فَهُوَ أَعْظَمُ فِي النَّفْسِ وَأَثْقَلُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فَنَقُولُ هَذَا لَيْسَ وَارِدًا عَلَى مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ فِيهَا وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ سَابِقٍ أَوْ مَعْلُومٍ وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ الْهَاءُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْلُومٍ عند النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَانَ مُتَنَبِّهًا لَهُ فَلَمْ يُنَبَّهْ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّنْبِيهَ قَدْ حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا كَمَا فِي قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] وقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:
1] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التَّحْرِيمِ: 1] لِأَنَّهَا أَشْيَاءُ هَائِلَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقُدِّمَ عَلَيْهَا النِّدَاءُ الَّذِي يَكُونُ لِلْبَعِيدِ الْغَافِلِ عَنْهَا تَنْبِيهًا، وَأَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثِقَلُهُ وَعِبْئُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْمَعَانِي، وَهَذِهِ السُّورَةُ فِيهَا ذِكْرُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ حَيْثُ قَالَ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي لَا يُتْرَكُونَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ بَلْ يُؤْمَرُونَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ فَوُجِدَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَإِنْ قِيلَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَرَدَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التَّوْبَةِ: 16] وَلَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ حُرُوفُ التَّهَجِّي فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ أَحَسِبَ وَذَلِكَ وَسَطُ كَلَامٍ بِدَلِيلِ وُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَمْ وَالتَّنْبِيهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لَا فِي أَثْنَائِهِ، وَأَمَّا الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومِ: 1، 2] فَسَيَجِيءُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْحُرُوفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي إِعْرَابِ الم وَقَدْ ذُكِرَ تَمَامُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعَ الْوُجُوهِ المنقولة في تفسيره ونزيد هاهنا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْحُرُوفَ لَا إِعْرَابَ لَهَا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْوَاتِ الْمُنَبِّهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ الثَّانِي: / أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ بِمَكَّةَ هَاجَرُوا وَتَبِعَهُمُ الْكُفَّارُ فَاسْتُشْهِدَ بَعْضُهُمْ وَنَجَا الْبَاقُونَ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَهْجِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّه قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ لَا يُبْتَلَوْنَ بِالْفَرَائِضِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ النَّحْوِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُتْرَكُوا بِأَنْ يَقُولُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُتْرَكُوا يَقُولُونَ آمَنَّا، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا بعيد أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ آمَنَّا، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ تَظُنُّ أَنَّكَ تُتْرَكُ أَنْ تضرب زيد أَيْ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ أَنْ يَقُولَ آمَنْتُ، وَلَكِنْ مُرَادُ هَذَا الْمُفَسِّرِ هُوَ أَنَّهُمْ لَا يُتْرَكُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا مِنْ غَيْرِ ابْتِلَاءٍ فَيُمْنَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ بِإِيجَابِ الْفَرَائِضِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْفَوَائِدِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَقْصَى مِنَ الْخَلْقِ الْعِبَادَةُ وَالْمَقْصِدُ الْأَعْلَى فِي الْعِبَادَةِ حُصُولُ مَحَبَّةِ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ امْتَلَأَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، لَكِنْ لِلْقَلْبِ تُرْجُمَانٌ وَهُوَ اللِّسَانُ، وَلِلِّسَانِ مُصَدِّقَاتٌ هِيَ الْأَعْضَاءُ، وَلِهَذِهِ الْمُصَدِّقَاتِ مُزَكِّيَاتٌ فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ آمَنْتُ بِاللِّسَانِ فَقَدِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ فِي الْجَنَانِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُهُودٍ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْأَرْكَانَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا عَلَيْهِ بُنْيَانُ الْإِيمَانِ حَصَلَ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ شُهُودٌ مُصَدِّقَاتٌ فَإِذَا بَذَلَ فِي(25/25)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
سَبِيلِ اللَّهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَزَكَّى بِتَرْكِ مَا سِوَاهُ أَعْمَالَهُ، زَكَّى شُهُودَهُ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ فِيمَا قَالَهُ، فَيُحَرِّرُ فِي جَرَائِدِ الْمُحِبِّينَ اسْمَهُ، وَيُقَرِّرُ فِي أَقْسَامِ الْمُقَرَّبِينَ قَسْمَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ دَعْوَاهُمْ بِلَا شُهُودٍ وَشُهُودُهُمْ بِلَا مُزَكِّينَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ لِيَكُونُوا مِنَ الْمُحِبِّينَ.
فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: وَهِيَ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنَّ مَا دُونَهُ دَرَكَاتُ الْكُفْرِ، فَالْإِسْلَامُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ كُتِبَ اسْمُهُ وَأُثْبِتَ قَسْمُهُ، لَكِنَّ الْمُسْتَخْدَمِينَ عِنْدَ الْمُلُوكِ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَاهِضًا فِي شُغْلِهِ مَاضِيًا فِي فعله، فينقل من خدمة إلى خِدْمَةٍ إِلَى خِدْمَةٍ أَعْلَى مِنْهَا مَرْتَبَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ كَسْلَانًا مُتَخَلِّفًا فَيُنْقَلُ مِنْ خِدْمَةٍ إِلَى خِدْمَةٍ أَدْنَى مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتْرَكُ عَلَى شَغْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقْطَعُ رَسْمُهُ وَيُمْحَى مِنَ الْجَرَائِدِ اسْمُهُ، فَكَذَلِكَ عِبَادُ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ عَابِدًا مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ مَقْبُولًا لِلسَّعَادَةِ فَيُنْقَلُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى دَرَجَةِ الْمُوقِنِينَ وَهِيَ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَلِيلَ الطَّاعَةِ مُشْتَغِلًا بِالْخَلَاعَةِ، فَيُنْقَلُ إِلَى مَرْتَبَةٍ دُونَهُ وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْعُصَاةِ وَمَنْزِلَةُ الْقُسَاةِ، وَقَدْ يَسْتَصْغِرُ الْعُيُوبَ وَيَسْتَكْثِرُ الذُّنُوبَ فَيَخْرُجُ مِنَ الْعِبَادَةِ مَحْرُومًا وَيَلْحَقُ بِأَهْلِ الْعِنَادِ مَرْجُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى فِي أَوَّلِ دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْبُلْهُ، فَقَالَ اللَّهُ بِشَارَةً لِلْمُطِيعِ النَّاهِضِ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ فِي أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ لَا، بَلْ يُنْقَلُونَ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [الْمُجَادَلَةِ: 11] فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ ... عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً [النِّسَاءِ: 95] . وَقَالَ بِضِدِّهِ لِلْكَسْلَانِ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا يَعْنِي إِذَا قَالَ آمَنْتُ وَيَتَخَلَّفُ/ بِالْعِصْيَانِ يُتْرَكُ وَيُرْضَى مِنْهُ، لَا بَلْ يُنْقَلُ إِلَى مَقَامٍ أدنى وهو مقام العاصي أو الكافر. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 3]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
ذَكَرَ اللَّهُ مَا يُوجِبُ تَسْلِيَتَهُمْ فَقَالَ: كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِمَنْ قَبْلَكُمْ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بَلْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الطَّاعَاتِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مُقَاتِلٍ فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ الثَّانِي: فَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الثَّالِثُ: فَلَيُمَيِّزَنَّ اللَّهُ، فَالْحَاصِلُ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ظَنُّوا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا يُوجِبُ تَجَدُّدَ عِلْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ عَالِمٌ بِالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ قَبْلَ الِامْتِحَانِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ الِامْتِحَانِ فَنَقُولُ الْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَاهِرِهَا وَذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ صِفَةٌ يَظْهَرُ فِيهَا كُلُّ مَا هُوَ وَاقِعٌ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ، فَقَبْلَ التَّكْلِيفِ كَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا مَثَلًا سَيُطِيعُ وَعَمْرًا سَيَعْصِي، ثُمَّ وَقْتَ التَّكْلِيفِ وَالْإِتْيَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ وَالْآخَرَ عَاصٍ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَطَاعَ وَالْآخَرَ عَصَى وَلَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا الْمُتَغَيِّرُ الْمَعْلُومُ وَنُبَيِّنُ هَذَا بِمِثَالٍ مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَهُوَ أَنَّ الْمِرْآةَ الصَّافِيَةَ الصَّقِيلَةَ إِذَا عُلِّقَتْ مِنْ مَوْضِعٍ وَقُوبِلَ بِوَجْهِهَا جِهَةٌ وَلَمْ تُحَرَّكْ ثُمَّ عَبَرَ عَلَيْهَا زَيْدٌ لَابِسًا ثَوْبًا أَبْيَضَ ظَهَرَ فِيهَا زَيْدٌ فِي ثَوْبٍ أَبْيَضَ، وَإِذَا عَبَرَ عَلَيْهَا عَمْرٌو فِي لِبَاسٍ أَصْفَرَ يَظْهَرُ فِيهَا كَذَلِكَ فَهَلْ يَقَعُ فِي ذِهْنِ أَحَدٍ أَنَّ الْمِرْآةَ فِي كَوْنِهَا حَدِيدًا تَغَيَّرَتْ، أَوْ يَقَعُ لَهُ أَنَّهَا فِي تَدْوِيرِهَا تَبَدَّلَتْ، أَوْ يَذْهَبُ فَهْمُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي صِقَالَتِهَا اخْتَلَفَتْ أَوْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّهَا عَنْ سُكَّانِهَا انْتَقَلَتْ، لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ الْخَارِجَاتُ، فَافْهَمْ عِلْمُ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ بَلْ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْمِثَالِ، فَإِنَّ الْمِرْآةَ مُمْكِنَةُ التَّغَيُّرِ وَعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا يَعْنِي يَقَعُ مِمَّنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنْ يُطِيعَ الطَّاعَةَ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ يَعْنِي مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ وَكَانَ صَادِقًا عِنْدَ فَرْضِ الْعِبَادَاتِ(25/26)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
يَظْهَرُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ مُنَافِقًا كَذَلِكَ يَبِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ صَدَقُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَقَوْلِهِ الْكاذِبِينَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَائِدَةٌ مَعَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اللَّفْظِ أَدَلُّ عَلَى الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ يَدُلُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَصْدَرِ فِي الْفَاعِلِ وَرُسُوخِهِ فِيهِ وَالْفِعْلُ الْمَاضِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ شَرِبَ الْخَمْرَ وَفُلَانٌ شَارِبُ الْخَمْرِ وَفُلَانٌ نَفَذَ أَمْرُهُ وَفُلَانٌ نَافِذُ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ صِيغَةِ الْفِعْلِ التَّكْرَارُ وَالرُّسُوخُ، وَمِنَ اسْمِ الْفَاعِلِ يُفْهَمُ ذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتِ الْحِكَايَةُ عَنْ قَوْمٍ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فِي أَوَائِلِ إِيجَابِ التَّكَالِيفِ وَعَنْ قَوْمٍ مُسْتَدِيمِينَ لِلْكُفْرِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَيْ وُجِدَ مِنْهُمُ الصِّدْقُ وَقَالَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ الْكاذِبِينَ بِالصِّيغَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَلِهَذَا قَالَ:
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 119] بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ الصِّدْقُ قَدْ يَرْسَخُ فِي قَلْبِ/ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْيَوْمُ الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 5]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ لَمَّا بَيَّنَ حُسْنَ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ كُلِّفَ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ يُعَذَّبُ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ فِي الْحَالِ فَسَيُعَذَّبُ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَلَا يَفُوتُ اللَّهَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، وَهَذَا إِبْطَالُ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ التَّكَالِيفُ إِرْشَادَاتٌ وَالْإِيعَادُ عَلَيْهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ وَلَا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ تَعْذِيبٌ وَلَوْ كَانَ يُعَذِّبُ مَا كان عاجزا عن العذاب عاجلا فلم كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِقَابَ فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا يَعْنِي لَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ وَيُثِيبُ مَنْ يُثِيبُ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَمَّا الْإِمْهَالُ فَلَا يُفْضِي إِلَى الْإِهْمَالِ وَالتَّعْجِيلُ فِي جَزَاءِ الْأَعْمَالِ شُغْلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ لَوْلَا الِاسْتِعْجَالُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ يَعْنِي حُكْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْصُونَ ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فَإِنَّ الْحُكْمَ الْحَسَنَ لَا يَكُونُ إِلَّا حُكْمَ الْعَقْلِ أَوْ حُكْمَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ عَلَى اللَّهِ بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُرِيدُ وَالشَّرْعُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ مَا قَالُوهُ، فَحُكْمُهُمْ حُكْمٌ فِي غَايَةِ السُّوءِ وَالرَّدَاءَةِ.
ثم قال: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
لَمَّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُتْرَكُ فِي الدُّنْيَا سُدًى، وَبَيَّنَ فِي قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ مَنْ تَرَكَ مَا كُلِّفَ بِهِ يعذب كذا بين أن يَعْتَرِفُ بِالْآخِرَةِ وَيَعْمَلُ لَهَا لَا يَضِيعُ عَمَلُهُ وَلَا يَخِيبُ أَمَلُهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتُهُ وَالْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْيَوْمُ الْآخِرُ وَالْأَصْلُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَوَّلِ الْمُوَصِّلُ إِلَّا الْآخِرِ لَا يَكَادُ يَنْفَصِلُ فِي الذِّكْرِ الْإِلَهِيِّ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَقَوْلُهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا [العنكبوت: 2] فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَظَنُّوا أَنَّهُ يَكْفِي الْأَصْلُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 2، 3] يَعْنِي بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِيضَاحِ السُّبُلِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَقَوْلُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مع قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الثَّالِثِ وهو الآخر.(25/27)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ لِقَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ الرُّؤْيَةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ اللِّقَاءَ وَالْمُلَاقَاةَ بِمَعْنًى وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْوُصُولِ حَتَّى أَنَّ جَمَادَيْنِ إِذَا تَوَاصَلَا فَقَدْ لَاقَى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّجَاءِ الْخَوْفُ وَالْمَعْنَى مِنْ قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ مَنْ كَانَ يَخَافُ اللَّهَ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرَّجَاءِ هُوَ تَوَقُّعُ الْخَيْرِ لَا غَيْرُ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ وَرَدَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ أَرْجُو فَضْلَ اللَّهِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَخَافُ فَضْلَ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ وَارِدًا لِهَذَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَجَلِ اللَّهِ الْمَوْتَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ بِالْحَشْرِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ فَهَذَا يُنْبِئُ عَنْ بَقَاءِ النُّفُوسِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ مَنْ كَانَ يَرْجُو الْخَيْرَ فَإِنَّ السُّلْطَانَ وَاصِلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مُتَّصِلًا بِوُصُولِ السُّلْطَانِ يَكُونُ هُوَ الْخَيْرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَ هُوَ وَتَأَخَّرَ الْخَيْرُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْقَائِلِ، أَمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ وَوَصَلَ السُّلْطَانُ وَلَمْ يَظْهَرِ الْخَيْرُ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اللِّقَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِثَالِ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلَوْلَا الْبَقَاءُ لَمَا حَصَلَ اللِّقَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قوله: مَنْ كانَ يَرْجُوا شَرْطٌ وَجَزَاؤُهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَمَنْ لَا يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ آتِيًا لَهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِ الْأَجَلِ وَعْدُ الْمُطِيعِ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ، يَعْنِي مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لِآتٍ بِثَوَابِ اللَّهِ يُثَابُ عَلَى طَاعَتِهِ عِنْدَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَا يَرْجُوهُ لَا يَكُونُ أَجَلُ اللَّهِ آتِيًا عَلَى وَجْهٍ يُثَابُ هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةً غَيْرَهُمَا كَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا وَسَبَقَ الْفِعْلُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَبِقَوْلِهِ:
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَبِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْعَمَلُ مِنْهُ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ وَمِنْهُ مَا يُدْرَكُ بِهِ كَالْقُصُودِ وَالْعِلْمُ يَشْمَلُهُمَا وَهُوَ السَّمِيعُ يَسْمَعُ مَا قَالُوهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ يَعْلَمُ مَنْ صَدَقَ فِيمَا قَالَ: مِمَّنْ كَذَبَ وَأَيْضًا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ هِيَ أَصْنَافُ حَسَنَاتِهِ أَحَدُهَا: عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ لَا يُرَى وَلَا يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ وَعَمَلُ لِسَانِهِ وَهُوَ يُسْمَعُ وَعَمَلُ أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ وَهُوَ يُرَى فَإِذَا أَتَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِمَسْمُوعِهِ مَا لَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلِمَرْئِيِّهِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلِعَمَلِ قَلْبِهِ مَا لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ، كَمَا وصف في الخبر في وصف الجنة. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 6]
وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)
[في قوله تعالى وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ] لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَسَنٌ وَاقِعٌ وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعْدًا وَإِيعَادًا لَيْسَ لَهُمَا دَافِعٌ، بَيَّنَ أَنَّ طَلَبَ اللَّهِ ذَلِكَ/ مِنَ الْمُكَلِّفِ لَيْسَ لِنَفْعٍ يَعُودُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ مُطْلَقًا لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرُهُ يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الْإِسْرَاءِ: 7] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ السَّابِقَةُ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبَانِ إِكْثَارَ الْعَبْدِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِتْقَانَهُ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا لِأَجْلِ مَلِكٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمَلِكَ يَرَاهُ وَيُبْصِرُهُ يُحْسِنُ الْعَمَلَ وَيُتْقِنُهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ نَفْعَهُ لَهُ وَمُقَدَّرٌ بقدر(25/28)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
عَمَلِهِ يُكْثِرُ مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَالْعَبْدُ يُتْقِنُ عَمَلَهُ وَيُخَلِّصُهُ لَهُ وَإِذَا قَالَ بِأَنَّ جِهَادَهُ لِنَفْسِهِ يُكْثِرُ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى لما قال: مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ جَاهَدَ رَبِحَ بِجِهَادِهِ مَا لَوْلَاهُ لَمَا رَبِحَ فَنَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ لَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا جَاهَدَ يُثِيبُهُ فَإِذَا أَتَى بِهِ هُوَ يَكُونُ جِهَادًا نَافِعًا لَهُ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُثِيبَ عَلَى الْعَمَلِ لَوْلَا الْوَعْدُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَلَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنَّما يَقْتَضِي الْحَصْرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جِهَادُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فَحَسْبُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ يَنْتَفِعُ بِهِ وَمَنْ يُرِيدُ هُوَ نَفْعَهُ، حَتَّى أَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ بِبَرَكَةِ الْمُجَاهِدِ وَجِهَادِهِ يَنْتَفِعَانِ فَنَقُولُ ذَلِكَ نَفْعٌ لَهُ فَإِنَّ انتفاع الولد انتفاع للأب والحصر هاهنا مَعْنَاهُ أَنَّ جِهَادَهُ لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِالْأَصْلَحِ لَا يَسْتَفِيدُ فَائِدَةً وَإِلَّا لَكَانَ مُسْتَكْمِلًا بِتِلْكَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ غَيْرُهُ وَهِيَ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَأَيْضًا أَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ لِمَا بَيَّنَّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ وَالْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمَكَانِ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي مَكَانٍ لِأَنَّ الداخل في المكان يشار إليه بأنه هاهنا أَوْ هُنَاكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَمَا يُشَارُ إليه بأنه هاهنا أَوْ هُنَاكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يُوجَدُ لَا هاهنا وَلَا هُنَاكَ وَإِلَّا لَجَوَّزَ الْعَقْلُ إِدْرَاكَ جِسْمٍ لَا فِي مَكَانٍ وَإِنَّهُ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ لَيْسَتْ قَادِرِيَّتُهُ بِقُدْرَةٍ وَلَا عَالَمِيَّتُهُ بِعِلْمٍ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ فِي قَادِرِيَّتِهِ مُحْتَاجًا إِلَى قُدْرَةٍ هِيَ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُهُ فَهُوَ مِنَ الْعَالَمِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا وَهُوَ غَنِيٌّ، نَقُولُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ قُدْرَتَهُ مِنَ الْعَالَمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَالَمَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ بِصِفَاتِهِ أَيْ كُلُّ مَوْجُودٍ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ الْإِلَهِ الْحَيِّ الْقَادِرِ الْمُرِيدِ الْعَالِمِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقُدْرَةُ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مَفْهُومِ الْقَادِرِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ مَفْهُومِ الْعَالِمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ فِيهَا بِشَارَةٌ وَفِيهَا إِنْذَارٌ، أَمَّا الْإِنْذَارُ فَلِأَنَّ اللَّهَ إِذَا كَانَ غَنِيًّا عَنِ/ الْعَالَمِينَ فَلَوْ أَهْلَكَ عِبَادَهُ بِعَذَابِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِغِنَاهُ عَنْهُمْ وَهَذَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الْعَظِيمَ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا، فَلَوْ أَعْطَى جَمِيعَ مَا خَلَقَهُ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عنه، وهذا يوجب الرجاء التام. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 7]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
لَمَّا بَيَّنَ إِجْمَالًا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ بَيَّنَ مُفَصِّلًا بَعْضَ التَّفْصِيلِ أَنَّ جَزَاءَ الْمُطِيعِ الصَّالِحِ عَمَلُهُ فَقَالَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مُغَايِرَةٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ التَّغَايُرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ تَكْفِيرَ السيئات والجزاء(25/29)
بِالْأَحْسَنِ مُعَلَّقٌ عَلَيْهَا وَهِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِثَالُ هَذَا شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ لَا شَكَّ فِي أَنَّ عُرُوقَهَا وَأَغْصَانَهَا مِنْهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَالتُّرَابُ الَّذِي حَوَالَيْهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا لَكِنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا الشَّجَرَةُ لَوِ احْتَفَّتْ بِهَا الْحَشَائِشُ الْمُفْسِدَةُ وَالْأَشْوَاكُ الْمُضِرَّةُ يَنْقُصُ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ وَإِنْ غَلَبَتْهَا عُدِمَتِ الثَّمَرَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَدَتْ فَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ تَفْعَلُ بِالْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُفَ: 17] أَيْ بِمُصَدِّقٍ وَاخْتُصَّ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ بِالتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ إِنْ عُلِمَ مُفَصَّلًا أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ عِنْدَنَا كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ صَارَ صَالِحًا بِأَمْرِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَمَا كَانَ صَالِحًا فَلَيْسَ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ مِنْ لَوَازِمَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَالصِّدْقُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لِذَلِكَ، فَعِنْدَنَا الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِنْدَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْمَسْأَلَةُ بِطُولِهَا فِي [كُتُبِ] الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ بَاقٍ لِأَنَّ الصَّالِحَ فِي مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ وَالْفَاسِدُ هُوَ الْهَالِكُ التَّالِفُ، يُقَالُ فَسَدَتِ الزُّرُوعُ إِذَا هَلَكَتْ أَوْ خَرَجَتْ عَنْ دَرَجَةِ الِانْتِفَاعِ وَيُقَالُ هِيَ بَعْدُ صَالِحَةٌ أَيْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَبْقَى بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ، وَلَا يَبْقَى بِالْعَامِلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ فَبَقَاؤُهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ بَاقٍ، لَكِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ وَجْهُ اللَّهِ/ لِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يَبْقَى فَيَكُونَ صَالِحًا، وَمَا لَا يَكُونُ لِوَجْهِهِ لَا يبقى لا بنفسه ولا بالعمل وَلَا بِالْمَعْمُولِ لَهُ فَلَا يَكُونُ صَالِحًا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ مُخْلِصًا لِلَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهِيَ قَصْدُ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا النِّيَّةُ فِي الصَّوْمِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَفِي الْوُضُوءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ مرفوع لقوله تعالى: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] لَكِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَهُوَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ فَالْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وهاهنا لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُكَلَّفِ ثَلَاثَةٌ عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ فِكْرُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَتَصْدِيقُهُ، وَعَمَلُ لِسَانِهِ وَهُوَ ذِكْرُهُ وَشَهَادَتُهُ، وَعَمَلُ جَوَارِحِهِ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَعِبَادَتُهُ.
فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تَرْتَفِعُ بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ بِغَيْرِهَا، وَالْقَوْلُ الصَّادِقُ يَرْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْفِكْرُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ»
وَالتَّائِبُ النَّادِمُ بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم»
يعني بالكفرة فِي عَجْزِهِ وَقُدْرَتِي وَحَقَارَتِهِ وَعَظَمَتِي وَمِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ مَنْ تَفَكَّرَ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَجَدَ اللَّهَ وَحَضَرَ ذِهْنُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِ الْقَلْبِ يَأْتِي اللَّهَ وَعَمَلُ اللِّسَانِ يَذْهَبُ إِلَى اللَّهِ وَعَمَلُ الْأَعْضَاءِ يُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ عَمَلِ الْقَلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبْدِ نَوْعَيْنِ: الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ أَمْرَيْنِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَزَاءَ بِالْأَحْسَنِ حَيْثُ قَالَ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ، وَالْجَزَاءُ بِالْأَحْسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أُمُورًا الْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُ لا(25/30)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لِأَنَّ بِإِيمَانِهِ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ فَلَا يُخَلَّدُ فِي الْعَذَابِ الثَّانِي: الْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ المذكور هاهنا غَيْرُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِإِيمَانِهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذْ تُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ وَمَنْ كُفِّرَتْ سَيِّئَاتُهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَالْجَزَاءُ الْأَحْسَنُ يَكُونُ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَهُوَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّؤْيَةَ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتُرُ قُبْحَ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا فَيَسْتُرُ اللَّهُ عُيُوبَهُ فِي الْأُخْرَى، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يُحَسِّنُ حَالَ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا فَيَجْزِيهِ اللَّهُ الْجَزَاءَ الْأَحْسَنَ فِي الْعُقْبَى، فَالْإِيمَانُ إِذَنْ لَا يُبْطِلُهُ الْعِصْيَانُ بَلْ هُوَ يَغْلِبُ الْمَعَاصِي وَيَسْتُرُهَا وَيَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى النَّدَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يَسْتَدْعِي وُجُودَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى تُكَفَّرَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِأَسْرِهَا مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُمْ سَيِّئَةٌ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَعْدَ الْجَمِيعِ بِأَشْيَاءَ لَا يَسْتَدْعِي وَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ الْمَلِكُ لِأَهْلِ بَلَدٍ إِذَا أَطَعْتُمُونِي أُكْرِمْ آبَاءَكُمْ وَأَحْتَرِمْ أَبْنَاءَكُمْ وَأُنْعِمْ عَلَيْكُمْ وَأُحْسِنْ/ إِلَيْكُمْ، لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ يُكْرِمُ آبَاءَ مَنْ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، أَوْ يَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَمْ يُولَدْ لَهُ وَلَدٌ، بَلْ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يُكْرِمُ أَبَ مَنْ لَهُ أَبٌ، وَيَحْتَرِمُ ابْنَ مَنْ لَهُ ابْنٌ، فَكَذَلِكَ يُكَفِّرُ سَيِّئَةَ مَنْ لَهُ سَيِّئَةٌ الْجَوَابُ الثَّانِي: مَا مِنْ مُكَلِّفٍ إِلَّا وَلَهُ سَيِّئَةٌ أَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَلِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمْ كَالسَّيِّئَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ وَثَانِيهِمَا: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ نُقَدِّرُ أَعْمَالَهُمْ أَحْسَنَ مَا تَكُونُ وَنَجْزِيهِمْ عَلَيْهَا لَا أَنَّهُ يُخْتَارُ مِنْهَا أَحْسَنَهَا وَيَجْزِي عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ الْبَاقِي، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] وقوله: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها [النمل: 89] .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: ذَكَرَ حَالَ الْمُسِيءِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا إِشَارَةً إِلَى التَّعْذِيبِ مُجْمَلًا. وَذَكَرَ حَالَ الْمُحْسِنِ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ وَمُفَصَّلًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ أَتَمُّ مِنْ غَضَبِهِ وَفَضْلَهُ أَعَمُّ من عدله.
[سورة العنكبوت (29) : آية 8]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ نَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حُسْنَ التَّكَالِيفِ وَوُقُوعِهَا، وَبَيَّنَ ثَوَابَ مَنْ حَقَّقَ التَّكَالِيفَ أُصُولَهَا وَفُرُوعَهَا تَحْرِيضًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الطَّاعَةِ، ذَكَرَ الْمَانِعَ وَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَخْتَارَ اتِّبَاعَهُ، فَقَالَ الْإِنْسَانُ إِنِ انْقَادَ لِأَحَدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَادَ لِأَبَوَيْهِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَمَرَاهُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمَا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا يَتَّبِعَنَّ أَحَدٌ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْقِرَاءَةِ قُرِئَ حُسْنًا وَإِحْسَانًا وَحُسْنًا أظهر هاهنا، وَمَنْ قَرَأَ إِحْسَانًا فَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: 83] وَالتَّفْسِيرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَّى الْإِنْسَانَ بِأَنْ يَفْعَلَ مَعَ وَالِدَيْهِ حُسْنَ التَّأَبِّي بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، وَنُكِّرَ حُسْنًا لِيَدُلَّ عَلَى الْكَمَالِ، كَمَا يُقَالُ إِنَّ لِزَيْدٍ مَالًا.(25/31)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُمْ فِي الْكُفْرِ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ وَجَبَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ الْوَالِدَيْنِ لَتَرَكَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْقَادُ لِمَا وَصَّاهُ بِهِ فَلَا يُحْسِنُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَاتِّبَاعُ الْعَبْدِ أَبَوَيْهِ/ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَمَا يُفْضِي وُجُودُهُ إِلَى عَدَمِهِ بَاطِلٌ فَالِاتِّبَاعُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الشِّرْكِ بَقِيَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ فَيَأْتِي بِهِ فَتَرْكُ هَذَا الْإِحْسَانِ صُورَةً يُفْضِي إِلَى الْإِحْسَانِ حَقِيقَةً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّهُمَا سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ بِالْوِلَادَةِ وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ الْمُعْتَادَةِ فَهُمَا سَبَبٌ مَجَازًا، وَاللَّهُ تَعَالَى سَبَبٌ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْإِرَادَةِ، وَسَبَبُ بَقَائِهِ بِالْإِعَادَةِ لِلسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ حَالَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما فَقَوْلُهُ:
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يَعْنِي التَّقْلِيدَ فِي الْإِيمَانِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَضْلًا عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الْكُفْرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَلَا يُطِيعُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ لَا يُطِيعُهُمَا أَصْلًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِمَا مُحَالُ الْحُصُولِ، فَإِذَا لَمْ يُشْرِكْ تَقْلِيدًا وَيَسْتَحِيلُ الشِّرْكُ مَعَ الْعِلْمِ، فَالشِّرْكُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ قَطُّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي عَاقِبَتُكُمْ وَمَآلُكُمْ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ مُخَالَطَتُكُمْ وَمُجَالَسَتُكُمْ مَعَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مُجَالَسَتَهُ مَعَ وَاحِدٍ خَالِيَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَحُضُورَهُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ دَائِمٌ غير منقطع لا يترك مراضي مَنْ تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَتُهُ لِرِضَا مَنْ يَتْرُكُهُ فِي زَمَانٍ آخَرَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأُنَبِّئُكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَا تَظُنُّوا أَنِّي غَائِبٌ عَنْكُمْ وَآبَاؤُكُمْ حَاضِرُونَ فَتُوَافِقُونَ الْحَاضِرِينَ فِي الْحَالِ اعْتِمَادًا عَلَى غَيْبَتِي وَعَدَمِ عِلْمِي بِمُخَالَفَتِكُمْ إِيَّايَ فَإِنِّي حَاضِرٌ مَعَكُمْ أَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا أَنْسَى فَأُنَبِّئُكُمْ بِجَمِيعِهِ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 9]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً أُخْرَى؟ نَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ قَسَمَيْنِ مُهْتَدِيًا وَضَالًّا بِقَوْلِهِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ
[الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَذَكَرَ حَالَ الضَّالِّ مُجْمَلًا وَحَالَ الْمُهْتَدِي مُفَصَّلًا بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ ذَكَرَ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ هَادِيًا وَمُضِلًّا فَقَوْلُهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت:
8] يَقْتَضِي أَنْ يَهْتَدِيَ بِهِمَا وَقَوْلُهُ: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بَيَانُ إِضْلَالِهِمَا وَقَوْلُهُ: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التفصيل وعد الهادي فذكر الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مَرَّةً لِبَيَانِ حَالِ الْمُهْتَدِي، وَمَرَّةً أُخْرَى لِبَيَانِ حَالِ الْهَادِي وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا:
لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَقَالَ ثَانِيًا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ وَالصَّالِحُونَ هُمُ الْهُدَاةُ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَلِهَذَا قَالَ كثير من الأنبياء أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّالِحَ بَاقٍ وَالصَّالِحُونَ بَاقُونَ وَبَقَاؤُهُمْ لَيْسَ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِأَعْمَالِهِمُ الباقية(25/32)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
فَأَعْمَالُهُمْ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْمُولُ لَهُ وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ بَاقٍ، وَالْعَامِلُونَ بَاقُونَ بِبَقَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ فِي الدُّنْيَا بَقَاءَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَفِي الْآخِرَةِ بَقَاءَ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّالِحِينَ أَوْ فِي دَارِ الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ بَلْ يُدْخِلُهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ يَجْعَلُهُمْ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ فِي عِدَادِهِمْ كَمَا يُقَالُ الْفَقِيهُ دَاخِلٌ فِي الْعُلَمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ عَالَمُ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَمَا فِيهِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَاءً وَيَفْسُدُ وَيَتَكَوَّنُ مِنْهُ هواء، وعالم السموات لَا كَوْنَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ بَلْ يُوجَدُ مِنْ عَدَمٍ وَلَا يَعْدَمُ وَلَا يَصِيرُ الْمَلَكُ تُرَابًا بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ تُرَابًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ وَعَلَى هَذَا فَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لَيْسَ بِفَاسِدٍ فَهُوَ صَالِحٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ فِي الْمُجَرَّدِينَ الَّذِينَ لَا فَسَادَ لهم. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
نَقُولُ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثَةٌ مُؤْمِنٌ ظَاهِرٌ بِحُسْنٍ اعْتِقَادِهِ، وَكَافِرٌ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَمُذَبْذَبٌ بَيْنَهُمَا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي فُؤَادِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمَا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العنكبوت: 4- 7] بَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا وَلَمْ يَقُلْ آمَنْتُ مَعَ أَنَّهُ وَحَّدَ الْأَفْعَالَ الَّتِي بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ يُشَبِّهُ/ نَفْسَهُ بِالْمُؤْمِنِ، وَيَقُولُ إِيمَانِي كَإِيمَانِكَ فَقَالَ: آمَنَّا يَعْنِي أَنَا وَالْمُؤْمِنُ حَقًّا آمَنَّا، إِشْعَارًا بِأَنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَبَانَ الضَّعِيفَ إِذَا خَرَجَ مَعَ الْأَبْطَالِ فِي الْقِتَالِ، وَهَزَمُوا خُصُومَهُمْ يَقُولُ الْجَبَانُ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَاهُمْ وَهَزَمْنَاهُمْ، فَيَصِحُّ مِنَ السَّامِعِ لِكَلَامِهِ أَنْ يَقُولَ وَمَاذَا كُنْتَ أَنْتَ فِيهِمْ حَتَّى تَقُولَ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَا؟ وَهَذَا الرَّدُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ خُرُوجَهُ وَقِتَالَهُ كَخُرُوجِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى نَفْسِ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ، وَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنَا وَالْمَلِكُ أَلْفَيْنَا فُلَانًا وَاسْتَقْبَلْنَاهُ يُنْكَرُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْمُسَاوَاةُ فَهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِظْهَارَ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ كَإِيمَانِ الْمُحِقِّينَ كَانَ الْوَاحِدُ يَقُولُ: آمَنَّا أَيْ أَنَا وَالْمُحِقُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آلِ عِمْرَانَ: 195] غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْآيَةِ الصَّابِرُونَ على أذية الكافرين والمراد هاهنا الَّذِينَ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهَا فَقَالَ هُنَاكَ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران: 195] وقال هاهنا: أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّطِيفَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ الصَّابِرِ وَخِسَّةَ الْمُنَافِقِ الْكَافِرِ فَقَالَ هُنَاكَ أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَتْرُكَ سَبِيلَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ، وَأُوذِيَ الْمُنَافِقُ الْكَافِرُ فَتَرَكَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ إن بلغ(25/33)
الْإِيذَاءُ إِلَى حَدِّ الْإِكْرَاهِ، وَيَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَتْرُكُ اللَّهَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَلْ تَرَكَ اللَّهَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ أُوذِيَ وَلَمْ يَتْرُكْ سَبِيلَ اللَّهِ بَلْ أَظْهَرَ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَصَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ صَارِفَةً عَنِ الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ صَارِفٌ عَنِ الْكُفْرِ، وَقِيلَ جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ النَّاسِ كَمَا جَزِعُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِتْنَةَ النَّاسِ مَعَ ضَعْفِهَا وَانْقِطَاعِهَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْأَلِيمِ الدَّائِمِ حَتَّى تَرَدَّدُوا فِي الْأَمْرِ، وَقَالُوا إِنْ آمَنَّا نَتَعَرَّضُ لِلتَّأَذِّي مِنَ النَّاسِ وَإِنْ تَرَكْنَا الْإِيمَانَ نَتَعَرَّضُ لِمَا تَوَعَّدَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَارُوا الِاحْتِرَازَ عَنِ التَّأَذِّي الْعَاجِلِ وَلَا يَكُونُ التَّرَدُّدُ إِلَّا عِنْدَ التَّسَاوِي وَمِنْ أَيْنَ إِلَى أَيْنَ تَعْذِيبُ النَّاسِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا، وَلَا يَكُونُ مَدِيدًا لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنْ كَانَ شَدِيدًا كَعَذَابِ النَّارِ وَغَيْرِهِ يَمُوتُ الْإِنْسَانُ فِي الْحَالِ فَلَا يَدُومُ التَّعْذِيبُ، وَإِنْ كَانَ مَدِيدًا كَالْحَبْسِ وَالْحَصْرِ لَا يَكُونُ شَدِيدًا وَعَذَابُ اللَّهِ شَدِيدٌ وَزَمَانُهُ مَدِيدٌ، وَأَيْضًا عَذَابُ الناس له دافع وعذاب الله ماله مِنْ دَافِعٍ، وَأَيْضًا عَذَابُ النَّاسِ عَلَيْهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَعَذَابُ اللَّهِ بَعْدَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمَشَقَّةُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَعْقِبَةً لِلرَّاحَةِ الْعَظِيمَةِ تَطِيبُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا كَمَا تُقْطَعُ السِّلْعَةُ الْمُؤْذِيَةُ وَلَا تُعَدُّ عَذَابًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فِتْنَةَ النَّاسِ وَلَمْ يَقُلْ عَذَابَ النَّاسِ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَفِتْنَتُهُ تَسْلِيطُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْإِيمَانِ لِيُؤْذِيَهُ فَتَبِينُ مُنْزِلَتُهُ كَمَا جَعَلَ التَّكَالِيفَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الصادرة ابتلاء وامتحانا مِنَ الْإِنْسَانِ كَالصَّبْرِ عَلَى الْعِبَادَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُؤْمِنِ مِنْ إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ، لَأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ احْتِرَازًا عَنِ التَّعْذِيبِ الْعَاجِلِ يَكُونُ قَدْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، فَنَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ يُوجِبُ تَرْكَ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهَذَا الْمُؤْمِنَ الْمُكْرَهَ لَمْ يَجْعَلْ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَتْرُكُ مَا يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، بَلْ فِي بَاطِنِهِ الْإِيمَانُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يَعْنِي دَأْبُ الْمُنَافِقِ أَنَّهُ إِنْ رَأَى الْيَدَ لِلْكَافِرِ أَظْهَرَ مَا أَضْمَرَ وَأَظْهَرَ الْمَعِيَّةَ وَادَّعَى التَّبَعِيَّةَ، وَفِيهِ فَوَائِدُ نذكرها في مسائل:
الْأُولَى: قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ كُلُّهُ بِذِكْرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ:
أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلُهُ: كَعَذابِ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّبَّ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْخَاصُّ بِهِ الشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَاللَّهُ اسْمٌ مَدْلُولُهُ الْهَيْبَةُ وَالْعَظَمَةُ، فَعِنْدَ النَّصْرِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْعَاطِفَةِ، وَعِنْدَ الْعَذَابِ ذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْعَظَمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ وَلَئِنْ جَاءَكُمْ أَوْ جَاءَكَ بَلْ قَالَ: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وَالنَّصْرُ لَوْ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ: إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ نَصْرٌ سَوَاءٌ جَاءَهُمْ أَوْ جَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا قَائِلِينَ إِنَّا مَعَكُمْ إِذَا جَاءَ النَّصْرُ، لَكِنَّ النَّصْرَ لَا يَجِيءُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، كما قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الرُّومِ: 47] وَلِأَنَّ غَلَبَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِنَصْرٍ، لِأَنَّ النَّصْرَ مَا يَكُونُ عَاقِبَتُهُ سَلِيمَةً بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَ الْجَيْشَيْنِ إِنِ انْهَزَمَ فِي الْحَالِ ثُمَّ كَرَّ الْمُنْهَزِمُ كَرَّةً أُخْرَى وَهَزَمُوا الْغَالِبِينَ، لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمَنْصُورِ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ الْعَاقِبَةُ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَإِنْ كُسِرَ فِي الْحَالِ فَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فَالنَّصْرُ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.(25/34)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَيَقُولُنَّ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الْفَتْحُ حَمْلًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا يَعْنِي مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إِذَا أُوذِيَ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا جَاءَ النَّصْرُ يَقُولُ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَثَانِيَتُهُمَا: الضَّمُّ عَلَى الْجَمْعِ إِسْنَادًا لِلْقَوْلِ إِلَى الْجَمِيعِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمُ الْمَفْهُومُ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا جَمَاعَةً، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّلْبِيسَ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَهُمْ لأن التلبيس إنما يكون عند ما يُخَالِفُ الْقَوْلُ الْقَلْبَ، فَالسَّامِعُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي مَا فِي قَلْبِهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَالْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ كَافِرٌ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُكْرَهُ الَّذِي يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُضْمِرُ الْإِيمَانَ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْمُحِقَّ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَالْمُنَافِقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، لَكِنْ فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ هُنَاكَ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وقال هاهنا: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الذِّكْرُ هُنَاكَ لِلْمُؤْمِنِ/ وَالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ فِي قَوْلِهِ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْمُؤْمِنُ فِي قَوْلِهِ صَادِقٌ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ مَنْ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ قسمين صادقا وكاذبا «1» وكان هاهنا الْمُنَافِقُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، فَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُنَافِقِ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُؤْمِنِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 12]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَقَ الثَّلَاثَةَ وَأَحْوَالَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرَ يَدْعُو مَنْ يَقُولُ آمَنْتُ إِلَى الْكُفْرِ بِالْفِتْنَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ فَوْقَهَا، وَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ تَصْبِرُ فِي الذُّلِّ وَعَلَى الْإِيذَاءِ لِأَيِّ شَيْءٍ وَلِمَ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ الذُّلَّ وَالْعَذَابَ بِمُوَافَقَتِنَا؟ فَكَانَ جَوَابُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى خَطِيئَةِ مَذْهَبِكُمْ، فَقَالُوا لَا خَطِيئَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَطِيئَةٌ فَعَلَيْنَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلْنَحْمِلْ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَمْرُ النَّفْسِ مِنَ الشَّخْصِ؟ فَنَقُولُ الصِّيغَةُ أَمْرٌ وَالْمَعْنَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، أَيْ إِنِ اتَّبَعْتُمُونَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يُرِيدُ اجْتِمَاعَ أَمْرَيْنِ فِي الْوُجُودِ، فَيَقُولُ لِيَكُنْ مِنْكَ الْعَطَاءُ وَلْيَكُنْ مِنِّي الدُّعَاءُ، فَقَوْلُهُ وَلْنَحْمِلْ، أَيْ لِيَكُنْ مِنَّا الْحَمْلُ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرُ طَلَبٍ وَإِيجَابٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] فهناك نفى الحمل، وهاهنا أَثْبَتَ الْحَمْلَ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
فُلَانٌ حَمَلَ عَنْ فُلَانٍ يُفِيدُ أَنَّ حِمْلَ فُلَانٍ خَفَّ، وَإِذَا لَمْ يَخِفَّ حِمْلُهُ فَلَا يَكُونُ قَدْ حَمَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ هاهنا مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ يَعْنِي لَا يَرْفَعُونَ عَنْهُمْ خَطِيئَةً وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا بِسَبَبِ إضلالهم ويحملون أوزارا
__________
(1) في الأصول صادق وكاذب ولما كانا بدلا من خبر كان المنصوب فتعين نصبهما.(25/35)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
بِسَبَبِ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وِزْرِهِ شَيْءٌ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّيغَةُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نَقُولُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَاهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَهُمْ كَذَبُوا فِي هَذَا فَإِنَّهُمْ لا يحملون شيئا.
ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 13]
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
فِي الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: كَانَ قولهم: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] صَادِرًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنْ لَا خَطِيئَةَ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ كَانَ عَنِ اعْتِقَادِ أَنْ لَا حَشْرَ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ظَهَرَ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَمَا قُلْتُمْ أَنْ لَا حَشْرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَطَايَاكُمْ، يُقَالُ لَهُمْ فَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ فَلَا يَحْمِلُونَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لهم لم افتريتم. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 14]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّكْلِيفَ وَذَكَرَ أَقْسَامَ الْمُكَلَّفِينَ وَوَعَدَ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَأَوْعَدَ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ حَتَّى صَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، بَلْ قَبْلَهُ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] ذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَلَّفَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ مُدَّةٍ لُبْثِهِ؟ نَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عَدَمِ دُخُولِ الْكُفَّارِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَ إِنَّ نُوحًا لَبِثَ أَلْفَ سَنَةٍ تَقْرِيبًا فِي الدُّعَاءِ وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، وَصَبَرَ وَمَا ضَجِرَ فَأَنْتَ أَوْلَى بِالصَّبْرِ لِقِلَّةِ مُدَّةِ لُبْثِكَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ أُمَّتِكَ، وَأَيْضًا كَانَ الْكُفَّارُ يَغْتَرُّونَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَكْثَرَ وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَوْا فَبِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ التَّأْخِيرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرُّوا فَإِنَّ الْعَذَابَ يَلْحَقُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْعَدَدِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ سَبْعَةٌ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَوْلُهُ: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا كَقَوْلِهِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا؟ فَنَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَتَرْكَهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ التَّقْرِيبُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: / عَاشَ فُلَانٌ أَلْفَ سَنَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَلْفُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقًا، فَإِذَا قَالَ إِلَّا شَهْرًا أَوْ إِلَّا سَنَةً يَزُولُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ التَّحْقِيقُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ ذِكْرَ لُبْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ صَبَرَ كَثِيرًا فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ دُعَائِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَوْضُوعٌ، فَإِنَّ مراتب الأعداء هِيَ الْآحَادُ إِلَى(25/36)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
الْعَشَرَةِ وَالْعَشَرَاتُ إِلَى الْمِائَةِ وَالْمِئَاتُ إِلَى الْأَلْفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّكْرِيرِ فَيُقَالُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمِائَةُ أَلْفٍ، وَأَلْفُ أَلْفٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْعُمُرُ الْإِنْسَانِيُّ لَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ، وَالْعَقْلُ يُوَافِقُهَا فَإِنَّ الْبَقَاءَ عَلَى التَّرْكِيبِ الَّذِي فِي الْإِنْسَانِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ، وَدَوَامُ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ إِنْ كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ فَظَاهِرُ الدَّوَامِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْوَاجِبِ وَهُوَ دَائِمٌ، فَتَأْثِيرُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا فَإِذَنْ الْبَقَاءُ مُمْكِنٌ فِي ذَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِعَارِضٍ لَكِنَّ الْعَارِضَ مُمْكِنُ الْعَدَمِ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ هَذَا الْمِقْدَارُ لِوُجُوبِ وُجُودِ الْعَارِضِ الْمَانِعِ فَظَهَرَ أَنَّ كَلَامَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ثُمَّ نَقُولُ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا الْعُمُرُ لَيْسَ طَبِيعِيًّا بَلْ هُوَ عَطَاءٌ إِلَهِيٌّ، وَأَمَّا الْعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ فَلَا يَدُومُ عِنْدَنَا وَلَا لَحْظَةً، فَضْلًا عَنْ مِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ.
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ الظُّلْمِ وَإِلَّا لَعَذَّبَ مَنْ ظَلَمَ وَتَابَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ وُجِدَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الظُّلْمِ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ ظالِمُونَ يَعْنِي أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا تَرَكُوهُ لَمَا أهلكهم.
[سورة العنكبوت (29) : آية 15]
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
فِي الراجع إليه الهاء في قوله: جَعَلْناها وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى السَّفِينَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى هَذَا فَفِي كَوْنِهَا آيَةً وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أنه اتُّخِذَتْ قَبْلَ ظُهُورِ الْمَاءِ وَلَوْلَا إِعْلَامُ اللَّهِ نُوحًا وَإِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُ بِهِ لَمَا اشْتَغَلَ بِهَا فَلَا تَحْصُلُ لَهُمُ النَّجَاةُ وَثَانِيهَا: أَنَّ نُوحًا أُمِرَ بِأَخْذِ قَوْمٍ مَعَهُ وَرَفْعِ قَدْرٍ مِنَ الْقُوتِ وَالْبَحْرُ الْعَظِيمُ لَا يَتَوَقَّعُ أَحَدٌ نُضُوبَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ غِيضَ قَبْلَ نَفَادِ الزَّادِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَلَ النَّجَاةُ فَهُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ السَّفِينَةِ وَثَالِثُهَا:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ سَلَامَةَ السَّفِينَةِ عَنِ الرِّيَاحِ الْمُرْجِفَةِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَلَتِ النَّجَاةُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى/ الْوَاقِعَةِ أَوْ إِلَى النَّجَاةِ أَيْ جَعَلْنَا الْوَاقِعَةَ أَوِ النَّجَاةَ آيَةً للعالمين. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 16]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى حِكَايَةِ نُوحٍ ذَكَرَ حِكَايَةَ إِبْرَاهِيمَ وَفِي إِبْرَاهِيمَ وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالثَّانِي: الرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى وَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْأَوَّلُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ معنى اذكر إِبْرَاهِيمَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَذْكُورٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا [العنكبوت: 14] فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا ففي الآية مسائل:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظَرْفُ أَرْسَلْنَا أَيْ أَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ دَعْوَةٌ وَالْإِرْسَالُ يَكُونُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ، وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ مُرْسَلًا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِرْسَالَ أَمْرٌ يَمْتَدُّ فَهُوَ حَالَ قَوْلِهِ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ كَانَ مُرْسَلًا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ وَقَفْنَا لِلْأَمِيرِ إِذْ خَرَجَ مِنَ الدَّارِ وَقَدْ يَكُونُ الْوُقُوفُ قَبْلَ الْخُرُوجِ، لَكِنْ لما كان(25/37)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
الْوُقُوفُ مُمْتَدًّا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ صَحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بِمُجَرَّدِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَانَ يَعْلَمُ فَسَادَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ يَهْدِيهِمْ إِلَى الرَّشَادِ قَبْلَ الْإِرْسَالِ، وَلَمَّا كَانَ هُوَ مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ وَنَفْيُ غَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْغَيْرِ لِأَنَّ من يشرك م الْمَلِكِ غَيْرَهُ فِي مُلْكِهِ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ الْجَرَائِمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَدْخُلُ فِي الْأَوَّلِ الِاعْتِرَافُ بِاللَّهِ، وَفِي الثَّانِي الِامْتِنَاعُ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَعْنِي عِبَادَةُ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ خَيْرٌ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ خِلَافَ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْطِيلٌ وَخِلَافَ تَقْوَاهُ تَشْرِيكٌ وَكِلَاهُمَا شَرٌّ عَقْلًا وَاعْتِبَارًا، أَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ فَلَا تَعْطِيلَ إِذْ لَنَا إِلَهٌ، وَأَمَّا التَّشْرِيكُ فَبُطْلَانُهُ عَقْلًا وَكَوْنُ خِلَافِهِ خَيْرًا وَهُوَ أَنَّ شَرِيكَ الْوَاجِبِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَكَيْفَ يَكُونُ شَرِيكًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَزِمَ وُجُودُ وَاجِبَيْنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْوُجُوبِ وَيَتَبَايَنَانِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ فِيهِمَا فَلَا يَكُونَانِ وَاجِبَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مُرَكَّبَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّعْطِيلُ، وَإِمَّا اعتبارا فلأن الشرف بأن يَكُونَ مَلَكًا أَوْ قَرِيبَ مَلَكٍ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مَلَكًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ/ فَأَعْلَى دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ الْمَلَكِ لَكِنَّ الْقُرْبَةَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] .
وَقَالَ:
«لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ»
وَقَالَ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَةِ إِلَيَّ»
فَالْمُعَطِّلُ لَا مَلَكٌ وَلَا قَرِيبُ مَلَكٍ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ بِمِلْكٍ فَلَا مَرْتَبَةَ لَهُ أَصْلًا، وَأَمَّا التَّشْرِيكُ فَلِأَنَّ مَنْ يَكُونُ سَيِّدُهُ لَا نَظِيرَ لَهُ يَكُونُ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّنْ يَكُونُ سَيِّدُهُ لَهُ شُرَكَاءُ خَسِيسَةُ، فَإِذَنْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ رَبِّي لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِمَّنْ يَقُولُ سَيِّدِي صَنَمٌ مَنْحُوتٌ عَاجِزٌ مِثْلُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ خَيْرٌ لِلنَّاسِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالِاعْتِبَارَاتِ.
[سورة العنكبوت (29) : آية 17]
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً.
