَلِمَ لَا تُرْجِعُونَ أَنْفُسَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كُنْتُمْ فِي دُنْيَاكُمُ الَّتِي لَيْسَتْ دَارَ جَزَاءٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَهَى أَنْفُسِكُمْ وَمُنَى قُلُوبِكُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ بِالطَّبَائِعِ، وَأَنَّ الْأَمْطَارَ مِنَ السُّحُبِ، وَهِيَ مُتَوَلِّدَةٌ بِأَسْبَابٍ فَلَكِيَّةٍ، وَالنَّبَاتُ كَذَلِكَ، وَالْحَيَوَانُ كَذَلِكَ، وَلَا اخْتِيَارَ للَّه فِي شَيْءٍ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ إِنْكَارُ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ فَمَا بَالُ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي يَدَّعِي الْعِلْمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُرْجِعَ النَّفْسَ مِنَ الْحُلْقُومِ، مَعَ أَنَّ فِي الطَّبْعِ عِنْدَهُ إِمْكَانًا لِذَلِكَ، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الْبَقَاءَ بالغداء ولزوال الْأَمْرَاضِ بِالدَّوَاءِ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مَدِينِينَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَمْلُوكِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ مِنْ إِنْكَارِ الِاخْتِيَارِ وَقَلْبِ الْأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ اللَّه، وَإِنْ قُلْنَا: غَيْرَ مُقِيمِينَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّ إِنْكَارَ الْحَشْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، وَإِنْ قُلْنَا:
غَيْرَ/ مُحَاسَبِينَ وَمَجْزِيِّينَ فَكَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ وَالْحَشْرَ بَعْدَهُ لَازِمٌ، بَيَّنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَزَاجِرًا للمتمرد عن العصيان والكذب فقال:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 89]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
هَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِهِ مَعْنًى، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ لَفْظًا فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها [الواقعة:
86، 87] وَكَانَ فِيهَا أَنَّ رُجُوعَ الْحَيَاةِ وَالنَّفْسِ إِلَى الْبَدَنِ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى الدُّنْيَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَائِمُونَ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ وَمَجْزِيُّونَ، فَالْمَجْزِيُّ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَلَهُ الرُّوحُ وَالرَّيْحَانُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الرُّوحِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ الرَّحْمَةُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يُوسُفَ: 87] أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه الثَّانِي: الرَّاحَةُ الثَّالِثُ: الْفَرَحُ، وَأَصْلُ الرَّوْحِ السَّعَةُ، وَمِنْهُ الرَّوْحُ لِسَعَةِ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ دُونَ الْفَحَجِ، وَقُرِئَ، فَرَوْحٌ بِضَمِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَهُ رَوْحٌ أَفْصَحَتِ الْفَاءُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَاءَ الْجَزَاءِ لِرَبْطِ الْجُمْلَةِ بِالشَّرْطِ فَعُلِمَ كَوْنُهَا جَزَاءً، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ مَاضِيًا، لِأَنَّ الْجَزَاءَ إِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ جَزَاءً بِالْجَزْمِ الظَّاهِرِ فِي السَّمْعِ وَالْخَطِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْجَزْمَ، أَمَّا غَيْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَلِأَنَّ الْجَزْمَ فِيهِمَا لَيْسَ لِكَوْنِهِمَا جَزَاءَيْنِ فَلَا عَلَامَةَ لِلْجَزَاءِ فِيهِ، فَاخْتَارُوا الْفَاءَ فَإِنَّهَا لِتَرْتِيبِ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، وَالْجَزَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الرَّيْحَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ [الرحمن: 12] ولكن هاهنا فيه كلام، فمنهم من قال: المراد هاهنا مَا هُوَ الْمُرَادُ ثَمَّةَ، إِمَّا الْوَرَقُ وَإِمَّا الزَّهْرُ وَإِمَّا النَّبَاتُ(29/437)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
الْمَعْرُوفُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ قِيلَ: إِنَّ أَرْوَاحَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا تُخْرَجُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَيُؤْتَى إِلَيْهِمْ بِرَيْحَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ يَشُمُّونَهُ، وَقِيلَ: إن المراد هاهنا غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ الْخُلُودُ، وَقِيلَ: هُوَ رِضَاءُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِذَا قُلْنَا: الرَّوْحُ هُوَ الرَّحْمَةُ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَةِ: 21] وَأَمَّا: جَنَّةُ نَعِيمٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ السَّابِقِينَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 11، 12] وَذَكَرْنَا فَائِدَةَ التعريف هناك وفائدة التنكير هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ فِي حَقِّ الْمُقَرَّبِينَ أُمُورًا ثلاثة هاهنا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ [التَّوْبَةِ: 21] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: عَقِيدَةٌ حَقَّةٌ وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ وَأَعْمَالٌ حَسَنَةٌ، فَالْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ كُلُّهَا كَانَتْ مُرَتَّبَةً بِرَحْمَةِ اللَّه عَلَى عَقِيدَتِهِ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقِيدَةٌ حَقَّةٌ يَرْحَمُهُ اللَّه وَيَرْزُقُهُ اللَّه دَائِمًا وَعَلَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلَهُ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَالْجَنَّةُ لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 111] وَقَالَ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النَّازِعَاتِ: 40، 41] فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا مَنْ أَتَى بِالْعَقِيدَةِ/ الْحَقَّةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ وَلَا يَرْحَمُ اللَّه إِلَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، نَقُولُ: مَنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ حَقَّةً، لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ فَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَا يُحْكُمُ بِهِ، لِأَنَّ الْعَقِيدَةَ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ دَلِيلٌ لَنَا، وَأَمَّا اللَّه تَعَالَى فَهُوَ عَالِمُ الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ وَيُحْشَرُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَيُحْشَرُ مَعَ الْكُفَّارِ لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لَا تَكُونُ لَهُ الْجَنَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَقِيدَتَهُ الْحَقَّةَ وَكَلِمَتَهُ الطَّيِّبَةَ لَا يَتْرُكَانِهِ بِلَا عَمَلٍ، فَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ وَاقِعٍ وَفَرْضٌ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّا نَقُولُ مِنْ حَيْثُ الْجَزَاءِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلًا لَا عَلَى وَجْهِ الْجَزَاءِ بَلْ بِمَحْضِ فَضْلِ اللَّه مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَزَاءُ أَيْضًا مِنَ الْفَضْلِ لَكِنَّ مِنَ الْفَضْلِ مَا يَكُونُ كَالصَّدَقَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَمِنَ الفضل مالا كَمَا يُعْطِي الْمَلِكُ الْكَرِيمُ آخَرَ وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ غَيْرُ مَلِكٍ لَا يَسْتَحِقُّ هَدِيَّتَهُ وَلَا رِزْقَهُ. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 90 الى 91]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي السَّلَامِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: يُسَلِّمُ بِهِ صَاحِبُ الْيَمِينِ عَلَى صَاحِبِ الْيَمِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: 25، 26] ، ثَانِيهَا: فَسَلامٌ لَكَ أَيْ سَلَامَةٌ لَكَ مِنْ أَمْرٍ خَافَ قَلْبُكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِوَلَدِهِ الْغَائِبِ عَنْهُ، إِذَا كَانَ يَخْدِمُ عِنْدَ كَرِيمٍ، يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَارِغًا مِنْ جَانِبِ وَلَدِكَ فَإِنَّهُ فِي رَاحَةٍ. ثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تُفِيدُ عَظْمَةَ حَالِهِمْ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ نَاهِيكَ بِهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ فُلَانٌ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَمْدُوحٌ فَوْقَ الْفَضْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: لَكَ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ: قَدْ ظَهَرَ بَعْضُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ(29/438)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
إِلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا، فَسَلَامٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ فِي سَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ لَا يُهِمُّكَ أَمْرُهُمْ، أَوْ فَسَلَامٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ، وَكَوْنُهُمْ مِمَّنْ يُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلُ الْعَظَمَةِ، فَإِنَّ الْعَظِيمَ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَظِيمٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَتُهُ فَوْقَ مَكَانَةِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي عِلِّيِّينَ، كَأَصْحَابِ الْجَنَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ عِلِّيِّينَ، فَلَمَّا قَالَ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ كَانَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَكَانَهُمْ غَيْرُ مَكَانِ الْأَوَّلِينَ الْمُقَرَّبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا دُونَ الْأَوَّلِينَ لَكِنْ لَا تَنْفَعُ بَيْنَهُمُ الْمَكَانَةُ وَالتَّسْلِيمُ، بَلْ هُمْ يَرَوْنَكَ وَيَصِلُونَ إِلَيْكَ وُصُولَ جَلِيسِ الْمَلِكِ إِلَى الْمَلِكِ وَالْغَائِبِ إِلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ يُلَازِمُونَكَ وَلَا يُفَارِقُونَكَ وَإِنْ كُنْتَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُمْ. / ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 92 الى 94]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: قال هاهنا: مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَةِ: 51] وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِعِبَارَةٍ وَأَعَادَهُمْ بعبارة أخرى فقال: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: 8] ثم قال: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وقال: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الْوَاقِعَةِ:
9] ثُمَّ قَالَ: وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الْوَاقِعَةِ: 41] وَأَعَادَهُمْ هاهنا، وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَوْ بِلَفْظَيْنِ مَرَّتَيْنِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَذَكَرَ السَّابِقِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِلَفْظِ السَّابِقِينَ، وَفِي آخِرِ السُّورَةِ بِلَفْظِ الْمُقَرَّبِينَ، وَذَكَرَ أَصْحَابَ النار في الأول بلفظ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ثُمَّ بِلَفْظِ أَصْحابُ الشِّمالِ ثُمَّ بِلَفْظِ الْمُكَذِّبِينَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: أَمَّا السَّابِقُ فَلَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُولَى، وَالْأُخْرَى فِي الْآخِرَةِ، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى، وفي الثانية بماله فِي الْحَالَةِ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَالَةٌ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْوُقُوفِ لِلْعَرْضِ وَبَيْنَ الْحِسَابِ، بَلْ هُوَ يُنْقَلُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ بِلَفْظَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْ حَالِ السَّابِقِينَ، وَذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا ضَحِكُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ مَوْضِعِ شُؤْمٍ، فَوَصَفُوهُمْ بِمَوْضِعِ الشُّؤْمِ، فَإِنَّ الْمَشْأَمَةَ مَفْعَلَةٌ وَهِيَ الْمَوْضِعُ، ثُمَّ قَالَ: أَصْحابُ الشِّمالِ فَإِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُؤْتَوْنَ كِتَابَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، وَيَقِفُونَ فِي مَوْضِعٍ هُوَ شِمَالٌ، لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَشْرِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ ذَكَرَ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ السَّمُومِ وَالْحَمِيمِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ وَكانُوا يُصِرُّونَ [الْوَاقِعَةِ: 45، 46] فَذَكَرَ سَبَبَ الْعِقَابِ لِمَا بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْعَادِلَ يَذْكُرُ لِلْعِقَابِ سَبَبًا، وَالْمُتَفَضِّلَ لَا يَذْكُرُ لِلْإِنْعَامِ وَالتَّفَضُّلِ سَبَبًا، فَذَكَّرَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِيَكُونَ تَرْتِيبُ الْعِقَابِ عَلَى تَكْذِيبِ الْكِتَابِ فَظَهَرَ الْعَدْلُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الواقعة (56) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)(29/439)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْقُرْآنُ ثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي السُّورَةِ ثَالِثُهَا: جَزَاءُ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ أَضَافَ الْحَقَّ إِلَى الْيَقِينِ مَعَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ نَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هَذِهِ الْإِضَافَةُ، كَمَا أَضَافَ الْجَانِبَ إِلَى الْغَرْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [الْقَصَصِ: 44] وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فِي قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [الأنعام: 32] غَيْرَ أَنَّ الْمُقَدَّرَ هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُوصَفُ بِالْيَقِينِ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ الْحَقُّ، وَمَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ بَعْدَ إِضَافَةِ الْحَقِّ إِلَيْهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مِنَ الْإِضَافَةِ الَّتِي بِمَعْنَى مِنْ، كَمَا يُقَالُ: بَابٌ مِنْ سَاجٍ، وَبَابُ سَاجٍ، وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَخَاتَمُ فِضَّةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَهُوَ الْحَقُّ مِنَ الْيَقِينِ ثَالِثُهَا: وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ تَأْكِيدٍ يُقَالُ: هَذَا مِنْ حَقِّ الْحَقِّ، وَصَوَابُ الصَّوَابِ، أَيْ غَايَتُهُ وَنِهَايَتُهُ الَّتِي لَا وُصُولَ فَوْقَهُ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرُ مَا عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ الْمُدْرَكَةُ بِالْحِسِّ، وَتِلْكَ الْأَنْوَارُ أَكْثَرُهَا مَشُوبَةٌ بِغَيْرِهَا، فَإِذَا وَصَلَ الطَّالِبُ إِلَى أَوَّلِهِ يَقُولُ: وَجَدْتُ أَمْرَ كَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ صِحَّةِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَتَوَسَّطُ الطَّالِبُ وَيَأْخُذُ مَطْلُوبَهُ مِنْ وَسَطِهِ، مِثَالُهُ مَنْ يَطْلُبُ الْمَاءَ، ثُمَّ يَصِلُ إِلَى بِرْكَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْ طَرَفِهِ شَيْئًا يَقُولُ: هُوَ مَاءٌ، وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ آخَرُ: هَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ طِينٌ، وَأَمَّا الْمَاءُ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ وَسَطِ الْبِرْكَةِ، فَالَّذِي فِي طَرَفِ الْبِرْكَةِ مَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَامٍ أُخْرَى، ثُمَّ إِذَا نُسِبَ إِلَى الْمَاءِ الصَّافِي رُبَّمَا يُقَالُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَإِذَا قَالَ: هذا هو الماء حقا يكون قَدْ أَكَّدَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: حَقُّ الْمَاءِ، أَيِ الْمَاءُ حَقًّا هَذَا بِحَيْثُ لَا يَقُولُ أحد فيه شيء، فكذلك هاهنا كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا هُوَ الْيَقِينُ حَقًّا لَا الْيَقِينُ الَّذِي يَقُولُ بَعْضٌ إِنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْإِضَافَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَحُقُّ الْيَقِينِ أَنْ تَقُولَ كَذَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا يُقَالُ: حَقُّ الْكَمَالِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤْمِنُ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا»
أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْكَلِمَةِ أَيْ إِلَّا بِحَقِّ الْكَلِمَةِ، وَمِنْ حَقِّ الْكَلِمَةِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةُ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْيَقِينِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَالَهُ اللَّه تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ فِي حَقِّ الْأَزْوَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ:
أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحِقُّ وَلَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا صَدَقَ فِيمَا قَالَهُ بِحَقٍّ، فَالتَّصْدِيقُ حَقُّ الْيَقِينِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَقُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَقَّ وَامْتَنَعَ الْكُفَّارُ، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا تَتْرُكْهُمْ وَلَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ وَسَبِّحْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، وَمَا عَلَيْكَ مِنْ قَوْمِكَ سَوَاءٌ صَدَّقُوكَ أَوْ كَذَّبُوكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَسَبِّحْ وَاذْكُرْ رَبَّكَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ [الْحَدِيدِ: 1] فَكَأَنَّهُ قَالَ: سبح اللَّه ما في السموات، فَعَلَيْكَ أَنْ تُوَافِقَهُمْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعَكَ يُسَبِّحُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
تَمَّ تَفْسِيرُ السُّورَةِ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(29/440)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
بسم الله الرحمن الرّحيم
سُورَةُ الْحَدِيدِ
وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ
[سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ السُّوءِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ مِنْ سَبَحَ فِي الْمَاءِ وَقَدَّسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْبِيحَ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ تَبْعِيدُ الذَّاتِ عَنِ السُّوءِ، وَتَبْعِيدُ الصِّفَاتِ وَتَبْعِيدُ الْأَفْعَالِ، وَتَبْعِيدُ الْأَسْمَاءِ وَتَبْعِيدُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا فِي الذَّاتِ: فَأَنْ لَا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِمْكَانِ، فَإِنَّ السُّوءَ هُوَ الْعَدَمُ وَإِمْكَانُهُ، ثُمَّ نَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْكَثْرَةِ، وَنَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَنَفْيَ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَحُصُولَ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ. وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ: فَأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الْجَهْلِ بِأَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَتَكُونَ صِفَاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغَيُّرَاتِ. وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ: فَأَنْ تَكُونَ فَاعِلِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَادَّةٍ وَمِثَالٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ فِعْلُهُ، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى مَادَّةٍ وَمِثَالٍ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُنْقَضِيَةٍ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا، كُلُّ مَكَانٍ فهو يعد ممكن مركب مِنْ أَفْرَادِ الْأَحْيَازِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا، فَلَوِ افْتَقَرَتْ فَاعِلِيَّتُهُ إِلَى زَمَانٍ وإلى مكان، لا فتقرت فَاعِلِيَّةُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَغَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمَلًا بِغَيْرِهِ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ: فَكَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: 18] . وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ:
فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ وَإِحْسَانٌ وَخَيْرٌ، وَأَنَّ كَوْنَهُ فَضْلًا وَخَيْرًا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَهُ وَتَكْلِيفَهُ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا يَجِبُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ مَعَاقِدِ التَّسْبِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ سَبَّحَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسَبِّحَةً غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ كَانَتْ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهَا مُسَبِّحَةً صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، فَيَسْتَحِيلُ انفكاك(29/441)
تِلْكَ الْمَاهِيَّاتِ عَنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمَاهِيَّاتِهَا، لِأَنَّ كل ما عدا الواجب ممكن، وكل ممكن فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْوَاجِبِ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ وَاجِبًا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَبَّحِيَّةَ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْمَاضِي، وَتَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا الْفِعْلُ تَارَةً عُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأُخْرَى بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفَتْحِ: 9] وَأَصْلُهُ التَّعَدِّي بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ أَيْ بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَاللَّامُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ اللَّامِ فِي نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ يُسَبِّحُ للَّه أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّه وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: زَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ، التَّسْبِيحُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ، واحتج عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: 44] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ، هُوَ دَلَالَةَ آثَارِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَكَانُوا يَفْقَهُونَهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ [الْأَنْبِيَاءِ: 79] فَلَوْ كَانَ تَسْبِيحًا عِبَارَةً عَنْ دَلَالَةِ الصُّنْعِ عَلَى الصَّانِعِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ [لِحُجَّتَيْنِ] :
أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ عَلَى تَنْزِيهِ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ أَدَقِّ الْوُجُوهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَقْوَامٍ جَهِلُوا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: لَا تَفْقَهُونَ إِشَارَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى جَمْعٍ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ مَا فَقِهُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يَفْقَهَهُ بَعْضُهُمْ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَضَعِيفَةٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ اللَّه خَلَقَ حَيَاةً فِي الْجَبَلِ حَتَّى نَطَقَ بِالتَّسْبِيحِ. أَمَّا هَذِهِ الْجَمَادَاتُ الَّتِي تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهَا جَمَادَاتٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ النُّطْقِ بِذَلِكَ التَّسْبِيحِ، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا صُدُورَ الْفِعْلِ الْمُحْكَمِ عَنِ الْجَمَادَاتِ لَمَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا حَيًّا، وَذَلِكَ كُفْرٌ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّسْبِيحَ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْعَاقِلِ الْعَارِفِ باللَّه تَعَالَى، فَيَنْوِي بِذَلِكَ الْقَوْلِ تَنْزِيهَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْجَمَادَاتِ، فَإِذَا التَّسْبِيحُ الْعَامُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْعَاقِلِ وَالْجَمَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يُرِيدُ لَيْسَ لَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَتَكْوِينِهِ مَانِعٌ وَلَا دَافِعٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ،.
فَنَقُولُ: إِنْ حَمَلْنَا/ التَّسْبِيحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ بِالْقَوْلِ، كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ما فِي السَّماواتِ من في السموات وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ [فُصِّلَتْ: 38] . وَمِنْهُمُ الْمُقَرَّبُونَ: قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: 41] ومن سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ: قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا [الفرقان: 18] وَأَمَّا الْمُسَبِّحُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] وَقَالَ مُوسَى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: 143] وَالصَّحَابَةُ يُسَبِّحُونَ كَمَا قَالَ: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا هَذَا التَّسْبِيحَ عَلَى التَّسْبِيحِ الْمَعْنَوِيِّ:
فأجزاء السموات وَذَرَّاتُ الْأَرْضِ وَالْجِبَالُ وَالرِّمَالُ وَالْبِحَارُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَاللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَالنُّورُ وَالظُّلْمَةُ وَالذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالْأَجْسَامُ وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا مُسَبِّحَةٌ خَاشِعَةٌ خَاضِعَةٌ لِجَلَالِ اللَّه(29/442)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
مُنْقَادَةٌ لِتَصَرُّفِ اللَّه كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] وَهَذَا التَّسْبِيحُ هُوَ الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النحل: 49] أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ شَيْءٌ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْحَكِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَحْتَجِبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ أَوْ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا لَا جَرَمَ قَدَّمَ الْعَزِيزَ عَلَى الْحَكِيمِ فِي الذِّكْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزِيزَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ الْحَصْرَ، يُقَالُ: زَيْدٌ هُوَ الْعَالِمُ لَا غَيْرُهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الْوَاحِدُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِعَزِيزٍ وَلَا حَكِيمٍ وَمَا لَا يَكُونُ كذلك لا يكون إلها. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
[في قوله تعالى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَغْنِي فِي ذَاتِهِ، وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، وَيَحْتَاجُ كُلُّ مَا عَدَاهُ إِلَيْهِ فِي ذَوَاتِهِمْ وَفِي صِفَاتِهِمْ، وَالْمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ. أَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي ذَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ فَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ إِلَى الْغَيْرِ لَكَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَكَانَ مُحْدَثًا، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ، فَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْرِضُ صِفَةٌ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هُوِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الصِّفَةُ سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا أَوْ لَا تَكُونُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ هُوِيَّتَهُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ دَوَامَ تِلْكَ الصِّفَةِ سَلْبًا كَانَتِ الصِّفَةُ أَوْ إِيجَابًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ لَزِمَ الْهُوِيَّةَ كَافِيَةٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْهُوِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ الِانْفِكَاكِ عَنْ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَعَنْ سَلْبِهَا، ثُمَّ ثُبُوتُ تِلْكَ الصِّفَةِ وَسَلْبُهَا، يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلَى ثُبُوتِ أَمْرٍ آخَرَ وَسَلْبِهِ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهُوِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ تَكُونُ مَوْقُوفَةَ التَّحَقُّقِ عَلَى تَحَقُّقِ عِلَّةِ/ ثُبُوتِ تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ عِلَّةِ سَلْبِهَا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا خُلْفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَلَا الثُّبُوتِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَنَّ كَلَّ مَا عَدَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا عداه ممكن، لأن الواجب الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَلَا وَاجِبَ إِلَّا هَذَا الْوَاحِدُ فَإِذَنْ كُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ جَوْهَرًا أَوْ عَرَضًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَوْهَرُ رُوحَانِيًّا أَوْ جُسْمَانِيًّا، وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَنَّ تَأْثِيرَ وَاجِبِ الْوُجُودِ فِي إِعْطَاءِ الْوُجُودِ لَا فِي الْمَاهِيَّاتِ فَوَاجِبُ الْوُجُودِ يَجْعَلُ السَّوَادَ مَوْجُودًا، أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْعَلَ السَّوَادَ سَوَادًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا بِالْفَاعِلِ، لَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَبْقَى السَّوَادُ سَوَادًا وَهَذَا مُحَالٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ أَيْضًا بِالْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودُ وُجُودًا، فَإِنْ قَالُوا: تَأْثِيرُ الْفَاعِلِ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَلْ فِي جَعْلِ الْمَاهِيَّةِ مَوْصُوفَةً بِالْوُجُودِ، قُلْنَا: هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، إِذْ لَوْ كَانَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا لَكَانَتْ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودٌ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ زَائِدَةً عَلَيْهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ مَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُوهِ لَيْسَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَأْثِيرَ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَلَا فِي الْوُجُودِ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي مَوْصُوفِيَّةِ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، اسْتَحَالَ أَيْضًا جَعَلُهَا أَثَرًا لِلْفَاعِلِ، وَإِلَّا لَزِمَ عند فرض(29/443)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
عَدَمِ ذَلِكَ الْفَاعِلِ أَنْ تَبْقَى الْمَوْصُوفِيَّةُ مَوْصُوفِيَّةً، فَظَهَرَ أَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَوْ تَمَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ يَلْزَمُ نَفْيُ التَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا، بَلْ كَمَا أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ إِنَّمَا صَارَتْ مَوْجُودَةً بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَكَذَا أَيْضًا الْمَاهِيَّاتُ إِنَّمَا صَارَتْ مَاهِيَّاتٍ بِتَأْثِيرِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَإِذَا لَاحَتْ هَذِهِ الْحَقَائِقُ ظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ صِدْقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بل ملك السموات وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ مُلْكِهِ أَقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى كَمَالِ ملكه أصلا، لأن ملك السموات وَالْأَرْضِ مُلْكٌ مُتَنَاهٍ، وَكَمَالُ مُلْكِهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، وَالْمُتَنَاهِي لَا نِسْبَةَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى غَيْرِ المتناهي، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عُقُولُهُمْ ضَعِيفَةٌ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْمَحْسُوسِ إلى المعقول.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الآفاق ملك السموات وَالْأَرْضِ ذَكَرَ بَعْدَهُ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ فَقَالَ: يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ، وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُحْيِي النُّطَفَ فَيَجْعَلُهَا أشخاصا عقلاء نَاطِقِينَ وَيُمِيتُ/ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَبِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ هَاتَيْنِ الْمَاهِيَّتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَمْنَعُهُ عَنْهُمَا مَانِعٌ وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُمَا رَادٌّ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَوْضِعُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَفْعٌ عَلَى مَعْنَى هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نصبا على معنى: له ملك السموات وَالْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا وَمُمِيتًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَوَّلًا: وَدَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ثَانِيًا: ذَكَرَ لَفْظًا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفَوَائِدُ هَذِهِ الآية مذكورة في أول سورة الملك.
[سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: «إِنَّهُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ»
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامٌ مَهِيبٌ غَامِضٌ عَمِيقٌ وَالْبَحْثُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يُعْقَلُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: التَّقَدُّمُ بِالتَّأْثِيرِ فَإِنَّا نَعْقِلُ أَنَّ لِحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ تَقَدُّمًا عَلَى حَرَكَةِ الْخَاتَمِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّقَدُّمِ كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ مُؤَثِّرًا فِي الْمُتَأَخِّرِ وَثَانِيهَا: التَّقَدُّمُ بِالْحَاجَةِ لَا بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّا نَعْقِلُ احْتِيَاجَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ وَثَالِثُهَا: التَّقَدُّمُ بِالشَّرَفِ كَتَقَدُّمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ وَرَابِعُهَا: التَّقَدُّمُ بِالرُّتْبَةِ، وَهُوَ إِمَّا مِنْ مَبْدَأٍ مَحْسُوسٍ كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، أَوْ مِنْ مَبْدَأٍ مَعْقُولٍ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَبْدَأَ هُوَ الْجِنْسَ الْعَالِيَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ النَّوْعُ أَشَدَّ تَسَفُّلًا كَانَ أَشَدَّ تَأَخُّرًا، وَلَوْ قَلَبْنَاهُ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَخَامِسُهَا: التَّقَدُّمُ بِالزَّمَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ، فَهَذَا مَا حَصَّلَهُ أَرْبَابُ الْعُقُولِ مِنْ أَقْسَامِ الْقَبْلِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ وَعِنْدِي أَنَّ هاهنا قِسْمًا سَادِسًا، وَهُوَ مِثْلُ تَقَدُّمِ بَعْضِ أَجْزَاءِ(29/444)
الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ لَيْسَ تَقَدُّمًا بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُحِيطًا بِزَمَانٍ آخَرَ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمُحِيطِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُحَاطِ بِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِيطَ بِكُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ آخَرُ لَا إِلَى نِهَايَةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي هَذَا الْآنِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْآنُ الْحَاضِرُ وَاحِدًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي حَاضِرٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْآنَاتِ الْحَاضِرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْآنَاتِ الْمَاضِيَةِ، فَلِمَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ زَمَانٌ آخَرُ مُحِيطٌ بِهَا لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ زَمَانًا كَانَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ، فإذا ذلك لزمان دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ وَخَارِجٌ عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الظَّاهِرِ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ لَيْسَ بِالزَّمَانِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْعِلَّةِ وَلَا بِالْحَاجَةِ، وَإِلَّا لوجدا معا، كما أن العلة والعلول/ يُوجِدَانِ مَعًا، وَالْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ يُوجِدَانِ مَعًا، وَلَيْسَ أَيْضًا بِالشَّرَفِ وَلَا بِالْمَكَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ قِسْمٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَالْبُرْهَانُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ شَيْئَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوَاجِبِ الذَّاتِيِّ، وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَقَدِ اشْتَرَكَ الْجُزْآنِ فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ أَيْضًا مُرَكَّبًا وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا، كَانَ الْكُلُّ الْمُتَقَوِّمُ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ الِافْتِقَارُ إِمَّا حَالَ الْوُجُودِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ حَالَ الْوُجُودِ، فَإِمَّا حَالَ الْبَقَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَإِذًا ذَلِكَ الْوَاجِبُ يَكُونُ قَبْلَ كُلِّ مَا عَدَاهُ، ثُمَّ طَلَبَ الْعَقْلُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةِ فَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤَثِّرٌ مُضَافٌ إِلَى الْأَثَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرٌ وَالْمُضَافَانِ مَعًا، وَالْمَعُ لَا يَكُونُ قَبْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ وَالْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِدَا مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعِيَّةَ هاهنا مُمْتَنِعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمَحْضِ الشَّرَفِ فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية هاهنا مُجَرَّدَ أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَفُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا الْقَبْلِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ فَبَاطِلَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَتَقَدُّمُ الْمُحْدِثِ عَلَى الْمُحْدَثِ أَمْرٌ زَائِدٌ آخَرُ وَرَاءَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فَوْقَ الْآخَرِ بِالْجِهَةِ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ الزَّمَانِيُّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الزَّمَانَ أَيْضًا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَمَارَةَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِيهِ أَظْهَرُ كَمَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مُتَعَاقِبَةٌ، وَكُلُّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَعُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَا شك أنه ممكن الحدث وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا وَالْكُلُّ مُتَقَوِّمٌ بِالْأَجْزَاءِ
فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ بِمَجْمُوعِهِ وَبِأَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَتَقَدُّمُ مُوجِدِهِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ زَمَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا لِأَنَّهُ ظَرْفُهَا، وَالظَّرْفُ مُغَايِرٌ لِلْمَظْرُوفِ لَا مُحَالٌ، لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَاخِلًا فِي شَيْءٍ وَخَارِجًا عَنْهُ مُحَالٌ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الزَّمَانَ مَاهِيَّتُهُ تَقْتَضِي السَّيَلَانَ وَالتَّجَدُّدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ،(29/445)
فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصَّانِعِ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِالزَّمَانِ الْبَتَّةَ، فَإِذَنِ الَّذِي عِنْدَ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ/ الْخَمْسَةِ، فَبَقِيَ أَنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ التَّقَدُّمِ يُغَايِرُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ فَلَيْسَ عِنْدَ الْعَقْلِ مِنْهَا خَبَرٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ حَالٌ مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذَنْ كَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ، فَلَيْسَ عِنْدَ عُقُولِ الخلق منه أثر.
النوع الثاني: من هذا غوامض الموضع، وهو أن الأزل متقدم على اللايزال، وَلَيْسَ الْأَزَلُ شَيْئًا سِوَى الْحَقِّ، فَتَقَدُّمُ الْأَزَلِ على اللايزال، يستدعي الامتياز بين الأزل وبين اللايزال، فهذا يقتضي أن يكون اللايزال لَهُ مَبْدَأٌ وَطَرَفٌ، حَتَّى يَحْصُلَ هَذَا الِامْتِيَازُ، لَكِنَّ فَرْضَ هَذَا الطَّرَفِ مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلَّ مبدأ فرضته، فإن اللايزال، كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُفْرَضُ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّرَفِ الْمَفْرُوضِ بِزِيَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، يكون من جملة اللايزال، لَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَزَلِ، فَقَدْ كَانَ مَعْنَى اللايزال مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ غَوَامِضِ هَذَا الْمَوْضُوعِ، أَنَّ امتياز الأزل عن اللايزال، يَسْتَدْعِي انْقِضَاءَ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ، وَانْقِضَاءُ حَقِيقَةِ الْأَزَلِ محال، لأن مالا أَوَّلَ لَهُ يَمْتَنِعُ انْقِضَاؤُهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْقِضَاؤُهُ امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللايزال، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللايزال، وامتياز اللايزال عن الأزال، وَإِذَا امْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا الِامْتِيَازِ امْتَنَعَ حُصُولُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، فَهَذِهِ أَبْحَاثٌ غَامِضَةٌ فِي حَقِيقَةِ التَّقَدُّمِ وَالْأَوَّلِيَّةِ وَالْأَزَلِيَّةِ، وَمَا هِيَ إِلَّا بِسَبَبِ حَيْرَةِ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِي نُورِ جَلَالِ مَاهِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ إِنَّمَا يَعْرِفُ الشَّيْءَ إِذَا أَحَاطَ بِهِ، وَكُلُّ مَا اسْتَحْضَرَهُ الْعَقْلُ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ فَذَاكَ يَصِيرُ مُحَاطًا بِهِ، وَالْمُحَاطُ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، وَالْأَزَلِيَّةُ تَكُونُ خَارِجَةً عَنْهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْعُقُولَ شَاهِدَةٌ بِإِسْنَادِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى مُوجِدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهَا فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ ظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ تِلْكَ الْأَوَّلِيَّةِ عَجَزْتَ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ عَقْلُكَ وَعِلْمُكَ فَهُوَ مَحْدُودُ عَقْلِكَ وَمُحَاطُ عِلْمِكَ فَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا، فَتَكُونُ الْأَوَّلِيَّةُ خَارِجَةً عَنَّا، فَكَوْنُهُ تَعَالَى أَوَّلًا إِذَا اعْتَبَرْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ أَبْطَنَ مِنْ كُلِّ بَاطِنٍ، فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى أَوَّلًا.
أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ آخِرًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تعالى إنما يكون آخر الكل مَا عَدَاهُ، لَوْ بَقِيَ هُوَ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ لَكِنَّ عَدَمَ مَا عَدَاهُ إنما يكون بعده وُجُودِهِ، وَتِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، زَمَانِيَّةٌ، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ فرض عدم كل عَدَاهُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ الزَّمَانِ الَّذِي بِهِ تَتَحَقَّقُ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةُ، فَإِذَنْ حَالُ مَا فُرِضَ عَدَمُ كُلِّ مَا عَدَاهُ، أَنْ لَا يُعْدَمَ كُلُّ مَا عَدَاهُ، فَهَذَا خُلْفٌ، فَإِذَنْ فَرْضُ بَقَائِهِ مَعَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مُحَالٌ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ لَا يَتَقَرَّرَانِ إِلَّا بِالزَّمَانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سَلَّمُوا إِمْكَانَ عَدَمِ كُلِّ مَا عَدَاهُ مَعَ بَقَائِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ حَتَّى يَتَقَرَّرَ كَوْنُهُ تَعَالَى آخِرًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَهْمٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ/ سُبْحَانَهُ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى أَهْلِ الثَّوَابِ، وَيُوصِلُ الْعِقَابَ إِلَى أَهْلِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يُفْنِي الْجَنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَالنَّارَ وَأَهْلَهَا، وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَالْمَلَكَ وَالْفَلَكَ، وَلَا يَبْقَى مَعَ اللَّه شَيْءٌ أَصْلًا، فَكَمَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ وَلَا شَيْءَ يَبْقَى مَوْجُودًا في اللايزال أَبَدَ الْآبَادِ وَلَا شَيْءَ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ هُوَ الْآخِرُ، يَكُونُ آخِرًا إِلَّا عِنْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِعَدَدِ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَا، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا كَانَ عَالِمًا بِكَمِّيَّتِهَا، وَكُلُّ ماله عَدَدٌ مُعَيَّنٌ فَهُوَ مُتَنَاهٍ، فَإِذَنْ حَرَكَاتُ أَهْلِ الجنة(29/446)
مُتَنَاهِيَةٌ، فَإِذَنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ بَعْدَهَا عَدَمٌ أَبَدِيٌّ غَيْرُ مُنْقَضٍّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا كَانَ جَاهِلًا بِهَا وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّه مُحَالٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُسْتَقْبَلَةَ قَابِلَةٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَنَاهٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ إِمْكَانَ اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْأَبَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّاتِ لَوْ زَالَتْ إِمْكَانَاتُهَا، لَزِمَ أَنْ يَنْقَلِبَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، وَلَوِ انْقَلَبَتْ قُدْرَةُ اللَّه مِنْ صَلَاحِيَّةِ التَّأْثِيرِ إِلَى امْتِنَاعِ التَّأْثِيرِ، لَانْقَلَبَتِ الْمَاهِيَّاتُ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِمْكَانُ أَبَدًا، فَإِذَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ انْتِهَاءُ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ إِلَى الْعَدَمِ الصِّرْفِ، أَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ الْجَوَابَ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا، إِنَّمَا الْجَهْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَلَا يَعْلَمُهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُهُ عَلَى الْوَجْهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا بَلْ عِلْمًا وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: فَجَوَابُهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إِلَى الْوُجُودِ أَبَدًا لَا يَكُونُ مُتَنَاهِيًا، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمَّا أَثْبَتُوا إِمْكَانَ بَقَاءِ الْعَالَمِ أَبَدًا عَوَّلُوا فِي بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، عَلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَظَوَاهِرِ الْآيَاتِ، وَلَا يَخْفَى تَقْرِيرُهَا، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَلَّمُوا بَقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَبَدًا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى آخِرًا عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُفْنِي جَمِيعَ الْعَالَمِ وَالْمُمْكِنَاتِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ آخِرًا، ثُمَّ إِنَّهُ يُوجِدُهَا وَيُبْقِيهَا أَبَدًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ آخِرًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا هُوَ، فَلَمَّا كَانَتْ صِحَّةُ آخِرِيَّةِ كُلِّ الْأَشْيَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا جَرَمَ وُصِفَ بِكَوْنِهِ آخِرًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوُجُودَ مِنْهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُ، وَلَا يَزَالُ يَنْزِلُ وَيَنْزِلُ حتى ينتهي إلى الموجود الأخير، الذي كون هُوَ مُسَبِّبًا لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا انْتَهَى أَخَذَ يَتَرَقَّى مِنْ هَذَا الْمَوْجُودِ الْأَخِيرِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخِرِ التَّرَقِّي، فَهُنَاكَ وُجُودُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَوَّلٌ فِي نُزُولِ الْوُجُودِ مِنْهُ إِلَى الْمُمْكِنَاتِ، آخِرٌ عِنْدَ الصُّعُودِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَيْهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يُمِيتُ الْخَلْقَ وَيَبْقَى بَعْدَهُمْ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ آخِرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَوَّلٌ فِي الْوُجُودِ وَآخِرٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الِاسْتِدْلَالَاتِ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ، وَأَمَّا سَائِرُ الِاسْتِدْلَالَاتِ الَّتِي لَا يُرَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ فَهِيَ حَقِيرَةٌ خَسِيسَةٌ، أَمَّا كَوْنُهُ تعالى ظاهرا وباطنا، فاعلم أنه ظاهر بحسيب الْوُجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئًا مِنَ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِلَّا وَيَكُونُ دَلِيلًا/ عَلَى وُجُودِهِ وَثُبُوتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ عَنْ جِهَاتِ التَّغَيُّرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَعَالَى بَاطِنًا فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ كَمَالَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا سَبَبٌ لِكَوْنِهِ بَاطِنًا، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّمْسَ لَوْ دَامَتْ عَلَى الْفَلَكِ لَمَا كُنَّا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا الضَّوْءَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِهَا، بَلْ رُبَّمَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُضِيئَةٌ لِذَوَاتِهَا إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِحَيْثُ تَغْرُبُ ثُمَّ
تَرَى أَنَّهَا مَتَى غَرَبَتْ أُبْطِلَتِ الْأَنْوَارُ وَزَالَتِ الْأَضْوَاءُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، عَلِمْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَضْوَاءَ مِنَ الشَّمْسِ، فَهَهُنَا لَوْ أَمْكَنَ انْقِطَاعُ وُجُودِ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ لَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا دَامَ ذَلِكَ الْجُودُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ صَارَ دَوَامُهُ وَكَمَالُهُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ نُورَ الْوُجُودِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِتَارَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ كَمَالِ وَجُودِهِ، وَمِنْ دَوَامِ جُودِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاحْتَجَبَ عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَاهِيَّتَهُ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ الْبَتَّةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ إِلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوِجْدَانِ كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ أَدْرَكَهُ بِحِسِّهِ كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَسَائِرِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَاهِيَّتَهُ الْبَتَّةَ، وَهُوِيَّتَهُ المخصوصة جل(29/447)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
جَلَالُهُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا تَكُونُ مَعْقُولَةً لِلْبَشَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ عِنْدَ الْخَلْقِ، إِمَّا الْوُجُودُ وَإِمَّا السُّلُوبُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ، وَإِمَّا الْإِضَافَةُ، وَهُوَ أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَالْحَقِيقَةُ الْمَخْصُوصَةُ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ فَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ عِنْدَ الْعَقْلِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ حَيْرَةَ الْعَقْلِ وَدَهْشَتَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآخِرُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْبَاطِنُ، وَسَمِعْتُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ يُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ نَحْوَ الْبَيْتِ وَسَجَدُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ قَالُوا الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَوْ قَالَ: أَوَّلُ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ لَمْ يُعْتَقَا، لِأَنَّ شَرْطَ كونه أولا حصول الفردية، وهاهنا لَمْ تَحْصُلْ، فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا وَاحِدًا لَمْ يُعْتِقْ، لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِيَّةِ كَوْنُهُ سابقا وهاهنا لَمْ يَحْصُلْ، فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي كَوْنِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ فَرْدًا، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ فَرَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ آخِرٌ لِأَنَّهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّهُ ظَاهِرٌ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّهُ بَاطِنٌ عَنِ الْحَوَاسِّ مُحْتَجِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً لَمَّا عَجَزُوا عَنْ جَوَابِ جَهْمٍ قَالُوا:
مَعْنَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ هُوَ أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ وَآخِرُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، أَيْ عَلَيْهِ يَدُورُ، وَبِهِ يَتِمُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهَا اسْتِدْلَالُ جَهْمٍ/ لَمْ يَكُنْ بِنَا إِلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ حَاجَةٌ، وَذَكَرُوا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصَّفِّ: 14] أَيْ غَالِبِينَ عَالِينَ، مِنْ قَوْلِكَ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ عَلَوْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزُّخْرُفِ: 33] وَهَذَا مَعْنَى مَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يَظُنُّ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُ الْبَاطِنَةَ قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: أَنْتَ أَبْطَنُ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَخْبَرُ بِبَاطِنِهِ، فَمَعْنَى كَوْنِهِ بَاطِنًا، كَوْنُهُ عَالِمًا بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَكُونُ تَكْرَارًا.
أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ أَحَدًا لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى أَسْرَارِهِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ وَنَظِيرُهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: 116] .
[سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي الْأَعْرَافِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ دَلَائِلُ الْقُدْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي سَبَأٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ وَصْفَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَصْفِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه، هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا،(29/448)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْعِلْمِ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبِ الْحَقِّ فَهُوَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَوُجُودُهُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِذَنْ وَصُولُ الْمَاهِيَّةِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى وُجُودِهَا بِوَاسِطَةِ إِفَادَةِ الْوَاجِبِ الْحَقِّ ذَلِكَ الْوُجُودَ لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَبَيْنَ وُجُودِهَا، فَهُوَ إِلَى كُلِّ مَاهِيَّةٍ أَقْرَبُ مِنْ وُجُودِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، وَمِنْ هَذَا السِّرِّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه قَبْلَهُ، وَقَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه مَعَهُ، وَقَالَ الظَّاهِرِيُّونَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ اللَّه بَعْدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الَّتِي أَظْهَرْنَاهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَهَا دَرَجَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ إِلَيْهَا بِمُقْتَضَى الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَتَّفِقَ لِنَفْسِ الْإِنْسَانِ/ قُوَّةٌ ذَوْقِيَّةٌ وَحَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، وَتَكُونُ نِسْبَةُ الْإِدْرَاكِ مَعَ الذَّوْقِ إِلَى الْإِدْرَاكِ لَا مَعَ الذَّوْقِ، كَنِسْبَةِ مَنْ يَأْكُلُ السُّكَّرَ إِلَى مَنْ يَصِفُ حَلَاوَتَهُ بِلِسَانِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْمَعِيَّةُ إِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ مَعَنَا بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّأْوِيلَ فِي مَوْضِعٍ وَجَبَ تَجْوِيزُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْتِيبًا عَجِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ كَوْنَهُ إِلَهًا لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْكَائِنَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ كونه إلها للعرش والسموات وَالْأَرَضِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معينه لَنَا بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَبِسَبَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَالَمًا بِظَوَاهِرِنَا وَبَوَاطِنِنَا، فَتَأَمَّلْ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّ فِيهَا أَسْرَارًا عَجِيبَةً وَتَنْبِيهَاتٍ على أمور عالية. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 5]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
أَيْ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، وَدَلَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 6]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَهِيَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبَيْنَ إِظْهَارِ نِعَمِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا الْبَعْثُ عَلَى النَّظَرِ والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر.
[سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَتْبَعَهَا بِالتَّكَالِيفِ، وَبَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: آمِنُوا خِطَابٌ مَعَ مَنْ عَرَفَ اللَّه، أَوْ(29/449)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
مَعَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّه، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِأَنْ يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ مُتَوَجِّهًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْرِفَ كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وهذا تكليف مالا يُطَاقُ وَالْجَوَابُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَعْرِفَةُ وُجُودِ الصَّانِعِ حَاصِلَةٌ لِلْكُلِّ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ/ كَبِيرٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَوَّلًا بِأَنْ يَشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّه، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِنْفَاقِهَا فِي سَبِيلِ اللَّه، كَمَا قَالَ: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] ، فقوله: قُلِ اللَّهُ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَوْلِهِ: ثُمَّ ذَرْهُمْ هو المراد هاهنا مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ إِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُ اللَّه بِخَلْقِهِ وَإِنْشَائِهِ لَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا تَحْتَ يَدِ الْمُكَلَّفِ، وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ لِيَنْتَفِعَ بِهَا عَلَى وَفْقِ إِذَنِ الشَّرْعِ، فَالْمُكَلَّفُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ وَالْخَلِيفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْكُمُ الْإِنْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ، كَمَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَلَ أَمْوَالَهُمْ إِلَيْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ، فَاعْتَبِرُوا بِحَالِهِمْ، فَإِنَّهَا كَمَا انْتَقَلَتْ مِنْهُمْ إليكم فستنقل مِنْكُمْ إِلَى غَيْرِكُمْ فَلَا تَبْخَلُوا بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ التَّطَوُّعُ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْرًا كَبِيرًا فَقَالَ:
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ لَا يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ الْمُنْفَرِدِ حَتَّى يَنْضَافَ هَذَا الْإِنْفَاقُ إِلَيْهِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالْوَاجِبِ مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ الْكَبِيرُ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ أصلا. وقوله تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 8]
وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَبَخَّ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرُوا فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَا نُصِبَ فِي الْعُقُولِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِقَبُولِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ كَمَا اقْتَضَتْ وُجُوبَ الْقَبُولِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِنَ الْحَلْفِ وَالْيَمِينِ، / فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مِيثَاقًا، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَطَابَقَتْ دَلَائِلُ النَّقْلِ(29/450)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
وَالْعَقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ وَمَتَّى اجْتَمَعَ هَذَانِ النَّوْعَانِ، فَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى حَيْثُ تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يَدْعُوهُمْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الذَّمِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ: قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْمُقَاتِلَانِ: يُرِيدُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ أَخْذَ الْمِيثَاقِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ وَقْتَ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَوْمِ إِلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَقَبْلَ مَعْرِفَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ، أَمَّا نَصْبُ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ فَمَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ جَائِزٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: وَما لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا لَا يقال: مالك لَا تَطُولُ وَلَا تَبِيضُ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَعَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ، وَعَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ حَصَلَ بِالْعَبْدِ لَا بِخَلْقِ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ دَلِيلٍ، فَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ الْآنَ، فَإِنَّهُ قَدْ تَطَابَقَتِ الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها.
[سورة الحديد (57) : آية 9]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
قَالَ الْقَاضِي: بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ بَعْضِهِمُ الثَّبَاتَ عَلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، وَيَخْلُقُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَيُقَدِّرُهُ لَهُمْ تَقْدِيرًا لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ مِنْ فِعْلِهِ؟
قُلْنَا: لَوْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِخْرَاجِ خَلْقَ الْإِيمَانِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مَعْنًى، لِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، فَخَلَقَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَا يَتَغَيَّرُ، فَالْمُرَادُ إِذَنْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَلْطُفُ بِهِمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى/ النُّورِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى خِسَّتِهِ وَرَوْغَتِهِ مَعَارَضٌ بِالْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ قَائِمٌ، وَعَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ يُنَافِي وُجُودَ الْإِيمَانِ، فَإِذَا كَلَّفَهُمْ بِتَكْوِينِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الضِّدِّ الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، فَهَلْ يُعْقَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيدَ بِهِمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ، لَا شك أن مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِذَا تَوَجَّهَتِ الْمُعَارَضَةُ زَالَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطْ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ لَا وَجْهَ لَهُ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ أداء التكاليف.(29/451)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
[سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
لَمَّا أَمَرَ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَبِالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ أَكَّدَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِيجَابَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَأْكِيدِ إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ سَتَمُوتُونَ فَتُورَثُونَ، فَهَلَّا قَدَّمْتُمُوهُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّه، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْيَدِ، إِمَّا بِالْمَوْتِ وَإِمَّا بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، كَانَ أَثَرُهُ اللَّعْنَ وَالْمَقْتَ وَالْعِقَابَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، كَانَ أَثَرُهُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ، وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنِ الْيَدِ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ خُرُوجَهُ عَنِ الْيَدِ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ أَوْلَى مِنْهُ بِحَيْثُ يَسْتَعْقِبُ اللَّعْنَ وَالْعِقَابَ.
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ فَضِيلَةٌ بَيَّنَ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ فِي الْإِنْفَاقِ تَمَامُ الْفَضِيلَةِ فَقَالَ:
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ، كَمَا قَالَ:
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْحَشْرِ: 20] إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِوُضُوحِ الْحَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْفَتْحِ فِي الْمُتَعَارَفِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ»
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: وَيَدُلُّ الْقُرْآنُ عَلَى فَتْحٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْحِ: 27] وَأَيُّهُمَا كَانَ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه عِظَمَ مَوْقِعِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَنْفَقَ الْمَالَ عَلَى رَسُولِ اللَّه فِي سَبِيلِ اللَّه، قَالَ عُمَرُ: «كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّلَهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام، فقال: مالي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ خَلَلَّهَا فِي صَدْرِهِ؟ فَقَالَ:
أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ صَدَرَ عَنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَالْقِتَالُ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه قَبْلَ الْفَتْحِ يَكُونُ أَعْظَمَ حَالًا مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَصَاحِبُ الْقِتَالِ هُوَ عَلِيٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ صَاحِبَ الْإِنْفَاقِ فِي الذِّكْرِ عَلَى صَاحِبِ الْقِتَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَالْقِتَالَ مِنْ بَابِ الْغَضَبِ،
وَقَالَ تَعَالَى: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
فَكَانَ السَّبْقُ لِصَاحِبِ الْإِنْفَاقِ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ صَاحِبُ الْإِنْفَاقِ هُوَ عَلِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ [الْإِنْسَانِ: 8] قُلْنَا: إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَنْفَقَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ فِي الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا فِي أَوَّلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ صاحب القتال وأما أبا بَكْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا مُقَدَّمًا، وَكَانَ يَذُبُّ عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى ضُرِبَ بِسَبَبِهِ ضَرْبًا أَشْرَفَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَعَلَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى فَضْلِ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْفَقَ وَجَاهَدَ مَعَ(29/452)
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَبَيَّنُوا الْوَجْهَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِظَمُ مَوْقِعِ نُصْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّفْسِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَفِي عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَفِي الْكَافِرِينَ شَوْكَةٌ وَكَثْرَةُ عَدَدٍ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى النُّصْرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ أَشَدَّ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا، وَالْكُفْرَ ضَعِيفًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التَّوْبَةِ: 100]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيْ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّه بالحسنى أَيِ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ مَعَ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَكُلًّا بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ: زَيْدًا وَعَدْتُ خَيْرًا، فَهُوَ مَفْعُولُ وَعَدَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَأَخَّرَ عَنْ مَفْعُولِهِ لَمْ يَقَعْ عَمَلُهُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا:
زَيْدٌ ضَرَبْتُ، وَكَقَوْلِهِ فِي الشِّعْرِ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ
رُوِيَ (كُلُّهُ) بِالرَّفْعِ لِتَأَخُّرِ الْفِعْلِ عَنْهُ لِمُوجِبٍ آخَرَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ يَتَفَاوَتُ بِسَبَبِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصْبَ يُفِيدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ كُلَّ الذُّنُوبِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فَاعِلًا لِبَعْضِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: مَا فَعَلْتُ كُلَّ الذُّنُوبِ، أَفَادَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَبْقَى احْتِمَالُ أَنَّهُ فَعَلَ الْبَعْضَ، بَلْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةٌ يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ الذُّنُوبِ.
أَمَّا رِوَايَةُ الرَّفْعِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كُلُّهُ لَمْ أصنع، فمعناه أن كل واحد وَاحِدٍ مِنَ الذُّنُوبِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْنُوعٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ الْبَتَّةَ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَرَاءَةَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْنَى يَتَفَاوَتُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَمِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: 49] فَمَنْ قَرَأَ (كُلَّ) شَيْءٍ بِالنَّصْبِ، أَفَادَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ بِقَدَرٍ، وَمَنْ قَرَأَ (كَلُّ) بِالرَّفْعِ لَمْ يُفِدْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكُلَّ، بَلْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ فَهُوَ إِنَّمَا خَلَقَهُ بِقَدَرٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَفَاوُتُ الْإِعْرَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ تَفَاوُتَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: 39] فَإِنَّكَ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَالْقَمَرَ بِالرَّفْعِ أَوْ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ فَكَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَوَاءٌ قَرَأْتَ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَوْ قَرَأْتَ وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّه الْحُسْنَى فَإِنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَفَاوِتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَكُلًّا وَعَدَهُ اللَّهُ الْحُسْنَى إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ لِظُهُورِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الْفُرْقَانِ: 41] وَكَذَا قَوْلُهُ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَةِ: 48] ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ السَّابِقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالثَّوَابِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَبِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ إِيصَالُ الثَّوَابِ إِلَى المستحقين، إذا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ وَبِأَفْعَالِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَمَا أَمْكَنَ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ بِالتَّمَامِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَتْبَعَ ذَلِكَ الْوَعْدَ بقوله:
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.(29/453)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
[سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ عِنْدَ نزول هذه الآية ما استقرض إليه مُحَمَّدٍ حَتَّى افْتَقَرَ، فَلَطَمَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَشَكَا الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ لَطَمْتُهُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آلِ عِمْرَانَ: 186]
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الْيَهُودِيُّ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلَهَ يَفْتَقِرُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آلِ عِمْرَانَ: 181] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبَ النَّاسِ فِي أَنْ يُنْفِقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِ الْكَافِرِينَ وَمُوَاسَاةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ قَرْضًا مِنْ حَيْثُ وَعَدَ بِهِ الْجَنَّةَ تَشْبِيهًا بِالْقَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ الْإِنْفَاقَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَقْرَبُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرُوا فِي كَوْنِ الْقَرْضِ حَسَنًا وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي طَيِّبَةٌ بِهَا نَفْسُهُ وَثَانِيهَا:
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَتَصَدَّقُ بِهَا لِوَجْهِ اللَّه وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَرْضُ لَا يَكُونُ حَسَنًا حَتَّى يَجْمَعَ أَوْصَافًا عَشَرَةً الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلَالِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ»
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَكْرَمِ مَا يَمْلِكُهُ دُونَ أَنْ يُنْفِقَ الرَّدِيءَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 267] ، الثَّالِثُ: أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِأَنْ تَرْجُوَ الْحَيَاةَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] .
وبقول: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: 8] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ أَنْ تُعْطِيَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّرَاقِيَ قَلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا»
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَصْرِفَ صَدَقَتَكَ إِلَى الْأَحْوَجِ الْأَوْلَى بِأَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّه تَعَالَى أَقْوَامًا بِأَخْذِهَا وَهُمْ أَهْلُ السُّهْمَانِ الْخَامِسُ: أَنْ تَكْتُمَ الصَّدَقَةَ مَا أَمْكَنَكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 271] ، السَّادِسُ: أَنْ لَا تُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى، قَالَ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ:
264] ، السَّابِعُ: أَنْ تَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّه وَلَا تُرَائِيَ، كَمَا قَالَ: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى [الليل: 20، 21] وَلِأَنَّ الْمُرَائِيَ مَذْمُومٌ بِالِاتِّفَاقِ الثَّامِنُ: أَنْ تَسْتَحْقِرَ مَا تُعْطِي وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا كُلُّهَا قَلِيلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [الْمُدَّثِّرِ: 6] فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكَ إِلَيْكَ، قَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آلِ عِمْرَانَ:
92] الْعَاشِرُ: أَنْ لَا تَرَى عِزَّ نَفْسِكَ وَذُلَّ الْفَقِيرِ، بَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فِي نَظَرِكَ، فَتَرَى الْفَقِيرَ كَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَحَالَ عَلَيْكَ رِزْقَهُ الَّذِي قَبِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودَ: 6] وَتَرَى نَفْسَكَ تَحْتَ دَيْنِ الْفَقِيرِ، فَهَذِهِ أَوْصَافٌ عَشَرَةٌ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ قَرْضًا حَسَنًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:(29/454)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ عَلَى هَذَا الْقَرْضِ الْحَسَنِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمُضَاعَفَةُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَضُمُّ إِلَى قَدْرِ الثَّوَابِ مِثْلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ/ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ: مَذْهَبُكُمْ أَنَّ الثَّوَابَ أَيْضًا تَفَضُّلٌ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ لَمْ يَتِمَّ هَذَا التَّفْسِيرُ الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ، فَلَهُ قَدْرُ كَذَا مِنَ الثَّوَابِ، فَذَاكَ الْقَدْرُ هُوَ الثَّوَابُ، فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِثْلُهُ فَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ الضِّعْفُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْأَعْوَاضَ تُضَمُّ إِلَى الثَّوَابِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُضَاعَفَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْأَجْرَ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَلَبَ ذَلِكَ الضِّعْفَ، وَبِسَبَبِهِ حَصَلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، فَكَانَ كَرِيمًا، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: (فَيُضَعِّفَهُ) مُشَدَّدَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَرَأَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَابْنَ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ (فَيُضَاعِفَهُ) بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عمر وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَيُضَاعِفُهُ بِالْأَلِفِ وَضَمِّ الْفَاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: يُضَاعَفُ وَيُضَعَّفُ بِمَعْنًى إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَعْلِيلِ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، أَمَّا الرفع فوجه ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِانْقِطَاعِ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ يُضَاعَفُ، وأما قراء النَّصْبِ فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيُقْرِضُ اللَّه أَحَدٌ قَرْضًا حَسَنًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
فَيُضاعِفَهُ جَوَابًا عَنِ الاستفهام فحينئذ ينصب.
[سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ تَرَى ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] أو منصوب بأذكر تَعْظِيمًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ الْمُحَاسَبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا النُّورِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ نَفْسُ النُّورِ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن كُلَّ مُثَابٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ النُّورُ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ فِي الْعِظَمِ وَالصِّغَرِ»
فَعَلَى هَذَا مَرَاتِبُ الْأَنْوَارِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورٌ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ يَكُونُ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يَنْطَفِئُ مَرَّةً وَيَتَّقِدُ أُخْرَى، وَهَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا فُلَانُ هَا نُورُكَ، وَيَا فُلَانُ لَا نُورَ لَكَ، نُعُوذُ باللَّه مِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النُّورِ، أَنَّ النُّورَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّ نُورَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نُورُ الْبَصِيرَةِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ نُورًا مِنْ نُورِ الْبَصَرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه هِيَ النُّورُ فِي الْقِيَامَةِ فَمَقَادِيرُ الْأَنْوَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ الْمَعَارِفِ فِي الدُّنْيَا الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النُّورِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لِأَنَّ السُّعَدَاءَ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَشْقِيَاءَ يُؤْتَوْنَهَا مِنْ شَمَائِلِهِمْ، وَوَرَاءِ ظُهُورِهِمْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ:
الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ/ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ نُورٌ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، وَيُقَالُ: هَذَا(29/455)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
الْأَمْرُ لَهُ نُورٌ وَرَوْنَقٌ، إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَبِأَيْمانِهِمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْمَعْنَى يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ حَصَلَ ذَلِكَ السَّعْيُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: 10] أَيْ ذلك كائن بذلك.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حَقِيقَةُ الْبِشَارَةِ ذَكَرْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 25] ثُمَّ قَالُوا:
تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23، 24] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنَالُهُمْ أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ صِفَتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا لَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْبِشَارَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَطَعَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاسِقَ قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ أَوْ إِنْ دَخَلَهَا لَكِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْهَا وَسَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَبْقَى فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فهو إذن قَاطِعٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ النُّورُ وَالْبُشْرَى بِالْجَنَّاتِ الْمُخَلَّدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ: ذَلِكَ الْفَوْزُ، بِإِسْقَاطِ كَلِمَةِ: هُوَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بشرح حال المنافقين. فقال:
[سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
قوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَوْمَ يَقُولُ، بدل من يَوْمَ تَرَى [الحديد: 12] ، أو هو أيضا منصوب با ذكر تَقْدِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ، وَالْبَاقُونَ (انْظُرُوا) ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ/ الْفَارِسِيُّ لَفْظُ النَّظَرِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضُرُوبٍ أَحَدُهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ، فَيُحْذَفُ الْجَارُّ وَيُوصَلُ الْفِعْلُ، كَمَا أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ:
ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ
وَالْمَعْنَى يَنْظُرْنَ إِلَى الْأَرَاكِ وَثَانِيهَا: أَنْ تُرِيدَ بِهِ تَأَمَّلْتُ وَتَدَبَّرْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُكَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ زَيْدًا أَيُؤْمِنُ، فَهَذَا يُرَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْإِسْرَاءِ: 48] ، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ(29/456)
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
[النِّسَاءِ: 50] ، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاءِ: 21] قَالَ: وَقَدْ يَتَعَدَّى هَذَا بِإِلَى كَقَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الْغَاشِيَةِ: 17] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّأَمُّلِ، وبين وجه الحكمة فيه، وقد يتعدى بقي، كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 185] ، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: 8] وَثَالِثُهَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّظَرِ الرُّؤْيَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَلَمَّا بَدَا حَوْرَانُ وَالْآلُ دُونَهُ ... نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا
وَالْمَعْنَى نَظَرْتَ، فَلَمْ تَرَ بِعَيْنِكَ مَنْظَرًا تَعْرِفُهُ فِي الْآلِ قَالَ: إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، لِأَنَّهُ دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَلُّبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ، فَلَمَّا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مِنْ تَوَابِعِ النَّظَرِ وَلَوَازِمِهِ غَالِبًا أَجْرَى عَلَى الرُّؤْيَةِ لَفْظَ النَّظَرِ عَلَى سَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ، كَمَا يُقَالُ: تَكَلَّمْتَ وَمَا تَكَلَّمْتَ، أَيْ مَا تَكَلَّمْتَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ، فَكَذَا هُنَا نَظَرْتَ وَمَا نَظَرْتَ نَظَرًا مُفِيدًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَابِ:
53] أَيْ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَهُ وَبُلُوغَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ نَظَرْتُ مَعْنَاهُ انْتَظَرْتُ، وَمَجِيءُ فَعَلْتَ وَافْتَعَلْتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: شَوَيْتُ وَاشْتَوَيْتُ، وَحَقَرْتُ وَاحْتَقَرْتُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: انْظُرُونا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: انْظُرُونَا، أَيِ انْتَظِرُونَا، لِأَنَّهُ يُسْرَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ كَالْبُرُوقِ الْخَاطِفَةِ، وَالْمُنَافِقُونَ مُشَاةٌ وَالثَّانِي: انْظُرُونَا أَيِ انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ، وَالنُّورُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِهِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ (أَنْظِرُونَا) مَكْسُورَةَ الظَّاءِ فَهِيَ مِنَ النَّظِرَةِ وَالْإِمْهَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اتِّئَادَهُمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِنْظَارًا لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشَ كَانَا يَطْعَنَانِ في حصة هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْآنَ وَجْهُ صِحَّتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْأَنْوَارَ، وَالْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُمْ وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْأَنْوَارِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُونَ فِي الْجَنَّاتِ فَيَمُرُّونَ سَرِيعًا، وَالْمُنَافِقُونَ يَبْقَوْنَ وَرَاءَهُمْ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الِانْتِظَارَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ فِي النُّورِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الظُّلُمَاتِ، ثُمَّ الْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَ النُّورَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ قَوْمٌ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ/ عِنْدَ الْمَوْقِفِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا انْظُرُوا إِلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَدْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، وَمَتَى أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ أَنْوَارُهُمْ مِنْ قُدَّامِهِمُ اسْتَضَاءُوا بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ إِنَّمَا تَقَعُ عِنْدَ مَسِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: انْظُرُونا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِانْتِظَارَ وَأَنْ يَكُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَبَسُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ أَوِ السِّرَاجِ، وَالْمُنَافِقُونَ طَمِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْتَبِسُوهُ كَاقْتِبَاسِ نِيرَانِ الدُّنْيَا وَهُوَ مِنْهُمْ جَهْلٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْوَارَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ فِي الدُّنْيَا امْتَنَعَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: يُعْطَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ أَحَدٍ نُورًا عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ وَمِمَّا فِيهِ مِنَ الْكَلَالِيبِ وَالْحَسَكِ وَيُلْقَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَتَمْضِي زُمْرَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ تَمْضِي زُمْرَةٌ أُخْرَى كَأَضْوَاءِ الْكَوَاكِبِ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ عَلَى ذَلِكَ تَغْشَاهُمْ(29/457)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
ظُلْمَةٌ فَتُطْفِئُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَهُنَالِكَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ كَقَبَسِ النَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وُجُوهًا أَحَدُهَا:
أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ: ارْجِعُوا إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا هَذِهِ الْأَنْوَارَ هُنَالِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَارَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ضَرْبِ السُّورِ، هُوَ امْتِنَاعُ الْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: النَّاسُ يَكُونُونَ فِي ظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ يُعْطَوْنَ الْأَنْوَارَ، فَإِذَا أَسْرَعَ الْمُؤْمِنُ فِي الذَّهَابِ قَالَ الْمُنَافِقُ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَيُقَالُ لَهُمُ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قَالَ: وَهِيَ خُدْعَةٌ خُدِعَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، كَمَا قَالَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ: 142] فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قُسِّمَ فِيهِ النُّورُ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ فَيَجِدُونَ السُّورَ مَضْرُوبًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: ارْجِعُوا مَنْعُ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الِاسْتِضَاءَةِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنْهُ: وَرَاءَكَ أُوَسِّعُ لَكَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: ارْجِعُوا أَنْ يَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وِجْدَانِ هَذَا الْمَطْلُوبِ الْبَتَّةَ، لَا أَنَّهُ أمر لهم بالرجوع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي السُّورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحِجَابُ وَالْحَيْلُولَةُ أَيِ/ الْمُنَافِقُونَ مُنِعُوا عَنْ طَلَبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حِجَابُ الْأَعْرَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِسُورٍ صِلَةٌ وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْدِيرُ: ضُرِبَ بَيْنَهُمْ سُورٌ كَذَا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ بابٌ أَيْ لِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرَّحْمَةُ، وَالْمُرَادُ من الرحمة الجنة التي فيها المؤمنين وَظاهِرُهُ يَعْنِي وَخَارِجَ السُّورِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ مِنْ قِبَلِهِ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ الرَّحْمَةُ، وَمَا يَلِي الْكَافِرِينَ يَأْتِيهِمْ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَائِطٌ وَهُوَ السُّورُ، وَلِذَلِكَ السُّورِ بَابٌ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ السُّورِ، وَالْكَافِرُونَ يَبْقَوْنَ فِي الْعَذَابِ وَالنَّارِ. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 14]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
[في قوله تعالى يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ إلى قوله حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَالصَّلَوَاتِ وَالْغَزَوَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبُعْدُ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنار كثير، لأن الجنة في أعلى السموات، وَالنَّارُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُعْدَ الشَّدِيدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه عَظَّمَ صَوْتَ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ مِنْ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّوْتِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأَشِدَّاءِ الْأَقْوِيَاءِ جِدًّا، وَالْكُفَّارُ مَوْصُوفُونَ بِالضَّعْفِ وَخَفَاءِ الصَّوْتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبُعْدَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاكِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ(29/458)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قَالُوا بَلَى كُنْتُمْ مَعَنَا إِلَّا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ أَشْيَاءَ بِسَبَبِهَا وَقَعْتُمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ أَوَّلُهَا: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَيْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَتَرَبَّصْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ الْمَوْتَ، قُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ وَثَالِثُهَا: كُنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ دَائِرَةَ السَّوْءِ لِتَلْتَحِقُوا بِالْكُفَّارِ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنَ النِّفَاقِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَارْتَبْتُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: شَكَكْتُمْ فِي وَعِيدِ اللَّه وَثَانِيهَا: شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَثَالِثُهَا: شَكَكْتُمْ فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْبَاطِلَ وَهُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مِنْ نُزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يَعْنِي الْمَوْتَ، وَالْمَعْنَى/ مَا زَالُوا فِي خُدَعِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ حتى أماتهم اللَّه وألقاهم في النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ: الْغَرُورُ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَالْمَعْنَى وَغَرَّكُمْ باللَّه الِاغْتِرَارُ وَتَقْدِيرُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ غَرَّكُمْ باللَّه سَلَامَتُكُمْ مِنْهُ مَعَ الِاغْتِرَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْغَرُورُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ هُوَ الشَّيْطَانُ لِإِلْقَائِهِ إِلَيْكُمْ أَنْ لَا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة.
[سورة الحديد (57) : آية 15]
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْفِدْيَةُ مَا يُفْتَدَى بِهِ وَهُوَ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ إِيمَانٌ وَلَا تَوْبَةٌ فَقَدْ زَالَ التَّكْلِيفُ وَحَصَلَ الْإِلْجَاءُ.
الثَّانِي: بَلِ الْمُرَادُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَدْفَعُونَ بِهَا الْعَذَابَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: 123] ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يُفْتَدَى بِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَالَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ أَصْلًا وَالتَّوْبَةُ فِدْيَةٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةَ الْقَبُولِ عَقْلًا أَمَّا قَوْلُهُ:
وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ عَطْفُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُنَافِقِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُنَافِقُ كَافِرًا لِوُجُوبِ حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَإِلَّا فَالْمُنَافِقُ كَافِرٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وفي لفظ المولى هاهنا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْلاكُمْ أَيْ مَصِيرُكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْلَى مَوْضِعُ الْوَلْيِ، وَهُوَ الْقُرْبُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ هِيَ مَوْضِعُكُمُ الَّذِي تَقْرُبُونَ مِنْهُ وَتَصِلُونَ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَوْلَى بِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفِرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ معنى وليس بتفسير للفظ، لأن لَوْ كَانَ مَوْلًى وَأَوْلَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، لَصَحَّ اسْتِعْمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانِ الْآخَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَوْلَى مِنْ فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا أَوْلَى مِنْ فُلَانٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هَذَا أَوْلَى فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا مَوْلَى فُلَانٍ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ لِأَنَّ الشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى لَمَّا تَمَسَّكَ بِإِمَامَةِ عَلِيٍّ،
بِقَوْلِهِ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»
قَالَ: أَحَدُ مَعَانِي مَوْلَى أَنَّهُ أَوْلَى، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنَّ مَوْلَى مَعْنَاهُ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُ إِمَّا بَيْنَ الثُّبُوتِ، كَكَوْنِهِ ابْنَ الْعَمِّ وَالنَّاصِرَ، أَوْ بَيْنَ الِانْتِفَاءِ،(29/459)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
كَالْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ، فَيَكُونُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ عَبَثًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي كَذِبًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنًى لَا تَفْسِيرٌ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:
هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ لَا مَوْلَى لَكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ النَّارُ مَوْلَاهُ فَلَا مَوْلَى لَهُ، كَمَا يُقَالُ: نَاصِرُهُ الْخِذْلَانُ وَمُعِينُهُ الْبُكَاءُ، أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعِينَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: 11] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] . ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
[في قوله تَعَالَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: (أَلَمَّا يَأْنِ) ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: أَصْلُ لَمَّا لَمْ، ثم زيد عليها ما فلم نَفْيٌ لِقَوْلِهِ أَفْعَلُ، وَلَمَّا نَفْيٌ لِقَوْلِهِ قَدْ يَفْعَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا زِيدَ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ لَا جَرَمَ زِيدَ فِي نَفْيِهِ مَا، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا رَكَّبُوا لَمْ مَعَ مَا حَدَثَ لَهَا مَعْنًى وَلَفْظٌ، أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهَا صَارَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ظَرْفًا، فَقَالُوا: لَمَّا قُمْتَ قَامَ زَيْدٌ، أَيْ وَقْتَ قِيَامِكَ قَامَ زَيْدٌ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهَا دُونَ مَجْزُومِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُ ولما، أي ولما يجيء، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: جِئْتُ وَلَمْ.