ذَكَرَ بُطْلَانَ مَذْهَبِهِمْ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْبُودَ إِنَّمَا يُعْبَدُ لِأَحَدِ أُمُورٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ بِذَاتِهِ كَالْعَبْدِ يَخْدُمُ سَيِّدَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ سَوَاءٌ أَطْعَمَهُ مِنَ الْجُوعِ أَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْهُجُوعِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَافِعًا فِي الْحَالِ كَمَنْ يَخْدُمُ غَيْرَهُ لِخَيْرٍ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَخْدِمِ بِأُجْرَةٍ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ نَافِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَنْ يَخْدُمُ غَيْرَهُ مُتَوَقِّعًا مِنْهُ أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ خَائِفًا مِنْهُ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهَا لِكَوْنِهَا أَوْثَانًا لَا شَرَفَ لَهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْعَ، إِمَّا فِي الْوُجُودِ، وَإِمَّا فِي الْبَقَاءِ لَكِنْ لَيْسَ مِنْهُمْ نَفْعٌ فِي الْوُجُودِ، لِأَنَّ وَجُودَهُمْ مِنْكُمْ حَيْثُ تَخْلُقُونَهَا وَتَنْحِتُونَهَا، وَلَا نَفْعَ فِي الْبَقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالرِّزْقِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَاصِلٌ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَقَوْلُهُ: اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى(25/38)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
اسْتِحْقَاقِ عُبُودِيَّتِهِ لِذَاتِهِ وَقَوْلُهُ: الرِّزْقَ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ النَّفْعِ مِنْهُ عَاجِلًا وَآجِلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نَكِرَةً، وَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ مُعَرَّفًا فَمَا الْفَائِدَةُ؟
فَنَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً نَكِرَةٌ فِي مَعْرِضِ النَّفْيِ أَيْ لَا رِزْقَ عِنْدَهُمْ أَصْلًا، وَقَالَ مَعْرِفَةٌ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ كُلُّ الرِّزْقِ عِنْدَهُ فَاطْلُبُوهُ مِنْهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ اللَّهِ مَعْرُوفٌ بِقَوْلِهِ:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: 6] وَالرِّزْقُ/ مِنَ الْأَوْثَانِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَقَالَ: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَقَالَ: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ الْمَوْعُودَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْبُدُوهُ أَيِ اعْبُدُوهُ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ وَاشْكُرُوا لَهُ أَيْ لِكَوْنِهِ سَابِقَ النِّعَمِ بِالْخَلْقِ وَوَاصِلَهَا بِالرِّزْقِ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَيِ اعْبُدُوهُ لِكَوْنِهِ مَرْجِعًا مِنْهُ يُتَوَقَّعُ الخير لا غير. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 18]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ أَتَى بَعْدَهُ بِالتَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا وَفِي الْمُخَاطَبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَالْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لقومه: إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَأَنَا أَتَيْتُ بِمَا عَلَيَّ مِنَ التَّبْلِيغِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ قَوْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحِكَايَاتِ أَكْثَرُهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِمَقَاصِدَ لَكِنَّهَا تُنْسَى لِطِيبِ الْحِكَايَةَ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَقُولُ الْحَاكِي لِأَيِّ شَيْءٍ حَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَقْصُودُهُ تَذْكِيرَ قَوْمِهِ بِحَالِ مَنْ مَضَى حَتَّى يَمْتَنِعُوا مِنَ التَّكْذِيبِ وَيَرْتَدِعُوا خَوْفًا مِنَ التَّعْذِيبِ، فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ حِكَايَتِهِمْ يَا قَوْمِ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ قَبْلَكُمْ أَقْوَامٌ وَأُهْلِكُوا فَإِنْ كَذَّبْتُمْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا جَاءَ عَلَى غَيْرِكُمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الآية مسائل:
الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ: فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ كَيْفَ يُفْهَمُ، مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَّا قَوْمُ نُوحٍ وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَبْلَ نُوحٍ كَانَ أَقْوَامٌ كَقَوْمِ إِدْرِيسَ وَقَوْمِ شِيثَ وَآدَمَ وَالثَّانِي: أَنَّ نُوحًا عَاشَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ وَكَانَ الْقَرْنُ يَمُوتُ وَيَجِيءُ أَوْلَادُهُ وَالْآبَاءُ يُوصُونَ الْأَبْنَاءَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاتِّبَاعِ فَكَفَى بِقَوْمِ نُوحٍ أُمَمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْبَلاغُ وَمَا الْمُبِينُ؟ فَنَقُولُ الْبَلَاغُ هُوَ ذِكْرُ الْمَسَائِلِ، وَالْإِبَانَةُ هِيَ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّسُولَ إِذَا بَلَّغَ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ، فَلَا يَكُونُ آتِيًا بما عليه. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 19]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَأَشَارَ إِلَى الْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ الرِّسَالَةُ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَى/ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَصْلِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْحَشْرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ لَا يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الذِّكْرِ الْإِلَهِيِّ، فَأَيْنَمَا يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا اثْنَيْنِ يَذْكُرُ الثَّالِثَ. وَفِي الآية مسائل:
الْأُولَى: الْإِنْسَانُ مَتَى رَأَى بَدْءَ الْخَلْقِ حَتَّى يقال: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ؟ فنقول المراد(25/39)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
الْعِلْمُ الْوَاضِحُ الَّذِي كَالرُّؤْيَةِ وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَدْءَ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقٍ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ خَلْقًا أَوَّلَ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ هَذَا إِنْ قُلْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُ نَفْسِ الْخَلْقِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَدْءِ خَلْقُ الْآدَمِيِّ أَوَّلًا وَبِالْإِعَادَةِ خَلْقُهُ ثَانِيًا، فَنَقُولُ الْعَاقِلُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ خَالِقَ نَفْسِهِ «1» لَيْسَ إِلَّا قَادِرٌ حَكِيمٌ يُصَوِّرُ الْأَوْلَادَ فِي الْأَرْحَامِ، وَيَخْلُقُهُ مِنْ نُطْفَةٍ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، فَذَلِكَ الَّذِي خُلِقَ أَوَّلًا مَعْلُومٌ ظَاهِرٌ فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ، وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَيْ أَلَمْ يَعْلَمُوا عِلْمًا ظَاهِرًا وَاضِحًا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ يَخْلُقُهُ مِنْ تُرَابٍ يَجْمَعُهُ فَكَذَلِكَ يَجْمَعُ أَجْزَاءَهُ مِنَ التُّرَابِ يَنْفُخُ فِيهِ رُوحَهُ بَلْ هُوَ أَسْهَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ مَنْ نَحَتَ حِجَارَاتٍ وَوَضَعَ شَيْئًا بِجَنْبِ شَيْءٍ فَفَرَّقَهُ أَمْرٌ مَا فَإِنَّهُ يَقُولُ وَضْعُهُ شَيْئًا بِجَنْبِ شَيْءٍ فِي هَذِهِ النَّوْبَةِ أَسْهَلُ عَلَيَّ لِأَنَّ الْحِجَارَاتِ مَنْحُوتَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ آيَةً وَاحِدَةً مِنْهَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ بِجَنْبِ الْأُخْرَى، وَعَلَى هَذَا الْمَخْرَجِ خَرَجَ كَلَامُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَهْوَنُ [الرُّومِ: 27] وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ بِالْكَيْفِيَّةِ لَا بِالْخَلْقِ وَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ، أَوْ بَدَأَ الْخَلْقَ، وَالْكَيْفِيَّةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ؟ فَنَقُولُ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ هِيَ مِنْ غِذَاءٍ هُوَ مِنْ مَاءٍ وَتُرَابٍ وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِإِمْكَانِ الْإِعَادَةِ فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مِثْلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَأَبْرَزَ اسْمَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ كَمَا قَالَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِنْ غَيْرِ إِبْرَازٍ؟ نَقُولُ مَعَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ فَأَكَّدَهُ بِإِظْهَارِ اسْمِهِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَعْرِفَةَ أَيْضًا بِكَوْنِ ذَلِكَ يَسِيرًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ لَفْظَ اللَّهِ وَفَهِمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَادِرُ، بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، الْعَالِمُ بِعِلْمٍ مُحِيطٍ بِذَرَّاتِ كُلِّ جِسْمٍ، نَافِذُ الْإِرَادَةِ لَا رَادَّ لِمَا أَرَادَهُ، يَقْطَعُ بجواز الإعادة. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 20]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْعِلْمِ الْحَدْسِيِّ وَهُوَ الْحَاصِلُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَقَالَ أَوَلَمْ يَرَوْا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى اسْتِبْعَادِ عَدَمِهِ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمْ هَذَا الْعِلْمُ فَتَفَكَّرُوا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِتَعْلَمُوا بِالْعِلْمِ الْفِكْرِيِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ مَرَاتِبُ فِي الْإِدْرَاكِ بَعْضُهُمْ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ وَإِقَامَةِ بُرْهَانٍ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْهَمُ إِلَّا بِإِبَانَةٍ وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْهَمُهُ أَصْلًا فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَيْ سَيِّرُوا فِكْرَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَجِيلُوا ذِهْنَكُمْ فِي الْحَوَادِثِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ لِتَعْلَمُوا بدء الخلق وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِلَفْظِ الرُّؤْيَةِ وَفِي هَذِهِ بِلَفْظِ النَّظَرِ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ الْعِلْمُ الْحَدْسِيُّ أَتَمُّ مِنَ الْعِلْمِ الْفِكْرِيِّ كَمَا تَبَيَّنَ، وَالرُّؤْيَةُ أَتَمُّ مِنَ النَّظَرِ لِأَنَّ النَّظَرَ يُفْضِي إِلَى الرُّؤْيَةِ، يُقَالُ نَظَرْتُ فَرَأَيْتُ
__________
(1) - المراد بنفسه هنا نفس الإنسان فهو من إضافة اسم الفاعل لمفعوله له لا لفاعله كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، تعالى الله عن الشبه والمثل والنظير.(25/40)
وَالْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ دُونَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ أَمَا حَصَلَتْ لَكُمُ الرُّؤْيَةُ فَانْظُرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَحْصُلَ لَكُمُ الرُّؤْيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِي الْآيَةِ الْأَوْلَى بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ إِنْ حَصَلَ فَالْأَمْرُ بِهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالطَّلَبِ لِأَنَّ بِالطَّلَبِ يَصِيرُ الْحَاصِلُ فِكْرِيًّا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْفِكْرِيُّ فَهُوَ مَقْدُورٌ فَوَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَبْرَزَ اسْمَ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عِنْدَ الْبَدْءِ حَيْثُ قَالَ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ وَأَضْمَرَهُ عِنْدَ الْإِعَادَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَضْمَرَهُ عِنْدَ الْبَدْءِ وَأَبْرَزَهُ عِنْدَ الْإِعَادَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ اللَّهِ بِفِعْلٍ حَتَّى يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْبَدْءُ فَقَالَ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا ثُمَّ ضَرَبَ بَكْرًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ اسْمِ زَيْدٍ اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ ذِكْرُ الْبَدْءِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّهِ فَاكْتَفَى به ولم يبرزه كقوله الْقَائِلِ أَمَا عَلِمْتَ كَيْفَ خَرَجَ زَيْدٌ، اسْمَعْ مِنِّي كَيْفَ خَرَجَ، وَلَا يُظْهِرُ اسْمَ زَيْدٍ، وَأَمَّا إِظْهَارُهُ عِنْدَ الْإِنْشَاءِ ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، فَلِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعَ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ أَظْهَرَ اسْمًا مَنْ يَفْهَمُ الْمُسَمَّى بِهِ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ يَقْطَعُ بِجَوَازِ الْإِعَادَةِ فَقَالَ اللَّهُ مُظْهِرًا مُبْرِزًا لِيَقَعَ فِي ذِهْنِ الْإِنْسَانِ مِنِ اسْمِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ وَشُمُولُ عِلْمِهِ وَنُفُوذُ إِرَادَتِهِ وَيَعْتَرِفُ بِوُقُوعِ بَدْئِهِ وَجَوَازِ إِعَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ ثُمَّ اللَّهُ يُعِيدُهُ لِعَيْنِ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ؟ نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُظْهِرًا مُبْرِزًا بِقُرْبٍ مِنْهُ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ وَلَمْ يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما هاهنا فَلَمْ يَكُنْ/ مَذْكُورًا عِنْدَ الْبَدْءِ فَأَظْهَرَهُ وَثَانِيهِمَا: أن الدليل هاهنا تَمَّ عَلَى جَوَازِ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى أَشَارَ إِلَى الدَّلِيلِ النَّفْسِيِّ الْحَاصِلِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَشَارَ إِلَى الدَّلِيلِ الْحَاصِلِ مِنَ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَعِنْدَهُمَا تَمَّ الدليلان، فأكده بإظهار اسمه، وما الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ فَأَكَّدَهُ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي، فَلَمْ يَقُلْ ثُمَّ اللَّهُ يُعِيدُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ وهاهنا قَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي فَقَالَ: فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ وَلَمْ يَقُلْ كَيْفَ يَبْدَأُ، فَنَقُولُ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ الدَّلِيلُ النَّفْسِيُّ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ الْحَدْسِيِّ وَهُوَ فِي كُلِّ حَالٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِبَدْءِ الْخَلْقِ، فَقَالَ إِنْ كَانَ لَيْسَ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ حَالٍ يَبْدَأُ خَلْقًا فَانْظُرُوا إِلَى الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ لِيَحْصُلَ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ بَدَأَ خَلْقًا، وَيَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذَا القدر فإنه ينشئ كَمَا بَدَأَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَفِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ هُوَ الدَّلِيلُ النَّفْسِيُّ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهُ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ التَّامَّ وَلَكِنْ عِنْدَ انْضِمَامِ دَلِيلِ الْآفَاقِ إِلَيْهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْعَامُّ، لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ نَفْسَهُ وَحَاجَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَوُجُودَهُ مِنْهُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْآفَاقِ عَلِمَ حَاجَةَ غَيْرِهِ إِلَيْهِ وَوُجُودَهُ مِنْهُ، فَتَمَّ عِلْمُهُ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ عِنْدَ تَمَامِ ذِكْرِ الدَّلِيلَيْنِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَ عِنْدَ الدَّلِيلِ الْوَاحِدِ إِنَّ ذلِكَ وَهُوَ إِعَادَتُهُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ أَتَمُّ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَعَمَّ وَكَوْنُ الْأَمْرِ يَسِيرًا عَلَى الْفَاعِلِ أَتَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَقْدُورًا له(25/41)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ فِي حَقِّ مَنْ يَحْمِلُ مِائَةً مِنْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا يَقُولُ إِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ حَمْلِهِ عَشْرَةَ أَمْنَانٍ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ سهل يَسِيرٌ، فَنَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمُ الْعِلْمُ التَّامُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَ اللَّهِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ مَقْدُورٌ، وَنَفْسُ كَوْنِهِ مَقْدُورًا كَافٍ في إمكان الإعادة. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 21 الى 22]
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22)
لَمَّا ذَكَرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ وَهُوَ تَعْذِيبُ أَهْلِ التَّكْذِيبِ عَدْلًا وَحِكْمَةً، وَإِثَابَةُ أَهْلِ الْإِنَابَةِ فَضْلًا وَرَحْمَةً، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ التَّعْذِيبَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَابِقَةٌ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاكِيًا عَنْهُ «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي»
فَنَقُولُ ذَلِكَ الوجهين أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّابِقَ ذِكْرُ الْكُفَّارِ فَذَكَرَ الْعَذَابَ لِسَبْقِ ذِكْرِ مُسْتَحِقِّيهِ بِحُكْمِ الْإِيعَادِ وَعَقَّبَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَكَمَا ذَكَرَ، بَعْدَ إِثْبَاتِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ- التَّهْدِيدَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ [العنكبوت: 18] وَأُهْلِكُوا بِالتَّكْذِيبِ كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْأَصْلِ الْآخَرِ التَّهْدِيدَ بِذِكْرِ التَّعْذِيبِ، وَذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَقَعَ تَبَعًا لِئَلَّا يَكُونَ الْعَذَابُ مَذْكُورًا وَحْدَهُ وَهَذَا يُحَقِّقُ
قَوْلَهُ: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ الْعَذَابِ لَمْ يُمَحِّضْهُ فِي الذِّكْرِ بَلْ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ ذَكَرَ هَذَا لِتَخْوِيفِ الْعَاصِي وَتَفْرِيحِ الْمُؤْمِنِ فَلَوْ قَالَ يُعَذِّبُ الْكَافِرَ وَيَرْحَمُ الْمُؤْمِنَ لَكَانَ أَدْخَلَ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَقَوْلُهُ: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لَا يَزْجُرُ الْكَافِرَ لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ لَعَلِّي لَا أَكُونُ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ عَذَابَهُ، فَنَقُولُ: هَذَا أَبْلَغُ فِي التَّخْوِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَثْبَتَ بِهَذَا إِنْفَاذَ مَشِيئَتِهِ إِذَا أَرَادَ تَعْذِيبَ شَخْصٍ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ مَانِعٌ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ لِلْعِبَادِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَنَّهُ شَاءَ تَعْذِيبَ أَهْلِ الْعِنَادِ، فَلَزِمَ مِنْهُ الْخَوْفُ التَّامُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يُعَذِّبُ الْعَاصِيَ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ عَذَابَ الْمُؤْمِنِ لَعَذَّبَهُ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا فَيَقُولُ الْكَافِرُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَلْنَضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَنَقُولُ: إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ كُلِّ مَنْ فِي بِلَادِهِ وَقَالَ مَنْ خَالَفَنِي أَضْرِبُهُ يَحْصُلُ الْخَوْفُ التَّامُّ لِمَنْ يُخَالِفُهُ، وَإِذَا قِيلَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ضَرْبِ الْمُخَالِفِينَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ الْمُطِيعِينَ، فَإِذَا قَالَ مَنْ خَالَفَنِي أَضْرِبُهُ يَقَعُ فِي وَهْمِ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرْبِ فُلَانٍ الْمُطِيعِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيَّ أَيْضًا لِكَوْنِي مِثْلَهُ، وَفِي هَذَا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ الْخَوْفُ الْعَامُّ وَالرَّجَاءُ الْعَامُّ، لِأَنَّ الْأَمْنَ الْكُلِّيَّ مِنَ اللَّهِ يُوجِبُ الْجَرَاءَةَ فَيُفْضِي إِلَى صَيْرُورَةِ الْمُطِيعِ عَاصِيًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ سَبَقَ إِثْبَاتُهَا وَتَقْرِيرُهَا فَلِمَ أَعَادَهَا؟ فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ التَّعْذِيبَ وَالرَّحْمَةَ وَهُمَا قَدْ يَكُونَانِ عَاجِلَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْكُمْ ذَلِكَ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّهُ فَاتَ، فَإِنَّ إِلَيْهِ إِيَابَكُمْ وَعَلَيْهِ حِسَابَكُمْ وَعِنْدَهُ يُدَّخَرُ ثَوَابُكُمْ وَعِقَابُكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يَعْنِي لَا تَفُوتُونَ اللَّهَ بَلِ الِانْقِلَابُ إِلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْفِلَاتُ مِنْهُ، وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: هِيَ إِعْجَازُ الْمُعَذَّبِ عَنِ التَّعْذِيبِ إِمَّا بِالْهَرَبِ مِنْهُ أَوِ الثَّبَاتِ لَهُ وَالْمُقَاوَمَةِ مَعَهُ لِلدَّفْعِ، وَذَكَرَ اللَّهُ الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ يَعْنِي بِالْهَرَبِ لَوْ صَعِدْتُمْ إِلَى مَحَلِّ السِّمَاكِ فِي السَّمَاءِ أَوْ هَبَطْتُمْ إِلَى مَوْضِعِ(25/42)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
السُّمُوكِ فِي الْمَاءِ لَا تَخْرُجُونَ مِنْ قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَلَا مَطْمَعَ فِي الْإِعْجَازِ بِالْهَرَبِ، وَأَمَّا بِالثَّبَاتِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِنَادِ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ يَشْفَعُ وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُعَذِّبِ مُخَالَفَتُهُ فَيَفُوتُهُ الْمُعَذَّبُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ بِالِانْتِصَارِ بِقَوْمٍ يَقُومُ مَعَهُ بِالدَّفْعِ وَكِلَاهُمَا محال، فإنكم مالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ يَشْفَعُ وَلَا نَصِيرٌ يَدْفَعُ فَلَا إِعْجَازَ/ لَا بِالْهُرُوبِ وَلَا بِالثَّبَاتِ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَمْ يَقُلْ لَا تُعْجِزُونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الصَّلَاحِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ إِنَّ فُلَانًا لَا يَخِيطُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَيْسَ بِخَيَّاطٍ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْأَرْضَ عَلَى السَّمَاءِ، وَالْوَلِيَّ عَلَى النَّصِيرِ، لِأَنَّ هَرَبَهُمُ الْمُمْكِنُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ هَرَبٌ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنْ فَرَضْنَا لَهُمْ قُدْرَةً غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُمْ صُعُودٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَمَّا الدَّفْعُ فَإِنَّ الْعَاقِلَ مَا أَمْكَنَهُ الدَّفْعُ بِأَجْمَلِ الطُّرُقِ فَلَا يَرْتَقِي إِلَى غَيْرِهِ، وَالشَّفَاعَةُ أَجْمَلُ. وَلِأَنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ فِي الشَّاهِدِ إِلَّا وَيَكُونُ لَهُ شَفِيعٌ يَتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ مَلِكٍ وَلَا يَكُونُ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ ناصر يعادي الملك لأجله. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 23]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ التَّوْحِيدَ وَالْإِعَادَةَ وَقَرَّرَهُمَا بِالْبُرْهَانِ وَهَدَّدَ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ إِشَارَةً إِلَى الْكُفَّارِ بِاللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةً دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَإِذَا أَشْرَكَ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَإِشَارَةً إِلَى الْمُنْكِرِ لِلْحَشْرِ فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ كَفَرَ بِلِقَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي لَمَّا أَشْرَكُوا أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَحَلِّ الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ تَدْفَعُ حَاجَتَهُ لَا غَيْرُ يُرْحَمُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ جِهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا يُبْقِي مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ، فَإِذَا جَعَلُوا لَهُمْ آلِهَةً لَمْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَاجَةِ إِلَى طَرِيقٍ مُتَعَيَّنٍ فَيَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْحَشْرَ وَقَالُوا لَا عَذَابَ فَنَاسَبَ تَعْذِيبَهُمْ تَحْقِيقًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قَالَ أُعَذِّبُ مَنْ يُخَالِفُنِي فَأَنْكَرَهُ بَعِيدٌ عَنْهُ وَقَالَ هُوَ لَا يَصِلُ إِلَيَّ، فَإِذَا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ وَيَقُولَ هَلْ قَدَرْتُ وَهَلْ عَذَّبْتُ أَمْ لَا، فَإِذَنْ تَبَيَّنَ أَنَّ عَدَمَ الرَّحْمَةِ يُنَاسِبُ الْإِشْرَاكَ، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ يُنَاسِبُ إِنْكَارَ الْحَشْرِ. ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ فَوَائِدَ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ يَئِسُوا حَتَّى يَكُونَ مُنْبِئًا عَنْ حَصْرِ الناس فيهم وقال أيضا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا كَانَ يَحْصُلُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَوِ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ أُولئِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ يَكْفِي فِي إِفَادَةِ مَا ذَكَرَ، ثُمَّ قُلْنَا لَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أُولَئِكَ يَئِسُوا وَلَهُمْ عَذَابٌ، كَانَ يَذْهَبُ وَهْمُ أَحَدٍ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مُنْحَصِرٌ فِيهِمْ، فَلَا يُوجَدُ الْمَجْمُوعُ إِلَّا فِيهِمْ وَلَكِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَحْدَهُ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ فِي غَيْرِهِمْ، فَإِذَا قَالَ أُولَئِكَ يَئِسُوا وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَفَادَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِيهِمْ الثَّانِيَةُ: عِنْدَ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ رَحْمَتِي وَعِنْدَ العذاب لم يضفه لسبق رحمة وَإِعْلَامًا لِعِبَادِهِ بِعُمُومِهَا لَهُمْ وَلُزُومِهَا لَهُ الثَّالِثَةُ: أَضَافَ الْيَأْسَ إِلَيْهِمْ/ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ يَئِسُوا فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَلَوْ طَمِعُوا لَأَبَاحَهَا لَهُمْ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا ذَكَرْتَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْيَأْسُ وَالْعَذَابُ بِأَمْرَيْنِ وَهُمَا الْكُفْرُ بِالْآيَاتِ وَالْكُفْرُ بِاللِّقَاءِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَاعْتَرَفَ بِالْحَشْرِ، أَوْ لَا يَكُونَ الْيَأْسُ لِمَنْ كَفَرَ بِالْحَشْرِ وَآمَنَ بِاللَّهِ فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَئِسُوا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ زَائِدٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِالْحَشْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِالْحَشْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْكَافِرِ بِالْحَشْرِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَالْكَافِرُ بِالْحَشْرِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَهُ والحشر من جملة ذلك. ثم قال:(25/43)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
[سورة العنكبوت (29) : آية 24]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَيَانِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَيْهِ، بَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِهِمْ إِمَّا الْإِجَابَةُ أَوِ الْإِتْيَانُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَهُ فَلَمْ يَأْتُوا إِلَّا بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ سَمَّى قَوْلَهُمُ اقْتُلُوهُ جَوَابًا، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ؟ فَنَقُولُ (الْجَوَابُ عَنْهُ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُمْ مَخْرَجَ كَلَامِ الْمُتَكَبِّرِ كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ لِرَسُولِ خَصْمِهِ جَوَابُكُمُ السَّيْفُ، مَعَ أَنَّ السَّيْفَ لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا أُقَابِلُهُ بِالْجَوَابِ، وَإِنَّمَا أُقَابِلُهُ بِالسَّيْفِ فَكَذَلِكَ قَالُوا لَا تُجِيبُوا عَنْ بَرَاهِينِهِ وَاقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ الثَّانِي هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ ضلالهم وَهُوَ أَنَّهُمْ ذُكِرُوا فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيبُ غَيْرَهُ وَيَسْكُتُ، لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَوَابِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ، أَمَّا إِذَا أَجَابَ بِجَوَابٍ فَاسِدٍ، عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ الْجَوَابَ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ الَّذِينَ قَالُوا اقْتُلُوهُ هُمْ قَوْمُهُ وَالْمَأْمُورُونَ بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوهُ أَيْضًا هُمْ، فَيَكُونُ الْآمِرُ نَفْسَ الْمَأْمُورِ؟ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَالَ لِمَنْ عَدَاهُ اقْتُلُوهُ، فَحَصَلَ الْأَمْرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصَارَ الْمَأْمُورُ كُلَّ وَاحِدٍ وَلَا اتِّحَادَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَمَرَ غَيْرَهُ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، فَإِذَا قَالَ أَعْيَانُ بَلَدٍ كَلَامًا يُقَالُ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ عَلَى هَذَا وَلَا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال، فَكَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ أَنْ قَالُوا لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَعْوَانِهِمُ اقْتُلُوهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَكَابِرُ وَالْقَتْلَ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا الْأَتْبَاعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (أَوْ) يُذْكَرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَوَّلِ كَمَا يُقَالُ زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَيُقَالُ هَذَا إِنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ، يَعْنِي إِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا حَيَوَانٌ/ أَوْ إِنْسَانٌ إِذْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ حَيَوَانٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا فَهُوَ إِنْسَانٌ وَهُوَ مُحَالٌ لَكِنَّ التَّحْرِيقَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْقَتْلِ فَقَوْلُهُ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، الْجَوَابُ عَنْهُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ شَائِعٌ وَيَكُونُ (أَوْ) مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِ بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطَيْتُهُ دِينَارًا أَوْ دِينَارَيْنِ، وَكَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَعْطِهِ دِينَارًا بَلْ دِينَارَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 2- 4] فكذلك هاهنا اقْتُلُوهُ أَوْ زِيدُوا عَلَى الْقَتْلِ وَحَرِّقُوهُ (الْجَوَابُ الثَّانِي) : هُوَ أَنَّا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرْتُمْ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّحْرِيقَ فِعْلٌ مُفْضٍ إِلَى الْقَتْلِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْقَتْلُ فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِي النَّارِ حَتَّى احْتَرَقَ جِلْدُهُ بِأَسْرِهِ وَأُخْرِجَ مِنْهَا حَيًّا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ احْتَرَقَ فُلَانٌ وَأَحْرَقَهُ فُلَانٌ وَمَا مَاتَ، فَكَذَلِكَ هاهنا قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ لَا تُعَجِّلُوا قَتْلَهُ وَعَذِّبُوهُ بِالنَّارِ، وَإِنْ تَرَكَ مَقَالَتَهُ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَإِنْ أَصَرَّ فَخَلُّوا فِي النَّارِ مَقِيلَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْجَاءِ، بَعْضُهُمْ قَالَ بَرَّدَ النَّارَ وهو الأصح الموافق لقوله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً [الْأَنْبِيَاءِ: 69] وَبَعْضُهُمْ قَالَ خَلَقَ فِي إِبْرَاهِيمَ كَيْفِيَّةً اسْتَبْرَدَ مَعَهَا النَّارَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ تَرَكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالنَّارَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَمَنَعَ أَذَى النَّارِ عَنْهُ، وَالْكُلُّ مُمْكِنٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ الْكُلَّ، أَمَّا سَلْبُ الْحَرَارَةِ عَنِ النَّارِ، قَالُوا الْحَرَارَةُ فِي النَّارِ ذَاتِيَّةٌ كَالزَّوْجِيَّةِ في الأربعة(25/44)
لَا يُمْكِنُ أَنْ تُفَارِقَهَا، وَأَمَّا خَلْقُ كَيْفِيَّةٍ تَسْتَبْرِدُ النَّارَ فَلِأَنَّ الْمِزَاجَ الْإِنْسَانِيَّ لَهُ طَرَفَا تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ، فَلَوْ خَرَجَ عَنْهُمَا لَا يَبْقَى إِنْسَانًا أَوْ لَا يَعِيشُ. مَثَلًا الْمِزَاجُ إِنْ كَانَ الْبَارِدُ فِيهِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ يَكُونُ إِنْسَانًا فَإِنْ صَارَ أَحَدَ عَشَرَ لَا يَكُونُ إِنْسَانًا وَإِنْ صَارَتِ الْأَجْزَاءُ الْبَارِدَةُ خَمْسَةً يَبْقَى إِنْسَانًا فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً لَا يَبْقَى إِنْسَانًا لَكِنَّ الْبُرُودَةَ الَّتِي يَسْتَبْرِدُ مَعَهَا النَّارَ مِزَاجُ السَّمَنْدَلِ فَلَوْ حَصَلَ فِي الْإِنْسَانِ لَمَاتَ أَوْ لَكَانَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّفْسَ تَابِعَةٌ لِلْمِزَاجِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ الْقُطْنَةُ فِي النَّارِ وَالنَّارُ كَمَا هِيَ، وَالْقُطْنَةُ كَمَا هِيَ وَلَا تَحْتَرِقُ، فَنَقُولُ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَالْعَقْلُ مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَرَارَةَ فِي النَّارِ تَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ، فَإِنَّ النَّارَ فِي الْفَحْمِ إِذَا نُفِخَ فِيهِ يَشْتَدُّ حَتَّى يُذِيبَ الْحَدِيدَ وَإِنْ لَمْ يُنْفَخْ لَا يَشْتَدُّ لَكِنَّ الضعف هو عدم بعض من الجرارة الَّتِي كَانَتْ فِي النَّارِ، فَإِذَا أَمْكَنَ عُدْمُ الْبَعْضِ جَازَ عُدْمُ بَعْضٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ، وَلَا كَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةٌ فَإِنَّهَا لَا تَشْتَدُّ وَلَا تَضْعُفُ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ فِي أُصُولِ الطِّبِّ ذُكِرَ أَنَّ النَّارَ لَهَا كَيْفِيَّةٌ حَارَةٌ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ بَارِدَةٌ لَكِنْ رَأَيْنَا أَنَّ الْمَاءَ تَزُولُ عَنْهُ الْبُرُودَةُ وَهُوَ مَاءٌ فَكَذَلِكَ النَّارُ تَزُولُ عَنْهَا الْحَرَارَةُ وَتَبْقَى نَارًا وَهُوَ نُورٌ غَيْرُ مُحْرِقٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَأَيْضًا مُمْكِنٌ وَقَوْلُهُمْ مَدْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَصْلِهِمْ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ تَابِعَةً لِلْمِزَاجِ بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي الْمِزَاجِ الَّذِي مِثْلَ مِزَاجِ الْجَمَدِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ نَقُولَ عَلَى أَصْلِكُمْ لَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَكُونُ في ظاهر الجلد كَالْأَجْزَاءِ الرَّشِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَدَّى إِلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ/ إِذَا مَسَّ الْجَمَدَ زَمَانًا ثُمَّ مَسَّ جَمْرَةَ نَارٍ لَا تُؤَثِّرُ النَّارُ فِي إِحْرَاقِ يَدِهِ مِثْلَ مَا تُؤَثِّرُ فِي إِحْرَاقِ يَدِ مَنْ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، وَلِهَذَا تَحْتَرِقُ يَدُهُ قَبْلَ يَدِ هَذَا. فَإِذَا جَازَ وُجُودُ كَيْفِيَّةٍ فِي ظَاهِرِ جِلْدِ الْإِنْسَانِ تَمْنَعُ تَأْثِيرَ النَّارِ فِيهِ بِالْإِحْرَاقِ زَمَانًا فَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَدَّدَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ لَحْظَةً فَلَحْظَةً حَتَّى لَا تَحْتَرِقَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمُجَرَّدُ اسْتِبْعَادِ بَيَانِ عَدَمِ الِاعْتِيَادِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَالْمُعْجِزُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي فِي إِنْجَائِهِ مِنَ النَّارِ لَآيَاتٍ، وَهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وأصحاب السفينة جَعَلْناها آيَةً [العنكبوت: 15] وقال هاهنا لَآياتٍ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ شَيْءٌ تَتَّسِعُ لَهُ الْعُقُولُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْآيَةِ إِلَّا بِسَبَبِ إِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالِاتِّخَاذِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَاهُ لَمَا اتَّخَذَهُ لِعَدَمِ حُصُولِ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْغَيْبِ، وَبِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ صَانَ السَّفِينَةَ عَنِ الْمُهْلِكَاتِ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ، وَأَمَّا الْإِنْجَاءُ مِنَ النَّارِ فَعَجِيبٌ فَقَالَ فِيهِ آيَاتٌ.
المسألة الثانية: قال هناك آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] وقال هاهنا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّ الْآيَاتِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ السَّفِينَةَ بَقِيَتْ أَعْوَامًا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ [فَإِنَّهُ] لَمْ يَبْقَ فَلَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ يعده إِلَّا بِطَرِيقِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَرَّدَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ اهْتِدَائِهِ فِي نَفْسِهِ وَهِدَايَتِهِ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ أُسْوَةً حَسَنَةً فِي إِبْرَاهِيمَ، فَحَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِشَارَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّدُ عَلَيْهِمُ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ إِنَّ فِي ذَلِكَ التَّبْرِيدِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون.
المسألة الثالثة: قال هناك جَعَلْناها وقال هاهنا جَعَلْنَاهُ لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَا صَارَتْ آيَةً فِي نَفْسِهَا وَلَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ الطُّوفَانَ لَبَقِيَ فِعْلُ نُوحٍ سَفَهًا، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ السَّفِينَةَ بَعْدَ وُجُودِهَا آيَةً، وَأَمَّا تَبْرِيدُ النَّارِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ إِذَا وُجِدَتْ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ كَخَلْقِ الطُّوفَانِ حَتَّى يَصِيرَ آيَةً. ثم قال تعالى:(25/45)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
[سورة العنكبوت (29) : آيَةً 25]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ النَّارِ عَادَ إِلَى عَذْلِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ فَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ فَسَادَ مَذْهَبِكُمْ وَمَا كَانَ لَكُمْ جَوَابٌ وَلَا تَرْجِعُونَ عَنْهُ، فَلَيْسَ هَذَا إِلَّا تَقْلِيدًا، فَإِنَّ بَيْنَ بَعْضِكُمْ وَبَعْضٍ مَوَدَّةً/ فَلَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُفَارِقَهُ صَاحِبُهُ فِي السِّيرَةِ وَالطَّرِيقَةِ أَوْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ آبَائِكُمْ مَوَدَّةٌ فَوَرِثْتُمُوهُمْ وَأَخَذْتُمْ مَقَالَتَهُمْ وَلَزِمْتُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ يَعْنِي لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَصْلًا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ تَحْقِيقٌ دَقِيقٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ أَيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَبَيْنَ عَبَدَتِهَا، وَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جِسْمٍ وَعَقْلٍ، وَلِجِسْمِهِ لَذَّاتٌ جُسْمَانِيَّةٌ وَلِعَقْلِهِ لَذَّاتٌ عَقْلِيَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ غَلَبَتْ فِيهِ الْجِسْمِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، كَالْمَجْنُونِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى قَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ إِرَاقَةِ مَاءٍ وَهُوَ بَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْأَكَابِرِ فِي مَجْمَعٍ يَحْصُلُ مَا فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ مِنَ الْأَكْلِ وَإِرَاقَةِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى اللَّذَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ وَحَمْدِ الْأَوْصَافِ وَمَكْرُمَةِ الْأَخْلَاقِ. وَالْعَاقِلُ يَحْمِلُ الْأَلَمَ الْجُسْمَانِيَّ وَيُحَصِّلُ اللَّذَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، حَتَّى لَوْ غَلَبَتْ قُوَّتُهُ الدَّافِعَةُ عَلَى قُوَّتِهِ الْمَاسِكَةِ وَخَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ قَطْرَةُ مَاءٍ يَكَادُ يَمُوتُ مِنَ الْخَجَالَةِ وَالْأَلَمِ الْعَقْلِيِّ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُمْ كَانُوا قَلِيلِي الْعَقْلِ غَلَبَتِ الْجِسْمِيَّةُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهُمْ لِمَعْبُودٍ لَا يَكُونُ فَوْقَهُمْ وَلَا تَحْتَهُمْ، وَلَا يَمِينَهُمْ وَلَا يَسَارَهُمْ، وَلَا قُدَّامَهُمْ وَلَا وَرَاءَهُمْ، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلَا شَيْئًا يَدْخُلُ فِي الْأَوْهَامِ، وَرَأَوُا الْأَجْسَامَ الْمُنَاسِبَةَ لِلْغَالِبِ فِيهِمْ مُزَيَّنَةً بِجَوَاهِرَ فَوَدُّوهَا فَاتِّخَاذُهُمُ الْأَوْثَانَ كَانَ مَوَدَّةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يَعْنِي يَوْمَ يَزُولُ عَمَى الْقُلُوبِ وَتَتَبَيَّنُ الْأُمُورُ لِلَّبِيبِ وَالْغَفُولِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَعْلَمُ فَسَادَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الْعَابِدُ مَا هَذَا مَعْبُودِي، وَيَقُولُ المعبود ما هؤلاء عبدتي ويعلن بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَقُولُ هَذَا لِذَاكَ أَنْتَ أَوْقَعْتَنِي فِي الْعَذَابِ حَيْثُ عَبَدْتَنِي، وَيَقُولُ ذَاكَ لِهَذَا أَنْتَ أَوْقَعْتَنِي فِيهِ حَيْثُ أَضْلَلْتَنِي بِعِبَادَتِكَ، وَيُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يُبْعِدَ صَاحِبَهُ بِاللَّعْنِ وَلَا يَتَبَاعَدُونَ، بَلْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي النَّارِ كَمَا كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يَعْنِي لَيْسَ تِلْكَ النَّارُ مِثْلَ نَارِكُمُ الَّتِي أَنْجَى اللَّهُ مِنْهَا إِبْرَاهِيمَ وَنَصَرَهُ فَأَنْتُمْ فِي النَّارِ وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قَبْلَ هَذَا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] على لفظ الواحد، وقال هاهنا عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِحْرَاقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا نَحْنُ نَنْصُرُ آلِهَتَنَا كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 68] فَقَالَ أَنْتُمُ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ نَاصِرِينَ فَمَا لَكُمْ وَلَهُمْ، أَيْ لِلْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا مِنْ نَاصِرِينَ، وَأَمَّا هُنَاكَ مَا سَبَقَ مِنْهُمْ دَعْوَى النَّاصِرِينَ فَنَفَى الْجِنْسَ بِقَوْلِهِ: وَلا نَصِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَمَا ذَكَرَ الولي هاهنا فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ الشَّفِيعُ يَعْنِي لَيْسَ لَكُمْ شَافِعٌ وَلَا نَصِيرٌ دَافِعٌ، وهاهنا لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ دَخَلَ فِيهِ الْأَوْثَانُ أَيْ مَا لَكُمْ كُلِّكُمْ لَمْ يَقُلْ شَفِيعٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ أَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ شَافِعٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءُ، كَمَا قال(25/46)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
تَعَالَى عَنْهُمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا [يُونُسَ: 18] وَالشَّفِيعُ لَا يَكُونُ/ لَهُ شَفِيعٌ، فَمَا نَفَى عَنْهُمُ الشَّفِيعَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى نَفْيِهِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِهِ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَكَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ وَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ لِأَنْفُسِهِمْ شُفَعَاءَ فَنَفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هناك ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَذُكِرَ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَيُفْهَمُ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا وَوَلِيًّا هُوَ اللَّهُ وَلَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهُ وَلِيٌّ وَنَاصِرٌ وَقَالَ هاهنا ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ فَنَقُولُ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، لَا تَظُنُّوا أَنَّكُمْ تُعْجِزُونَ اللَّهَ فَمَا لَكُمْ أَحَدٌ يَنْصُرُكُمْ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْصُرُكُمْ إِنْ تُبْتُمْ، فَهُوَ نَاصِرٌ مُعَدٌّ لَكُمْ مَتَى أَرَدْتُمُ اسْتَنْصَرْتُمُوهُ بِالتَّوْبَةِ وَهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَعَدَمُ النَّاصِرِ عَامٌّ لِأَنَّ التَّوْبَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُقْبَلْ فَسَوَاءٌ تَابُوا أَوْ لَمْ يَتُوبُوا لَا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ وَلَا نَاصِرَ لَهُمْ غَيْرُهُ فَلَا نَاصِرَ لهم مطلقا. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 26]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
يعني لما رأى لوط معجزته آمن وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أَيْ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ عَزِيزٌ يَمْنَعُ أَعْدَائِي عَنْ إِيذَائِي بِعِزَّتِهِ، وَحَكِيمٌ لَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي بعد ما رَأَى مِنْهُ الْمُعْجِزَ الْقَاهِرَ وَدَرَجَةُ لُوطٍ كَانَتْ عَالِيَةً، وَبَقَاؤُهُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مِمَّا يُنْقِصُ مِنَ الدَّرَجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَبِلَ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَكَانَ نَيِّرَ الْقَلْبِ قَبِلَهُ قَبْلَ الْكُلِّ، مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ تَكَلُّمِ الْحَصَى وَلَا رُؤْيَةِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَنَقُولُ إِنَّ لُوطًا لَمَّا رَأَى مُعْجِزَتَهُ آمَنَ بِرِسَالَتِهِ، وَأَمَّا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَآمَنَ حَيْثُ سَمِعَ حُسْنَ مَقَالَتِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَمَا قَالَ فَآمَنَ لُوطٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا تَعَلُّقُ قَوْلِهِ وَقَالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي بِمَا تَقَدَّمَ؟ فَنَقُولُ (لَمَّا بَالَغَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْإِرْشَادِ وَلَمْ يَهْتَدِ قَوْمُهُ، وَحَصَلَ الْيَأْسُ الْكُلِّيُّ حَيْثُ رَأَى الْقَوْمُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ، لِأَنَّ الْهَادِيَ إِذَا هَدَى قَوْمَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا فَبَقَاؤُهُ فِيهِمْ مَفْسَدَةٌ لِأَنَّهُ إِنْ دَامَ عَلَى الْإِرْشَادِ كَانَ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ فَيَصِيرُ كَمَنْ يَقُولُ لِلْحَجَرِ صَدِّقْ وَهُوَ عَبَثٌ أَوْ يَسْكُتُ وَالسُّكُوتُ دَلِيلُ الرِّضَا فَيُقَالُ بِأَنَّهُ صَارَ مِنَّا وَرَضِيَ بِأَفْعَالِنَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْإِقَامَةِ وَجْهٌ وَجَبَتِ الْمُهَاجَرَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي وَلَمْ يَقُلْ مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي مَعَ أَنَّ الْمُهَاجَرَةَ إِلَى الرَّبِّ تُوهِمُ الْجِهَةَ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ: مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي رَبِّي لَيْسَ فِي الْإِخْلَاصِ كَقَوْلِهِ: إِلى رَبِّي لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ أَمَرٌ بِرَوَاحِ الْأَجْنَادِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، ثُمَّ إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ سَافَرَ إِلَيْهِ لِغَرَضٍ [فِي] نَفْسِهِ يُصِيبُهُ فَقَدْ هَاجَرَ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ الْمَلِكُ وَلَكِنْ لَا مُخْلِصًا لِوَجْهِهِ فَقَالَ: مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي يَعْنِي تَوَجُّهِي إِلَى الْجِهَةِ الْمَأْمُورُ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا لَيْسَ طَلَبًا لِلْجِهَةِ إِنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لله/ ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 27]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 7] أَنَّ أَثَرَ رَحْمَةِ اللَّهِ فِي(25/47)
أَمْرَيْنِ فِي الْأَمَانِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ وَالِامْتِنَانِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ وَهُوَ وَاصِلٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ قَطْعًا بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ نَفْيَ الْعَذَابِ عَنْهُ لِنَفْيِهِ الشِّرْكَ وَإِثْبَاتَ الثَّوَابِ لِإِثْبَاتِهِ الْوَاحِدَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاجِبِ الْحُصُولِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْكَافِرُ فِي رَغَدٍ وَالْمُؤْمِنُ جَائِعٌ فِي يَوْمِهِ مُتَفَكِّرٌ فِي أَمْرِ غَدِهِ لَكِنَّهُمَا مَطْلُوبَانِ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا دَفْعُ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ فَلِأَنَّهُ وَرَدَ فِي دُعَاءِ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ،
قَوْلُهُ: «وَقِنَا عَذَابَ الْفَقْرِ وَالنَّارِ»
فَعَذَابُ الْفَقْرِ إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَأَمَّا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ فَفِي قَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [الْبَقَرَةِ:
201] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَتَى بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ أَوَّلًا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، وَلَمَّا أَتَى بِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَعَ إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى التَّكْذِيبِ وَإِضْرَارِهِمْ بِهِ بِالتَّعْذِيبِ، أَعْطَاهُ الْجَزَاءَ الْآخَرَ، وَهُوَ الثَّوَابُ الْعَاجِلُ وَعَدَّدَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ بَدَّلَ جَمِيعَ أَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا بِأَضْدَادِهَا لَمَّا أَرَادَ الْقَوْمُ تَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ وَكَانَ وَحِيدًا فَرِيدًا فَبَدَّلَ وَحْدَتَهُ بِالْكَثْرَةِ حَتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمَّا كَانَ أَوَّلًا قَوْمُهُ وَأَقَارِبُهُ الْقَرِيبَةُ ضَالِّينَ مُضِلِّينَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ آزَرُ، بَدَّلَ اللَّهُ أَقَارِبَهُ بِأَقَارِبَ مُهْتَدِينَ هَادِينَ وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَكَانَ أَوَّلًا لَا جَاهَ لَهُ وَلَا مَالَ وَهُمَا غَايَةُ اللَّذَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى كَانَ لَهُ مِنَ الْمَوَاشِي مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَدَهُ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ كَلْبٍ حَارِسٍ بِأَطْوَاقٍ ذَهَبٍ، وَأَمَّا الْجَاهُ فَصَارَ بِحَيْثُ يَقْرِنُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَصَارَ مَعْرُوفًا بِشَيْخِ الْمُرْسَلِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَامِلًا، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الْأَنْبِيَاءِ: 60] وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي مَجْهُولٍ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يَعْنِي لَيْسَ لَهُ هَذَا فِي الدُّنْيَا فَحَسْبُ كَمَا يَكُونُ لِمَنْ قَدَّمَ لَهُ ثَوَابَ حَسَنَاتِهِ أَوْ أَمْلَى لَهُ اسْتِدْرَاجًا لِيُكْثِرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بَلْ هَذَا لَهُ عُجَالَةٌ وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الدَّلَالَةِ وَالرِّسَالَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ صَالِحًا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّالِحَ هُوَ الْبَاقِي عَلَى مَا يَنْبَغِي، يُقَالُ الطَّعَامُ بَعْدُ صَالِحٌ، أَيْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَا يَكُونُ فِي عَذَابٍ، وَيَكُونُ لَهُ كُلُّ مَا يُرِيدُ من حسن ثواب وفي الآية مسألتان:
إحداهما: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ مِنْ أَوْلَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ بِالذَّبْحِ وَانْقَادَ/ لِحُكْمِ اللَّهِ، فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ؟ فَيُقَالُ هُوَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَلَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ غَرَضُهُ تَبْيِينَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ بِهِبَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْفَادِ، فَذَكَرَ مِنَ الْأَوْلَادِ وَاحِدًا وَهُوَ الْأَكْبَرُ، وَمِنَ الْأَحْفَادِ وَاحِدًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ إِنَّ السُّلْطَانَ فِي خِدْمَتِهِ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ الْمَلِكُ الْفُلَانِيُّ وَالْأَمِيرُ الْفُلَانِيُّ وَلَا يُعَدِّدُ [الْكُلَّ] لِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِخُصُوصِيَّتِهِ وَلَوْ ذَكَرَ غَيْرَهُ لَفُهِمَ مِنْهُ التَّعْدِيدُ وَاسْتِيعَابُ الْكُلِّ بِالذِّكْرِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ الْمَذْكُورِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ إِجَابَةً لِدُعَائِهِ وَالْوَالِدُ يَسْتَحِبُّ مِنْهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ وَلَدَيْهِ، فَكَيْفَ صَارَتِ النُّبُوَّةُ فِي أَوْلَادِ إِسْحَاقَ أَكْثَرَ مِنَ النُّبُوَّةِ فِي أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ؟ فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الزَّمَانَ مِنْ وَقْتِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْقِيَامَةِ قِسْمَيْنِ وَالنَّاسَ أَجْمَعِينَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الزَّمَانِ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِ أَنْبِيَاءَ فِيهِمْ فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَجَاءُوا تَتْرَى وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَمُجْتَمِعِينَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ مِنْ وَرَثَةِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ أَخْرَجَ مِنْ ذُرِّيَّةِ وَلَدِهِ الْآخَرِ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَاحِدًا جَمَعَ فِيهِ مَا كَانَ فِيهِمْ وَأَرْسَلَهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وهو(25/48)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَقَدْ دَامَ الْخَلْقُ عَلَى دِينِ أَوْلَادِ إِسْحَاقَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَبْقَى الْخَلْقُ عَلَى دِينِ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
الْإِعْرَابُ فِي لُوطٍ، وَالتَّفْسِيرُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قوله: وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ [العنكبوت: 16] وهاهنا مسائل:
الْأُولَى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَقَالَ عن لوط هاهنا أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا عِنْدَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ لُوطٌ فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ لوط أنه أمر قدمه بِالتَّوْحِيدِ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَنَقُولُ حِكَايَةُ لُوطٍ وَغَيْرُهَا/ هاهنا ذَكَرَهَا اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ لُوطٌ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ الْأَمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَبَقَهُ فَصَارَ كَالْمُخْتَصِّ بِهِ وَلُوطٌ يُبَلِّغُ ذَلِكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ كَانَ مُخْتَصًّا بِلُوطٍ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ [فِي زَمَنِهِ] وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ فَذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ وَسَبَقَ بِهِ غَيْرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ سَمَّى ذَلِكَ الْفِعْلَ فَاحِشَةً؟ فَنَقُولُ الْفَاحِشَةُ هُوَ الْقَبِيحُ الظَّاهِرُ قُبْحُهُ، ثُمَّ إِنَّ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ صِفَتَا قُبْحٍ لَوْلَا مَصْلَحَةٌ مَا كَانَ يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ، فَمَصْلَحَةُ الشَّهْوَةِ الْفَرْجِيَّةِ هِيَ بَقَاءُ النَّوْعِ بِتَوْلِيدِ الشَّخْصِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِوُجُودِ الْوَلَدِ وَبَقَائِهِ بَعْدَ الْأَبِ، فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ وَمَاتَ قَبْلَ الْأَبِ كَانَ يَفْنَى النَّوْعُ بِفَنَاءِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّ الزِّنَا قَضَاءُ شَهْوَةٍ وَلَا يُفْضِي إِلَى بَقَاءِ النَّوْعِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ بِالْوُجُودِ وَبَقَاءِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْأَبِ لَكِنَّ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَكِنْ لَا يُفْضِي إِلَى بَقَائِهِ، لِأَنَّ الْمِيَاهَ إِذَا اشْتَبَهَتْ لَا يَعْرِفُ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلَا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَيَضِيعُ وَيَهْلِكُ، فَلَا يَحْصُلُ مَصْلَحَةُ الْبَقَاءِ، فَإِذَنِ الزِّنَا شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَتْ، فَهُوَ قَبِيحٌ ظَاهِرٌ قُبْحُهُ حَيْثُ لَا تَسْتُرُهُ الْمَصْلَحَةُ فَهُوَ فَاحِشَةٌ، وَإِذَا كَانَ الزِّنَا فَاحِشَةً مَعَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى وُجُودِ الْوَلَدِ وَلَكِنْ لَا يُفْضِي إِلَى بَقَائِهِ، فَاللِّوَاطَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى وُجُودِهِ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ، لِأَنَّهَا مَعَ الزِّنَا اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهِمَا فَاحِشَةً حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الْإِسْرَاءِ: 32] وَاشْتِرَاكُهُمَا فِي الْفَاحِشَةِ يُنَاسِبُ الزَّجْرَ عَنْهُ، فَمَا شَرَعَ زَاجِرًا هُنَاكَ يشرع زاجرا هاهنا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا إِلَّا أَنَّ جَامِعَهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْآيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَذَابَ مَنْ أَتَى بِهَا إِمْطَارَ الْحِجَارَةِ حَيْثُ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً عَاجِلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُعَذَّبَ مَنْ أَتَى بِهِ بِأَمْطَارِ الْحِجَارَةِ بِهِ عَاجِلًا وَهُوَ الرَّجْمُ، وَقَوْلُهُ: مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قبلهم لم(25/49)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
يَأْتِ أَحَدٌ بِهَذَا الْقَبِيحِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ قَبْلَهُمْ رُبَّمَا أَتَى بِهِ وَاحِدٌ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهُمْ بَالَغُوا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ، كَمَا يُقَالُ إِنَّ فُلَانًا سَبَقَ الْبُخَلَاءَ فِي الْبُخْلِ، وَسَبَقَ اللِّئَامَ فِي اللُّؤْمِ إِذَا زَادَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ بَيَانًا لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي تَقْضُونَ الشَّهْوَةَ بِالرِّجَالِ مَعَ قَطْعِ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ مَعَ النِّسَاءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ بَقَاءُ النَّوْعِ، حَتَّى يُظْهِرَ أَنَّهُ قَبِيحٌ لَمْ يَسْتُرْ قُبْحَهُ مَصْلَحَةً، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ [الْأَعْرَافِ: 81] يَعْنِي إِتْيَانُ النِّسَاءِ شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ مُسْتَتِرَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَكُمْ دَافِعٌ لِحَاجَتِكُمْ لَا فَاحِشَةَ فِيهِ وَتَتْرُكُونَهُ وَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مَعَ الْفَاحِشَةِ وَقَوْلُهُ:
وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ يَعْنِي مَا كَفَاكُمْ قُبْحُ فِعْلِكُمْ حَتَّى تَضُمُّونَ إِلَيْهِ قُبْحَ الْإِظْهَارِ، وَقَوْلُهُ: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ فِي التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وَفِي الْآيَةِ مسائل:
/ الْأُولَى: قَالَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [العنكبوت: 24] وَقَالَ قَوْمُ لُوطٍ ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ وَمَا هَدَّدُوهُ، مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ لُوطٍ، فَإِنَّ لُوطًا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، فَنَقُولُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ وَيَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ بِتَعْدِيدِ صِفَاتِ نَقْصِهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يُغْنِي وَالْقَدْحُ فِي الدِّينِ صَعْبٌ، فَجَعَلُوا جَزَاءَهُ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ، وَلُوطٌ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِعْلَهُمْ وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا وَاجِبٌ مِنَ الدِّينِ، فَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا صَعُبَ عَلَى قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ هَذَا حَرَامٌ وَاللَّهُ يُعَذِّبُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يُعَذِّبُ، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأْتِنَا بِالْعَذَابِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ أَخَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56] وقال هاهنا فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ فَنَقُولُ لُوطٌ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْإِرْشَادِ مُكَرِّرًا عَلَيْهِمُ التَّغْيِيرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعِيدَ، فَقَالُوا أَوَّلًا ائْتِنَا، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْهُمْ قَالُوا أَخْرِجُوا، ثُمَّ إِنَّ لُوطًا لَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ طَلَبَ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ وَذَكَّرَهُمْ بِمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ فقال رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، حَتَّى يُنْجِزَ النَّصْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا طَلَبَ هَلَاكَ قَوْمٍ إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ عَدَمَهُمْ خَيْرٌ مِنْ وُجُودِهِمْ، كَمَا قَالَ نُوحٌ:
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: 27] يَعْنِي الْمَصْلَحَةُ إِمَّا فِيهِمْ حَالًا أَوْ بِسَبَبِهِمْ مَآلًا وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَضِلُّونَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ فَإِنَّهُمْ يُوصُونَ الْأَوْلَادَ مِنْ صِغَرِهِمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، فَكَذَلِكَ لُوطٌ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْحَالِ وَاشْتَغَلُوا بِمَا لَا يُرْجَى مَعَهُ مِنْهُمْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَعْبُدُ اللَّهَ، بَطَلَتِ الْمَصْلَحَةُ حَالًا وَمَآلًا، فعدمهم صار خيرا، فطلب العذاب. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 32]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32)
لَمَّا دَعَا لُوطٌ عَلَى قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ انْصُرْنِي اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِهْلَاكِهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَجَاءُوا إِبْرَاهِيمَ وبشروه بذرية طيبة وقالوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يَعْنِي أَهْلَ سَدُومَ،(25/50)
وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، / لَكِنَّ الْبِشَارَةَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ وَالْإِنْذَارَ بِالْإِهْلَاكِ أَثَرُ الْغَضَبِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ. وَقَالَ: جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثم قال:
إِنَّا مُهْلِكُوا الثَّانِيَةُ: حِينَ ذَكَرُوا الْبُشْرَى مَا عَلَّلُوا وَقَالُوا إِنَّا نُبَشِّرُكَ لِأَنَّكَ رَسُولٌ، أَوْ لِأَنَّكَ مُؤْمِنٌ أَوْ لِأَنَّكَ عَادِلٌ، وَحِينَ ذَكَرُوا الْإِهْلَاكَ عَلَّلُوا، وَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لَا يَكُونُ فَضْلُهُ بِعِوَضٍ، وَالْعَادِلُ لَا يَكُونُ عَذَابُهُ إِلَّا عَلَى جُرْمٍ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَالَ قَائِلٌ أَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذِهِ الْبُشْرَى بِهَذَا الْإِنْذَارِ، نَقُولُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ قَوْمٍ وَكَانَ فِيهِ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ عَنِ الْعِبَادِ قَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِعْلَامَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ حَتَّى لَا يَتَأَسَّفَ عَلَى إِهْلَاكِ قَوْمٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: 14] وَقَدْ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وهاهنا قَالَ: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ وَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَنَقُولُ لَا فَرْقَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي كَوْنِهِمْ مُهْلَكِينَ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الظُّلْمِ، لَكِنْ هُنَاكَ الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ وَعَنِ الْمَاضِي حَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَهُمُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، فَقَالَ أَخَذَهُمْ وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وهاهنا الْإِخْبَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي إِبَانَةِ حُسْنِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِهْلَاكِ، فَقَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا، وَحَالَ مَا أَمَرَنَا بِهِ كَانُوا ظَالِمِينَ، فَحَسُنَ أَمْرُ اللَّهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُخْبِرُ بِمَا لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْمَلِكِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ سُوءُ أَدَبٍ، فَنَحْنُ مَا احْتَجْنَا إِلَّا إِلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ حَيْثُ أَمَرَنَا اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِمْ بَيَانًا لِحُسْنِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي وَقْتِنَا هَذَا أَوْ يَبْقَوْنَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِنَّ فِيهَا لُوطًا إِشْفَاقًا عَلَيْهِ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، فَقَالَ تَعَجُّبًا إِنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَكَيْفَ يُهْلَكُونَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بمن فيها، يعني تعلم أَنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَلَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ وَنُهْلِكُ الْبَاقِينَ، وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهُوَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانُوا أَهْلَ الْخَيْرِ، أَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ كَانَ يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا. أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فلما سمع قوله الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا أَظْهَرَ الْإِشْفَاقَ عَلَى لُوطٍ وَنَسِيَ نَفْسَهُ وَمَا بَشَّرُوهُ وَلَمْ يُظْهِرْ بِهَا فَرَحًا، وَقَالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: 32] ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ زَادُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا إِنَّكَ ذَكَرْتَ لُوطًا وَحْدَهُ وَنَحْنُ نُنْجِيهِ وَنُنْجِي مَعَهُ أَهْلَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا من الأهل امرأته، وقالوا: إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْغَابِرِ فِي الْمُهْلَكِ وَجْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَابِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْمَاضِي، وَفِي الْبَاقِي يُقَالُ فِيمَا غَبَرَ مِنَ الزَّمَانِ أَيْ فِيمَا مَضَى وَيُقَالُ الْفِعْلُ مَاضٍ وَغَابِرٌ أَيْ بَاقٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ نَقُولُ إِنَّ ذِكْرَ الظَّالِمِينَ سبق في قولهم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ لُوطٍ بِتَذْكِيرِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّهَا/ مِنَ الْغَابِرِينَ أَيِ الْمَاضِي ذِكْرُهُمْ لَا مِنَ الَّذِينَ نُنْجِي مِنْهُمْ، أَوْ نَقُولُ الْمُهْلَكُ يَفْنَى وَيَمْضِي زَمَانُهُ وَالنَّاجِي هُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا إِنَّهَا مِنَ الْغَابِرِينَ أَيْ مِنَ الرَّائِحِينَ الْمَاضِينَ لَا مِنَ الْبَاقِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ لَمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ الْكُلُّ فِي الْهَلَاكِ إِلَّا مَنْ نُنْجِي مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّا نُنْجِي لُوطًا وَأَهْلَهُ، وَأَمَّا امْرَأَتُهُ فَهِيَ مِنَ الباقين في الهلاك. ثم قال تعالى:(25/51)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 33 الى 35]
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
[في قوله تعالى وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً إلى قوله بِما كانُوا يَفْسُقُونَ] ثُمَّ إِنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى لُوطٍ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ فَظَنَّهُمْ بَشَرًا فَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ خَلَقَ اللَّهُ وَالْقَوْمُ كَمَا عُرِفَ حَالُهُمْ فَسِيءَ بِهِمْ أَيْ جَاءَهُ مَا سَاءَهُ وَخَافَ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ تَدْبِيرِهِمْ فَحَزِنَ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا كِنَايَةً عَنِ الْعَجْزِ فِي تَدْبِيرِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُقَالُ طَالَ ذَرْعُهُ وَذِرَاعُهُ لِلْقَادِرِ وَضَاقَ لِلْعَاجِزِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ طَالَ ذِرَاعُهُ يَصِلُ إِلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ قَصِيرُ الذِّرَاعِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا مَعْقُولًا غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ يُوجِبَانِ انْقِبَاضَ الرُّوحِ وَيَتْبَعُهُ اشْتِمَالُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَيَنْقَبِضُ هُوَ أَيْضًا وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ انْقَبَضَ وَانْجَمَعَ وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَقِلُّ ذَرْعُهُ وَمِسَاحَتُهُ فَيَضِيقُ، وَيُقَالُ فِي الْحَزِينِ ضَاقَ ذَرْعُهُ وَالْغَضَبُ وَالْفَرَحُ يُوجِبَانِ انْبِسَاطَ الرُّوحِ فَيَنْبَسِطُ مَكَانَهُ وَهُوَ الْقَلْبُ وَيَتَّسِعُ فَيُقَالُ اتَّسَعَ ذَرْعُهَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا خَوْفَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَحُزْنَهُ بِسَبَبِ تَدْبِيرِهِمْ فِي ثَانِي الْأَمْرِ قَالُوا لَا تَخَفْ عَلَيْنَا وَلَا تَحْزَنْ بِسَبَبِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِنَا ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يُوجِبُ زَوَالَ خَوْفِهِ وَحُزْنِهِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تَخَفْ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْخَوْفِ فَقَالُوا مُعَرِّضِينَ بِحَالِهِمْ: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَإِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ فَيَطُولُ ذَرْعُهُ وَيَزُولُ رَوْعُهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ [العنكبوت: 31] وقال هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي وقت المجيء هناك قول/ الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِمَجِيئِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَشَّرُوا أَوَّلًا وَلَبِثُوا، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَأَيْضًا فَالتَّأَنِّي وَاللُّبْثُ بَعْدَ الْمَجِيءِ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِالْإِهْلَاكِ حَسَنٌ فَإِنَّ مَنْ جَاءَ وَمَعَهُ خَبَرٌ هَائِلٌ يحسن منه أن لا يفاجئ به، والواقع هاهنا هُوَ خَوْفُ لُوطٍ عَلَيْهِمْ، وَالْمُؤْمِنُ حِينَ مَا يَشْعُرُ بِمَضَرَّةٍ تَصِلُ بَرِيئًا مِنَ الْجِنَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْزَنَ وَيَخَافَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، إذا علم هذا فقوله هاهنا: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا يُفِيدُ الِاتِّصَالَ يَعْنِي خَافَ حِينَ الْمَجِيءِ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بَاطِلٌ بِمَا أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ جَاءَتْ فِي سُورَةِ هُودٍ [77] ، وَقَالَ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً مِنْ غَيْرِ أَنْ، فَنَقُولُ هُنَاكَ جَاءَتْ حِكَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بِصِيغَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [هود: 69] فَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: وَلَقَدْ جاءَتْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّا أُرْسِلْنا كَانَ فِي وَقْتِ الْمَجِيءِ. وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُزْنَهُ كَانَ وَقْتَ الْمَجِيءِ. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: هُنَاكَ قَدْ حَصَلَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثُمَّ جَرَى أُمُورٌ مِنَ الْكَلَامِ وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالُوا: لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] فَحَصَلَ تَأْخِيرُ الْإِنْذَارِ، وَبِقَوْلِهِ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا حَصَلَ بَيَانُ تَعْجِيلِ الْحُزْنِ، وَأَمَّا هُنَا لَمَّا قَالَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمَّا جاءَتْ قَالَ فِي حِكَايَةِ لُوطٍ وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ وَقَالَ لإبراهيم لَنُنَجِّيَنَّهُ [العنكبوت: 32] بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَهَلْ فِيهِ(25/52)
فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا مَا مِنْ حَرْفٍ وَلَا حَرَكَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَفِيهِ فَائِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةَ تُدْرِكُ بَعْضَهَا وَلَا تَصِلُ إِلَى أَكْثَرِهَا، وَمَا أُوتِيَ الْبَشَرُ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِعَقْلِ الضَّعِيفِ أَنَّ هُنَاكَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ فِيها لُوطاً وعدوه بالتنجية ووعد الكريم حتم، وهاهنا لَمَّا قَالُوا لِلُوطٍ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ سَبْقِ الْوَعْدِ مَرَّةً أُخْرَى قَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ أَيْ ذَلِكَ وَاقِعٌ مِنَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزُّمَرِ: 30] لِضَرُورَةِ وُقُوعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ لَا يُنَاسِبُهُ إِنَّا مُنَجُّوكَ لِأَنَّ خَوْفَهُ مَا كَانَ عَلَى نَفْسِهِ، نَقُولُ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهِيَ أَنَّ لُوطًا لَمَّا خَافَ عَلَيْهِمْ وَحَزِنَ لِأَجْلِهِمْ قَالُوا لَهُ لَا تَخَفْ عَلَيْنَا وَلَا تَحْزَنْ لِأَجْلِنَا فَإِنَّا مَلَائِكَةٌ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: يَا لُوطُ خِفْتَ عَلَيْنَا وَحَزِنْتَ لِأَجْلِنَا، فَفِي مُقَابَلَةِ خَوْفِكَ وَقْتَ الْخَوْفِ نُزِيلُ خَوْفَكَ وَنُنْجِيكَ، وَفِي مُقَابَلَةِ حُزْنِكَ نُزِيلُ حُزْنَكَ وَلَا نَتْرُكُكَ تُفْجَعُ فِي أَهْلِكَ فَقَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقَوْمُ عُذِّبُوا بِسَبَبِ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَامْرَأَتُهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا تِلْكَ فَكَيْفَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ مَعَهُمْ؟ فَنَقُولُ الدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ لَهُ نَصِيبٌ كَفَاعِلِ الشَّرِّ، كَمَا أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَهِيَ كَانَتْ تَدُلُّ الْقَوْمَ عَلَى ضُيُوفِ لُوطٍ حَتَّى كَانُوا يَقْصِدُونَهُمْ، فَبِالدَّلَالَةِ صَارَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ بِشَارَةِ لُوطٍ بِالتَّنْجِيَةِ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْعَذَابَ فَقَالُوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ حِجَارَةٌ/ وَقِيلَ نَارٌ وَقِيلَ خَسْفٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ عَيَّنَهُ مِنَ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخَسْفِ مِنَ السَّمَاءِ أَوِ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ لُوطٍ جَرَى عَلَى نَمَطِ كَلَامِهِمْ مَعَ إِبْرَاهِيمَ قَدَّمُوا الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا مُنَجُّوكَ ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ وَلَمْ يُعَلِّلُوا التَّنْجِيَةَ، فَمَا قَالُوا إِنَّا مُنَجُّوكَ لِأَنَّكَ نَبِيٌّ أَوْ عَابِدٌ، وَعَلَّلُوا الْإِهْلَاكَ بِقَوْلِهِمْ: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَقَالُوا بِما كانُوا كَمَا قَالُوا هُنَاكَ: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ [العنكبوت: 31] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ مِنَ الْقَرْيَةِ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ مَعْلُومَةٌ وَفِيهَا الْمَاءُ الْأَسْوَدُ وَهِيَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْكَرْكِ وَفِيهَا مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: جَعَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِالنَّجَاةِ حَيْثُ قَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً [الْعَنْكَبُوتِ: 15] وَقَالَ: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [العنكبوت: 24] وجعل هاهنا الْهَلَاكَ آيَةً فَهَلْ عِنْدَكَ فِيهِ شَيْءٌ؟ نَقُولُ نَعَمْ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَلِأَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِي النَّجَاةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ إِهْلَاكٌ، وَأَمَّا فِي نُوحٍ فَلِأَنَّ الْإِنْجَاءَ مِنَ الطُّوفَانِ الَّذِي عَلَا الْجِبَالَ بِأَسْرِهَا أَمْرٌ عَجِيبٌ إِلَهِيٌّ، وَمَا بِهِ النَّجَاةُ وَهُوَ السَّفِينَةُ كَانَ بَاقِيًا، وَالْغَرَقُ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَثَرُهُ فجعل الباقي آية، وأما هاهنا فَنَجَاةُ لُوطٍ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرٍ يَبْقَى أَثَرُهُ لِلْحِسِّ وَالْهَلَاكُ أَثَرُهُ مَحْسُوسٌ فِي الْبِلَادِ فَجَعَلَ الآية الأمر الباقي وهو هاهنا البلاد وهناك السفينة وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آيَةُ قُدْرَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِنْجَاءِ وَالْإِهْلَاكِ فَذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ آيَةً وَقَدَّمَ آيَاتِ الْإِنْجَاءِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الرَّحْمَةِ وَأَخَّرَ آيَاتِ الْإِهْلَاكِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْغَضَبِ وَرَحْمَتُهُ سَابِقَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي السَّفِينَةِ: وَجَعَلْناها آيَةً ولم يقل بينة وقال هاهنا آيَةً بَيِّنَةً نَقُولُ لِأَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ أَمْرٌ يَتَّسِعُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ وَقَدْ يَقَعُ فِي وَهْمِ جَاهِلٍ أَنَّ الْإِنْجَاءَ بِالسَّفِينَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلى أمر آخر، وأما الآية هاهنا الخسف وجعل ديار معمورة عاليها وسافلها وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِإِرَادَةِ قَادِرٍ يُخَصِّصُهُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَفِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَهِيَ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ لِجَاهِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا أَمْرٌ يَكُونُ كَذَلِكَ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي السَّفِينَةِ(25/53)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
النَّجَاةُ بِهَا أَمْرٌ يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقَالَ لَهُ فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَلَوْ دَامَ الْمَاءُ حَتَّى يَنْفَدَ زَادُهُمْ كَيْفَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُمُ النَّجَاةُ؟ وَلَوْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ كَيْفَ يَكُونُ أَحْوَالُهُمْ؟.