وَأَمَّا الذين قرءوا: أَلَمْ يَأْنِ فَالْمَشْهُورُ أَلَمْ يَأْنِ مِنْ أَنَى الأمر يأني إذا جاء إناء أتاه أَيْ وَقْتُهُ. وَقُرِئَ:
(أَلَمْ يَئِنْ) ، مِنْ أَنَّ يَئِينُ بِمَعْنَى أَنَى يَأْنِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَفِي قُلُوبِهِمُ النِّفَاقُ الْمُبَايِنُ لِلْخُشُوعِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا مَعَ خُشُوعِ الْقَلْبِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، / لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ لَهُ خُشُوعٌ وَخَشْيَةٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الْآيَةُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: لَعَلَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ فِيهِمْ مَزِيدُ خُشُوعٍ وَلَا رِقَّةٍ، فَحُثُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: لَعَلَّ قَوْمًا كَانَ فِيهِمْ خُشُوعٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ زَالَ مِنْهُمْ شِدَّةُ ذَلِكَ الْخُشُوعِ فَحُثُّوا عَلَى الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهَا، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَصَابُوا لِينًا فِي الْعَيْشِ وَرَفَاهِيَةً، فَفَتَرُوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَعُوتِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَبَكَوْا بُكَاءً شَدِيدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِذِكْرِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ، أَمَا حَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه، أَيْ مَوَاعِظِ اللَّه الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا الذِّكْرُ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُضَافٌ إِلَى المفعول، والمعنى لذكر هم اللَّه، أَيْ يَجِبُ أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ ذِكْرُهُ بِالْغَفْلَةِ فَلَا يَخْشَعُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (مَا) فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْعَطْفِ عَلَى الذِّكْرِ وَهُوَ مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يَعْنِي الْقُرْآنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ خَفِيفَةً، وَقَرَأَ(29/460)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
الْبَاقُونَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَما نَزَلَ، مُشَدَّدَةً، وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مُرْتَفِعَةَ النُّونِ مَكْسُورَةَ الزَّايِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه وَلِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ وَلِمَا نَزَّلَهُ اللَّه مِنَ الْحَقِّ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ وَلِمَا نُزِّلَ مِنَ الْحَقِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْوَصْفَيْنِ الذِّكْرِ وَالْمَوْعِظَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ نَازِلٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ هُوَ ذِكْرَ اللَّه مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ هُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْخُشُوعُ بِالذِّكْرِ عَلَى الْخُشُوعِ بِمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُشُوعَ وَالْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّه، فَأَمَّا حُصُولُهَا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَذَاكَ لِأَجْلِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَكُونُوا قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَعْنَاهُ: أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونُوا، قَالَ: وَلَوْ كَانَ جَزْمًا عَلَى النَّهْيِ كَانَ صَوَابًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ طُولِ الْأَمَدِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: طَالَتِ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنْ مَوَاعِظِ اللَّه وَثَالِثُهَا: طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي الْغَفْلَةِ فَحَصَلَتِ الْقَسْوَةُ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَرَابِعُهَا: قَالَ: / ابن حبان: الأمد هاهنا الْأَمَلُ الْبَعِيدُ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَيْ لَمَّا طَالَتْ آمَالُهُمْ لَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَخَامِسُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: طَالَ عَلَيْهِمْ أَمَدُ خُرُوجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَادِسُهَا: طَالَ عَهْدُهُمْ بِسَمَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَزَالَ وَقْعُهُمَا عَنْ قُلُوبِهِمْ فَلَا جَرَمَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (الْأَمَدُّ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ الْوَقْتُ الْأَطْوَلُ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ خَارِجُونَ عَنْ دِينِهِمْ رَافِضُونَ لِمَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الْخُشُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يفضي إلى الفسق في آخر الأمر. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
وفيه ووجهان الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ الَّتِي مَاتَتْ بِسَبَبِ الْقَسَاوَةِ، فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الذِّكْرِ سَبَبٌ لِعَوْدِ حَيَاةِ الْخُشُوعِ إِلَيْهَا كَمَا يُحْيِي اللَّه الْأَرْضَ بِالْغَيْثِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بَعَثَ الْأَمْوَاتَ فَذَكَرَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا فِي الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَزَجْرًا عَنِ الْقَسَاوَةِ. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 18]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِيهِمَا، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ مَعْنَى الْمُصَدِّقِ الْمُؤْمِنَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات لِأَنَّ إِقْرَاضَ اللَّه مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ للَّه وَأَقْرَضَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْوَعْدِ، فَيَصِيرُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَلَا يَصِيرُ(29/461)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
مَتْرُوكًا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ هُوَ الَّذِي يُقْرِضُ اللَّه، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ شَيْئًا وَاحِدًا وَهُوَ تَكْرَارٌ، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَحَجَّةُ مَنْ نَقَلَ وَجْهَانِ أحدهما: أن في قراءة أبي: إن المتصدقين وَالْمُتَصَدِّقَاتِ بِالتَّاءِ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالِاعْتِرَاضُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ، فَهُوَ لِلصَّدَقَةِ أَشَدُّ مُلَازَمَةً/ مِنْهُ لِلتَّصْدِيقِ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَأَقْرَضُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَلَكِنَّا نَعْطِفُهُ عَلَى الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ عَطْفَ الْفِعْلِ عَلَى الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه هاهنا؟ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ، لِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى صَدَّقُوا، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لِمَ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ لِلْمَعْهُودِ، فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ جَمَاعَةً مُعَيَّنِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ ثُمَّ قَبْلَ ذِكْرِ الْخَبَرِ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَحْسَنِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْقَرْضِ الْحَسَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ فَقَوْلُهُ: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ هُوَ الْمُسَمَّى بِحَشْوِ اللَّوْزِنْجِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... [قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانْ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ قَرَأَ: الْمُصَّدِّقِينَ بِالتَّشْدِيدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَاجِبُ أَوِ التَّطَوُّعُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّصَدُّقِ الْوَاجِبُ وَبِالْإِقْرَاضِ التَّطَوُّعُ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْقَرْضِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَذْكُورَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ فقد تقدم القول فيه.
[سورة الحديد (57) : آية 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ الْآنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصديق نعت لمن كثر منه الصدق، وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ مَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: هُمُ الصِّدِّيقُونَ أَيِ الْمُوَحِّدُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ خَاصَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُقَاتِلِينَ: أَنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ حِينَ أَتَوْهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوا سَاعَةً قَطُّ مِثْلَ آلِ يَاسِينَ، وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا فِي دِينِنَا فَهُمْ ثَمَانِيَةٌ سَبَقُوا أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ وَتَاسِعُهُمْ عُمَرُ أَلْحَقَهُ اللَّه بِهِمْ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِدْقِ نِيَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالشُّهَداءُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى وَالتَّقْدِيرُ: إن الذين(29/462)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
آمَنُوا باللَّه وَرُسُلِهِ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ وتلا هذه الآية، جذا الْقَوْلُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ كُلُّ مؤمن شهيد؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ عدول الآخرة الذي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْمِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ كَرَامَةَ رَبِّهِ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: كُلُّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ لِأَنَّهُ قَائِمٌ للَّه تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَوُجُوبِ الطَّاعَاتِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصديق نعت لمن كثر منه الصدق وجمع صِدْقًا إِلَى صِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ باللَّه تَعَالَى وَرُسُلِهِ فَصَارُوا بِذَلِكَ شُهَدَاءَ عَلَى غَيْرِهِمْ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشُّهَداءُ لَيْسَ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَلْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: الشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمَقْتُولُ، فَقَالَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونَ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونَ شَهِيدٌ» الْحَدِيثَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يدل على حقارة الدنيا وكما حال الآخرة فقال:
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْآيَةِ تَحْقِيرُ حَالِ الدُّنْيَا وَتَعْظِيمُ حَالِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: / الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُمُورٌ مُحَقَّرَةٌ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ أَوْ رِضْوَانُ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] وَلَوْلَا أَنَّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ لَمَا قَالَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ خَلْقُهُ، كَمَا قَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْعَبَثَ عَلَى مَا قَالَ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنين: 115] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ نِعْمَةٌ بَلْ هِيَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ الْمِنَّةَ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ نِعَمِهِ هُوَ الْحَيَاةُ، فَدَلَّ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ صَرَفَ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا إِلَى طَاعَةِ اللَّه بَلْ إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى، فَذَاكَ هُوَ الْمَذْمُومُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهَا بِأُمُورٍ:(29/463)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
أَوَّلُهَا: أَنَّهَا لَعِبٌ وَهُوَ فِعْلُ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُتْعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْمَتَاعِبَ تنقضي من غير فائدة وثانيها: أنها لَهْوٌ وَهُوَ فِعْلُ الشُّبَّانِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ لَا يَبْقَى إِلَّا الْحَسْرَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ بَعْدَ انْقِضَائِهِ يَرَى الْمَالَ ذَاهِبًا وَالْعُمُرَ ذَاهِبًا، وَاللَّذَّةَ مُنْقَضِيَةً، وَالنَّفْسَ ازْدَادَتْ شَوْقًا وَتَعَطُّشًا إِلَيْهِ مَعَ فِقْدَانِهَا، فَتَكُونُ الْمَضَارُّ مُجْتَمِعَةً مُتَوَالِيَةً وَثَالِثُهَا: أنها زِينَةٌ وَهَذَا دَأْبُ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الزِّينَةِ تَحْسِينُ الْقَبِيحِ، وَعِمَارَةُ الْبِنَاءِ الْمُشْرِفِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ خَرَابًا، وَالِاجْتِهَادُ فِي تَكْمِيلِ النَّاقِصِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَضِيَّ لَا يُقَاوِمُ الذَّاتِيَّ، فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةً لِذَاتِهَا، فَاسِدَةً لِذَاتِهَا، فَكَيْفَ يَتَّمَكَّنُ الْعَاقِلُ مِنْ إِزَالَةِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ يَشْتَغِلُ طُولَ حَيَاتِهِ بِطَلَبِ زِينَةِ الدُّنْيَا دُونَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ:
«حَيَاتُكَ يَا مَغْرُورُ سهو وغفلة» ورابعها: تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بِالصِّفَاتِ الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَهُوَ إِمَّا التَّفَاخُرُ بِالنَّسَبِ، أَوِ التَّفَاخُرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعَسَاكِرِ وَكُلُّهَا ذَاهِبَةٌ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَجْمَعُ الْمَالَ فِي سَخَطِ اللَّه، وَيَتَبَاهَى بِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَيَصْرِفُهُ فِي مَسَاخِطِ اللَّه، فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ بِتَبَعِيَّةِ أَصْحَابِ الدُّنْيَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ حَالَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَخْلُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى عِمَارَةِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحَيَاةِ مَثَلًا، فَقَالَ: كَمَثَلِ غَيْثٍ يَعْنِي الْمَطَرَ، ونظير قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ [الْكَهْفِ: 45] وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقَوْلُهُ: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُفَّارِ الزُّرَّاعُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلزَّارِعِ: كَافِرٌ، لِأَنَّهُ يَكْفُرُ الْبَذْرَ الَّذِي يَبْذُرُهُ بِتُرَابِ الأرض، وإذا أعجب الزراع نَبَاتُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكُفَّارُ باللَّه وَهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِزِينَةِ الدُّنْيَا وَحَرْثِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ سَعَادَةً سِوَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: نَباتُهُ أَيْ مَا نَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ، وَبَاقِي الْآيَةِ مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أَيْ لِمَنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّه وَرِضْوَانٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الدُّنْيَا بِالْحَقَارَةِ وَسُرْعَةِ الِانْقِضَاءِ، بَيَّنَ أَنَّ الْآخِرَةَ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ دَائِمٌ، وَإِمَّا رِضْوَانٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يَعْنِي لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَعْرَضَ بها من طَلَبِ الْآخِرَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ إِذَا أَلْهَتْكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا إِذَا دَعَتْكَ إِلَى طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه وطلب الآخرة فنعم الوسيلة.
[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتَكُنْ مُفَاخَرَتُكُمْ وَمُكَاثَرَتُكُمْ فِي غَيْرِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، بَلِ احْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ مُسَابَقَتُكُمْ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ثم شرح هاهنا كيفية تلك(29/464)
المسارعة، فقال: سارِعُوا مُسَارَعَةَ الْمُسَابِقِينَ لِأَقْرَانِهِمْ فِي الْمِضْمَارِ، وَقَوْلُهُ: إِلى مَغْفِرَةٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُسَارَعَةُ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى التَّوْبَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ سَابِقُوا إِلَى سَائِرِ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ لَا يُنَالَانِ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالِاشْتِغَالِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْمُسَارَعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرَاخِي مَحْظُورًا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَقَالَ: فِي آلِ عِمْرَانَ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] ، فذكروا فيه وجوها أحدها: أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ جُعِلَتْ صَفَائِحَ وَأُلْزِقَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لَكَانَتِ الْجَنَّةُ فِي عَرْضِهَا، هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَثَانِيهَا: قَالَ عَطَاءٌ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُطِيعِينَ جَنَّةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَثَالِثُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّه تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ طُولَهَا أَزْيَدُ مِنْ عَرْضِهَا، فَذَكَرَ الْعَرْضَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طُولَهَا أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِلْعِبَادَةِ بِمَا يَعْقِلُونَهُ وَيَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مِقْدَارُ السموات وَالْأَرْضِ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَخَامِسُهَا: / وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَانَ أَرْبَعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَنِ: 46] وَقَالَ: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن: 62] فالمراد هاهنا تَشْبِيهُ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ فِي الْعَرْضِ بالسموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ: لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ [الرَّعْدِ: 35] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَتِهَا بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْ لَا تَفْنَى، لَكِنَّهَا لَوْ كَانَتِ الْآنَ مَوْجُودَةً لَفَنِيَتْ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] الثَّانِي: أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ الْآنَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَرْضُهَا كعرض كل السموات، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا لَا يَصِحُّ الْمَنْعُ عَلَيْهِ، وَكَانَ حَكِيمًا لَا يَصِحُّ الْخُلْفُ فِي وعده، ثم إنه تعالى وعده عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجَنَّةِ فَكَانَتِ الْجَنَّةُ كَالْمَعِدَةِ الْمُهَيَّأَةِ لَهُمْ تَشْبِيهًا لِمَا سَيَقَعُ قَطْعًا بِالْوَاقِعِ، وَقَدْ يقول المرء لصاحبه: (أعدت لَكَ الْمُكَافَأَةَ) إِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجِدْهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ أَعَدَّهَا اللَّه تَعَالَى لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: 50] أَيْ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى الْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ عَامٌّ، وَقَوْلَهُ: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ مَعَ قَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ خَاصٌّ، وَالْخَاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ قُلْنَا: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ: «سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ»
وَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ فَوْقَ الشَّيْءِ أَعْظَمَ مِنْهُ، أَلَيْسَ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السابعة.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل، إذا ذَكَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِمَنْ آمَنَ باللَّه وَرُسُلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَ الْإِيمَانِ شَيْئًا آخَرَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ يُفِيدُ جملة(29/465)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
الطَّاعَاتِ بِحُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ لَفْظَ الْإِيمَانِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ الْبَاءِ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَفْهُومِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ التَّصْدِيقُ، فَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّ الْجَنَّةَ فَضْلٌ لَا مُعَامَلَةٌ، فَهُوَ يُؤْتِيهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ سَوَاءٌ أَطَاعَ أَوْ عَصَى، فَإِنْ قِيلَ:
فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقْطَعُوا بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَأَنْ تَقْطَعُوا بِأَنَّهُ لَا عِقَابَ لَهُمْ؟ قُلْنَا: نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْجَنَّةِ لَهُمْ، وَلَا نَقْطَعُ بِنَفْيِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا مُدَّةً ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَبَقُوا فِيهَا أَبَدَ الْآبَادِ، فَقَدْ كَانَتِ الْجَنَّةُ مُعَدَّةً لَهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرْتَدُّ قَدْ آمَنُ باللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الْآيَةِ قُلْتُ: خُصَّ مِنَ الْعُمُومِ، فَيَبْقَى العموم حجة فيما عداه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ زَعَمَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْكَعْبِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوِ امْتَنَعَ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنَّةِ مُسْتَحَقَّةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا فَضْلًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا إِذَا صَحَّ اجْتِمَاعُ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مَعَهَا مِنْ كَسْبِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَمَّا كَانَ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِمَا يُكْسِبُ أَسْبَابَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ مُتَفَضِّلًا بِهَا، قَالَ: وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لا بد وأن يكون مشروطا بمن يَسْتَحِقُّهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ مَعْنًى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِأَسْبَابِ ذَلِكَ الْكَسْبِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلًا بِنَفْسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ مَنْ وُهِبَ مِنْ إِنْسَانٍ كَاغِدًا وَدَوَاةً وَقَلَمًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَتَبَ بِذَلِكَ الْمِدَادِ عَلَى ذَلِكَ الْكَاغِدِ مُصْحَفًا وَبَاعَهُ مِنَ الْوَاهِبِ، لَا يُقَالُ: إِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ الثَّمَنِ تَفْضِيلٌ، بَلْ يُقَالُ: إنه مستحق، فكذا هاهنا، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مَعْنًى، فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا استدلال عَجِيبٌ، لِأَنَّ لِلْمُتَفَضِّلِ أَنْ يَشْرُطَ فِي تَفَضُّلِهِ أَيَّ شَرْطٍ شَاءَ، وَيَقُولُ: لَا أَتَفَضَّلُ إِلَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَالِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إِذَا أَعْطَى عَطَاءً مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَثْنَى بِسَبَبِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وأن يكون ذلك العطاء عظيما.
[سورة الحديد (57) : آية 22]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ] قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ [الحديد: 21] بَيَّنَ أَنَّ الْمُؤَدِّيَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، فَقَالَ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ وَالْمَعْنَى لَا تُوجَدُ مُصِيبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَائِبِ إِلَّا وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ قَحْطُ الْمَطَرِ، وَقِلَّةُ النَّبَاتِ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ، وَغَلَاءُ الْأَسْعَارِ، وَتَتَابُعُ الْجُوعِ، وَالْمُصِيبَةُ فِي الْأَنْفُسِ فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا هِيَ: الْأَمْرَاضُ، وَالْفَقْرُ، وَذَهَابُ الْأَوْلَادِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْخَيْرَ/ وَالشَّرَّ أَجْمَعَ لقوله بعد ذلك: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الْحَدِيدِ: 23] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا فِي كِتابٍ يَعْنِي مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وفيه مسائل:(29/466)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَإِنَّمَا كَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَثَانِيهَا: لِيَعْرِفُوا حِكْمَةَ اللَّه فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَثَالِثُهَا: لِيَحْذَرُوا من أمثال تلك المعاصي ورابعها: ليشركوا اللَّه تَعَالَى عَلَى تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُدَبِّرَاتُ أَمْرًا، وَهُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا، إِنَّمَا هِيَ الْمَبَادِئُ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَاتِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، فَتَصَوُّرَاتُهَا لِانْسِيَاقِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا فِي كِتابٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا خِلَافًا لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَتَبَهَا فِي الْكِتَابِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَجَاءَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْكِتَابِ عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا بِأَسْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَصَائِبِ الْأَنْفُسِ فَيَدْخُلُ فِيهَا كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ بِتَفَاصِيلِهَا مَكْتُوبَةٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمُثْبَتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مُحَالًا، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه بِوُجُودِهَا مُنَافٍ لِعَدَمِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ مُحَالٌ، فَلَمَّا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا، وَهَذَا الْعِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوَالِ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدَمِهَا وَبَيْنَ عِلْمِ اللَّه بِوُجُودِهَا مُحَالًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ مَكْتُوبَةٌ فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِثْبَاتُهَا فِي الْكِتَابِ مُحَالٌ، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالْأَرْضِ والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات، وَأَيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَصَائِبِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ لَا بِسَعَادَاتِ الْأَرْضِ وَالْأَنْفُسِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الرُّمُوزِ إِشَارَاتٌ وَأَسْرَارٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ هَذِهِ الْمَصَائِبَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ الْأَنْفُسُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْأَرْضِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّهَا لِظُهُورِهَا يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [يوسف: 2] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ حِفْظَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه هَيِّنٌ، وَالثَّانِي: إِنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكِتَابِ يَسِيرٌ عَلَى اللَّه وَإِنْ كَانَ عَسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: 11] . / ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 23]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ اللَّامُ تُفِيدُ جَعْلَ أَوَّلِ الْكَلَامِ سَبَبًا لِآخِرِهِ، كَمَا تَقُولُ: قُمْتُ لِأَضْرِبَكَ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقِيَامَ سَبَبٌ للضرب، وهاهنا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ إِخْبَارَ اللَّه عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَاقِعَةً بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَمُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَشْتَدَّ فَرَحُ الْإِنْسَانِ بِمَا وَقَعَ، وَأَنْ لَا يَشْتَدَّ حُزْنُهُ بِمَا لَمْ يَقَعْ، وهذا(29/467)
هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ»
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ وُقُوعَ كُلِّ مَا وَقَعَ وَاجِبٌ، وَعَدَمُ كُلِّ مَا لَمْ يَقَعْ وَاجِبٌ أَيْضًا لِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا ثَانِيهَا: أَنَّ اللَّه أَرَادَ وُقُوعَهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعِ انْقَلَبَتِ الْإِرَادَةُ تَمَنِّيًا ثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَلَّقَتْ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى بِإِيقَاعِهِ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ عَجْزًا، رَابِعُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَمَ بِوُقُوعِهِ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لَانْقَلَبَ ذَلِكَ الْخَبَرُ الصِّدْقُ كذبا، فإن هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَتَغَيَّرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى النَّقْصِ، وَمِنْ قِدَمِهَا إِلَى الْحُدُوثِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِذَلِكَ الْوُقُوعِ، وَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْغَمُّ وَالْحُزْنُ، عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمِحَنُ وَالْمَصَائِبُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَبْ أَنَّهُمْ يُنَازِعُونَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوَافِقُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجَبْرُ لَازِمًا فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ الْجَبْرُ بِسَبَبِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْزَمَ بِسَبَبِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعِ، وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ فَالْجَبْرُ مَذْهَبُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَبَطُوا حُدُوثَ الْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِالتَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، ثُمَّ رَبَطُوا تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ بِالْأَدْوَارِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي لَهَا مَنَاهِجُ مُقَدَّرَةٌ، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ مَا يُخَالِفُهَا، وَأَمَّا الدَّهْرِيَّةُ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ فَهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ اتِّفَاقِيٌّ، وَإِذَا كَانَ اتِّفَاقِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارِيًّا، فَيَكُونُ الْجَبْرُ لَازِمًا، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ فِرَقِ الْعُقَلَاءِ، سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ أَوْ أَنْكَرُوهُ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ اسْتِدْلَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي كون العيد مُتَمَكِّنًا مُخْتَارًا، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِكَوْنِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ مُثْبَتَةً فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ أَنْ يَحْتَرِزُوا عَنِ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَمَا بَقِيَ لِهَذِهِ اللَّامِ فَائِدَةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تعالى لا يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ الْحُزْنُ وَالْفَرَحُ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى/ أَرَادَ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ سَوَاءٌ، فَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ: إِنَّ كُلَّ وَاقِعٍ فَهُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى أدخل لام التعليل على فعله بقوله:
لِكَيْلا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْغَرَضِ، وَأَقُولُ: الْعَاقِلُ يَتَعَجَّبُ جِدًّا مِنْ كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَتَعَلُّقِ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ بِأَكْثَرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ: بِمَا أَتَاكُمْ قَصْرًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: آتاكُمْ مَمْدُودًا، حُجَّةُ أَبِي عَمْرٍو أَنَّ: أَتَاكُمْ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: فاتَكُمْ فَكَمَا أَنَّ الْفِعْلَ لِلْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: فاتَكُمْ كذلك يكون الفعل للآني فِي قَوْلِهِ: بِما آتاكُمْ وَالْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ الذِّكْرُ الْمَرْفُوعُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّهُ إِذَا مُدَّ كَانَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ الْمُعْطِي لِذَلِكَ، وَيَكُونُ فَاعِلُ الْفِعْلِ فِي: آتاكُمْ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْهَاءُ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الصِّلَةِ تَقْدِيرُهُ بِمَا آتَاكُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ المبرد: ليس المراد من قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ نَفْيَ الْأَسَى وَالْفَرَحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مَعْنَاهُ لَا تَحْزَنُوا حُزْنًا يُخْرِجُكُمْ إِلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَعْتَدُّوا بِثَوَابٍ عَلَى فَوَاتِ ما سلب منكم، ولا تفرحوا فرحا شديد يُطْغِيكُمْ حَتَّى تَأْشَرُوا فِيهِ وَتَبْطُرُوا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ ذَمَّ الْفَرَحَ الَّذِي يَخْتَالُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيَبْطُرُ، وَأَمَّا الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللَّه(29/468)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا فَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى مَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِلْمُصِيبَةِ صَبْرًا وَلِلْخَيْرِ شُكْرًا. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ فَقَالَ: الْمَحَبَّةُ إِرَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ إِرَادَةُ الثَّوَابِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذِهِ الْإِرَادَةِ نَفْيُ مطلق الإرادة. ثم قال تعالى:
[سورة الحديد (57) : آية 24]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُحِبُّ الْمُخْتَالَ وَلَا يُحِبُّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الْفَرَحَ الْمُطْغِي فَإِذَا رُزِقُوا مَالًا وَحَظًّا مِنَ الدُّنْيَا فَلِحُبِّهِمْ لَهُ وَعِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ يَبْخَلُونَ بِهِ وَلَا يَكْفِيهِمْ أَنَّهُمْ بَخِلُوا بِهِ بَلْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ فَرَحِهِمْ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَنْ يَتَوَلَّ عَنْ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنَ الْأَسَى عَلَى الْفَائِتِ وَالْفَرِحِ بِالْآتِي فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنْهُ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: / الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ له بما قبله، وهو في صفة اليهود الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم ويخلوا بِبَيَانِ نَعْتِهِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَحَذْفُ الْخَبَرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: 31] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ فَإِنَّ اللَّه الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَحَذَفُوا لَفْظَ هُوَ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْبَغِي أَنَّ هُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَصْلًا لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّ الْفَصْلَ حَذْفُهُ أَسْهَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لِلْفَصْلِ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقَدْ يُحْذَفُ فلا يخل بالمعنى كقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً [الْكَهْفِ: 39] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه غَنِيٌّ فَلَا يَعُودُ ضَرَرٌ عَلَيْهِ بِبُخْلِ ذَلِكَ الْبَخِيلِ، وَقَوْلُهُ: الْحَمِيدُ كَأَنَّهُ جواب عن السؤال يذكر هاهنا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّهُ يَبْخَلُ بِذَلِكَ الْمَالِ وَلَا يَصْرِفُهُ إِلَى وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، فَلِمَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْمَالَ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَمِيدٌ فِي ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ حَيْثُ فَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، فَإِنْ قَصَّرَ الْعَبْدُ فِي الطَّاعَةِ فَإِنَّ وَبَالَهُ عَائِدٌ إليه.
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيِّنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظَّاهِرَةُ وَالدَّلَائِلُ الْقَاهِرَةُ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّه وَإِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّه، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُمْ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.(29/469)
وَاعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشُّورَى: 17] وَقَالَ:
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ [الرحمن: 7] وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ وَالثَّانِي: تَرْكُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ لَوْ كَانَ هُوَ التَّرْكُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُخْلَقَ أَحَدٌ، لَأَنَّ التَّرْكَ كَانَ حَاصِلًا فِي الْأَزَلِ، وَأَمَّا فِعْلُ مَا يَنْبَغِي فعله، فإما أن يكون متعلقا بالنفس، وَهُوَ الْمَعَارِفُ، أَوْ بِالْبَدَنِ وَهُوَ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، فَالْكِتَابُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ/ الْأَفْعَالِ النَّفْسَانِيَّةِ، لِأَنْ يَتَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى فِعْلِ مَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ هُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ العدل عن الظلم والزائد عن الناقض، وأما الجديد فَفِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ زَاجِرٌ لِلْخَلْقِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْمِيزَانَ إِلَى الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَالْحَدِيدَ إلى دفع مالا يَنْبَغِي، وَلَمَّا كَانَ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الرُّوحَانِيَّةِ، ثُمَّ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ الْجُسْمَانِيَّةِ، ثُمَّ الزَّجْرَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، رُوعِيَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: الْمُعَامَلَةُ إِمَّا مَعَ الْخَالِقِ وَطَرِيقُهَا الْكِتَابُ أَوْ مَعَ الْخَلْقِ وَهُمْ: إِمَّا الْأَحْبَابُ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَهِيَ بِالْمِيزَانِ، أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَالْمُعَامَلَةُ مَعَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْحَدِيدِ وَثَالِثُهَا: الْأَقْوَامُ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا السَّابِقُونَ وَهُمْ يُعَامِلُونَ الْخَلْقَ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ، فَيُنْصِفُونَ وَلَا يَنْتَصِفُونَ، وَيَحْتَرِزُونَ عَنْ مَوَاقِعِ الشُّبُهَاتِ، وَإِمَّا مُقْتَصِدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ وَيَنْتَصِفُونَ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْمِيزَانِ، وَإِمَّا ظَالِمُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَنْتَصِفُونَ وَلَا يُنْصِفُونَ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالزَّجْرِ وَرَابِعُهَا: الْإِنْسَانُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَمَقَامُ الْمُقَرَّبِينَ، فَهَهُنَا لَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّه، كَمَا قَالَ: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الطَّرِيقَةِ وَهُوَ مَقَامُ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَمَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمِيزَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَخْلَاقِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَيَبْقَى عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَقَامِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَقَامُ النفس الأمارة، وهاهنا لا بد له من هاهنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضيات الشَّاقَّةِ وَخَامِسُهَا: الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْمُكَاشَفَةِ وَالْوُصُولِ فَلَا أُنْسَ لَهُ إِلَّا بِالْكِتَابِ، أَوْ صَاحِبَ الطَّلَبِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مِيزَانِ الدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ أَوْ صَاحِبَ الْعِنَادِ وَاللِّجَاجِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ بِالْحَدِيدِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الدِّينَ هُوَ إِمَّا الْأُصُولُ وَإِمَّا الْفُرُوعُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِمَّا الْمَعَارِفُ وَإِمَّا الْأَعْمَالُ، فَالْأُصُولُ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ: فَالْمَقْصُودُ الْأَفْعَالُ الَّتِي فِيهَا عَدْلُهُمْ وَمَصْلَحَتُهُمْ وَذَلِكَ بِالْمِيزَانِ فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى رِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَالْحَدِيدُ لِتَأْدِيبِ مَنْ تَرَكَ ذَيْنِكَ الطَّرِيقَيْنِ وَسَابِعُهَا:
الْكِتَابُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَ اللَّه فِي كِتَابِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَالْمِيزَانُ إِشَارَةٌ إِلَى حَمْلِ النَّاسِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَهُوَ شَأْنُ الْمُلُوكِ، وَالْحَدِيدُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَمَرَّدُوا لَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْكِتَابِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَرْتَبَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ السَّيْفِ، وَوُجُوهُ الْمُنَاسَبَاتِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى الْبَاقِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي: إِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَإِنْزَالِ الْحَدِيدِ، قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا مِنَ السَّمَاءِ،
رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بالميزان فدفعه إلى نوح، وقال: مرقومك يَزِنُوا بِهِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(29/470)
نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَدِيدِ السَّنَدَانُ وَالْكَلْبَتَانُ/ وَالْمِقْمَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ، والمعمقة مَا يُحَدَّدُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا
رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ: أَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ» .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْإِنْزَالِ الْإِنْشَاءُ وَالتَّهْيِئَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزُّمَرِ: 6] قَالَ قطرب: أَنْزَلْناها [النور: 1] أَيْ هَيَّأْنَاهَا مِنَ النُّزُلِ، يُقَالُ: أُنْزِلَ الْأَمِيرُ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا، وَأَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذُكِرَ فِي مَنَافِعِ الْمِيزَانِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ وَالْإِقْسَاطُ هُوَ الْإِنْصَافُ وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِكَ كَمَا تَأْخُذُ قِسْطَ نَفْسِكَ، وَالْعَادِلُ مُقْسِطٌ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] والقاسط الجائر قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] وَأَمَّا الْحَدِيدُ فَفِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ فَإِنَّ آلَاتِ الْحُرُوبِ مُتَّخَذَةٌ مِنْهُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 80] وَمِنْهَا أَنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ، إِمَّا أُصُولٌ، وَإِمَّا فُرُوعٌ، أَمَّا الْأُصُولُ فَأَرْبَعَةٌ: الزِّرَاعَةُ وَالْحِيَاكَةُ وَبِنَاءُ الْبُيُوتِ وَالسَّلْطَنَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُضْطَرٌّ إِلَى طَعَامٍ يَأْكُلُهُ وَثَوْبٍ يَلْبَسُهُ وَبِنَاءٍ يَجْلِسُ فِيهِ، وَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إِلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ جَمْعٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ يَشْتَغِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُهِمٍّ خَاصٍّ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ مِنَ الْكُلِّ مَصَالِحُ الْكُلِّ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَدْفَعُ ضَرَرَ الْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ هُوَ السُّلْطَانُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَنْتَظِمُ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ إِلَّا بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ، أَمَّا الزِّرَاعَةُ فَمُحْتَاجَةٌ إِلَى الْحَدِيدِ، وَذَلِكَ فِي كُرَبِ الْأَرَاضِي وَحَفْرِهَا، ثُمَّ عِنْدَ تَكَوُّنِ هَذِهِ الْحُبُوبِ وَتَوَلُّدِهَا لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ الْحُبُوبُ لَا بُدَّ مِنْ طَحْنِهَا وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ خَبْزِهَا وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالنَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْمِقْدَحَةِ الْحَدِيدِيَّةِ، وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْظِيفِهَا عَنْ قُشُورِهَا، وَقَطْعِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُوَافِقَةِ لِلْأَكْلِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْحِيَاكَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي آلَاتِ الْحِيَاكَةِ إِلَى الْحَدِيدِ ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي قَطْعِ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا إِلَى الْحَدِيدِ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَمَالَ الْحَالِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَأَمَّا أَسْبَابُ السَّلْطَنَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَتِمُّ وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَكْثَرَ مَصَالِحِ الْعَالَمِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْحَدِيدِ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الذَّهَبَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْحَدِيدِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الذَّهَبُ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الْحَدِيدُ لَاخْتَلَّ جَمِيعُ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيدَ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ شَدِيدَةً، جَعَلَهُ سَهْلَ الْوِجْدَانِ، كَثِيرَ الْوُجُودِ، وَالذَّهَبُ لَمَّا قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ جَعَلَهُ عَزِيزَ الْوُجُودِ، وعند هذا يظهر أثر وجود اللَّه تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ عَلَى عَبِيدِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا كَانَتْ حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ، جَعَلَ وِجْدَانَهُ أَسْهَلَ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إِنَّ أَعْظَمَ الْأُمُورِ حَاجَةً إِلَيْهِ هُوَ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ لَوِ انْقَطَعَ وُصُولُهُ إِلَى الْقَلْبِ لَحْظَةً لَمَاتَ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُ اللَّه أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، وَهَيَّأَ أَسْبَابَ التَّنَفُّسِ وَآلَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَنَفَّسُ دَائِمًا بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ مِنْ غَيْرِ/ حَاجَةٍ فِيهِ إِلَى تَكَلُّفِ عَمَلٍ، وَبَعْدَ الْهَوَاءِ الْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْهَوَاءِ جَعَلَ تَحْصِيلَ الْمَاءِ أَشَقَّ قَلِيلًا مِنْ تَحْصِيلِ الْهَوَاءِ، وَبَعْدَ الْمَاءِ الطَّعَامُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الطَّعَامِ أَقَلَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَاءِ، جَعَلَ تَحْصِيلَ الطَّعَامِ أَشَقَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَاءِ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ الْأَطْعِمَةُ فِي دَرَجَاتِ الْحَاجَةِ وَالْعِزَّةِ فَكُلُّ مَا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَشَدَّ، كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَكُلُّ مَا كَانَ(29/471)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
وِجْدَانُهُ أَعْسَرَ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَقَلَّ، وَالْجَوَاهِرُ لَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا قَلِيلَةً جِدًّا، لَا جَرَمَ كَانَتْ عَزِيزَةً جِدًّا، فَعَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ وِجْدَانُهُ أَسْهَلَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَشَدَّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فَنَرْجُو مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا أَسْهَلَ الْأَشْيَاءِ وِجْدَانًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
سُبْحَانَ مَنْ خَصَّ الْعَزِيزَ بِعِزِّهِ ... وَالنَّاسُ مُسْتَغْنُونَ عَنْ أَجْنَاسِهِ
وَأَذَلَّ أَنْفَاسَ الْهَوَاءِ وَكُلُّ ذِي ... نَفْسٍ فَمُحْتَاجٌ إِلَى أَنْفَاسِهِ
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ اللَّه مَنْ يَنْصُرُهُ، أَيْ يَنْصُرُ دِينَهُ، وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ بِاسْتِعْمَالِ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَسَائِرِ السِّلَاحِ فِي مُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ بِالْغَيْبِ أَيْ غَائِبًا عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْصُرُونَهُ وَلَا يُبْصِرُونَهُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [مُحَمَّدٍ: 7] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِتَقَعَ نُصْرَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَمُرَادُهُ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَأَنْ يَنْصُرُوا الرَّسُولَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُرَادُهُ مِنَ الْكُلِّ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُ الْمُجْبِرَةِ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ جَوَابُهُ: أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ مِنَ الْكُلِّ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ ضِدَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَأَنَّ الْمُحَالَ غَيْرُ مُرَادٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَتِ النُّصْرَةُ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، كَمَا يَقَعُ مِنْ مُنَافِقٍ أَوْ مِمَّنْ مُرَادُهُ الْمَنَافِعُ فِي الدُّنْيَا، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ النُّصْرَةُ بِالْغَيْبِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ تَقَعَ عَنْ إِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَوِيٌّ عَلَى الْأُمُورِ عَزِيزٌ لَا يمانع.
[سورة الحديد (57) : آية 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْمِيزَانَ وَالْحَدِيدَ، وَأَمَرَ الْخَلْقَ بِأَنْ/ يَقُومُوا بِنُصْرَتِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَّفَ نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمَا جَاءَ بَعْدَهُمَا أَحَدٌ بِالنُّبُوَّةِ إِلَّا وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النُّبُوَّةَ عَلَى الْكِتَابِ، لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ النَّبِيِّ أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ الْكِتَابِ وَالشَّرْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَيْ فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ أَوْ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْإِرْسَالِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَمِنْهُمْ فَاسِقٌ، وَالْغَلَبَةُ لِلْفُسَّاقِ، وفي الفاسق هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى مَنْ لَا يَكُونُ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ(29/472)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
مرتكبا للكبيرة، والثاني: أن المراد بالفاسق هاهنا الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْفُسَّاقَ بِالضِّدِّ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَبِلَ الدِّينَ وَاهْتَدَى، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَهْتَدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي عَصَى قَدْ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى وَجْهِ رُشْدِهِ وَدِينِهِ.
[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ.
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى قَفَّاهُ أَتْبَعَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ بَعْضَهُمْ بَعْدَ بَعْضٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى أَيَّامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُمْ وَآتَاهُ الْإِنْجِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ جِنِّي قَرَأَ الْحَسَنُ: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِثَالٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، لِأَنَّ أَفْعِيلَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ نَجَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَالتَّوْرَاةُ فَوْعَلَةٌ مِنْ وَرَى الزَّنْدُ يَرَى إِذَا أَخْرَجَ النَّارَ، وَمِثْلُهُ الْفُرْقَانُ وَهُوَ فُعْلَانٌ مِنْ فَرَّقْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ مَا قَرَأَهُ إِلَّا عَنْ سَمَاعٍ وَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَاذٌّ كَمَا حَكَى بَعْضُهُمْ فِي الْبَرْطِيلِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ ظَنَّ الْإِنْجِيلَ أَعْجَمِيًّا فَحَرَّفَ مِثَالَهُ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقٌ للَّه تَعَالَى وَكَسْبٌ لِلْعَبْدِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَجْعُولَةٌ للَّه تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِهِمْ حَتَّى قَوِيَتْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى الرَّهْبَانِيَّةِ، الَّتِي هِيَ تَحَمُّلُ الْكُلْفَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ يُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِوَاءِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الرُّجْحَانِ وَإِلَّا فَقَدَ حَصَلَ الرُّجْحَانُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاقِضٌ، وَإِذَا كَانَ الْحُصُولُ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ مُمْتَنِعًا، كَانَ عِنْدَ الْمَرْجُوحِيَّةِ أَوْلَى أَنْ يَصِيرَ مُمْتَنِعًا، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَرْجُوحُ وَجَبَ الرَّاجِحُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَادِّينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، كَمَا وَصَفَ اللَّه أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ (رَآفَةً) عَلَى فَعَالَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّهْبَانِيَّةُ مَعْنَاهَا الْفِعْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ الْخَائِفُ فَعْلَانٌ مِنْ رَهَبَ، كَخَشْيَانَ مِنْ خَشِيَ، وَقُرِئَ: (وَرُهْبَانِيَّةً) بِالضَّمِّ كَأَنَّهَا نِسْبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ تَرْهُّبُهُمْ فِي الْجِبَالِ فَارِّينَ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، مُخْلِصِينَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعِبَادَةِ وَمُتَحَمِّلِينَ كُلَفًا زَائِدَةً عَلَى(29/473)
الْعِبَادَاتِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَلْوَةِ وَاللِّبَاسِ الْخَشِنِ، وَالِاعْتِزَالِ عَنِ النِّسَاءِ وَالتَّعَبُّدِ فِي الْغِيرَانِ وَالْكُهُوفِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي أَيَّامِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ غَيَّرَ الْمُلُوكُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَسَاحَ قَوْمٌ فِي الْأَرْضِ وَلَبِسُوا الصُّوفَ،
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا سَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ آمَنَتْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَاتَلُوا أَعْدَاءَ اللَّه فِي نُصْرَتِهِ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْقِتَالِ، فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَاقَةٌ بِالْأَمْرَيْنِ، فلبس الْعَبَاءَ، وَخَرَجُوا إِلَى الْقِفَارِ وَالْفَيَافِي وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ» .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَعْنِ اللَّه تَعَالَى بِابْتَدَعُوهَا طَرِيقَةَ الذَّمِّ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَذَرُوهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: رَهْبانِيَّةً مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّهْبَانِيَّةُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى جَعَلْنا، لِأَنَّ مَا يَبْتَدِعُونَهُ هُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْعُولًا للَّه تَعَالَى، وَأَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ امْتِنَاعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِأَبِي عَلِيٍّ أَنْ يَخُوضَ فِي أمثال هذه الأشياء.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أَيْ لَمْ نَفْرِضْهَا نَحْنُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. أَيْ وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّا مَا تَعَبَّدْنَاهُمْ بِهَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، دَفْعُ الْعِقَابِ وَتَحْصِيلُ رِضَا اللَّه، أَمَّا الْمَنْدُوبُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ فِعْلِهِ دَفْعُ الْعِقَابِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ لَيْسَ إِلَّا تَحْصِيلَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهَا التَّثْلِيثَ وَالِاتِّحَادَ، وَأَقَامَ أُنَاسٌ مِنْهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، وَثَانِيهَا: أَنَّا مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةَ إِلَّا لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ لَكِنْ لَا لِهَذَا الْوَجْهِ، بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ طَلَبُ الدُّنْيَا وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّا لَمَّا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ تَرَكُوهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَمًّا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَرَكُوا الْوَاجِبَ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا هُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ يَعْنِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ»
وَخَامِسُهَا: أَنَّ الصَّالِحِينَ مِنْ قَوْمِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَانْقَرَضُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي اللِّسَانِ، وَمَا كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَهُمُ الَّذِينَ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يَرْعَوْهَا كَمَا رَعَاهَا الْحَوَارِيُّونَ، ثُمَّ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَامَ بِرِعَايَتِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَظْهَرَ الْفِسْقَ وَتَرَكَ تِلْكَ الطريقة ظاهرا وباطنا.(29/474)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الحديد (57) : آية 28]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَيْ مِنْ قوم عيسى: أَجْرَهُمْ [الحديد:
27] قال في هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّه وَيُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أَيْ نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ لِإِيمَانِكُمْ أَوَّلًا بِعِيسَى، وَثَانِيًا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [الْقَصَصِ: 54] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ جَاءُوا مِنَ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ وَأَسْلَمُوا فَجَعَلَ اللَّه لهم أجرين، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْكِفْلُ فِي اللُّغَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْمُؤَرِّجُ: الْكِفْلُ النَّصِيبُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ هَذِهِ لُغَةُ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْكِفْلُ كِسَاءٌ يُدِيرُهُ الرَّاكِبُ حول السنام حتى يتمكن من العقود عَلَى الْبَعِيرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمْ كِفْلَيْنِ وَأَعْطَى الْمُؤْمِنِينَ كِفْلًا وَاحِدًا كَانَ حَالُهُمْ أَعْظَمَ وَالْجَوَابُ:
رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْوَاحِدُ أَزْيَدَ قَدْرًا مِنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا قُسِّمَ بِنِصْفَيْنِ كَانَ الْكِفْلُ الْوَاحِدُ نِصْفًا، وَإِذَا قسم بمائة قسم كان الكفل الواحد جزء مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ، فَالنَّصِيبُ الْوَاحِدُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْ عِشْرِينَ نَصِيبًا مِنَ الْقِسْمَةِ الثانية، فكذا هاهنا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَهُوَ النُّورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيدِ: 12] وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ هذه الآية مُشْكِلَةٌ وَلَيْسَ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا كَلَامٌ وَاضِحٌ فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا.
وَاعْلَمْ أن أكثر المفسرين على أن (لا) هاهنا صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَجَمْعٌ آخَرُونَ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ ليس بِزَائِدَةٍ، وَنَحْنُ نُفَسِّرُ الْآيَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ زَائِدَةٌ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بد هاهنا مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ فِينَا، وَالْكِتَابُ وَالشَّرْعُ لَيْسَ إِلَّا لَنَا، واللَّه تَعَالَى خَصَّنَا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وعدهم/ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ أَتْبَعَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِمُ اعْتِقَادَهُمْ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ وَغَيْرُ حَاصِلَةٍ إِلَّا فِي قَوْمِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا بَالَغْنَا فِي هَذَا الْبَيَانِ، وَأَطْنَبْنَا فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَخْصِيصِ فَضْلِ اللَّه بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ حَصْرُ الرسالة(29/475)
وَالنُّبُوَّةِ فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (لَا) غَيْرُ زَائِدَةٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَقْدِرُونَ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّه، وَأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِنَّا فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا لِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى حَصْرِ فَضْلِ اللَّه وَإِحْسَانِهِ فِي أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ، وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّا أَضْمَرْنَا فِيهِ زِيَادَةً، فَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَقْدِيرُ وَلِيَعْتَقِدُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَدِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَذْفِ شَيْءٍ مُوجَدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِضْمَارَ أَوْلَى مِنَ الْحَذْفِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْإِضْمَارِ لَمْ يُوهِمْ ظَاهِرُهُ بَاطِلًا أَصْلًا، أَمَّا إِذَا افْتَقَرَ إِلَى الْحَذْفِ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوهِمًا لِلْبَاطِلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قُرِئَ: (لِكَيْ يَعْلَمَ) ، وَ (لِكَيْلَا يَعْلَمَ) ، وَ (لِيَعْلَمَ) ، وَ (لِأَنْ يَعْلَمَ) ، بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جِنِّي فِي «الْمُحْتَسَبِ» عَنْ قُطْرُبٍ: أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: (لِيلَا) ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَحَكَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْهُ لَيْلَا بِفَتْحِ اللَّامِ وَجَزْمِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمَا ذَكَرَ قُطْرُبٌ أَقْرَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا حُذِفَتْ بَقِيَ لنلا فيجب إدغام النون فِي اللَّامِ فَيَصِيرُ لِلَّا فَتَجْتَمِعُ اللَّامَاتُ فَتَجْعَلُ الْوُسْطَى لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا يَاءً فَيَصِيرُ لِيلَا، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ لَامَ الْجَرِّ إِذَا أَضَفْتَهُ إِلَى الْمُضْمَرِ فَتَحْتَهُ تَقُولُ لَهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَاسَ الْمُظْهَرَ عَلَيْهِ، حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إِبْرَاهِيمَ: 46] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَيْ فِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَالْيَدُ مِثْلُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْعَظِيمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ عَظِيمًا، وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُبُوَّتِهِ وَشَرْعِهِ وَكِتَابِهِ، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.(29/476)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
بسم الله الرحمن الرّحيم
سورة المجادلة
وهي عشرون وآيتان مدنية
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ امْرَأَةَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَآهَا زَوْجُهَا وَهِيَ تُصَلِّي، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، وَكَانَ بِالرَّجُلِ لَمَمٌ، فَلَمَّا سَلَّمَتْ رَاوَدَهَا، فَأَبَتْ، فَغَضِبَ، وَكَانَ بِهِ خِفَّةٌ فَظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فيَّ، فَلَمَّا خَلَا سِنِّي وَكَثُرَ وَلَدِي جَعَلَنِي كَأُمِّهِ، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، ثم هاهنا رِوَايَتَانِ: يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «مَا عِنْدِي فِي أَمْرِكِ شَيْءٌ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَقَالَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَكُلَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» هَتَفَتْ وَشَكَتْ إِلَى اللَّه، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ تَرَبَّدَ وَجْهُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْسَلَ إِلَى زَوْجِهَا، وَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ فَهَلْ مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الْعِتْقَ؟ فَقَالَ: لَا واللَّه، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي آكُلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لكلَّ بَصَرِي وَلَظَنَنْتُ أَنِّي أَمُوتُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ: لَا واللَّه يَا رَسُولَ اللَّه إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِصَدَقَةٍ، فَأَعَانَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَأَخْرَجَ أَوْسٌ مِنْ عِنْدِهِ مِثْلَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا»
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَبَاحِثَ:
الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ: (وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ) ، الْخَبَلَ وَالْجُنُونَ إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ ذَلِكَ ثُمَّ ظَاهَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، بَلْ مَعْنَى اللَّمَمِ هُنَا: الْإِلْمَامُ بِالنِّسَاءِ، وَشِدَّةُ الْحِرْصِ، وَالتَّوَقَانُ إِلَيْهِنَّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ طَلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ فِي التَّحْرِيمِ أَوْكَدُ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ صَارَ مُقَرَّرًا بِالشَّرْعِ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُعَدَّ نَسْخًا، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّرَائِعِ لَا فِي عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ»
أَوْ
قَالَ: «مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ»
كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.(29/477)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي مُهِمِّهِ أَحَدٌ سِوَى الْخَالِقِ كَفَاهُ اللَّه ذَلِكَ الْمُهِمَّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: قَدْ مَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه وَالْمُجَادِلَةَ كَانَا يَتَوَقَّعَانِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّه مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنَزِّلَ فِي ذَلِكَ مَا يُفَرِّجُ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ حَمْزَةُ يُدْغِمُ الدَّالَ فِي السِّينِ مِنْ: قَدْ سَمِعَ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا: الْمُجَادَلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ تُجَادِلُكَ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا، وَتِلْكَ الْمُجَادَلَةُ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» قَالَتْ: واللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا
وَثَانِيهِمَا:
شَكْوَاهَا إِلَى اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَقَوْلُهَا: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ:
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، مِنْ حَارَ الشَّيْءُ يَحُورُ حَوْرًا، أَيْ رَجَعَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَمِنْهَا نَعُوذُ باللَّه مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنْهُ فَمَا أَحَارَ بِكَلِمَةٍ، أَيْ فَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَيْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ فيه بحثان:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْمُظَاهِرَ مَنْ هُوَ؟ وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا مَنْ هِيَ؟.
أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ فَفِيهِ مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» ، أَنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ عُضْوٌ مِنَ الْجَسَدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الظَّهْرُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْمُبَاضَعَةِ، والتلذذ، بل الظهر هاهنا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْفِ: 97] أَيْ يَعْلُوهُ، وَكُلُّ مَنْ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ ظَهَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرْكُوبُ ظَهْرًا، لِأَنَّ رَاكِبَهُ يَعْلُوهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ظَهْرُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرِ، فَكَأَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ مَرْكَبٌ لِلرَّجُلِ وَظَهْرٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي أَيْ طَلَّقْتُهَا، وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ:
ظَهْرُكِ عَلَيَّ، أَيْ مِلْكِي إِيَّاكِ، وَعُلُوِّي عَلَيْكِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ عُلُوِّي عَلَى أُمِّي وَمِلْكَهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ(29/478)
عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ، وَلَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الظَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الْأُمِّ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَذْكُورًا، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا مَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ لَا مناقشة في الصلاة إِذَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فهذه الصلاة كُلُّهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ صِلَةً، وَقَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقِيلَ: إِنَّهُ صَرِيحٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، وَلَا يَكُونَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا، وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ قِسْمَانِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا غَيْرَ مُشْعِرٍ بِالْإِكْرَامِ، وَمِنْهَا مَا يكون التشبيه بها مشعر بِالْإِكْرَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرِجْلِ أُمِّي، أَوْ كَيَدِ أُمِّي، أَوْ كَبَطْنِ أُمِّي، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ أَنَّ الظِّهَارَ يَثْبُتُ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، أَمَّا الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا سَبَبًا لِلْإِكْرَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، أَوْ رُوحِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَإِنَّ لَفْظَهُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِهَا، أَمَّا إذا شببها بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَانَ ظِهَارًا، كَمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ فَخِذِهَا، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حِلَّ الزَّوْجَةِ كَانَ ثَابِتًا، وَبَرَاءَةَ الذِّمَّةِ عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَانَتْ ثَابِتَةً، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ:
أَنْتِ عَلَيَّ/ كَظَهْرِ أُمِّي لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَعْهُودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ظِهَارًا، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ بِسَبَبِ الْعُرْفِ مُشْعِرًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا إِذَا كَانَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا وَلَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجْرِيَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النَّسَبِ وَالرِّضَاعِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: تَشْبِيهُهَا بِالْمَرْأَةِ الْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، وَكَانَ طَلَّقَهَا وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّالِفَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الظِّهَارِ بِكُلِّ مُحَرَّمٍ فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الظِّهَارُ بِذِكْرِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنْ حُرْمَةِ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، فَنَقُولُ: الْمُقْتَضِي لِبَقَاءِ الْحِلِّ قَائِمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَهَذَا الْفَارِقُ مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقِيَاسُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ لَا الظَّهْرَ وَلَا الْأُمَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُخْتِي، وَعَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ ظِهَارًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: في المظاهر، وفيه مسائل:(29/479)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ، فَعَلَى هَذَا ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْثِيرَ الظِّهَارِ فِي التَّحْرِيمِ وَالذِّمِّيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ طَلَاقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ زَجْرًا لَهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الثاني: مِنْ لَوَازِمِ الظِّهَارِ الصَّحِيحِ، وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى الْعَائِدِ الْعَاجِزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [الْمُجَادِلَةِ: 3- 4] وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ، إِمَّا مَعَ الْكُفْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ/ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَمِنْ مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، سَلَّمْنَا بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ أَوْلَى، سَلَّمْنَا الِاسْتِوَاءَ فِي الْقُوَّةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَالَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادِلَةِ: 3] مُتَأَخِّرٌ فِي الذِّكْرِ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَكَوْنُ الْمُبَيَّنِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ عَنِ الْمُجْمَلِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوَازِمَهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْإِطْعَامِ فَهَهُنَا إِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ وَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى مِنْهُ بالإطعام وإن لم يتحقق العجز فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّوْمَ يَدُلُّ عَنِ الْإِعْتَاقِ، وَالْبَدَلَ أَضْعَفُ مِنَ الْمُبْدَلِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الْإِعْتَاقِ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُ أَقْوَى اللَّازِمَيْنِ لَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، مَعَ صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَفَوَاتُ أَضْعَفِ اللَّازِمَيْنِ كَيْفَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الظِّهَارِ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يُقَالُ: إِنْ أَرَدْتَ الْخَلَاصَ مِنَ التَّحْرِيمِ، فأسلم وصم، أما
قوله عليه وَالسَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَالتَّكْلِيفُ بِالتَّكْفِيرِ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَا نُكَلِّفُهُ بِالصَّوْمِ بَلْ نَقُولُ: إِذَا أَرَدْتَ إِزَالَةَ التَّحْرِيمِ فَصُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَصُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَهُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ ذَلِكَ؟ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقَوْلِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ، بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ،(29/480)
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا لَنَا أَنَّ التَّحْرِيمَ الْحَاصِلَ بِالظِّهَارِ قَابِلٌ للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير، وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلتَّوْقِيتِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ وَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّوْقِيتِ قِيَاسًا عَلَى الْيَمِينِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نِسائِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْمُظَاهَرِ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الظِّهَارُ عَنِ الْأَمَةِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ:
يَصِحُّ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا، وَالتَّكْفِيرَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [المجادلة: 3] يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ نِسائِهِنَّ [النُّورِ: 31] وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الْحَرَائِرُ/ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نفسه، وقال تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: 23] فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ونافع وأبو عمر:
والذين يُظَهِّرُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَظَّاهَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالْأَلِفِ مُشَدَّدَةَ الظَّاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ظَهَّرَ مِثْلُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَتَدْخُلُ التَّاءُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ تَظَاهَرَ وَتَظَهَّرَ، وَيَدْخُلُ حرف المضارعة فيصير يتظاهر لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ في يظاهر ويظهر، لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ فِي يَظَّاهَرُ وَيَظَّهَّرُ لِأَنَّهُ الْمُطَاوِعُ كَمَا أَنَّ يَتَدَحْرَجُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لِلْإِلْحَاقِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ، عَاصِمٍ يُظَاهِرُونَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ظَاهَرَ يُظَاهِرُ إِذَا أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَفْظَةُ: مِنْكُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ تَوْبِيخٌ لِلْعَرَبِ وَتَهْجِينٌ لِعَادَتِهِمْ فِي الظِّهَارِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَيْمَانِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ: أُمَّهاتِهِمْ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى لَفْظِ الْخَفْضِ، وَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ أَقْيَسُ الْوَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْيَ كَالِاسْتِفْهَامِ فَكَمَا لَا يُغَيِّرُ الِاسْتِفْهَامُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيِّرَ النَّفْيُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْأَخْذُ فِي التَّنْزِيلِ بِلُغَتِهِمْ أَوْلَى، وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً [يُوسُفَ: 31] وَوَجْهُهُ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا تُشْبِهُ لَيْسَ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ: (مَا) تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَدْخُلُ عَلَيْهِمَا وَالثَّانِي: أَنَّ (مَا) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا مَا خُصَّ بالدليل قياسا على باب مالا يَنْصَرِفُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ شَبَّهَ الزَّوْجَةَ بِالْأُمِّ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهَا أُمٌّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْطَالِ لِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ:
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْكَذِبُ إِنَّمَا لَزِمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ إِخْبَارًا أَوْ إِنْشَاءً وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَذِبٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُحَلَّلَةٌ وَالْأُمُّ مُحَرَّمَةٌ، وَتَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فِي وَصْفِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَذِبٌ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِنْشَاءً كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا كَذِبًا، لِأَنَّ كَوْنَهُ إِنْشَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ(29/481)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
الشَّرْعَ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْحُرْمَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِهَذَا التَّشْبِيهَ، كَانَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فِي وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ يَكُونُ كَذِبًا وَزُورًا، وَقَالَ/ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ: مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَالزَّوْجَةُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ تَشْبِيهُهَا بِهَا فِي كَوْنِ الْحُرْمَةِ مُؤَبَّدَةً، لِأَنَّ مُسَمَّى الْحُرْمَةِ أَعَمُّ مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالْمُؤَقَّتَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أَمَّا الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ اللَّائِي، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ [الأحزاب:
4] ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا أُمَّ إِلَّا الْوَالِدَةُ، وَهَذَا مشكل، لأنه قال في آية أخرى:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النِّسَاءِ: 23] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: 6] وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ هَذَا السُّؤَالُ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمًّا، وَزَوْجَةِ الرَّسُولِ أُمًّا، حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأُمُومَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، فَإِذًا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الزَّوْجَةِ أُمًّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ الْأُمُومَةِ عَلَى عَدَمِ الْحُرْمَةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ:
أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الزَّوْجَةُ لَيْسَتْ بِأُمٍّ، حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِجَعْلِ هَذَا اللَّفْظِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ، فَإِذًا لَا تَحْصُلُ الْحُرْمَةُ هُنَاكَ الْبَتَّةَ فَكَانَ وَصْفُهُمْ لَهَا بِالْحُرْمَةِ كَذِبًا وَزُورًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِمَّا مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ لِمَنْ شَاءَ كَمَا قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَوْ بعد التوبة.
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَضْمَرْتَ فَكَفَّارَتُهُمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَثَانِيًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا: وَإِلَى مَا قَالُوا وَفِيمَا قَالُوا، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَلِمَةُ إِلَى وَاللَّامُ يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: 43] وَقَالَ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ [هُودَ: 36] وَقَالَ:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: 5] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ مَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لفظ الظهار،(29/482)
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِما قالُوا الْمَقُولَ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، تَنْزِيلًا لِلْقَوْلِ مَنْزِلَةَ الْمَقُولِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 80] أَيْ وَنَرِثُهُ الْمَقُولَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»
وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَرْجُوُّنَا، وَقَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: 99] أَيِ الْمُوقَنُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ يَعُودُونَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، ثُمَّ إِذَا فَسَّرْنَا هَذَا اللَّفْظَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ نَقَضَ مَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامٌ مَعْقُولٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ، فَقَدْ عَادَ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَا مَحَالَةَ أَيْضًا، وَأَيْضًا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ إِبْطَالَهُ فَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الشَّيْءِ بِالْإِعْدَامِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَهَرَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بِالنَّقْضِ وَالرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد منه، ثم يعودون إلى تكون مِثْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْعَوْدِ لِمَا قَالُوا السُّكُوتُ عَنِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ فَقَدْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ تَمَّمَ مَا شَرَعَ مِنْهُ مِنْ إِيقَاعِ التَّحْرِيمِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنِ الطَّلَاقِ، فَذَاكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا وثم تَقْتَضِي التَّرَاخِي، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُظَاهِرُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَالْأُمُّ لَا يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا، فَتَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُ الزَّوْجَةِ نَقْضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفَسَّرَ الْعَوْدُ بِهَذَا الْإِمْسَاكِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَفْسِيرَ الْعَوْدِ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمُظَاهِرُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنَ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الظِّهَارِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّرَاخِي، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَنْقَضِ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، فَقَدْ تَأَخَّرَ كَوْنُهُ عَائِدًا عَنْ/ كَوْنِهِ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ: ثُمَّ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَقَوْلُهُ:
أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَقْتَضِي تَشْبِيهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الْإِمْسَاكُ مُنَاقِضًا لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُلَخَّصٌ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا بِالشَّهْوَةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَصَدَ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ فِي أَيِّ الْأَشْيَاءِ شَبَّهَهَا بِهَا، فَلَيْسَ صَرْفُ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى حُرْمَةِ(29/483)
الِاسْتِمْتَاعِ، وَحُرْمَةِ النَّظَرِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ لَحْظَةً، فَقَدْ نَقَضَ حُكْمَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَوْدُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى جِمَاعِهَا وهذا ضعيف، لأن القصة إِلَى جِمَاعِهَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً إِنَّمَا الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً الْقَصْدُ إِلَى اسْتِحْلَالِ جِمَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ نَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنْ جِمَاعِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْجِمَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَقَبْلَ الْجِمَاعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ غَيْرَ الْجِمَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْعَوْدُ المذكور هاهنا، هَبْ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْجِمَاعِ، أَوْ لِلْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ لِاسْتِبَاحَةِ الْجِمَاعِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ مُسَمَّى الْعَوْدِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَزِيَادَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ أَيْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلُوهُ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْآيَةِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْعَوْدُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِالظِّهَارِ، فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافَ حُكْمِهِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يُرِيدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الظِّهَارَ وَذَكَرَ الْعَوْدَ بَعْدَهُ بِكَلِمَةِ: ثُمَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ شَيْئًا غَيْرَ الظِّهَارِ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ وَالَّذِينَ كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْعَرَبُ/ تُضْمِرُ لَفْظَ كان، كما في قوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] أي ما كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، قُلْنَا: الْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِذَا كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ فَقَدْ عَادَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُكَرَّرُ لَمْ يَكُنْ عَوْدًا، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ مَا فَعَلُوهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرِيرِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ، ثُمَّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا الثَّانِي: حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرِ الظِّهَارَ إِنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمُهُ رَسُولُ اللَّه الْكَفَّارَةَ، وَكَذَلِكَ
حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرَةَ الْبَيَاضِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَصْبِرُ عَنِ الْجِمَاعِ فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْتُ مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتُهَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّه فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ وَقُلْتُ: أَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّه، فَقَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»
فَأَوْجَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَكْرَارَ الظِّهَارِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَعْنَى الْعَوْدِ، هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا قَالَ أَوَّلًا مِنْ لَفْظِ الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ، إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيَّ كَلَحْمِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ تَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَاسِكِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَفِيهِ مَسَائِلُ:(29/484)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ، فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحَرِّمُ الْجِمَاعَ فَقَطْ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ جِهَاتِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَدَلِيلُهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ، مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ، فَكَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ الثَّالِثُ:
رَوَى عِكْرِمَةُ: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لكن ظاهر كَفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ مِائَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، دَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ...
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ الظِّهَارِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الظِّهَارُ الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة، والظاهر الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْكَفَّارَةِ الْأُولَى، أَوْ لِكَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ وَتَكْوِينُ الْكَائِنِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ تَأَخُّرَ الْعِلَّةِ عَنِ الْحُكْمِ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ يُوجِبُ كَفَّارَةً/ ثَانِيَةً، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ يَتَنَاوَلُ مَنْ ظَاهَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي الظِّهَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الْمَائِدَةِ: 89] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَا مَا قُلْتُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، نَظَرًا إِلَى عَدَدِ اللَّوَاتِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ ظَاهَرَ عَنْ هَذِهِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ بِسَبَبِ هَذَا الظِّهَارِ، وَظَاهَرَ أَيْضًا عَنْ تِلْكَ، فَالظِّهَارُ الثَّانِي لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ كَفَّارَةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَفَّارَةٌ قَبْلَ الْعَوْدِ، فَهَهُنَا فَاتَتْ صِفَةُ الْقَبْلِيَّةِ، فَيَبْقَى أَصْلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيمِ يُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ تَهَاوَنَ بِالتَّكْفِيرِ حَالَ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَيُجْبِرُهُ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْجِمَاعِ، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ إِلَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَحْدَهَا، لِأَنَّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ إِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ وَامْتِنَاعٌ مِنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه هَذِهِ الرَّقَبَةُ تُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤْمِنَةً أَوْ كَافِرَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَهَذَا اللَّفْظُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ الرِّقَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً وَدَلِيلُهُ وَجْهَانِ(29/485)
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكُلُّ نَجِسٍ خَبِيثٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [الْبَقَرَةِ: 267] الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ القتل مقيدة بالإيمان، فكذا هاهنا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إِنْعَامٌ، فَتَقْيِيدُهُ بِالْإِيمَانِ يَقْتَضِي صَرْفَ هَذَا الْإِنْعَامِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَحِرْمَانَ أَعْدَاءِ اللَّه، وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْإِيمَانِ قَدْ يُفْضِي إِلَى حِرْمَانِ أَوْلِيَاءِ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالْإِيمَانِ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا جَازَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ رَقَبَةٌ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: 177] وَالرَّقَبَةُ مُجْزِئَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ التَّكَالِيفِ بِإِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ، بَعْدَ إِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَمَا لِأَجْلِهِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَحَلِّ الرِّقَابِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، بَيَانُ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ، بَيَانُ الْفَارِقِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يُغَرَّمُ الْمَهْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ الْخَالِصِ عَنْ شَوَائِبِ الضَّعْفِ أَشَقُّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُرُوجِ الرَّجُلِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْقِنِّ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَا إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُوَرِّثُ وَالْجَامِعُ كَوْنُ الْمِلْكِ ضَعِيفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَوِ اشْتَرَى قَرِيبَهُ الَّذِي يعتق عليه بينة الْكَفَّارَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنَ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَأَدَّى إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنَ الْفَقِيرِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ هُوَ التَّمْكِينُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [الْمَائِدَةِ: 89] وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ والتمليك، فكذا هاهنا، وحجة الشافعي القياس على الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ مِنْهُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ أُرْزًا أَوْ تَمْرًا أَوْ أَقِطًا، وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ حَدَثَ بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَلَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْإِطْعَامَ، ومراتب الإطعام مختلفة بالملكية وَالْكَيْفِيَّةِ، فَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، فَلَا بُدَّ مِنْ حمله على أقل مالا بُدَّ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُدُّ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ»
وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ قَالَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ،
وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ، بَلْ بِمَا قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ مَرَّةً لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْجَبَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَوَجَبَ رِعَايَةُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي(29/486)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ حَاصِلٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: التَّحَكُّمَاتُ غَالِبَةٌ عَلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ فِيهَا مِنَ الْقِيَاسِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ/ فِي قَلْبِ سِتِّينَ إِنْسَانًا، أَقْرَبُ إِلَى رِضَا اللَّه تَعَالَى مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ: عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ وَقَالَ فِي الصَّوْمِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَفِي الثَّانِي: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالُوا: مَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الصَّوْمِ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنِ الْإِعْتَاقِ فِي الْحَالِ أَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ بِحَيْثُ يُرْجَى زَوَالُهُ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَالَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وَهُوَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ النَّاجِزِ، وَالْعَجْزِ الْعَاجِلِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَقَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَالْمُرَادُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً أَوْ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ رَقَبَةً، وَمَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَا يُسَمَّى فَاقِدًا لِلْمَالِ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَرْقِ إِحْضَارُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إِزَالَةُ الْمَرَضِ فَلَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الشَّبَقُ الْمُفْرِطُ وَالْغُلْمَةُ الْهَائِجَةُ، عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِالصَّوْمِ قَالَ لَهُ: وَهَلْ أُتِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الصَّوْمِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَطْعِمْ»
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَقَ الشَّدِيدَ عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَأَيْضًا الِاسْتِطَاعَةُ فَوْقَ الْوُسْعِ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَالِاسْتِطَاعَةُ هُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ مَعَ شِدَّةِ الشَّبَقِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْقُرْآنِ في هذه الآية، واللَّه أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: ذلِكُمْ لِلتَّغْلِيظِ فِي الْكَفَّارَةِ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ أَنَّ غِلَظَ الْكَفَّارَةِ وَعْظٌ لَكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا الظِّهَارَ وَلَا تُعَاوِدُوهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التكفير وتركه.
[سورة المجادلة (58) : آية 4]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَقَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ، وَذَكَرَ فِي تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَالْأَوَّلَيْنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَسَائِلُ الفقيهة الْمُفَرَّعَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كتاب الفقه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِي قَوْلِهِ: ذلِكَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى الْفَرْضُ ذَلِكَ الَّذِي وَضَعْنَاهُ، الثَّانِي: فَعَلْنَا ذَلِكَ الْبَيَانَ وَالتَّعْلِيمَ لِلْأَحْكَامِ لِتُصَدِّقُوا باللَّه وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ الظِّهَارِ أَقْوَى أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِتُؤْمِنُوا عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّه مُعَلَّلٌ بِالْغَرَضِ وَعَلَى أن(29/487)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
غَرَضَهُ أَنْ تُؤْمِنُوا باللَّه، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَعَدَمَ الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ مَنْ أَدْخَلَ الْعَمَلَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَمَرَهُمْ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهَا لِيَصِيرُوا بِعَمَلِهَا مُؤْمِنِينَ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِعَمَلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَعْنَى ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِالْإِقْرَارِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ لِمَنْ جَحَدَ هَذَا وكذب به.
[سورة المجادلة (58) : آية 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُحَادَّةِ قَوْلَانِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب: حداد، وللمنوع الرِّزْقِ مَحْدُودٌ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُحَادَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيدِ، وَالْمُرَادُ الْمُقَابَلَةُ بِالْحَدِيدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَازَعَةً شَدِيدَةً شَبِيهَةً بِالْخُصُومَةِ بِالْحَدِيدِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا:
يُحَادُّونَ أَيْ يُعَادُونَ وَيُشَاقُّونَ، وَذَلِكَ تَارَةً بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يُحَادُّونَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُوَادُّونَ الْكَافِرِينَ وَيُظَاهِرُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَذَلَّهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْكُفَّارِ فَأَعْلَمَ اللَّه رَسُولَهُ أَنَّهُمْ كُبِتُوا أَيْ خُذِلُوا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ: كَبَتَ اللَّه فُلَانًا إِذَا أَذَلَّهُ، وَالْمَرْدُودُ بِالذُّلِّ يُقَالُ لَهُ: مَكْبُوتٌ، ثُمَّ قَالَ:
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ: وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ/ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ:
وَلِلْكافِرِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: عَذابٌ مُهِينٌ يَذْهَبُ بِعِزِّهِمْ وَكِبْرِهِمْ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْمُحَادِّينَ فِي الدُّنْيَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا بِهِ يَتَكَامَلُ هَذَا الوعيد فقال:
[سورة المجادلة (58) : آية 6]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
يَوْمَ منصوب بينبئهم أو بمهين أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ، وَفِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: كُلَّهُمْ لَا يُتْرَكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ مَبْعُوثٍ وَالثَّانِي: مُجْتَمِعِينَ فِي حَالٍ واحدة، ثم قال: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تجليلا لَهُمْ، وَتَوْبِيخًا وَتَشْهِيرًا لِحَالِهِمُ، الَّذِي يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَهُ الْمُسَارَعَةَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الخزي على رؤس الْأَشْهَادِ وَقَوْلُهُ: أَحْصاهُ اللَّهُ أَيْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أحوال تلك الأعمال من المكية وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَسُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَحْقَرُوهَا وَتَهَاوَنُوا بِهَا فَلَا جَرَمَ نَسُوهَا: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَيْ مُشَاهِدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ألبتة.
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)(29/488)
[في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.]