المسألة الثالثة: قال هناك لِلْعالَمِينَ وقال هاهنا: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قُلْنَا لِأَنَّ السَّفِينَةَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْعَالَمِ فَعِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مِثَالٌ لِسَفِينَةِ نُوحٍ يَتَذَكَّرُونَ بِهَا حَالَهُ، وَإِذَا رَكِبُوهَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ النَّجَاةَ وَلَا يَثِقُ أَحَدٌ بِمُجَرَّدِ السَّفِينَةِ، بَلْ يَكُونُ دَائِمًا مُرْتَجِفَ الْقَلْبِ مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِلنَّجَاةِ، وَأَمَّا أَثَرُ الْهَلَاكِ فِي بِلَادِ لُوطٍ فَفِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ يَمُرُّ بِهَا وَيَصِلُ إِلَيْهَا وَيَكُونُ لَهُ عَقْلٌ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ الْمُرِيدِ، بِسَبَبِ اخْتِصَاصِهِ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ وَوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زمان. / ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37)
[في قوله تعالى وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ] لَمَّا أَتَمَّ الْحِكَايَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ لِفَائِدَةِ الِاعْتِبَارِ شَرَعَ فِي الثَّالِثَةِ وَقَالَ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَدْيَنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ فِي الْأَصْلِ وَحَصَلَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ فَاشْتُهِرَ فِي الْقَبِيلَةِ كَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ اسْمُ مَاءٍ نُسِبَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، وَاشْتُهِرَ فِي الْقَوْمِ، وَالْأَوَّلُ كَأَنَّهُ أَصَحُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَافَ الْمَاءَ إِلَى مَدْيَنَ حَيْثُ قَالَ: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [الْقَصَصِ: 23] وَلَوْ كَانَ اسْمًا لِلْمَاءِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ أَوْ غَيْرَ حَقِيقَةٍ وَالْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ التَّغَايُرُ حَقِيقَةً، وَقَوْلُهُ: أَخاهُمْ قِيلَ لِأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ مِنْهُمْ نَسَبًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [العنكبوت: 14] قَدَّمَ نُوحًا فِي الذِّكْرِ وَعَرَّفَ الْقَوْمَ بِالْإِضَافَةِ إليه وكذلك في إبراهيم ولوط، وهاهنا ذَكَرَ الْقَوْمَ أَوَّلًا وَأَضَافَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، فَنَقُولُ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْمَ ثُمَّ يَذْكُرَ رَسُولَهُمْ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يَبْعَثُ رَسُولًا إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ قَوْمٌ أَوْ شَخْصٌ يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْبَاءٍ مِنَ الْمُرْسِلِ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَخْتَارُهُ غَيْرَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْمٌ خَاصٌّ وَلَا نِسْبَةٌ مَخْصُوصَةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، فَعُرِفُوا بِالنَّبِيِّ فَقِيلَ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَمَّا قَوْمُ شُعَيْبٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ فَكَانَ لَهُمْ نَسَبٌ مَعْلُومٌ اشْتُهِرُوا بِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ وَقَالَ اللَّهُ:
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً وَقَالَ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [الْأَعْرَافِ: 65] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ يَذْكُرْ عَنْ لُوطٍ أَنَّهُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَذَكَرَ عَنْ شُعَيْبٍ ذَلِكَ؟ قُلْنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لُوطًا كَانَ لَهُ قَوْمٌ وَهُوَ كَانَ مِنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي زَمَانِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ سَبَقَهُ بِذَلِكَ وَاجْتَهَدَ فِيهِ حَتَّى اشْتُهِرَ الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْ لُوطٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنْهُ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمَنْعِ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، إِذْ مَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَيَكُونُ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا شُعَيْبٌ فَكَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقَوْمِ فَكَانَ هُوَ أَصْلًا أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ فَبَدَأَ بِهِ وَقَالَ: اعْبُدُوا اللَّهَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لَا يُفِيدُهُ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ/ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ فَكَيْفَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ؟ فَنَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يُفِيدُ التَّوْحِيدَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى غيره يخدم(25/54)
زَيْدًا وَعَمْرٌو هُنَاكَ وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْ هُوَ سَيِّدُ زَيْدٍ، فَإِذَا قَالَ لَهُ اخْدِمْ عَمْرًا يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِصَرْفِ الْخِدْمَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ زَيْدًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَعْطِهِ عَمْرًا يَفْهَمُ مِنْهُ لَا تُعْطِهِ زَيْدًا، فَنَقُولُ هُمْ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَالِكُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: اعْبُدُوا اللَّهَ فَفَهِمُوا مِنْهُ تَرْكَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ نَقُولُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَيُرِيدُ وَضْعَهَا فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِهَا وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ فَفُهِمَ مِنْهُ التَّوْحِيدُ، ثُمَّ قَالَ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ افْعَلُوا مَا تَرْجُونَ بِهِ الْعَاقِبَةَ إِذْ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ كُنْ عَاقِلًا، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ افْعَلْ فِعْلَ مَنْ يَكُونُ عَاقِلًا، وَقَوْلُهُ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا، فَإِنَّ عِنْدَنَا مَنْ عَبَدَ اللَّهَ طُولَ عُمُرِهِ يُثِيبُهُ اللَّهُ تَفَضُّلًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَابِدَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ مَا لَوْ زَادَ عَلَى مَا أَتَى بِهِ لَمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الشُّكْرِ، وَمَنْ شَكَرَ الْمُنْعِمَ عَلَى نِعَمٍ سَبَقَتْ لَا يَلْزَمُ الْمُنْعِمُ أَنْ يَزِيدَهُ، وَإِنْ زَادَهُ يَكُونُ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ:
وَارْجُوا الْيَوْمَ بَعْدَ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ يَدُلُّ عَلَى التَّفَضُّلِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْفَضْلَ يُرْجَى وَالْوَاجِبُ مِنَ الْعَادِلِ يَقْطَعُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَمْ يَقُلْ وَخَافُوهُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مُخَوِّفٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَغَيْرُ مَرْجُوٍّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لِفِسْقِهِ وَفُجُورِهِ وَمَحَبَّتِهِ الدُّنْيَا وَلَا يَرْجُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِهِ، فَنَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ التَّوْحِيدَ بِطَرِيقِ الْإِثْبَاتِ وَقَالَ: اعْبُدُوا وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِطَرِيقِ النَّفْيِ وَمَا قَالَ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ قَالَ بِلَفْظِ الرَّجَاءِ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ يُرْجَى مِنْهَا الْخَيْرُ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ حَكَى فِي حِكَايَةِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّكُمُ اتَّخَذْتُمُ الْأَوْثَانَ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَتَكْفُرُونَ بِهَا، وَقَالَ هَاهُنَا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ لَمْ يَرْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، فَاقْتَصَرُوا عَلَى مَوَدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَاعْمَلُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نُصِبَ مُفْسِدِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ قُمْ قَائِمًا أَيْ قِيَامًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ اجْلِسْ قُعُودًا لِأَنَّ الْعَيْثَ وَالْفَسَادَ بِمَعْنًى، وَجَمَعَ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَقَوْلِهِ: وَلا تَعْثَوْا ثم إن قومه كذبوه بعد ما بَلَّغَ وَبَيَّنَ، فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا حُكِيَ عَنْ شُعَيْبٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَالْأَمْرُ لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ قُمْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ، فَنَقُولُ كَانَ شُعَيْبٌ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ فَاعْبُدُوهُ، وَالْحَشْرُ كَائِنٌ فَارْجُوهُ، وَالْفَسَادُ مُحَرَّمٌ فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِيهَا إِخْبَارَاتٌ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا وَفِي الْأَعْرَافِ: [78] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وقال في هود: [94] : وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «1» وَالْحِكَايَةُ وَاحِدَةٌ، نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الصَّيْحَةَ كَانَتْ سَبَبًا لِلرَّجْفَةِ، إِمَّا لِرَجْفَةِ الْأَرْضِ إِذْ قِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ صَاحَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ صَيْحَتِهِ، وَإِمَّا لِرَجْفَةِ الْأَفْئِدَةِ فَإِنَّ قُلُوبَهُمُ ارْتَجَفَتْ مِنْهَا، وَالْإِضَافَةُ إِلَى السَّبَبِ لَا تُنَافِي الْإِضَافَةَ إِلَى سَبَبِ السَّبَبِ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ رَوِيَ فَقَوِيَ، وَأَنْ يُقَالَ شَرِبَ فَقَوِيَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَيْثُ قَالَ: فأخذتهم الصَّيْحَةُ قَالَ: فِي دِيارِهِمْ وَحَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
__________
(1) في تفسير الرازي المطبوع: وقال في هود: (فأخذتهم الصيحة) وهي خطأ وما أثبتناه هو الصواب.(25/55)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قَالَ: فِي دارِهِمْ فَنَقُولُ الْمُرَادُ مِنَ الدَّارِ هُوَ الدَّيَّارُ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ إِذَا أُمِنَ الِالْتِبَاسُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ لِلَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجْفَةَ هَائِلَةٌ فِي نَفْسِهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُهَوِّلٍ، وَأَمَّا الصَّيْحَةُ فَغَيْرُ هَائِلَةٍ فِي نَفْسِهَا لَكِنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ لَمَّا كَانَتْ عَظِيمَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُعَظِّمٍ لِأَمْرِهَا، وَقِيلَ إِنَّ الصَّيْحَةَ كَانَتْ أَعَمَّ حَيْثُ عَمَّتِ الْأَرْضَ وَالْجَوَّ، وَالزَّلْزَلَةُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فِي الْأَرْضِ فَذَكَرَ الدِّيَارَ هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الدَّارَ وَالدِّيَارَ مَوْضِعُ الْجُثُومِ لَا مَوْضِعُ الصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ، فَهُمْ مَا أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 38 الى 39]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعاداً وَثَمُودَ أَيْ وَأَهْلَكْنَا عَادًا وَثَمُودَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ دَلَّ عَلَى الْإِهْلَاكِ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ الْأَمْرُ وَمَا تَعْتَبِرُونَ مِنْهُ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَقَوْلُهُ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يَعْنِي عِبَادَتَهُمْ لِغَيْرِ الله وفَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يَعْنِي عِبَادَةَ اللَّهِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ
يَعْنِي بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ يَعْنِي فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ فَإِنَّ الرُّسُلَ أَوْضَحُوا السُّبُلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ عَطْفًا عَلَيْهِمْ أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ كَمَا قَالَ فِي عَادٍ وَثَمُودَ: وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أَيْ بِالرُّسُلِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَكْبَرُوا أَيْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُوَضِّحُ قِلَّةَ عَقْلِهِمْ فِي اسْتِكْبَارِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَضْعَفُ أَقْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنْ فِي السَّمَاءِ أَقْوَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ فِي السَّمَاءِ لَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى اللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ، فَكَيْفَ [يَسْتَكْبِرُ] مَنْ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا سابِقِينَ أَيْ مَا كَانُوا يَفُوتُونَ اللَّهَ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [الْعَنْكَبُوتِ: 22] أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَقْطَارَ الْأَرْضِ فِي قَبْضَةِ قدرة الله. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 40]
فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
ذَكَرَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ الْعَذَابُ بِالْحَاصِبِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِحِجَارَةٍ مُحْمَاةٍ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَنْفُذُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّارِ وَالْعَذَابُ بِالصَّيْحَةِ وَهُوَ هَوَاءٌ مُتَمَوِّجٌ، فَإِنَّ الصَّوْتَ قِيلَ سَبَبُهُ تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ وَوُصُولُهُ إِلَى الْغِشَاءِ الَّذِي عَلَى مَنْفَذِ الْأُذُنِ وَهُوَ الصِّمَاخُ فَيَقْرَعُهُ فَيُحِسُّ، وَالْعَذَابُ بِالْخَسْفِ وَهُوَ الْغَمْرُ في(25/56)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
التُّرَابِ، وَالْعَذَابُ بِالْإِغْرَاقِ وَهُوَ بِالْمَاءِ. فَحَصَلَ الْعَذَابُ بِالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْإِنْسَانُ مُرَكَّبٌ مِنْهَا وَبِهَا قِوَامُهُ وَبِسَبَبِهَا بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَ الْإِنْسَانِ جَعَلَ مَا مِنْهُ وَجُودُهُ سَبَبًا لِعَدَمِهِ، وَمَا بِهِ بَقَاؤُهُ سَبَبًا لِفَنَائِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يَعْنِي لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِالْهَلَاكِ، وَإِنَّمَا هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْإِشْرَاكِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مَا كَانَ يَظْلِمُهُمْ أَيْ مَا كَانَ يَضَعُهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمْ فَإِنَّ مَوْضِعَهُمُ الْكَرَامَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] لَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ وَضَعُوهَا مَعَ شَرَفِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْوَثَنِ مع خسته.
[سورة العنكبوت (29) : آية 41]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً.
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ أَشْرَكَ عَاجِلًا وَعَذَّبَ مَنْ كَذَّبَ آجِلًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي الدَّارَيْنِ مَعْبُودُهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ عَنْهُ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ، مَثَّلَ اتِّخَاذَهُ ذَلِكَ مَعْبُودًا بِاتِّخَاذِ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا لَا يُجِيرُ آوِيًا وَلَا يُرِيحُ ثَاوِيًا، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ نَذْكُرُهَا فِي مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْمَثَلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْثَالِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ/ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَيْتَ يَنْبَغِي أَنْ يكون له أمور: حائط، وَسَقْفٌ مُظِلٌّ، وَبَابٌ يُغْلَقُ، وَأُمُورٌ يُنْتَفَعُ بِهَا وَيُرْتَفَقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا حَائِطٌ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنَ الْبَرْدِ وَإِمَّا سَقْفٌ مُظِلٌّ يَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَهُوَ كَالْبَيْدَاءِ لَيْسَ بِبَيْتٍ لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يُجِنُّهَا وَلَا يُكِنُّهَا وَكَذَلِكَ الْمَعْبُودُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ وَجَرُّ الْمَنَافِعِ وَبِهِ دَفْعُ الْمَضَارِّ، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ هَذِهِ الْأُمُورُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَرِّ نَفْعٍ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ وَالْمَعْدُومُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، فَإِذَنْ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْعَنْكَبُوتِ بِاتِّخَاذِ ذَلِكَ الْبَيْتِ مِنْ مَعَانِي الْبَيْتِ شَيْءٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِاتِّخَاذِ الْأَوْثَانِ أَوْلِيَاءَ مِنْ مَعَانِي الْأَوْلِيَاءِ شَيْءٌ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْبَيْتِ أَنْ يَكُونَ لِلظِّلِّ فَإِنَّ الْبَيْتَ مِنَ الْحَجَرِ يُفِيدُ الِاسْتِظْلَالَ وَيَدْفَعُ أَيْضًا الْهَوَاءَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالتُّرَابَ، وَالْبَيْتُ مِنَ الْخَشَبِ يُفِيدُ الِاسْتِظْلَالَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَلَا يَدْفَعُ الْهَوَاءَ الْقَوِيَّ وَلَا الْمَاءَ وَلَا النَّارَ، وَالْخِبَاءُ الَّذِي هُوَ بَيْتٌ مِنَ الشَّعْرِ أَوِ الْخَيْمَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ ثَوْبٍ إِنْ كَانَ لَا يَدْفَعُ شَيْئًا يُظِلُّ وَيَدْفَعُ حَرَّ الشَّمْسِ لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يُظِلُّ فَإِنَّ الشَّمْسَ بِشُعَاعِهَا تَنْفُذُ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَعْبُودُ أَعْلَى دَرَجَاتِهِ أَنْ يَكُونَ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْغَيْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَكُونُ نَافِذَ الْأَمْرِ فِي الْعَابِدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَنْفُذَ أَمْرُ الْعَابِدِ فِيهِ لَكِنَّ مَعْبُودَهُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِمْ إِنْ أَرَادُوا أَجَلُّوهُ وَإِنْ أَحَبُّوا أَذَلُّوهُ الثَّالِثُ: أَدْنَى مَرَاتِبِ الْبَيْتِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبَ ثَبَاتٍ وَارْتِفَاقٍ لَا يَصِيرُ سَبَبَ شَتَاتٍ وَافْتِرَاقٍ، لَكِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ يَصِيرُ سَبَبَ انْزِعَاجِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّ الْعَنْكَبُوتَ لَوْ دَامَ فِي زَاوِيَةٍ مُدَّةً لَا يَقْصِدُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِذَا نَسَجَ عَلَى نَفْسِهِ وَاتَّخَذَ بَيْتًا يَتْبَعُهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِتَنْظِيفِ الْبَيْتِ مِنْهُ وَالْمَسْحِ بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ الْمُؤْذِيَةِ لِجِسْمِ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَذَلِكَ الْعَابِدُ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِسَبَبِهَا الْعَذَابَ، وَالْكَافِرُ يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِ الْعِبَادَةِ الْعَذَابَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَثَّلَ اللَّهُ اتِّخَاذَهُمُ الْأَوْثَانَ أَوْلِيَاءَ بِاتِّخَاذِ الْعَنْكَبُوتِ نَسْجَهُ بَيْتًا وَلَمْ يُمَثِّلْهُ بِنَسْجِهِ وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَسْجَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ، لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ وَهُوَ اصْطِيَادُهَا الذُّبَابَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ(25/57)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
مِنْهُ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْأَوْثَانَ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُهُمْ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الذُّبَابِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، لَكِنْ يَفُوتُهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَهُوَ الدَّارُ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى فَلَيْسَ اتِّخَاذُهُمْ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ نَسْجَهُ مُفِيدٌ لَكِنَّ اتِّخَاذَهَا ذَلِكَ بَيْتًا أَمْرٌ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ هُمْ لَوِ اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ دَلَائِلَ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَبَرَاهِينَ عَلَى نُعُوتِ إِكْرَامِهِ وَأَوْصَافِ جَلَالِهِ لَكَانَ حِكْمَةً، لَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ كَجَعْلِ الْعَنْكَبُوتِ النَّسْجَ بَيْتًا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ صُحِّحَ فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْآخِرِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ لَا يُرَى مِنْهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ بَلْ يَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُمْ لِلْأَوْثَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الْفُرْقَانِ: 23] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَمْ يَقُلْ آلِهَةً إِشَارَةً إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ رِيَاءً لِغَيْرِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ وَلِيًّا غَيْرَهُ فَمَثَلُهُ مَثَلُ العنكبوت يتخذ نسجه بيتا.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
إِشَارَةً إِلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ بَيْتٍ فَفِيهِ إِمَّا فَائِدَةُ الِاسْتِظْلَالِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْتُهُ يَضْعُفُ عَنْ إِفَادَةِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُخَرَّبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ فَكَذَلِكَ عَمَلُهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 42]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ عَلَى التَّمْثِيلِ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، بِمَعْنَى مَا يَدْعُونَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتْرُكَ الْقَادِرَ الْحَكِيمَ وَيَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ مَا نَافِيَةً، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ حَقٌّ، يَعْنِي أَعْلَمُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، وَإِنْ كُنَّا نَجْعَلُ مَا خَبَرِيَّةً فَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَا يَدْعُونَ مِنْ شَيْءٍ فَاللَّهُ يَعْلَمُهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِهِ وَإِهْلَاكِهِمْ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ يُمْهِلُهُمْ لِيَكُونَ الْهَلَاكُ عن بينة والحياة عن بينة، ومن هاهنا يَكُونُ الْخِطَابُ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّمْثِيلِ السَّابِقِ؟ فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ إِنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَانَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَقُولَ أَنَا لَا أَعْبُدُ هَذِهِ الْأَوْثَانَ الَّتِي أَتَّخِذُهَا وَهِيَ تَحْتَ تَسْخِيرِي، وَإِنَّمَا هِيَ صُورَةُ كَوْكَبٍ أَنَا تَحْتَ تَسْخِيرِهِ وَمِنْهُ نَفْعِي وَضُرِّي وَخَيْرِي وَشَرِّي وَوُجُودِي وَدَوَامِي فَلَهُ سُجُودِي وَإِعْظَامِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ مِثْلُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ لِأَنَّ الْكَوْكَبَ وَالْمَلَكَ وَكُلَّ مَا عَدَا اللَّهَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَعِبَادَتُكُمْ لِلْغَائِبِ كَعِبَادَتِكُمْ لِلْحَاضِرِ وَلَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا إِلَهَ سواه.
[سورة العنكبوت (29) : آية 43]
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ.
قال الكافرون كيف يضرب خالق الأرض والسموات الْأَمْثَالَ بِالْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ كَالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ؟ فَيُقَالُ الْأَمْثَالُ تُضْرَبُ لِلنَّاسِ إِنْ لَمْ تَكُونُوا كَالْأَنْعَامِ يَحْصُلْ لَكُمْ مِنْهُ إِدْرَاكُ مَا يُوجِبُ نَفْرَتَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ تَأْثِيرًا مِثْلَ تَأْثِيرِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا قَالَ الْحَكِيمُ لِمَنْ يَغْتَابُ إِنَّكَ بِالْغِيبَةِ كَأَنَّكَ تَأْكُلُ لَحْمَ مَيِّتٍ لِأَنَّكَ وَقَعْتَ فِي هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَفْهَمُ مَا تَقُولُ وَلَا يَسْمَعُ حَتَّى يُجِيبَ كَمَنْ يَقَعُ فِي ميت(25/58)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
يَأْكُلُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ فَيَنْفِرُ طَبْعُهُ مِنْهُ كَمَا يَنْفِرُ إِذَا قَالَ له إنه يوجب العذاب ويورث العقاب.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.
يَعْنِي حَقِيقَتَهَا وَكَوْنُ الْأَمْرِ كَذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِبُطْلَانِ مَا سِوَى اللَّهِ وَفَسَادِ عِبَادَةِ مَا عَدَاهُ، وَفِيهِ مَعْنًى حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَدْسِيَّ يَعْلَمُهُ الْعَاقِلُ وَالْعِلْمَ الْفِكْرِيَّ الدَّقِيقَ يَعْقِلُهُ الْعَالِمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ أَدْرَكَهُ كَمَا هُوَ بِكُنْهِهِ لِكَوْنِ الْمُدْرَكِ ظَاهِرًا وَكَوْنِ الْمُدْرَكِ عَاقِلًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِأَشْيَاءَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الدَّقِيقُ فَيَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ سَابِقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ دَقِيقًا فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ فَيُدْرِكُهُ وَلَا يُدْرِكُهُ بِتَمَامِهِ وَيَعْقِلُهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يَعْنِي هُوَ ضَرَبَ لِلنَّاسِ أَمْثَالًا وَحَقِيقَتُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ بِأَسْرِهَا فَلَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْخَلْقَ بِالْإِيمَانِ وَأَظْهَرَ الْحَقَّ بِالْبُرْهَانِ وَلَمْ يَأْتِ الْكُفَّارُ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَقَصَّ عَلَيْهِمْ قَصَصًا فِيهَا عِبَرٌ، وَأَنْذَرَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِإِهْلَاكِ مَنْ غَبَرَ، وَبَيَّنَ ضَعْفَ دَلِيلِهِمْ بِالتَّمْثِيلِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِذَلِكَ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَحَصَلَ يَأْسُ الناس عنهم سلَّى المؤمنين بقوله:
[سورة العنكبوت (29) : آية 44]
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
يَعْنِي إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا هُمْ لَا يُورِثُ كُفْرُهُمْ شَكًّا فِي صِحَّةِ دِينِكُمْ، وَلَا يُؤَثِّرُ شَكُّهُمْ فِي قُوَّةِ يَقِينِكُمْ، فإن خلق الله السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لِلْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ ظَاهِرٌ، وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَيْفَ خَصَّ الآية في خلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ فِي خَلْقِهِمَا آيَةً لِكُلِّ عَاقِلٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِلَى أَنْ قَالَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 164] فَنَقُولُ خَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ آيَةٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ وَخَلْقُهُمَا بِالْحَقِّ آيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَحَسْبُ، وَبَيَانُهُ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ، أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدُّخَانِ: 39] أَخْرَجَ أكثر الناس عن العلم يكون خَلْقِهِمَا بِالْحَقِّ مَعَ أَنَّهُ أَثْبَتَ عِلْمَ الْكُلِّ بأنه خلقهما حيث قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ أَوَّلَ مَا ينظر إلى خلق السموات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا وَهُوَ اللَّهُ ثُمَّ مَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ لَا يَقْطَعُ النَّظَرَ عَنْهُمَا عِنْدَ مُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ إِنَّهُ خَلَقَهُمَا مُتْقِنًا مُحْكِمًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ يَفْسُدُ وَيَبْطُلُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا مُتْقِنًا يَقُولُ إِنَّهُ قَادِرٌ كَامِلٌ حَيْثُ خَلَقَ وَعَالِمٌ عِلْمُهُ شَامِلٌ حَيْثُ أَتْقَنَ/ فَيَقُولُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَجْزَاءُ الْمَوْجُودَاتِ فِي الأرض ولا في السموات وَلَا يَعْجِزُ عَنْ جَمْعِهَا كَمَا جَمَعَ أَجْزَاءَ الْكَائِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، فَيُجَوِّزُ بَعْثَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَبِعْثَةَ الرَّسُولِ، وَيَعْلَمُ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَفَسَدَتَا وَلَبَطَلَتَا وَهُمَا بِالْحَقِّ مَوْجُودَانِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْإِيمَانُ بِتَمَامِهِ، مِنْ خَلْقِ مَا خَلَقَهُ عَلَى أَحْسَنِ نِظَامِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الآية سلى رسوله: بقوله تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 45]
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)(25/59)
[في قوله تَعَالَى اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ] يَعْنِي إِنْ كُنْتَ تَأْسَفُ عَلَى كُفْرِهِمْ فَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ لِتَعْلَمَ أَنَّ نُوحًا وَلُوطًا وَغَيْرَهُمَا كَانُوا عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ وَبَالَغُوا فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ وَلَمْ يُنْقِذُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَلِهَذَا قَالَ: اتْلُ وَمَا قَالَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مَا كَانَتْ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهُمْ إِلَّا لِتَسْلِيَةِ قَلْبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّ الرَّسُولَ إِذَا كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ وَقَرَأَ كِتَابَهُ مَرَّةً وَلَمْ يُسْمَعْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي قِرَاءَتِهِ لِنَفْسِهِ فَنَقُولُ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ مَعَ النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُسَيَّرَةَ مَعَ الرُّسُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ سَلَامٌ وَكَلَامٌ، مَعَ وَاحِدٍ يَحْصُلُ بِقِرَاءَتِهِ مَرَّةً تَمَامُ الْمَرَامِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ قَانُونٌ كُلِّيٌّ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الرَّعِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَمَا إِذَا كَتَبَ الْمَلِكُ كِتَابًا فِيهِ إِنَّا رَفَعْنَا عَنْكُمُ الْبِدْعَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَوَضَعْنَا فِيكُمُ السُّنَّةَ الْفُلَانِيَّةَ وَبَعَثْنَا إِلَيْكُمْ هَذَا الْكِتَابَ فِيهِ جَمِيعُ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ كَمِنْوَالٍ يَنْسِجُ عَلَيْهِ وَالٍ بَعْدَ وَالٍ، فَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُقْرَأُ وَيُتْرَكُ بَلْ يُعَلَّقُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، وَكَثِيرًا مَا تُكْتَبُ نُسْخَتُهُ عَلَى لَوْحٍ وَيُثَبَّتُ فَوْقَ الْمَحَارِيبِ، وَيَكُونُ نَصْبَ الْأَعْيُنِ، فَكَذَلِكَ كتاب الله مع رسوله مع مُحَمَّدٍ قَانُونٌ كُلِّيٌّ فِيهِ شِفَاءٌ لِلْعَالَمِينَ فَوَجَبَ تِلَاوَتُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِيَبْلُغَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَيَنْقُلَهُ قَرْنٌ إِلَى قَرْنٍ وَيَأْخُذَهُ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَيَثْبُتَ فِي الصُّدُورِ عَلَى مُرُورِ الدُّهُورِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْكُتُبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كِتَابٌ لَا تَكْرَهُ قِرَاءَتَهُ إِلَّا لِلْغَيْرِ كَالْقَصَصِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ حِكَايَةً مَرَّةً لَا يَقْرَؤُهَا مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا سَمِعَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَقْرَؤُهَا إِلَّا لِآخَرَ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ لَسَئِمُوهُ، وَكِتَابٌ لَا يُكَرَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلنَّفْسِ كَالنَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمَا وَكِتَابٌ يُتْلَى مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلْغَيْرِ كَالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ لِلْغَيْرِ وَكُلَّمَا سَمِعَهَا يَلْتَذُّ بِهَا وَيَرِقُّ لَهَا قَلْبُهُ وَيَسْتَعِيدُهَا وَكُلَّمَا تَدْخُلُ السَّمْعَ يَخْرُجُ الْوَسْوَاسُ مَعَ الدَّمْعِ وَتُكَرَّرُ أَيْضًا لِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَلْتَذُّ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَكُلَّمَا يُعِيدُهَا يَكُونُ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ وَأَثْبَتَ فِي الْقَلْبِ وَأَنْفَذَ/ حَتَّى يَكَادُ يَبْكِي مِنْ رِقَّتِهِ دَمًا وَلَوْ أَوْرَثَهُ الْبُكَاءُ عَمًى، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْقُرْآنُ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّالِثِ مَعَ أَنَّ فِيهِ الْقَصَصَ وَالْفِقْهَ وَالنَّحْوَ فَكَانَ فِي تِلَاوَتِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَائِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِمَ خَصَّصَ بِالْأَمْرِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ؟ فَنَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ تَسْلِيَةَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الطَّرَفُ الْوَاحِدُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ فَالطَّرَفُ الْآخَرُ مُتَّصِلٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّسُولَ إِذَا لَمْ تُقْبَلْ رِسَالَتُهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ مُرْسِلِهِ، فَإِذَا تَلَوْتَ كِتَابَكَ وَلَمْ يَقْبَلُوكَ فَوَجِّهْ وَجْهَكَ إِلَيَّ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِوَجْهِي الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَلِسَانِيَّةٌ وَهِيَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَبَدَنِيَّةٌ خَارِجِيَّةٌ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، لَكِنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ مَرَّةً أُخْرَى بَلْ ذَلِكَ يَدُومُ مُسْتَمِرًّا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ذَلِكَ.
حَاصِلًا لَهُ عَنْ عَيَانٍ أَكْمَلَ مِمَّا يَحْصُلُ عَنْ بَيَانٍ، فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ تَكْرَارِهِ، لَكِنَّ الذِّكْرَ مُمْكِنُ التَّكْرَارِ، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ كَذَلِكَ فَأَمَرَهُ بِهِمَا فَقَالَ: اتْلُ الْكِتَابَ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ تَنْهَى الصَّلَاةُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ؟ نَقُولُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنَ الصَّلَاةِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَنْهَى أَيْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْهُمَا وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ قَبْلَهُ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ بِعِيدٌ مِنَ الْفَهْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ الصَّلَاةِ وَهِيَ تَنْهَى عَنْهُمَا مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَنَقُولُ هَذَا كَذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا وَإِلَّا لَا يَكُونُ مَدْحًا كَامِلًا لِلصَّلَاةِ،(25/60)
لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَشْغَالِ كَثِيرًا مَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَالنَّوْمِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرِهِ فَنَقُولُ: الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مُطْلَقًا وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْحُضُورِ وَهِيَ تَنْهَى، حَتَّى
نقل عنه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَعَاصِي لَمْ يَزْدَدْ بِهَا إِلَّا بُعْدًا»
وَنَحْنُ نَقُولُ الصَّلَاةُ الصَّحِيحَةُ شَرْعًا تَنْهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا وَهِيَ الَّتِي أَتَى بِهَا الْمُكَلَّفُ لِلَّهِ حَتَّى لَوْ قَصَدَ بِهَا الرِّيَاءَ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ شَرْعًا وَتَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ نَوَى بِوُضُوئِهِ الصَّلَاةَ وَالتَّبَرُّدَ قِيلَ لَا يَصِحُّ فَكَيْفَ مَنْ نَوَى بِصَلَاتِهِ اللَّهَ وَغَيْرَهُ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ الصَّلَاةُ تَنْهَى مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَخْدِمُ مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ وَيَكُونُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَيَرَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ قَدْ طَرَدَهُ طردا لا يتصور قبوله، وفاته الخبر بِحَيْثُ لَا يُرْجَى حُصُولُهُ، يَسْتَحِيلُ مِنْ ذَلِكَ الْمُقَرَّبِ عُرْفًا أَنْ يَتْرُكَ خِدْمَةَ الْمَلِكِ وَيَدْخُلَ فِي طَاعَةِ ذَلِكَ الْمَطْرُودِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لِلَّهِ صَارَ عَبْدًا لَهُ، وَحَصَلَ لَهُ مَنْزِلَةُ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ، فَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَيَدْخُلَ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَطْرُودِ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْتَ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنْ مَنْ يُبَاشِرُ الْقَاذُورَاتِ كَالزَّبَّالِ وَالْكَنَّاسِ يَكُونُ لَهُ لِبَاسٌ نَظِيفٌ إِذَا لَبِسَهُ لَا يُبَاشِرُ مَعَهُ الْقَاذُورَاتِ وَكُلَّمَا كَانَ ثَوْبُهُ أَرْفَعَ يَكُونُ امْتِنَاعُهُ وَهُوَ لَابِسُهُ عَنِ الْقَاذُورَاتِ أَكْثَرَ فَإِذَا لَبِسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثَوْبَ دِيبَاجٍ/ مُذَهَّبٍ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى لَبِسَ لِبَاسَ التَّقْوَى لِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَاضِعٌ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ عَلَى هَيْئَةِ مَنْ يَقِفُ بِمَرْأَى مَلِكٍ ذِي هَيْبَةٍ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ نِسْبَةِ الدِّيبَاجِ الْمُذَهَّبِ إِلَى الْجِسْمِ، فَإِذَنْ مَنْ لَبِسَ هَذَا اللِّبَاسَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ قَاذُورَاتِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. ثُمَّ إِنَّ الصَّلَوَاتِ مُتَكَرِّرَةٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَيَدُومُ هَذَا اللُّبْسُ فَيَدُومُ الِامْتِنَاعُ الثَّالِثُ: مَنْ يَكُونُ أَمِيرُ نَفْسِهِ يَجْلِسُ حَيْثُ يُرِيدُ فَإِذَا دَخَلَ فِي خِدْمَةِ مَلِكٍ وَأَعْطَاهُ مَنْصِبًا لَهُ مَقَامٌ خَاصٌّ لَا يَجْلِسُ صَاحِبُ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَفِّ النِّعَالِ لَا يُتْرَكُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَبْقَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ وَصَارَ لَهُ مَقَامٌ مُعَيَّنٌ، إِذْ صَارَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَوْقِفُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ لَا يُتْرَكُ، لَكِنَّ مُرْتَكِبَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَهَذَا الْوَجْهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِصْمَةِ اللَّهِ يَعْنِي مَنْ صَلَّى عَصَمَهُ اللَّهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ الرَّابِعُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْمَلِكِ كَالسُّوقِيِّ وَالْمُنَادِي وَالْمُتَعَيِّشِ لَا يُبَالِي بِمَا فَعَلَ مِنَ الْأَفْعَالِ يَأْكُلُ فِي دُكَّانِ الْهَرَّاسِ وَالرَّوَّاسِ وَيَجْلِسُ مَعَ أَحْبَاشِ النَّاسِ، فَإِذَا صَارَتْ لَهُ قُرْبَةٌ يَسِيرَةٌ مِنَ الْمَلِكِ كَمَا إِذَا صَارَ وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدَارِيَّةِ وَالْقُوَّادِ وَالسُّوَّاسِ عِنْدَ الْمَلِكِ لَا تَمْنَعُهُ تِلْكَ الْقُرْبَةُ مِنْ تَعَاطِي مَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَإِذَا زَادَتْ قُرْبَتُهُ وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى صَارَ أَمِيرًا حِينَئِذٍ تَمْنَعُهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ عَنِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْجُلُوسِ مَعَ أُولَئِكَ الْخُلَّانِ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ إِذَا صَلَّى وَسَجَدَ صَارَ لَهُ قُرْبَةٌ مَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [الْعَلَقِ: 19] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْقُرْبَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي، فَبِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ تَزْدَادُ مَكَانَتُهُ، حَتَّى يَرَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آثَارِ الْكَرَامَةِ مَا يَسْتَقْذِرُ مَعَهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّغَائِرَ فَضْلًا عَنِ الْكَبَائِرِ، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ مَعْقُولٌ يُؤَكِّدُهُ الْمَنْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ هُوَ أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ التَّعْطِيلِ وَالْإِشْرَاكِ، وَالتَّعْطِيلُ هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ اللَّهِ، وَالْإِشْرَاكُ إِثْبَاتُ أُلُوهِيَّةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ.
فَنَقُولُ التَّعْطِيلُ عَقِيدَةٌ فَحْشَاءُ لِأَنَّ الْفَاحِشَ هُوَ الْقَبِيحُ الظَّاهِرُ الْقُبْحِ، لَكِنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَفِيهِ آيَةٌ عَلَى اللَّهِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْكَارُ الظَّاهِرِ ظَاهِرُ الْإِنْكَارِ، فَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا إِلَهَ قَبِيحٌ وَالْإِشْرَاكُ مُنْكَرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ نَسَبَ نَفْسًا إِلَى غَيْرِ الْوَالِدِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ حَيْثُ قَالَ: إِنْ(25/61)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
[الْمُجَادَلَةِ: 2] فَالْمُشْرِكُ الَّذِي يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَيَنْسُبُ إِلَى مَنْ لَمْ يَلِدْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَدًا كَيْفَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُنْكَرًا؟ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ، وَهَذَا الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَوَّلَ مَا يَشْرَعُ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَبِقَوْلِهِ اللَّهُ يَنْفِي التَّعْطِيلَ وَبِقَوْلِهِ أَكْبَرُ يَنْفِي التَّشْرِيكَ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَكُونُ أَكْبَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فِيمَا فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَإِذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ نَفَى التَّعْطِيلَ، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نَفَى الْإِشْرَاكَ، لِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَنْ يُعْطِي الْوُجُودَ بِالْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ، وَالرَّحِيمَ مَنْ/ يُعْطِي الْبَقَاءَ بِالرِّزْقِ بِالرَّحْمَةِ، فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَثْبَتَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل وبقوله:
رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِتَقْدِيمِ إِيَّاكَ نَفَى التَّعْطِيلَ وَالْإِشْرَاكَ وَكَذَا بِقَوْلِهِ:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ نَفَى التَّعْطِيلَ لِأَنَّ طَالِبَ الصِّرَاطِ لَهُ مَقْصِدٌ والمعطل لا مقصد له، وبقوله: الْمُسْتَقِيمَ نَفَى الْإِشْرَاكَ لِأَنَّ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الْأَقْرَبُ وَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ حَتَّى يَعْبُدَ صُورَةً صَوَّرَهَا إِلَهُ الْعَالَمِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَعِبَادَةُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَقْرَبُ، وَعَلَى هَذَا إِلَى آخِرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَنْفِي الْإِشْرَاكَ وَالتَّعْطِيلَ، وَهَاهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ وَآخِرُهَا لَفْظَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِيَعْلَمَ الْمُصَلِّي أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهَا مَعَ اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ وَأَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّسُولِ وَالتَّسْلِيمُ، فَنَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي آخِرِهَا دَخَلَتْ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، لَكِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَصَلَ بِالصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ وَحَصَلَ مَعَ اللَّهِ لَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ اسْتَقَلَّ وَاسْتَبَدَّ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرَّسُولِ، كَمَنْ تَقَرَّبَ مِنَ السُّلْطَانِ فَيَغْتَرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى النُّوَّابِ وَالْحُجَّابِ، فَقَالَ أَنْتَ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ بِهِدَايَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَغَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَقُلْ مَعَ ذِكْرِي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِبَرَكَةِ هِدَايَتِهِ فَاذْكُرْ إِحْسَانَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا رَجَعْتَ مِنْ مِعْرَاجِكَ وَانْتَهَيْتَ إِلَى إِخْوَانِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَبَلِّغْهُمْ سَلَامِي كَمَا هُوَ تَرْتِيبُ الْمُسَافِرِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ هَيْئَةٌ فِيهَا هَيْبَةٌ فَإِنَّ أَوَّلَهَا وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِ الْمَمْلُوكِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ إِنَّ آخِرَهَا جُثُوٌّ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَمَا يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ مَنْ أَكْرَمَهُ بِالْإِجْلَاسِ، كَأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا وَقَفَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَأَجْلَسَهُ فَجَثَا، وَفِي هَذَا الْجُثُوِّ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَثَا فِي الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ هَذَا الْجُثُوَّ لَا يَكُونُ لَهُ جُثُوٌّ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ أَمْرَيْنِ وَهُمَا تِلَاوَةُ الْكِتَابِ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ بَيَّنَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِمَا عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، فَقَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَأَنْتُمْ إِذَا ذَكَرْتُمْ آبَاءَكُمْ بِمَا فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ تَنْبَشُّوا لِذَلِكَ وَتَذْكُرُوهُمْ بِمَلْءِ أَفْوَاهِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، لَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ، وَهَذَا أَحْسَنُ صُنْعِكُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مَعَ حَذْفِ بَيَانِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ فُلَانٍ لِأَنَّ مَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِهِ بِالْكِبَرِ فَلَهُ إِلَيْهِ نِسْبَةٌ، إِذًا لَا يُقَالُ الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ خَرْدَلَةٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا الْجَبَلُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَأُسْقِطَ الْمَنْسُوبُ كَأَنَّهُ قَالَ وَلَذِكْرُ/ اللَّهِ لَهُ الْكِبَرُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّلَاةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ له الكبر لا لغيره. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 47]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47)(25/62)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ وَنَفَعَ مَنِ انْتَفَعَ وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِمَّنِ امْتَنَعَ بَيَّنَ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تُجَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا إِذَا ظَلَمُوا وَحَارَبُوا، أَيْ إِذَا ظَلَمُوا زَائِدًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَفِيهِ مَعْنًى أَلْطَفُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكَ جَاءَ بِالْمُنْكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُجَادَلَ بِالْأَخْشَنِ وَيُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ مَذْهَبِهِ وَتَوْهِينِ شُبَهِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] وقال: لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 179] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَجَاءُوا بِكُلِّ حَسَنٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَحَّدُوا وَآمَنُوا بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَلِمُقَابَلَةِ إِحْسَانِهِمْ يُجَادَلُونَ أَوَّلًا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضَّلَالِ آبَاؤُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا تَبْيِينٌ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْهُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ وَالْقَوْلِ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْهُمْ فِي الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ فَهُمُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، فَيُجَادَلُونَ بِالْأَخْشَنِ مِنْ تَهْجِينِ مَقَالَتِهِمْ وَتَبْيِينِ جَهَالَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَحْسَنَ فَقَدَّمَ مَحَاسِنَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُ مَا قَالَهُ لَكِنَّهُ بَيَّنَ رِسَالَتِي فِي كُتُبِكُمْ فَهُوَ دَلِيلٌ مُضِيءٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ دَلِيلًا قِيَاسِيًّا فَقَالَ:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يَعْنِي كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَهَذَا قِيَاسٌ، ثُمَّ قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَمِنْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ/ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الذين سبقوا محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ زَمَانًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْلَى، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين هاهنا، إِذْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَحْسَنِ مِنَ الْجِدَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا آتَى الْكِتَابَ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الأنعام: 89] وقال: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء: 163] وَقَالَ: آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ:
30] وَإِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ آمَنُوا بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا بِمَا قَالُوا بِهِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَاثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَعَهُ أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَمِنْ هؤُلاءِ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ مَخْرَجُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَسَّمَ الْقَوْمَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُشْرِكِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِمْ وَفَرَغَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُوَ بُعْدٌ فِي بَيَانِ أَمْرِهِمْ، وَالْوَقْتُ وَقْتُ جَرَيَانِ ذِكْرِهِمْ، فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ هُمْ فِي وَصْفِهِمْ، وَإِذَا قَالَ أُولَئِكَ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَتَحَقَّقَ أَمْرُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْجِدَالُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي(25/63)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ قَرِيبٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي فَضِيلَةِ الرُّؤَسَاءِ وَالْمُلُوكِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ حِزْبَانِ فِي فَضِيلَةِ مَلِكَيْنِ أَوْ رَئِيسَيْنِ، وَأَدَّى الِاخْتِلَافُ إِلَى الِاقْتِتَالِ يَكُونُ أَقْوَى كَلَامٍ يَصْلُحُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَانِ الْمَلِكَانِ مُتَوَافِقَانِ مُتَصَادِقَانِ، فَلَا مَعْنَى لنزاعكم فكذلك هاهنا قال النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ نَحْنُ آمَنَّا بِالْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ آمَنُوا بِي فَلَا مَعْنَى لِتَعَصُّبِكُمْ لَهُمْ وَكَذَلِكَ أَكَابِرُكُمْ وَعُلَمَاؤُكُمْ آمَنُوا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ تَنْفِيرًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَامْتَزْتُمْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ فَضِيلَةٍ، إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْوَاحِدَةَ، وبإنكارها تلحقون بِهِمْ وَتُبْطِلُونَ مَزَايَاكُمْ، فَإِنَّ الْجَاحِدَ بِآيَةٍ يَكُونُ كافرا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 48 الى 49]
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ هَذِهِ دَرَجَةٌ أُخْرَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجَادِلَ إِذَا ذَكَرَ مَسْأَلَةً مُخْتَلَفًا فِيهَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ لِمَ؟ فَيَقُولُ كَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَذْكُرُ أَوَّلًا الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قَنِعَ الطَّالِبُ بِمُجَرَّدِ التَّشْبِيهِ وَأَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ الْجَامِعَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ أَوْ لَمْ يَقْنَعْ يُبْدِي الْجَامِعَ، فَيَقُولُ كِلَاهُمَا مَالٌ فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَيَجِبُ فكذلك هاهنا ذَكَرَ أَوَّلًا التَّمْثِيلَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [العنكبوت: 47] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَامِعَ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ، فَقَالَ مَا عِلْمُ كَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مُنَزَّلَةً إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ مِمَّنْ لَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يَقْرَأْ عَيْنُ الْمُعْجِزَةِ، فَيُعْرَفُ كَوْنُهُ مُنَزَّلًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا كَانَ قَارِئًا كَاتِبًا مَا كَانَ يُوجِبُ كَوْنَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامَهُ، فَإِنَّ جَمِيعَ كَتَبَةِ الْأَرْضِ وَقُرَّائِهَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، لَكِنْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَكُونُ لِلْمُبْطِلِ وَجْهُ ارْتِيَابٍ، وَعَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا وَجْهَ لِارْتِيَابِهِ فَهُوَ أَدْخَلُ فِي الْإِبْطَالِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] أَيْ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَقَوْلِهِ: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قَوْلُهُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ كَلَامٌ مُخْتَرَعٌ يَقُولُ هَذَا مِنْ قَلْبِي وَخَاطِرِي، وَإِذَا حَفِظَهُ مِنْ غَيْرِهِ يَقُولُ إِنَّهُ فِي قَلْبِي وَصَدْرِي، فَإِذَا قَالَ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لَا يَكُونُ مِنْ صَدْرِ أحد منهم، والجاهل يستحيل منه ذلك ظهور له من الصدور ويلتحقون عنده هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْمُشْرِكِينَ، فَظُهُورُهُ مِنَ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ قال هاهنا الظَّالِمُونَ ومن قبل قال الْكافِرُونَ [العنكبوت: 47] مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ ظَالِمٌ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ قَبْلَ بَيَانِ الْمُعْجِزَةِ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ لَكُمُ الْمَزَايَا فَلَا تُبْطِلُوهَا بِإِنْكَارِ مُحَمَّدٍ فَتَكُونُوا كَافِرِينَ، فَلَفْظُ الْكَافِرِ هُنَاكَ كَانَ بَلِيغًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِاسْتِنْكَافِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ الْمُعْجِزَةِ قَالَ لَهُمْ إِنْ جَحَدْتُمْ هَذِهِ الْآيَةَ لَزِمَكُمْ إِنْكَارُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ فَتَلْتَحِقُونَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالْمُشْرِكِينَ حُكْمًا، وَتَلْتَحِقُونَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمُشْرِكِينَ حَقِيقَةً فَتَكُونُوا ظَالِمِينَ، أَيْ مُشْرِكِينَ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشرك ظلم عظيم، فهذا اللفظ هاهنا أبلغ وذلك اللفظ هناك أبلغ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 50]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)(25/64)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ دَلِيلٍ مِنْ جَانِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ وَهِيَ بِذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالْمَقِيسِ، فَقَالُوا إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ كِتَابٌ كَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى أُوتِيَ تِسْعَ آيَاتٍ عُلِمَ بِهَا كَوْنُ الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْتَ مَا أُوتِيتَ شَيْئًا مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ نَبِيَّهُ إِلَى أَجْوِبَةِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّسَالَةِ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يُرْسَلُ أَوَّلًا وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ إِنْ تَوَقَّفَ الْخَلْقُ فِي قَبُولِهِ أَوْ طَلَبُوا مِنْهُ دَلِيلًا، فَاللَّهُ إِنْ رَحِمَهُمْ بَيَّنَ رِسَالَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْحَمْهُمْ لَا يُبَيِّنْ، فَقَالَ أَنَا السَّاعَةَ رَسُولٌ وَأَمَّا الْآيَةُ فَاللَّهُ إِنْ أَرَادَ يُنْزِلْهَا وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يُنْزِلْهَا وَهَذَا لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الشَّيْءَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخْلُقَهَا كَالْمَكَانِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ فَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ إِنْسَانًا إِلَّا وَيَكُونُ قَدْ خَلَقَ مَكَانًا أَوْ يَخْلُقُهُ مَعَهُ، لَكِنَّ الرِّسَالَةَ وَالْمُعْجِزَةَ لَيْسَتَا كَذَلِكَ فَاللَّهُ إِذَا خَلَقَ رَسُولًا وَجَعَلَهُ رَسُولًا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ أَنْ تُعْلَمَ لَهُ مُعْجِزَةٌ، وَلِهَذَا عُلِمَ وُجُودُ رُسُلٍ كَشِيثَ وَإِدْرِيسَ وَشُعَيْبٍ وَلَمْ تُعْلَمْ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ فَإِنْ قِيلَ عُلِمَ رِسَالَتُهُمْ، نَقُولُ مَنْ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِلَا مُعْجِزَةٍ فَنَبِيُّنَا كَذَلِكَ لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى مُعْجِزَةٍ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ عُلِمَتْ بِقَوْلِ مُوسَى وَعِيسَى فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ لِمَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ آيَةٌ؟ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا سَبْقَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ شَرْطًا حَتَّى تَسْبِقَهَا، بَلَى إِنْ كَانَ لَهُمْ سُؤَالٌ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقُولُوا يَا أَيُّهَا الْمُدَّعِي نَحْنُ لَا نُكَذِّبُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ لَنَا آيَةً تُخَلِّصُنَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمُتَنَبِّي وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ وَنَعْلَمُ بِهَا كَوْنَكَ نَبِيًّا وَنُؤْمِنُ بِكَ، فَبَعْدَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَبْعُدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ آيَةً.
ثُمَّ قَوْلُهُ: وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْآيَةَ عِنْدَ اللَّهِ يُنْزِلُهَا أَوْ لَا يُنْزِلُهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِي مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ حُكْمٌ بِشَيْءٍ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ بَيَانِ فَسَادِ شُبْهَتِهِمْ مِنْ وَجْهٍ بَيَّنَ فَسَادَهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَالَ هَبْ أَنَّ إِنْزَالَ الْآيَةِ شَرْطٌ لَكِنَّهُ وجد وهو في نفس الكتاب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 الى 52]
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52)
فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ يَعْنِي إِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْآيَةِ شَرْطًا/ فَلَا يُشْتَرَطُ إِلَّا إِنْزَالُ آيَةٍ وَقَدْ أُنْزِلَ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بَاقِيَةٌ وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ عِبَارَةٌ تُنْبِئُ عَنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ آيَةً فَوْقَ الْكِفَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ أَمَا يَكْفِي لِلْمُسِيءِ أَنْ لَا يُضْرَبَ حَتَّى يَتَوَقَّعَ الْإِكْرَامَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ وَهَذَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ أَتَمُّ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ تَقَدَّمَتْهَا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ وُجِدَتْ ومادامت فَإِنَّ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِحْيَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يَبْقَ لَنَا مِنْهُ أَثَرٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ يُؤْمِنُ بِكُتُبِ اللَّهِ وَيُكَذِّبُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا مَعَهُ بِدُونِ الْكِتَابِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ بَاقٍ لَوْ أَنْكَرَهُ وَاحِدٌ فَنَقُولُ لَهُ فَأْتِ بِآيَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ قَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا كَانَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَرَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ وَصَلَ إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وهاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ آيَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ أَشْيَاءَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا(25/65)
انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَهُوَ يَعُمُّ الْأَرْضَ، لِأَنَّ الْخُسُوفَ إِذَا وَقَعَ عَمَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُبُوَّتَهُ كَانَتْ عَامَّةً لَا تَخْتَصُّ بِقُطْرٍ دُونَ قُطْرٍ وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ فِي قُطْرٍ وَسَقَطَ إِيوَانُ كِسْرَى فِي قُطْرٍ وَانْهَدَّتِ الْكَنِيسَةُ بِالرُّومِ فِي قُطْرٍ آخَرَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرٌ عَامٌّ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْكَافِرَ الْمُعَانِدَ يَقُولُ إِنَّهُ سِحْرٌ عُمِلَ بِدَوَاءٍ، وَالْقُرْآنُ لَا يُمْكِنُ هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّا جَعَلْنَاهُ مُعْجِزَةً رَحْمَةً عَلَى الْعِبَادِ لِيَعْلَمُوا بِهَا الصَّادِقَ، وَهَذَا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الصَّادِقِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ فَيَبْقَى الْخَلْقُ فِي وَرْطَةِ تَكْذِيبِ الصَّادِقِ أَوْ تَصْدِيقِ الْكَاذِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُتَنَبِّي لَوْلَا الْمُعْجِزَةُ، لَكِنَّ اللَّهَ لَهُ ذَلِكَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَقَوْلُهُ: وَذِكْرى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ يَتَذَكَّرُ بِهَا كُلُّ مَنْ يَكُونُ مَا بَقِيَ الزَّمَانُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَعْنِي هَذِهِ الرَّحْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ كَانَتْ غَضَبًا عَلَى الْكَافِرِينَ لِأَنَّهَا قَطَعَتْ أَعْذَارَهُمْ وَعَطَّلَتْ إِنْكَارَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً لَمَّا ظَهَرَتْ رِسَالَتُهُ وَبَهَرَتْ دَلَالَتُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُعَانِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ كَمَا يَقُولُ الصَّادِقُ إِذَا كُذِّبَ وَأَتَى بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَلَمْ يُصَدَّقْ اللَّهُ يَعْلَمُ صِدْقِي وَتَكْذِيبَكَ أَيُّهَا الْمُعَانِدُ وَهُوَ عَلَى مَا أَقُولُ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِنْذَارٌ وَتَهْدِيدٌ يُفِيدُهُ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ كَافِيًا بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَقَالَ: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهاهنا مَسْأَلَةٌ:
وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الرَّعْدِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: 43] فَأَخَّرَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ قَدَّمَهَا حَيْثُ قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 47] وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَقُولُ الْكَلَامُ هُنَاكَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمْ ثُمَّ/ إِنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ أَقْوَى فِي إِلْزَامِهِمْ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وهاهنا الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ إِقْرَارُهُ وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَلْزَمُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَيْنِ فِي إِرْشَادِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَادَ إِلَى الْكَلَامِ الشَّامِلِ لَهُمَا وَالْإِنْذَارِ الْعَامِّ فَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سِوَى اللَّهِ لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ هَالِكٌ بِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] وَكُلُّ مَا هَلَكَ فَقَدْ بَطَلَ فَكُلُّ هَالِكٍ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ بَاطِلٌ، فَمَنْ آمَنَ بِمَا سِوَى اللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالْبَاطِلِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ أَيْ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ بِالْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فَهُوَ خَاسِرٌ فَمَنْ يَأْتِي بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ خَاسِرًا فَنَقُولُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْآتِي بِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ آتِيًا بِالْآخَرِ، أَمَّا الْآتِي بِالْإِيمَانِ بِمَا سِوَى اللَّهِ فَلِأَنَّهُ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَجَعَلَ غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ غَيْرِهِ لَكِنَّ غَيْرَهُ عَاجِزٌ جَاهِلٌ مُمْكِنٌ بَاطِلٌ فَيَكُونُ اللَّهُ كَذَلِكَ فَيَكُونُ إِنْكَارًا لِلَّهِ وَكُفْرًا بِهِ، وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ وَأَنْكَرَهُ فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ الْعَالَمَ لَيْسَ لَهُ إِلَهٌ مُوجِدٌ فَوُجُودُ الْعَالَمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ الْعَالَمَ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ إِلَهٌ، فَيَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ إِلَهٌ فَيَكُونُ إِثْبَاتًا لِغَيْرِ اللَّهِ وإيمانا به.(25/66)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِمَا سِوَى اللَّهِ كُفْرًا بِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْبَاطِلِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَهَلْ لِهَذَا الْعَطْفِ فَائِدَةٌ غَيْرُ التَّأْكِيدِ الَّذِي هُوَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ قُمْ وَلَا تَقْعُدْ وَاقْرُبْ مِنِّي وَلَا تَبْعُدْ؟ نَقُولُ نَعَمْ فِيهِ فَائِدَةٌ غَيْرُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الثَّانِيَ لِبَيَانِ قُبْحِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَتَقُولُ بِالْبَاطِلِ وَتَتْرُكُ الْحَقَّ لِبَيَانِ أَنَّ الْقَوْلَ بَاطِلٌ قَبِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَتَنَاوَلُ هَذَا أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْ هَلْ هُمْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ؟ نَقُولُ نَعَمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَطَعُوا بِهَا وَعَانَدُوا وَقَالُوا إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، يَكُونُ كَمَنْ رَأَى شَخْصًا يَرْمِي حِجَارَةً، فَقَالَ إِنَّ رَامِيَ الْحِجَارَةِ زِيدٌ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ زِيدٌ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَقِيلَ لَهُ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ يَقُولُ زَيْدٌ، فَكَذَلِكَ هُمْ لَمَّا قَطَعُوا بِأَنَّ مُظْهِرَ الْمُعْجِزَةِ هُوَ اللَّهُ وَقَالُوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا مُظْهِرُ هَذَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا مُحَمَّدٌ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَكُونُ إِيمَانًا بِالْبَاطِلِ، وَإِذَا قَالُوا بِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ لَيْسَ بِإِلَهٍ مَعَ أَنَّهُمْ قَطَعُوا بِخُصُوصِ مُظْهِرِ الْمُعْجِزَةِ يَكُونُونَ قَائِلِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَخْصُوصَ الَّذِي هُوَ اللَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ فَيَكُونُ كُفْرًا بِهِ، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا فِيمَنْ يَقُولُ فَلَعَلَّ الْعَبْدَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَخْلُوقُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا يَنْسُبُ فِعْلَ اللَّهِ إِلَى الْغَيْرِ، كَمَا أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِعْلُ اللَّهِ وَهُمْ نَسَبُوهَا إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ جَهِلَ النِّسْبَةَ، كَمَنْ يَرَى حِجَارَةً رُمِيَتْ وَلَمْ يَرَ عَيْنَ رَامِيهَا، فَيَظُنُّ أَنَّ رَامِيَهَا زَيْدٌ فَيَقُولُ زَيْدٌ هُوَ رَامِي هَذِهِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ إِذَا رَأَى رَامِيَهَا بِعَيْنِهِ وَيَكُونُ غَيْرَ زَيْدٍ لَا يَقْطَعُ بِأَنْ يَقُولَ هُوَ زَيْدٌ، وَأَمَّا إِذَا رَأَى عَيْنَهُ وَرَمْيَهُ لِلْحِجَارَةِ وَقَالَ رَامِي الْحِجَارَةِ زَيْدٌ، يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ زَيْدٌ فَظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ/ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا مُعَانِدِينَ عَالِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرُ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: هُمُ الْخاسِرُونَ كَذَلِكَ بِأَتَمِّ وُجُوهِ الْخُسْرَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يَخْسَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَلَا تَرْكَبُهُ دُيُونٌ يُطَالَبُ بِهَا دُونَ مَنْ يَخْسَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَتَرْكَبُهُ تِلْكَ الدُّيُونُ، فَهُمْ لَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ أَفْنَوُا الْعُمْرَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مَا أَصْلًا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ دُيُونُ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ يُطَالَبُونَ بها حيث لا طاقة لهم بها. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 53]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
لَمَّا أَنْذَرَهُمُ اللَّهُ بِالْخُسْرَانِ وَهُوَ أَتَمُّ وُجُوهِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّ مَنْ خَسِرَ لَا يَحْصُلُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِ الْخُسْرَانِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْخُسْرَانُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بَلْ دُونَهُ، مِثَالُهُ إِذَا خَسِرَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشْرَةِ دِرْهَمًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ مَا يُسَاوِي نِصْفَ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا لَا يَكُونُ الْخُسْرَانُ دِرْهَمًا بَلْ نِصْفَ دِرْهَمٍ، فَإِذَنْ هُمْ لَمَّا خَسِرُوا أَعْمَارَهُمْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ مَنْفَعَةُ تَخْفِيفِ عَذَابٍ وَإِلَّا يَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنَ الْعُمُرِ لَهُ مَنْفَعَةٌ فَيَكُونُ لِلْخَاسِرِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ فَقَالُوا إِنْ كَانَ عَلَيْنَا عَذَابٌ فَأْتِنَا بِهِ، إِظْهَارًا لِقَطْعِهِمْ بِعَدَمِ الْعَذَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَجَابَ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْتِيكُمْ بِسُؤَالِكُمْ وَلَا يُعَجَّلُ بِاسْتِعْجَالِكُمْ، لِأَنَّهُ أَجَّلَهُ اللَّهُ لِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ فَلِكَوْنِهِ حَكِيمًا لَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا مُنْقَلِبًا، وَلِكَوْنِهِ رَحِيمًا لَا يَكُونُ غَضُوبًا مُنْزَعِجًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى الَّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَارْتَضَتْهُ رَحْمَتُهُ لَمَا كَانَ لَهُ رَحْمَةٌ وَحِكْمَةٌ، فَيَكُونُ غَضُوبًا مُنْقَلِبًا فَيَتَأَثَّرُ بِاسْتِعْجَالِكُمْ وَيَتَغَيَّرُ مِنْ سُؤَالِكُمْ فَيَعْجَلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَأْتِيكُمْ بِالْعَذَابِ وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَهُ وَلَا يدفع عنكم بالعذاب حِينَ تَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الْحَجِّ: 22] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيَأْتِيَنَّهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً، لِأَنَّ الْعَذَابَ(25/67)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَلِأَنَّ مَسْئُولَهُمْ كَانَ الْعَذَابَ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنَّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أَيِ الْأَجَلُ، لِأَنَّ الْآتِيَ بَغْتَةً هُوَ الْأَجَلُ وَأَمَّا الْعَذَابُ بَعْدَ الْأَجَلِ يَكُونُ مُعَايَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ الْعَذَابِ أَوِ الْأَجَلِ آتِيًا بَغْتَةً حِكْمَةً، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقْتُهُ مَعْلُومًا، لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَتَّكِلُ عَلَى بُعْدِهِ وَعِلْمِهِ بِوَقْتِهِ فَيَفْسُقُ وَيَفْجُرُ مُعْتَمِدًا عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَأْكِيدُ مَعْنَى قَوْلِهِ بَغْتَةً كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَتَيْتُهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ، فَقَوْلُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَكَّدَ مَعْنَى الْغَفْلَةِ وَالثَّانِي: هُوَ كَلَامٌ/ يُفِيدُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً، وَهِيَ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ هَذَا الْأَمْرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ العذاب لا يأتيهم أصلا. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 54]
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54)
ذُكِرَ هَذَا لِلتَّعَجُّبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ تُوُعِّدَ بِأَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ يَسِيرُ كَلَطْمَةٍ أَوْ لَكْمَةٍ، فَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْجَلَدَ وَيَقُولُ بِاسْمِ اللَّهِ هَاتِ، وَأَمَّا مَنْ تُوُعِّدَ بِإِغْرَاقٍ أَوْ إِحْرَاقٍ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُتَوَعِّدَ قَادِرٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَاتِ ما تتوعدني به، فقال هاهنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَالْعَذَابُ بِنَارِ جَهَنَّمَ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فقوله:
يَسْتَعْجِلُونَكَ أَوَّلًا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ وَثَانِيًا تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ ذكر كيفية إحاطة جهنم. فقال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 55]
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ] وفيه مسألتان:
الْأُولَى: لِمَ خَصَّ الْجَانِبَيْنِ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ وَخَلْفَ وَقُدَّامَ؟ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ نَارُ جَهَنَّمَ عَنْ نَارِ الدُّنْيَا وَنَارُ الدُّنْيَا تُحِيطُ بِالْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَهَا تَكُونُ الشُّعْلَةُ خَلْفَهُ وَقُدَّامَهُ وَيَمِينَهُ وَيَسَارَهُ وَأَمَّا النَّارُ مِنْ فَوْقُ فَلَا تنزل وإنما تصعد من أسف فِي الْعَادَةِ الْعَاجِلَةِ وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ لَا تَبْقَى الشُّعْلَةُ الَّتِي تَحْتَ الْقَدَمِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ وَلَا تَنْطَفِئُ بِالدَّوْسِ مَوْضِعِ الْقَدَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، وَلَا قَالَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَحْتَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ ذِكْرِ فَوْقُ، فَنَقُولُ لِأَنَّ نُزُولَ النَّارِ مِنْ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ سَمْتِ الرُّءُوسِ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَجِيبٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَخُصَّهُ بِالرَّأْسِ، وَأَمَّا بَقَاءُ النَّارِ تَحْتَ الْقَدَمِ فَحَسْبُ عَجِيبٌ، وَإِلَّا فَمِنْ جَوَانِبِ الْقَدَمِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ شُعَلٌ وَهِيَ تَحْتُ فَذَكَرَ الْعَجِيبَ وَهُوَ مَا تَحْتَ الْأَرْجُلِ حَيْثُ لَمْ يَنْطِقْ بِالدَّوْسِ وَمَا فَوْقُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَمَّا بَيَّنَ عَذَابَ أَجْسَامِهِمْ بَيَّنَ عَذَابَ أَرْوَاحِهِمْ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَالْإِهَانَةِ ذُوقُوا عَذَابَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِلْمُبَالَغَةِ بِطَرِيقِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، وهذا كثير النظير في الاستعمال. / ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 56]
يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)(25/68)
وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ وَحَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى حِدَةٍ وَجَمَعَهُمَا فِي الْإِنْذَارِ وَجَعَلَهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ اشْتَدَّ عِنَادُهُمْ وَزَادَ فَسَادُهُمْ وَسَعَوْا فِي إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ فقال مخاطبا للمؤمنين يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
إِنْ تَعَذَّرَتِ الْعِبَادَةُ عَلَيْكُمْ فِي بَعْضِهَا فَهَاجِرُوا وَلَا تَتْرُكُوا عِبَادَتِي بِحَالٍ، وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّ الْجُلُوسَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرَامٌ وَالْخُرُوجَ مِنْهَا وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ لَزِمَهُ الْخُرُوجُ، وَ [رُ] دِعَ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ ثُمَّ فِي الْآيَةِ مسائل:
إحداها: يا عِبادِيَ
لَمْ يُرِدِ إِلَّا الْمُخَاطَبَةَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أن الكافر داخل في قوله: يا عِبادِيَ
نقول ليس داخلا في قوله: يا عِبادِيَ
نَقُولُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ قَالَ فِي حَقِّهِ (عِبَادِيَ) لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وَالْكَافِرُ تَحْتَ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ يا عِبادِيَ
الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِعِبَادِي أَشْرَفُ مَنَازِلِ الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ آتَاهُ اسْمًا عَظِيمًا وَهُوَ اسْمُ الْخِلَافَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَةِ: 30] وَالْخَلِيفَةُ أَعْظَمُ النَّاسِ مِقْدَارًا وَأَتَمُّ ذَوِي الْبَأْسِ اقْتِدَارًا، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُرْهَبْ مِنْ هَذَا الِاسْمِ وَلَمْ يَنْهَزِمْ، بَلْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَعَادَاهُ وَغَلَبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [الْبَقَرَةِ: 36] ثُمَّ إِنَّ مِنْ أَوْلَادِهِ الصَّالِحِينَ مَنْ سُمِّيَ بِعِبَادِي فَانْخَنَسَ عَنْهُمُ الشَّيْطَانُ وَتَضَاءَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] وَقَالَ هُوَ بِلِسَانِهِ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا كَانَ عَبْدًا لِلَّهِ يَكُونُ أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّا إِذَا كَانَ خَلِيفَةً لِوَجْهِ الْأَرْضِ وَلَعَلَّ آدَمَ كَدَاوُدَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ يَدِ الشَّيْطَانِ إِلَّا وَقْتَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في حقه عبدي وعند ما نَادَاهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] وَاجْتَبَاهُ بِهَذَا النِّدَاءِ، كَمَا قَالَ فِي حَقِّ دَاوُدَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْكَافِرُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْخِلَافَةِ؟ فَلَا يدخل في قوله يا عِبادِيَ
إِلَّا الْمُؤْمِنُ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِسَعْيِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: 60] فَالْمُؤْمِنُ دَعَا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران: 193] فأجابه الله تعالى بقوله: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 53] فَالْإِضَافَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِقَوْلِ الْعَبْدِ إِلَهِي وَقَوْلِ اللَّهِ عَبْدِي تَأَكَّدَتْ بِدُعَاءِ الْعَبْدِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَدْعُ فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ عِبَادِي لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا
مَعَ أَنَّ الْوَصْفَ إِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ، كَمَا يُقَالُ يَا أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَا أَيُّهَا الرِّجَالُ الْعُقَلَاءُ تَمْيِيزًا عَنِ الْكَافِرِينَ وَالْجُهَّالِ، فَنَقُولُ الْوَصْفُ يُذْكَرُ لَا لِلتَّمْيِيزِ بَلْ لِمُجَرَّدِ بَيَانِ أَنَّ فِيهِ الْوَصْفَ كَمَا يُقَالُ الْأَنْبِيَاءُ الْمُكَرَّمُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُكَرَّمٌ وَكُلَّ مَلَكٍ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَيَانِ أَنَّ فِيهِمُ الْإِكْرَامَ وَالطَّهَارَةَ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُنَا اللَّهُ الْعَظِيمُ وَزَيْدٌ الطَّوِيلُ، فَهَهُنَا ذُكِرَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذ قال يا عِبادِيَ
فَهُمْ يَكُونُونَ عَابِدِينَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ بِقَوْلِهِ فَاعْبُدُونِ
فَنَقُولُ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الْمُدَاوَمَةُ أَيْ يَا مَنْ عَبَدْتُمُونِي فِي الْمَاضِي اعْبُدُونِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ الثَّانِيَةُ: الْإِخْلَاصُ أَيْ يَا مَنْ تَعْبُدُنِي أَخْلِصِ الْعَمَلَ لِي وَلَا تَعْبُدْ غيري.(25/69)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِشَرْطٍ فَمَا ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ قوله: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ عِبَادَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ لَا مَانِعَ مِنْ عِبَادَتِي فَاعْبُدُونِي، وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدُونِ
فَهُوَ لِتَرْتِيبِ الْمُقْتَضَى عَلَى الْمُقْتَضِي كَمَا يُقَالُ هذا عالم فأكرموه فكذلك هاهنا لَمَّا أَعْلَمَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِيَّايَ
وَهُوَ لِنَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ قَالَ فَاعْبُدُونِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْعَبْدُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقال عقيبه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَاللَّهُ تَعَالَى وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِعَانَةَ نَقُولُ بَلْ هِيَ مَذْكُورَةٌ في قوله يا عِبادِيَ
لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِعِبَادِي لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ مَسْدُودَ السَّبِيلِ عَلَيْهِ مَسْدُودَ الْقَبِيلِ عَنْهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْإِعَانَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدَّمَ اللَّهُ الْإِعَانَةَ وَأَخَّرَ الْعَبْدُ الِاسْتِعَانَةَ، قُلْنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ وَكُلُّ فِعْلٍ لِغَرَضٍ، فَإِنَّ الْغَرَضَ سَابِقٌ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَبْنِي بَيْتًا لِلسُّكْنَى يَدْخُلُ فِي ذِهْنِهِ أَوَّلًا فَائِدَةُ السُّكْنَى فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْبِنَاءِ، لَكِنَّ الْغَرَضَ فِي الْوُجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِ الْوَاسِطَةِ، فَنَقُولُ الِاسْتِعَانَةُ مِنَ الْعَبْدِ لِغَرَضِ الْعِبَادَةِ فَهِيَ سَابِقَةٌ فِي إِدْرَاكِهِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ فَرَاعَى تَرْتِيبَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الإعانة قبل العبادة. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 57]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُهَاجِرَةِ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَوْطَانِ وَمُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ مَا تَكْرَهُونَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَإِنَّ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُفَرِّقُ الأحباب فلأولى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَرَقُّ وَأَدَقُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِغَيْرِهَا فَهِيَ لِلْمَوْتِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ فَلَا تَمُوتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخَانِ:
56] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ يُرِيدُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ لَا يَبْقَى مَعَ نَفْسِهِ فَإِنَّ/ النَّفْسَ ذَائِقَتُهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِنْ كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ ذَائِقُ الْمَوْتِ وَمُورِدُ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَإِذًا التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ يُرِيحُ مِنَ الْمَوْتِ فَقَالَ تَعَالَى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أَيْ تَعَلَّقُوا بِي، وَلَا تَتَّبِعُوا النَّفْسَ فَإِنَّهَا ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَيْ إِذَا تَعَلَّقْتُمْ بِي فَمَوْتُكُمْ رُجُوعٌ إِلَيَّ وَلَيْسَ بِمَوْتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آلِ عِمْرَانَ: 169]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ لَا يَمُوتُونَ بَلْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ»
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ التَّعَلُّقِ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 58]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58)
بَيَّنَ مَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ مَا يَكُونُ لِلْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 54] فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِنَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ النِّيرَانَ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِيهَا غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ تَحْتَ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَجْرُ عَمَلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ جَزَاءُ عَمَلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:
55] ثُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ اخْتِلَافَاتٌ فِيهَا لَطَائِفُ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْعَذَابِ أَنَّ فَوْقَهُمْ عذابا أي نارا، ولم يذكر هاهنا(25/70)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
فَوْقَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا فَوْقُ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَهُوَ الْغُرْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ الْجُسْمَانِيَّانِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، فَيَكُونُ فَوْقَهُ طَبَقَاتٌ مِنَ النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَكُونُونَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَلَمْ يَذْكُرْ فَوْقَهُمْ شَيْئًا إِشَارَةً إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزُّمَرِ: 20] لا ينافي لِأَنَّ الْغُرَفَ فَوْقَ الْغُرَفِ لَا فَوْقَهُمْ وَالنَّارُ فَوْقَ النَّارِ وَهِيَ فَوْقَهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ هُنَاكَ ذكر من تحت أرجلهم النار، وهاهنا ذَكَرَ مِنْ تَحْتِ غُرَفِهِمُ الْمَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّارَ لَا تُؤْلِمُ إِذَا كَانَتْ تَحْتُ مُطْلَقًا مَا لَمْ تَكُنْ فِي مُسَامَتَةِ الْأَقْدَامِ وَمُتَّصِلَةً بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الشُّعْلَةُ مَائِلَةً عَنْ سَمْتِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهَا، أَوْ تَكُونُ مُسَامِتَةً وَلَكِنْ تَكُونُ غَيْرَ مُلَاصِقَةٍ بَلْ تَكُونُ أَسْفَلَ فِي وَهْدَةٍ لَا تُؤْلِمُ، وَأَمَّا الْمَاءُ إِذَا كَانَ تَحْتَ الْغُرْفَةِ فِي أَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَعَلَى أَيِّ بُعْدٍ كَانَ يَكُونُ مُلْتَذًّا بِهِ، فَقَالَ فِي النَّارِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ليحصل الألم بها، وقال هاهنا مِنْ تَحْتِ الْغُرَفِ لِحُصُولِ اللَّذَّةِ بِهِ كَيْفَ كَانَ، وَمِنْهَا أَنَّ هُنَاكَ قَالَ ذُوقُوا لِإِيلَامِ قلوبهم بلفظ الأمر وقال هاهنا نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لِتَفْرِيحِ قُلُوبِهِمْ لَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ/ بَعْدَهُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِأَجِيرِهِ خُذْ أُجْرَتَكَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ بِذَلِكَ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُهُ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ مَا أَتَمَّ أُجْرَتَكَ عِنْدِي أَوْ نِعْمَ مَالُكَ مِنَ الْأَجْرِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ هاهنا خُذُوا أُجْرَتَكُمْ أَيُّهَا الْعَامِلُونَ وَقَالَ هُنَاكَ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ذُوقُوا إِذَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْقِطَاعُ فَعَذَابُ الْكَافِرِ يَنْقَطِعُ، قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ ذُوقُوا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ جَزَاءَهُمْ وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ دَائِمًا وَلَا يَنْقُصُ وَلَا يَزْدَادُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إِذَا أَعْطَاهُ شَيْئًا فَلَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَا أَعْطَاهُ بَلْ يَزِيدُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي النِّعَمِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] أَيِ الَّذِي يَصِلُ إِلَى الْكَافِرِ يَدُومُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَالَّذِي يَصِلُ إِلَى الْمُؤْمِنِ يَزْدَادُ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمَّا الْخُلُودُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ لَكِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِغَيْرِهِ من النصوص. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 59]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
ذَكَرَ أَمْرَيْنِ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ لِأَنَّ الزَّمَانَ مَاضٍ وَحَاضِرٌ وَمُسْتَقْبَلٌ لَكِنَّ الْمَاضِيَ لَا تَدَارُكَ لَهُ وَلَا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَقِيَ الْحَاضِرُ وَاللَّائِقُ بِهِ الصَّبْرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ وَاللَّائِقُ بِهِ التَّوَكُّلُ، فَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَذَى فِي الْحَالِ، وَيَتَوَكَّلُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ صِفَتَانِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالْعِلْمِ بِمَا سِوَى اللَّهِ، فَمَنْ عَلِمَ مَا سِوَاهُ عَلِمَ أَنَّهُ زَائِلٌ فَيَهُونُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ إِذِ الصَّبْرُ عَلَى الزَّائِلِ هَيِّنٌ، وَإِذَا عَلِمَ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ بَاقٍ يَأْتِيهِ بِأَرْزَاقِهِ فَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى حي باق، وذكر الصبر والتوكل هاهنا مناسب، فإن قوله: يا عِبادِيَ
كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ يُؤْذَى فِي بُقْعَةٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْهَا. فَحَصَلَ النَّاسُ عَلَى قِسْمَيْنِ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ وَهُوَ مُتَوَكِّلٌ عَلَى رَبِّهِ، يَتْرُكُ الْأَوْطَانَ وَيُفَارِقُ الْإِخْوَانَ، وَعَاجِزٌ وَهُوَ صَابِرٌ عَلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى وَمُوَاظِبٌ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 60]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)(25/71)
لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ذَكَرَ مَا يُعِينُ عَلَى التَّوَكُّلِ وَهُوَ بَيَانُ حَالِ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ، وَيَأْتِيهَا كُلُّ يَوْمٍ بِرِزْقٍ رَغَدٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَأَيِّنْ لُغَاتٌ أَرْبَعٌ [لَا] غَيْرُ هَذِهِ [وَ] كَائِنْ عَلَى وَزْنِ رَاعٍ وَكَأْيِنْ عَلَى وَزْنِ رَيْعٍ وَكَيْ عَلَى دَعْ وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا كَأَيِّنْ وَكَائِنْ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَأَيِّنْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيٍّ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ مَنْ وَمَا رُكِّبَتَا وَجُعِلَ الْمُرَكَّبُ بِمَعْنَى كَمْ، وَلَمْ تُكْتَبْ إِلَّا بِالنُّونِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْمُرَكَّبِ وَغَيْرِ الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّ كَأَيٍّ/ يُسْتَعْمَلُ غَيْرَ مُرَكَّبٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ يَكُونُ، فَقَدْ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَيُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي هاهنا مُرَكَّبًا كُتِبَتْ بِالنُّونِ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا تُكْتَبُ مَعْدِيكَرِبَ وَبَعْلَبَكَّ مَوْصُولًا لِلْفَرْقِ.