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهِ عَالِمًا بكل المعلومات فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَرَ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ وَأَقُولُ هَذَا، حَقٌّ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ لَا يُرَى، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِوَاسِطَةِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، هُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ مُنْتَسِقَةٌ مُنْتَظِمَةٌ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ عَالِمٌ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَمَحْسُوسَةٌ مشاهدة في عجائب السموات وَالْأَرْضِ، وَتَرْكِيبَاتِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَبَدِيهِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى كَذَلِكَ ظَاهِرًا لَا جَرَمَ بَلَغَ هَذَا الْعِلْمُ وَالِاسْتِدْلَالُ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ، وصار جَارِيًا مَجْرَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ لَفْظَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلِأَنَّ عِلْمَهُ عِلْمٌ قَدِيمٌ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْلُومِيَّةِ لَافْتَقَرَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ وجب كونه تعايل عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا في السموات وَفِي رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ عَجِيبٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ مِنَ النَّجْوَى فَقَالَ:
/ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَا تَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ بِالتَّاءِ ثُمَّ قَالَ وَالتَّذْكِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ هُوَ الْوَجْهُ، لِمَا هُنَاكَ مِنَ الشِّيَاعِ وَعُمُومِ الْجِنْسِيَّةِ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنِ امْرَأَةٍ، وَمَا حَضَرَنِي مِنْ جَارِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ وَقَعَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَلِمَةُ مِنْ، وَلِأَنَّ النَّجْوَى تَأْنِيثُهُ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: مَا تَكُونُ نَجْوَى، كَمَا يُقَالُ: مَا قَامَتِ امْرَأَةٌ وَمَا حَضَرَتْ جَارِيَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا يَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ مَا يُوجَدُ وَلَا يَحْصُلُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّجْوَى التَّنَاجِي وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ [النساء:
114] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ وَنَجَا، فَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ سِرًّا لَمَّا خَلَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْغَيْرِ صَارَ كَالْأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَإِنَّهَا لِارْتِفَاعِهَا خَلَتْ عَنِ اتِّصَالِ الْغَيْرِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تُجْعَلَ النَّجْوَى وَصْفًا، فَيُقَالُ: قَوْمٌ نجوى، وقوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] وَالْمَعْنَى، هُمْ ذَوُو نَجْوَى، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَصْدَرٍ وُصِفَ بِهِ.(29/489)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَرُّ ثَلَاثَةٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْ مُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةً فَيَكُونُ صِفَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (ثَلَاثَةً) وَ (خَمْسَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، بِإِضْمَارِ يَتَنَاجَوْنَ لِأَنَّ نَجْوَى يَدُلُّ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ وَالْخَمْسَةَ، وَأَهْمَلَ أَمْرَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْبَيْنِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا، فَإِذَا أَخَذَ اثْنَانِ فِي التَّنَاجِي وَالْمُشَاوَرَةِ، بَقِيَ الْوَاحِدُ ضَائِعًا وَحِيدًا، فَيَضِيقُ قَلْبُهُ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى: أَنَا جَلِيسُكَ وَأَنِيسُكَ، وَكَذَا الْخَمْسَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا بَقِيَ الْخَامِسُ وَحِيدًا فَرِيدًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَرِيدًا، / فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ انْقَطَعَ عَنِ الْخَلْقِ مَا يَتْرُكُهُ اللَّه تَعَالَى ضَائِعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَدَدَ الْفَرْدَ أَشْرَفُ مِنَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ اللَّه وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَخَصَّ الْأَعْدَادَ الْفَرْدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ الَّتِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهَا تَمْهِيدَ مَصْلَحَةِ ثَلَاثَةٍ، حَتَّى يَكُونَ الِاثْنَانِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالثَّالِثُ كَالْمُتَوَسِّطِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ تِلْكَ الْمَشُورَةُ وَيَتِمُّ ذَلِكَ الْغَرَضُ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ جَمْعٍ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ وَاحِدٍ يَكُونُ حَكَمًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَرْبَابُ الْمُشَاوَرَةِ عَدَدُهُمْ فَرْدًا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، اجْتَمَعُوا عَلَى التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العدين، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانُوا يَوْمًا يَتَحَدَّثُونَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّه مَا تَقُولُ؟
وَقَالَ الثَّانِي: يَعْلَمُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْبَعْضَ فَيَعْلَمُ الْكُلَّ وَخَامِسُهَا: أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا اللَّه رَابِعُهُمْ، وَلَا أَرْبَعَةٍ إِلَّا اللَّه خَامِسُهُمْ، وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا اللَّه سَادِسُهُمْ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا اللَّه مَعَهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي) .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلا أَكْثَرَ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ (لَا) مَعَ (أَدْنَى) ، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه، بِفَتْحِ الْحَوْلِ وَرَفْعِ الْقُوَّةِ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُمَا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرُ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، وَالْخَامِسُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَجْرُورَيْنِ عَطْفًا عَلَى نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ مِنْ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: ولا أكبر بالباء المنقطعة مِنْ تَحْتُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى رَابِعًا لَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مَعَهُمْ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكَلَامِهِمْ وَضَمِيرِهِمْ وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى حَاضِرٌ مَعَهُمْ وَمَشَاهِدٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَعَالَى عَنِ الْمَكَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: ثُمَّ يُنْبِئُهُمْ بِسُكُونِ النُّونِ، وَأَنْبَأَ وَنَبَّأَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ يُحَاسِبُ عَلَى ذَلِكَ وَيُجَازِي عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ(29/490)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
عَلِيمٌ
وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَتَرْغِيبٌ فِي الطاعات.
[سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ/ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فَرِيقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فقال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، وَهَذَا الْجِنْسُ فِيمَا رُوِيَ وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَدْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، يَعْنُونَ الْمَوْتَ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة.
[في قوله تعالى وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ إلى قوله لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ صَحَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا يَسُوءُهُمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا ذَلِكَ شَكَا الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلرُّسُلِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَنْهِيِّ يُوجِبُ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ لِأَجْلِ الْمُنَاصَبَةِ وَإِظْهَارِ التَّمَرُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُ إِمَّا مَكْرٌ وَكَيْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ شَيْءٌ يسوءهم.
المسألة الثانية: قرأ حمزة وحده، (ويتنجون) بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ: يَتَناجَوْنَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْتَجُونَ يَفْتَعِلُونَ مِنَ النَّجْوَى، وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ كَالدَّعْوَى وَالْعَدْوَى، فَيَنْتَجُونَ وَيَتَنَاجَوْنَ وَاحِدٌ، فَإِنَّ يَفْتَعِلُونَ، وَيَتَفَاعَلُونَ، قد يجريان مجرى واحد، كَمَا يُقَالُ: ازْدَوِجُوا، وَاعْتَوِرُوا، وَتَزَاوَجُوا وَتَعَاوَرُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها [الْأَعْرَافِ: 38] وَادَّرَكُوا فأدركوا افتعلوا، وأدركوا تفاعلوا وحجة من قرأ:
يَتَناجَوْنَ، قوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة: 12] وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [المجادلة: 9] فَهَذَا مُطَاوِعُ نَاجَيْتُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا رَدٌّ لِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ: يَنْتَجُونَ، لِأَنَّ هَذَا مِثْلُهُ فِي الْجَوَازِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ (ومعصيات الرسول) ، والقولان هاهنا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَحِيَّتِكَ، السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم ذكر تعالى أنهم يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يَعْنِي أَنَّهُمْ/ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا فَلِمَ لَا يُعَذِّبُنَا اللَّه بِهَذَا الاستخفاف.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ بحسب(29/491)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
الْمَشِيئَةِ، أَوْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَشِيئَةُ تَقْدِيمَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَقْتَضِ الصَّلَاحُ أَيْضًا ذَلِكَ، فَالْعَذَابُ فِي الْقِيَامَةِ كَافِيهِمْ فِي الرَّدْعِ عما هم عليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 9]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى.
اعلم أن المخاطبين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [الْمُجَادِلَةِ: 8] عَلَى الْيَهُودِ حَمَلْنَا فِي هَذِهِ الآية قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، حَمَلْنَا هَذَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى التَّنَاجِي بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ نَهَى أَصْحَابَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْلُكُوا مِثْلَ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَهُوَ مَا يَقْبُحُ مِمَّا يَخُصُّهُمْ وَالْعُدْوانِ وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ مَا يَكُونُ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَنَاجَوْا بِالْبَرِّ الَّذِي يُضَادُّ الْعُدْوَانَ وَبِالتَّقْوَى وَهُوَ مَا يُتَّقَى بِهِ مِنَ النَّارِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ مَتَى تَنَاجَوْا بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ قَلَّتْ: مُنَاجَاتُهُمْ، لِأَنَّ مَا يَدْعُو إِلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدْعُو إِظْهَارَهُ، وَذَلِكَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ:
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: 114] وَأَيْضًا فَمَتَى عَرَفْتَ طَرِيقَةَ الرَّجُلِ فِي هَذِهِ المناجاة لم يتأذ مِنْ مُنَاجَاتِهِ أَحَدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ إِلَى حَيْثُ يُحَاسَبُ وَيُجَازَى وَإِلَّا فَالْمَكَانُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه تعالى.
[سورة المجادلة (58) : آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّجْوى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ فِي النَّجْوَى مَا يَكُونُ مِنَ اللَّه وللَّه، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ وَهُوَ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تِلْكَ النَّجْوَى الَّتِي/ هِيَ سَبَبٌ لِحُزْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا رَأَوْهُمْ مُتَنَاجِينَ، قَالُوا: مَا نَرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُمْ عَنْ أَقْرِبَائِنَا وَإِخْوَانِنَا الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْغَزَوَاتِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا وَهُزِمُوا، وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ ويحزنون له.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ يَضُرُّ التَّنَاجِي بِالْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَقِيلَ: بِعِلْمِهِ وَقِيلَ: بِخَلْقِهِ، وَتَقْدِيرِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَقِيلَ: بِأَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ مُنَاجَاةِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَزُولَ الْغَمُّ.
ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لَا يَخِيبُ أَمَلُهُ وَلَا يبطل سعيه.(29/492)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ، أَمَرَهُمُ الْآنَ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَقَوْلُهُ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ تَوَسَّعُوا فِيهِ وَلْيُفْسِحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: افْسَحْ عَنِّي، أَيْ تَنَحَّ، وَلَا تَتَضَامُّوا، يُقَالُ: بَلْدَةٌ فَسِيحَةٌ، وَمَفَازَةٌ فَسِيحَةٌ، وَلَكَ فِيهِ فُسْحَةٌ، أَيْ سِعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: (تَفَاسَحُوا) ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَائِقٌ بِالْغَرَضِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: (تَفَسَّحُوا) ، فَمَعْنَاهُ لِيَكُنْ هُنَاكَ تَفَسُّحٌ، وَأَمَّا التَّفَاسُحُ فتفاعل، والمراد هاهنا الْمُفَاعَلَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدِ كَالْمُقَاسَمَةِ وَالْمُكَايَلَةِ، وَقُرِئَ: فِي الْمَجْلِسِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ جَالِسٍ مَجْلِسٌ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ مَوْضِعُ جُلُوسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَتَضَامُّونَ فِيهِ تَنَافُسًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ، وَحِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ:
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجْلِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يَا فُلَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ/ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعُرِفَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَطَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: واللَّه مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِنَّ قَوْمًا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، وَأَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْهُ فَأَقَامَهُمْ وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ، وَكَانَ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوَقْرِ الَّذِي كَانَ فِي أُذُنَيْهِ فَوَسَّعُوا لَهُ حَتَّى قَرَّبَ، ثُمَّ ضَايَقَهُ بَعْضُهُمْ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، وَوَصَفَ لِلرَّسُولِ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَإِنَّ فُلَانًا لَمْ يُفْسِحْ لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُمِرَ الْقَوْمُ بِأَنْ يُوَسِّعُوا وَلَا يَقُومَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْقُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكْرَهُ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا سَأَلَهُ أَخُوهُ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فَيَأْبَى فَأَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَتَعَاطَفُوا وَيَتَحَمَّلُوا الْمَكْرُوهَ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَمَسَّهُ الْفُقَرَاءُ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَلَهُمْ رَوَائِحُ، الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفَسَّحُوا فِي مَجَالِسِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آلِ عِمْرَانَ: 121] وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الصَّفَّ فَيَقُولُ تَفَسَّحُوا، فَيَأْبَوْنَ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ، مِنْهُ مَجْلِسُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَجْلِسَ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَعْهُودًا، وَالْمَعْهُودُ فِي زَمَانِ نُزُولِ الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا مَجْلِسُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَعْظُمُ التَّنَافُسُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْقُرْبِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ سَمَاعِ حَدِيثِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ المنزلة،(29/493)
وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»
وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَفَاضِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا لِكَثْرَتِهِمْ يَتَضَايَقُونَ، فَأُمِرُوا بِالتَّفَسُّحِ إِذَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّحَبُّبِ، وَفِي الِاشْتِرَاكِ فِي سَمَاعِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ، فَحَالَ الْجِهَادُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْبَأْسِ قَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَقَدُّمِهِ مَاسَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَسُّحِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى هَذَا سَائِرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ الْفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالرِّزْقِ وَالصَّدْرِ وَالْقَبْرِ وَالْجَنَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِبَادِ اللَّه أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَيِّدَ الْآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ اللَّه فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا زَالَ الْعَبْدُ فِي عون أخيه المسلم» .
[في قوله تعالى وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ/ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذا قيل لكم: ارفعوا فَارْتَفِعُوا، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الدَّاخِلِ، فَقُومُوا وَثَانِيهَا: إِذَا قِيلَ: قُومُوا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُطَوِّلُوا فِي الْكَلَامِ، فَقُومُوا وَلَا تَرْكُزُوا مَعَهُ، كَمَا قَالَ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الْأَحْزَابِ: 53] وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، فَاشْتَغِلُوا بِهِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَلَا تَتَثَاقَلُوا فِيهِ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ قَوْمًا تَثَاقَلُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَأُمِرُوا بِالْقِيَامِ لَهَا إِذَا نُودِيَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: انْشُزُوا بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: يَعْكُفُونَ ويعكفون [الأعراف: 138] ، ويَعْرِشُونَ ويعرشون [الأعراف: 137] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَعَدَهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ يَرْفَعُ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ رَسُولِهِ، وَالْعَالِمِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً دَرَجَاتٍ، ثُمَّ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَوْلُ النَّادِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْعَةُ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرِّفْعَةُ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَرَاتِبِ الرِّضْوَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا شُبْهَةَ أَنَّ علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن، ولذلك فإنه يقتدي بالعلم فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَرَامِ والشبهات، ومحاسبة النفس مالا يَعْرِفُهُ الْغَيْرُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ في العبادة مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ وَأَوْقَاتِهَا وصفاتها مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَتَحَفَّظُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مالا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَفِي الْوُجُوهِ كَثْرَةٌ، لَكِنَّهُ كما(29/494)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
تَعْظُمُ مَنْزِلَةُ أَفْعَالِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي دَرَجَةِ الثَّوَابِ، فَكَذَلِكَ يَعْظُمُ عِقَابُهُ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، لِمَكَانِ عِلْمِهِ حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ صَغَائِرِ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا منه.
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا التَّكْلِيفُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوَّلُهَا: إِعْظَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْظَامُ مُنَاجَاتِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَدَ الشَّيْءَ مَعَ الْمَشَقَّةِ اسْتَعْظَمَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِالسُّهُولَةِ، اسْتَحْقَرَهُ وَثَانِيهَا: نَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّمَةِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، وَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَحَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ الْأَغْنِيَاءَ غَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَكْثَرُوا مِنْ مُنَاجَاتِهِ حَتَّى كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ جُلُوسِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّه بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، فَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَامْتَنَعُوا، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، وَاشْتَاقُوا إِلَى مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَيُنْفِقُونَهُ وَيَصِلُونَ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ هَذَا التَّكْلِيفِ ازْدَادَتْ دَرَجَةُ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّه، وَانْحَطَّتْ دَرَجَةُ الْأَغْنِيَاءِ وَخَامِسُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْفِيفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْحَاجَاتِ كَانُوا يُلِحُّونَ عَلَى الرَّسُولِ، وَيَشْغَلُونَ أَوْقَاتَهُ الَّتِي هِيَ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْإِبْلَاغِ إِلَى الْأُمَّةِ وَعَلَى الْعِبَادَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْغَلُ قَلْبَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، لِظَنِّهِ أَنَّ فُلَانًا إِنَّمَا نَاجَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي شَغْلَ الْقَلْبِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَسَادِسُهَا:
أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ مُحِبُّ الْآخِرَةِ عَنْ مُحِبِّ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَالَ مِحَكُّ الدَّوَاعِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ كَانَ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ وُجُوبُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ وَاجِبًا، بَلْ كَانَ مَنْدُوبًا، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرْضِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا أُزِيلَ وُجُوبُهُ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا [المجادلة: 13] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَنْدُوبَ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَطْهَرُ، فَالْوَاجِبُ أَيْضًا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآيَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ فِي التِّلَاوَةِ، كَوْنُهُمَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي النُّزُولِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ بأربعة أشهر وعشرا، إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلِاعْتِدَادِ بِحَوْلٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْمَنْسُوخِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ عَنِ الْمَنْسُوخِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نُسِخَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّه لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ لِي دِينَارٌ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَكُلَّمَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْكَلْبِيِّ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ(29/495)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
الْمُنَاجَاةِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ أَحَدٌ إِلَّا/ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ.
قَالَ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَرَّدَ بِالتَّصَدُّقِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ،
ثُمَّ وَرَدَ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِذَلِكَ فَلِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَتَّسِعْ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَا يَقْعُدُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَأَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَجُرُّ إِلَيْهِمْ طَعْنًا، وَذَلِكَ الْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ مِمَّا يُضِيقُ قَلْبَ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الْغَنِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلِ الْغَنِيُّ ذَلِكَ وَفَعَلَهُ غَيْرُهُ صَارَ ذَلِكَ الْفِعْلُ سَبَبًا لِلطَّعْنِ فِيمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَهَذَا الْفِعْلُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِحُزْنِ الْفُقَرَاءِ وَوَحْشَةِ الْأَغْنِيَاءِ، لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ كَبِيرُ مَضَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِلْأُلْفَةِ أَوْلَى مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلْوَحْشَةِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْمُنَاجَاةُ لَيْسَتْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا مِنَ الطَّاعَاتِ الْمَنْدُوبَةِ، بَلْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا كُلِّفُوا بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ لِيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمُنَاجَاةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوْلَى بِهَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً لَمْ يَكُنْ تَرْكُهَا سَبَبًا لِلطَّعْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُ فِي دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ أَوْ شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ»
وَالْمَعْنَى إِنَّكَ قَلِيلُ الْمَالِ فَقَدَّرْتَ عَلَى حَسَبِ حَالِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي ذلك التقديم فِي دِينِكُمْ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ طُهْرَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ وُقُوعَ النَّسْخِ وَقَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ مِنْ بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَرَكُوا النِّفَاقَ وَآمَنُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّجْوَى لِيَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا عَمَّنْ بَقِيَ عَلَى نِفَاقِهِ الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقَدَّرَةِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا جَرَمَ يُقَدَّرُ هَذَا التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحَاصِلُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ كَانَ مُقَدَّرًا بِغَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: أَأَشْفَقْتُمْ وَمِنْهُمْ من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
[سورة المجادلة (58) : آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
وَالْمَعْنَى أَخِفْتُمْ تَقْدِيمَ الصَّدَقَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوهُ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كُلِّفُوا بِأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ وَيُشْغَلُوا بِالْمُنَاجَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُنَاجَاةَ(29/496)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَأَمَّا لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُمْ نَاجَوْا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لَأَنَّ الْمُنَاجَاةَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا إِذَا مَكَّنَ الرَّسُولُ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، فَإِذَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُنَاجَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ ضِيقَ صَدْرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَوْ دَامَ الْوُجُوبُ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَابَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تَائِبِينَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فَقَدْ كَفَاكُمْ هَذَا التَّكْلِيفَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يَعْنِي محيط بأعمالكم ونياتكم.
[سورة المجادلة (58) : آية 14]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ إِمَّا ادِّعَاؤُهُمْ كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَكِيدُونَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، فَيَحْلِفُونَ أَنَّا مَا قُلْنَا ذَلِكَ وَمَا فَعَلْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَاحِظِ إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا لَوْ عَلِمَ الْمُخْبِرُ كَوْنَ الْخَبَرِ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ،
يُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ نَبْتَلٍ الْمُنَافِقَ كَانَ/ يُجَالِسُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حُجْرَتِهِ إِذْ قَالَ: يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ- أَوْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ- فَدَخَلَ رَجُلٌ عَيْنَاهُ زَرْقَاوَانِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَسُبَّنِي فَجَعَلَ يَحْلِفُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
[سورة المجادلة (58) : آية 15]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15)
وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ المحققين عذاب القبر. ثم قال تعالى:
[سورة المجادلة (58) : آية 16]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيِ اتَّخَذُوا ظِهَارَ إِيمَانِهِمْ جُنَّةً عَنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ وَكَيْدِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ جُنَّةً عَنْ أَنْ يَقْتُلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا أَمِنُوا مِنَ الْقَتْلِ اشْتَغَلُوا بِصَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُلُوبِ وَتَقْبِيحِ حَالِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ عَذَابُ الآخر، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً على عذاب القبر، وقوله هاهنا: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على عذاب الآخر، لِئَلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88] .(29/497)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
[سورة المجادلة (58) : آية 17]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ قَالَ: لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
[سورة المجادلة (58) : آية 18]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُنَافِقَ يَحْلِفُ للَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذِبًا كَمَا يَحْلِفُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا كَذِبًا أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَكَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: 23] . وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [البقرة: 56] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَوَغُّلِهِمْ فِي النِّفَاقِ ظَنُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ تَرْوِيجُ/ كَذِبِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَكَانَ هَذَا الْحَلِفُ الذَّمِيمُ يَبْقَى مَعَهُمْ أَبَدًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: 28] قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: إِنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَكْذِبُونَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّا مَا كُنَّا كَافِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْحَلِفُ كَذِبًا، وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي رَكَاكَةً عَظِيمَةً فِي النَّظْمِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] .
[سورة المجادلة (58) : آية 19]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَحْوَذَ فِي اللُّغَةِ اسْتَوْلَى، يقال: حاوزت الْإِبِلَ، وَحُذْتُهَا إِذَا اسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهَا وَجَمَعْتَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَقِّ عُمَرَ: كَانَ أَحْوَذِيًّا، أَيْ سَائِسًا ضَابِطًا لِلْأُمُورِ، وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: اسْتَصْوَبَ وَاسْتَنْوَقَ، أَيْ مَلَكَهُمُ الشَّيْطَانُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:
فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: ذَلِكَ النِّسْيَانُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا وَالثَّانِي: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانُوا كَالْمُؤْمِنِينَ فِي كَوْنِهِمْ حِزْبَ اللَّه لَا حِزْبَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هُوَ أَذَلُّ خَلْقِ اللَّه، لِأَنَّ ذُلَّ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى حَسَبِ عِزِّ الْخَصْمِ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَتْ عِزَّةُ اللَّه غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، كَانَتْ ذِلَّةُ مَنْ يُنَازِعُهُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ أَيْضًا، وَلَمَّا شَرَحَ ذُلَّهُمْ، بَيَّنَ عِزَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: أَنَا وَرُسُلِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ لَا يُحَرِّكُونَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ جَمِيعًا جَائِزَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَلَبَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ بِالْحُجَّةِ مُفَاضَلَةٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَمَّ إِلَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ الْغَلَبَةَ بِالسَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَلَى نُصْرَةِ أَنْبِيَائِهِ: عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ يَكُونُ غَالِبًا لِلْمُمْكِنِ/ لِذَاتِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إن(29/498)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّه عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ: أَتَظُنُّونَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ كَبَعْضِ الْقُرَى الَّتِي غَلَبْتُمُوهُمْ، كَلَّا واللَّه إِنَّهُمْ أَكْثَرُ جَمْعًا وعدة فأنزل اللَّه هذه الآية.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ مَعَ وِدَادِ أَعْدَاءِ اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أحب أحدا امتنع أن يجب مَعَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ وِدَادُ أَعْدَاءِ اللَّه، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُنَافِقًا وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة، وَكَبِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوِدَادِ كَافِرًا بِسَبَبِ هَذَا الْوِدَادِ، بَلْ كَانَ عَاصِيًا فِي اللَّه، فَإِنْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ، فَمَا هَذِهِ الْمَوَدَّةُ الْمُحَرَّمَةُ الْمَحْظُورَةُ؟ قُلْنَا: الْمَوَدَّةُ الْمَحْظُورَةُ هِيَ إِرَادَةُ مُنَافِسِهِ دِينًا وَدُنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا حَظْرَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: مَا ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَدَّةَ مَعَ الْإِيمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَيْلِ، وَمَعَ هَذَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَيْلُ مَغْلُوبًا مَطْرُوحًا بِسَبَبِ الدِّينِ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّه بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبِي بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ» وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عمير، / وعلي بن أبي طالب وَعُبَيْدَةَ قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ،
أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُوَادُّوا أَقَارِبَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ غَضَبًا للَّه وَدِينِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ مَوَدَّةُ أَعْدَاءِ اللَّه، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ أَمَّا الْقَاضِي فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَحَدُهَا:
جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ شَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ وَثَالِثُهَا: قِيلَ فِي: كَتَبَ قَضَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ نُسَلِّمُهَا لِلْقَاضِي وَنُفَرِّعُ عَلَيْهَا صِحَّةَ قَوْلِنَا، فَإِنَّ الَّذِي قَضَى اللَّه بِهِ أَخْبَرَ عَنْهُ وَكَتَبَهُ فِي اللوح المحفوظ، لو لم يقع لا نقلب خَبَرُ اللَّه الصِّدْقُ كَذِبًا وَهَذَا مُحَالٌ، وَالْمُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَاهُ: جَمَعَ، وَالْكَتِيبَةُ: الْجَمْعُ مِنَ الْجَيْشِ، وَالتَّقْدِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، أَيِ اسْتَكْمَلُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النِّسَاءِ: 150] وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: كَتَبَ مَعْنَاهُ أَثْبَتَ وَخَلَقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُمْكِنُ كَتْبُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: كُتِبَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ: كَتَبَ على(29/499)
إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَالنِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَمَّى تِلْكَ النُّصْرَةَ رُوحًا لِأَنَّ بِهَا يَحْيَا أَمْرُهُمْ وَالثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنَ الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورة: 52] النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْجَنَّةِ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَهِيَ نِعْمَةُ الرِّضْوَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ، ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ هَذِهِ النِّعَمَ ذَكَرَ الْأَمْرَ الرَّابِعَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ الْمُوَادَّةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه فَقَالَ:
أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِيهِمْ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: 19] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَإِخْبَارِهِ أَهْلَ مَكَّةَ بمسير النبي صلى اللَّه عليه وسلم إليهم لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ زَجْرٌ عَنِ التَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ.
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أو حيث لَا تَجِدُ قَوْماً إِلَى آخِرِهِ»
واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(29/500)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الْحَشْرِ
وَهِيَ عِشْرُونَ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٌ
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ صَالَحَ بَنُو النَّضِيرِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الْمَنْعُوتُ فِي التَّوْرَاةِ بالنصر، فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا وَنَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ وَحَالَفُوا أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ، فَقَتَلَ كَعْبًا غِيلَةً، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، ثُمَّ صَحِبَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَتَائِبِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِلِيفٍ،
فَقَالَ لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ،
فَقَالُوا: الْمَوْتُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ، وَقِيلَ:
اسْتَمْهَلُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ وَقَالَ: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ لَا نَخْذُلُكُمْ، وَلَئِنْ خَرَجْتُمْ لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون لَيْلَةً، فَلَمَّا قَذَفَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ طَلَبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى إِلَّا الْجَلَاءَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ، فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إِلَّا أَهْلَ بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَآلُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِخَيْبَرَ، ولحقت طائفة بالحيرة. وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا مَعْنَى هَذِهِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الْجَوَابُ: إِنَّهَا هِيَ اللَّامُ فِي قَوْلِكَ: جِئْتُ لِوَقْتِ كَذَا، وَالْمَعْنَى: أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى أَوَّلِ الْحَشْرِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْحَشْرَ هُوَ إِخْرَاجُ الْجَمْعِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَ هَذَا الْحَشْرُ بِأَوَّلِ الْحَشْرِ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَكْثَرِينَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حشر أهل(29/501)
الْكِتَابِ، أَيْ أَوَّلُ مَرَّةٍ حُشِرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ جَزِيرَةِ/ الْعَرَبِ لَمْ يُصِبْهُمْ هَذَا الذُّلُّ قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ وَعِزٍّ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَشْرًا، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ الْحَشْرِ مِنْ حَيْثُ يُحْشَرُ النَّاسُ لِلسَّاعَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّامِ، ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ هُنَاكَ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ، وَأَمَّا آخِرُ حَشْرِهِمْ فَهُوَ إِجْلَاءُ عُمَرَ إِيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الشَّامِ وَرَابِعُهَا: مَعْنَاهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ مَا يَحْشُرُهُمْ لِقِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ قتال قاتلهم رسول اللَّه وَخَامِسُهَا: قَالَ قَتَادَةُ هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: وَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ النَّارَ تُرَى بالليل ولا ترى بالنهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ لِعِزَّتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَرْءِ وَالظَّنُّ بِخِلَافِهِ تَكُونُ أَعْظَمَ، فَالْمُسْلِمُونَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى مُرَادِهِمْ فِي خُرُوجِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، فَيَتَخَلَّصُونَ مِنْ ضَرَرِ مَكَايِدِهِمْ، فَلَمَّا تَيَسَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ تَوَقُّعُ هَذِهِ النِّعْمَةِ أَعْظَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ قَالُوا كَانَتْ حُصُونُهُمْ مَنِيعَةً فَظَنُّوا أَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّه، وَفِي الْآيَةِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّه، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّه هِيَ بِعَيْنِهَا نَفْسُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّه، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ: ظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ أَوْ مَانِعَتُهُمْ وَبَيْنَ النَّظْمِ الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، قُلْنَا: فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ دَلِيلٌ عَلَى فَرْطِ وُثُوقِهِمْ بِحَصَانَتِهَا وَمَنْعِهَا إِيَّاهُمْ، وَفِي تَصْيِيرِ ضَمِيرِهِمُ اسْمًا، وَإِسْنَادِ الْجُمْلَةِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ لَا يُبَالُونَ بِأَحَدٍ يَطْمَعُ فِي مُنَازَعَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ فِي قَوْلِكَ: وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ.
قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتاهُمُ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ، أَيْ فَأَتَاهُمْ عَذَابُ اللَّه وَأَخَذَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فَأَتَاهُمْ نَصْرُ اللَّه وَتَقْوِيَتُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَمَعْنَى: لَمْ يَحْتَسِبُوا، أَيْ لَمْ يَظُنُّوا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: قَتْلُ رَئِيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ عَلَى يَدِ أَخِيهِ غِيلَةً، وَذَلِكَ مِمَّا أضعف قوتهم، وفتت عضدهم، وقل مِنْ شَوْكَتِهِمْ وَالثَّانِي: بِمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وَأَنَّ صَرْفَ الْآيَاتِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِمُقْتَضَى الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ جَائِزٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ فَآتاهُمُ اللَّهُ أَيْ فَآتَاهُمُ الْهَلَاكُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَدْفَعُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا تَدْفَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَتَى كَانَتْ ثَابِتَةً بِالتَّوَاتُرِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، بَلْ لا بد فيها من التأويل.(29/502)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الرُّعْبُ، الْخَوْفُ الَّذِي يَسْتَوْعِبُ الصَّدْرَ، أَيْ يَمْلَؤُهُ، وَقَذْفُهُ إِثْبَاتُهُ فِيهِ، وَفِيهِ قَالُوا فِي صِفَةِ الْأَسَدِ: مُقَذَّفٌ، كَأَنَّمَا قُذِّفَ بِاللَّحْمِ قَذْفًا لِاكْتِنَازِهِ وَتَدَاخُلِ أَجْزَائِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ أَنَّ الْأُمُورَ كلها اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ مِنَ اللَّه وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّعْبَ صَارَ سَبَبًا فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفِعْلُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعِيَةٍ مُتَأَكِّدَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه، فَكَانَتِ الْأَفْعَالُ بِأَسْرِهَا مُسْنَدَةً إِلَى اللَّه بِهَذَا الطَّرِيقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ: يُخْرِبُونَ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يُخْرِبُونَ خَفِيفَةً، وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقُولُ: الْإِخْرَابُ أَنْ يُتْرَكَ الشَّيْءُ خَرَابًا وَالتَّخْرِيبُ الْهَدْمُ، وَبَنُو النَّضِيرِ خُرِّبُوا وَمَا أُخْرِبُوا قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا وجها، ويخربون هو الأصل خرب المنزل، فَإِنَّمَا هُوَ تَكْثِيرٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بُيُوتًا تَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَزَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا يَتَعَاقَبَانِ فِي الْكَلَامِ، فَيَجْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مَجْرَى الْآخَرِ، نَحْوَ فرحته وأفرحته، وحسنه اللَّه وأحسنه، وقال الأعمش:
«وَأَخْرَبْتُ مِنْ أَرْضِ قَوْمٍ دِيَارًا»
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُخْرِبُونَ بِالتَّشْدِيدِ يَهْدِمُونَ، وَبِالتَّخْفِيفِ يُخْرِبُونَ مِنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ أَنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْجَلَاءِ، حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْكُنُوا مَسَاكِنَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ، فَجَعَلُوا يُخْرِبُونَهَا مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ خَارِجٍ وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ دَسُّوا إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَخْرُجُوا، وَدَرِبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصَّنُوهَا، فَنَقَضُوا بُيُوتَهُمْ وَجَعَلُوهَا كَالْحُصُونِ عَلَى أَبْوَابِ الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخْرِبُونَ سَائِرَ الْجَوَانِبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا ظَهَرُوا عَلَى دَرْبٍ مِنْ دُرُوبِهِمْ خَرَّبُوهُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَتَأَخَّرُونَ إِلَى مَا وَرَاءِ بُيُوتِهِمْ، وَيُنَقِّبُونَهَا مِنْ أَدْبَارِهَا وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْرِبُونَ ظَوَاهِرَ الْبَلَدِ، وَالْيَهُودُ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْجَلَاءِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ/ إِلَى الْخَشَبَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ مِمَّا يَسْتَحْسِنُونَهُ أَوِ الْبَابِ فَيَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيَنْزِعُونَهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى الْإِبِلِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى تَخْرِيبِهِمْ لَهَا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْنَا قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا عَرَّضُوهُمْ لِذَلِكَ وَكَانُوا السَّبَبَ فِيهِ فَكَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ وكلفوه إياهم.
قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ تَمَسَّكْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ «الْمَحْصُولُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ» عَلَى أَنَّ القياس حجة فلا نذكره هاهنا، إلا أنه لا بد هاهنا مِنْ بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه فِيهِ بِالِاعْتِبَارِ، وَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى حُصُونِهِمْ، وَعَلَى قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، فَأَبَادَ اللَّه شَوْكَتَهُمْ وأزال قوتهم، ثم قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّه، فليس للزاهد أن يتعمد عَلَى زُهْدِهِ، فَإِنَّ زُهْدَهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ زُهْدِ بِلْعَامٍ، وَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِهِ، انْظُرْ إِلَى ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ مَعَ كَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ كَيْفَ صَارَ، بَلْ لَا اعْتِمَادَ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّه وَرَحْمَتِهِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ عَاقِبَةَ الْغَدْرِ وَالْكُفْرِ وَالطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ،(29/503)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
فَإِنَّ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَقَعُوا بِشُؤْمِ الْغَدْرِ، وَالْكُفْرِ في البلاء والجلاء، والمؤمنين أَيْضًا يَعْتَبِرُونَ بِهِ فَيَعْدِلُونَ عَنِ الْمَعَاصِي.
فَإِنْ قيل: هذا الاعتبار إنما يصلح لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ غَدَرُوا وَكَفَرُوا فَعُذِّبُوا، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ هُوَ الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ طَرْدًا وَعَكْسًا أَمَّا الطَّرْدُ فَلِأَنَّهُ رُبَّ شَخْصٍ غَدَرَ وَكَفَرَ، وَمَا عُذِّبَ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمِحَنِ، بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا وَقَعَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ أَدْيَانِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَإِذَا فَسَدَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ فَقَدْ بَطَلَ هَذَا الِاعْتِبَارُ، وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّالِثُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَنَّهُمْ:
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا عَلَّلْنَا ذَلِكَ بِالْكُفْرِ وَالْغَدْرِ يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ غَدَرَ وَكَفَرَ أَنْ يُخَرِّبَ بَيْتَهُ بِيَدِهِ وَبِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْأَصْلِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ تَخْرِيبًا لِلْبَيْتِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَوْنُهُ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي، كَوْنُهُ مُطْلَقَ الْعَذَابِ، وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ إِنَّمَا يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَذَابٌ، فَأَمَّا خُصُوصُ كَوْنِهِ تَخْرِيبًا أَوْ قَتْلًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَذَاكَ عَدِيمُ الْأَثَرِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ غَدَرُوا وَكَفَرُوا وَكَذَّبُوا عُذِّبُوا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْغَدْرُ وَالْكُفْرُ يُنَاسِبَانِ الْعَذَابَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ وَالْغَدْرَ هُمَا السَّبَبَانِ فِي الْعَذَابِ، فَأَيْنَمَا حَصَلَا حَصَلَ الْعَذَابُ/ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَمَتَى قَرَّرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاعْتِبَارَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ زَالَتِ الْمَطَاعِنُ وَالنُّقُوضُ وَتَمَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاعْتِبَارُ مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شَيْءٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْعَبْرَةُ عَبْرَةً لِأَنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْخَدِّ، وَسُمِّيَ الْمَعْبَرُ مَعْبَرًا لِأَنَّ بِهِ تَحْصُلُ الْمُجَاوَزَةُ، وَسُمِّيَ الْعِلْمُ الْمَخْصُوصُ بِالتَّعْبِيرِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمُتَخَيَّلِ إِلَى الْمَعْقُولِ، وَسُمِّيَتِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَاتٌ، لِأَنَّهَا تَنْقُلُ الْمَعَانِيَ مِنْ لِسَانِ الْقَائِلِ إِلَى عَقْلِ الْمُسْتَمِعِ، وَيُقَالُ: السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ عَقْلُهُ مَنْ حَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِلَى حَالِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الِاعْتِبَارُ هُوَ النَّظَرُ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجِهَاتِ دَلَالَتِهَا لِيُعْرَفَ بِالنَّظَرِ فِيهَا شيء آخر من جنسها، وفي قوله: يا أُولِي الْأَبْصارِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ يَا أَهْلَ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ وَالْبَصَائِرِ وَالثَّانِي: قَالَ الفراء: يا أُولِي الْأَبْصارِ يَا مَنْ عَايَنَ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ الْمَذْكُورَةَ.
[سورة الحشر (59) : آية 3]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3)
مَعْنَى الْجَلَاءِ فِي اللُّغَةِ، الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ وَالتَّحَوُّلُ عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَنَّ (لَوْلَا) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِثُبُوتِ غَيْرِهِ فَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُ التَّعْذِيبِ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْجَلَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، فَإِذًا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا مَعْنَاهُ: ولولا أن كتب اللَّه عليهم الْجَلَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ، فَإِذًا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْجَلَاءِ عَدَمُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، قُلْنَا مَعْنَاهُ: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ كَمَا فُعِلَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ فَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَغَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ لِمَا بَيَّنَّا، أَنَّ (لَوْلَا) تَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْجَزَاءِ لحصول الشرط.
[سورة الحشر (59) : آية 4]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ التَّخْرِيبِ هُوَ مُشَاقَّةُ اللَّه(29/504)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وَرَسُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ والمقصود منه الزجر.
[سورة الحشر (59) : آية 5]
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
فِيهِ مسائل:
المسألة الأولى: مِنْ لِينَةٍ بيان ل ما قَطَعْتُمْ، ومحل (ما) نصب بقطعتم، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وأنت الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ تَرَكْتُمُوها لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اللِّينَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً أَوْ بَرْنِيَّةً، وَأَصْلُ لِينَةٍ لِوْنَةٌ، فَذَهَبَتِ الْوَاوُ لِكَسْرَةِ اللَّامِ، وَجَمْعُهَا أَلْوَانٌ، وَهِيَ النَّخْلُ كُلُّهُ سِوَى الْبَرْنِيِّ وَالْعَجْوَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ، كَأَنَّهُمُ اشْتَقُّوهَا مِنَ اللِّينِ وَجَمْعُهَا لِينٌ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خُصَّتِ اللِّينَةُ بِالْقَطْعِ؟ قُلْنَا: إِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَلْوَانِ فَلْيَسْتَبْقُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَجْوَةَ وَالْبَرْنِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كِرَامِ النَّخْلِ فَلِيَكُونَ غَيْظُ الْيَهُودِ أَشَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قال صاحب «الكاشف» : قُرِئَ قَوْمًا عَلَى أُصُلِهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ أَصْلٍ كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بالضمة عن الواو، وقرئ قائما على أصول، ذَهَابًا إِلَى لَفْظِ مَا، وَقَوْلُهُ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ قَطْعُهَا بِإِذْنِ اللَّه وَبِأَمْرِهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أَيْ وَلِأَجْلِ إِخْزَاءِ الْفَاسِقِينَ، أَيِ الْيَهُودِ أَذِنَ اللَّه فِي قَطْعِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَمَرَ أَنْ يُقْطَعَ نَخْلُهُمْ وَيُحْرَقُ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟. وَكَانَ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه إِنَّمَا أَذِنَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَزْدَادَ غَيْظُ الْكُفَّارِ، وَتَتَضَاعَفَ حَسْرَتُهُمْ بِسَبَبِ نَفَاذِ حُكْمِ أَعْدَائِهِمْ فِي أَعَزِّ أَمْوَالِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حُصُونَ الْكَفَرَةِ وَدِيَارَهُمْ لَا بَأْسَ أَنْ تُهْدَمَ وَتُحْرَقَ وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجار هم لَا بَأْسَ بِقَلْعِهَا مُثْمِرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَطَعُوا مِنْهَا مَا كَانَ مَوْضِعًا لِلْقِتَالِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا يَقْطَعَانِ أَحَدُهُمَا الْعَجْوَةَ، وَالْآخَرُ اللَّوْنَ، فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ هَذَا: تَرَكْتُهَا لِرَسُولِ اللَّه، وَقَالَ هَذَا: قَطَعْتُهَا غَيْظًا لِلْكَفَّارِ،
فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول.
[سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، وَأَفَاءَهُ اللَّه إِذَا رَدَّهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْفَيْءُ مَا رَدَّهُ اللَّه عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، مِنْ أَمْوَالِ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ دِينِهِ بِلَا قِتَالٍ، إِمَّا بِأَنْ يُجْلَوْا عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَيُخَلُّوهَا لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُصَالَحُوا عَلَى(29/505)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أَوْ مَالٍ غَيْرِ الْجِزْيَةِ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنْ سَفْكِ دِمَائِهِمْ، كَمَا فَعَلَهُ بَنُو النَّضِيرِ حِينَ صَالَحُوا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ حِمْلَ بِعِيرٍ مِمَّا شَاءُوا سِوَى السِّلَاحِ، وَيَتْرُكُوا الْبَاقِيَ، فَهَذَا الْمَالُ هُوَ الْفَيْءُ، وَهُوَ مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النضير، قوله: فَما أَوْجَفْتُمْ يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجْفًا وَوَجِيفًا، وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ، إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ السَّرِيعِ، وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا أَفَاءَ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ الرِّكَابُ مَا يُرْكَبُ مِنَ الْإِبِلِ، وَاحِدَتُهَا رَاحِلَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْعَرَبُ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الرَّاكِبِ إِلَّا عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ، وَيُسَمُّونَ رَاكِبَ الْفَرَسِ فَارِسًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُقَسِّمَ الْفَيْءَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ بَيْنَهُمْ، فَذَكَرَ اللَّه الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أَتْعَبْتُمْ أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليه الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ بِخِلَافِ الْفَيْءِ فَإِنَّكُمْ مَا تَحَمَّلْتُمْ فِي تَحْصِيلِهِ تَعَبًا، فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُفَوَّضًا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
ثم هاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ أُخِذَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ حُوصِرُوا أَيَّامًا، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى الْجَلَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ، وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هاهنا وجهين الأول: أن هذا الْآيَةَ مَا نَزَلَتْ فِي قُرَى بَنِي النَّضِيرِ لِأَنَّهُمْ أَوْجَفُوا عَلَيْهِمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بَلْ هُوَ فِي فَدَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ فَدَكَ انْجَلَوْا عَنْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ الْقُرَى وَالْأَمْوَالُ فِي يَدِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْخُذُ مِنْ غَلَّةِ فَدَكَ نَفَقَتَهُ وَنَفَقَةَ مَنْ يَعُولُهُ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، فَلَمَّا مَاتَ ادَّعَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتِ أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ فَقْرًا، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ غِنًى، لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ صِحَّةَ قَوْلِكِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَحْكُمَ بِذَلِكَ، فَشَهِدَ لَهَا أَمُّ أَيْمَنَ وَمَوْلًى لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السلام، فطلب منها أبن بَكْرٍ الشَّاهِدَ الَّذِي يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتُهُ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ، فَأَجْرَى أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يُجْرِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَيَجْعَلُ مَا يَبْقَى فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ جَعَلَهُ فِي يَدِ عَلِيٍّ لِيُجْرِيَهُ عَلَى هَذَا الْمَجْرَى، وَرَدَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّ بِنَا غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُجْرِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ. إِلَى عَلِيٍّ فَكَانَ يُجْرِيهِ هَذَا الْمَجْرَى/ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ وقراهم، وليس لمسلمين يَوْمَئِذٍ كَثِيرُ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا مَسَافَةً كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَشَوْا إِلَيْهَا مَشْيًا، وَلَمْ يَرْكَبْ إِلَّا رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَاكِبَ جَمَلٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُقَاتَلَةُ قَلِيلَةً وَالْخَيْلُ وَالرَّكْبُ غَيْرَ حَاصِلٍ، أَجْرَاهُ اللَّه تَعَالَى مَجْرَى مَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْمُقَاتَلَةُ أَصْلًا فَخَصَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ
رُوِيَ أَنَّهُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانَتْ بِهِمْ حَاجَةٌ وَهُمْ أَبُو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَيْءِ فَقَالَ:
[سورة الحشر (59) : آية 7]
مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)(29/506)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَمْ يَدْخُلِ الْعَاطِفُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْأَوْلَى فَهِيَ مِنْهَا وَغَيْرُ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: كَانَ الْفَيْءُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَكَانَ الْخُمْسُ الْبَاقِي يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّه أَيْضًا، وَالْأَسْهُمُ الْأَرْبَعَةُ لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا كَانَ مِنَ الْفَيْءِ لِرَسُولِ اللَّه قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ الْمُرْصَدِينَ لِلْقِتَالِ فِي الثُّغُورِ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ رَسُولِ اللَّه فِي رِبَاطِ الثُّغُورِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَدِّ الثُّغُورِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، يُبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ الَّتِي كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا السَّهْمُ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ خُمْسِ الْفَيْءِ فَإِنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِلَا خِلَافٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الدُّولَةُ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ يَكُونُ كَذَا مَرَّةً وَكَذَا مَرَّةً، وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ انْتِقَالُ حَالٍ سَارَّةٍ إِلَى قَوْمٍ عَنْ قَوْمٍ، فَالدُّولَةُ بِالضَّمِّ اسْمُ مَا يُتَدَاوَلُ، وَبِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ مِنْ هَذَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْحَالَةِ السَّارَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلْإِنْسَانِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ دُولَةُ فُلَانٍ/ أَيْ تَدَاوَلُهُ، فَالدُّولَةُ اسْمٌ لِمَا يُتَدَاوَلُ مِنَ الْمَالِ، وَالدُّولَةُ اسْمٌ لِمَا يَنْتَقِلُ مِنَ الْحَالِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ كَيْ لَا يَكُونَ الْفَيْءُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا وَاقِعًا فِي يَدِ الْأَغْنِيَاءِ وَدُولَةً لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: (دُولَةً) وَ (دَوْلَةً) بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: دُولَةً مَرْفُوعَةُ الدَّالِ وَالْهَاءِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: يَكُونَ هاهنا هِيَ التَّامَّةُ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 280] يَعْنِي كَيْ لَا يَقَعَ دُولَةً جَاهِلِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يَعْنِي مَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الْفَيْءِ فَخُذُوهُ فَهُوَ لَكُمْ حَلَالٌ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْ أَخْذِهِ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَمْرِ الْفَيْءِ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ عَلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ الرَّسُولُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ مَا آتَى رَسُولَ اللَّه وَنَهَى عَنْهُ وَأَمْرُ الْفَيْءِ داخل في عمومه.
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر: 7] كَأَنَّهُ قِيلَ:
أَعْنِي بِأُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ وَالْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِأُمُورٍ: أَوَّلُهَا:
أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أَحْوَجُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ فَهُمُ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ ثَوَابُ الْجَنَّةِ وَبِالرِّضْوَانِ قَوْلُهُ: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا هَجَرُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَتَحَمَّلُوا شَدَائِدَهَا لِأَجْلِ الدِّينِ ظَهَرَ صِدْقُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَتَمَسَّكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَبِي بَكْرٍ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، واللَّه يشهد على(29/507)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
كَوْنِهِمْ صَادِقِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ حِينَ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ الْفَيْءِ إِذْ لِلْمُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ فقال:
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وَالْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ الْمَدِينَةُ وَهِيَ دَارُ الْهِجْرَةِ تَبَوَّأَهَا الْأَنْصَارُ قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الْمَدِينَةَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُقَالُ: تَبَوَّأَ الْإِيمَانَ وَالثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَنْصَارَ مَا تَبَوَّءُوا الْإِيمَانَ قَبْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَأَخْلَصُوا الْإِيمَانَ كَقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَثَانِيهَا: جَعَلُوا الْإِيمَانَ مُسْتَقِرًّا وَوَطَنًا لَهُمْ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ نَسَبِهِ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْإِسْلَامِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ سَمَّى الْمَدِينَةَ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ فِيهَا ظَهَرَ الْإِيمَانُ وَقَوِيَ وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَالْإِيمَانَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ هِجْرَتِهِمْ، ثُمَّ قَالَ:
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ حَسَدًا وَحَرَارَةً وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ دُونِهِمْ، وَأَطْلَقَ لَفْظَ الْحَاجَةِ عَلَى الْحَسَدِ وَالْغَيْظِ وَالْحَرَارَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْحَاجَةِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ اللَّامِ عَلَى الْمَلْزُومِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يُقَالُ: آثَرَهُ بِكَذَا إِذَا خَصَّهُ بِهِ، وَمَفْعُولُ الْإِيثَارِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُؤْثِرُونَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَقَسَمْتُ لَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ كَمَا قَسَمْتُ لَهُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَ لَهُمُ الْغَنِيمَةُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ فَقَالُوا: لَا بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا وَلَا نُشَارِكُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ»
فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْإِيثَارَ لَيْسَ عَنْ غِنًى عَنِ الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ عَنْ حَاجَةٍ وَخَصَاصَةٍ وَهِيَ الْفَقْرُ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْخَصَاصِ وَهِيَ الْفُرَجُ، وَكُلُّ خَرْقٍ فِي مُنْخُلٍ أَوْ بَابٍ أَوْ سَحَابٍ أَوْ بُرْقُعٍ فَهِيَ خَصَاصٌ، الْوَاحِدُ خَصَاصَةٌ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ إِيثَارِ الْأَنْصَارِ لِلضَّيْفِ بِالطَّعَامِ وَتَعَلُّلِهِمْ عَنْهُ حَتَّى يُشْبِعَ الضَّيْفَ، ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْإِيثَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ إِيثَارِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْفَيْءِ، ثُمَّ لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الشُّحُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ هُوَ أَنَّ الْبُخْلَ نَفْسُ الْمَنْعِ، وَالشُّحَّ هُوَ الْحَالَةُ النَّفْسَانِيَّةُ الَّتِي/ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْمَنْعَ، فَلَمَّا كَانَ الشُّحُّ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الظَّافِرُونَ بِمَا أَرَادُوا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّه عَنْ أَخْذِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّه بإعطائه فقد وقى شح نفسه.(29/508)