وَكَمَا تُكْتَبُ ثَمَّةَ بِالْهَاءِ تَمْيِيزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثُمَّتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مَعَ مِنْ إِلَّا نَادِرًا وَكَمْ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مِنْ، يُقَالُ كَمْ رَجُلًا وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ، وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ وَكَأَيٍّ الَّتِي لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَأَيٍّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ مِنْ بَعْدَهَا إِذْ لَا يُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيٍّ مِنْ رَجُلٍ، وَالْمُرَكَّبَةُ بِمَعْنَى كَمْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا فَالْتُزِمَ لِلْفَرْقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قِيلَ: لَا تَحْمِلُ لِضَعْفِهَا وَقِيلَ هِيَ كَالْقُمَّلِ وَالْبُرْغُوثِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ لَا تَدَّخِرُ اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ رِزْقَهَا لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ فَكَذَلِكَ يَرْزُقُكُمْ فَتَوَكَّلُوا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الدَّوَابَّ بَلِ النَّبَاتُ فِي الصَّحْرَاءِ مُسَبَّبٌ وَالْحَيَوَانُ يَسْعَى إِلَيْهِ وَيَرْعَى، فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ نَظَرًا إِلَى الرِّزْقِ وَإِلَى الْمُرْتَزَقِ وَإِلَى مَجْمُوعِ الرِّزْقِ وَالْمُرْتَزَقِ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الرِّزْقِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقِ النَّبَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَيَوَانِ رِزْقٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ فَلِأَنَّ الِاغْتِذَاءَ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَشَبُّثِهِ بِالْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَشِيشُ عَظْمًا وَلَحْمًا وَشَحْمًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ فِيهِ جَاذِبَةً وَمَاسِكَةً وَهَاضِمَةً وَدَافِعَةً وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى وَبِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهَا، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ وَالرِّزْقِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يَهْدِ الْحَيَوَانَ إِلَى الْغِذَاءِ لِيَعْرِفَهُ مِنَ الشَّمِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ اغْتِذَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا يَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغِذَاءِ حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِهِ بِالشِّدَّةِ لِيَذُوقَ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْبَعِيرُ لَا يَعْرِفُ الْخَمِيرَ وَلَا الشَّعِيرَ حَتَّى يَلْقَمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَعْرِفَهُ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ فِيمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ وَالْحَيَوَانُ رِزْقُهُ لَا يُتَعَرَّضُ إِلَيْهِ إِذَا أَكَلَ مِنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا وَتَرَكَ بَقِيَّةً يَجِدُهَا غَدًا، مَا مَدَّ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَدًا، وَالْإِنْسَانُ إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهُ غَدًا شَيْءٌ؟
وَأَيْضًا حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَجْنَاسِ اللِّبَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَأَيْضًا قُوتُ الْحَيَوَانِ مُهَيَّأٌ وَقُوتُ الْإِنْسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى كَلَفٍ كَالزَّرْعِ وَالْحَصَادِ وَالطَّحْنِ وَالْخَبْزِ فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَنَقُولُ نَحْنُ لَا نَقُولُ إِنَّ الْجَمْعَ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الزَّارِعُ الْحَاصِدُ مُتَوَكِّلًا وَالرَّاكِعُ السَّاجِدُ غَيْرَ مُتَوَكِّلٍ، لِأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ يَرْزُقُ مِنْ غَيْرِ زَرْعٍ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ لَا يَرْزُقُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ فَيَعْمَلُ وَقَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ هُوَ مُتَوَكِّلٌ حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَمَنْ يُصَلِّي وَقَلْبُهُ مَعَ مَا فِي يَدِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هُوَ غَيْرُ مُتَوَكِّلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ، فَنَقُولُ مَكَاسِبُهُ كَثِيرَةٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِيَدِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالنَّسَّاجِ وَبِرِجْلِهِ كَالسَّاعِي وَغَيْرِهِ، وَبِعَيْنِهِ كَالنَّاطُورِ وَبِلِسَانِهِ كَالْحَادِي وَالْمُنَادِي، وَبِفَهْمِهِ كَالْمُهَنْدِسِ(25/72)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
وَالتَّاجِرِ، / وَبِعِلْمِهِ كَالطَّبِيبِ وَالْفَقِيهِ، وَبِقُوَّةِ جِسْمِهِ كَالْعَتَّالِ وَالْحَمَّالِ، وَالْحَيَوَانُ لَا مَكَاسِبَ لَهُ، فَالرَّغِيفُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، بَعِيدٌ أَنْ لَا يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَعَ هَذِهِ الْمَكَاسِبِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ. وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ بِحَيْثُ يَأْتِيهِ الرِّزْقُ وَأَسْبَابُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الْإِنْسَانَ عَمَائِرَ الدُّنْيَا وَجَعَلَهَا بِحَيْثُ تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَاءَ أَمْ أَبَى، حَتَّى أَنَّ نِتَاجَ الْأَنْعَامِ وَثِمَارَ الْأَشْجَارِ تَدْخُلُ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ مَالِكُ النَّعَمِ وَالشَّجَرِ، وَإِذَا مَاتَ قَرْنٌ يَنْتَقِلُ ذَلِكَ إِلَى قَرْنٍ آخَرَ قَهْرًا شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ إِنْ لَمْ يَأْتِ الرِّزْقَ لَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ، فَإِذَنِ الْإِنْسَانُ لَوْ تَوَكَّلَ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ تَوَكُّلِ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ سميع إذا طلبتم الرزق، يسمع ويجيب، عليهم إِنْ سَكَتُّمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ حَاجَتُكُمْ وَمِقْدَارُ حاجتكم. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 61]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ الْأَمْرَ لِلْمُشْرِكِ مُخَاطِبًا مَعَهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنَ بقوله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
[العنكبوت: 56] وَأَتَمَّ الْكَلَامَ مَعَهُ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَكُونُ إِرْشَادًا لِلْمُشْرِكِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ وَهَذَا طَرِيقٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، أَوِ الْوَالِدَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدَانِ وَأَحَدُهُمَا رَشِيدٌ وَالْآخَرُ مُفْسِدٌ، يَنْصَحُ أَوَّلًا الْمُفْسِدَ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ يَقُولُ مُعْرِضًا عَنْهُ، مُلْتَفِتًا إِلَى الرَّشِيدِ، إِنَّ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ فَاسْمَعْ أَنْتَ وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَذَا الْمُفْسِدِ، فَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَصِيحَةَ الْمُصْلِحِ وَزَجْرَ الْمُفْسِدِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْخِطَابَ يُوجِبُ نِكَايَةً فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ إِذَا ذَكَرَ مَعَ الْمُصْلِحِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ وَالْمُفْسِدُ يَسْمَعُهُ، إِنَّ هذا أخاك العجب مِنْهُ أَنَّهُ يَعْلَمُ قُبْحَ فِعْلِهِ وَيَعْرِفُ الْفَسَادَ مِنَ الصَّلَاحِ وَسَبِيلَ الرَّشَادِ وَالْفَلَاحِ وَيَشْتَغِلُ بِضِدِّهِ، يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا دَاعِيًا لَهُ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ مَانِعًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادِ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَعَ الْمُؤْمِنِ الْعَجَبُ منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُونَ، وَفِي الآية لطائف إحداها: ذكر في السموات وَالْأَرْضِ الْخَلْقَ، وَفِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ التَّسْخِيرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ حِكْمَةً، فَإِنَّ الشَّمْسَ لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تَتَحَرَّكُ مَا حَصَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا الصَّيْفُ وَلَا الشِّتَاءُ، فَإِذًا الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيكِهِمَا وَتَسْخِيرِهِمَا الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ التَّسْخِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيكَ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَرَكَةِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْحَرَكَةِ كَافِيًا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَتَحَرَّكُ مِثْلَ حَرَكَتِنَا لَمَا كَانَتْ تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِأُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ، فَالْحِكْمَةُ فِي تَسْخِيرِهِمَا تَحَرُّكُهُمَا فِي قَدْرِ مَا يَتَنَفَّسُ الْإِنْسَانُ/ آلَافًا مِنَ الْفَرَاسِخِ، ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا حَرَكَةً وَاحِدَةً بَلْ حَرَكَاتٍ، إِحْدَاهَا حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرَّةً، وَالْأُخْرَى حَرَكَتُهَا مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا أَنَّ الْهِلَالَ يُرَى فِي جَانِبِ الْغَرْبِ عَلَى بُعْدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَبْعُدُ مِنْهُ إِلَى جَانِبِ الشَّرْقِ حَتَّى يُرَى الْقَمَرُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ عَلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ، وَالْقَمَرُ عَلَى أُفُقِ الْمَشْرِقِ، وَحَرَكَةٌ أُخْرَى حَرَكَةُ الْأَوْجِ وَحَرَكَةُ الْمَائِلِ وَالتَّدْوِيرِ فِي الْقَمَرِ، وَلَوْلَا الْحَرَكَةُ الَّتِي مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ لَمَا حَصَلَتِ الْفُصُولُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْهَيْئَةِ قَالُوا الشَّمْسُ فِي الْفَلَكِ مَرْكُوزَةٌ وَالْفَلَكُ يُدِيرُهَا بِدَوَرَانِهِ وَأَنْكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ الظَّاهِرِيُّونَ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَقُولُوا بِالطَّبِيعَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَاعِلٌ مُخْتَارٌ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا فِي الْفَلَكِ وَالْفَلَكُ سَاكِنٌ يَجُوزُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُحَرِّكَهُمَا بِحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَهُمَا سَاكِنَانِ يَجُوزُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ أَوْ ظَاهِرٌ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] الثالثة: ذكر أمرين أحدهما خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالْآخَرُ تَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ الْإِيجَادَ قَدْ يَكُونُ لِلذَّوَاتِ وَقَدْ يَكُونُ لِلصِّفَاتِ،(25/73)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
فخلق السموات وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الصِّفَاتِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ وغيرها، فكأنه ذكر من القبلين مِثَالَيْنِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يَعْنِي هُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَنْ عُلِمَتْ عَظَمَتُهُ وَجَبَتْ خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا حَقَارَةَ فَوْقَ حَقَارَةِ الْجَمَادِ، لِأَنَّ الْجَمَادَ دُونَ الْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ دُونَ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ دون سكان السموات فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَاتِ أخس الموجودات. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 62]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لَمَّا بَيَّنَ الْخَلْقَ ذَكَرَ الرِّزْقَ لِأَنَّ كَمَالَ الْخَلْقِ بِبَقَائِهِ وَبَقَاءَ الْإِنْسَانِ بِالرِّزْقِ، فَقَالَ الْمَعْبُودُ إِمَّا أَنْ يُعْبَدَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا، وَإِمَّا لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات عَلَى الشَّأْنِ جَلِيُّ الْبُرْهَانِ فَلَهُ الْعِبَادَةُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ وَلِيَّ الْإِحْسَانِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ الْخَلْقَ فَلَهُ الطَّوْلُ وَالْإِحْسَانُ وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ فَلَهُ الْعِبَادَةُ مِنْ هذا الوجه أيضا قوله: لِمَنْ يَشاءُ إشارة إِلَى كَمَالِ الْإِحْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ الْخَازِنَ بِإِعْطَاءِ شَخْصٍ شَيْئًا، فَإِذَا أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ مَا يَسِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، لِأَنَّ الْآخِذَ يَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِإِرَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ الْمَلِكِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا بِأَنْ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِهِ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تُعْطِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ جَلِيلَةٌ لَا قَلِيلَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّزْقُ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ إِحْسَانٌ تَامٌّ يَسْتَوْجِبُ شُكْرًا تَامًّا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ يُضَيِّقُ لَهُ إِنْ أَرَادَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: / إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ الْحَاجَاتِ وَمَقَادِيرَ الْأَرْزَاقِ وَفِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ هاهنا لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ الرَّازِقَ الَّذِي هُوَ كَامِلُ الْمَشِيئَةِ إِذَا رَأَى عَبْدَهُ مُحْتَاجًا وَعَلِمَ جُوعَهُ لَا يُؤَخِّرُ عَنْهُ الرِّزْقَ، وَلَا يُؤَخِّرُ الرَّازِقُ الرِّزْقَ إِلَّا لِنُقْصَانٍ فِي نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ كَالْمَلِكِ إِذَا أَرَادَ الْإِطْعَامَ وَالطَّعَامُ لَا يَكُونُ بَعْدُ قَدِ اسْتَوَى، أَوْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِجُوعِ الْعَبِيدِ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ اسْتَوْعَبَ ذِكْرَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْإِلَهِ وَمَنْ أَنْكَرَهَا كَفَرَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِهِ مَنْ يُنْكِرُهَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا لَا كَافِرًا، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْأَرْبَعَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلَهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى شُمُولِ عِلْمِهِ، وَالْقَادِرُ الْمُرِيدُ الْعَالِمُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا حَيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ذَكَرَ اعْتِرَافَهُمْ بِذَلِكَ فقال:
[سورة العنكبوت (29) : آية 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
يَعْنِي هَذَا سَبَبُ الرِّزْقِ وَمُوجِدُ السَّبَبِ مُوجِدُ الْمُسَبَّبِ، فَالرِّزْقُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ الْحَمْدُ لِذِكْرِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانِ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَلَامًا مُتَّصِلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَيَعْتَرِفُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ وَتَعْمَلُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِكَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَيَحْمَدُونَ(25/74)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
غَيْرَ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةٍ هِيَ مِنَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم فقل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ تَنَاقُضِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هَذَا التَّنَاقُضَ أَوْ فَسَادَ هَذَا التَّنَاقُضِ. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 64]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْخَالِقَ وَكَوْنِهِ هُوَ الرَّزَّاقَ وَهُمْ يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهُ وَلَا يَتْرُكُونَهَا إِلَّا لِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيَّنَ أَنَّ مَا يَمِيلُونَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِقَوْلِهِ: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، حَتَّى يَصِحَّ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؟ فَنَقُولُ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شُغُلٍ يُفْرَضُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الباطل للذة يسيرة زائلة فِيهِ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ فَالْإِقْبَالُ عَلَى الْبَاطِلِ لَعِبٌ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ لَهْوٌ، فَالدُّنْيَا لَعِبٌ أَيْ إِقْبَالٌ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَهْوٌ أَيْ إِعْرَاضٌ عَنِ الْحَقِّ الثَّانِي:
هُوَ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِشَيْءٍ يُرَجِّحُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ بِأَنْ يَقُولَ أُقَدِّمُ هَذَا وَذَلِكَ الْآخَرُ آتِي بِهِ بَعْدَهُ أَوْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْأَوَّلُ لَعِبٌ وَالثَّانِي لَهْوٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ وَالْحَمَامَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُمَا لَا تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي فِي الْعُرْفِ، وَالْعُودُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْتَارِ تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهَا تُلْهِي الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ الْحَالِيَّةِ، فَالدُّنْيَا لِلْبَعْضِ لَعِبٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُولُ بَعْدَ هَذَا الشُّغْلِ أَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ وَالْآخِرَةِ، وَلِلْبَعْضِ لَهْوٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْسَى الْآخِرَةَ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: 32] ولم يقل وما هذه الحياة وقال هاهنا: وَما هذِهِ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ هاهنا أَمْرُ الدُّنْيَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [البقرة: 164] فَقَالَ هَذِهِ وَالْمَذْكُورُ قَبْلَهَا هُنَاكَ الْآخِرَةُ حَيْثُ قال: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَامِ: 31] فَلَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي خَاطِرِهِمْ فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقال هاهنا: إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ مِنْ قَبْلُ الْآخِرَةَ وَإِظْهَارَهُمْ لِلْحَسْرَةِ، فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَبْعُدُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي الدُّنْيَا بَلْ نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما هاهنا لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ الدُّنْيَا وَهِيَ خَدَّاعَةٌ تَدْعُو النُّفُوسَ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا لِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْتَغِلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ فِيهَا، وَلِعَاصِمٍ يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان هاهنا الِاسْتِغْرَاقُ أَقْرَبَ مِنْ عَدَمِهِ فَقَدَّمَ اللَّهْوَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هُنَاكَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الْأَنْعَامِ: 32] وقال هاهنا: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ/ لَهِيَ الْحَيَوانُ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْحَالُ هُنَاكَ حَالَ إِظْهَارِ الْحَسْرَةِ مَا كَانَ الْمُكَلَّفُ يَحْتَاجُ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ ولما كان هاهنا الْحَالُ حَالَ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا احْتَاجَ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ فَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا هَذَا خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ هَذَا تَرْجِيحًا فَحَسْبُ، وَلَوْ قَالَ هذا جيد(25/75)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
وَهَذَا الْآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَكُونُ تَرْجِيحًا مَعَ المبالغة فكذلك هاهنا بَالَغَ لِكَوْنِ الْمُكَلَّفِ مُتَوَغِّلًا فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ هُنَاكَ: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: 32] وَلَمْ يقل هاهنا إِلَّا لَهِيَ الْحَيَوانُ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِي فَحَسْبُ أَيِ الْمُتَّقِي عَنِ الشِّرْكِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَالدُّنْيَا جَنَّتُهُ فَهِيَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْآخِرَةِ بَاقِيَةً فِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ فَلَا يُخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ أُطْلِقَ الْحَيَوَانُ عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّ الْحَيَوَانَ نَامٍ مُدْرِكٌ؟ فَنَقُولُ الْحَيَوَانُ مَصْدَرُ حَيَّ كَالْحَيَاةِ لَكِنَّ فِيهَا مُبَالَغَةً لَيْسَتْ فِي الْحَيَاةِ وَالْمُرَادُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ هِيَ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ أَوْ نَقُولُ لَمَّا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّمُوُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَكَانَتْ هِيَ مَحَلَّ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: 9] أَطْلَقَ عَلَيْهَا الِاسْمَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي النَّامِي الْمُدْرِكِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] وقال هاهنا: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَذَلِكَ لَأَنَّ الْمُثْبَتَ هُنَاكَ كَوْنُ الْآخِرَةِ خَيْرًا وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَتَوَقَّفُ إلا على العقل والمثبت هاهنا أَنْ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 65]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا رَجَعُوا إِلَى الْفِطْرَةِ الشَّاهِدَةِ بِالتَّوْحِيدِ وَوَحَّدُوا وَأَخْلَصُوا، فَإِذَا أَنْجَاهُمْ وَأَرْجَأَهُمْ عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَأَشْرَكُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 66]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّامَ لَامُ كَيْ، أَيْ يُشْرِكُونَ لِيَكُونَ إِشْرَاكُهُمْ كُفْرًا بِنِعْمَةِ الْإِنْجَاءِ، وَلِيَتَمَتَّعُوا بِسَبَبِ الشِّرْكِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بِوَبَالِ عَمَلِهِمْ حِينَ زَوَالِ أَمَلِهِمْ وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى لِيَكْفُرُوا عَلَى التَّهْدِيدِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] وَكَمَا قال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ/ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 135] فساد ما تعملون. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 67]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
التَّفْسِيرُ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا الدَّقِيقُ وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَنَقُولُ الْإِنْسَانُ فِي الْبَحْرِ يَكُونُ عَلَى أَخْوَفِ مَا يَكُونُ وَفِي بَيْتِهِ يَكُونُ عَلَى آمَنِ مَا يَكُونُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بَيْتُهُ فِي بَلَدٍ حَصِينٍ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ حَالَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ وَرَأَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ رَاجِعَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ حَالَهُمْ عِنْدَ الْأَمْنِ الْعَظِيمِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ فِي مَكَّةَ فَإِنَّهَا مَدِينَتُهُمْ وَبَلَدُهُمْ وَفِيهَا سُكْنَاهُمْ وَمَوْلِدُهُمْ، وَهِيَ حَصِينٌ بِحِصْنِ اللَّهِ حَيْثُ كُلُّ مَنْ حَوْلَهَا يَمْتَنِعُ مِنْ قِتَالِ مَنْ حَصَلَ فِيهَا، وَالْحُصُولُ فِيهَا يَدْفَعُ الشُّرُورَ عَنِ النُّفُوسِ وَيَكُفُّهَا يَعْنِي أَنَّكُمْ فِي أَخْوَفِ مَا كُنْتُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ(25/76)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَفِي آمَنِ مَا حَصَلْتُمْ عَلَيْهِ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّ دُعَاءَكُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ مَا كَانَ إِلَّا لِقَطْعِكُمْ بِأَنَّ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ لَا غَيْرُ فَهَذِهِ النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي حَصَلَتْ وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِهَا؟ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي قَطَعْتُمْ فِي حَالِ الْخَوْفِ أَنْ لَا أَمْنَ مِنْهَا كَيْفَ آمَنْتُمْ بِهَا في حال الأمن؟. ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 68]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ الْأُمُورَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ مَنْ يَكُونُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ عَلَى مَا بَيَّنَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا وَضَعَ وَاحِدٌ شَيْئًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَهُ يَكُونُ ظَالِمًا فَإِذَا وَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ يَكُونُ أَظْلَمُ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِمْكَانِ أَقْوَى مِنْ عَدَمِ الْحُصُولِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُمْكِنُ لَا يَحْصُلُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحْصُلُ لَا يُمْكِنُ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ وَجَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَلِكٍ مُسْتَقِلٍّ فِي الْمُلْكِ لَكَانَ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمَلِكِ الْعِقَابَ الْأَلِيمَ فَكَيْفَ إِذَا جُعِلَ الشَّرِيكُ لِمَنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، وَأَيْضًا مَنْ كَذَّبَ صَادِقًا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ يَكُونُ ظُلْمًا فَمَنْ يُكَذِّبُ صَادِقًا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ؟ فَإِذًا لَيْسَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ بِالشِّرْكِ وَيُكَذِّبُ اللَّهَ فِي تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ وَالنَّبِيَّ فِي رِسَالَةِ رَبِّهِ وَالْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنَ اللَّهِ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا الْمُتَّخَذَ مِنْ خَشَبٍ منحوت/ بالإلهية، ولم يقبلوا ذا حسب منعوت بِالرِّسَالَةِ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَالرِّسَالَةَ وَالْحَشْرَ وَقَرَّرَهُ وَوَعَظَ وَزَجَرَ قَالَ لِنَبِيِّهِ لِيَقُولَ لِلنَّاسِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَيْ إِنِّي جِئْتُ بِالرِّسَالَةِ وَقُلْتُ إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فَالْحَالُ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنَا مُفْتَرٍ مُتَنَبِّئٌ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَنْتُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِ لَكِنِّي مُعْتَرِفٌ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ عَارِفٌ بِهِ فَلَا أُقْدِمُ عَلَى الِافْتِرَاءِ لِأَنَّ جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين والمتنبي كَافِرٌ، وَأَنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فَجَهَنَّمُ مَثْوَاكُمْ إِذْ هِيَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا حِينَئِذٍ يَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سَبَأٍ: 24] . ثم قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : آية 69]
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ وَلَمْ يُؤْمِنِ الْكُفَّارُ سَلَّى قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ مَنْ جَاهَدَ بِالطَّاعَةِ هَدَاهُ سُبُلَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] فَقَوْلُهُ: لَنَهْدِيَنَّهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُسْنَى وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعِيَّةِ وَالْقُرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُحْسِنِ زِيَادَةٌ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ حُكْمِيٌّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أَيِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي دَلَائِلِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أَيْ لِنُحَصِّلَ فِيهِمُ الْعِلْمَ بِنَا. وَلِنُبَيِّنَ هَذَا فَضْلَ بَيَانٍ، فَنَقُولُ أَصْحَابُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّ النَّظَرَ كَالشَّرْطِ لِلْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ وَاللَّهُ يَخْلُقُ فِي النَّاظِرِ عِلْمًا عَقِيبَ نَظَرِهِ وَوَافَقَهُمُ الْفَلَاسِفَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى وَقَالُوا النَّظَرُ مُعِدٌّ لِلنَّفْسِ لِقَبُولِ الصُّورَةِ الْمَعْقُولَةِ، وَإِذَا اسْتَعَدَّتِ النَّفْسُ حَصَلَ لَهَا الْعِلْمُ مِنْ فَيْضِ وَاهِبِ الصُّوَرِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ حَسَنًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ تُفِدْهُمُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فَلَمْ يَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هُوَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يتقون التعصب(25/77)
وَالْعِنَادَ فَيَنْظُرُونَ فَيَهْدِيهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَةٍ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ بَعِيدًا لَا يَتَقَرَّبُ وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَرَّبُ بِالنَّظَرِ وَالسُّلُوكِ فَيَهْدِيهِمْ وَيُقَرِّبُهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اللَّهُ مَعَهُ وَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ وَلَا يَعْلَمُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمَنْ يَكُونُ مَعَ الشَّيْءِ كَيْفَ يَطْلُبُهُ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا إِشَارَةٌ إِلَى الثَّانِي وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الثَّالِثِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كِتَابِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(25/78)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
سُورَةُ الرُّومِ
سِتُّونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ [إِلَّا آيَةَ 17 فَمَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ الِانْشِقَاقِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ.
وَجْهُ تَعَلُّقِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَتَبَيَّنُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَكَانَ يُجَادِلُ الْمُشْرِكِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى عَدَمِ الْعَقْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَةِ: 171] وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُوَافِقُونَ النَّبِيَّ فِي الْإِلَهِ كَمَا قَالَ: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [الْعَنْكَبُوتِ: 46] وَكَانُوا يُؤْمِنُونَ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَقُولُهُ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ كَمَا قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْعَنْكَبُوتِ: 47] أَيْ أَبْغَضَ الْمُشْرِكُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَتَرَكُوا مُرَاجَعَتَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يُرَاجِعُونَهُمْ فِي الْأُمُورِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْكَرَّةُ عَلَيْهِمْ حِينَ قَاتَلَهُمُ الْفُرْسُ الْمَجُوسُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ الْغَلَبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ يُرِيدُ مَزِيدَ ثَوَابٍ فِي الْمُحِبِّ فَيَبْتَلِيهِ وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ الْأَعَادِيَ، وَقَدْ يَخْتَارُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ قَبْلَ يَوْمِ الْمِيعَادِ لِلْمُعَادِي، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي؟ فَنَقُولُ قَدْ سَبَقَ مِنَّا أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِحُرُوفِ التَّهَجِّي فَإِنَّ في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] المص كِتابٌ [الْأَعْرَافِ: 1، 2] ، طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه: 1، 2] ، الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السَّجْدَةِ: 1، 2] حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [فُصِّلَتْ: 1، 2] يس وَالْقُرْآنِ [يس: 1، 2] ، ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1، 2] إِلَّا هَذِهِ السُّورَةَ وَسُورَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا الْحِكْمَةُ فِيهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا فَنَقُولُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ السُّوَرِ وَهُوَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا التَّنْزِيلُ وَالْكِتَابُ وَالْقُرْآنُ فِي أَوَائِلِهَا ذِكْرُ مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا الْحُرُوفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي العنكبوت(25/79)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
وَهَذِهِ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا مَا هُوَ مُعْجِزَةٌ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ، فَقُدِّمَتِ الْحُرُوفُ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهَا لِيَتَنَبَّهَ السَّامِعُ فَيُقْبِلَ بِقَلْبِهِ عَلَى الِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ تَرِدُ عَلَيْهِ الْمُعْجِزَةُ وَتَقْرَعُ الْأَسْمَاعَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أَيْ أَرْضِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ/ لِلتَّعْرِيفِ وَالْمَعْهُودُ عِنْدَهُمْ أَرْضُهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِهِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَيَغْلِبُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: غُلِبَتِ الرُّومُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْغَلَبَةِ؟ فَنَقُولُ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ غَلَبَ بَعْدَ غَلَبِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا ضَعِيفًا، فَلَوْ كَانَ غَلَبَتُهُمْ لِشَوْكَتِهِمْ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَغْلِبُوا قَبْلَ غلبهم فإذا غلبوا بعد ما غُلِبُوا، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَذَكَرَ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ لِيَتَفَكَّرُوا فِي ضَعْفِهِمْ وَيَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِزَحْفِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: فِي أَدْنَى الْأَرْضِ لِبَيَانِ شِدَّةِ ضَعْفِهِمْ، أَيِ انْتَهَى ضَعْفُهُمْ إِلَى أَنْ وَصَلَ عَدُوُّهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحِجَازِ وَكَسَرُوهُمْ وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ ثُمَّ غَلَبُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْمَدَائِنِ وَبَنَوْا هُنَاكَ الرُّومِيَّةَ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْغَلَبَةَ الْعَظِيمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّعْفِ الْعَظِيمِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فِي بِضْعِ سِنِينَ قِيلَ هِيَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ، أَبْهَمَ الْوَقْتَ مَعَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ أَتَمُّ فَنَقُولُ السَّنَةُ وَالشَّهْرُ وَالْيَوْمُ وَالسَّاعَةُ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَهَا لِنَبِيِّهِ وَمَا أَذِنَ لَهُ فِي إِظْهَارِهَا لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مُعَانِدِينَ وَالْأُمُورُ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ تَكُونُ مَعْلُومَةَ الْوُقُوعِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهَا لَكِنَّ وَقْتَهَا يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَالْمُعَانِدُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرْجُفَ بِوُقُوعِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ الْوُقُوعِ لِيَحْصُلَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِهِ وَلَمَّا وَرَدَتِ الْآيَةُ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ وَأَنْكَرَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَغَيْرُهُ، وَنَاحَبُوا أَبَا بَكْرٍ أَيْ خَاطَرُوهُ عَلَى عَشَرَةِ قَلَائِصَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ فَزَايَدَهُ فِي الْإِبِلِ وَمَادَّهُ فِي الْأَجَلِ فَجَعَلَا الْقَلَائِصَ مِائَةً وَالْأَجَلَ سَبْعًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَقْتِ الْغَلَبَةِ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ قَبْلِ الْغَلَبَةِ وَمِنْ بَعْدِهَا أَوْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَمِنْ بَعْدِهَا، يَعْنِي إِنْ أَرَادَ غَلَبَهُمْ غَلَبَهُمْ قَبْلَ بِضْعِ سِنِينَ وَإِنْ أَرَادَ غَلَبَهُمْ غَلَبَهُمْ بَعْدَهَا، وَمَا قَدَّرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِعَجْزٍ وَإِنَّمَا هِيَ إِرَادَةٌ نَافِذَةٌ، وَبُنِيَا عَلَى الضَّمِّ لَمَّا قُطِعَا عَنِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ غَيْرَ الضَّمَّةِ مِنَ الْفَتْحَةِ وَالْكَسْرَةِ يُشْتَبَهُ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ النَّصْبُ وَالْجَرُّ، أَمَّا النَّصْبُ فَفِي قَوْلِكَ جِئْتُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الْجَرُّ فَفِي قَوْلِكَ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بعده فنيا عَلَى الضَّمِّ لِعَدَمِ دُخُولِ مِثْلِهِمَا عَلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ قِيلَ يَفْرَحُونَ بِغَلَبَةِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ كَمَا فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِغَلَبَةِ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِغَلَبَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ غَلَبَةَ الرُّومِ كَانَتْ يَوْمَ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا صَحَّ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ خَبَرُ الْكَسْرِ فَلَا يَكُونُ فَرَحُهُمْ يَوْمَئِذٍ بَلِ الفرح يحصل بعده. / ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 5 الى 7]
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)(25/80)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ قَدَّمَ الْمَصْدَرَ عَلَى الْفِعْلِ حَيْثُ قَالَ: بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ وَقَدَّمَ الْفِعْلَ عَلَى الْمَصْدَرِ فِي قوله: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال: 62] وذلك لأن المقصود هاهنا بَيَانُ أَنَّ النُّصْرَةَ بِيَدِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ نَصَرَ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ لَا يَنْصُرْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ النُّصْرَةَ وَوُقُوعَهَا وَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ إِظْهَارُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَصَرَهُ، فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْفِعْلُ وَوُقُوعُهُ فَقَدَّمَ هُنَاكَ الْفِعْلَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الفعل مصدره عند الله، والمقصود هاهنا كَوْنُ الْمَصْدَرُ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ فَعَلَ فَقَدَّمَ الْمَصْدَرَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْصُرِ الْمُحِبَّ بَلْ سَلَّطَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ افْتِقَارِهِ، وَإِنْ نَصَرَ الْمُحِبَّ فَذَلِكَ لِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ نَقُولُ إِنْ نَصَرَ اللَّهُ الْمُحِبِّ فَلِعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْعَدُوِّ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْمُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرِ الْمُحِبَّ فَلِعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْمُحِبِّ وَرَحْمَتُهُ فِي الْآخِرَةِ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ يَعْنِي سَيَغْلِبُونَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ وَعْدًا وَوَعْدُ اللَّهِ لَا خُلْفَ فِيهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَعْدَهُ وَأَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يَعْنِي عِلْمُهُمْ مُنْحَصِرٌ فِي الدُّنْيَا وَأَيْضًا لَا يَعْلَمُونَ الدُّنْيَا كَمَا هِيَ وَإِنَّمَا يَعْلَمُونَ ظَاهِرَهَا وَهِيَ مَلَاذُهَا وَمَلَاعِبُهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ بَاطِنَهَا وَهِيَ مَضَارُّهَا وَمَتَاعِبُهَا وَيَعْلَمُونَ وُجُودَهَا الظَّاهِرَ، وَلَا يَعْلَمُونَ فَنَاءَهَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ وَالْمَعْنَى هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ غَافِلُونَ، وَذُكِرَتْ هُمُ الثَّانِيَةُ لِتُفِيدَ أَنَّ الْغَفْلَةَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَأَسْبَابُ التَّذَكُّرِ حَاصِلَةٌ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ غَفَلْتُ عَنْ أَمْرِي، فَإِذَا قَالَ هُوَ شَغَلَنِي فُلَانٌ فَيَقُولُ مَا شَغَلَكَ وَلَكِنْ أنت اشتغلت. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 8]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ لَمَّا صَدَرَ مِنَ الْكُفَّارِ الْإِنْكَارَ بِاللَّهِ عِنْدَ إِنْكَارِ وَعْدِ اللَّهِ وَعَدَمِ الْخُلْفِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187] وَالْإِنْكَارُ بِالْحَشْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] بَيَّنَ أَنَّ الْغَفْلَةَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِلَّا فَأَسْبَابُ التَّذَكُّرِ حَاصِلَةٌ وَهُوَ [أَنَّ] أَنْفُسَهُمْ لَوْ تَفَكَّرُوا فِيهَا لَعَلِمُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَصَدَّقُوا بِالْحَشْرِ، أَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلْنَذْكُرْ مِنْ حُسْنِ خَلْقِهِمْ جُزْأً مِنْ أَلْفِ أَلْفِ جُزْءٍ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلْإِنْسَانِ مَعِدَةً فِيهَا يَنْهَضِمُ غِذَاؤُهُ لِتَقْوَى بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَلَهَا مَنْفَذَانِ أَحَدُهُمَا لِدُخُولِ الطَّعَامِ فِيهِ، وَالْآخَرُ لِخُرُوجِ الطَّعَامِ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ الطَّعَامُ فِيهَا انْطَبَقَ الْمَنْفَذُ الْآخَرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ ذَرَّةٌ وَلَا بِالرَّشْحِ، وَتُمْسِكُهُ الْمَاسِكَةُ إِلَى أَنْ يَنْضَجَ نُضْجًا صَالِحًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْمَنْفَذِ الْآخَرِ، وَخَلَقَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ عُرُوقًا دِقَاقًا صِلَابًا كَالْمِصْفَاةِ الَّتِي يُصَفَّى بِهَا الشَّيْءُ فَيَنْزِلُ مِنْهَا الصَّافِي إِلَى الْكَبِدِ وَيَنْصَبُّ الثُّفْلُ إِلَى مِعًى مَخْلُوقٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ مُسْتَقِيمٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَمَا يَدْخُلُ فِي الْكَبِدِ مِنَ الْعُرُوقِ الْمَذْكُورَةِ يُسَمَّى الْمَاسَارِيقَا بِالْعِبْرِيَّةِ، وَالْعِبْرِيَّةُ عَرَبِيَّةٌ مَفْسُودَةٌ فِي الْأَكْثَرِ، يُقَالُ لِمُوسَى مِيشَا وَلِلْإِلَهِ إِيلْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمَاسَارِيقَا مَعْنَاهَا مَاسَارِيقُ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الكبد وأنضجه(25/81)
نُضْجًا آخَرَ، وَيَكُونُ مَعَ الْغِذَاءِ الْمُتَوَجِّهِ مِنَ الْمَعِدَةِ إِلَى الْكَبِدِ فَضْلُ مَاءٍ مَشْرُوبٍ لِيُرَقَّقَ وَيَنْذَرِقَ فِي الْعُرُوقِ الدِّقَاقِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْكَبِدِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَيَتَمَيَّزُ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيَنْصَبُّ مِنْ جَانِبِ حَدَبَةِ الْكَبِدِ إِلَى الْكُلْيَةِ وَمَعَهُ دَمٌ يَسِيرٌ تَغْتَذِي بِهِ الْكُلْيَةُ وَغَيْرُهَا، وَيَخْرُجُ الدَّمُ الْخَالِصُ مِنَ الْكَبِدِ فِي عِرْقٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ ذَلِكَ النَّهْرُ إِلَى جَدَاوِلَ، وَالْجَدَاوِلُ إِلَى سَوَاقٍ، وَالسَّوَاقِي إِلَى رَوَاضِعَ وَيَصِلُ فِيهَا إِلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، فَهَذِهِ حِكْمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ كِفَايَةٌ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ اللَّهِ فَاعِلًا مُخْتَارًا قَادِرًا كَامِلًا عَالِمًا شَامِلًا عِلْمُهُ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ وَاحِدًا وَإِلَّا لَكَانَ عَاجِزًا عِنْدَ إِرَادَةِ شَرِيكِهِ ضِدَّ مَا أَرَادَهُ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَشْرِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ يَرَى قُوَاهُ صَائِرَةً إِلَى الزَّوَالِ، وَأَجْزَاءَهُ مَائِلَةً إِلَى الِانْحِلَالِ فَلَهُ فَنَاءٌ ضَرُورِيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَيَاةٌ أُخْرَى لَكَانَ خَلْقُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْفَنَاءِ عَبَثًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَهَذَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا لِلْعَبَثِ فَلَوْ بَالَغَ فِي إِحْكَامِهِ وَإِتْقَانِهِ يَضْحَكُ مِنْهُ، فَإِذَا خَلَقَهُ لِلْبَقَاءِ وَلَا بَقَاءَ دُونَ اللِّقَاءِ فَالْآخِرَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ دَلِيلِ الْأَنْفُسِ دَلِيلَ الْآفَاقِ فَقَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 44] وَنُعِيدُهُ فَإِنَّ التَّكْرِيرَ فِي الذِّهْنِ يُفِيدُ التَّقْرِيرَ لِذِي الذِّهْنِ، فَنَقُولُ إِذَا كَانَ بِالْحَقِّ لَا يَكُونُ فِيهَا بُطْلَانٌ/ فَلَا يَكُونُ فِيهَا فَسَادٌ لِأَنَّ كُلَّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَسَادٌ لَا تَكُونُ آلِهَةً وَإِلَّا لَكَانَ فِيهَا فَسَادٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَوْلُهُ: وَأَجَلٍ مُسَمًّى يُذَكِّرُ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ يَعْنِي لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ لِقَاءٍ وَبَقَاءٍ إِمَّا فِي إِسْعَادٍ أَوْ شَقَاءٍ، وَفِي الْآيَةِ مسائل:
المسألة الأولى: قدم هاهنا دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَائِلِ الْآفَاقِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] قَدَّمَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفِيدَ إِذَا أَفَادَ فَائِدَةً يَذْكُرُهَا عَلَى وَجْهٍ جَيِّدٍ يَخْتَارُهُ فَإِنْ فَهِمَهُ السَّامِعُ الْمُسْتَفِيدُ فَذَلِكَ وَإِلَّا يَذْكُرُهَا عَلَى وَجْهٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَيَنْزِلُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، وَأَمَّا الْمُسْتَفِيدُ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ أَوَّلًا الْأَبْيَنَ، ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى فَهْمِ ذَلِكَ الْأَخْفَى الَّذِي لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ فَيَفْهَمُهُ بَعْدَ فَهْمِ الْأَبْيَنِ الْمَذْكُورِ آخِرًا، فَالْمَذْكُورُ مِنَ الْمُفِيدِ آخِرًا مَفْهُومٌ عِنْدِ السَّامِعِ أَوَّلًا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ هاهنا الْفِعْلُ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى السَّامِعِ حَيْثُ قَالَ:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي فِيمَا فَهِمُوهُ أَوَّلًا وَلَمْ يَرْتَقُوا إِلَى مَا فَهِمُوهُ ثَانِيًا، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ الْأَمْرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُفِيدِ الْمُسْمِعِ فَذَكَرَ أَوَّلًا: الْآفَاقَ فَإِنْ لَمْ يَفْهَمُوهُ فَالْأَنْفُسَ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ لَا ذُهُولَ لِلْإِنْسَانِ عَنْهَا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُرَاعًى فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ:
191] أَيْ يَعْلَمُونَ اللَّهَ بِدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِدَلَائِلِ الْآفَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَجْهُ دَلَالَةِ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ فَكَيْفَ هُوَ؟
فَنَقُولُ وقوع تخريب السموات وَعَدَمُهَا لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ إِلَّا إِمْكَانُهُ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ فَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِبْقَاءِ الْحَادِثِ أَبَدًا كَمَا أَنَّهُ يُبْقِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ بَعْدَ إِحْدَاثِهِمَا أَبَدًا، وَالْخَلْقُ دَلِيلُ إِمْكَانِ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِدَمُ فَجَازِ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، فَإِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَنْ أَمْرٍ لَهُ إِمْكَانٌ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ التَّصْدِيقُ وَالْإِذْعَانُ،(25/82)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
وَلِأَنَّ الْعَالَمَ لَمَّا كَانَ خَلَقَهُ بِالْحَقِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى بَاقِيَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا ولهوا كما بين بقوله تَعَالَى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: 64] وخلق السموات وَالْأَرْضِ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ عَبَثٌ، وَالْعَبَثُ لَيْسَ بِحَقٍّ وخلق السموات وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ حَيَاةٍ بَعْدَ هذه.
المسألة الثالثة: قال هاهنا: كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [الروم: 6] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ قَبْلُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا على الأصلين، وهاهنا قَدْ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْوَاضِحَةَ وَالْبَرَاهِينَ اللَّائِحَةَ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِيمَانِ قَبْلَ الدَّلِيلِ، فَبَعْدَ الدَّلَائِلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْثَرِ جَمْعٌ فَلَا يَبْقَى الْأَكْثَرُ كَمَا هُوَ، فَقَالَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِنَّ كَثِيراً وَقَبْلَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ «1» ثُمَّ بَعْدَ الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الذُّهُولُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وإن أمكن هو السموات وَالْأَرْضُ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَذْهَلَ الْإِنْسَانُ عَنِ السَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَهُ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، ذكر مَا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وَهُوَ أَمْرُ أَمْثَالِهِمْ وحكاية أشكالهم. / فقال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 9]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
وَقَالَ فِي الدَّلِيلَيْنِ المتقدمين: أَوَلَمْ يَرَوْا [العنكبوت: 19، 67] وَلَمْ يَقُلْ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا إِذْ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إِلَى السَّيْرِ بِحُضُورِ النَّفْسِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وقال هاهنا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... فَيَنْظُرُوا ذَكَّرَهُمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ وَوَبَالِ أَشْكَالِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ قُوَاهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مَالًا وَعِمَارَةً، وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُمُ الْهَلَاكَ أَمْوَالُهُمْ وَحُصُونُهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِمَادَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ قُوَّةٌ جِسْمِيَّةٌ فِيهِ أَوْ فِي أَعْوَانِهِ إِذْ بِهَا المباشرة وقوة مالية إذ بِهَا التَّأَهُّبُ لِلْمُبَاشَرَةِ، وَقُوَّةٌ ظَهْرِيَّةٌ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ وَهِيَ بِالْحُصُونِ وَالْعَمَائِرِ، فَقَالَ تَعَالَى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي الْجِسْمِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمْ مَالًا لِأَنَّهُمْ أَثَارُوا الْأَرْضَ أَيْ حَرَثُوهَا، وَمِنْهُ بَقَرَةٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَقِيلَ مِنْهُ سُمِّيَ ثَوْرًا، وَأَنْتُمْ لَا حِرَاثَةَ لَكُمْ فَأَمْوَالُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ، وَعِمَارَتُهُمْ كَانَتْ أَكْثَرَ لِأَنَّ أَبْنِيَتَهُمْ كانت رفعية وَحُصُونُهُمْ مَنِيعَةً، وَعِمَارَةُ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَتْ يَسِيرَةً ثُمَّ هَؤُلَاءِ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَأَمَرُوهُمْ وَنَهَوْهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا أُهْلِكُوا فَكَيْفَ أَنْتُمْ، وَقَوْلُهُ: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يَعْنِي لَمْ يَظْلِمْهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرِيفٌ لَا يُؤْثَرُ لَهُ إِلَّا مَحَلٌّ شَرِيفٌ وَلَكِنْ هُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعٍ خَسِيسٍ، وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَاتِّبَاعُ إِبْلِيسَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ بِالتَّكْلِيفِ وَضَعَهُمْ فِيمَا خُلِقُوا لَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ خَلَقْتُكُمْ لِتَرْبَحُوا عَلَيَّ لَا لِأَرْبَحَ عَلَيْكُمْ، وَالْوَضْعُ فِي [أَيِّ] مَوْضِعٍ كَانَ الْخَلْقُ لَهُ لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَأَمَّا هُمْ فَوَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِ الْخُسْرَانِ وَلَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا إِلَّا لِلرِّبْحِ فَهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَّا وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ يُشْبِهُ كَلَامَ الْمُعْتَزِلَةِ لَكِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ كَيْفَ يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ كَانَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ منهم ومضافا إليهم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 10]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
كَمَا قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُسَ: 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ كَذَّبُوا قِيلَ مَعْنَاهُ بِأَنْ كَذَّبُوا أي
__________
(1) في تفسير الرازي المطبوع (أكثرهم) وهو خطأ وما أثبتناه هو الصواب.(25/83)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
كَانَ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا، وَقِيلَ معناه أساءوا وكذبوا فكذبوا يكون تفسيرا لأساؤوا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: قَالَ فِي حَقِّ الَّذِينَ أَحْسَنُوا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَقَالَ فِي حَقِّ مَنْ أَسَاءَ: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَهُمْ مِنَ ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْحُسْنَى اسْمُ الْجَنَّةِ وَالسُّوءَى اسْمُ النَّارِ، فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَهُمْ وَمِنْ الِابْتِدَاءِ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ كُلَّمَا يَزْدَادُ وَيَنْمُو فِيهِ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ يُوجِبُ مِلْكَ الثَّمَرَةِ، فَالْجَنَّةُ مِنْ حَيْثُ خُلِقَتْ تَرْبُو وَتَنْمُو للمحسنين، وأما الذين أساؤا، فالسوأى وَهِيَ جَهَنَّمُ فِي الْعَاقِبَةِ مَصِيرُهُمْ إِلَيْهَا الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُحْسِنِ وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ الْمُسِيءِ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا الثَّالِثَةُ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُحْسِنِ أَنَّ لَهُ الْحُسْنَى بِأَنَّهُ صَدَّقَ، وَذَكَرَ فِي المسيء أن له السوأى بِأَنَّهُ كَذَّبَ، لِأَنَّ الْحُسْنَى لِلْمُحْسِنِينَ فَضْلٌ وَالْمُتَفَضِّلُ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَفَضُّلُهُ لِسَبَبٍ يَكُونُ أَبْلَغَ، وَأَمَّا السُّوءَى لِلْمُسِيءِ عَدْلٌ وَالْعَادِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُ لِسَبَبٍ لَا يَكُونُ عَدْلًا فَذَكَرَ السَّبَبَ فِي التَّعْذِيبِ وَهُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ فِي الثَّوَابِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 11]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ لَمْ يَتْرُكْهُ دَعْوًى بِلَا بَيِّنَةٍ فَقَالَ يَبْدَأُ الْخَلْقَ، يَعْنِي مَنْ خَلَقَ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَعْجِزُ عَنِ الرَّجْعَةِ وَالْإِعَادَةِ فَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يكون وقت الرجوع إليه فقال:
[سورة الروم (30) : الآيات 12 الى 13]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13)
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَتَبَيَّنُ إِفْلَاسُهُمْ وَيَتَحَقَّقُ إِبْلَاسُهُمْ، وَالْإِبْلَاسُ يَأْسٌ مَعَ حَيْرَةٍ، يَعْنِي يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَكُونُ لِلْمُجْرِمِ يَأْسٌ مُحَيِّرٌ لَا يَأْسٌ هُوَ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّمَعَ إِذَا انْقَطَعَ بِالْيَأْسِ فَإِذَا كَانَ الْمَرْجُوُّ أَمْرًا غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَسْتَرِيحُ الطَّامِعُ مِنَ الِانْتِظَارِ وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا بِالْإِبْقَاءِ لَهُ بوونه يَنْفَطِرُ فُؤَادُهُ أَشَدَّ انْفِطَارٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْيَأْسِ هُوَ الْإِبْلَاسُ وَلِنُبَيِّنَ حَالَ الْمُجْرِمِ وَإِبْلَاسَهُ بِمِثَالٍ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ مَثَلُهُ مَثَلُ مَنْ يَكُونُ فِي بُسْتَانٍ وَحَوَالَيْهِ الْمَلَاعِبُ وَالْمَلَاهِي، وَلَدَيْهِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ وَيُبَاهِي، فَيُخْبِرُهُ صَادِقٌ بِمَجِيءِ عَدُوٍّ لَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُ صَادٌّ، إِذَا جَاءَهُ لَا يُبْلِعُهُ رِيقًا، وَلَا يَتْرُكُ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ طَرِيقًا، فَيَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْخَلَاصِ فَيَقُولُ لَهُ طِفْلٌ أَوْ/ مَجْنُونٌ إِنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي أَنْتَ تَحْتَهَا لَهَا مِنَ الْخَوَاصِّ دَفْعُ الْأَعَادِي عَمَّنْ يَكُونُ تَحْتَهَا، فَيُقْبِلُ ذَلِكَ الْغَافِلُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مَلَاذَهُ مُعْتَمِدًا عَلَى الشَّجَرَةِ بِقَوْلِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ فَيَجِيئُهُ الْعَدُوُّ وَيُحِيطُ بِهِ، فَأَوَّلُ مَا يُرِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ قَلْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَيَبْقَى مُتَحَيِّرًا آيِسًا، مُفْتَقِرًا، فَكَذَلِكَ الْمُجْرِمُ فِي دَارِ الدُّنْيَا أَقْبَلَ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ وَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ الصَّادِقُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْزِيهِ، وَيَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إِنَّ هَذِهِ الْأَخْشَابَ الَّتِي هِيَ الْأَوْثَانُ دَافِعَةٌ عَنْكِ كُلَّ بَأْسٍ، وَشَافِعَةٌ لَكَ عِنْدَ خُمُودِ الْحَوَاسِّ، فَاشْتَغَلَ بِمَا هُوَ فِيهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى غَيِّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى فَأَوَّلُ مَا أَرَتْهُ إِلْقَاءُ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ فَلَا يَجِدُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْ طَرِيقٍ، وَيَحِقُّ عَلَيْهِ عَذَابُ الْحَرِيقِ، فَيَيْأَسُ حِينَئِذٍ أَيَّ إِيَاسٍ وَيُبْلِسُ أَشَدَّ إِبْلَاسٍ. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.(25/84)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 14]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
ثُمَّ بَيَّنَ أَمْرًا آخَرَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] فَكَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْإِبْلَاسِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلًا يُبْلَسُ ثُمَّ يُمَيَّزُ وَيُجْعَلُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَأَعَادَ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ لِأَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ أَمْرٌ هَائِلٌ فَكَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِلتَّخْوِيفِ، وَمِنْهُ اعْتَادَ الْخُطَبَاءُ تَكْرِيرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْخُطَبِ لِتَذْكِيرِ أَهْوَالِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التفرق فقال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 15]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
أَيْ فِي جَنَّةٍ يُسَرُّونَ بِكُلِّ مسرة.
[سورة الروم (30) : آية 16]
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
يَعْنِي لَا غِيبَةَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا فُتُورَ لَهُ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] وقال: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [آل عمران: 88] وَفِي الْآيَتَيْنِ مَسَائِلُ فِيهَا لَطَائِفُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَدَأَ بِذِكْرِ حَالِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذِكْرِ الْمُجْرِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُوَصَلُ إِلَيْهِ الثَّوَابُ قَبْلَ أَنْ يُوَصَلَ إِلَى الْكَافِرِ الْعِقَابُ حَتَّى يُرَى وَيُتَحَقَّقَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَصَلَ إِلَى الثَّوَابِ فَيَكُونَ أَنَكَى، وَلَوْ أُدْخِلَ الْكَافِرُ النَّارَ أَوَّلًا لَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْكُلَّ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، فَقَدَّمَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي إِيلَامِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَافِرِ الْعَمَلَ السَّيِّئَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مُعْتَبَرٌ مَعَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْمُجَرَّدَ مُفِيدٌ لِلنَّجَاةِ دُونَ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَا يَبْلُغُ الْمُؤْمِنُ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ إِلَّا بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي الدَّرَكَاتِ بِمُجَرَّدِ كُفْرِهِ فَلَوْ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ، لَكَانَ الْعَذَابُ لِمَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْمَجْمُوعُ، فَإِنْ قِيلَ فَمَنْ يُؤْمِنُ وَيَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقِسْمَيْنِ، فَنَقُولُ لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنْزِلَتَيْنِ لَا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ هُوَ فِي الْأَوَّلِ فِي الْعَذَابِ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَ الْمُحْضَرِينَ دَوَامَ الْحُضُورِ، وَفِي الْآخِرَةِ هُوَ فِي الرِّيَاضِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَحْبُورِينَ غَايَةَ الْحُبُورِ كُلُّ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْوَعْدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي الْأَوَّلِ فِي رَوْضَةٍ عَلَى التَّنْكِيرِ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ فِي الْعَذَابِ عَلَى التَّعْرِيفِ، لِتَعْظِيمِ الرَّوْضَةِ بِالتَّنْكِيرِ، كَمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ وَجَاهٌ، أَيْ كَثِيرٌ وَعَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ فِي الْأَوَّلِ: يُحْبَرُونَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ وَلَمْ يَقُلْ مَحْبُورُونَ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ:
مُحْضَرُونَ بِصِيغَةِ الِاسْمِ وَلَمْ يَقُلْ يَحْضُرُونَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ وَالِاسْمُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ:
يُحْبَرُونَ يَعْنِي يَأْتِيهِمْ كُلَّ سَاعَةٍ أَمْرٌ يُسَرُّونَ بِهِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَهُمْ إِذَا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين.
ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)(25/85)
[في قَوْلِهِ تَعَالَى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى قوله يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظَمَتَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] وَعَظَمَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ وَيَفْتَرِقُ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ، وَيَحْكُمُ عَلَى الْبَعْضِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي، أَمَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ ويحمده عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَالَ:
فَسُبْحانَ اللَّهِ أَيْ سَبِّحُوا اللَّهَ تَسْبِيحًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَفْظِهِ، أَمَّا لَفْظُهُ فَفِعْلَانِ اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّسْبِيحُ، سُمِّيَ التَّسْبِيحُ بِسُبْحَانَ وَجُعِلَ عَلَمًا لَهُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ، أَيْ صَلُّوا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ التَّنْزِيهَ، أَيْ نَزِّهُوهُ عَنْ/ صِفَاتِ النَّقْصِ وَصِفُوهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا أَقْوَى وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْأَوَّلَ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنْزِيهَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَتَنَاوَلُ التَّنْزِيهَ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ وَبِاللِّسَانِ مَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَبِالْأَرْكَانِ مَعَهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالثَّانِي ثَمَرَةُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثُ ثَمَرَةُ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَهَرَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَإِذَا قَالَ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي مَقَالِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاللِّسَانُ تَرْجُمَانُ الْجِنَانِ وَالْأَرْكَانُ بُرْهَانُ اللِّسَانِ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْأَرْكَانِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَالْقَصْدِ بِالْجَنَانِ، وَهُوَ تَنْزِيهٌ فِي التَّحْقِيقِ، فَإِذَا قَالَ نَزِّهُونِي، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّنْزِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ تَنْزِيهٌ فَيَكُونُ أَيْضًا هَذَا أَمْرًا بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَنَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمَقَامَ الْأَعْلَى وَالْجَزَاءَ الْأَوْفَى لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: 15] قَالَ: إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَالْإِيمَانُ تَنْزِيهٌ بِالْجَنَانِ وَتَوْحِيدٌ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ اسْتِعْمَالُ الْأَرْكَانِ وَالْكُلُّ تَنْزِيهَاتٌ وَتَحْمِيدَاتٌ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَيْ فَأْتُوا بِذَلِكَ الَّذِي هُوَ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحُبُورِ فِي الرِّيَاضِ، وَالْحُضُورِ عَلَى الْحِيَاضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِالْأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْمَلَائِكَةِ مُلَازِمُونَ لِلتَّسْبِيحِ عَلَى الدَّوَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] وَالْإِنْسَانُ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْرِفَ جَمِيعَ أَوْقَاتِهِ إِلَى التَّسْبِيحِ، لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَتَحْصِيلِ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ فَأَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَوْقَاتٍ إِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ فِيهَا يَكُونُ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْتُرْ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْوَسَطُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ وَوَسَطُهُ فَأَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَوَسَطِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّسْبِيحِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّوْمَ فِيهِ غَالِبٌ وَاللَّهُ مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالِاسْتِرَاحَةِ بِالنَّوْمِ، كَمَا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الرُّومِ: 23] فَإِذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ النَّهَارِ تَسْبِيحَتَيْنِ وَهُمَا رَكْعَتَانِ حُسِبَ لَهُ صَرْفُ سَاعَتَيْنِ إِلَى التَّسْبِيحِ، ثُمَّ إِذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقْتَ الظُّهْرِ حُسِبَ لَهُ صَرْفُ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ أُخَرَ فَصَارَتْ سِتَّ سَاعَاتٍ، وَإِذَا صَلَّى أَرْبَعًا فِي أَوَاخِرِ النَّهَارِ وَهُوَ الْعَصْرُ حُسِبَ لَهُ أَرْبَعٌ أُخْرَى فَصَارَتْ عَشْرَ سَاعَاتٍ، فَإِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ سَبْعَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ حَصَلَ لَهُ صَرْفُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَاعَةً إِلَى التَّسْبِيحِ وَبَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَبْعُ سَاعَاتٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَثُلُثَيْهِ لِأَنَّ ثُلُثَيْهِ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَنِصْفَهُ سِتُّ سَاعَاتٍ وَمَا بَيْنَهُمَا السَّبْعُ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَوْ نَامَ الْإِنْسَانُ فِيهِ(25/86)
لَكَانَ كَثِيرًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [الْمُزَّمِّلِ:
2- 4] وَزِيَادَةُ الْقَلِيلِ عَلَى النِّصْفِ هِيَ سَاعَةٌ فَيَصِيرُ سَبْعَ سَاعَاتٍ مَصْرُوفَةً إِلَى النَّوْمِ وَالنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي صَرَفَ جَمِيعَ أَوْقَاتِ تَكْلِيفِهِ فِي تَسْبِيحِي فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ عليهم المزية التي ادعيتم بقولكم: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] عَلَى سَبِيلِ الِانْحِصَارِ بَلْ هُمْ مِثْلُكُمْ/ فَمَقَامُهُمْ مِثْلُ مَقَامِكُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي وَضْعِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا وَاخْتِلَافِ هَيْئَاتِهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، أَمَّا فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ يَقْظَانَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ سَاعَةً فَفَرَضَ عَلَيْهِ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، فَنَقُولُ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّلَ نَوْمَهُ فَلَا يَنَامُ إِلَّا ثُلُثَ اللَّيْلِ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَامَ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ مُسْتَحْسَنٌ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ بِاسْتِحْبَابٍ وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [الْمُزَّمِّلِ: 20] ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّوْبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ يَقْظَانَ فِي عِشْرِينَ سَاعَةً فَأُمِرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَأَمَّا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَنَامَ أَصْلًا كَمَا
قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»
جُعِلَ لَهُ كُلُّ اللَّيْلِ كَالنَّهَارِ فَزِيدَ لَهُ التَّهَجُّدُ فَأُمِرَ بِهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الْإِنْسَانِ: 26] أَيْ كُلُّ اللَّيْلِ لَكَ لِلتَّسْبِيحِ فَصَارَ هُوَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً مُسَبِّحًا، فَصَارَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَفْتُرُونَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَمَّا فِي أَوْقَاتِهِ فَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ وَالْوَسَطَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَشَرَعَ التَّسْبِيحَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَاعْتَبَرَ أَوَّلَهَ وَوَسَطَهُ كَمَا اعْتَبَرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَوَسَطَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظُّهْرَ وَقْتُهُ نِصْفُ النَّهَارِ وَالْعِشَاءَ وَقْتُهُ نِصْفُ اللَّيْلِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّيْلَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهِ يَقْظَانَ وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِ سَاعَاتٍ فَجُعِلَ وَقْتُهُ فِي نِصْفِ هَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا رَأَى وُجُوبَ الْوِتْرِ كَانَ زَمَانُ النَّوْمِ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ وَزَمَانُ الْيَقَظَةِ بِاللَّيْلِ ثَمَانِ سَاعَاتٍ وَأَخَّرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى الرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ، لِيَكُونَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الْمُعْتَبَرِ، كَمَا أَنَّ الظُّهْرَ فِي وسط النهار، وأما النبي لَمَّا كَانَ لَيْلُهُ نَهَارًا وَنَوْمُهُ انْتِبَاهًا
قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ وَتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ»
لِيَكُونَ الْأَرْبَعُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الْأَرْبَعَ فِي نِصْفِ النَّهَارِ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَالَّذِي يَتَبَيَّنُ لِي أَنَّ النَّهَارَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً زَمَانِيَّةً وَالصَّلَاةُ الْمُؤَدَّاةُ فِيهَا عَشْرُ رَكَعَاتٍ فَيَبْقَى عَلَى الْمُكَلَّفِ رَكْعَتَانِ يُؤَدِّيهِمَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَيُؤَدِّي رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ اللَّيْلِ بِالتَّسْبِيحِ كَمَا كَانَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ بِالتَّسْبِيحِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ تَسْبِيحِ النَّهَارِ فِي أَوَّلِهِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ تَسْبِيحِ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِهِ رَكْعَةً لِأَنَّ سَبْحَ النَّهَارِ طَوِيلٌ مِثْلُ ضِعْفِ سَبْحِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الْمُؤَدَّى فِي النَّهَارِ عَشَرَةٌ وَالْمُؤَدَّى فِي اللَّيْلِ مِنْ تَسْبِيحِ اللَّيْلِ خَمْسٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي فَضِيلَةِ السَّبْحَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، وَلْنَذْكُرْهَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا النَّقْلُ
فَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ الْوَرِعُ الْحَافِظُ الْأُسْتَاذُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُلْوَانَ بِحَلَبَ مُسْنَدًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «أَتَعْجِزُ عَنْ أَنْ تَأْتِيَ وَقْتَ النَّوْمِ بِأَلْفِ حَسَنَةٍ؟ فَتَوَقَّفَ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِائَةَ مَرَّةٍ يُكْتَبُ لَكَ بِهَا أَلْفُ حَسَنَةٍ»
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْنَدًا «مَنْ قَالَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَعَشْرَ/ مَرَّاتٍ اللَّهُ أَكْبَرُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ»
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لَا مِنْ فِعْلِهِ وَصِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ صِفَاتُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ خِلَافُهَا نقص، فإذا(25/87)
أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْجَهْلِ وَوَصَفَهُ بِضِدِّهِ، وَإِذَا عَرَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَقَدْ نَزَّهَهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ لِكَوْنِهِ مُرِيدًا لِكُلِّ كَائِنٍ فَقَدْ وَصَفَهُ وَنَزَّهَهُ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْبَقَاءِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا بَانَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَسْبِقُهُ الْعَدَمُ لِاتِّصَافِهِ بِالْقِدَمِ فَقَدْ نَزَّهَهُ، وَإِذَا لَاحَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يكون عرضا أو جسما أو فِي مَكَانٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بَرِيئًا عَنْ جِهَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ نَزَّهَهُ. لَكِنَّ صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةَ وَالْإِضَافِيَّةَ لَا يَعُدُّهَا عَادٌّ وَلَوِ اشْتَغَلَ بِهَا وَاحِدٌ لَأَفْنَى فِيهَا عُمُرَهُ وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا. فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مُسْتَحْضِرًا بِقَلْبِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مُتَنَبِّهًا لِمَا يَقُولُهُ مِنْ كَوْنِهِ مُنَزِّهًا لَهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فَإِتْيَانُهُ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مَقَامَ إِتْيَانِهِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، لَكِنْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ مَنْ أَتَى بِالتَّسْبِيحِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ يَكُونُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا تَفِي بِهِ الْأَعْمَارُ، فَيَقُولُ هَذَا الْعَبْدُ أَتَى بِتَسْبِيحِي طُولَ عُمُرِهِ وَمُدَّةَ بَقَائِهِ فَأُجَازِيهِ بِأَنْ أُطَهِّرَهُ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَأُزَيِّنَهُ بِخُلَعِ الْكَرَامَةِ وَأُنْزِلَهُ بِدَارِ الْمُقَامَةِ مُدَّةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا، وَكَمَا أَنَّ الْعَبْدَ يُنَزِّهُ اللَّهَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ وَوَسَطِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَهِّرُهُ فِي أَوَّلِهِ وَهُوَ دُنْيَاهُ وَفِي آخِرِهِ وَهُوَ عُقْبَاهُ وَفِي وَسَطِهِ وَهُوَ حَالَةُ كَوْنِهِ فِي قَبْرِهِ الَّذِي يَحْوِيهِ إِلَى أَوَانِ حَشْرِهِ وَهُوَ مَغْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهُوَ صِفَاتُ الْفِعْلِ فَالْإِنْسَانُ إِذَا نَظَرَ إِلَى خلق الله السموات يَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَإِذَا رَأَى الشَّمْسَ فِيهَا بَازِغَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ وَكُلُّ كَوْكَبٍ وَالْأَرْضُ وَكُلُّ نَبَاتٍ وَكُلُّ حَيَوَانٍ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَفِي عُمُرُهُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ النِّعَمَ الَّتِي لَا تُعَدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] وَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا الْحَمْدُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ يَقُومُ مِنْهُ مَقَامَ الْحَمْدِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَيَقُولُ عَبْدِي اسْتَغْرَقَ عُمُرَهُ فِي حَمْدِي وَأَنَا وَعَدْتُ الشَّاكِرَ بِالزِّيَادَةِ فَلَهُ عَلَى حَسَنَةِ التَّسْبِيحِ الْحُسْنَى وَلَهُ عَلَى حَمْدِهِ الزِّيَادَةُ ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَدْ يَدْعُوهُ عَقْلُهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي عَقْلِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ مِمَّا أُدْرِكُهُ، لِأَنَّ الْمُدْرَكَاتِ وَجِهَاتِ الْإِدْرَاكَاتِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الَّذِي أَدْرَكْتُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَكْبَرُ مِمَّا أَدْرَكْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَفْنَى عُمُرُهُ وَلَا يَفِي بِإِدْرَاكِ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلَّهِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَإِذَا قَالَ مَعَ نَفْسِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا أَتَصَوَّرُهُ بِقُوَّةِ عَقْلِي وَطَاقَةِ إِدْرَاكِي يَكُونُ مُتَوَغِّلًا فِي الْعِرْفَانِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:
الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ
فَقَوْلُ الْقَائِلِ الْمُسْتَيْقِظِ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» مُفِيدٌ لِهَذِهِ الْفَوَائِدِ، لَكِنَّ شَرْطَهُ/ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَبَرًا وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ لَا الَّذِي يَكُونُ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَعَشِيًّا عَطْفٌ عَلَى حِينَ أَيْ سَبِّحُوهُ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا، وَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعِبَادَ بِالتَّسْبِيحِ كَأَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ تَسْبِيحَهُمُ اللَّهَ لِنَفْعِهِمْ لَا لِنَفْعٍ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ إِذَا سَبَّحُوهُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] .(25/88)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
المسألة الخامسة: قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وَأَخَّرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْأَحْزَابِ:
42] وذلك لأن هاهنا أَوَّلَ الْكَلَامِ ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 11- 16] وَآخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَالْإِمْسَاءُ آخِرٌ فَذَكَرَ الْآخِرَ لِيَذْكُرَ الْآخِرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَعَلُّقِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ عِنْدَ الْإِصْبَاحِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ شِبْهِ الْمَوْتِ وَهُوَ النَّوْمُ إِلَى شِبْهِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْيَقَظَةُ،. وَعِنْدَ الْعِشَاءِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْيَقَظَةِ إِلَى النَّوْمِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يُخْرِجُ الدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ مِنَ النُّطْفَةِ وَالنُّطْفَةُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أَيِ الْيَقْظَانَ مِنَ النَّائِمِ وَالنَّائِمَ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَهَذَا يَكُونُ قَدْ ذَكَرَهُ لِلتَّمْثِيلِ أَيْ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ عِنْدَهُ وَإِمَاتَةُ الْحَيِّ كَتَنْبِيهِ النَّائِمِ وَتَنْوِيمِ الْمُنْتَبِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَفِي هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَوْتِ تَبْطُلُ حَيَوَانِيَّتُهُ وَأَمَّا نَفْسُهُ النَّاطِقَةُ فَتُفَارِقُهُ وَتَبْقَى بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آلِ عِمْرَانَ: 169] لَكِنَّ الْحَيَوَانَ نَامٍ مُتَحَرِّكٌ حَسَّاسٌ لَكِنَّ النَّائِمَ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَحُسُّ وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ لَا يَكُونُ فِيهَا نَمَاءٌ، ثُمَّ إِنَّ النَّائِمَ بِالِانْتِبَاهِ يَتَحَرَّكُ وَيَحُسُّ وَالْأَرْضُ الْمَيْتَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا تَنْمُو بِنَبَاتِهَا فَكَمَا أَنَّ تَحْرِيكَ ذَلِكَ السَّاكِنِ وَإِنْمَاءَ هَذَا الْوَاقِفِ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ سَهْلٌ عَلَيْهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 20]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ عَنِ الْأَسْوَاءِ وَذَكَرَ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ عَلَى خَلْقِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ بِقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ اللَّهِ إِلَى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 16- 20] ذَكَرَ مَا هُوَ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَآيَةٌ/ بَاهِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ التُّرَابَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ دَرَجَةِ الْأَحْيَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّتُهُ فَإِنَّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالْحَيَاةُ بِالْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَمِنْ حَيْثُ لَوْنُهُ فَإِنَّهُ كَدِرٌ وَالرُّوحُ نَيْرٌ، وَمِنْ حَيْثُ فِعْلُهُ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ وَالْأَرْوَاحُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ خَفِيفَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ السُّكُونُ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوَانُ يَتَحَرَّكُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً وَإِلَى خَلْفٍ وَإِلَى قُدَّامٍ وَإِلَى فَوْقٍ وَإِلَى أَسْفَلَ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَالتُّرَابُ أَبْعَدُ مِنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ عَنْ سَائِرِ الْأَجْسَامِ لِأَنَّ الْعَنَاصِرَ أَبْعَدُ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ لِأَنَّ الْمُرَكَّبَ بِالتَّرْكِيبِ أَقْرَبُ دَرَجَةً مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعَنَاصِرُ أَبْعَدُهَا التُّرَابُ لِأَنَّ الْمَاءَ فِيهِ الصَّفَاءُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْحَرَكَةُ وَكُلُّهَا عَلَى طَبْعِ الْأَرْوَاحِ وَالنَّارِ أَقْرَبُ لِأَنَّهَا كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مُنْضَجَةٌ جَامِعَةٌ مُفَرَّقَةٌ ثُمَّ الْمُرَكَّبَاتُ وَأَوَّلُ مَرَاتِبِهَا الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ مُمْتَزِجٌ، وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا الذَّهَبُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّبَاتِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ النَّبَاتِ الَّذِي يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَبْرُزُ وَلَا يَرْتَفِعُ، ثُمَّ النَّبَاتَاتُ وَأَعْلَى مَرَاتِبِهَا وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْأَشْجَارِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّعْظِيمَ، وَيَكُونُ لِثَمَرِهَا حَبٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ كَالْبَيْضَةِ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَالدَّجَاجَةُ مِنَ الْبَيْضَةِ قَرِيبَةٌ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا دَمٌ سَائِلٌ وَلَا هِيَ إِلَى الْمَنَافِعِ الْجَلِيلَةِ وَسَائِلُ كَالنَّبَاتَاتِ، ثُمَّ الْحَيَوَانُ وَأَعْلَى مَرَاتِبِهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ وَلَا سيما الفرس(25/89)
تُشْبِهُ الْعَتَّالَ وَالْحَمَّالَ وَالسَّاعِيَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُسَبِّحِينَ لِلَّهِ الْحَامِدِينَ لَهُ فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَحْيَاءِ حَيًّا هُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُنَزَّهًا عَنِ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ، وَيَكُونُ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى إِنْعَامِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ لَهُ كَمَالُ الْقُدْرَةِ وَنُفُوذُ الْإِرَادَةِ فَيَجُوزُ مِنْهُ الْإِبْدَاءُ وَالْإِعَادَةُ، وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: إِذا وَهِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ يُقَالُ خَرَجْتُ فَإِذَا أَسَدٌ بِالْبَابِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ بِكُنْ فَكَانَ لَا أَنَّهُ صَارَ مَعْدِنًا ثُمَّ نَبَاتًا ثُمَّ حَيَوَانًا ثُمَّ إِنْسَانًا وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ أولا إنسانا فينبهه أنه يحيي حَيَوَانًا وَنَامِيًا وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ خُلِقَ أَوَّلًا حَيَوَانًا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ إِنْسَانًا فَخَلْقُ الْأَنْوَاعِ هُوَ الْمُرَادُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ تَكُونُ الْأَنْوَاعُ فِيهَا الْأَجْنَاسُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ الْأُولَى، فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرْتَبَةَ الْأَخِيرَةَ فِي الشَّيْءِ الْبَعِيدِ عَنْهَا غَايَةً مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَشَرٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِأَنَّ الْبَشَرَ بَشَرٌ لَا بِحَرَكَتِهِ، فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: تَنْتَشِرُونَ إِلَى الْقُوَّةِ الْمُحَرِّكَةِ وَكِلَاهُمَا مِنَ التُّرَابِ عَجِيبٌ، أَمَّا الْإِدْرَاكُ فَلِكَثَافَتِهِ وَجُمُودِهِ، وَأَمَّا الْحَرَكَةُ فَلِثِقَلِهِ وَخُمُودِهِ وَقَوْلُهُ: تَنْتَشِرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَجِيبَةَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنَ التُّرَابِ بَلْ خَلْقُ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَشِرِ مِنَ التُّرَابِ السَّاكِنِ عَجِيبٌ فَضْلًا عَنْ خَلْقِ الْبَشَرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَخَلَقَنَا مِنْهُ فَكَيْفَ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: إِنَّ كُلَّ بَشَرٍ مَخْلُوقٍ مِنَ التُّرَابِ، أَمَّا آدَمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلِأَنَّا خُلِقْنَا مِنْ/ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةُ مِنْ صَالِحِ الْغِذَاءِ الَّذِي هُوَ بِالْقُوَّةِ بَعْضٌ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْغِذَاءُ إِمَّا مِنْ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَلْبَانِهَا وَأَسْمَانِهَا، وَإِمَّا مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانُ أَيْضًا لَهُ غِذَاءٌ هُوَ النَّبَاتُ لَكِنِ النَّبَاتُ مِنَ التُّرَابِ، فَإِنَّ الْحَبَّةَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالنَّوَاةُ مِنَ الثَّمَرَةِ لَا تَصِيرُ شَجَرَةً إِلَّا بِالتُّرَابِ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهَا أَجْزَاءٌ مَائِيَّةٌ لِيَصِيرَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بِحَيْثُ يَغْذُو.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الْفُرْقَانِ: 2] وَقَالَ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] وَهَاهُنَا قَالَ: مِنْ تُرابٍ فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ قُلْنَا أَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ: فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي: فَنَقُولُ هَاهُنَا قَالَ مَا هُوَ أَصْلٌ أَوَّلٌ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ مَا هُوَ أَصْلٌ ثَانٍ لِأَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ الَّذِي صَارَ غِذَاءً يَصِيرُ مَائِعًا وَهُوَ الْمَنِيُّ، ثُمَّ يَنْعَقِدُ وَيَتَكَوَّنُ بِخَلْقِ اللَّهِ مِنْهُ إِنْسَانًا أَوْ نَقُولُ الْإِنْسَانُ لَهُ أَصْلَانِ ظَاهِرَانِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ فَإِنَّ التُّرَابَ لَا يُنْبِتُ إِلَّا بِالْمَاءِ فَفِي النَّبَاتِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ غِذَاءِ الْإِنْسَانِ تُرَابٌ وَمَاءٌ فَإِنْ جُعِلَ التُّرَابُ أَصْلًا وَالْمَاءُ لِجَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَتِّتَةِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنْ جُعِلَ الْأَصْلُ هُوَ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ لِتَثْبِيتِ أَجْزَائِهِ الرَّطْبَةِ مِنَ السَّيَلَانِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ مَاذَا هُوَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ عِنْدَنَا مُشْتَبَهٌ يَجُوزُ هَذَا وَذَاكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ التُّرَابُ فَكَيْفَ قَالَ: مِنَ الْماءِ بَشَراً وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فَكَيْفَ قَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وَإِنْ كَانَا هُمَا أَصْلَيْنِ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ خَلَقُكُمْ مِنْهُمَا فَنَقُولُ فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ كَوْنَ التُّرَابِ أَصْلًا وَالْمَاءِ أَصْلًا وَالْمَاءُ لَيْسَ لِذَاتَيْهِمَا، وَإِنَّمَا هو يجعل اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْلُقَ أَوَّلَ مَا يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ ثُمَّ يُفْنِيهِ وَيَحْصُلُ مِنْهُ التُّرَابُ ثُمَّ يُذَوِّبُهُ وَيَحْصُلُ مِنْهُ الْمَاءُ، لَكِنِ الْحِكْمَةُ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ النَّاقِصُ وَسِيلَةً إِلَى الْكَامِلِ لَا الْكَامِلُ يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى النَّاقِصِ فَخَلَقَ التُّرَابَ وَالْمَاءَ أَوَّلًا، وَجَعَلَهُمَا أَصْلَيْنِ لِمَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُمَا بَلْ لِلَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، فَإِنْ كَانَ كَوْنُهُمَا أَصْلَيْنِ ليس(25/90)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
أَمْرًا ذَاتِيًّا لَهُمَا بَلْ بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَتَارَةً جَعَلَ الْأَصْلَ التُّرَابَ وَتَارَةً الْمَاءَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ هَذَا أَصْلًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمَا أَصْلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَقَالُوا التُّرَابُ فِيهِ لِثَبَاتِهِ، وَالْمَاءُ لِاسْتِمْسَاكِهِ، فَإِنَّ التُّرَابَ يَتَفَتَّتُ بِسُرْعَةٍ، وَالْهَوَاءُ لِاسْتِقْلَالِهِ كَالزِّقِّ الْمَنْفُوخِ يَقُومُ بِالْهَوَاءِ وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ فِيهِ اسْتِقْلَالٌ وَلَا انْتِصَابٌ، وَالنَّارُ لِلنُّضْجِ وَالِالْتِئَامِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَكَيْفَ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ فَحَسْبُ وَلَمْ يَقُلْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَارٍ وَلَا مِنْ رِيحٍ؟
فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُمْ فَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ إِلَّا إِذَا قَالُوا بِأَنَّهُ بِالطَّبِيعَةِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قَالُوا بِأَنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا نُنَازِعُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ فَنَقُولُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُخَالِفُ هَذَا لِأَنَّ الْهَوَاءَ جَعَلْتُمُوهُ لِلِاسْتِقْلَالِ وَالنَّارَ لِلنُّضْجِ فَهُمَا يَكُونَانِ بَعْدَ امْتِزَاجِ الْمَاءِ بِالتُّرَابِ، فَالْأَصْلُ الْمَوْجُودُ أُولَاهُمَا لَا غَيْرَ/ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا وَلِأَنَّ الْمَحْسُوسَ مِنَ الْعَنَاصِرِ فِي الْغَالِبِ هُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَلَا سِيَّمَا كَوْنُهُمَا فِي الْإِنْسَانِ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَخَصَّ الظاهر المحسوس بالذكر. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 21]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَبْقَى وَتَدُومُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً أَبْقَى نَوْعَهُ بِالْأَشْخَاصِ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَتَوَالَدُ، فَإِذَا مَاتَ الْأَبُ يَقُومُ الِابْنُ مَقَامَهُ لِئَلَّا يُوجِبَ فَقْدُ الْوَاحِدِ ثُلْمَةً فِي الْعِمَارَةِ لَا تَنْسَدُّ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ كَخَلْقِ الدَّوَابِّ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 29] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِلْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ فَنَقُولُ خَلْقُ النِّسَاءِ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْنَا وَخَلْقُهُنَّ لَنَا وَتَكْلِيفُهُنَّ لِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْنَا لَا لِتَوْجِيهِ التَّكْلِيفِ نَحْوَهُنَّ مِثْلُ تَوْجِيهِهِ إِلَيْنَا وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَالْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّقْلُ فَهَذَا وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُكَلَّفْ بِتَكَالِيفٍ كَثِيرَةٍ كَمَا كُلِّفَ الرَّجُلُ بِهَا، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ ضَعِيفَةُ الْخَلْقِ سَخِيفَةٌ فَشَابَهَتِ الصَّبِيَّ لَكِنَّ الصَّبِيَّ، لَمْ يُكَلَّفْ فَكَانَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا تُؤَهَّلَ الْمَرْأَةُ لِلتَّكْلِيفِ، لَكِنَّ النِّعْمَةَ عَلَيْنَا مَا كَانَتْ تَتِمُّ إِلَّا بِتَكْلِيفِهِنَّ لِتَخَافَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْعَذَابَ فَتَنْقَادُ لِلزَّوْجِ وَتَمْتَنِعُ عَنِ الْمُحَرَّمِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَظَهَرَ الْفَسَادُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ بَعْضُهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جِسْمِ آدَمَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يَعْنِي أَنَّ الْجِنْسَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ لَا يَسْكُنُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ أَيْ لَا تَثْبُتُ نَفْسُهُ مَعَهُ وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُقَالُ سَكَنَ إِلَيْهِ لِلسُّكُونِ الْقَلْبِيِّ وَيُقَالُ سَكَنَ عِنْدَهُ لِلسُّكُونِ الْجُسْمَانِيِّ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ جَاءَتْ لِظَرْفِ الْمَكَانِ وَذَلِكَ لِلْأَجْسَامِ وَإِلَى لِلْغَايَةِ وَهِيَ لِلْقُلُوبِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فِيهِ أَقْوَالٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَوَدَّةٌ بِالْمُجَامَعَةِ وَرَحْمَةٌ(25/91)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
بالولد تمسكا بقوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مَرْيَمَ: 2] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَحَبَّةً حَالَةَ حَاجَةِ نَفْسِهِ، وَرَحْمَةً حَالَةَ حَاجَةِ صَاحِبِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَثَلًا وَلَدَهُ، فَإِذَا رَأَى عَدُوَّهُ فِي شِدَّةِ مِنْ جُوعٍ وَأَلَمٍ قَدْ يَأْخُذُ مِنْ وَلَدِهِ وَيُصْلِحُ بِهِ حَالَ ذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ لِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِسَبَبِ/ الرَّحْمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الزَّوْجُ مِنْ جِنْسِهِ وَالثَّانِي: مَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْجِنْسِيَّةُ وَهُوَ السُّكُونُ إِلَيْهِ فَالْجِنْسِيَّةُ تُوجِبُ السُّكُونَ وَذَكَرَ هَاهُنَا أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: يُفْضِي إِلَى الْآخَرِ فَالْمَوَدَّةُ تَكُونُ أَوَّلًا ثُمَّ إِنَّهَا تُفْضِي إِلَى الرَّحْمَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَيَبْقَى قِيَامُ الزَّوْجِ بِهَا وَبِالْعَكْسِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِنَّ فِي خَلْقِ الْأَزْوَاجِ لَآيَاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي جَعْلِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ آيَاتٌ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِكْرٍ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنُفُوذِ الْإِرَادَةِ وَشُمُولِ الْعِلْمِ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ وَلَوْ فِي خُرُوجِ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، فَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَأَفْضَى إِلَى هَلَاكِ الْأُمِّ وَهَلَاكِ الْوَلَدِ أَيْضًا لَأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ سُلَّ مِنْ مَوْضِعٍ ضَيِّقٍ بِغَيْرِ إِعَانَةِ اللَّهِ لَمَاتَ وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ بَيْنَ الْقَرِينَيْنِ مِنَ التَّرَاحُمِ مَا لَا يَجِدُهُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَنْتَفِي وَتَبْقَى الرَّحْمَةُ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلشَّهْوَةِ وَالشَّهْوَةُ غَيْرُ دَائِمَةٍ فِي نَفْسِهَا لَكَانَ كُلَّ سَاعَةٍ بَيْنَهُمَا فِرَاقٌ وَطَلَاقٌ فَالرَّحْمَةُ الَّتِي بِهَا يَدْفَعُ الْإِنْسَانُ الْمَكَارِهَ عَنْ حَرِيمِ حَرَمِهِ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولا يعلم ذلك إلا بفكر. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 22]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَأَظْهَرُهَا خلق السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ يَقُولُ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِنَّهُ بِسَبَبِ مَا في العناصر من الكيفيات وما في السموات مِنَ الْحَرَكَاتِ وَمَا فِيهَا مِنْ الِاتِّصَالَاتِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَمْ تَكُنْ لِامْتِزَاجِ الْعَنَاصِرِ وَاتِّصَالَاتِ الْكَوَاكِبِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ثُمَّ لَمَّا أَشَارَ إِلَى دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ذَكَرَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْفُسِ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيْنَ أَلْوَانِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَصِغَرِ حَجْمِ خُدُودِهِمْ وَقُدُودِهِمْ لَا يشتبه بغيره والسموات مَعَ كِبَرِهَا وَقِلَّةِ عَدَدِهَا مُشْتَبِهَاتٌ فِي الصُّورَةِ وَالثَّانِي: اخْتِلَافُ كَلَامِهِمْ فَإِنَّ عَرَبِيَّيْنِ هُمَا أَخَوَانِ إِذَا تَكَلَّمَا بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ يُعْرَفُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَحْجُوبًا عَنْهُمَا لَا يُبْصِرُهُمَا يَقُولُ هَذَا صَوْتُ فُلَانٍ وَهَذَا صَوْتُ فُلَانٍ الْآخَرِ وَفِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ لِيَعْرِفَ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ وَالْعَدُوَّ مِنَ الصَّدِيقِ لِيَحْتَرِزَ قَبْلَ وُصُولِ الْعَدُوِّ إِلَيْهِ، وَلِيُقْبِلَ عَلَى الصَّدِيقِ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْبَصَرِ فَخَلَقَ/ اخْتِلَافَ الصُّوَرِ وَقَدْ يَكُونُ بِالسَّمْعِ فَخَلَقَ اخْتِلَافَ الْأَصْوَاتِ، وَأَمَّا اللَّمْسُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً فِي مَعْرِفَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ فَلَا يَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ اخْتِلَافُ اللُّغَةِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لَمَّا كَانَ خَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ لَمْ يَحْتَمِلِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةَ الَّتِي يَقُولُهَا أَصْحَابُ الطَّبَائِعِ وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ كَذَلِكَ وَاخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ كذلك قال: لِلْعالِمِينَ لعموم العلم بذلك.(25/92)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 23]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
لما ذكر بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذِكْرِ الْأَعْرَاضِ الْمُفَارِقَةِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا النَّوْمُ بِاللَّيْلِ وَالْحَرَكَةُ طَلَبًا لِلرِّزْقِ بِالنَّهَارِ، فَذَكَرَ مِنَ اللَّوَازِمِ أَمْرَيْنِ، وَمِنَ الْمُفَارَقَةِ أَمْرَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ قِيلَ أَرَادَ بِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّوْمَ بِالنَّهَارِ وَهِيَ الْقَيْلُولَةُ: ثُمَّ قَالَ: وَابْتِغاؤُكُمْ أَيْ فِيهِمَا فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِاللَّيْلِ، وَقِيلَ أَرَادَ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِالنَّهَارِ فَلَفَّ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا [الْإِسْرَاءِ: 12] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النَّبَأِ: 10، 11] وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا:
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخَّرَ الِابْتِغَاءَ وقرته فِي اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرَى الرِّزْقَ مِنْ كَسْبِهِ وَبِحِذْقِهِ، بَلْ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ، وَلِهَذَا قَرَنَ الِابْتِغَاءَ بِالْفَضْلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [النَّحْلِ: 14] المسألة الثانية: قدم المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر، لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يتعب إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَقَالَ: لِلْعالِمِينَ فَنَقُولُ الْمَنَامُ بِاللَّيْلِ وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِهِ يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَوِ الْغَافِلُ أَنَّهُمَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ طَبْعُ الْحَيَوَانِ فَلَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ كَوْنُهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ فَلَمْ يَقُلْ آيَاتٌ لِلْعَالَمِينَ وَلِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ وَالْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِمَا لَا يَدُومُ لِزَوَالِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَا كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ، فَإِنَّهُمَا يَدُومَانِ بِدَوَامِ الْإِنْسَانِ/ فَجَعَلَهُمَا آيَاتٍ عَامَّةً، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ، وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِكْرَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَخْرُجُ بِالْفِكْرِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى مَوْقِفٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ وَمُرْشِدٍ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَيُفْهِمُهُ إِذَا سَمِعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمُرْشِدِ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي تَفَهُّمِهِ إِلَى أَمْثِلَةٍ حِسِّيَّةٍ كَالْأَشْكَالِ الْهَنْدَسِيَّةِ لَكِنَّ خَلْقَ الْأَزْوَاجِ لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّهُ بِالطَّبْعِ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِدَ الْفِكْرِ خَامِدَ الذِّكْرِ، فَإِذَا تَفَكَّرَ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ الْخَلْقِ آيَةً، وَأَمَّا الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ فَقَدْ يَقَعُ لِكَثِيرٍ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مُرْشِدٍ بِغَيْرِ فِكْرَةٍ، فَقَالَ: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَيَجْعَلُونَ بالهم إلى كلام المرشد. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 24]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
لَمَّا ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ اللَّازِمَةِ وَالْمُفَارِقَةِ ذَكَرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ، وَقَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ وَفِي الْآيَةِ مسائل:
إحداها: لَمَّا قَدَّمَ دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ هَاهُنَا قَدَّمَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْأَنْفُسِ وَأَخَّرَ الْعَرَضِيَّاتِ الَّتِي لِلْآفَاقِ كَمَا(25/93)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
أَخَّرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، بِقَوْلِهِ: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 22] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ لَوَازِمَ الْأَنْفُسِ عَلَى الْعَوَارِضِ الْمُفَارِقَةِ حَيْثُ ذَكَرَ أَوَّلًا اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَالْأَلْوَانِ ثُمَّ الْمَنَامَ وَالِابْتِغَاءَ، وَقَدَّمَ فِي الْآفَاقِ الْعَوَارِضَ الْمُفَارِقَةَ عَلَى اللَّوَازِمِ حَيْثُ قَالَ: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَغَيِّرُ الْحَالِ وَالْعَوَارِضُ لَهُ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَأَمَّا اللَّوَازِمُ فيه فقريبة. وأما السموات وَالْأَرْضُ فَقَلِيلَةُ التَّغَيُّرِ فَالْعَوَارِضُ فِيهَا أَغْرَبُ مِنَ اللَّوَازِمِ، فَقَدَّمَ مَا هُوَ أَعْجَبُ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي كَوْنِهِ آيَةً وَنَزِيدُهُ بَيَانًا فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَلَهُ صَوْتٌ يُعْرَفُ بِهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَهُ لَوْنٌ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ فِي الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ آيَةٌ عَجِيبَةٌ، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ثَابِتَانِ لَا يَتَغَيَّرَانِ، ثُمَّ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَمْطَارٌ هَاطِلَةٌ وَبُرُوقٌ هَائِلَةٌ، وَالسَّمَاءُ كَمَا كَانَتْ وَالْأَرْضُ كَذَلِكَ، فَهُوَ آيَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ يُدِيمُ أَمْرًا مَعَ تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ وَيُزِيلُ أَمْرًا مَعَ ثَبَاتِ الْمَحَلِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَمَا قَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ قَدَّمَ مَا هُوَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الْبَرْقُ وَالْمَطَرُ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْإِنْبَاتُ وَالْإِحْيَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: كَمَا أَنَّ فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْبَاتِ الشَّجَرِ مَنَافِعَ، كَذَلِكَ فِي تَقَدُّمِ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ عَلَى الْمَطَرِ مَنْفَعَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَرْقَ إِذَا لَاحَ، فَالَّذِي لَا يَكُونُ تَحْتَ كن يخاف الابتلال/ فيستعدله، وَالَّذِي لَهُ صِهْرِيجٌ أَوْ مَصْنَعٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ أَوْ زَرْعٌ يُسَوِّي مَجَارِيَ الْمَاءِ، وَأَيْضًا الْعَرَبُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي فَلَا يَعْلَمُونَ الْبِلَادَ الْمُعْشِبَةَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوُا الْبُرُوقَ اللَّائِحَةَ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَوَائِدَ الْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمُقِيمِينَ بِالْبِلَادِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِلْبَادِينَ وَلِهَذَا جَعَلَ تَقْدِيمَ الْبَرْقِ عَلَى تَنْزِيلِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ نِعْمَةً، وَآيَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُ آيَةً فَظَاهِرٌ فَإِنَّ فِي السَّحَابِ لَيْسَ إِلَّا مَاءً وَهَوَاءً وَخُرُوجُ النَّارِ مِنْهَا بِحَيْثُ تَحْرِقُ الْجِبَالَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ هُوَ اللَّهُ، قَالَتِ الْفَلَاسِفَةُ السَّحَابُ فِيهِ كَثَافَةٌ وَلَطَافَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ. فَالْهَوَاءُ أَلْطَفُ مِنْهُ وَالْمَاءُ أَكْثَفُ فَإِذَا هَبَّتْ رِيحٌ قَوِيَّةٌ تَخْرِقُ السَّحَابَ بِعُنْفٍ فَيَحْدُثُ صَوْتُ الرَّعْدِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ النَّارُ كَمِسَاسِ جِسْمٍ جِسْمًا بِعُنْفٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّارَ تَخْرُجُ مِنْ وُقُوعِ الْحَجَرِ عَلَى الْحَدِيدِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْحَجَرُ وَالْحَدِيدُ جِسْمَانِ صَلْبَانِ وَالسَّحَابُ وَالرِّيحُ جِسْمَانِ رَطْبَانِ، فَيَقُولُونَ لَكِنْ حَرَكَةُ يَدِ الْإِنْسَانِ ضَعِيفَةٌ وَحَرَكَةُ الرِّيحِ قَوِيَّةٌ تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ، فَنَقُولُ لَهُمُ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ أَمْرَانِ حَادِثَانِ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ سَبَبٍ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْبُرْهَانِ كَوْنُ كُلِّ حَادِثٍ مِنَ اللَّهِ فَهُمَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُونَ فَهُبُوبُ تِلْكَ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الأمور الحادثة العجيبة لا بد مَنْ سَبَبٍ وَيَنْتَهِي إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَهُوَ آيَةٌ لِلْعَاقِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ هَاهُنَا: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لَمَّا كَانَ حُدُوثُ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ أَمْرًا عَادِيًّا مُطَّرِدًا قَلِيلَ الِاخْتِلَافِ كَانَ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ بِالطَّبِيعَةِ، لِأَنَّ الْمُطَّرِدَ أَقْرَبُ إِلَى الطَّبِيعَةِ مِنَ الْمُخْتَلِفِ، لَكِنَّ الْبَرْقَ وَالْمَطَرَ لَيْسَ أَمْرًا مُطَّرِدًا غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ إِذْ يَقَعُ بِبَلْدَةٍ دُونَ بَلْدَةٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَتَارَةً تَكُونُ قَوِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ ضَعِيفَةً فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ دَلَالَةً عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ إن لم يتفكر تفكرا تاما.
ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 25]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
[في قوله تَعَالَى وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ] لَمَّا ذَكَرَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَعْضَهَا، ذَكَرَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَعْضَ وَهِيَ قِيَامُهَا، فإن الأرض(25/94)
لِثِقَلِهَا يَتَعَجَّبُ الْإِنْسَانُ مِنْ وُقُوفِهَا وَعَدَمِ نُزُولِهَا وَكَوْنُ السَّمَاءِ يَتَعَجَّبُ مِنْ عُلُوِّهَا وَثَبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَهَذَا مِنَ اللَّوَازِمِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ وَالسَّمَاءُ كَذَلِكَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي مَكَانِهَا كَالرَّحَى وَلَكِنِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهَا فِي مَكَانِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُ، وَهَذِهِ آيَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ وَعَلَى الْمَوْضِعِ/ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ، وَكَوْنُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَا مِنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجَا كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلْجَائِزِ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْفَلَاسِفَةُ قَالُوا كَوْنُ الْأَرْضِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هِيَ فِيهِ طَبِيعِيٌّ لَهَا لِأَنَّهَا أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ وَالثَّقِيلُ يَطْلُبُ الْمَرْكَزَ وَالْخَفِيفُ يَطْلُبُ الْمُحِيطَ وَالسَّمَاءُ كَوْنُهَا فِي مَكَانِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَكَانِ فَلَذَاتِهَا فَقِيَامُهُمَا فِيهِمَا بِطَبْعِهِمَا، فَنَقُولُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبِيعَةِ بَاطِلٌ، وَالَّذِي نَزِيدُهُ هَاهُنَا أَنَّكُمْ وَافَقْتُمُونَا بِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْمِثْلِ الْآخَرِ، لَكِنَّ مُقَعَّرَ الْفَلَكِ لَا يُخَالِفُ مُحَدَّبَهُ فِي الطَّبْعِ فَيَجُوزُ حُصُولُ مُقَعَّرِهِ فِي مَوْضِعِ مُحَدَّبِهِ، وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ وَالزَّوَالِ فَإِذَنِ الزَّوَالُ عَنِ الْمَكَانِ مُمْكِنٌ لَا سِيَّمَا عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُحَدَّدَةُ الْجِهَاتِ عَلَى مَذْهَبِكُمْ أَيْضًا وَالْأَرْضُ كَانَتْ تَجُوزُ عَلَيْهَا الْحَرَكَةُ الدَّوْرِيَّةُ، كَمَا تَقُولُونَ عَلَى السَّمَاءِ فَعَدَمُهَا وَسُكُونُهَا لَيْسَ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ، أَمَّا مِنَ الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَمِنَ الْآفَاقِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ لَوَازِمَ الْإِنْسَانِ اخْتِلَافُ اللِّسَانِ وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ وَمِنْ عَوَارِضِهِ الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ وَمِنْ عَوَارِضِ الْآفَاقِ الْبُرُوقُ وَالْأَمْطَارُ وَمِنْ لَوَازِمِهَا قِيَامُ السَّمَاءِ وَقِيَامُ الأرض، لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني: يفيد الاستقرار بالحق، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يُفِيدُ الظَّنَّ وَقَوْلُ الْآخَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَهُ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: 260] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِأَمْرِهِ أَيْ بقوله: قوما أو بإرادته قيامها، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْلِيفِ لَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْوِينِ، فَإِنَّا لَا نُنَازِعُهُمْ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ وكُونُوا يا نارُ كُونِي مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هَاهُنَا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وَقَالَ قَبْلَهُ: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُرِيَكُمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ أَنْ مُضْمَرَةٌ هُنَاكَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرِيَكُمْ لِيَصِيرَ كَالْمَصْدَرِ بِأَنْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَخْرَجَ الْفِعْلَ بِأَنَّ عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ وَجَعَلَهُ مَصْدَرًا، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ، وَفِي الْبَرْقِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا مِنَ الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ سِتَّةَ دَلَائِلَ، وَذَكَرَ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم: 20] وَلَا فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ [الروم: 21] أَيْضًا دَلِيلُ الْأَنْفُسِ، فَخَلْقُ الْأَنْفُسِ وَخَلْقُ الْأَزْوَاجِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ، فَإِذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا، وَأَمَّا فِي قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَنَقُولُ فِي الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ذَكَرَ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلْعَالِمِينَ(25/95)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
وَلِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِظُهُورِهَا/ فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ظَاهِرًا فَفِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ سَرْدِ الدَّلَائِلِ يَكُونُ أَظْهَرَ، فَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدًا عَنْ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ وَهُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَقَالَ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ الْعَطْفِ يتم، وَبِمَ تَعَلُّقُ ثُمَّ؟ فَنَقُولُ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا بَيَّنَ لَكُمْ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْبِرُكُمْ وَيُعْلِمُكُمْ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلْعِظَامِ الرَّمِيمَةِ اخْرُجُوا مِنَ الْأَجْدَاثِ يَخْرُجُونَ أَحْيَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُ الْقَائِلِ دَعَا فُلَانٌ فُلَانًا مِنَ الْجَبَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ يَا فُلَانُ اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، فَيُقَالُ دَعَاهُ مِنَ الْجَبَلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ يُدْعَى مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ يَا فُلَانُ انْزِلْ مِنَ الْجَبَلِ، فَيُقَالُ دَعَاهُ مِنَ الْجَبَلِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ الدَّاعِي هُوَ اللَّهُ، فَالْمَدْعُوُّ يُدْعَى مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي أَنْتُمْ تَكُونُونَ فِي الْأَرْضِ فَيَدْعُوكُمْ مِنْهَا فَتَخْرُجُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لِلْمُفَاجَأَةِ يَعْنِي يَكُونُ ذَلِكَ بِكُنْ فَيَكُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هَاهُنَا إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَقَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا: ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] فَنَقُولُ هُنَاكَ يَكُونُ خَلْقٌ وَتَقْدِيرٌ وَتَدْرِيجٌ وَتَرَاخٍ حَتَّى يَصِيرَ التُّرَابُ قَابِلًا لِلْحَيَاةِ فَيَنْفُخُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِذَا هُوَ بَشَرٌ، وَأَمَّا فِي الْإِعَادَةِ لَا يَكُونُ تَدْرِيجٌ وَتَرَاخٍ بَلْ يَكُونُ نِدَاءٌ وخروج، فلم يقل هاهنا ثم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
لَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ وَكَانَ مَدْلُولُهَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَشْرِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْآخَرُ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَوَّلِ، أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي لَا شَرِيكَ لَهُ أَصْلًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي السموات وكل من في الأرض، ونفس السموات والأرض لَهُ وَمِلْكُهُ، فَكُلٌّ لَهُ مُنْقَادُونَ قَانِتُونَ، وَالشَّرِيكُ يَكُونُ مُنَازِعًا مُمَاثِلًا، فَلَا شَرِيكَ لَهُ أَصْلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْمَدْلُولَ الْآخَرَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ فِي نَظَرِكُمُ الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنَ الْإِبْدَاءِ/ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَوَّلًا يَصْعُبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلَهُ يَكُونُ أَهْوَنَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَيْ كَبِيرٌ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيِ الْإِعَادَةُ أهون على الخالق من الإبداء لِأَنَّ فِي الْبَدْءِ يَكُونُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ يُخْلَقُ بَشَرًا ثُمَّ يَخْرُجُ طِفْلًا يَتَرَعْرَعُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَأَمَّا فِي الْإِعَادَةِ فَيَخْرُجُ بَشَرًا سَوِيًّا بِكُنْ فَيَكُونُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ نَتَكَلَّمُ فَنَقُولُ هُوَ أَهْوَنُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْبَدْءِ خَلْقَ الْأَجْزَاءِ وَتَأْلِيفَهَا وَالْإِعَادَةُ تَأْلِيفٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ أَهْوَنُ مِنْ أَمْرَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فِيهِ صُعُوبَةٌ، وَلِنُبَيِّنَ هَذَا فَنَقُولُ الْهَيِّنُ هُوَ مَا لَا يَتْعَبُ فِيهِ الْفَاعِلُ، وَالْأَهْوَنُ مَا لَا يَتْعَبُ فِيهِ الْفَاعِلُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ إِنَّ الرَّجُلَ الْقَوِيَّ لَا يَتْعَبُ من نقل شعيرة من مَوْضِعٍ وَسَلَّمَ السَّامِعُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ فَكَوْنُهُ لَا يَتْعَبُ مِنْ نَقْلِ خَرْدَلَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ كَلَامًا مَعْقُولًا مُبْقِي عَلَى حَقِيقَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ قَوْلُنَا هُوَ أهون عليه(25/96)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْآخَرِ تَعَبٌ كَمَا يُقَالُ إِنَّ نَقْلَ الْخَفِيفِ أَهْوَنُ مِنْ نَقْلِ الثَّقِيلِ وَالْآخَرُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ تَعَبٍ فِي الْآخَرِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَوْنَهُ أَهْوَنَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَهَاهُنَا فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مَرْيَمَ: 21] وَقَالَ هَاهُنَا: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ هُنَاكَ كَلِمَةَ عَلَيَّ وَأَخَّرَهَا هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ هُنَاكَ إِنَّهُ هَيِّنٌ هُوَ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنَ الْعَجُوزِ وَأَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ إِلَّا عَلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ يَعْنِي لَا عَلَى غَيْرِي، وَأَمَّا هَاهُنَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ أَهْوَنُ هُوَ الْإِعَادَةُ وَالْإِعَادَةُ عَلَى كُلِّ مُبْدِئٍ أَهْوَنُ فَقَالَ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، فَالتَّقْدِيمُ هُنَاكَ كَانَ لِلْحَصْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُنَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ لَهُ مَعْنًى وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَهُ مَعْنًى أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا قَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَكَانَ ذَلِكَ مَثَلًا مَضْرُوبًا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّاسِ فَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ النَّاسِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ وَلَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعْنِي هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لَكُمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى مِنْ هَذَا الْمَثَلِ ومن كل مثل يضرب في السموات، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى أَيْ فِعْلَهُ وَإِنْ شَبَّهَهُ بِفِعْلِكُمْ وَمَثَّلَهُ بِهِ، لَكِنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَقِيلَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ، شَامِلُ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَعْلَمُ الْأَجْزَاءَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَيَقْدِرُ على جمعها وتأليفها.
ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 28]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
لَمَّا بَيَّنَ الْإِعَادَةَ وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلَيْنِ بَيَّنَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَيْضًا بِالْمَثَلِ بَعْدَ الدَّلِيلِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَمْلُوكٌ لَا يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُرْمَةٌ مِثْلُ حُرْمَةِ سَيِّدِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَادُ اللَّهِ شُرَكَاءً لَهُ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَظَمَةٌ مِثْلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُعْبَدُوا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَثَلِ وَالْمُمَثَّلِ بِهِ مُشَابَهَةٌ مَا، ثُمَّ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ فَقَدْ يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى الْمَثَلِ وَقَدْ يَكُونُ مُوهِنًا لَهُ وَهَاهُنَا وَجْهُ الْمُشَابَهَةِ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فَمَوْجُودَةٌ أَيْضًا وَهِيَ مُؤَكَّدَةٌ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَعَ حَقَارَتِهَا وَنُقْصَانِهَا وَعَجْزِهَا، وَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَيْكُمْ مَعَ عِظَمِهَا وَكَمَالِهَا وقدرتها وثانيها: قوله: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي عَبْدُكُمْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ مِلْكُ اليد وهو طار [ىء] قَابِلٌ لِلنَّقْلِ وَالزَّوَالِ، أَمَّا النَّقْلُ فَبِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَالزَّوَالُ بِالْعِتْقِ وَمَمْلُوكُ اللَّهِ لَا خُرُوجَ لَهُ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكَ يَمِينِكُمْ شَرِيكًا لَكُمْ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِثْلَكُمْ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ هُوَ فِي الْحَالِ مِثْلُكُمْ فِي الْآدَمِيَّةِ حَتَّى أَنَّكُمْ لَيْسَ لَكُمْ تَصَرُّفٌ فِي رُوحِهِ وَآدَمِيَّتِهِ بِقَتْلٍ وَقَطْعٍ وَلَيْسَ لَكُمْ مَنْعُهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ شَرِيكًا لَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: مِنْ شُرَكاءَ فِي مَا رَزَقْناكُمْ يَعْنِي الَّذِي لَكَمَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَكُمْ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رِزْقِهِ وَالَّذِي مِنَ اللَّهِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ شَرِيكٌ فِي مَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الِاسْمِ،(25/97)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِيمَا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُهُ: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أَيْ هَلْ أَنْتُمْ وَمَمَالِيكُكُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَمْلِكُونَ سَوَاءٌ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ شَرِيكٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ، لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ لِلَّهِ فَمَا تَدَّعُونَ إِلَهِيَّتَهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَصْلًا وَلَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَلَا يُعْبَدُ لِعَظَمَتِهِ وَلَا لِمَنْفَعَةٍ تَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْهُ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ هَلْ لَهُ عِنْدَكُمْ حرمة كحرمة الأحرار وإذا لم يكن للملوك مَعَ مُسَاوَاتِهِ إِيَّاكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَالصِّفَةِ عِنْدَكُمْ حُرْمَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمَمَالِيكِ الَّذِينَ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَالِكِ بِوَجْهٍ مِنَ/ الْوُجُوهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بِهَذَا نَفَى جَمِيعَ وُجُوهِ حُسْنِ الْعِبَادَةِ عَنِ الْغَيْرِ لِأَنَّ الْأَغْيَارَ إِذَا لَمْ يَصْلُحُوا لِلشَّرِكَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ مِلْكٌ وَلَا مُلْكٌ، فَلَا عَظَمَةَ لَهُمْ حَتَّى يُعْبَدُوا لِعَظَمَتِهِمْ وَلَا يُرْتَجَى مِنْهُمْ مَنْفَعَةٌ لِعَدَمِ مِلْكِهِمْ حَتَّى يُعْبَدُوا لِنَفْعٍ وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَخَافُوهُمْ كَمَا تَخَافُونَ أَنْفُسَكُمْ، فَكَيْفَ تَخَافُونَهُمْ خَوْفًا أَكْثَرَ مِنْ خَوْفِكُمْ بَعْضًا مِنْ بَعْضٍ حَتَّى تَعْبُدُوهُمْ لِلْخَوْفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أَيْ نُبَيِّنُهَا بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَمْثِلَةِ وَالْمُحَاكِيَاتِ الْإِقْنَاعِيَّةِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، يَعْنِي لَا يَخْفَى الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى من لا يكون له عقل. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 29]
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ بِالْمَالِكِ مَمْلُوكُهُ وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَأَثْبَتُوا شُرَكَاءَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أَيْ هَؤُلَاءِ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْزِنَكَ قَوْلُهُمْ، وَهَاهُنَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ مُقَوٍّ لِمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَلِ الْمُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، يُقَالُ فِيهِ أَنْتَ أَثْبَتَّ لَهُمْ تَصَرُّفًا عَلَى خِلَافِ رِضَاهُ وَالسَّيِّدُ الْعَزِيزُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَبْدُهُ عَلَى تَصَرُّفٍ يُخَالِفُ رِضَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِقْلَالِهِ بَلْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، لَمَّا تَرَكُوا اللَّهَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَذُوهُ لَا يغني عنهم شيئا فلا ناصر لهم.
[سورة الروم (30) : آية 30]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ إِذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ وَظَهَرَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ وَلَمْ يَهْتَدِ الْمُشْرِكُ فَلَا تَلْتَفِتْ أَنْتَ إِلَيْهِمْ وَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ، وَقَوْلُهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أَيْ أَقْبِلْ بِكُلِّكَ عَلَى الدِّينِ عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] أَيْ ذَاتَهُ بِصِفَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: حَنِيفاً أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ أَيْ أَقْبِلْ عَلَى الدِّينِ وَمِلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَتَعُودَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 31] ثم قال الله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ أَيِ الْزَمْ فِطْرَةَ اللَّهِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ/ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ حَيْثُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَسَأَلَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَافِ: 172] فَقَالُوا: بَلَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَنِ الْحُزْنِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمُهُ فَقَالَ هُمْ خُلِقُوا(25/98)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
لِلشَّقَاوَةِ وَمَنْ كُتِبَ شَقِيًّا لَا يَسْعَدُ، وَقِيلَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيِ الْوَحْدَانِيَّةُ مُتَرَسِّخَةٌ فِيهِمْ لَا تَغَيُّرَ لَهَا حَتَّى إِنْ سَأَلْتَهُمْ من خلق السموات وَالْأَرْضَ يَقُولُونَ اللَّهُ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ الْفِطْرِيَّ غَيْرُ كَافٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَهُمْ كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَيْ لَيْسَ كَوْنُهُمْ عَبِيدًا مِثْلَ كَوْنِ الْمَمْلُوكِ عَبْدًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ بَلْ لَا خُرُوجَ لِلْخَلْقِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا لِبَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعِبَادَةُ لِتَحْصِيلِ الْكَمَالِ وَالْعَبْدُ يَكْمُلُ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وَقَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ النَّاقِصَ لَا يَصْلُحُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ وَالْكَوَاكِبُ عَبِيدُ اللَّهِ، وَقَوْلُ النَّصَارَى إِنَّ عِيسَى كَانَ يَحِلُّ اللَّهُ فِيهِ وَصَارَ إِلَهًا فَقَالَ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بَلْ كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الدين المستقيم.
[سورة الروم (30) : الآيات 31 الى 32]
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
لَمَّا قَالَ حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ قَالَ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أَيْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ مَعَ النَّبِيِّ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوهُ يَعْنِي إِذَا أَقْبَلْتُمْ عَلَيْهِ وَتَرَكْتُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَأْمَنُوا فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ بَلْ خَافُوهُ وَدَاوِمُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَيْ كونوا عابدين عند حصول القربة كما قلتم قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي وَلَا تُشْرِكُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ أَيْ وَلَا تَقْصِدُوا بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ، وَهَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ بِقَوْلِهِ: مُنِيبِينَ أَثْبَتَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِشْرَاكِ الظَّاهِرِ وَبِقَوْلِهِ: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ أَيْ لَا تَقْصِدُوا بِعَمَلِكُمْ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ وَلَا تَطْلُبُوا بِهِ إِلَّا رِضَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ تَحْصِيلٌ وَإِنْ لَمْ تَطْلُبُوهَا إِذَا حَصَلَ رِضَا اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً يَعْنِي لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَهَبَ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَذْهَبٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَكَانُوا شِيَعًا يَعْنِي بَعْضُهُمْ عَبَدَ اللَّهَ لِلدُّنْيَا وَبَعْضُهُمْ لِلْجَنَّةِ وَبَعْضُهُمْ/ لِلْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِمَا فِي نَظَرِهِ فَرِحٌ، وَأَمَّا الْمُخْلِصُ فَلَا يَفْرَحُ بِمَا يَكُونُ لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَرَحُهُ بِأَنْ يَحْصُلَ عِنْدَ اللَّهِ وَيَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَدَيْنَا نَافِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النَّحْلِ:
96] فَلَا مَطْلُوبَ لَكُمْ فِيمَا لَدَيْكُمْ حَتَّى تَفْرَحُوا بِهِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مَا لَدَى اللَّهِ وَبِهِ الْفَرَحُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 169- 170] جَعَلَهُمْ فَرِحِينَ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَبِكَوْنِ مَا أُوتُوا مِنْ فَضْلِهِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: 58] لَا بِمَا عِنْدَهُمْ فَإِنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ فَهُوَ نَافِدٌ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَهُوَ يَزُولُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُجَدِّدُ لَهُ مِثْلَهُ إِلَى الْأَبَدِ مِنْ فَضْلِهِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ فَالَّذِي لَا نَفَادَ له هو فضله. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 33]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)(25/99)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ بِالدَّلِيلِ وَبِالْمَثَلِ، بَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ حَالَةً يُعْرَفُونَ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا فِي وَقْتٍ وَهِيَ حَالَةُ الشِّدَّةِ، فَإِنَّ عِنْدَ انْقِطَاعِ رَجَائِهِ عَنِ الْكُلِّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ مُحْتَاجَةً إِلَى شَيْءٍ لَيْسَ كَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَالِبَةً بِهِ النَّجَاةَ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يَعْنِي إِذَا خَلَّصْنَاهُ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ وَيَقُولُ تَخَلَّصْتُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الْكَوْكَبِ الْفُلَانِيِّ بِفُلَانٍ، وَبِسَبَبِ الصَّنَمِ الْفُلَانِيِّ، لَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ تَخَلَّصَ بِسَبَبِ فُلَانٍ إِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَإِنَّهُ شِرْكٌ خَفِيٌّ، مِثَالُهُ رَجُلٌ فِي بَحْرٍ أدركه الغرق فيهيئ لَهُ لَوْحًا يَسُوقُهُ إِلَيْهِ رِيحٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَنْجُو، فَيَقُولُ تَخَلَّصْتُ بِلَوْحٍ، أَوْ رَجُلٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَبْعٌ فَيُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ رَجُلًا فَيُعِينُهُ فَيَقُولُ خَلَّصَنِي زَيْدٌ، فَهَذَا إِذَا كَانَ عَنِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَّصَنِي عَلَى يَدِ زَيْدٍ فَهُوَ أخفى، وفيه مسائل:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَذاقَهُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّوْقَ يُقَالُ فِي الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْعُرْفَ [أَنَّ] مَنْ أَكَلَ مَأْكُولًا كَثِيرًا لَا يَقُولُ ذُقْتُ، وَيُقَالُ فِي النَّفْيِ مَا ذُقْتُ فِي بَيْتِهِ طَعَامًا نَفْيًا لِلْقَلِيلِ لِيَلْزَمَ نَفْيُ الْكَثِيرِ بِالْأَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ لَمَّا كَانَتْ خَالِيَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَمِرَّةً فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ قَالَ أَذَاقَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَذَابِ: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَرِ: 48] ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاصِلَ إِلَى الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّحْمَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَى عَبِيدٍ آخَرِينَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْهُ أَيْ مِنَ الضُّرِّ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ مُطْلَقَةٍ لَهُمْ إِنَّمَا هِيَ عَنْ ذَلِكَ الضُّرِّ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الضُّرُّ الْمُؤَخَّرُ فَلَا يَذُوقُونَ مِنْهُ رَحْمَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هَاهُنَا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: 65] وَلَمْ يَقُلْ فَرِيقٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ ضُرٌّ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ وَالْمُتَخَلِّصُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ قَلِيلٌ، وَالَّذِي لَا يُشْرِكُ بِهِ بَعْدَ الْخَلَاصِ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَلَمْ يَجْعَلِ الْمُشْرِكِينَ فَرِيقًا لِقِلَّةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا الضُّرُّ مُطْلَقًا فيتناول ضر البر والبحر والأمراض والأهون وَالْمُتَخَلِّصُ مِنْ أَنْوَاعِ الضُّرِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَلْ جَمِيعُ النَّاسِ يَكُونُونَ قَدْ وَقَعُوا فِي ضُرٍّ مَا وَتَخَلَّصُوا مِنْهُ، وَالَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَ الْخَلَاصِ مُشْرِكًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّصُوا مِنْ ضُرٍّ وَلَمْ يَبْقَوْا مُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ضُرِّ الْبَحْرِ بِأَجْمَعِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ النَّاجِي مِنَ الضُّرِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جمعا كثيرا، جعل الباقي فريقا. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 34 الى 35]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ بَقِيَ بَيَانُ فَائِدَةِ الْخِطَابِ هَاهُنَا فِي قَوْلِهِ: فَتَمَتَّعُوا وَعَدَمُهُ هُنَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الضُّرُّ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ ضُرًّا وَاحِدًا جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْمُخَلَّصِينَ مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ أَحَدٌ، فَلَمْ يُخَاطَبْ وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُطْلَقَ الضُّرِّ وَلَا يَخْلُو مَوْضِعٌ مِنَ الْمُخَلَّصِينَ عَنِ الضُّرِّ، فَالْحَاضِرُ يَصِحُّ خِطَابُهُ بِأَنَّهُ منهم فخاطب.(25/100)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ لَمَّا سَبَقَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ [الرُّومِ: 29] أَيِ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ بَلْ هُمْ عَالِمُونَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ وَقْتَ الضُّرِّ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ حَقَّقَ ذَلِكَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَا بِمَا يَقُولُونَ سُلْطَانًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ وَلَا يَقَعُ إِلَّا مُتَوَسِّطًا، كَمَا قَالَ قَائِلُهُمْ:
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ ... وبين النقا ءاأنت أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
فَمَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي قَبْلَهُ؟ فَنَقُولُ تَقْدِيرُهُ إِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْحُجَجُ عَلَى عِنَادِهِمْ فَمَاذَا نَقُولُ، أَهُمْ يَتَّبِعُونَ الْأَهْوَاءَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ؟ أَمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ؟ وَلَيْسَ الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَجَازٌ كَمَا يُقَالُ إِنَّ كِتَابَهُ لَيَنْطِقُ بِكَذَا، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ/ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَأَنَّهُ لَا كَلَامَ لَهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَسْمُوعُ وَمَا لَا يُقْبَلُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ، فَإِذَا جَازَ سَلْبُ الْكَلَامِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَحَسُنَ جَازَ إِثْبَاتُ التكلم للدليل وحسن. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 36 الى 37]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ الظَّاهِرِ شِرْكُهُ بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي دُونَهُ وَهُوَ مَنْ تَكُونُ عِبَادَتُهُ اللَّهَ لِلدُّنْيَا، فَإِذَا آتَاهُ رَضِيَ وَإِذَا مَنَعَهُ سَخِطَ وَقَنِطَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي الشِّدَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرُّومِ: 33] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُهُ إِذَا آتَاهُ نِعْمَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَالْأَوَّلُ كَالَّذِي يَخْدِمُ مُكْرَهًا مَخَافَةَ الْعَذَابِ وَالثَّانِي كَالَّذِي يَخْدِمُ أَجِيرًا لِتَوَقُّعِ الْأَجْرِ وَكِلَاهُمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْمُرَتَّبِينَ فِي الْجَرَائِدِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ رِزْقَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَانِ لَا يَكُونَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهُمْ رِزْقٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَفِيهِ مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَرِحُوا بِها إِشَارَةٌ إِلَى دُنُوِّ هِمَّتِهِمْ وَقُصُورِ نَظَرِهِمْ فَإِنَّ فَرَحَهُمْ يَكُونُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ لَا بِمَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْفَرَحُ بِالرَّحْمَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُسَ: 58] وَهَاهُنَا ذَمَّهُمْ عَلَى الْفَرَحِ بِالرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ هُنَاكَ قَالَ: فَرِحُوا بِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَاهُنَا فَرِحُوا بِنَفْسِ الرَّحْمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَطَرُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ فَرَحُهُمْ بِهِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِمَا إِذَا كَانَ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ لَوْ حَطَّ عِنْدَ أَمِيرٍ رَغِيفًا عَلَى السِّمَاطِ أَوْ أَمَرَ الْغِلْمَانَ بِأَنْ يَحُطُّوا عِنْدَهُ زُبْدِيَّةَ طَعَامٍ يَفْرَحُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ بِهِ، وَلَوْ أَعْطَى الْمَلِكُ فَقِيرًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ رَغِيفًا أَوْ زُبْدِيَّةَ طَعَامٍ أَيْضًا يَفْرَحُ لَكِنَّ فَرَحَ الْأَمِيرِ بِكَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلِكِ وَفَرَحُ الْفَقِيرِ بِكَوْنِ ذَلِكَ رَغِيفًا وَزُبْدِيَّةً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَذْكُرْ عِنْدَ النِّعْمَةِ سَبَبًا لَهَا لِتَفَضُّلِهِ بِهَا وَذَكَرَ عِنْدَ الْعَذَابِ سَبَبًا لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَزِيدُ فِي الْإِحْسَانِ وَالثَّانِي يُحَقِّقُ الْعَدْلَ. قَوْلُهُ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ عَنْهُمْ وَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ به.(25/101)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. أَيْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ فَالْمُحَقِّقُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَظَرُهُ عَلَى مَا يُوجَدُ بَلْ إِلَى مَنْ يُوجِدُ وَهُوَ اللَّهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ تَبَدُّلُ حَالٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَهُ الْفَرَحُ الدَّائِمُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَرْتَبَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ الْمُحَقِّقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ الشِّدَّةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرُّومِ: 33] وَلَا أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى حَالَةِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُدَوْكَرِ الْمُتَسَلِّسِ «1» يَعْبُدُ اللَّهَ إِذَا كَانَ فِي الْخَوَانِقِ وَالرِّبَاطَات لِلرَّغِيفِ وَالزُّبْدِيَّةِ وَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، بِقَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، فِي حَالَةِ بَسْطِ الرِّزْقِ وَقَدْرِهِ عَلَيْهِ، نَظَرُهُ عَلَى اللَّهِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ لِيَحْصُلَ الْإِرْشَادُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ قِسْمَانِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْإِنْسَانُ فِي الْإِحْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا بَسَطَ الرِّزْقَ لَا يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ، وَإِذَا قَدَرَ لَا يَزْدَادُ بِالْإِمْسَاكِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَخْصِيصِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي الصَّدَقَاتِ فَنَقُولُ أَرَادَ هَاهُنَا بَيَانَ مَنْ يَجِبِ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مَالٌ سَوَاءٌ كَانَ زَكَوِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا الشَّفَقَةُ الْعَامَّةُ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يَجِبُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْسِنِ مَالٌ زَائِدٌ، أَمَّا الْقَرِيبُ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ كَعَقَارٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحُلْ عليه الحول والمسكين كذلك فإن مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ إِذَا بَقِيَ فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ حَتَّى بَلَغَ الشِّدَّةَ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ مَقْدِرَةٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ انْقَطَعَ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ آخِرِ دَابَّةٍ يُمْكِنُهُ بِهَا إِيصَالُهُ إِلَى مَأْمَنٍ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَالْفَقِيرُ دَاخِلٌ فِي الْمِسْكِينِ لِأَنَّ مَنْ أَوْصَى لِلْمَسَاكِينِ شَيْئًا يُصْرَفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ أَيْضًا، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ رَأَيْتَهُمْ لَا يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمْ/ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الْعَامِلِ وَالْمُكَاتِبِ وَالْمُؤَلَّفَةِ وَالْمَدْيُونِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ: الْمِسْكِينُ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مَا فَنَقُولُ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ إِطْلَاقَ الْمِسْكِينِ عَلَى مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ الْإِطْلَاقُ هَاهُنَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْفَقِيرُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقَدُّمِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ دَفْعُ حَاجَةِ الْقَرِيبِ وَاجِبًا سَوَاءٌ كَانَ فِي شِدَّةٍ وَمَخْمَصَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ لَا يَجِبُ دَفْعُ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي شِدَّةٍ، وَلَمَّا كَانَ
__________
(1) المدوكر المتسلس: لعله اسم لطائفة من بني ساسان وهم المكدون والمتسولون، يعبدون الله رياء وسمعة والخوانق أو الخوانيق جمع خانقاه كلمة أعجمية وهي مكان للعبادات وأما الرباطات فهي جمع رباط وهو المكان يجتمع فيه المجاهدون في سبيل الله على الثغور الإسلامية للحماية على الثغور.(25/102)
الْمِسْكِينُ حَاجَتُهُ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمَوْضِعٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ حَاجَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْأَقَارِبَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ ذَوُو الْقُرْبَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمِسْكِينَ بِلَفْظِ ذِي الْمَسْكَنَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَتَجَدَّدُ فَهِيَ شَيْءٌ ثَابِتٌ، وَذُو كَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الثَّابِتِ، فَإِنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ رَأْيٌ صَائِبٌ مَرَّةً أَوْ حَصَلَ لَهُ جَاهٌ يَوْمًا وَاحِدًا أَوْ وُجِدَ مِنْهُ فضل في وقت لا يُقَالُ ذُو رَأْيٍ وَذُو جَاهٍ وَذُو فَضْلٍ، وَإِذَا دَامَ ذَلِكَ لَهُ أَوْ وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ كَثِيرًا يُقَالُ لَهُ ذُو الرَّأْيِ وَذُو الْفَضْلِ، فَقَالَ ذَا الْقُرْبى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ ثَابِتٌ، وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَتَطْرَأُ وَتَزُولُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [الْبَلَدِ: 16] فَإِنَّ الْمِسْكِينَ يَدُومُ لَهُ كَوْنُهُ ذَا مَتْرَبَةٍ مَا دَامَتْ مَسْكَنَتُهُ أَوْ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ثُمَّ عَطَفَ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَمْ يَقُلْ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ حَقَّهُمْ، لِأَنَّ الْعِبَارَةَ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِ صُدُورِ الْكَلَامِ أَوَّلًا لِلتَّشْرِيكِ وَالْأَوْلَى لِكَوْنِ التَّشْرِيكُ وَارِدًا عَلَى الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ أَعْطِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ بِالتَّبَعِيَّةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا قَالَ الْمَلِكُ خَلِّ فلان يَدْخُلْ، وَفُلَانًا أَيْضًا يَكُونُ فِي التَّعْظِيمِ فَوْقَ ما إذا قال خل فلانا وفلانا يدخلان، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: «بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ» حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، ومن عصاهما فقد غورى وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَسْ إِلَى غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: 77] اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[الْبَقَرَةِ:
148] وَالثَّانِي أَوْلَى لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى إِضْمَارٍ وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ فَائِدَةً لِأَنَّ الْخَيْرَ مِنَ الْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ نَازِلَ الدَّرَجَةِ، عِنْدَ نُزُولِ دَرَجَةٍ مَا يُقَاسُ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ السُّكُوتُ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ حَسَنٌ يَنْفَعُ وَفِعْلٌ صَالِحٌ يَرْفَعُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْقَصْدِ لَا بِنَفْسِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ مَنْ أَنْفَقَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ رِيَاءَ النَّاسِ لَا يَنَالُ دَرَجَةَ مَنْ يَتَصَدَّقُ بِرَغِيفٍ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَجْهَ اللَّهِ أَيْ يَكُونُ عَطَاؤُهُ لِلَّهِ لَا غَيْرَ، فَمَنْ أَعْطَى لِلْجَنَّةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَخْلُوقَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كَيْفَ قَالَ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مَعَ أَنَّ لِلْإِفْلَاحِ شَرَائِطَ أُخَرَ، وَهِيَ/ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 1] فَنَقُولُ كُلُّ وَصْفٍ مَذْكُورٍ هُنَاكَ يُفِيدُ الْإِفْلَاحَ، فَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 4] وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 8] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَطْفٌ عَلَى الْمُفْلِحِ أَيْ هَذَا مُفْلِحٌ، وَذَاكَ مُفْلِحٌ، وَذَاكَ الْآخَرُ مُفْلِحٌ لَا يُقَالُ لَا يَحْصُلُ الْإِفْلَاحُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ وَلَا يُصَلِّي، فَنَقُولُ هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْعَالِمُ مُكَرَّمٌ أَيْ نَظَرًا إِلَى عِلْمِهِ ثُمَّ إِذَا حُدَّ فِي الزِّنَا عَلَى سَبِيلِ النَّكَالِ وَقُطِعَتْ يَدُهُ فِي السَّرِقَةِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْقَوْلُ حتى يقول القائل، إنما كان ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْفِسْقِ، فَكَذَلِكَ إِيتَاءُ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ يُفِيدُ الْإِفْلَاحَ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا وُجِدَ مَانِعٌ مِنَ ارْتِكَابٍ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِمَ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا؟ فَنَقُولُ الصَّلَاةُ مَذْكُورَةٌ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ: فَآتِ مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ، وَقَدْ قَالَ لَهُ مِنْ قبل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً(25/103)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
[الروم: 30] وقال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم: 31] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَصْرُ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ سورة البقرة: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ وَبِمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَبِالْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُفْلِحُ مُنْحَصِرًا فِي أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْلِحًا؟ فَنَقُولُ هَذَا هُوَ ذَاكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ مُتَّصِلٌ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ وَآتَى الْمَالَ وَأَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُقِيمٌ لِلصَّلَاةِ مُؤْتٍ لِلزَّكَاةِ مُعْتَرِفٌ بِالْآخِرَةِ فَصَارَ مِثْلَ الْمَذْكُورِ فِي الْبَقَرَةِ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 39]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
ذَكَرَ هَذَا تَحْرِيضًا يَعْنِي أَنَّكُمْ إِذَا طُلِبَ مِنْكُمْ وَاحِدٌ باثنين ترغبون فيه وتؤتونه وذلك لا يربوا عند الله والزكاة ننمو عِنْدَ اللَّهِ كَمَا
أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فتربوا حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْجَبَلِ»
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُكُمْ عَلَى الزَّكَاةِ أَكْثَرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أَيْ أُولَئِكَ ذَوُو الْأَضْعَافِ كَالْمُوسِرِ لذي اليسار وأقل ذَلِكَ عَشَرَةُ أَضْعَافٍ كُلٌّ مَثَلٌ لِمَا آتَى فِي كَوْنِهِ حَسَنَةً لَا فِي الْمِقْدَارِ فَلَا يُفْهَمُ أَنَّ مَنْ أَعْطَى رَغِيفًا يُعْطِيهِ اللَّهُ عَشَرَةَ أَرْغِفَةٍ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ يُضَاعِفُهُ اللَّهُ عَشَرَةَ مَرَّاتٍ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ، فَبِالرَّغِيفِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَهُ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ فِيهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ثَوَابًا/ نَظَرًا إِلَى الرَّحْمَةِ، وَعَشْرُ قُصُورٍ مِثْلِهِ نَظَرًا إِلَى الْفَضْلِ. مِثَالُهُ فِي الشَّاهِدِ، مَلِكٌ عَظِيمٌ قَبِلَ مِنْ عَبْدِهِ هَدِيَّةً قِيمَتُهَا دِرْهَمٌ لَوْ عَوَّضَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا يَكُونُ كَرَمًا، بَلْ إِذَا جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَلْفًا، فَإِذَا أَعْطَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافٍ فَقَدْ ضَاعَفَ لَهُ الثواب. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَيْ أَوْجَدَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ أَيْ أَبْقَاكُمْ، فَإِنَّ الْعَرَضَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِمُبَقًى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ الْحَشْرِ وَالتَّوْحِيدِ، أَمَّا الْحَشْرُ فَبِقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ وَالدَّلِيلُ قُدْرَتُهُ عَلَى الْخَلْقِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَبِقَوْلِهِ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ أَيْ سَبِّحُوهُ تَسْبِيحًا أَيْ نَزِّهُوهُ وَلَا تَصِفُوهُ بِالْإِشْرَاكِ، وَقَوْلُهُ: وَتَعالى أَيْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَّصِفُ بِشَيْءٍ قَدْ يَجُوزُ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ سَبِّحُوهُ أَيْ لَا تَصِفُوهُ بِالْإِشْرَاكِ، وَإِذَا قَالَ وَتَعَالَى فَكَأَنَّهُ قال ولا يجوز عليه ذلك. ثم إنه تعالى قال:
[سورة الروم (30) : آية 41]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)(25/104)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبُ الْفَسَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ سَبَبُهُ جَعْلُ اللَّهِ إِظْهَارَهُمُ الشِّرْكَ مُوَرِّثًا لِظُهُورِ الْفَسَادِ وَلَوْ فَعَلَ بِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُمْ: لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [الْمُؤْمِنُونَ: 71] كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَمَ: 90] وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ خَوْفُ الطُّوفَانِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَدَمُ إثبات بَعْضِ الْأَرَاضِي وَمُلُوحَةِ مِيَاهِ الْبِحَارِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُدُنُ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْمَدَائِنَ بُحُورًا لِكَوْنِ مَبْنَى عِمَارَتِهَا عَلَى الْمَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ/ إِنَّ ظُهُورَ الْفَسَادِ فِي الْبَحْرِ قِلَّةُ مِيَاهِ الْعُيُونِ فَإِنَّهَا مِنَ الْبِحَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ فَسَادٍ يَكُونُ فَهُوَ بِسَبَبِ الشِّرْكِ لَكِنَّ الشِّرْكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْعَمَلِ دُونَ الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ فَيُسَمَّى فِسْقًا وَعِصْيَانًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِعْلٌ لَا يَكُونُ لِلَّهِ بَلْ يَكُونُ لِلنَّفْسِ، فَالْفَاسِقُ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ بِفِعْلِهِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الشِّرْكَ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَرْءِ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إِلَّا التَّوْحِيدُ يَزُولُ الشِّرْكُ الْبَدَنِيُّ بِسَبَبِهِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَمَامَ جَزَائِهِمْ وَكُلَّ مُوجِبِ افْتِرَائِهِمْ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يَعْنِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَوَقِّعُ رُجُوعَهُمْ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ لَا يَرْجِعُ لَكِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْ فُعِلَ بِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ يُوجَدُ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدِعُ بِالْكَلَامِ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ لِمَاذَا لَا تُؤَدِّبُهُ بِالْكَلَامِ؟ فَإِذَا قَالَ لَا يَنْفَعُ رُبَّمَا يَقَعُ فِي وَهْمِهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ عَنْ نَفْعٍ، فَإِذَا زَجَرَهُ وَلَمْ يَرْتَدِعْ يَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ كَلَامِ السَّيِّدِ وَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 42]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ بِظُهُورِ الْفَسَادِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِسَبَبِ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ بَيَّنَ لَهُمْ هَلَاكَ أَمْثَالِهِمْ وَأَشْكَالِهِمُ الَّذِينَ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ كَأَفْعَالِهِمْ فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أَيْ قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الِامْتِنَانِ وَالْإِحْسَانِ قَالَ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [مريم: 40] أَيْ آتَاكُمُ الْوُجُودَ ثُمَّ الْبَقَاءَ وَوَقْتَ الْخِذْلَانِ بِالطُّغْيَانِ قَالَ: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41] أَيْ قَلَّلَ رِزْقَكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي هو أعدمكم كم أَعْدَمَ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْطَاكُمُ الْوُجُودَ وَالْبَقَاءَ، وَيَسْلُبُ مِنْكُمُ الْوُجُودَ وَالْبَقَاءَ، وَأَمَّا سَلْبُ الْبَقَاءِ فَبِإِظْهَارِ الْفَسَادِ، وَأَمَّا سَلْبُ الْوُجُودِ فَبِالْإِهْلَاكِ، وَعِنْدَ الْإِعْطَاءِ قَدَّمَ الْوُجُودَ عَلَى الْبَقَاءِ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَوَّلًا ثُمَّ الْبَقَاءَ، وَعِنْدَ السَّلْبِ قَدَّمَ الْبَقَاءَ، وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ ثُمَّ الْوُجُودُ.
وَقَوْلُهُ: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْأَكْثَرِ كَانَ بِسَبَبِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا كَالْإِهْلَاكِ بِالْفِسْقِ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا كَانَ عَلَى أَصْحَابِ السَّبْتِ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أُهْلِكَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا بَلْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُعَطِّلًا نَافِيًا لَكِنَّهُمْ قَلِيلُونَ، وَأَكْثَرُ الْكُفَّارِ مُشْرِكُونَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمُشْرِكِينَ حِينَ أَتَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] بَلْ كَانَ عَلَى الصِّغَارِ والمجانين، ولكن أكثرهم كانوا مشركين/ ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 44]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)(25/105)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
لَمَّا نَهَى الْكَافِرَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنُ فَضِيلَةَ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ فِي التَّكْلِيفِ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ»
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَأْتِيَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أَيِ اللَّهُ لَا يَرُدُّ وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أَيْ يَتَفَرَّقُونَ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى التَّفَرُّقِ بِقَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ آمَنَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بِهِ يَكْمُلُ الْإِيمَانُ فَذَكَرَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا زِنَةَ لِلْعَمَلِ مَعَهُ، وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلٌ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَالثَّانِي: تَرْكٌ وَهُوَ عَدَمُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ فَالْعَاقِلُ الْبَالِغُ إِذَا كَانَ فِي مَدِينَةِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ كَافِرٌ سَوَاءٌ قَالَ بِالشِّرْكِ أَوْ لَمْ يَقُلْ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَقَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَمَلُ اللِّسَانِ وَشَيْءٌ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: فَعَلَيْهِ فَوَحَّدَ الْكِنَايَةَ وَقَالَ: فَلِأَنْفُسِهِمْ جَمَعَهَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْغَضَبِ فَتَشْمَلُهُ وَأَهْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ، أَمَّا الْغَضَبُ فَمَسْبُوقٌ بِالرَّحْمَةِ، لَازِمٌ لِمَنْ أَسَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِ فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ تَحْقِيقًا لِكَمَالِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْخَيْرِ بَيَّنَ وَفَصَّلَ بِشَارَةً، وَعِنْدَ غَيْرِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ إشارة. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 45]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
ذَكَرَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ لِمَا يُمَهِّدُهُ الْمُؤْمِنَ لِفِعْلِهِ الْخَيْرَ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجَازِيهِ بِهِ اللَّهُ/ وَالْمَلِكُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا كَرِيمًا، وَوَعَدَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ بِأَنِّي أُجَازِيكَ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ:
مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي أَنَا الْمُجَازِي فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَزَاءُ، ثُمَّ إِنِّي لَا أُجَازِيكَ مِنَ الْعَدْلِ وَإِنَّمَا أُجَازِيكَ مِنَ الْفَضْلِ فَيَزْدَادُ الرَّجَاءُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أَوْعَدَهُمْ بِوَعِيدٍ وَلَمْ يَفْصِلْهُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ هَذَا الْإِجْمَالُ فِيهِ كَالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ غَايَةُ الْعَذَابِ، وَافْهَمْ ذَلِكَ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ مَعْشُوقٌ فَإِنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ الْعَاشِقَ بِأَنَّهُ وَعَدَكَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَيْفَ تَكُونُ مَسَرَّتُهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا كَيْفَ يَكُونُ سُرُورُهُ.
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أن الله عند ما أَسْنَدَ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ إِلَى الْعَبْدِ قَدَّمَ الْكَافِرَ فقال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] وعند ما أَسْنَدَ الْجَزَاءَ إِلَى نَفْسِهِ قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ كَفَرَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَنْعِ الْكَافِرِ عَنِ الْكُفْرِ بِالْوَعِيدِ ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً لِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِ فَالنَّهْيُ كَالْإِيعَادِ وَالتَّحْرِيضِ لِلتَّقْرِيرِ وَالْإِيعَادُ مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ، وَأَمَّا عند ما ذَكَرَ الْجَزَاءَ بَدَأَ بِالْإِحْسَانِ إِظْهَارًا لِلْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الذِّكْرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَذَلِكَ وليس كذلك فإن الله كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ قَدَّمَ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ وَقَدَّمَ(25/106)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
التَّعْذِيبَ عَلَى الْإِثَابَةِ، فَنَقُولُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُوَفِّقُنَا لِبَيَانِ ذَلِكَ نُبَيِّنُ مَا اقْتَضَى تَقْدِيمَهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ لِمَعْنًى وَكُلُّ تَرْتِيبٍ وُجِدَ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَمَا ذُكِرَ عَلَى خِلَافِهِ لَا يَكُونُ فِي دَرَجَةِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلْنُبَيِّنْ مِنْ جُمْلَتِهِ مِثَالًا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ [الرُّومِ: 14، 15] قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْكَافِرِ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ فَقَدَّمَ الْكَافِرَ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَنَقُولُ هُنَاكَ أَيْضًا قَدَّمَ الْكَافِرَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الرُّومِ: 12] فَذَكَرَ الْكَافِرَ وَإِبْلَاسَهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] فَكَانَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِ وَحْدَهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ التَّفَرُّقِ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ: يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَادَ ذِكْرَ الْمُجْرِمِينَ مَرَّةً أخرى للتفصيل فقال: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 46]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ ظُهُورَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ/ بِسَبَبِ الشِّرْكِ ذَكَرَ ظُهُورَ الصَّلَاحِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ لِإِحْسَانِهِ عِوَضًا، وَيَذْكُرُ لِأَضْرَارِهِ سَبَبًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ بِهِ الظُّلْمُ فَقَالَ: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ قِيلَ بِالْمَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْأَعْرَافِ: 57] أَيْ قَبْلَ الْمَطَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُبَشِّرَاتٍ بِصَلَاحِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الرِّيَاحَ لَوْ لَمْ تَهُبَّ لَظَهَرَ الْوَبَاءُ وَالْفَسَادُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عَطْفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَيْ لِيُبَشِّرَكُمْ بِصَلَاحِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ بِالْمَطَرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِذَاقَةَ تُقَالُ فِي الْقَلِيلِ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الدُّنْيَا قَلِيلًا وَرَاحَتُهَا نَزْرٌ قَالَ: وَلِيُذِيقَكُمْ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَرْزُقُهُمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ وَيُدِيمُ لَهُمْ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَمَّا أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْفُلْكِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: بِأَمْرِهِ أَيِ الْفِعْلُ ظَاهِرًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ: وَلِتَبْتَغُوا مُسْنَدًا إِلَى الْعِبَادِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا اسْتِقْلَالَ لِشَيْءٍ بِشَيْءٍ وَفِي الآية مسائل:
الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ فِي الرِّيَاحِ فَوَائِدُ، مِنْهَا إِصْلَاحُ الْهَوَاءِ، وَمِنْهَا إِثَارَةُ السَّحَابِ، وَمِنْهَا جَرَيَانُ الْفُلْكِ بِهَا فَقَالَ: مُبَشِّراتٍ بِإِصْلَاحِ الْهَوَاءِ فَإِنَّ إِصْلَاحَ الْهَوَاءِ يُوجَدُ مِنْ نَفْسِ الْهُبُوبِ ثُمَّ الْأَمْطَارُ بَعْدَهُ، ثُمَّ جَرَيَانُ الْفُلْكِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِبَارٍ مِنَ الْآدَمِيِّ بِإِصْلَاحِ السُّفُنِ وَإِلْقَائِهَا عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ بِرُكُوبِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ظَهَرَ الْفَسادُ ... لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الرُّومِ: 41] وَقَالَ هَاهُنَا وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ فَخَاطَبَ هَاهُنَا تَشْرِيفًا وَلِأَنَّ رَحْمَتَهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فَالْمُحْسِنُ قَرِيبٌ فَيُخَاطَبُ وَالْمُسِيءُ بَعِيدٌ فَلَمْ يُخَاطِبْهُمْ، وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا وَقَالَ هَاهُنَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَأَضَافَ مَا أَصَابَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَضَافَ مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ إِلَى رَحْمَتِهِ وَفِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَذْكُرُ(25/107)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
لِإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ عِوَضًا، وَإِنْ وُجِدَ فَلَا يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّكَ فَعَلْتَ كَذَا بَلْ يَقُولُ هَذَا لَكَ مِنِّي. وَأَمَّا مَا فَعَلْتَ مِنَ الْحَسَنَةِ فَجَزَاؤُهُ بَعْدُ عِنْدِي وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَا يَكُونُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْعَبْدِ قَلِيلٌ، فَلَوْ قَالَ أَرْسَلْتُ الرِّيَاحَ بِسَبَبِ فِعْلِكُمْ لَا يَكُونُ بِشَارَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا إِذَا قَالَ مِنْ رَحْمَتِهِ كَانَ غَايَةَ الْبِشَارَةِ، وَمَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ لَكَانَ ذَلِكَ مُوهِمًا لِنُقْصَانِ ثَوَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَإِذَا قَالَ بِمَا فَعَلْتُمْ يُنْبِئُ عَنْ نُقْصَانِ عِقَابِهِمْ وَهُوَ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالَ هَاهُنَا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قَالُوا وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّ تَوْفِيقَهُمْ لِلشُّكْرِ مِنَ النِّعَمِ فَعَطَفَ عَلَى النِّعَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا أَخَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا قُلْنَا إِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ آيَتَيْنِ فذكر من المنذرات يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وَالْحَادِثُ فِي الْجَوِّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ نَارٌ وَرِيحٌ فَذَكَرَ الرِّيَاحَ هَاهُنَا تَذْكِيرًا وَتَقْرِيرًا لِلدَّلَائِلِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّيحُ فِيهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ الْمَطَرِ وَلَيْسَ فِي الْبَرْقِ فَائِدَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ ذُكِرَ هُنَاكَ خَوْفًا وَطَمَعًا، أَيْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَذَكَرَ هَاهُنَا مُبَشِّراتٍ/ لِأَنَّ تَعْدِيلَ الْهَوَاءِ أَوْ تَصْفِيَتَهُ بِالرِّيحِ أَمْرٌ لازم، وحكمه به حكم جازم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَيْنِ بِبَرَاهِينَ ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا
أَيْ إِرْسَالُهُمْ دَلِيلُ رِسَالَتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغْلٌ غَيْرَ شُغْلِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مَا ظَهَرَ عَلَيْكَ وَمِنْ كَذِبِهِمْ أَصَابَهُمُ الْبَوَارُ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ كَانَ لَهُمْ الِانْتِصَارُ وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ يُبَيِّنُ تَعَلُّقَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ الْبَرَاهِينَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْكُفَّارُ سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ حَالُ مَنْ تَقَدَّمَكَ كَانَ كَذَلِكَ وَجَاءُوا أَيْضًا بِالْبَيِّنَاتِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِمْ كَافِرٌ وَمُؤْمِنٌ كَمَا فِي قَوْمِكَ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الْكَافِرِينَ ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: كانَ حَقًّا
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَانْتَقَمْنَا، وَكَانَ الِانْتِقَامُ حَقًّا وَاسْتَأْنَفَ وَقَالَ عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا بِشَارَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيْ عَلَيْنَا نَصْرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْوَجْهُ الثاني: كانَ حَقًّا عَلَيْنا
أَيْ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا وَعَلَى الْأَوَّلِ لَطِيفَةٌ وَعَلَى الْآخَرِ أُخْرَى، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَانْتَقَمْنَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا وَإِنَّمَا كَانَ عَدْلًا حَقًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ كَوْنِ بَقَائِهِمْ غَيْرَ مُفِيدٍ إِلَّا زِيَادَةَ الْإِثْمِ وَوِلَادَةَ الْكَافِرِ الْفَاجِرِ وَكَانَ عَدَمُهُمْ خَيْرًا مِنْ وُجُودِهِمُ الْخَبِيثِ، وَعَلَى الثَّانِي تَأْكِيدُ الْبِشَارَةِ. لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ يُقَالُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا يُنْبِئُ عَنِ اللُّزُومِ، فَإِذَا قَالَ حَقًّا أَكَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْغَلَبَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا وَخِيمَةً، فَإِنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِذَا انْهَزَمَتْ أَوَّلًا، ثُمَّ عَادَتْ آخِرًا لَا يَكُونُ النَّصْرُ إِلَّا لِلْمُنْهَزِمِ، وَكَذَلِكَ مُوسَى وَقَوْمُهُ لَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ فِرْعَوْنَ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ لَمْ يَكُنِ انْهِزَامُهُمْ إِلَّا نُصْرَةً، فَالْكَافِرُ إِنْ هَزَمَ الْمُسْلِمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يَكُونُ ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 50]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)(25/108)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
بَيَّنَ دَلَائِلَ الرِّيَاحِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ فِي إِرْسَالِهَا قُدْرَةٌ وَحِكْمَةٌ. أَمَّا الْقُدْرَةُ فَظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْهَوَاءَ اللَّطِيفَ الَّذِي يَشُقُّهُ الْوَدْقُ «1» يَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْلَعُ الشَّجَرَ وَهُوَ لَيْسَ بِذَاتِهِ كَذَلِكَ فَهُوَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَفِي نَفْسِ الْهُبُوبِ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِثَارَةِ السُّحُبِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنْوَاعَ السُّحُبِ فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْهُ وَالْمَاءُ فِي الْهَوَاءِ أَعْجَبُ عَلَامَةً لِلْقُدْرَةِ، وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ إِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَإِدْرَارِ الضَّرْعِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، ثُمَّ أَنَّهُ لَا يَعَمُّ بَلْ يَخْتَصُّ بِهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ وَهُوَ عَلَامَةُ الْمَشِيئَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَأْكِيدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الْحَشْرِ: 17] وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبْلِ التَّنْزِيلِ مِنْ قَبْلِ الْمَطَرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ يَعْرِفُ الْخَبِيرُ أَنَّ الرِّيحَ فِيهَا مَطَرٌ أَوْ لَيْسَ، فَقَبْلَ الْمَطَرِ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ لَا يَكُونُ مُبْلِسًا، فَلَمَّا قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُبْلِسِينَ، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ قد يكون راجيا غَالِبًا عَلَى ظَنِّهِ الْمَطَرُ بِرُؤْيَةِ السُّحُبِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فَقَالَ مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرْسَالِ الرِّيحِ وَبَسْطِ السَّحَابِ، ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ قَالَ لَمُحْيِي بِاللَّامِ الْمُؤَكِّدَةِ وَبِاسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ إِنَّ الْمَلِكَ يُعْطِيكَ لَا يُفِيدُ مَا يُفِيدُ قَوْلُهُ إِنَّهُ مُعْطِيكَ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُفِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاكَ فَكَانَ وَهُوَ مُعْطٍ مُتَّصِفًا بِالْعَطَاءِ، وَالْأَوَّلُ يُفِيدُ أَنَّهُ سَيَتَّصِفُ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِقَوْلِهِ إِنَّكَ مَيِّتٌ فَإِنَّهُ آكَدٌ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّكَ تَمُوتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَأْكِيدٌ لما يفيد الاعتراف. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
[في قوله تَعَالَى وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ] لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَوَقُّفِ الْخَيْرِ يَكُونُونَ مُبْلِسِينَ آيِسِينَ، وَعِنْدَ ظُهُورِهِ يَكُونُونَ مُسْتَبْشِرِينَ، بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَيْضًا لَا يَدُومُونَ عَلَيْهَا، بَلْ لَوْ أَصَابَ زَرْعَهُمْ رِيحٌ مُصْفَرٌّ لَكَفَرُوا فَهُمْ مُنْقَلِبُونَ غَيْرُ ثَابِتِينَ لِنَظَرِهِمْ إِلَى الْحَالِ لَا إِلَى الْمَآلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى يُرْسِلُ الرِّياحَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، وَقَالَ هَاهُنَا وَلَئِنْ أَرْسَلْنا لَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ الرِّيَاحَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بِالْعِبَادِ يُمْسِكُهَا، وَلِذَلِكَ نَرَى الرِّيَاحَ النَّافِعَةَ تَهُبُّ فِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْبَرَارِي وَالْآكَامِ، وَرِيحُ السَّمُومِ لَا تَهُبُّ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وفي بعض الأمكنة.
__________
(1) في الأصل المطبوع بالمطبعة الأميرية «يشقه البق» وهو لا معنى له فيما يظهر لي، ولعل ما ذكرته هو الصواب.(25/109)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَمَّى النَّافِعَةَ رِيَاحًا وَالضَّارَّةَ رِيحًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: النَّافِعَةُ كَثِيرَةُ الْأَنْوَاعِ كَثِيرَةُ الْأَفْرَادِ فَجَمَعَهَا، فَإِنَّ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَهُبُّ نَفَحَاتٌ مِنَ الرِّيَاحِ النَّافِعَةِ، وَلَا تَهُبُّ الرِّيحُ الضَّارَّةُ فِي أَعْوَامٍ، بَلِ الضَّارَّةُ فِي الْغَالِبِ لَا تَهُبُّ فِي الدُّهُورِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّافِعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا رِيَاحًا فَإِنَّ مَا يَهُبُّ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُصْلِحُ الْهَوَاءَ وَلَا يُنْشِئُ السَّحَابَ وَلَا يُجْرِيَ السُّفُنَ، وَأَمَّا الضَّارَّةُ بِنَفْحَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْتُلُ كَرِيحِ السَّمُومِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الرِّيحَ الْمُضِرَّةَ إِمَّا أَنْ تَضُرَّ بِكَيْفِيَّتِهَا أَوْ بِكَمِّيَّتِهَا، أَمَّا الْكَيْفِيَّةُ فَهِيَ إِذَا كَانَتْ حَارَّةً أَوْ مُتَكَيِّفَةً بِكَيْفِيَّةِ سُمٍّ، وَهَذَا لَا يَكُونُ لِلرِّيحِ فِي هُبُوبِهَا وَإِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ أَنَّ الْهَوَاءَ السَّاكِنَ فِي بُقْعَةٍ فِيهَا حَشَائِشُ رَدِيئَةٌ أَوْ فِي مَوْضِعٍ غَائِرٍ وَهُوَ حَارٌّ جِدًّا، أَوْ تَكُونُ مُتَكَوِّنَةً فِي أَوَّلِ تَكَوُّنِهَا كَذَلِكَ وَكَيْفَمَا كَانَ فَتَكُونُ وَاحِدَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ الْهَوَاءَ السَّاكِنَ إِذَا سُخِّنَ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ رِيحٌ تُحَرِّكُهُ وَتُخْرِجُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَتَهُبُّ عَلَى مَوَاضِعَ كَاللَّهِيبِ، ثُمَّ مَا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ حَارًّا وَلَا مُتَكَيِّفًا، لِأَنَّ الْمُكْثَ الطَّوِيلَ شَرْطُ التَّكَيُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ أَدْخَلْتَ إِصْبَعَكَ فِي نَارٍ وَأَخْرَجْتَهَا بِسُرْعَةٍ لَا تَتَأَثَّرُ، وَالْحَدِيدُ إِذَا مَكَثَ فِيهَا يَذُوبُ، فَإِذَا تَحَرَّكَ ذَلِكَ السَّاكِنُ وَتَفَرَّقَ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا الْمُتَوَلِّدَةُ كَذَلِكَ فَنَادِرَةٌ وَمَوْضِعُ نُدْرَتِهَا وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْكَمِّيَّةُ فَالرِّيَاحُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَصَارَتْ وَاحِدَةً صَارَتْ كَالْخُلْجَانِ، وَمِيَاهُ الْعُيُونِ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَصِيرُ نَهْرًا عَظِيمًا لَا تَسُدُّهُ السُّدُودُ وَلَا يُرُدُّهُ الْجُلْمُودُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَكُونُ وَاحِدَةً مُجْتَمِعَةً مِنْ كَثِيرٍ، فَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُضِرَّةِ رِيحٌ وَفِي النَّافِعَةِ رِيَاحٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أَنْوَاعَ الْأَدِلَّةِ وَأَصْنَافَ الْأَمْثِلَةِ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاؤُهُ إِلَّا/ فِرَارًا، وَإِنْبَاؤُهُ إِلَّا كُفْرًا وَإِصْرَارًا، قَالَ لَهُ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي التَّرْتِيبِ فَنَقُولُ إِرْشَادُ الْمَيِّتِ مُحَالٌ، وَالْمُحَالُ أَبْعَدُ مِنَ الْمُمْكِنِ، ثُمَّ إِرْشَادُ الْأَصَمِّ صَعْبٌ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَإِنَّمَا يَفْهَمُ مَا يَفْهَمُهُ بِالْإِشَارَةِ لَا غَيْرَ، وَالْإِفْهَامُ بِالْإِشَارَةِ صَعْبٌ، ثُمَّ إِرْشَادُ الْأَعْمَى أَيْضًا صَعْبٌ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَهُ الطَّرِيقُ عَلَى يَمِينِكَ يَدُورُ إِلَى يَمِينِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَلْ يَحِيدُ عَنْ قَرِيبٍ وَإِرْشَادُ الْأَصَمِّ أَصْعَبُ، فَلِهَذَا تَكُونُ الْمُعَاشَرَةُ مَعَ الْأَعْمَى أَسْهَلَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، لِأَنَّ غَايَةَ الْإِفْهَامِ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّ مَا لَا يُفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ يُفْهَمُ بِالْكَلَامِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ بِالْكَلَامِ يُفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ وَالْغَائِبَ لَا إِشَارَةَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ أَوَّلًا لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، ثُمَّ قَالَ وَلَا الْأَصَمَّ وَلَا تَهْدِي الْأَعْمَى الَّذِي دُونَ الْأَصَمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الصُّمِّ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لِيَكُونَ أَدْخَلَ فِي الِامْتِنَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصَمَّ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ فَإِنَّمَا يَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ، فَإِذَا وَلَّى وَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ إِلَى الْمُشِيرِ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَلَا يفهم.
المسألة الثالثة: قال في الأصم لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمَوْتَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ الْهَائِلَ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الْقَوِيِّ وَلَكِنَّ صَوْتَ الدَّاعِي لَا يَبْلُغُ ذَلِكَ الْحَدَّ فَقَالَ إِنَّكَ دَاعٍ لَسْتَ بِمُلْجِئٍ إِلَى الْإِيمَانِ وَالدَّاعِي لَا يُسْمِعُ الْأَصَمَّ الدُّعَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ أَيْ لَيْسَ شُغْلُكَ هِدَايَةَ الْعُمْيَانِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فُلَانٌ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَإِنَّمَا يَنْظِمُ بَيْتًا وَبَيْتَيْنِ، أَيْ لَيْسَ شُغْلُهُ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى نَفْيُ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ يَعْنِي لَيْسَ شُغْلُكَ ذَلِكَ، وَمَا أُرْسِلْتَ لَهُ.(25/110)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 81] لَمَّا نَفَى إِسْمَاعَ الْمَيِّتِ وَالْأَصَمِّ وَأَثْبَتَ إِسْمَاعَ الْمُؤْمِنِ بِآيَاتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ حَيًّا سَمِيعًا وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ تَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ أَمْطَارُ الْبَرَاهِينِ فَتُنْبِتُ فِي قَلْبِهِ الْعَقَائِدَ الْحَقَّةَ، وَيَسْمَعُ زَوَاجِرَ الْوَعْظِ فَتَظْهَرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُخَالِفُ إِرَادَةَ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُسْمِعُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ مُطِيعُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ:
قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [البقرة: 285] . ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
لَمَّا أَعَادَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي مَضَتْ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرُّومِ: 48] وَذَكَرَ أَحْوَالَ الرِّيحِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ أَعَادَ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَهُوَ خَلْقُ الْآدَمِيِّ وَذَكَرَ أَحْوَالَهُ، فَقَالَ: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أَيْ مَبْنَاكُمْ عَلَى الضَّعْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاءِ: 37] وَمِنْ هَاهُنَا كَمَا تَكُونُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ زَيَّنَ فُلَانًا مِنْ فَقْرِهِ وَجَعَلَهُ غَنِيًّا أَيْ مِنْ حَالَةِ فَقْرِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً فَقَوْلُهُ مِنْ ضَعْفٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ كَانَ فِيهَا جَنِينًا وَطِفْلًا مَوْلُودًا وَرَضِيعًا وَمَفْطُومًا فَهَذِهِ أَحْوَالُ غَايَةِ الضَّعْفِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةِ بُلُوغِهِ وَانْتِقَالِهِ وَشَبَابِهِ وَاكْتِهَالِهِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ.
إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ ظُهُورِ النُّقْصَانِ وَالشَّيْبَةُ هِيَ تَمَامُ الضَّعْفِ، ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ طَبْعًا بَلْ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي دَلَائِلِ الْآفَاقِ فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: 48] وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ لَمَّا قَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْقُدْرَةِ؟ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] فَالْعِزَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةُ إِلَى الْعِلْمِ، فَقَدَّمَ الْقُدْرَةَ هُنَاكَ وَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْقُدْرَةِ هَاهُنَا فَنَقُولُ هُنَاكَ الْمَذْكُورُ الْإِعَادَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الرُّومِ: 27] لِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ بِكُنْ فَيَكُونُ، فَالْقُدْرَةُ هُنَاكَ أَظْهَرُ وَهَاهُنَا الْمَذْكُورُ الْإِبْدَاءُ وَهُوَ أَطْوَارٌ وَأَحْوَالٌ وَالْعِلْمُ بِكُلِّ حَالٍ حَاصِلٌ فَالْعِلْمُ هَاهُنَا أَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ تَبْشِيرٌ وَإِنْذَارٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَعْمَالِ الْخَلْقِ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنْ عَمِلُوا خَيْرًا عَلِمَهُ وَإِنْ عَمِلُوا شَرًّا عَلِمَهُ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَادِرًا فَإِذَا عَلِمَ الْخَيْرَ أَثَابَ وَإِذَا عَلِمَ الشَّرَّ عَاقَبَ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْأَحْوَالِ قبل الإثابة والعقاب الذين هُمَا بِالْقُدْرَةِ قَدَّمَ الْعِلْمَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْعِلْمُ بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ مَعَ الْعِقَابِ فَقَالَ: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِلَى مِثْلِ هَذَا أَشَارَ فِي قَوْلِهِ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14] عُقَيْبَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَنَقُولُ أَحْسَنَ إِشَارَةً إِلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ حُسْنَ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ، وَالْخَلْقُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: الْخالِقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُدْرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ ذَكَرَ الْإِبْدَاءَ وَالْإِعَادَةُ كَالْإِبْدَاءِ ذَكَرَهُ بِذِكْرِ أحوالها وأوقاتها فقال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 55]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)(25/111)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ سَاعَةٍ. وَقِيلَ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ، وَقِيلَ مَا لَبِثُوا مِنْ وَقْتِ فَنَاءِ الدُّنْيَا إِلَى وَقْتِ النُّشُورِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ مِنَ الْحَقِّ إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
[سورة الروم (30) : آية 56]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَا هُوَ الْمَعْنَى اللَّطِيفُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، فَنَقُولُ الْمَوْعُودُ بِوَعْدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَكْثِرُ الْأَجَلَ وَيُرِيدُ تَعْجِيلَهُ، وَالْمُوعَدُ بِوَعِيدٍ إِذَا ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ يَسْتَقِلُّ الْمُدَّةَ وَيُرِيدُ تَأْخِيرَهَا، لَكِنَّ الْمُجْرِمَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ فَيَسْتَقِلُّ مُدَّةَ اللُّبْثِ وَيَخْتَارُ تَأْخِيرَ الْحَشْرِ وَالْإِبْقَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَالْمُؤْمِنَ إِذَا حُشِرَ عَلِمَ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَسْتَكْثِرُ الْمُدَّةَ وَلَا يُرِيدُ التَّأْخِيرَ فَيَخْتَلِفُ الْفَرِيقَانِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا إِنَّ مُدَّةَ لُبْثِنَا قَلِيلٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ وَيَقُولُ الْآخَرُ لَبِثْنَا مَدِيدًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ يعني كان في كاتب اللَّهِ ضَرْبُ الْأَجَلِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَنَحْنُ صَبَرْنَا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي طَلَبَكُمُ التَّأْخِيرَ، لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَلَا تَعْتَرِفُونَ بِهِ، فَصَارَ مَصِيرُكُمْ إِلَى النَّارِ فَتَطْلُبُونَ التَّأْخِيرَ. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : آية 57]
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
أَيْ لَا يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْإِعْتَابُ وَهُوَ إِزَالَةُ الْعَتْبِ يَعْنِي التَّوْبَةُ الَّتِي تُزِيلُ آثَارَ الْجَرِيمَةِ لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ لِأَنَّهَا لَا تقبل منهم. ثم قال تعالى:
[سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
قوله تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْأَعْذَارِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ، وَإِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ تَقْصِيرٌ، فَإِنْ طَلَبُوا شَيْئًا آخَرَ فَذَلِكَ عِنَادٌ وَمَنْ هَانَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ دَلِيلٍ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ الدَّلَائِلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يشرع في دليل/ آخر بعد ما ذَكَرَ دَلِيلًا جَيِّدًا مُسْتَقِيمًا ظَاهِرًا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَعَانَدَهُ الْخَصْمُ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِوُرُودِ سُؤَالِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ يَكُونُ انْقِطَاعًا وَهُوَ يَقْدَحُ فِي الدَّلِيلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا بِأَنَّ الدَّلِيلَ فَاسِدٌ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ جَاهِلٌ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْعَالِمِ فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ مُوهِمًا أَنَّ الْخَصْمَ لَيْسَ مُعَانِدًا فَيَكُونُ اجْتِرَاؤُهُ عَلَى الْعِنَادِ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْعِنَادُ أَفَادَ فِي الْأَوَّلِ حَيْثُ الْتَزَمَ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ذَكَرُوا أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ، نَقُولُ(25/112)
سَرَدُوهَا سَرْدًا، ثُمَّ قَرَّرُوهَا فَرْدًا فَرْدًا، كَمَنْ يَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ كَذَا، وَالثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِثُ كَذَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْوَاجِبِ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى عِنَادِ الْمُعَانِدِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ بِعِنَادِهِ حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا وَعَدَ مِنَ الدَّلَائِلِ فَتَنْحَطُّ دَرَجَتُهُ فَإِذَنْ لِكُلِّ مَكَانٍ مَقَالٌ. وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ وَفِي تَوْحِيدِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ وَالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَاءَ بِهَا يَقُولُونَ أَنْتُمْ كُلُّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِلرِّسَالَةِ مُبْطِلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَإِنْ قِيلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ؟ نَقُولُ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْآنَ فَقَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَلَّى قَلْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ أَنَّ صِدْقَكَ يُبَيَّنُ وَقَوْلُهُ: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ مُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَقَالَ الْكَافِرُ إِنَّهُ مُتَقَلِّبُ الرَّأْيِ، لَا ثَبَاتَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.(25/113)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة لقمان عليه السلام
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الْآيَتَيْنِ وَإِلَّا آيَةً نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2)
وَجْهُ ارْتِبَاطِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِآخِرِ مَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الرُّومِ: 58] إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِ مُعْجِزَةً وَقَالَ: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الرُّومِ: 58] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالْآيَاتِ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: 7] .
[سورة لقمان (31) : الآيات 3 الى 5]
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
فَقَوْلُهُ هُدىً أَيْ بَيَانًا وَفُرْقَانًا، وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَمِثْلُ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً [الْبَقَرَةِ: 1، 2] وَكَمَا قِيلَ هُنَاكَ إِنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ هَذَا، كَذَلِكَ قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ هَذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كَمَا قُلْنَا هُنَاكَ إِنَّ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ مَعْنَاهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَعِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ مَعَ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ لَمْ تَكُنْ جَمِيعُ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فَقَالَ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكُلِّ أَيْ آيَاتُ الْقُرْآنِ تِلْكَ آيَاتٌ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذلِكَ الْكِتابُ وَلَمْ يَقُلِ الْحَكِيمُ، وَهَاهُنَا قَالَ الْحَكِيمِ فَلَمَّا زَادَ ذِكْرَ وَصْفِ الْكِتَابِ زَادَ ذِكْرَ أَمْرٍ فِي أَحْوَالِهِ فَقَالَ: هُدىً وَرَحْمَةً وَقَالَ هُنَاكَ/ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فَقَوْلُهُ:(25/114)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
هُدىً فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الْكِتابِ وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الْحَكِيمِ وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْحَكِيمِ عَلَى مَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] أَيْ ذَاتِ رِضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ لِلْمُتَّقِينَ وَقَالَ هَاهُنَا لِلْمُحْسِنِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ هُدًى وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ قَالَ: لِلْمُتَّقِينَ أَيْ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْعِنَادَ وَالتَّعَصُّبَ، وَيَنْظُرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِنَادٍ، وَلَمَّا زَادَ هَاهُنَا رَحْمَةً قَالَ: لِلْمُحْسِنِينَ أَيِ الْمُتَّقِينَ الشِّرْكَ وَالْعِنَادَ الْآتِينَ بِكَلِمَةِ الْإِحْسَانِ فَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِالْإِيمَانِ وَالْمُتَّقِي هُوَ التَّارِكُ لِلْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النَّحْلِ: 128] وَمِنْ جَانِبِ الْكُفْرِ كَانَ مُتَّقِيًا وَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ كَانَ مُحْسِنًا وَلَهُ الزِّيَادَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: 26] وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَحْمَةٌ قَالَ: لِلْمُحْسِنِينَ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الْبَقَرَةِ: 3] وَقَالَ هَاهُنَا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَلَمْ يَقُلْ يُؤْمِنُونَ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَّقِيَ هُوَ التَّارِكُ لِلْكُفْرِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِحَقِّ الْإِيمَانِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ كَافِرًا، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَّقِي دَالًّا عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي الِالْتِزَامِ صَرَّحَ بِالْإِيمَانِ هُنَاكَ تَبْيِينًا وَلَمَّا كَانَ الْمُحْسِنُ دَالًّا عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّنْصِيصِ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي الصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا مِرَارًا وَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْقِيَامِ بِهَا، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْأَنْفَالِ فِي أَوَائِلِهَا أَنَّ الصَّلَاةَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِالسَّيِّدِ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ صُورَةٍ وَحَقِيقَةٍ وَاللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ لَهُ الْعِبَادَةُ وَلَا تَجُوزُ عَلَيْهِ الْعِبَادَةُ، وَتَرْكُ التَّشَبُّهِ لَازِمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فِي أُمُورٍ فَلَا يَجْلِسُ عِنْدَ جُلُوسِهِ وَلَا يَتَّكِئُ عِنْدَ اتِّكَائِهِ، وَالزَّكَاةُ تَشَبَّهٌ بِالسَّيِّدِ فَإِنَّهَا دَفْعُ حَاجَةِ الْغَيْرِ وَاللَّهُ دَافِعُ الْحَاجَاتِ، وَالتَّشَبُّهُ لَازِمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فِي أُمُورٍ، كَمَا أَنَّ عَبْدَ الْعَالِمِ لَا يَتَلَبَّسُ بِلِبَاسِ الْأَجْنَادِ، وَعَبْدَ الْجُنْدِيِّ لَا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 6]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ حَكِيمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتٍ حُكْمِيَّةٍ بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ وَيَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ سُوءَ صَنِيعِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْكَ الْحِكْمَةِ وَالِاشْتِغَالَ بِحَدِيثٍ آخَرَ قَبِيحٌ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا كَانَ لَهْوًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَانَ أَقْبَحَ/ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ اللَّهْوَ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْمَاضُ كَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أَحَمِضُوا
وَنُقِلَ عَنِ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً فَسَاعَةً» رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا
فِي مُسْلِمٍ «يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً»
وَالْعَوَامُّ يَفْهَمُونَ مِنْهُ الْأَمْرَ بِمَا يَجُوزُ مِنَ الْمُطَايَبَةِ، وَالْخَوَاصُّ يَقُولُونَ هُوَ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى جَانِبِ الْحَقِّ فَإِنَّ التَّرْوِيحَ بِهِ لَا غَيْرُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ إِلَّا الْإِضْلَالَ لِقَوْلِهِ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ فِعْلُهُ أَدْخَلَ فِي الْقُبْحِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ عِلْمٍ عَائِدٌ إِلَى الشِّرَاءِ أَيْ يَشْتَرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا أَيْ يَتَّخِذُ السَّبِيلَ هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ قَوْلُهُ: مُهِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرٍ يُفْهَمُ مِنْهُ الدَّوَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ بِتَعْذِيبِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، فَالْجَلَّادُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِمَّنْ يَعُودُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَلِكِ وَلَا يَتْرُكُهُ الْمَلِكُ فِي الْحَبْسِ يُكْرِمُهُ وَيُخَفِّفُ مِنْ تَعْذِيبِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَأَمْرُهُ قَدِ انْقَضَى، فَإِنَّهُ لَا يُكْرِمُهُ. فَقَوْلُهُ: عَذابٌ مُهِينٌ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا وَبِهِ يُفَرَّقُ(25/115)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
بَيْنَ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ وَعَذَابِ الْكَافِرِ، فَإِنَّ عَذَابَ المؤمن ليطهر فهو غير مهين ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
أَيْ يَشْتَرِي الْحَدِيثَ الْبَاطِلَ، وَالْحَقُّ الصُّرَاحُ يَأْتِيهِ مَجَّانًا يُعْرِضُ عَنْهُ، وَإِذَا نَظَرْتَ فِيهِ فَهِمْتَ حُسْنَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ الْمُشْتَرَى مَعَ أَنَّهُ يَطْلُبُهُ بِبَذْلِ الثَّمَنِ، وَمَنْ يَأْتِيهِ الشَّيْءُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَبْذُلُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَطْلُبَ الْعَاقِلُ الْحِكْمَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ يَجِدُهُ وَيَشْتَرِيهَا، وَهُمْ مَا كَانُوا يَطْلُبُونَهَا، وَإِذَا جَاءَتْهُمْ مَجَّانًا مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهَا، ثُمَّ إِنَّ فِيهِ أَيْضًا مَرَاتِبَ الْأُولَى: التَّوْلِيَةُ عَنِ الْحِكْمَةِ وَهُوَ قَبِيحٌ وَالثَّانِي: الِاسْتِكْبَارُ، وَمَنْ يَشْتَرِي حِكَايَةَ رُسْتُمَ وَبَهْرَامَ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهَا كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْحِكْمَةِ حَتَّى يَسْتَكْبِرَ عَنْهَا؟ وَإِنَّمَا يَسْتَكْبِرُ الشَّخْصُ عَنِ الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ يَقُولُ أَنَا أَقُولُ مِثْلَهُ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ يَصْنَعُ مِثْلَ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الْبَاطِلَةِ كَيْفَ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شُغْلُ الْمُتَكَبِّرِ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ كَأَنَّهَا غَافِلَةٌ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أَدْخَلُ فِي الْإِعْرَاضِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي له عذاب مهين بشره أَنْتَ بِهِ وَأَوْعِدْهُ، أَوْ يُقَالُ إِذَا كَانَ حاله هذا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَلَّى، بَيَّنَ حَالَ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ وَيَقْبَلُهَا وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَهُ مَرَاتِبُ مِنَ التَّوْلِيَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ، فَهَذَا لَهُ مَرَاتِبُ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ شَيْئًا وَقَبِلَهُ قَدْ لَا يَعْمَلُ بِهِ فَلَا تَكُونُ دَرَجَتُهُ مِثْلَ مَنْ يَسْمَعُ وَيُطِيعُ ثُمَّ إِنَّ هَذَا لَهُ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَلِذَلِكَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَفِيهِ لَطَائِفُ:
إِحْدَاهَا: تَوْحِيدُ الْعَذَابِ وَجَمْعُ الْجَنَّاتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ وَاسِعَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْغَضَبِ الثَّانِيَةُ: تَنْكِيرُ الْعَذَابِ وَتَعْرِيفُ الْجَنَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُعَرَّفِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحِيمَ يُبَيِّنُ النِّعْمَةَ وَيُعَرِّفُهَا إِيصَالًا لِلرَّاحَةِ إِلَى الْقَلْبِ، وَلَا يُبَيِّنُ النِّقْمَةَ، وَإِنَّمَا يُنَبِّهُ عَلَيْهَا تَنْبِيهًا الثَّالِثَةُ: قَالَ عَذَابٌ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُمْ فِيهِ خَالِدُونَ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى الْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: مُهِينٌ وَصَرَّحَ فِي الثَّوَابِ بِالْخُلُودِ بِقَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها، الرَّابِعَةُ: أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ الْخَامِسَةُ: قَالَ هُنَاكَ لِغَيْرِهِ فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ وَقَالَ هَاهُنَا بِنَفْسِهِ وَعْدَ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أُبَشِّرُكُمْ بِهِ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَعْظَمِ مَا يَكُونُ، لَكِنَّ الْجَنَّةَ دُونَ مَا يَكُونُ لِلصَّالِحِينَ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِشَارَتُهُمْ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة: 21] وَلَوْلَا قَوْلُهُ: مِنْهُ لَمَا عَظُمَتِ الْبِشَارَةُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْهُ مَقْرُونَةً بِأَمْرٍ دُونَ الْجَنَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ فَوْقَ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ بَشَّرَ بِنَفْسِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: 30] نَقُولُ الْبِشَارَةُ هُنَاكَ لَمْ تَكُنْ بِالْجَنَّةِ وَحْدَهَا، بَلْ بِهَا وَبِمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلَتْ: 32] وَالنُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ عِنْدَ النُّزُولِ وَالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كَامِلُ الْقُدْرَةِ يُعَذِّبُ الْمُعْرِضَ وَيُثِيبُ الْمُقْبِلَ، كَامِلُ الْعِلْمِ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ كَمَا يَنْبَغِي، فَلَا يُعَذِّبُ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَا يُثِيبُ مَنْ يَكْفُرُ.
[سورة لقمان (31) : آية 10]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)(25/116)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.
بَيَّنَ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ اختلف قول العلماء في السموات فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مَبْسُوطَةٌ كَصَفِيحَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُسْتَدِيرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُهَنْدِسِينَ، وَالْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ نَحْنُ نُوَافِقُهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا دَلِيلًا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَمُخَالَفَةُ الْحِسِّ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ خَبَرٌ نُؤَوِّلُهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ، فَضْلًا مِنْ أَنَّ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ/ يَسْبَحُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 33] وَالْفَلَكُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ، بَلِ الواجب أن يقال بأن السموات سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْتَدِيرَةً أَوْ مُصَفَّحَةً فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَا مَوْجُودَةٌ بِإِيجَابٍ وَطَبْعٍ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ السَّمَاءُ فِي مَكَانٍ وَهُوَ فَضَاءٌ وَالْفَضَاءُ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَكَوْنُ السَّمَاءُ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ إِلَّا بِقُدْرَةٍ مُخْتَارَةٍ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ عَمَدٍ أَيْ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ يَمْنَعُهَا الزَّوَالَ مِنْ مَوْضِعِهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وقال بعضهم المعنى أن السموات بِأَسْرِهَا وَمَجْمُوعِهَا لَا مَكَانَ لَهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مَا فِيهِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا وَالْحَيِّزُ مَا يُشَارُ إِلَى مَا فِيهِ بِسَبَبِهِ يقال هاهنا وهناك وعلى هَذَا قَالُوا إِنَّ مَنْ يَقَعُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ فَهُوَ فِي الْهَوَاءِ فِي حَيِّزٍ إِذْ يُقَالُ لَهُ هُوَ هَاهُنَا وَهُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي مَكَانٍ إِذْ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِذَا حَصَلَ عَلَى الْأَرْضِ حَصَلَ فِي مَكَانٍ، إِذَا علم هذا فالسماوات ليست فِي مَكَانٍ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَلَا عَمَدَ لَهَا وَقَوْلُهُ:
تَرَوْنَها فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إلى السموات أَيْ لَيْسَتْ هِيَ بِعَمَدٍ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا كَذَلِكَ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَمَدِ أَيْ بِغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عَمَدٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَهِيَ قُدْرَةُ اللَّهِ وَإِرَادَتُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.
أَيْ جِبَالًا رَاسِيَةً ثَابِتَةً أَنْ تَمِيدَ أَيْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنْ لَا تَمِيدَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ ثَبَاتُهَا بِسَبَبِ ثِقَلِهَا، وَإِلَّا كَانَتْ تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا بِسَبَبِ الْمِيَاهِ وَالرِّيَاحِ، وَلَوْ خَلَقَهَا مِثْلَ الرَّمْلِ لَمَا كَانَتْ تَثْبُتُ لِلزِّرَاعَةِ كَمَا نَرَى الْأَرَاضِيَ الرَّمْلَةَ يَنْتَقِلُ الرَّمْلُ الَّذِي فِيهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أَيْ سُكُونُ الْأَرْضِ فِيهِ مَصْلَحَةُ حَرَكَةِ الدَّوَابِّ فَأَسْكَنَّا الْأَرْضَ وَحَرَّكْنَا الدَّوَابَّ وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُتَزَلْزِلَةً وَبَعْضُ الْأَرَاضِي يُنَاسِبُ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ لَكَانَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَعِيشُ فِي مَوْضِعٍ تَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَكُونُ فِيهِ هَلَاكُ الدَّوَابِّ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ سَاكِنَةً وَالْحَيَوَانَاتُ مُتَحَرِّكَةً تَتَحَرَّكُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا وَتَرْعَى فِيهَا وَتَعِيشُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَمَامُهَا بِسُكُونِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْبَذْرَ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ إِلَى أَنْ يَنْبُتَ لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ الزَّرْعُ وَلَوْ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ مُتَحَرِّكَةً كَالرَّمْلِ لَمَا حَصَلَ الثَّبَاتُ وَلَمَا كَمُلَ النَّبَاتُ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْمُغَايَبَةِ إِلَى النَّفْسِ فِيهِ فَصَاحَةٌ وَحِكْمَةٌ، أَمَّا الْفَصَاحَةُ فَمَذْكُورَةٌ فِي بَابِ الِالْتِفَاتِ مِنْ أَنَّ السَّامِعَ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا طَوِيلًا مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ نَمَطٌ آخَرُ يَسْتَطْيِبُهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قَالَ زَيْدٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ خَالِدٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ عَمْرٌو كَذَا ثُمَّ إِنَّ/ بَكْرًا قَالَ قَوْلًا حَسَنًا يُسْتَطَابُ لِمَا قَدْ تَكَرَّرَ الْقَوْلُ مِرَارًا. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ ثَقِيلٌ، وَالسَّمَاءُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ قَدْ يَقَعُ لِجَاهِلٍ أَنَّهُ بِالطَّبْعِ، وَبَثُّ الدَّوَابِّ يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ لَهَا اختيار، فَنَقُولُ الْأَوَّلُ طَبِيعِيٌّ وَالْآخَرُ(25/117)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
اخْتِيَارِيٌّ لِلْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ الْمَاءَ فِي الْهَوَاءِ مِنْ جِهَةِ فَوْقٍ لَيْسَ طَبْعًا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَكُونُ بِطَبْعِهِ فَوْقَ وَلَا اخْتِيَارًا، إِذِ الْمَاءُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فَهُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مُتَكَثِّرَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَأَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ صَرِيحًا لِيَتَنَبَّهَ الْإِنْسَانُ لِشُكْرِ نِعْمَتِهِ فَيُزِيدَ لَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أَيْ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَكُلُّ جِنْسٍ فَتَحْتَهُ زَوْجَانِ، لِأَنَّ النَّبَاتَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَجَرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ شَجَرٍ، وَالَّذِي هُوَ الشَّجَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُثْمِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُثْمِرٍ، وَالْمُثْمِرُ كَذَلِكَ يَنْقَسِمُ قسمين، وقوله تعالى: كَرِيمٍ أَيْ ذِي كَرَمٍ، لِأَنَّهُ يَأْتِي كَثِيرًا مِنْ غير حساب أو مكرم مثل بغض للمبغض. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 11]
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يَعْنِي اللَّهُ خَالِقٌ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِخَالِقٍ فَكَيْفَ تَتْرُكُونَ عِبَادَةَ الْخَالِقِ وَتَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَةِ الْمَخْلُوقِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ بَيِّنٍ أَوْ مُبِينٍ لِلْعَاقِلِ أَنَّهُ ضَلَالٌ، وَهَذَا لِأَنَّ تَرْكَ الطَّرِيقِ وَالْحَيْدَ عَنْهُ ضَلَالٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَيْدُ يُمْنَةً أَوْ يُسْرَةً فَهُوَ لَا يَبْعُدُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِثْلُ مَا يَكُونُ الْمَقْصِدُ إِلَى وَرَاءٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَايَةَ الضَّلَالِ، فَالْمَقْصِدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَنْ يَطْلُبْهُ وَيَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا فَهُوَ ضَالٌّ، لَكِنَّ مَنْ وَجْهُهُ إِلَى اللَّهِ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ بَعْدَ تَعَبٍ وَطُولِ مُدَّةٍ، وَمَنْ يطلبه ولا يلتفت إلى ما سواه يكون كَالَّذِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ يَصِلُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ. وَأَمَّا الَّذِي تَوَلَّى لَا يَصِلُ إِلَى الْمَقْصُودِ أَصْلًا، وَإِنْ دَامَ فِي السَّفَرِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْمُشْرِكُونَ الْوَاضِعُونَ لِعِبَادَتِهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا أَوِ الْوَاضِعُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي عِبَادَةِ غير الله. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 12]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ بِسَبَبِ عِنَادِهِمْ/ بِإِشْرَاكِ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا بِمَنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكَ ظَالِمٌ ضَالٌّ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضَلَالَهُمْ وَظُلْمَهُمْ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نُبُوَّةٌ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَازِمٌ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إِظْهَارًا لِلتَّعَبُّدِ فَكَيْفَ مَا لَا يَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ، بَلْ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مَعْنَاهُ وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُدْرَكٌ بِالْحِكْمَةِ وَذَكَرَ حِكَايَةَ لُقْمَانَ وَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ بِالْحِكْمَةِ وَقَوْلُهُ:
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْفِيقِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، فَكُلُّ مَنْ أُوتِيَ تَوْفِيقَ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ فَقَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ، وَإِنْ أَرَدْنَا تَحْدِيدَهَا بِمَا يَدْخُلُ فِيهِ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فنقول حصول العلم عَلَى وَفْقِ الْمَعْلُومِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ مَصَالِحَهُ وَمَفَاسِدَهُ لَا يُسَمَّى حَكِيمًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَبْخُوتًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ وَوَقَعَ عَلَى مَوْضِعٍ فَانْخَسَفَ بِهِ وَظَهَرَ لَهُ كَنْزٌ وَسَلِمَ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَكِيمٌ، وَإِنْ ظَهَرَ لِفِعْلِهِ مَصْلَحَةٌ وَخُلُوٌّ عَنْ مَفْسَدَةٍ، لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوَّلًا، وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ وَيُلْقِي نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَنْكَسِرُ أَعْضَاؤُهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حَكِيمٌ وَإِنْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:(25/118)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فَإِنَّ أَنْ فِي مِثْلِ هَذَا تُسَمَّى الْمُفَسِّرَةَ فَفَسَّرَ اللَّهُ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ إِنَّ الْعَمَلَ مُوَافِقٌ لِلْعِلْمِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنِ اشْتَغَلَ بِالْأَهَمِّ كَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِعِلْمِهِ وَكَانَ حِكْمَةً، وَإِنْ أَهْمَلَ الْأَهَمَّ كَانَ مُخَالِفًا لِلْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي شَيْءٍ، لَكِنَّ شُكْرَ اللَّهِ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ فَالْحِكْمَةُ أَوَّلُ مَا تَقْتَضِي، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ بِالشُّكْرِ لَا يَنْتَفِعُ إِلَّا الشَّاكِرُ بِقَوْلِهِ:
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ بِالْكُفْرَانِ لَا يَتَضَرَّرُ غَيْرُ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيِ اللَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شُكْرٍ حَتَّى يَتَضَرَّرَ بِكُفْرَانِ الْكَافِرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ شَكَرَهُ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَشْكُرُوهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ وَلَطَائِفُ الْأُولَى: فَسَّرَ اللَّهُ إِيتَاءَ الْحِكْمَةِ بِالْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، لَكِنَّ الْكَافِرَ وَالْجَاهِلَ مَأْمُورَانِ بِالشُّكْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَدْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أَمْرُ تَكْوِينٍ مَعْنَاهُ آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ بِأَنْ جَعَلْنَاهُ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَفِي الْكَافِرِ الْأَمْرُ بِالشُّكْرِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الشُّكْرِ وَمَنْ يَشْكُرْ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَفِي الْكُفْرَانِ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ يَجْعَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ، وَمَنْ يَدْخُلْ دَارِي فَهُوَ حُرٌّ، فَنَقُولُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى وَإِرْشَادٌ إِلَى أَمْرٍ، وَهُوَ أَنَّ الشُّكْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِتَكَرُّرِ النِّعْمَةِ، فَمَنْ شَكَرَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ، وَالْكُفْرُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ فَمَنْ كَفَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْكُفْرَانَ، وَلِأَنَّ الشُّكْرَ مِنَ الشَّاكِرِ لَا يَقَعُ بِكَمَالِهِ، بَلْ أَبَدًا يَكُونُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَدَمِ يُرِيدُ الشَّاكِرُ إِدْخَالَهُ فِي الْوُجُودِ، كَمَا قَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النَّمْلِ: 19] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [النمل: 18] فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ بِكَمَالِهِ لَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا الْكُفْرَانُ فَكُلُّ جُزْءٍ يَقَعُ مِنْهُ تَامٌّ، فَقَالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ بِتَقْدِيمِ الشُّكْرِ عَلَى الْكُفْرَانِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم: 44] فَنَقُولُ هُنَاكَ كَانَ الذِّكْرُ لِلتَّرْهِيبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: 43] وَهَاهُنَا الذِّكْرُ لِلتَّرْغِيبِ، لِأَنَّ وَعْظَ الْأَبِ لِلِابْنِ يَكُونُ بِطَرِيقِ اللُّطْفِ وَالْوَعْدِ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الرُّومِ لَمَّا كَانَ بَعْدَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ تَكُونُ الْأَعْمَالُ قَدْ سَبَقَتْ فَقَالَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَمَنْ عَمِلَ وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الِابْتِدَاءِ قَالَ وَمَنْ يَشْكُرْ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ، حَمِيدٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْدِهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَامِدُ تَرْتَفِعُ مَرْتَبَتُهُ بِكَوْنِهِ حامدا لله تعالى. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 13]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى مَا سَبَقَ وَتَقْدِيرُهُ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ حِينَ جَعَلْنَاهُ شَاكِرًا فِي نَفْسِهِ وَحِينَ جَعَلْنَاهُ وَاعِظًا لِغَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ عُلُوَّ مَرْتَبَةِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ وَمُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَمَالِ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إِشَارَةٌ إِلَى التَّكْمِيلِ، وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لُقْمَانَ وَشَكَرَ سَعْيَهُ حَيْثُ أَرْشَدَ ابْنَهُ لِيُعْلَمَ مِنْهُ فَضِيلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أَرْشَدَ الْأَجَانِبَ وَالْأَقَارِبَ فَإِنَّ إِرْشَادَ الْوَلَدِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ، وَأَمَّا تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي تَعْلِيمِ الْأَبَاعِدِ فَلَا، ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْوَعْظِ بَدَأَ بِالْأَهَمِّ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أَمَّا أَنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأَنَّهُ وَضْعٌ لِلنَّفْسِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ(25/119)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
[الْإِسْرَاءِ: 70] فِي عِبَادَةِ الْخَسِيسِ أَوْ لِأَنَّهُ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَهِيَ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ فَلِأَنَّهُ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مَوْضِعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مَالَ زَيْدٍ وَيُعْطِي عَمْرًا يَكُونُ ظُلْمًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَضَعَ مَالَ زَيْدٍ فِي يَدِ عَمْرٍو، وَلَكِنْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِلْكَ عَمْرٍو أَوْ يَصِيرَ مِلْكَهُ بِبَيْعٍ سَابِقٍ أَوْ بِتَمْلِيكٍ لَاحِقٍ، وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ فَوَضْعُ الْمَعْبُودِيَّةِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ معبودا أصلا. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 14]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالْخِدْمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي الصُّورَةِ بَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ/ لِغَيْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِثْلُ خِدْمَةِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقَالَ: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ يَعْنِي لِلَّهِ عَلَى الْعَبِيدِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ ابْتِدَاءً بِالْخَلْقِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ بِالرِّزْقِ وَجَعَلَ بِفَضْلِهِ لِلْأُمِّ مَا لَهُ صُورَةُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقِيقَةً فَإِنَّ الْحَمْلَ بِهِ يَظْهَرُ الْوُجُودُ، وَبِالرَّضَاعِ يَحْصُلُ التَّرْبِيَةُ وَالْبَقَاءُ فَقَالَ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ أَيْ صَارَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سَبَبَ وُجُودِهِ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَيْ صَارَتْ بِقُدْرَتِهِ أَيْضًا سَبَبَ بَقَائِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَهُ صُورَةُ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا لَهُ شِبْهُ الْعِبَادَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا صُورَةُ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ وَصَّى اللَّهُ بِالْوَالِدَيْنِ وَذَكَرَ السَّبَبَ فِي حَقِّ الْأُمِّ فَنَقُولُ خَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ وَفِي الْأَبِ مَا وُجِدَ فِي الْأُمِّ فَإِنَّ الْأَبَ حَمَلَهُ فِي صُلْبِهِ سِنِينَ وَرَبَّاهُ بِكَسْبِهِ سِنِينَ فَهُوَ أَبْلَغُ وَقَوْلُهُ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ صُورَةَ مَا مَنَّ اللَّهُ، فَإِنَّ الْوُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللَّهِ وَفِي الصُّورَةِ يَظْهَرُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ جَعَلَ الشُّكْرَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ وَقَالَ:
إِلَيَّ الْمَصِيرُ يَعْنِي نِعْمَتُهُمَا مُخْتَصَّةٌ بِالدُّنْيَا وَنِعْمَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ إِلَيَّ الْمَصِيرَ أَوْ نَقُولُ لَمَّا أَمَرَ بِالشُّكْرِ لِنَفْسِهِ وَلِلْوَالِدَيْنِ قَالَ الْجَزَاءُ عَلَيَّ وَقْتَ الْمَصِيرِ إلي. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 15]
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يَعْنِي أَنَّ خِدْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ وَطَاعَتَهُمَا لَازِمَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَرْكُ طَاعَةِ اللَّهِ، أَمَّا إِذَا أَفْضَى إِلَيْهِ فَلَا تُطِعْهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تفسير الآية في العنكبوت، وقال هاهنا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، يَعْنِي صَاحِبْهُمَا بِجِسْمِكَ فَإِنَّ حَقَّهُمَا عَلَى جِسْمِكَ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَقْلِكَ، فَإِنَّهُ مُرَبِّي عَقْلِكَ، كما أن الوالد مربي جسمك. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 16]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
لَمَّا قَالَ: فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَقَعَ لِابْنِهِ أَنَّ مَا يفعل في خفية يخفى فقال: يا بُنَيَّ إِنَّها أَيِ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ إِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ مِثْلَ حَبَّةِ خَرْدَلٍ وَتَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الصِّغَرِ فِي مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كَالصَّخْرَةِ لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَتَكُنْ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ الِاجْتِمَاعِ يَعْنِي إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَمَعَ صِغَرِهَا تَكُونُ خَفِيَّةً(25/120)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
فِي مَوْضِعٍ حَرِيزٍ كَالصَّخْرَةِ لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلِاتِّصَالِ بِالتَّعْقِيبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قِيلَ الصَّخْرَةُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تكون في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهَا؟
وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَوْ قَالَ هَذَا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوِ ابْنُ عَمْرٍو لَا يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ لِكَوْنِ ابْنِ عَمْرٍو دَاخِلًا فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ هَذَا، فَنَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّخْرَةِ صَخْرَةٌ عَلَيْهَا الثَّوْرُ وَهِيَ لَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي موضع آخر في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ وَالثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ وَتَأْخِيرُ الْعَامِّ فِي مِثْلِ هَذَا التَّقْسِيمِ جَائِزٌ وَتَقْدِيمُ الْعَامِّ وَتَأْخِيرُ الْخَاصِّ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا فِي دَارِ زَيْدٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا أَوْ فِي دَارِ عَمْرٍو لَا يَصِحُّ لِكَوْنِ دَارِ عَمْرٍو دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا فِي دَارِ زَيْدٍ أَوْ فِي دَارِ عَمْرٍو أَوْ فِي غَيْرِهَا صَحِيحٌ غَيْرُ قَبِيحٍ فَكَذَلِكَ هاهنا قَدَّمَ الْأَخَصَّ أَوْ نَقُولُ خَفَاءُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي ظُلْمَةٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَإِنِ انْتَفَتِ الْأُمُورُ بِأَسْرِهَا بِأَنْ يَكُونَ كَبِيرًا قَرِيبًا فِي ضَوْءٍ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ فَلَا يَخْفَى فِي الْعِبَادَةِ، فَأَثْبَتَ اللَّهُ الرُّؤْيَةَ وَالْعِلْمَ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرَائِطِ فَقَوْلُهُ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّغَرِ وَقَوْلُهُ: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِجَابِ وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي السَّماواتِ إشارة إلى العبد فَإِنَّهَا أَبْعَدُ الْأَبْعَادِ وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى الظُّلُمَاتِ فَإِنَّ جَوْفَ الْأَرْضِ أَظْلَمُ الْأَمَاكِنِ وَقَوْلُهُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لِأَنَّ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْعِلْمِ دُونَ حَالِ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ الشَّيْءَ وَيُظْهِرُهُ لِغَيْرِهِ فَقَوْلُهُ: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أَيْ يُظْهِرُهَا اللَّهُ لِلْإِشْهَادِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أَيْ نَافِذُ الْقُدْرَةِ خَبِيرٌ أي عالم ببواطن الأمور. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 17]
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
لَمَّا مَنَعَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَخَوَّفَهُ بِعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ أَمَرَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَهِيَ الْعِبَادَةُ لِوَجْهِ اللَّهِ مُخْلِصًا، وَبِهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ غَيْرَ أَنَّ هَيْئَتَهَا اخْتَلَفَتْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَيْ إِذَا كَمُلْتَ أَنْتَ فِي نَفْسِكَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَكَمِّلْ/ غَيْرَكَ، فَإِنَّ شُغْلَ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يَكْمُلُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَيُكْمِلُوا غَيْرَهُمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَدَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَبْلُ قَدَّمَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ أَوَّلَ ما قال يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ ثم قال: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ فَنَقُولُ هُوَ كَانَ يَعْلَمُ مِنَ ابْنِهِ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِوُجُودِ اللَّهِ فَمَا أَمَرَهُ بِهَذَا الْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ نَافِيًا لِلَّهِ فِي الِاعْتِقَادِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ نَفْيُهُ بِالدَّلِيلِ فَكَانَ كُلُّ مَعْرُوفٍ فِي مُقَابَلَتِهِ مُنْكَرٌ وَالْمَعْرُوفُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ اعْتِقَادُ وُجُودِهِ وَالْمُنْكَرُ اعْتِقَادُ وُجُودِ غَيْرِهِ مَعَهُ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ الْمَعْرُوفِ لِحُصُولِهِ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ ابْنَهُ كَانَ مُشْرِكًا فَوَعَظَهُ وَلَمْ يَزَلْ يَعِظُهُ حَتَّى أَسْلَمَ، وأما هاهنا فأمره أَمْرًا مُطْلَقًا وَالْمَعْرُوفُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُنْكَرِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ يَعْنِي أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى فأمره(25/121)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ الْمَعْزُومَةِ أَيِ الْمَقْطُوعَةِ وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ أَكْلِي فِي النَّهَارِ رَغِيفُ خُبْزٍ أَيْ مَأْكُولِي. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 18]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18)
لما أمره أَمَرَهُ بِأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَكَانَ يَخْشَى بَعْدَهُمَا مِنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّكَبُّرُ عَلَى الْغَيْرِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لَهُ وَالثَّانِي: التَّبَخْتُرُ فِي النَّفْسِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ تَكَبُّرًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً تَبَخْتُرًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ بِهِ خُيَلَاءُ وَهُوَ الَّذِي يَرَى النَّاسُ عَظَمَةَ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ فَخُورٍ يَعْنِي مَنْ يَكُونُ مُفْتَخِرًا بِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يَرَى عَظَمَةً لِنَفْسِهِ فِي عَيْنِهِ، وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْكَمَالَ عَلَى التَّكْمِيلِ حَيْثُ قَالَ أَقِمِ الصَّلاةَ ثُمَّ قَالَ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي النَّهْيِ قَدَّمَ مَا يُورِثُهُ التَّكْمِيلُ عَلَى مَا يُورِثُهُ الْكَمَالُ حَيْثُ قَالَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ثُمَّ قَالَ:
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً لِأَنَّ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ مَنْ لَا يَكُونُ كَامِلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مُكَمِّلًا فَقَدَّمَ الْكَمَالَ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ مَنْ يَكُونُ مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ مُتَبَخْتِرًا لِأَنَّهُ لَا يَتَكَبَّرُ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا عِنْدَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ مُتَبَخْتِرًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَكَبَّرُ، وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَتَوَاضَعُ لِلنَّاسِ فَقَدَّمَ نَفْيَ التَّكَبُّرِ ثُمَّ نَفْيَ التَّبَخْتُرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدْ نَفَى التَّبَخْتُرَ لَلَزِمَ مِنْهُ نَفْيُ التَّكَبُّرِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَمِثَالُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَا تَأْكُلْ/ وَلَا تُفْطِرْ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَأْكُلُ قَدْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَكُونُ لِلتَّفْسِيرِ فَيَقُولُ لَا تُفْطِرْ وَلَا تَأْكُلْ أَيْ لَا تُفْطِرْ بِأَنْ تَأْكُلَ وَلَا يَكُونُ نَهْيَيْنِ بَلْ واحدا. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 19]
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
لَمَّا قَالَ: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وَعَدَمُ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُ غَايَةَ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ مَشْيُ الْمُتَمَاوِتِ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الضَّعْفَ تَزَهُّدًا فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ كُنْ وَسَطًا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمَذْمُومَيْنِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل:
الْأُولَى: هَلْ لِلْأَمْرِ بِالْغَضِّ مِنَ الصَّوْتِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ؟ فَنَقُولُ: نَعَمْ سَوَاءٌ عَلِمْنَاهَا نَحْنُ أَوْ لَمْ نَعْلَمْهَا وَفِي كَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يَحْصُرُهُ حَدٌّ وَلَا يُصِيبُهُ عَدٌّ، وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ وَالَّذِي يَظْهَرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ شَرِيفًا تَكُونُ مَطَالِبُهُ شَرِيفَةً فَيَكُونُ فَوَاتُهَا خَطَرًا فَأَقْدَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالْمَشْيِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ مَقْصُودِهِ يُنَادِي مَطْلُوبَهُ فَيَقِفُ لَهُ أَوْ يَأْتِيهُ مَشْيًا إِلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِبْلَاغِ كَلَامِهِ إِلَيْهِ، وَبَعْضُ الْحَيَوَانَاتِ يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ بِالصَّوْتِ كَمَا أَنَّ الْغَنَمَ تَطْلُبُ السَّخْلَةَ وَالْبَقَرَةَ الْعِجْلَ وَالنَّاقَةَ الْفَصِيلَ بِالثُّغَاءِ وَالْخُوَارِ وَالرُّغَاءِ وَلَكِنْ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، وَالْإِنْسَانُ يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ فَإِذَا كَانَ الْمَشْيُ وَالصَّوْتُ مُفْضِيَيْنِ إِلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ لَمَّا أَرْشَدَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَرْشَدَهُ إِلَى الْآخَرِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْحَيَوَانَاتُ فَإِنَّهُ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَعَزْمٌ بِالْقَلْبِ وَهُوَ لَا اطِّلَاعَ عليه إلا الله، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ [لقمان: 16] أَيْ أَصْلِحْ ضَمِيرَكَ فَإِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ، بَقِيَ الْأَمْرَانِ فَقَالَ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّوَسُّطِ(25/122)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ لُقْمَانَ أَرَادَ إِرْشَادَ ابْنِهِ إِلَى السَّدَادِ فِي الْأَوْصَافِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي هِيَ لِلْمَلَكِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُ، وَالْأَوْصَافِ الَّتِي لِلْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرْتَبَةً مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَارِمِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنْسَانِ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَا يَأْمُرُ مَلَكًا آخَرَ بِشَيْءٍ وَلَا يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً الَّذِي هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَارِمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّكَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ صِفَتُهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إشارة إِلَى الْمَكَارِمِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْحَيَوَانِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ ذَكَرَ الْمَانِعَ مَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَانِعَ مِنْ سُرْعَةِ الْمَشْيِ، نَقُولُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْمَشْيَ وَالصَّوْتَ كِلَاهُمَا مُوَصِّلَانِ إِلَى شَخْصٍ مَطْلُوبٍ إِنْ أَدْرَكَهُ بِالْمَشْيِ إِلَيْهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيُوقِفُهُ بِالنِّدَاءِ، فَنَقُولُ رَفْعُ الصَّوْتِ يُؤْذِي السَّامِعَ وَيَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِقُوَّةٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُقُ الْغِشَاءَ الَّذِي دَاخِلَ الْأُذُنِ وَأَمَّا السُّرْعَةُ فِي الْمَشْيِ فَلَا تُؤْذِي أَوْ إِنْ كَانَتْ تُؤْذِي فَلَا تُؤْذِي غَيْرَ مَنْ فِي طَرِيقِهِ وَالصَّوْتُ يَبْلُغُ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ يُؤْذِي آلَةَ الْمَشْيِ وَالصَّوْتَ يُؤْذِي آلَةَ السَّمْعِ وَآلَةُ السَّمْعِ عَلَى بَابِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْتَقِلُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى الْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْمَشْيُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْإِشَارَةُ بِالشَّيْءِ وَالصَّوْتِ إِلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَبِيحُهُ أَقْبَحُ مِنْ قَبِيحِ الْفِعْلِ وَحَسَنُهُ أَحْسَنُ لِأَنَّ اللِّسَانَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ وَالِاعْتِبَارُ يُصَحِّحُ الدَّعْوَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفَ يُفْهَمُ كَوْنُهُ أَنْكَرَ مَعَ أَنَّ مَسَّ الْمِنْشَارِ بِالْمِبْرَدِ وَحَتَّ النُّحَاسِ بِالْحَدِيدِ أَشَدُّ تَنْفِيرًا؟
نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَنْكَرَ أَصْوَاتِ الْحَيَوَانَاتِ صَوْتُ الْحَمِيرِ فَلَا يَرُدُّ مَا ذَكَرْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لِمَصْلَحَةٍ وَعِمَارَةٍ فَلَا يُنْكَرُ، بِخِلَافِ صَوْتِ الْحَمِيرِ وَهَذَا وَهُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْكَرُ هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فَمِنْ أَيِّ بَابٍ هُوَ؟ نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ بَنَانِهِ، بِمَعْنَى أَشَدِّهَا طَاعَةً فَإِنَّ أَفْعَلَ لَا يَجِيءُ فِي مَفْعَلٍ وَلَا فِي مَفْعُولٍ وَلَا فِي بَابِ الْعُيُوبِ إِلَّا مَا شَذَّ، كَقَوْلِهِمْ أَطْوَعُ مِنْ كَذَا لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُطِيعِ، وَأَشْغَلُ مِنْ ذَاتِ النِّحْيَيْنِ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَأَحْمَقُ مِنْ فُلَانٍ مِنْ بَابِ الْعُيُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ فِي بَابِ أَفْعَلَ كَأَشْغَلَ فِي بَابِ مَفْعُولٍ فَيَكُونُ لِلتَّفْضِيلِ عَلَى الْمُنْكَرِ، أَوْ نَقُولُ هُوَ مِنْ بَابِ أَشْغَلَ مَأْخُوذًا مَنْ نَكِرَ الشَّيْءَ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَهَذَا أَنْكَرُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ قَدْ يُفْهَمُ مِنْ صَوْتِهِ بِأَنَّهُ يَصِيحُ مِنْ ثِقَلٍ أَوْ تَعَبٍ كَالْبَعِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحِمَارُ لَوْ مَاتَ تَحْتَ الْحِمْلِ لَا يَصِيحُ وَلَوْ قُتِلَ لَا يَصِيحُ، وَفِي بَعْضِ أَوْقَاتِ عَدَمِ الْحَاجَةِ يَصِيحُ وَيَنْهَقُ فَصَوْتُهُ مَنْكُورٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُوَ مِنْ نَكِيرٍ كأجدر من جدير. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 20]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
لَمَّا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَبَيَّنَ بِحِكَايَةِ لُقْمَانَ أَنَّ/ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالنُّبُوَّةِ بَلْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِلْحِكْمَةِ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ وَمَكَارِمِ(25/123)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
الْأَخْلَاقِ كُلُّهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَوْ كَانَ تَعَبُّدًا مَحْضًا لَلَزِمَ قَبُولُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ، اسْتَدَلَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالنِّعْمَةِ لِأَنَّا بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَلِكَ يُخْدَمُ لِعَظَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ وَيُخْدَمُ لِنِعْمَتِهِ أَيْضًا، فَلَمَّا بَيَّنَ أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بِلَا عَمَدٍ وَإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ الرَّوَاسِيَ. وَذَكَرَ بَعْضَ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً [لقمان: 10] ذَكَرَ بَعْدَهُ عَامَّةَ النِّعَمِ فَقَالَ: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ أَيْ سَخَّرَ لِأَجْلِكُمْ مَا في السموات، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفِيهَا فَوَائِدُ لِعِبَادِهِ، وَسَخَّرَ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ عِبَادِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَهِيَ مَا فِي الْأَعْضَاءِ مِنَ السَّلَامَةِ وَباطِنَةً وَهِيَ مَا فِي الْقُوَى فَإِنَّ الْعُضْوَ ظَاهِرٌ وَفِيهِ قُوَّةٌ بَاطِنَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ شَحْمٌ وَغُضْرُوفٌ ظَاهِرٌ، وَاللِّسَانَ وَالْأَنْفَ لَحْمٌ وَعَظْمٌ ظَاهِرٌ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مَعْنًى بَاطِنٌ مِنَ الْإِبْصَارِ وَالسَّمْعِ وَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ، وَكَذَلِكَ كَلُّ عُضْوٍ، وَقَدْ تَبْطُلُ الْقُوَّةُ وَيَبْقَى الْعُضْوُ قَائِمًا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قِيلَ فَإِنَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِنِعْمَةِ الْآفَاقِ وَبِنِعْمَةِ الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى النِّعَمِ الْآفَاقِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى النِّعَمِ الْأَنْفُسِيَّةِ، وَفِيهِمَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْنَاهُ مَقُولًا مَنْقُولًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَائِغًا مَعْقُولًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ الْوَحْدَانِيَّةُ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ، إِمَّا إِلَهًا أَوْ مُنْعِمًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ هَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْكِتَابِ، وَالْعِلْمُ أَعْلَى مِنَ الْهُدَى وَالْهُدَى مِنَ الْكِتَابِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْعِلْمَ تَدْخُلُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْوَاضِحَةُ اللَّائِحَةُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْ غَيْرِ هِدَايَةِ هَادٍ، ثُمَّ الْهُدَى يَدْخُلُ فِيهِ الَّذِي يَكُونُ فِي كِتَابٍ وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ إِلْهَامٍ وَوَحْيٍ، فَقَالَ تَعَالَى: يُجادِلُ ذَلِكَ الْمُجَادِلُ لَا مِنْ عِلْمٍ وَاضِحٍ، وَلَا مَنْ هَدًى أَتَاهُ مِنْ هَادٍ، وَلَا مِنْ كِتَابٍ وَكَأَنَّ الْأَوَّلَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ أُوتِيَ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاءِ: 113] وَالثَّانِي: إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ مَنْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِوَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ:
5] وَالثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ مَنِ اهْتَدَى بِوَاسِطَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان: 3] وقال في السجدة:
[23] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ... وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ فَالْكِتَابُ هَدًى لِقَوْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالنَّبِيُّ هُدَاهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ الرُّوحِ الْأَمِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: يُجَادِلُ مَنْ يُجَادِلُ لَا بِعِلْمٍ آتَيْنَاهُ مَنْ لَدُنَّا كَشْفًا، وَلَا بِهُدًى أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِ وَحْيًا، وَلَا بِكِتَابٍ يُتْلَى عَلَيْهِ وَعْظًا. ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ لِأَنَّ الْمُجَادِلَ مِنْهُ مَنْ كَانَ يُجَادِلُ مِنْ كِتَابٍ وَلَكِنَّهُ مُحَرَّفٌ مِثْلُ التَّوْرَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيفِ، فَلَوْ قَالَ/ وَلَا كِتَابٍ لَكَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يُجَادِلُ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَقُولُونَ فَهُوَ فِي كِتَابِهِمْ وَلِأَنَّ الْمَجُوسَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ بِالتَّثْنِيَةِ وَالتَّثْلِيثِ عَنْ كِتَابِهِمْ، فَقَالَ: وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ مُظْلِمٌ، وَلَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى مُنِيرٍ أَوْ حق أو غير ذلك. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 22]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)(25/124)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا بَيَّنَ أَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَهِيَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ بِكَلَامِ آبَائِهِمْ، وَبَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ بَوْنٌ عَظِيمٌ فَكَيْفَ مَا بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الْجُهَلَاءِ ثُمَّ إن هاهنا شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يَعْنِي نَتْرُكُ الْقَوْلَ النَّازِلَ مِنَ اللَّهِ وَنَتَّبِعُ الْفِعْلَ، وَالْقَوْلُ أَدَلُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَهُمْ تَعَاطَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَالْقَوْلُ بَيِّنُ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ سَمِعْنَا قَوْلَ قَائِلٍ افْعَلْ وَرَأَيْنَا فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ الْأَخْذَ بِالْقَوْلِ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ وَالْفِعْلُ مِنَ الْجُهَّالِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فِي الْإِنْكَارِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعَذَابِ وَاللَّهَ يَدْعُو إِلَى الثَّوَابِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ وَالْمُجَادِلِ فِي اللَّهِ بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَسْلِمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قوله تَعَالَى: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْكَهْفِ: 88] وَقَوْلِهِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَيْ تَمَسَّكَ بِحَبْلٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَتَرَقَّى بِسَبَبِهِ إِلَى أَعْلَى المقامات وفي الآية مسائل:
الأولى: قال هاهنا: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [112] : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فعدى هاهنا بإلى وَهُنَاكَ بِاللَّامِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْلَمَ ... لِلَّهِ أَيْ جَعَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سَالِمًا أَيْ خَالِصًا/ وَالْوَجْهُ بِمَعْنَى النَّفْسِ وَالذَّاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يُسْلِمُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُسْلِمُ وَاحِدٌ مَتَاعًا إِلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ يُسْلِمُ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ إِلَى لِلْغَايَةِ وَاللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ، يَقُولُ الْقَائِلُ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ أَيْ تَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ وَيُنْبِئُ هَذَا عَنْ عَدَمِ الْوُصُولِ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الْوُصُولِ وقوله أسلمت وجهي لك يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُنْبِئُ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَةِ وَقَطْعِهَا لِلْوُصُولِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْبَقَرَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى فَقَالَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 111] ثُمَّ بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] أَيْ أَنْتُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ اللَّهَ لِلدُّنْيَا وَتُوَلُّونَ عَنْهُ لِلْبَاطِلِ وَتَشْتَرُونَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا تَدْخُلُونَ [النَّارَ] وَمَنْ كَانَ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ لَا يَدْخُلُهَا، هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّقْضَ بِالصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَلْزَمُ أَوْلَى فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْمُخْلِصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ إِلَّا اللَّهَ وَقَالَ:
أَنْتُمْ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا لَا يَدْخُلُهَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَذِبَهُمْ وَقَالَ: بَلَى وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ فَوْقَ الْجَنَّةِ دَرَجَةً وَهِيَ الْعِنْدِيَّةُ بِقَوْلِهِ:
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأما هاهنا أَرَادَ وَعْدَ الْمُحْسِنِ بِالثَّوَابِ وَالْوُصُولِ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فَوَعَدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَيَعُمَّ الْوَعْدُ وَهَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَوْثَقُ الْعُرَى جَانِبُ اللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ هَالِكٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ بَاقٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يَعْنِي اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةٍ تُوصِلُهُ إِلَى اللَّهِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْحَالِ مَا إِلَيْهِ(25/125)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
عَاقِبَتُهُ فِي عَاقِبَتِهِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ عَاقِبَةَ الْأُمُورِ إِلَى وَاحِدٍ ثُمَّ يُقَدِّمُ إِلَيْهِ الْهَدَايَا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ يَجِدُ فَائِدَتَهُ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 110] . ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 23 الى 24]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِ رَجَعَ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِ فَقَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ أَيْ لَا تَحْزَنْ إِذَا كَفَرَ كَافِرٌ فَإِنَّ مَنْ يُكَذِّبُ وَهُوَ قَاطِعٌ بِأَنَّ صِدْقَهُ يَتَبَيَّنُ عَنْ قَرِيبٍ لَا يَحْزَنُ، بَلْ قَدْ يُؤَنَّبُ «1» الْمُكَذِّبُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي التَّكْذِيبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْهُدَاةِ وَيَكُونُ الْمُكَذِّبُ مِنَ الْعُدَاةِ لِيُخْجِلَهُ غَايَةَ التَّخْجِيلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَرْجُو ظُهُورَ صِدْقِهِ يَتَأَلَّمُ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَقَالَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، فَإِنَّ الْمَرْجِعَ إِلَيَّ فَأُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا فَيَخْجَلُونَ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سِرُّهُمْ وَعَلَانِيَتُهُمْ/ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا أَضْمَرَتْهُ صُدُورُهُمْ، وَذَاتُ الصُّدُورِ هِيَ الْمَهْلَكُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَّلَ مَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أَيْ بَقَاؤُهُمْ مُدَّةً قَلِيلَةً ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ وَبَالَ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أَيْ نُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ أَغْلَظَ عَذَابٍ حَتَّى يَدْخُلُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابًا غَلِيظًا فَيَضْطَرُّونَ إِلَى عَذَابِ النَّارِ فِرَارًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْغِلَاظِ الشِّدَادِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَهُمْ بِمَقَامِعَ مِنْ نَارٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَجَالَةِ مَا يَدْخُلُونَ النَّارَ وَلَا يَخْتَارُونَ الْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ بِمَحْضَرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 25]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أنه تعالى لما استدل بخلق السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ وَبِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لِأَنَّ خَالِقَ السموات والأرض يحتاج إليه كل ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَكَوْنُ الْحَمْدِ كُلُّهُ لِلَّهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعْبَدَ غَيْرُهُ، لَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَّى قَلْبَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَإِنَّ صِدْقَكَ وَكَذِبَهُمْ يَتَبَيَّنُ عَنْ قَرِيبٍ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا، قَالَ وَلَيْسَ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ بَلْ هُوَ يَتَبَيَّنُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأنهم معترفون بأن خلق السموات وَالْأَرْضِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا يُصَدِّقُكَ فِي دَعْوَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَيُبَيِّنُ كَذِبَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ صِدْقِكَ وَكَذِبِ مُكَذِّبِيكَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تَكْذِيبِكَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَكَ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَا يَعْلَمُونَ اسْتِعْمَالًا لِلْفِعْلِ مَعَ الْقَطْعِ عَنِ الْمَفْعُولِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَلَا يَكُونُ فِي ضَمِيرِهِ مَنْ يُعْطِي بَلْ يُرِيدُ أَنَّ له عطاء ومنعا فكذلك هاهنا قَالَ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ مَفْعُولٌ مَفْهُومٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ لَا عِلْمَ لَهُ بِكَذَا، دُونَ قَوْلِهِ فُلَانٌ لَا عِلْمَ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ فُلَانٌ: لَا يَنْفَعُ زَيْدًا وَلَا يَضُرُّهُ، دُونَ قَوْلِهِ: فُلَانٌ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
__________
(1) في الطبعة الأميرية «بل قد يوثب» وما أثبته الأقرب إلى المعنى والأظهر إن شاء الله.(25/126)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
[سورة لقمان (31) : آية 26]
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
ذَكَرَ بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَا فِيهِمَا وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّ مَا في السموات الْمَخْلُوقَةِ مَخْلُوقٌ وَإِضَافَةُ خَلْقِهِ إِلَى مَنْ مِنْهُ خلق السموات وَالْأَرْضِ لَازِمٌ عَقْلًا لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَقَعُ وَلَا يُوجَدُ إِلَّا بِوَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَمَا يَقُولُهُ غَيْرُهُمْ، وَكَيْفَمَا فُرِضَ فَكُلُّهُ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ سَبَبَ السَّبَبِ سَبَبٌ، وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ أَرْضًا وَحَصَلَ مِنْهَا شَيْءٌ مَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَالِكِ الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ كل ما في السموات والأرض حاصل فيهما ومنهما فهو لمالك السموات وَالْأَرْضِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ وَفِيهَا مَنَافِعُ فَهِيَ لَكُمْ خَلَقَهَا فَهُوَ غَنِيٌّ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ حُمَيْدٌ مَشْكُورٌ لِدَفْعِهِ حَوَائِجَكُمْ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَلَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ افْتَرَقَ الْمُكَلَّفُونَ فَرِيقَيْنِ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، وَالْكَافِرُ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ حَمْدِ الْحَامِدِينَ فَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ بِسَبَبِ كُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَحَمِيدٌ فِي نَفْسِهِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ إِصَابَةُ الْمُؤْمِنِينَ وتكمل بحمده الحامدون وثالثها: هو أن السموات وَمَا فِيهَا وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهَا إِذَا كَانَتْ لِلَّهِ وَمَخْلُوقَةً لَهُ فَالْكُلُّ مُحْتَاجُونَ فَلَا غَنِيَّ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ وَكُلٌّ مُحْتَاجٌ فَهُوَ حَامِدٌ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مَنْ يَدْفَعُ حَاجَتَهُ فَلَا يَكُونُ الْحَمِيدُ الْمُطْلَقُ إِلَّا الْغَنِيَّ الْمُطْلَقَ فَهُوَ الْحَمِيدُ، وَعَلَى هَذَا [يَكُونُ] الْحَمِيدُ بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، وَاللَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَمِيدُ لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ إِلَّا الْوَاصِفَ، أَيْ وَصَفَ نَفْسَهُ أَوْ عِبَادَهُ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَالْعَبْدُ إِذَا قِيلَ لَهُ حَامِدٌ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ كَوْنُهُ عابدا شاكرا له. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
لَمَّا قَالَ تَعَالَى: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ ذَلِكَ موهما لتناهي ملكه لانحصار ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فِيهِمَا، وَحُكْمُ الْعَقْلِ الصَّرِيحُ بِتَنَاهِيهِمَا بَيَّنَ أَنَّ فِي قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ عَجَائِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَيُكْتَبُ بِهَا وَالْأَبْحُرُ مِدَادٌ لَا تَفْنَى عَجَائِبُ صُنْعِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْكَلِمَةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْعَجِيبَةِ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعَجَائِبَ بقوله كن وكن كَلِمَةٌ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ جَائِزٌ. يَقُولُ الشُّجَاعُ لِمَنْ يُبَارِزُهُ أَنَا مَوْتُكَ، وَيُقَالُ لِلدَّوَاءِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ/ هَذَا شِفَاؤُكَ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَسِيحَ كَلِمَةً لِأَنَّهُ كَانَ أَمْرًا عَجِيبًا وَصُنْعًا غَرِيبًا لِوُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا اللَّهُ ذَكَرَ كُلَّ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَقَالَ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا قَطْرَةً مِنْ بِحَارٍ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاحِدٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّكَ تَقُولُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَتَقُولُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] فَنَزَلَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَعُلُومِهِ قَلِيلٌ، وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا بِأَنَّ مَا يُورِدُهُ مُحَمَّدٌ سَيَنْفَدُ، فَقَالَ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ لَا يَنْفَدُ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ يُنَافِي مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلَامُ، فَنَقُولُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ اختلاف(25/127)
الْأَقْوَالِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُ إِذَا صَلَحَ جَوَابًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا وَهِيَ مُتَبَايِنَةُ عُلِمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ وَمَا ذَكَرْنَا لَا يُنَافِي هَذَا، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَجِيبٌ مُعْجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ عَجَائِبَ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا دَخَلَ فِيهَا كَلَامُهُ، لَا يُقَالُ إِنَّكَ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مَخْلُوقًا، لِأَنَّا نَقُولُ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْحَرْفُ وَالتَّرْكِيبُ وَهُوَ عَجِيبٌ، وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ نَازِلَةً عَلَى تَرْتِيبِ غَيْرِ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ كُتِبَ كَذَلِكَ، وَأَمْرُ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ سُنَنِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ فِيهَا لَطَائِفُ الْأُولَى: قَالَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَحَّدَ الشَّجَرَةَ وَجَمَعَ الْأَقْلَامَ وَلَمْ يَقُلْ وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْجَارِ أَقْلَامٌ وَلَا قَالَ وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ قَلَمٌ إِشَارَةً إِلَى التَّكْثِيرِ، يَعْنِي وَلَوْ أَنَّ بِعَدَدِ كُلِّ شَجَرَةٍ أَقْلَامًا الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ تَعْرِيفُ الْبَحْرِ بِاللَّامِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَكُلُّ بَحْرٍ مِدَادٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ إِشَارَةٌ إِلَى بِحَارٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ، يَعْنِي لَوْ مُدَّتِ الْبِحَارُ الْمَوْجُودَةُ بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ أُخَرَ وَقَوْلُهُ: سَبْعَةُ لَيْسَ لِانْحِصَارِهَا فِي سَبْعَةٍ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَدَدِ وَالْكَثْرَةِ وَلَوْ بِأَلْفِ بَحْرٍ، وَالسَّبْعَةُ خُصِّصَتْ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْدَادِ، لِأَنَّهَا عَدَدٌ كَثِيرٌ يَحْصُرُ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْعَادَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، لِأَنَّ الْمَكَانَ فِيهِ الْأَجْسَامُ وَالزَّمَانَ فِيهِ الْأَفْعَالُ، لَكِنَّ الْمَكَانَ مُنْحَصِرٌ فِي سَبْعَةِ أَقَالِيمَ وَالزَّمَانَ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِأَنَّ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ سَبْعَةٌ، وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا أُمُورًا، فَصَارَتِ السَّبْعَةُ كَالْعَدَدِ الْحَاصِرِ لِلْكَثْرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْعَادَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ فِي كُلِّ كَثِيرٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْآحَادَ إِلَى الْعَشَرَةِ وَهِيَ الْعِقْدُ الْأَوَّلُ وَمَا بَعْدَهُ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآحَادِ مَرَّةً أُخْرَى فَيُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَا عَشَرَ، ثُمَّ الْمِئَاتُ مِنَ الْعَشَرَاتِ وَالْأُلُوفُ مِنَ الْمِئَاتِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ أَقَلُّ مَا يَلْتَئِمُ مِنْهُ أَكْثَرُ الْمَعْدُودَاتِ هُوَ الثَّلَاثَةُ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى طَرَفَيْنِ مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى وَوَسَطٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ هُوَ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ، فَإِذَا كَانَتِ الثَّلَاثَةُ هُوَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مِنَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هُوَ الْعَدَدُ الْأَصْلِيُّ تَبْقَى/ السَّبْعَةُ الْقِسْمَ الْأَكْثَرَ، فَإِذَا أُرِيدَ بَيَانُ الْكَثْرَةِ ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَعْدُودَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ التَّسْبِيحَاتِ فِي الِانْتِقَالَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَةٌ، وَالْمِرَارُ فِي الْوُضُوءِ ثَلَاثَةٌ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ اكْتِفَاءً بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ الْأَكْلِ وَكَثْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ السَّبْعَةِ بِخُصُوصِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَقَوْلُنَا لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ إِشَارَةٌ إِلَى زِيَادَتِهَا فَإِنَّ فِيهَا الْحُسْنَى وَزِيَادَةً فَلَهَا أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ وَزَائِدَةٌ عَلَى كَثْرَةِ غَيْرِهَا، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّبْعَةِ أَنَّ الْعَرَبَ عِنْدَ الثَّامِنِ يَزِيدُونَ وَاوًا، يَقُولُ الْفَرَّاءُ إِنَّهَا وَاوُ الثَّمَانِيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الْعَدَدَ بِالسَّبْعَةِ يَتِمُّ فِي الْعُرْفِ، ثُمَّ بِالثَّامِنِ اسْتِئْنَافٌ جَدِيدٌ اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ فِي الْأَقْلَامِ الْمَدَدَ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَجَرَةٍ مَوْجُودَةٍ أَقْلَامٌ فَتَكُونُ الْأَقْلَامُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمَوْجُودَةِ وَقَوْلُهُ في البحر: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ... سَبْعَةُ أَبْحُرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبَحْرَ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْجُودِ لَاسْتَوَى الْقَلَمُ وَالْبَحْرُ فِي الْمَعْنَى وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ النُّقْصَانَ بِالْكِتَابَةِ يَلْحَقُ الْمِدَادَ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ هُوَ النَّافِدُ وَالْقَلَمُ الْوَاحِدُ يُمْكِنُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فَذَكَرَ الْمَدَدَ فِي الْبَحْرِ الَّذِي هُوَ كَالْمِدَادِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لما ذكر أن ملكوته كثيرا أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: إِنَّهُ عَزِيزٌ(25/128)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
حَكِيمٌ
أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ فَيَكُونُ لَهُ مَقْدُورَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَإِلَّا لَانْتَهَتِ الْقُدْرَةُ إِلَى حَيْثُ لَا تَصْلُحُ لِلْإِيجَادِ وَهُوَ حَكِيمٌ كَامِلُ الْعِلْمِ فَفِي عِلْمِهِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَتَحَقَّقَ أَنَّ الْبَحْرَ لَوْ كَانَ مِدَادًا لَمَا نَفِدَ مَا فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ ذَكَرَ ما يبطل «1» استبعادهم للمعشر وَقَالَ: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ وَمَنْ لَا نَفَادَ لِكَلِمَاتِهِ يَقُولُ لِلْمَوْتَى كُونُوا فَيَكُونُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فَإِذًا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ وَمُحِيطًا بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ يُوجِبُ ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ التَّامَّ وَالِاحْتِرَازَ الكامل. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 29]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَجْهَ التَّرْتِيبِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [لقمان: 20] عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ ذَكَرَ مِنْهَا بَعْضَ مَا هُوَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَقَوْلُهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ إشارة إلى ما في السموات، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ [لُقْمَانَ: 31] إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ وَجْهَهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْبَعْثَ وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الْجَاثِيَةِ: 24] وَالدَّهْرُ هُوَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ الَّتِي تَنْسُبُونَ إِلَيْهَا الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ هِيَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ إِنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مُسَيَّرٌ الشَّمْسُ تَارَةً تَكُونُ الْقَوْسَ «2» الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ اللَّيْلُ أَقْصَرَ وَالنَّهَارُ أَطْوَلَ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعَكْسِ وَتَارَةً يَتَسَاوَيَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فَقَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا فِي أَوَائِلِهَا مِنَ اللَّهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَالْآجَالُ إِنْ كَانَتْ بِالْمَدَدِ وَالْمَدَدُ بِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ فَسَيْرُ الْكَوَاكِبِ لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي زَمَانِ النَّهَارِ أَيْ يَجْعَلُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّهَارُ اللَّيْلَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ إِذَا كَانَ مَثَلًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً ثُمَّ يَطُولُ يَصِيرُ اللَّيْلُ مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِيلَاجُ زَمَانِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ أَيْ يَجْعَلُ زَمَانَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ إِذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً إِذَا قَصَّرَ صَارَ زَمَانُ اللَّيْلِ مَوْجُودًا فِي النَّهَارِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا لِأَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ مُحَالُ الْوُجُودِ فَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِضْمَارِ لَا بُدَّ مِنْهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَفْعَالٌ وَالْأَفْعَالُ فِي الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّ الزَّمَانَ ظَرْفٌ فَقَوْلُنَا اللَّيْلُ فِي زَمَانِ النَّهَارِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِنَا زَمَانُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَجْعَلُ الظَّرْفَ مَظْرُوفًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أَيْ يُوجِدُهُ فِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ النَّهَارُ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ إِيجَادَ اللَّيْلِ عَلَى إِيجَادِ النَّهَارِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى:
__________
(1) في النسخة الأميرية «يباطل» وهو تصحيف.
(2) في النسخة الأميرية «تكون النفوس» وهي لا معنى لها ولعل ما ذكرته هو الصواب.(25/129)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: 12] وَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] وَقَوْلِهِ:
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الجاثية: 5] وَمِنْ جِنْسِهِ قَوْلُهُ: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الْمُلْكِ: 2] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَةَ قَدْ يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا عَدَمُ النُّورِ وَاللَّيْلُ عَدَمُ النُّورِ وَاللَّيْلُ عَدَمُ النَّهَارِ وَالْحَيَاةُ عَدَمُ الْمَوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ نَهَارٌ وَلَا نُورٌ وَلَا حَيَاةٌ لِمُمْكِنٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كَانَ فِيهِ مَوْتٌ أَوْ ظُلْمَةٌ أَوْ لَيْلٌ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ فَالْعَمَى وَالصَّمَمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَدَمِ الْبَصَرِ وَعَدَمِ السَّمْعِ إِذِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ لَا بَصَرَ لَهُمَا وَلَا سَمْعَ وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا إِنَّهُ أَصَمُّ أَوْ أَعْمَى إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعَمَى وَالصَّمَمُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اقْتِضَاءٌ لِخِلَافِهِمَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَمَا يَكُونُ فِيهِ اقْتِضَاءُ شَيْءٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ/ لَا تَطْلُبُ النَّفْسُ لَهُ سَبَبًا، لِأَنَّ مَنْ يَرَى الْمُتَعَيِّشَ فِي السُّوقِ، لَا يَقُولُ لِمَ دَخَلَ السُّوقَ وَمَا يَثْبُتُ «1» عَلَى خِلَافِ الْمُقْتَضَى تَطْلُبُ النَّفْسُ لَهُ سَبَبًا، كَمَنْ يَرَى مَلِكًا فِي السُّوقِ يَقُولُ لِمَ دَخَلَ، فَإِذَنْ سَبَبُ الْعَمَى وَالصَّمَمِ يَطْلُبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَيَقُولُ لِمَ صَارَ فُلَانٌ أَعْمَى وَلَا يَقُولُ لِمَ صَارَ فُلَانٌ بَصِيرًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَطْلُبُ النَّفْسُ سَبَبَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ الَّذِي هُوَ عَلَى وِزَانِ الْعَمَى وَالظُّلْمَةِ وَالْمَوْتِ لِكَوْنِ كل واحد طلبا سَبَبَهُ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْأَمْرَ الْآخَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: يُولِجُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ سَخَّرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ أَمْرٌ يَتَجَدَّدُ كُلَّ فَصْلٍ بَلْ كُلَّ يَوْمٍ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الشَّمْسَ عَلَى الْقَمَرِ مَعَ تَقَدُّمِ اللَّيْلِ الَّذِي فِيهِ سُلْطَانُ الْقَمَرِ عَلَى النَّهَارِ الَّذِي فِيهِ سُلْطَانُ الشَّمْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ كَانَ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ تَطْلُبُ سَبَبَهُ أَكْثَرَ مِمَّا تَطْلُبُ سَبَبَ النَّهَارِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَمَّا كَانَتْ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ كَانَتْ أَعْجَبَ، وَالنَّفْسُ تَطْلُبُ سَبَبَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ أَكْثَرَ مِمَّا تَطْلُبُ سَبَبَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَجِيبًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا تَعَلُّقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بِمَا تَقَدَّمَ؟ نَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَحَلَّ الْأَفْعَالِ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا بِتَصَرُّفِ اللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَ الْخِطَابَ مَعَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ غَيْرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا فَائِدَةَ لِلْخِطَابِ مَعَهُمْ لِإِصْرَارِهِمْ، وَمَنْ هُوَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مُؤْتَمِرُونَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَاظِرُونَ إِلَيْهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعْظُ وَالْوَاعِظُ يُخَاطِبُ وَلَا يُعَيِّنُ أَحَدًا فَيَقُولُ لِجَمْعٍ عَظِيمٍ: يَا مِسْكِينُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرُكَ، فَمَنْ نَصِيرُكَ، وَلِمَاذَا تَقْصِيرُكَ. فَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ يَكُونُ خِطَابًا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ أَيْ يَا أَيُّهَا الْغَافِلُ أَلَمْ تر هذا الأمر الواضح. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 30]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَوْصَافَ الْكَمَالِ بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان: 28] وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله:
__________
(1) في النسخة الأميرية «وما ينبت» ولعل ما ذكرته هو الأولى.(25/130)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] وبقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [لقمان: 29] وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: هُوَ الْغَنِيُّ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَكُونُ عَرَضًا مُحْتَاجًا إِلَى الْجَوْهَرِ فِي الْقَوَامِ، وَلَا جِسْمًا مُحْتَاجًا إِلَى الْحَيِّزِ فِي الدَّوَامِ، وَلَا شَيْئًا مِنَ/ الْمُمْكِنَاتِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الْمُوجِدِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّةِ صَرِيحًا وَتَضَمُّنًا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ فِي ضِمْنِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أَيْ ذَلِكَ الِاتِّصَافُ بِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالْحَقُّ هُوَ الثُّبُوتُ وَالثَّابِتُ اللَّهُ وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ وَهُوَ الثُّبُوتُ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ وُجُودَهُ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ فَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَلَهُ زَوَالٌ نَظَرًا إِلَيْهِ وَاللَّهُ لَهُ الثُّبُوتُ وَالْوُجُودُ نَظَرًا إِلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الزَّائِلُ يُقَالُ بَطَلَ ظِلُّهُ إِذَا زَالَ وَإِذَا كَانَ لَهُ الثُّبُوتُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَكُونُ تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا اللَّهُ تَامٌّ وَفَوْقَ التَّمَامِ وَجَعَلُوا الْأَشْيَاءَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ نَاقِصٌ وَمُكْتَفٍ وَتَامٌّ وَفَوْقَ التَّمَامِ (فَالنَّاقِصُ) مَا لَيْسَ لَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى (وَالْمُكْتَفِي) وَهُوَ الَّذِي أُعْطِيَ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ فِي وَقْتِهِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ مِنَ الْآلَاتِ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ فِي وَقْتِهَا لَكِنَّهَا فِي التَّحَلُّلِ وَالزَّوَالِ (وَالتَّامُّ) مَا حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا جَازَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ لَهُمْ دَرَجَاتٌ لَا تَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ اللَّهُ مِنْهَا لَهُمْ شَيْئًا كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ دَنَوْتُ أُنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتَ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصَّافَّاتِ: 164] (وَفَوْقَ التَّمَامِ) هُوَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مَا جَازَ لَهُ وَحَصَلَ لِمَا عَدَاهُ مَا جَازَ لَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاصِلٌ لَهُ كُلَّ مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، فَهُوَ تَامٌّ وَحَصَلَ لِغَيْرِهِ كُلُّ مَا جَازَ لَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ فَهُوَ فَوْقُ التَّمَامِ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: هُوَ الْحَقُّ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمَامِ وَقَوْلُهُ:
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَيْ فَوْقَ التَّمَامِ وَقَوْلُهُ: هُوَ الْعَلِيُّ أَيْ فِي صِفَاتِهِ وَقَوْلُهُ: الْكَبِيرُ أَيْ فِي ذَاتِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فِي مَكَانٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ جَسَدًا مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ فَيُمْكِنُ فَرْضُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَيَكُونُ صَغِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْرُوضِ لَكِنَّهُ كَبِيرٌ من مطلقا أكبر من كل ما يتصور.
[سورة لقمان (31) : آية 31]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ لَمَّا ذَكَرَ آيَةً سَمَاوِيَّةً بِقَوْلِهِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [لقمان: 29] وَأَشَارَ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ ذَكَرَ آيَةً أَرْضِيَّةً، وَأَشَارَ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ فَقَوْلُهُ: الْفُلْكَ تَجْرِي إشارة إلى المسبب وقوله: بِنِعْمَتِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبَبِ أَيْ إِلَى الرِّيحِ الَّتِي هِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يَعْنِي يُرِيَكُمْ بِإِجْرَائِهَا بِنِعْمَتِهِ مِنْ آياتِهِ أَيْ بَعْضِ آيَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ/ صَبَّارٍ شَكُورٍ صَبَّارٌ فِي الشِّدَّةِ شَكُورٌ فِي الرَّخَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَذَكِّرٌ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ عِنْدَ النِّعَمِ وَالْآلَاءِ فَيَصْبِرُ إِذَا أَصَابَتْهُ نِقْمَةٌ وَيَشْكُرُ إِذَا أَتَتْهُ نِعْمَةٌ
وَوَرَدَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ»
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ أَفْعَالٌ وَتُرُوكٌ وَالتُّرُوكُ صَبْرٌ عَنِ الْمَأْلُوفِ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الصَّوْمُ صَبْرٌ وَالْأَفْعَالُ شُكْرٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ» .
ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 32]
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(25/131)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ ذَكَرَ أَنَّ الْكُلَّ مُعْتَرِفُونَ بِهِ غَيْرَ أَنَّ الْبَصِيرَ يُدْرِكُهُ أَوَّلًا وَمَنْ فِي بَصَرِهِ ضَعْفٌ لَا يُدْرِكُهُ أَوَّلًا، فَإِذَا غَشِيَهُ مَوْجٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَدَعَاهُ مُخْلِصًا أَيْ يَتْرُكُ كُلَّ مَنْ عَدَاهُ وَيَنْسَى جَمِيعَ مَنْ سِوَاهُ، فَإِذَا نَجَّاهُ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ قَدْ بَقِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَقَدْ يَعُودُ إِلَى الشِّرْكِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَوْجٌ كَالظُّلَلِ وَحَدَّ الْمَوْجَ وَجَمَعَ الظُّلَلَ، وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ كَالْجِبَالِ، وَقِيلَ كَالسَّحَابِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ الْمَوْجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمَوْجُ الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ يَرَى فِيهِ طُلُوعٌ وَنُزُولٌ وَإِذَا نَظَرْتَ فِي الْجَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ تَبَيَّنَ لَكَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْجِبَالِ الْمُتَلَاصِقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقال هاهنا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فَنَقُولُ لما ذكر هاهنا أَمْرًا عَظِيمًا وَهُوَ الْمَوْجُ الَّذِي كَالْجِبَالِ بَقِيَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ فَخَرَجَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أَيْ فِي الْكُفْرِ وَهُوَ الَّذِي انْزَجَرَ بَعْضَ الِانْزِجَارِ، أَوْ مُقْتَصِدٌ فِي الْإِخْلَاصِ فَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَهُنَاكَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُعَايَنَةً مِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَذَكَرَ إِشْرَاكَهُمْ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَثَرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا فِي مُقَابَلَةِ قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [لقمان: 31] يَعْنِي يَعْتَرِفُ بِهَا الصَّبَّارُ الشَّكُورُ، وَيَجْحَدُهَا الْخَتَّارُ الْكَفُورُ وَالصَّبَّارُ فِي مُوَازَنَةِ الْخَتَّارِ لَفْظًا، وَمَعْنًى الكفور فِي مُوَازَنَةِ الشَّكُورِ، أَمَّا لَفْظًا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْخَتَّارَ هُوَ الْغَدَّارُ الْكَثِيرُ الْغَدْرِ أَوِ الشَّدِيدُ الْغَدْرِ، وَالْغَدْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الصَّبُورَ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْهَدُ مَعَ أَحَدٍ لَا يُعْهَدُ مِنْهُ الْإِضْرَارُ، فَإِنَّهُ يَصْبِرُ وَيُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ وَأَمَّا الْغَدَّارُ فَيَعْهَدُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى/ الْعَهْدِ فَيَنْقُضُهُ، وَأَمَّا أَنَّ الْكَفُورَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّكُورِ معنى فظاهر. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 33]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى آخِرِهَا وَعَظَ بِالتَّقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا أَوْجَبَ التَّقْوَى الْبَالِغَةَ فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اثْنَيْنِ لَا يَخَافُ أَحَدُهُمَا مِثْلَ مَا يَخَافُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِ أَحَدِهِمَا لَا غَيْرُ، ثُمَّ أَكَّدَ الْخَوْفَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَحْكُمُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ وَاحِدًا وَيَعْهَدُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَسْتَعْرِضُ عِبَادَهُ، لَا يَخَافُ مِنْهُ مِثْلَ مَا يَخَافُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ يَوْمَ اسْتِعْرَاضٍ وَاسْتِكْشَافٍ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْرِمَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي حَقِّهِ وَيَقْضِي مَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ بِرِفْدٍ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَخَافُ مِثْلَ مَا يَخَافُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَخْصَيْنِ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَهُمَا الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ لِيَسْتَدِلَّ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَذِكْرُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ جَمِيعًا فِيهِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنْ مِنَ الْأُمُورِ مَا يُبَادِرُ الْأَبُ إِلَى التَّحَمُّلِ عَنِ الْوَلَدِ كَدَفْعِ الْمَالِ وَتَحَمُّلِ الْآلَامِ وَالْوَلَدُ لَا يُبَادِرُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَالِدِ مِثْلَ مَا يُبَادِرُ الْوَالِدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَلَدِ، وَمِنْهَا مَا يُبَادِرُ الْوَلَدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَالِدِ وَلَا يُبَادِرُ الْوَالِدُ إِلَى تَحَمُّلِهِ عَنِ الْوَلَدِ كَالْإِهَانَةِ، فَإِنَّ مَنْ يُرِيدُ إِحْضَارَ وَالِدِ أَحَدٍ عِنْدَ وَالٍ أَوْ قَاضٍ يَهُونُ عَلَى الِابْنِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِهَانَةَ عَنْ(25/132)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
وَالِدِهِ وَيَحْضُرَ هُوَ بَدَلَهُ، فَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْإِيلَامِ يَهُونُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِيلَامَ عَنِ ابْنِهِ وَيَتَحَمَّلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَوْلُهُ: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ فِي دَفْعِ الْآلَامِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً فِي دَفْعِ الْإِهَانَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَجْزِي وَقَوْلُهُ: وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ (لَطِيفَةٌ أُخْرَى) وَهِيَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ يَتَأَتَّى وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ يَخِيطُ شَيْئًا يُقَالُ إِنَّهُ يَخِيطُ وَلَا يُقَالُ هُوَ خَيَّاطٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَحِيكُ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَنْعَتَهُ يُقَالُ هُوَ يَحِيكُ وَلَا يُقَالُ هُوَ حَائِكٌ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ الِابْنُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ جَازِيًا عَنْ وَالِدِهِ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْوَالِدُ يَجْزِي لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّفَقَةِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْوَالِدِ لَا يَجْزِي وَقَالَ فِي الْوَلَدِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِلْيَوْمِ يَعْنِي/ اخْشَوْا يَوْمًا هَذَا شَأْنُهُ وَهُوَ كَائِنٌ لِوَعْدِ اللَّهِ بِهِ وَوَعْدُهُ حَقٌّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَحْقِيقًا لِعَدَمِ الْجَزَاءِ يَعْنِي: لَا يَجْزِي والد عن ولده لأن الله وعد بألا تزر وازرة وزر أخرى وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ، فَلَا يَجْزِي وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَظْهَرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يَعْنِي إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا فَإِنَّهَا زَائِلَةٌ لِوُقُوعِ [ذَلِكَ] الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ بِالْوَعْدِ الْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يَعْنِي الدُّنْيَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَغُرَّكُمْ بِنَفْسِهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَغْتَرُّوا [بِهَا] وَإِنْ حَمَلَكُمْ عَلَى مَحَبَّتِهَا غَارٌّ مِنْ نَفْسٍ أَمَّارَةٍ أَوْ شَيْطَانٍ فَكَانَ النَّاسُ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ مَنْ تَدْعُوهُ الدُّنْيَا إِلَى نَفْسِهَا فَيَمِيلُ إِلَيْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ الشَّيْطَانُ وَيُزَيِّنُ فِي عَيْنِهِ الدُّنْيَا وَيُؤَمِّلُهُ وَيَقُولُ إِنَّكَ تُحَصِّلُ بِهَا الْآخِرَةَ أَوْ تَلْتَذُّ بِهَا ثُمَّ تَتُوبُ فَتَجْتَمِعُ لَكَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَنَهَاهُمْ عَنِ الْأَمْرَيْنِ وَقَالَ كُونُوا قِسْمًا ثَالِثًا، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا إِلَى من يحسن الدنيا في الأعين. ثم قال تعالى:
[سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى عِلْمَ أُمُورٍ خَمْسَةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ الَّذِي كَانَ فِي كَثِيبِ رَمْلٍ فِي زَمَانِ الطُّوفَانِ وَنَقَلَهُ الرِّيحُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ كَمْ مَرَّةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أين هو ولا يعلمه غيره، ولأن يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوجَدُ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِينَ ذَرَّةٌ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَسْلُكُهَا أَحَدٌ وَلَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَلَا وَجْهَ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِيهِ أَنْ نَقُولَ لَمَّا قَالَ الله: اخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَائِنٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ فَمَتَى يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ فأجيب بأن هذا العلم ما لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَكِنْ هُوَ كَائِنٌ، ثم ذكر الدليلين الذين ذَكَرْنَاهُمَا مِرَارًا عَلَى الْبَعْثِ أَحَدُهُمَا: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم: 49، 50] وقال تعالى:
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19] وقال هاهنا يَا أَيُّهَا السَّائِلُ إِنَّكَ لَا تَعْلَمُ وَقْتَهَا وَلَكِنَّهَا كَائِنَةٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ حَيْثُ قَالَ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [الشورى: 28](25/133)
وقال: وَيُحْيِ الْأَرْضَ [الروم: 19] / وَثَانِيهِمَا: الْخَلْقُ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرُّومِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [الْعَنْكَبُوتِ: 20] إِلَى غير ذلك فقال هاهنا وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّاعَةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْلَمُهَا لَكِنَّهَا كَائِنَةٌ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا، وَكَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْحَامِ كَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ مِنَ الرُّخَامِ، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الطَّالِبِ عِلْمَهُ: يَا أَيُّهَا السَّائِلُ إِنَّكَ تَسْأَلُ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، فَلَكَ أَشْيَاءُ أَهَمُّ مِنْهَا لَا تَعْلَمُهَا، فَإِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مَعَاشَكَ وَمَعَادَكَ، وَلَا تَعْلَمُ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا مَعَ أَنَّهُ فِعْلُكَ وَزَمَانُكَ، وَلَا تَعْلَمُ أَيْنَ تَمُوتُ مَعَ أَنَّهُ شُغْلُكَ وَمَكَانُكَ، فَكَيْفَ تَعْلَمُ قِيَامَ السَّاعَةِ مَتَى تَكُونُ، فَاللَّهُ مَا أَعْلَمَكَ كَسْبَ غَدِكَ مَعَ أَنَّ لَكَ فِيهِ فَوَائِدَ تُبْنَى عَلَيْهَا الْأُمُورُ مِنْ يَوْمِكَ، وَلَا أَعْلَمَكَ أَيْنَ تَمُوتُ مَعَ أن لك فيه أغراضا تهيء أُمُورَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا لَمْ يُعْلِمْكَ لِكَيْ تَكُونَ فِي وَقْتٍ بِسَبَبِ الرِّزْقِ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَلَا أَعْلَمَكَ الْأَرْضَ الَّتِي تَمُوتُ فِيهَا كَيْ لَا تَأْمَنَ الْمَوْتَ وَأَنْتَ فِي غَيْرِهَا، فَإِذَا لَمْ يُعْلِمْكَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَيْفَ يُعْلِمُكَ مَا لَا حَاجَةَ لَكَ إِلَيْهِ، وَهِيَ السَّاعَةُ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهَا تَكُونُ وَقَدْ أُعْلِمْتَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ لَمَّا خَصَّصَ أَوَّلًا عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ، بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ذَكَرَ أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا، بَلْ هُوَ عَلِيمٌ مُطْلَقًا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ عِلْمُهُ عِلْمًا بِظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ فَحَسْبُ، بَلْ خَبِيرٌ عِلْمُهُ وَاصِلٌ إِلَى بَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ، وَاللَّهُ أعلم بالصواب.(25/134)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
سُورَةُ السَّجْدَةِ
وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَضَاجِعِ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً وَقِيلَ ثَلَاثُونَ آية بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَلِيلَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَذَكَرَ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَشْرُ وَخَتَمَ السُّورَةَ بِهِمَا بَدَأَ بِبَيَانِ الرِّسَالَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي قَوْلِهِ: الم وَفِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وغيرها غير أن هاهنا قَالَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لُقْمَانَ: 3] وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ [2] : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَرَى كِتَابًا عِنْدَ غَيْرِهِ، فَأَوَّلُ مَا تَصِيرُ النَّفْسُ طَالِبَةً تَطْلُبُ مَا فِي الْكِتَابِ فَيَقُولُ مَا هَذَا الْكِتَابُ؟ فَإِذَا قِيلَ هَذَا فِقْهٌ أَوْ تَفْسِيرٌ فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ تَصْنِيفُ مَنْ هُوَ؟ وَلَا يُقَالُ أَوَّلًا: هَذَا الْكِتَابُ تَصْنِيفُ مَنْ؟ ثُمَّ يقول في ماذا هُوَ؟ إِذَا عَلِمَ هَذَا فَقَالَ أَوَّلًا هَذَا الكتاب هدى ورحمة، ثم قال هاهنا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ كِتَابَ مَنْ يَكُونُ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ فِيهِ عَجَائِبُ الْعَالَمِينَ فَتَدْعُو النَّفْسُ إِلَى مطالعته. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 3]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
يَعْنِي أَتَعْتَرِفُونَ بِهِ أَمْ تَقُولُونَ هُوَ مُفْتَرًى، ثُمَّ أَجَابَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ رَبِّهِ ثُمَّ بَيَّنَ فَائِدَةَ التَّنْزِيلِ وَهُوَ الْإِنْذَارُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ قَالَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مَعَ أَنَّ النُّذُرَ سَبَقُوهُ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَعْقُولٌ وَالْآخَرُ مَنْقُولٌ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ أُمَّةً أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ وَجَمِيعُ/ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَوْلَادِ أَعْمَامِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ قَوْمًا مِنْ وَقْتِ آدَمَ إِلَى زَمَانِ مُحَمَّدٍ بِلَا دِينٍ وَلَا شَرْعٍ؟ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ بِأَنَّهُمْ مَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِخُصُوصِهِمْ يَعْنِي ذَلِكَ الْقَرْنَ(25/135)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْعَرَبِ بَلْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَرْنُ قَدْ أَتَاهُمْ رَسُولٌ وَإِنَّمَا أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبُ أَتَى الرُّسُلُ آبَاءَهُمْ كَيْفَ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ آبَاءَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا كُفَّارًا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ أَوْعَدَهُمْ وَأَوْعَدَ آبَاءَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ:
15] وَأَمَّا الْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ عَصْرٍ إِذَا ضَلُّوا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ يَلْطُفُ بِعِبَادِهِ وَيُرْسِلُ رَسُولًا، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا أَرَادَ طُهْرَهُمْ بِإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ أَرَادَ طُهْرَ وَجْهِ الْأَرْضِ بِإِهْلَاكِهِمْ، ثُمَّ أَهْلُ الْعَصْرِ ضَلُّوا بَعْدَ الرُّسُلِ حتى لم يبق على وجه الأرض عالم هاد ينتفع بهدايته قوم وبقوا على ذلك سنين متطاولة فَلَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ أَيْ بَعْدَ الضَّلَالِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَقَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إِنْذَارُهُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ لَكِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ أَتَاهُمْ نَذِيرٌ فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ مُنْزَلًا إِلَى الرَّسُولِ لِيُنْذِرَ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ نَقُولُ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ لَكِنَّهُ وَافَقَ غَيْرَهُ فِي أَنَّ التَّخْصِيصَ إِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ نَفْيِ مَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ نَفْيَ مَا عَدَاهُ، وَهَاهُنَا وُجِدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 214] وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُنْذِرُ غَيْرَهُمْ أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِنْذَارِ غَيْرِهِمْ وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ إِنْذَارَهُمْ كَانَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يُنْذَرُوا إِلَّا بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمُ الرِّسَالَةَ فَكَانُوا أَوْلَى بِالذِّكْرِ فَوَقَعَ التَّخْصِيصُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا قَدْ ضَلُّوا وَلَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ ضَلَالِهِمْ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا إِلَى الْكُلِّ عَلَى دَرَجَةٍ سَوَاءٍ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ حُسْنُ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يَعْنِي تُنْذِرُهُمْ رَاجِيًا أنت اهتداءهم. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 4]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ] لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ مَا عَلَى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي/ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِي خَلَقَ، يَعْنِي اللَّهُ هُوَ الَّذِي خلق السموات وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَلَا إِلَهَ إِلَّا وَاحِدٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِشَارَةٌ إِلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ في نظر الناظرين وذلك لأن السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذَاتٌ وَصِفَةٌ فَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ ذَاتَ السموات حَالَةٌ وَنَظَرًا إِلَى خَلْقِهِ صِفَاتِهَا أُخْرَى وَنَظَرًا إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ وَنَظَرًا إِلَى ذَوَاتِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِلَى صِفَاتِهَا كَذَلِكَ فَهِيَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى سِتَّةِ أَحْوَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْخَلْقِ رَآهُ فِعْلًا وَالْفِعْلُ ظَرْفُهُ الزَّمَانُ وَالْأَيَّامُ أشهر الأزمنة، وإلا فقبل السموات لَمْ يَكُنْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ وَهَذَا مِثْلُ مَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ:
إِنَّ يَوْمًا وُلِدْتَ فِيهِ ... كَانَ يَوْمًا مُبَارَكًا
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وُلِدَ لَيْلًا وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ وِلَادَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ(25/136)
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ التَّعَرُّضِ إِلَى بَيَانِ الْمُرَادِ وَثَانِيهُمَا: التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَسْلَمُ وَإِلَى الْحِكْمَةِ أَقْرَبُ، أَمَّا أَنَّهُ أَسْلَمُ فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ أَنَا لَا أَتَعَرَّضُ إِلَى بَيَانِ هَذَا وَلَا أَعْرِفُ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا، لَا يَكُونُ حَالُهُ إِلَّا حَالَ مَنْ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُوبِ الْكَلَامِ أَوْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُصُولَ ثَلَاثَةٌ التَّوْحِيدُ وَالْقَوْلُ بِالْحَشْرِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّسُلِ لَكِنَّ الْحَشْرَ أَجْمَعْنَا وَاتَّفَقْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَاجِبٌ وَالْعِلْمُ بِتَفْصِيلِهِ أَنَّهُ مَتَى يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: 34] فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَجِبُ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَعَالِيهِ عَنْ وَصَمَاتِ الْإِمْكَانِ وَصِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ كَمَا هِيَ، وَصِفَةُ الِاسْتِوَاءِ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهَا فَمَنْ تَرَكَ التَّعَرُّضَ إِلَيْهِ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا، وَأَمَّا مَنْ يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ فَيَعْتَقِدُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَالْأَوَّلُ غَايَةُ مَا يَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَالثَّانِي يَكَادُ أَنْ يَقَعَ فِي أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا مُرَكَّبًا وَعَدَمُ الْعِلْمِ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ كَالسُّكُوتِ وَالْكَذِبِ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ السُّكُوتَ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحِكْمَةِ فَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُطَالِعُ كِتَابًا صَنَّفَهُ إِنْسَانٌ وَكَتَبَ لَهُ شَرْحًا وَالشَّارِحُ دُونَ الْمُصَنِّفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا أَتَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُورِدُ الْإِشْكَالَاتِ عَلَى الْمُصَنِّفِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَجِيءُ مَنْ يَنْصُرُ كَلَامَهُ وَيَقُولُ لَمْ يُرِدِ الْمُصَنِّفُ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ كَذَا وَكَذَا وَإِذَا كَانَ حَالُ الْكُتُبِ الْحَادِثَةِ الَّتِي تُكْتَبُ عَنْ عِلْمٍ قَاصِرٍ كَذَلِكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ حِكْمَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ جَاهِلٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَكَيْفَ وَلَوِ ادَّعَى عَالِمٌ أَنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ وَكُلَّ فَائِدَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ يُسْتَقْبَحُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِمَ كُلَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ ثُمَّ لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إِلَى/ وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ نَبِيِّهِ فَبَيَّنَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُعْلَمُ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ، لِلتَّشَابُهِ الْبَالِغِ الَّذِي فِيهِ، لَكِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَهُ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَنْفِيَ بَعْضَ مَا يَعْلَمُهُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، وَهَذَا لِأَنَّ قَائِلًا إِذَا قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ قُرْءِ فُلَانَةَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ مَوْتِ فُلَانَةَ وَلَا يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ سَفَرِ فُلَانَةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُنْحَصِرٌ في الطهر أو الحيض فكذلك هاهنا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي ذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَالْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: خَطَرٌ وَمَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ ظَاهِرُهُ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالِانْتِصَابُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ الْمَكَانِيُّ وَثَانِيهِمَا: مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ الِاسْتِيلَاءُ وَالْأَوَّلُ جَهْلٌ مَحْضٌ وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَهْلًا وَالْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِهِ جَهْلًا هُوَ بِدْعَةٌ وَكَادَ يَكُونُ كُفْرًا، وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ جَهْلًا فَلَيْسَ بِجَهْلٍ يُورِثُ بِدْعَةً، وَهَذَا كَمَا أَنَّ وَاحِدًا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ الْكُفَّارَ وَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَكُونُ جَهْلًا وَبِدْعَةً وَكُفْرًا، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَرْحَمُ زَيْدًا الَّذِي هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ لَا يَكُونُ بِدْعَةً، غَايَةُ مَا يَكُونُ أَنَّهُ اعْتِقَادٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى مُلْكِهِ، وَالْعَرْشُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمُلْكِ، يُقَالُ الْمَلِكُ قَعَدَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِالْبَلْدَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا وَهَذَا مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [الْمَائِدَةِ: 64] إِشَارَةٌ إِلَى الْبُخْلِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِأَنَّ عَلَى يَدِ اللَّهِ غُلًّا عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ ذَلِكَ لَكَانَ كَذِبًا جَلَّ كَلَامُ اللَّهِ عَنْهُ، ثُمَّ لِهَذَا فَضْلُ تَقْرِيرٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ عَلَى دَرَجَاتٍ، فَمَنْ يَمْلِكُ مَدِينَةً صَغِيرَةً أَوْ بِلَادًا يَسِيرَةً مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَجْلِسَ أَوَّلَ مَا يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ، وَمَنْ يَكُونُ سُلْطَانًا يَمْلِكُ الْبِلَادَ الشَّاسِعَةَ وَالدِّيَارَ الْوَاسِعَةَ وَتَكُونُ الْمُلُوكُ فِي خِدْمَتِهِ يَكُونُ لَهُ سَرِيرٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَقُدَّامَهُ كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ، فَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ
فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ(25/137)
عظمة المملكة، فلما كان ملك السموات وَالْأَرْضِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ، عَبَّرَ بِمَا يُنْبِئُ فِي الْعُرْفِ عَنِ الْعَظَمَةِ، وَمِمَّا يُنَبِّهُكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّا خَلَقْنا [الْإِنْسَانِ: 2] إِنَّا زَيَّنَّا [الصَّافَّاتِ: 6] نَحْنُ أَقْرَبُ [ق: 16] نَحْنُ نَزَّلْنَا [الْحِجْرِ: 9] أَيَظُنُّ أَوْ يَشُكُّ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ مِنَ الشَّرِيكِ وَهَلْ يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا، غَيْرَ أَنَّ الْعَظِيمَ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ وَاحِدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ فِي الْعُرْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَا سَرِيرٍ يَسْتَوِي عَلَيْهِ فَاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلْعَظَمَةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَقْهُورَ الْمَغْلُوبَ الْمَهْزُومَ يُقَالُ لَهُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ، أَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ صَارَ لَا مَكَانَ لَهُ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْجِسْمُ بِلَا مَكَانٍ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ إِلَهَهُ فِي مَكَانٍ كَيْفَ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْمَكَانِ؟ فَكَمَا يُقَالُ لِلْمَقْهُورِ الْهَارِبِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكَانٌ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ وَاجِبٌ لَهُ، يُقَالُ لِلْقَادِرِ الْقَاهِرِ هُوَ مُتَمَكِّنٌ وَلَهُ عَرْشٌ، وَإِنْ كَانَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمَكَانِ وَاجِبًا لَهُ، وَعَلَى هَذَا كَلِمَةُ ثُمَّ مَعْنَاهَا خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ، ثُمَّ الْقِصَّةُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْمُلْكِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ أَكْرَمَنِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ مِرَارًا، وَيَحْكِي عَنْهُ أَشْيَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُنِي وَلَا كُنْتُ فَعَلْتُ مَعَهُ مَا يُجَازِينِي/ بِهَذَا، فَنَقُولُ ثُمَّ لِلْحِكَايَةِ لَا لِلْمَحْكِيِّ الْوَجْهُ الْآخَرُ: قِيلَ اسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى عَلَى الْعَرْشِ، وَاسْتَوَى جَاءَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى نَقْلًا وَاسْتِعْمَالًا. أَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرٌ مَذْكُورٌ في «كتاب اللُّغَةِ» مِنْهَا دِيوَانُ الْأَدَبِ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ النَّقْلُ عَنْهُ. وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَعَلَى هَذَا فَكَلِمَةُ ثُمَّ، مَعْنَاهَا ما ذكرنا كأنه قال خلق السموات والأرض، ثم هاهنا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فإنه أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات وَالْأَرْضَ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِقْرَارُ وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ وَلَا يُفِيدُ أَنَّهُ فِي مَكَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ اسْتَقَرَّ رَأْيُ فُلَانٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي مَكَانٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ، لِمَا أَنَّ الرَّأْيَ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ أَوْ هُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَكَانٍ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فَهْمُ التَّمَكُّنِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ الِاسْتِقْرَارِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ التَّمَكُّنِ، حَتَّى إِذَا قَالَ قَائِلٌ اسْتَقَرَّ زَيْدٌ عَلَى الْفُلْكِ أَوْ عَلَى التَّخْتِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّمَكُّنُ وَكَوْنُهُ فِي مَكَانٍ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ اسْتَقَرَّ الْمُلْكُ عَلَى فُلَانٍ لَا يُفْهَمُ أَنَّ الْمُلْكَ فِي فُلَانٍ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ اللَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ كَوْنُهُ فِي مَكَانٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَجُوزُ، فَإِذَنْ فَهْمُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَشْرُوطٌ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ، فَجَوَازُ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ إِنِ اسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْعَرْشِ مَكَانًا لَهُ وُجُوهٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ [الْحَجِّ: 64] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ فِي بَقَائِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى مَكَانٍ، لِأَنَّ بَدِيهَةَ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْحَيِّزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ الْمُتَحَيِّزُ بَاقِيًا، فَالْمُتَحَيِّزُ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَيِّزِ، وَكُلُّ مَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَالْقَوْلُ بِاسْتِقْرَارِهِ يُوجِبُ احْتِيَاجَهُ فِي اسْتِمْرَارِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِالنَّصِّ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] فَالْعَرْشُ يَهْلِكُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَكَانٍ فَلَا يَبْقَى وَهُوَ يَبْقَى، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانٍ، فَجَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ، وَمَا جَازَ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَجَبَ لَهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَكَانٍ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الْحَدِيدِ: 4] وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ هُوَ أَنَّ عَلَى إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمَكَانِ يُفْهَمُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَلَى(25/138)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
السَّطْحِ وَكَلِمَةُ مَعَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مُتَمَكِّنَيْنِ يُفْهَمُ مِنْهَا اقْتِرَانُهُمَا بِالذَّاتِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو إِذَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فَإِنْ كَانَ اللَّهُ فِي مَكَانٍ وَنَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَةِ: 40] وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَكُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلِاقْتِرَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ كَلِمَةُ مَعَ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ وَعِلْمِهِ مَعَهُ أَوْ نُصْرَتِهِ يُقَالُ الْمَلِكُ الْفُلَانِيُّ مَعَ الْمَلِكِ الْفُلَانِيِّ، أَيْ بِالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ، فَنَقُولُ كَلِمَةُ عَلَى تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ حُكْمِهِ عَلَى الْغَيْرِ، يَقُولُ الْقَائِلُ لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ لَأَشْرَفَ فِي الْهَلَاكِ وَلَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَوْلَا فُلَانٌ عَلَى أَمْلَاكِ فُلَانٍ أَوْ عَلَى أَرْضِهِ لَمَا حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَا أَكَلَ/ حَاصِلَهَا بِمَعْنَى الْإِشْرَافِ وَالنَّظَرِ، فَكَيْفَ لَا نَقُولُ فِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إِنَّهُ اسْتَوَى عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ كَمَا نَقُولُ هُوَ مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الْأَنْعَامِ: 103] وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانٍ لَأَحَاطَ بِهِ الْمَكَانُ وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُرَى وَإِمَّا أَنْ لَا يُرَى، لَا سَبِيلَ إِلَى الثَّانِي بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ فِي مَكَانٍ وَلَا يُرَى بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ يُرَى فَيُرَى فِي مَكَانٍ أَحَاطَ بِهِ فَتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ فَسَوَاءٌ يُرَى أَوْ لَا يُرَى لَا يَلْزَمُ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُرَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا إذا رؤي فَلِأَنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ فَلَا يُدْرِكُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْبَصَرَ لَا يُحِيطُ بِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَاطَ بِهِ الْبَصَرُ فَلَهُ مَكَانٌ يَكُونُ فِيهِ وَقَدْ فَرَضْنَا عَدَمَ الْمَكَانِ، وَلَوْ تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ الْقُرْآنَ لَوَجَدَهَ مَمْلُوءًا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ كَوْنِهِ فِي مَكَانٍ، كَيْفَ وَهَذَا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَكَانِ لَكَانَ قَدْ حَصَلَ عليه بعد ما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَقَبْلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مُحَالَانِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْمَكَانِ أَزَلِيًّا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُضَادَّةَ الْفَلْسَفِيِّ فَيَصِيرُ فَلْسَفِيًّا يَقُولُ بِقِدَمِ سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالثَّانِي: جَوَازُ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يُفْضِي إِلَى حُدُوثِ الْبَارِي أَوْ يُبْطِلُ دَلَائِلَ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانٌ وَمَا حَصَلَ فِي مَكَانٍ يُحِيلُ الْعَقْلُ وَجُودَهُ بِلَا مَكَانٍ، وَلَوْ جَازَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَزَلِ سَاكِنًا أَوْ مُتَحَرِّكًا لِأَنَّهُمَا فَرَّعَا الْحُصُولَ فِي مَكَانٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ أَوْ عَدَمُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ إِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ فَهُوَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ ثُمَّ حَصَلَ فِي مَكَانٍ فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَقُولَ بِحُدُوثِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ إِنَّكَ تُشَبِّهُ اللَّهَ بِالْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانٍ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حَيْثُ أَحْوَجَهُ إِلَى مَكَانٍ، وَكُلُّ مُحْتَاجٍ نَظَرًا إِلَى عَدَمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَعْدُومٌ وَلَوْ كَتَبْنَا مَا فِيهَا لَطَالَ الْكَلَامُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السموات وَالْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُهُمْ نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ خَالِقَ السموات والأرض واحد هو إله السموات، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ صُوَرُ الْكَوَاكِبِ مِنْهَا نُصْرَتُنَا وَقُوَّتُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ هَذِهِ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ شُفَعَاؤُنَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا نُصْرَةَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَلَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَعِبَادَتُكُمْ لَهُمْ لِهَذِهِ الْأَصْنَامِ بَاطِلَةٌ ضَائِعَةٌ لَا هُمْ خَالِقُوكُمْ وَلَا نَاصِرُوكُمْ وَلَا شُفَعَاؤُكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ مَا عَلِمْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ خَالِقُ السموات وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَصْنَامِ حَتَّى تَنْصُرَكُمْ وَالْمَلِكُ الْعَظِيمُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ احترام وعظمة حتى تكون لها شفاعة. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 5 الى 7]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7)(25/139)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ بَيَّنَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَافِ: 54] وَالْعَظَمَةُ تَتَبَيَّنُ بِهِمَا فَإِنَّ مَنْ يَمْلِكُ مَمَالِيكَ كَثِيرِينَ عُظَمَاءَ تَكُونُ لَهُ عَظَمَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ نَافِذًا فِيهِمْ يَزْدَادُ فِي أَعْيُنِ الْخَلْقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاذُ أَمْرٍ يَنْقُصُ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَمْرَهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَعْرُجُ إِلَيْهِ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ الصَّادِرَةُ عَلَى مُوَافَقَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ أَثَرُ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ نُزُولَ الْأَمْرِ وَعُرُوجَ الْعَمَلِ فِي مَسَافَةِ أَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَهُوَ فِي يَوْمٍ فَإِنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ فَيَنْزِلُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَيَعْرُجُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، فَهُوَ مِقْدَارُ أَلْفِ سَنَةٍ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِدَادِ نَفَاذِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ غَايَةَ النَّفَاذِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَانْقَطَعَ لَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ فِي سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يَعْنِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي زَمَانٍ يَوْمٌ مِنْهُ أَلْفُ سَنَةٍ، فَكَمْ يَكُونُ شَهْرٌ مِنْهُ، وَكَمْ تَكُونُ سَنَةٌ مِنْهُ، وَكَمْ يَكُونُ دَهْرٌ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قوله مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] لِأَنَّ تِلْكَ إِذَا كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ نَفَاذِ الْأَمْرِ، فَسَوَاءٌ يُعَبَّرُ بِالْأَلْفِ أَوْ بِالْخَمْسِينَ أَلْفًا لَا يَتَفَاوَتُ إِلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ تَكُونُ في الخمسين أكثر وتبين فَائِدَتَهَا فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَفِي هَذِهِ لَطِيفَةٌ) وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَالَمَ الْأَجْسَامِ وَالْخَلْقِ، وَأَشَارَ إِلَى عَظَمَةِ الْمَلِكِ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَالَمَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَالرُّوحُ من عالم الأمر كما قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
[الْإِسْرَاءِ: 85] وَأَشَارَ إِلَى دَوَامِهِ بِلَفْظٍ يُوهِمُ الزَّمَانَ وَالْمُرَادُ دَوَامُ الْبَقَاءِ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ طَالَ زَمَانُ فُلَانٍ وَالزَّمَانُ لَا يَطُولُ، وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ فِي الزَّمَانِ يَمْتَدُّ فَيُوجَدُ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَطُولُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ أَزْمِنَةً كَثِيرَةً، فَأَشَارَ هُنَاكَ إِلَى عَظَمَةِ الْمُلْكِ بِالْمَكَانِ وَأَشَارَ إِلَى دوامه هاهنا بِالزَّمَانِ فَالْمَكَانُ مِنْ خَلْقِهِ وَمُلْكِهِ وَالزَّمَانُ بِحُكْمِهِ وَأَمْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي يَوْمٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي يَوْمٍ وَالْيَوْمُ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ فَيَكُونُ أَمْرُهُ فِي زَمَانٍ حَادِثٍ فَيَكُونُ حَادِثًا وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَقُولُ بِأَنَّ أَمْرَهُ قَدِيمٌ حَتَّى الْحُرُوفِ، وَكَلِمَةِ كُنْ فَكَيْفَ فُهِمَ مِنْ كَلِمَةِ عَلَى كَوْنُهُ فِي مَكَانٍ، وَلَمْ يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَةٍ فِي كَوْنُ أَمْرِهِ فِي زَمَانٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ الْعَظِيمَ النَّافِذَ الْأَمْرِ غَيْرُ غَافِلٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ إِذَا كَانَ آمِرًا نَاهِيًا يُطَاعُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ/ غَافِلًا لَا يَكُونُ مَهِيبًا عَظِيمًا كَمَا يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَبِيرًا يَقِظًا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أُمُورُ الْمَمَالِكِ وَالْمَمَالِيكِ فَقَالَ: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَلَمَّا ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ عَالَمَ الْأَشْبَاحِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ [السجدة: 4] وَعَالَمَ الْأَرْوَاحِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْوَاحِ وَالشَّهادَةِ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَجْسَامِ أَوْ نَقُولُ قَالَ: عالِمُ الْغَيْبِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ وَالشَّهادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وُجِدَ وَكَانَ وَقَدَّمَ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ أَقْوَى وَأَشَدُّ إِنْبَاءٍ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ ذَكَرَ أَنَّهُ عَزِيزٌ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْكَفَرَةِ رَحِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةُ عَلَى الْبَرَرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ لَمَّا بَيَّنَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما وَأَتَمَّهُ بِتَوَابِعِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْفُسِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْنِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ(25/140)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
وبين أن الذي بين السموات وَالْأَرْضِ خَلَقَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْأَشْيَاءِ رَأَيْتَهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي صَلَابَةُ الْأَرْضِ لِلنَّبَاتِ وَسَلَاسَةُ «1» الْهَوَاءِ لِلِاسْتِنْشَاقِ وَقَبُولُ الِانْشِقَاقِ لِسُهُولَةِ الِاسْتِطْرَاقِ وَسَيَلَانُ الْمَاءِ لِنَقْدِرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَحَرَكَةُ النَّارِ إِلَى فَوْقُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِثْلَ الْمَاءِ تَتَحَرَّكُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً لَاحْتَرَقَ الْعَالَمُ فَخُلِقَتْ طَالِبَةً لِجِهَةِ فَوْقٍ حَيْثُ لَا شَيْءَ هُنَاكَ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ وَقَوْلُهُ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ قِيلَ الْمُرَادُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ خُلِقَ مَنْ طِينٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الطِّينَ مَاءٌ وَتُرَابٌ مُجْتَمِعَانِ وَالْآدَمِيُّ أَصْلُهُ مَنِيٌّ وَالْمَنِيُّ أَصْلُهُ غِذَاءٌ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ، وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ بِالْآخِرَةِ تَرْجِعُ إِلَى النَّبَاتِيَّةِ وَالنَّبَاتُ وُجُودُهُ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ الَّذِي هو طين.
[سورة السجده (32) : الآيات 8 الى 9]
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ آدَمَ كَانَ مِنْ طِينٍ وَنَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ هُوَ النُّطْفَةُ، وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي هُوَ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الطِّينِ، ثُمَّ يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ سُلَالَةٌ هي من ما مَهِينٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ التَّفْسِيرُ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ ... ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ النَّسْلِ بَعْدَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ فَنَقُولُ لَا بَلِ التَّفْسِيرُ الثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَقَالَ بَدَأَهُ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَهُ سُلَالَةً ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ/ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عَائِدٌ إِلَى آدَمَ أَيْضًا لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ جَعْلِ النَّسْلِ مِنْ سُلَالَةٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَدَلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ [غَافِرٍ: 57] وَدَلَائِلُ الْأَنْفُسِ أَدَلُّ عَلَى نَفَاذِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّ التَّغَيُّرَاتِ فِيهَا كَثِيرَةٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ... ثُمَّ سَوَّاهُ أَيْ كَانَ طِينًا فَجَعَلَهُ مَنِيًّا ثُمَّ جَعَلَهُ بَشَرًا سَوِيًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ كَإِضَافَةِ الْبَيْتِ إِلَيْهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصَارَى يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَيَقُولُونَ بِأَنَّ عِيسَى كَانَ رُوحَ اللَّهِ فَهُوَ ابْنٌ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ رُوحُهُ رُوحُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أَيِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِلْكُهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ دَارِي وَعَبْدِي، وَلَمْ يَقُلْ أَعْطَاهُ مِنْ جِسْمِهِ لِأَنَّ الشَّرَفَ بِالرُّوحِ فَأَضَافَ الرُّوحَ دُونَ الْجِسْمِ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَفْخِ الرُّوحِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ فَقَالَ تَعَالَى:
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ وَجَعَلَ لَكُمُ مُخَاطِبًا وَلَمْ يُخَاطِبْ مِنْ قَبْلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ مَعَ الْحَيِّ فَلَمَّا قَالَ: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ خَاطَبَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَقَالَ جَعَلَ لَكُمُ، فَإِنْ قِيلَ الْخِطَابُ وَاقِعٌ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الرُّومِ: 20] فَنَقُولُ هُنَاكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ، وَهَاهُنَا ذَكَرَ الْأُمُورَ الْمُرَتَّبَةَ وَهِيَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ طِينًا ثُمَّ مَاءً مَهِينًا ثُمَّ خَلْقًا مُسَوًّى بِأَنْوَاعِ الْقُوَى مُقَوًّى فَخَاطَبَ فِي بَعْضِ الْمَرَاتِبِ دُونَ الْبَعْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّرْتِيبُ فِي السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لأن الإنسان يسمع
__________
(1) في الطبعة الأميرية «وسلالة الهواء» ، وهي فيما أظن محرفة عما أثبته لأن السلاسة للهواء أنسب.(25/141)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
أَوَّلًا مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَوِ النَّاسِ أُمُورًا فَيَفْهَمُهَا ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَصِيرَةٌ فَيُبْصِرُ الأمور ويجريها ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِدْرَاكٌ تَامٌّ وَذِهْنٌ كَامِلٌ فَيَسْتَخْرِجُ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِهِ وَمِثَالُهُ شَخْصٌ يَسْمَعُ مِنْ أُسْتَاذٍ شَيْئًا ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ مَعَانِيهَا، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصْنِيفِ فَيَكْتُبُ مِنْ قَلْبِهِ كِتَابًا، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ يَسْمَعُ ثُمَّ يُطَالِعُ صَحَائِفَ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ يَعْلَمُ الْأُمُورَ الْخَفِيَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ وَفِي الْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ الِاسْمَ، وَلِهَذَا جَمَعَ الْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَلَمْ يَجْمَعِ السَّمْعَ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُجْمَعُ وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ وَهُوَ أَنَّ السَّمْعَ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا فِعْلٌ/ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْبِطُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ، وَالْأُذُنُ مَحَلُّهُ وَلَا اخْتِيَارَ لَهَا فِيهِ فَإِنَّ الصَّوْتَ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى تَخْصِيصِ الْقُوَّةِ بِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَأَمَّا الْإِبْصَارُ فَمَحَلُّهُ الْعَيْنُ وَلَهَا فِيهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ فَإِنَّهَا تَتَحَرَّكُ إِلَى جَانِبٍ مَرْئِيٍّ دُونَ آخَرَ وَكَذَلِكَ الْفُؤَادُ مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَلَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يُرِيدُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمَحَلِّ فِي السَّمْعِ تَأْثِيرٌ وَالْقُوَّةُ مُسْتَبِدَّةٌ، فَذَكَرَ الْقُوَّةَ فِي الْأُذُنِ وَفِي الْعَيْنِ وَالْفُؤَادُ لِلْمَحَلِّ نَوْعُ اخْتِيَارٍ، فَذَكَرَ الْمَحَلَّ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُسْنَدُ إِلَى الْمُخْتَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَمِعَ زَيْدٌ وَرَأَى عَمْرٌو وَلَا تَقُولُ سَمِعَ أُذُنُ زَيْدٍ وَلَا رَأَى عَيْنُ عَمْرٍو إِلَّا نَادِرًا، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ آلَتُهُ، فَالسَّمْعُ أَصْلٌ دُونَ مَحَلِّهِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ لَهُ، وَالْعَيْنُ كَالْأَصْلِ وَقُوَّةُ الْإِبْصَارِ آلَتُهَا وَالْفُؤَادُ كَذَلِكَ وَقُوَّةُ الْفَهْمِ آلَتُهُ، فَذَكَرَ فِي السَّمْعِ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَفِي الْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقُوَّةِ وَلِأَنَّ السَّمْعَ لَهُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا فِعْلٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَلَامَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَضْبِطُهُمَا وَيُدْرِكُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ صُورَتَيْنِ وَأَكْثَرَ وَيَسْتَبِينُهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ الرابعة: لم قدم السمع هاهنا وَالْقَلْبَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] فَنَقُولُ ذَلِكَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ ذَكَرَ الْأَدْنَى وَارْتَقَى إِلَى الْأَعْلَى فَقَالَ أَعْطَاكُمُ السَّمْعَ ثُمَّ أَعْطَاكُمْ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَهُوَ الْقَلْبُ وَعِنْدَ السَّلْبِ قَالَ لَيْسَ لَهُمْ قَلْبٌ يُدْرِكُونَ بِهِ وَلَا مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ السَّمْعُ الَّذِي يَسْمَعُونَ بِهِ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَفْهَمُ الْحَقَائِقَ وَيَسْتَخْرِجُهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَأْخِيرِ الْأَبْصَارِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْوَسَطِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ سَلَبَ قُوَّتَهُمَا بِالطَّبْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَسَلَبَ قُوَّةَ الْبَصَرِ بِجَعْلِ الْغِشَاوَةِ عَلَيْهِ فذكرها متأخرة.
[سورة السجده (32) : آية 10]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
لما قال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] بَيَّنَ عَدَمَ شُكْرِهِمْ بِإِتْيَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَإِنْكَارُ قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ، كُلَّمَا ذَكَرَ أَصْلَيْنِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتْرُكِ الْأَصْلَ الثَّالِثَ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ إِلَى قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السجدة: 2، 3] الوحدانية بقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [السجدة: 4، 9] ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْحَشْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولٍ وَاللَّهُ لَيْسَ بِوَاحِدٍ وَقَالُوا الْحَشْرُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ فِي الرِّسَالَةِ أَمْ يَقُولُونَ [يونس: 38] بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَالَ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْحَشْرِ، وَقالُوا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاهُ فِي رِسَالَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ(25/142)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
وُجُودِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَالَةَ وُجُودِهِ فَقَالَ يَقُولُونَ يَعْنِي هُمْ فِيهِ، وَأَمَّا إِنْكَارُهُمْ لِلْحَشْرِ كَانَ سَابِقًا صَادِرًا مِنْهُمْ وَمِنْ آبَائِهِمْ فَقَالَ وَقالُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِذِكْرِ قَوْلِهِمْ فِي الرِّسَالَةِ حَيْثُ قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ وفي الحشر حيث قال:
وَقالُوا أَإِذا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ قَوْلِهِمْ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى إِنْكَارِ الْحَشْرِ وَالرَّسُولِ، وَأَمَّا الْوَحْدَانِيَّةُ فَكَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِهَا فِي الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] فَلَمْ يَقُلْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ وَإِنْ كَانُوا قَالُوهُ فِي الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ دَلِيلَهَا وَهُوَ التَّنْزِيلُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَمَّا ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ، وَلَمَّا ذَكَرَ إِنْكَارَهُمُ الْحَشْرَ لَمْ يَذْكُرِ الدَّلِيلَ، نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: ذَكَرَ دَلِيلَهُ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ اللَّهُ عَلَى إِمْكَانِ الْحَشْرِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ: ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَقَوْلُهُ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] وكذلك خلق السموات كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: 81، 82] .
وقوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا كَائِنُونَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَوْ وَاقِعُونَ فِيهِ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إِضْرَابٌ عَنِ الْأَوَّلِ يَعْنِي لَيْسَ إِنْكَارُهُمْ لِمُجَرَّدِ الْخَلْقِ ثَانِيًا بَلْ يَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ حَتَّى لَوْ صَدَّقُوا بِالْخَلْقِ الثَّانِي لَمَّا اعْتَرَفُوا بِالْعَذَابِ وَالثَّوَابِ، أَوْ نَقُولُ مَعْنَاهُ لَمْ يُنْكِرُوا الْبَعْثَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ فَأَنْكَرُوا الْمُفْضِيَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْمَوْتِ إلى العذاب. فقال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 11]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
يَعْنِي لَا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ مِنَ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَقَوْلُهُ: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْكُمْ وَإِذَا جَاءَ أَجَلُكُمْ لَا يُؤَخِّرُكُمْ إِذْ لَا شُغْلَ لَهُ إِلَّا هَذَا وَقَوْلُهُ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يُنْبِئُ عَنْ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ فَإِنَّ التَّوَفِّيَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضَ هُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْدَامُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِأَخْذٍ، ثُمَّ إِنَّ الرُّوحَ الزَّكِيَّ الطَّاهِرَ يَبْقَى عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ مِثْلَ الشَّخْصِ بَيْنَ أَهْلِهِ/ الْمُنَاسِبِينَ لَهُ وَالْخَبِيثَ الْفَاجِرَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ كَأَسِيرٍ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُهُمْ وَلَا يَعْرِفُ لِسَانَهُمْ، وَالْأَوَّلُ يَنْمُو وَيَزِيدُ وَيَزْدَادُ صَفَاؤُهُ وَقُوَّتُهُ وَالْآخَرُ يَذْبُلُ وَيَضْعُفُ وَيَزْدَادُ شَقَاؤُهُ وَكُدُورَتُهُ، وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَرْوَاحَ الطَّاهِرَةَ تَتَعَلَّقُ بِجِسْمٍ سَمَاوِيٍّ خَيْرٌ مِنْ بَدَنِهَا وَتَكْمُلُ بِهِ، وَالْأَرْوَاحَ الْفَاجِرَةَ لَا كَمَالَ لَهَا بَعْدَ التَّعَلُّقِ الثَّانِي فَإِنْ أَرَادُوا مَا ذُكِرَ بِهَا فَقَدْ وَافَقُونَا وَإِلَّا فَيُغَيَّرُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُمْ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ حَقٍّ، فَإِنْ قِيلَ هُمْ أَنْكَرُوا الْإِحْيَاءَ وَاللَّهُ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَبَيْنَهُمَا مُبَايَنَةٌ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْإِحْيَاءِ وَدَفَعَ اسْتِبْعَادَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَا عُدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ كَيْفَ يَكُونُ الْمَوْجُودُ عَيْنَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: الْمَلَكُ يَقْبِضُ الرُّوحَ وَالْأَجْزَاءُ تَتَفَرَّقُ فَجَمْعُ الْأَجْزَاءِ لَا بُعْدَ فِيهِ، وَأَمْرُ الْمَلَكِ بِرَدِّ مَا قَبَضَهُ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ أَيْضًا، فَقَوْلُهُ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ أَيِ الْأَرْوَاحُ مَعْلُومَةٌ فترد إلى أجسادها. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 12]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)(25/143)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بَيَّنَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ يَعْنِي لَوْ تَرَى حَالَهُمْ وَتُشَاهِدُ اسْتِخْجَالَهُمْ لَتَرَى عَجَبًا، وَقَوْلُهُ: تَرى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مع الرسول صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تَشَفِّيًا لِصَدْرِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْذُونَهُ بِالتَّكْذِيبِ، ويحتمل أن يكون عاما مع كل أحدكما يَقُولُ الْقَائِلُ إِنَّ فُلَانًا كَرِيمٌ إِنْ خَدَمْتَهُ وَلَوْ لَحْظَةً يُحْسِنُ إِلَيْكَ طُولَ عُمُرِكَ وَلَا يُرِيدُ بِهِ خَاصًّا، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ لِبَيَانِ شِدَّةِ الْخَجَالَةِ لِأَنَّ الرَّبَّ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ الْمَرْبُوبُ، ثُمَّ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْخَجَالَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا يَعْنِي يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَحَذَفَ يَقُولُونَ إِشَارَةً إِلَى غَايَةِ خَجَالَتِهِمْ لِأَنَّ الْخَجِلَ الْعَظِيمَ الْخَجَالَةِ لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَوْلُهُ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أَيْ أَبْصَرْنَا الْحَشْرَ وَسَمِعْنَا قَوْلَ الرَّسُولِ فَارْجِعْنَا إِلَى دَارِ الدُّنْيَا لِنَعْمَلَ صَالِحًا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا مُوقِنُونَ مَعْنَاهُ إِنَّا فِي الْحَالِ آمَنَّا وَلَكِنَّ النَّافِعَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا فَارْجِعْنَا لِلْعَمَلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُقْبَلُ فِي الْآخِرَةِ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الشِّرْكَ كَمَا قَالُوا:
مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا مَا جَرَى إِلَّا بِسَبَبِ تَرْكِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَّا الإيمان فإنا موقنون وما أشركنا.
ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 13]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا [السجدة: 12] وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِّي لَوْ أَرْجَعْتُكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لَهَدَيْتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمَّا لَمْ أَهْدِكُمْ تَبَيَّنَ أَنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا شِئْتُ إِيمَانَكُمْ فَلَا أَرُدُّكُمْ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَذْهَبَنَا صَحِيحٌ حَيْثُ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَمَا شَاءَ مِنْهُ إِلَّا الْكُفْرَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أَيْ وَقَعَ الْقَوْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا خَالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ قَصَدَ الْفِعْلَ لِلْحِكْمَةِ أَوْ فَعَلَ الْفِعْلَ وَلَزِمَتْهُ الْحِكْمَةُ لَا بِحَيْثُ تَحْمِلُهُ تِلْكَ الْحِكْمَةُ عَلَى الْفِعْلِ؟ وَإِذَا عُلِمَ أَنْ فِعْلَهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحِكْمَةِ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ حِكْمَةُ أَفْعَالِهِ بِأَمْرِهَا لَا تُدْرَكُ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ لَكِنْ تُدْرِكُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، فَكُلُّ ضَرْبٍ يَكُونُ فِي الْعَالَمِ وَفَسَادٍ فَحِكْمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ تَقْسِيمٍ عَقْلِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مَحْضًا أَوْ شَرًّا مَحْضًا أَوْ خَيْرًا مَشُوبًا بِشَرٍّ وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ خَيْرُهُ غَالِبٌ وَقِسْمٌ شَرُّهُ غَالِبٌ وَقِسْمٌ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِثْلَانِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَخَلَقَ اللَّهُ عَالَمًا فِيهِ الْخَيْرُ الْمَحْضُ وَهُوَ عَالَمُ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَخَلَقَ عَالَمًا فِيهِ خَيْرٌ وَشَرٌّ وَهُوَ عَالَمُنَا وَهُوَ الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ وَلَمْ يَخْلُقْ عَالَمًا فِيهِ شَرٌّ مَحْضٌ، ثُمَّ إِنَّ الْعَالَمَ السُّفْلِيَّ الَّذِي هُوَ عَالَمُنَا، وَإِنْ كَانَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَوْجُودَيْنِ فِيهِ لَكِنَّهُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَيْرُهُ غَالِبٌ، فَإِنَّكَ إِذَا قَابَلْتَ الْمَنَافِعَ بِالْمَضَارِّ وَالنَّافِعَ بِالضَّارِّ، تَجِدُ الْمَنَافِعَ أَكْثَرَ، وَإِذَا قَابَلْتَ الشِّرِّيرَ بِالْخَيِّرِ تَجِدُ الْخَيِّرَ أَكْثَرَ، وَكَيْفَ لَا وَالْمُؤْمِنُ يُقَابِلُهُ الْكَافِرُ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ أَصْلًا مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَالْكَافِرُ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ(25/144)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
أَصْلًا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ خَيْرَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، إِنَّمَا يَسْتَحِيلُ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ أَنْ يُوجَدَ كَافِرٌ لَا يَسْقِي الْعَطْشَانَ شَرْبَةَ مَاءٍ وَلَا يُطْعِمُ الْجَائِعَ لُقْمَةَ خُبْزٍ وَلَا يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي عُمُرِهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ فِي زَمَنِ صِبَاهُ كَانَ مَخْلُوقًا عَلَى الْفِطْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَالُوا: لَوْلَا الشَّرُّ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَتْ مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُنْحَصِرَةً فِي الْخَيْرِ الْمَحْضِ وَلَا يَكُونُ قَدْ خَلَقَ الْقِسْمَ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ الْغَالِبُ وَالشَّرُّ الْقَلِيلُ ثُمَّ إِنَّ تَرْكَ خَلْقِ هَذَا الْقِسْمِ إِنْ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّاجِرَ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ دِرْهَمٌ بِدِينَارٍ، فَلَوِ امْتَنَعَ وَقَالَ فِي هَذَا شَرٌّ وَهُوَ زَوَالُ الدِّرْهَمِ عَنْ مِلْكِي فَيُقَالُ لَهُ لَكِنَّ فِي مُقَابَلَتِهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ حُصُولُ الدِّينَارِ فِي مِلْكِكَ وَكَذَلِكَ/ الْإِنْسَانُ لَوْ تَرَكَ الْحَرَكَةَ الْيَسِيرَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ رَاحَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ يُنْسَبُ إِلَى مُخَالَفَةِ الْحِكْمَةِ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْحِكْمَةِ كَانَ وُقُوعُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الْمَشُوبِ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ مِنَ اللُّطْفِ فَخَلَقَ الْعَالَمَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الشَّرُّ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: 30] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ لِأَنَّ الْخَيْرَ فِيهِ كَثِيرٌ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ خَيْرَهُ بِالتَّعْلِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] يَعْنِي أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ خَلْقُ الشَّرِّ الْمَحْضِ وَالشَّرِّ الْغَالِبِ وَالشَّرِّ الْمُسَاوِي لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ. وَأَمَّا الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الْمَشُوبُ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ مُنَاسِبٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها إِشَارَةٌ إِلَى الشَّرِّ، وَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ بِقَوْلِهِ:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَخْلِيصِ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الشَّرِّ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ شَرٌّ فَيُقَالُ لَهُ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يَعْنِي لَوْ شِئْنَا لَخَلَّصْنَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، لَكِنَّ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ الْمَشُوبَ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ وَهُوَ قِسْمٌ مَعْقُولٌ، فَمَا كَانَ يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلشَّرِّ الْقَلِيلِ وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ الْحِكْمَةَ، لِأَنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِلشَّرِّ الْقَلِيلِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا كَذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مَنْ خَلْقِهِ فَيَخْلُقُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يُعَبِّرُ عَنْهُ مَنْ يَقُولُ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ إِنَّ الْخَيْرَ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرَّ فِي الْقَدَرِ، فَاللَّهُ قَضَى بِالْخَيْرِ وَوَقَعَ الشَّرُّ فِي الْقَدَرِ بِفِعْلِهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الْقُبْحِ وَالْجَهْلِ، وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّارَ لِمَنْ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالَّذِينَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مُبَرَّءُونَ عَنْ دُخُولِ النَّارِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعِينَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ مَجْمُوعِينَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَعَلَ جَمِيعَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَمْلَأُ بِهِمُ النَّارَ؟ نَقُولُ هَذَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ جَهَنَّمُ تُمْلَأُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَا غَيْرَ أَمْنًا لِلْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ دُخُولُ الْكُلِّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ مَلَأْتُ الْكِيسَ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى دِرْهَمٌ خَارِجَ الْكِيسِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ ضَيِّقَةً تَمْتَلِئُ بِبَعْضِ الْخَلْقِ نَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا الْوَاسِعُ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنَ الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا أَنَّهُمْ لَا رُجُوعَ لَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ لَا رُجُوعَ لكم.
[سورة السجده (32) : آية 14]
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)(25/145)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ لقاء يحتمل أن يكون منصوبا بذوقوا، أَيْ ذُوقُوا لِقَاءَ يَوْمِكُمْ بِمَا نَسِيتُمْ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسِيُّ هُوَ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: 172] أَوْ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُنْسَى بِالْإِقْبَالِ عَلَى الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: نَسِيتُمْ أَيْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ هَذَا الْيَوْمِ ذُوقُوا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ النِّسْيَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعْلُومِ أَوَّلًا إِذَا جُهِلَ آخِرًا نَقُولُ لَمَّا ظَهَرَتْ بَرَاهِينُهُ فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ وَعُلِمَ، وَلَمَّا تَرَكُوهُ بَعْدَ الظُّهُورِ ذُكِرَ بِلَفْظِ النِّسْيَانِ إِشَارَةً إِلَى كَوْنِهِمْ مُنْكِرِينَ لِأَمْرٍ ظَاهِرٍ كَمَنْ يُنْكِرُ أَمْرًا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْيَوْمِ، أَيْ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ هَذَا الْيَوْمِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى لِقَاءِ الْيَوْمِ، أَيْ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ هَذَا اللِّقَاءَ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْعَذَابِ، أَيْ فَذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ، ثُمَّ قَالَ إِنَّا نَسِينَاكُمْ، أَيْ تَرَكْنَاكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْكُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسِي قَطْعًا لِرَجَائِكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا يَتْرُكُ النَّاسِي وَهُوَ خُلُودُ الْعَذَابِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُخَلِّصُهُ اللَّهُ فَلَا خَلَاصَ لَهُ، فَقَالَ: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 15]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآيَاتِ كَالْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا يَنْسَاهُ الْبَعْضُ فَإِذَا ذُكِّرَ بِهَا خَرَّ سَاجِدًا لَهُ، يَعْنِي انْقَادَتْ أَعْضَاؤُهُ لَهُ، وَسَبَّحَ بِحَمْدِهِ، يَعْنِي وَيُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، يَعْنِي وَكَانَ قَلْبُهُ خَاشِعًا لَا يَتَكَبَّرُ وَمَنْ لَا يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ فهو المؤمن حقا. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 16]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
يَعْنِي بِاللَّيْلِ قَلِيلًا مَا يَهْجَعُونَ وَقَوْلُهُ: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَيْ يُصَلُّونَ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فِي الْمَعْنَى أَوْ يَطْلُبُونَهُ وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ الطَّلَبَ قَدْ يَكُونُ بِالصَّلَاةِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى/ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَفِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الزَّكَاةُ ذُكِرَ الصَّلَاةُ قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْبَقَرَةِ: 3] وَقَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ خَائِفِينَ طَامِعِينَ كَقَوْلِكَ جَاءُونِي زُوَّرًا أَيْ زَائِرِينَ، وَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِشَارَةً إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الذُّهُولِ عَنِ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا [السجدة: 15] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُجَرَّدِ الذِّكْرِ يُوجَدُ مِنْهُمُ السُّجُودُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَطَمَعٌ. وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ خَوْفًا كَمَنْ يَخْدِمُ الْمَلِكَ الْجَبَّارَ مَخَافَةَ سَطْوَتِهِ أَوْ يَخْدِمُ الْمَلِكَ الْجَوَادَ طَمَعًا فِي بِرِّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَكُونُ لهم جزاء فعلهم. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 17]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يَعْنِي مِمَّا تَقَرُّ الْعَيْنُ عِنْدَهُ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ يُقَالُ إِنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي عَيْنِي، يَعْنِي عَيْنِي تَطَلَّعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ تَطَلُّعٌ لِلْعَيْنِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَبْقَ لِلْعَيْنٍ مَسْرَحٌ إِلَى غَيْرِهِ فَتَقَرُّ جَزَاءً بِحُكْمِ الْوَعْدِ، وَهَذَا فِيهِ لَطِيفَةٌ(25/146)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
وَهِيَ أَنَّ مِنَ الْعَبْدِ شَيْئًا وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنَ اللَّهِ أَشْيَاءُ سَابِقَةٌ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِهِمَا وَأَشْيَاءُ لَاحِقَةٌ مِنَ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِحْسَانٌ، وَأَنَا أَحْسَنْتُ أَوَّلًا وَالْعَبْدُ أَحْسَنَ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَالثَّوَابُ تَفَضُّلٌ وَمِنْحَةٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ جَعَلْتُ الْأَوَّلَ تَفَضُّلًا لَا أَطْلُبُ عَلَيْهِ جَزَاءً، فَإِذَا أَتَى الْعَبْدُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنِّي أَبْرَأْتُهُ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ فَكَانَ هُوَ آتِيًا بِالْحَسَنَةِ ابْتِدَاءً، وَجَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِحْسَانٌ، فَأَجْعَلُ الثَّوَابَ جَزَاءً كِلَاهُمَا جَائِزٌ، لَكِنَّ غَايَةَ الْكَرَمِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَوَّلَ هِبَةً وَيَجْعَلَ الثَّانِيَ مُقَابِلًا وَعِوَضًا لِأَنَّ الْعَبْدَ ضَعِيفٌ لَوْ قِيلَ لَهُ بِأَنَّ فِعْلَكَ جَزَاءٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ جَزَاءً، وَإِنَّمَا اللَّهُ يَتَفَضَّلُ يَثِقُ وَلَكِنْ لَا يَطْمَئِنُ قَلْبُهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ عَلَيْكَ وَالَّذِي أَتَيْتَ بِهِ أَنْتَ بِهِ بَادٍ وَلَكَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ ثَوَابٍ يَثِقُ وَيَطْمَئِنُ ثُمَّ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَالْوَاجِبُ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ فِعْلِي جَزَاءُ نِعَمِ اللَّهِ السَّابِقَةِ وَلَا أَسْتَحِقُّ بِهِ جَزَاءً، فَإِذَا أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الَّذِي أَتَيْتُ بِهِ كَانَ جَزَاءً، وَهَذَا ابْتِدَاءُ إِحْسَانٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَشُكْرًا فَيَأْتِي بِحَسَنَةٍ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ جَزَاءَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَمَا فَعَلْتُ أَوَّلًا لَا أَطْلُبُ لَهُ جَزَاءً فَيُجَازِيهِ ثَالِثًا فَيَشْكُرُ الْعَبْدَ ثَالِثًا فَيُجَازِيهِ رَابِعًا وَعَلَى هَذَا لَا تَنْقَطِعُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ، وَمِثْلُهُ فِي الشَّاهِدِ اثْنَانِ تَحَابَّا فَأَهْدَى أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ هَدِيَّةً وَنَسِيَهَا وَالْمُهْدَى إِلَيْهِ يَتَذَكَّرُهَا فَأَهْدَى إِلَى الْمُهْدِي عِوَضًا فَرَآهُ الْمُهْدِي الْأَوَّلُ ابْتِدَاءً لِنِسْيَانِهِ مَا أَهْدَاهُ إِلَيْهِ فَجَازَاهُ بِهَدِيَّةٍ فَقَالَ الْمُحِبُّ الْآخَرُ مَا أَهْدَيْتُهُ كَانَ جَزَاءً لِهَدِيَّتِهِ السَّابِقَةِ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ مَا عَوَّضْتُهَا فَيُعَوِّضُ وَيُعَوِّضُ/ عَنْهُ الْمُحِبُّ الْآخَرُ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ التَّهَادِي وَالتَّحَابُّ، بِخِلَافِ مَنْ أَرْسَلَ إِلَى وَاحِدٍ هَدِيَّةً وَهُوَ يَتَذَكَّرُهَا فَإِذَا بَعَثَ إِلَيْهِ الْمُهْدَى إِلَيْهِ عِوَضًا يَقُولُ الْمُهْدِي هَذَا عِوْضُ مَا أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ فَيَسْكُتُ وَيَتْرُكُ الْإِهْدَاءَ فَيَنْقَطِعُ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَالِيفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنِ ارْتَفَعَتْ لَكِنَّ الذِّكْرَ وَالشُّكْرَ وَالْعِبَادَةَ لَا تَرْتَفِعُ بَلِ الْعَبْدُ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْبُدُهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ صَارَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ قَالَ فِي حَقِّهِمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: 20] غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِتَكْلِيفٍ بَلْ هِيَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِدَوَامِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ هَذَا وَكَيْفَ لَا وَخِدْمَةُ الْمُلُوكِ لَذَّةٌ وَشَرَفٌ فَلَا تُتْرَكُ وَإِنْ قَرُبَ الْعَبْدُ مِنْهُ بَلْ تَزْدَادُ لذتها. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 20]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُجْرِمِ وَالْمُؤْمِنِ قَالَ لِلْعَاقِلِ هَلْ يَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ أَحْسَنَ ابْتِدَاءً لَا لِعِوَضٍ فَلَمَّا آمَنَ الْعَبْدُ وَعَمِلَ صَالِحًا قَبِلَهُ مِنْهُ كَأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ فَجَازَاهُ بِأَنْ أَعْطَاهُ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: نُزُلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَعْدَهَا أَشْيَاءَ لِأَنَّ النُّزُلَ مَا يُعْطِي الْمَلِكُ النَّازِلَ، وَقْتَ نُزُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَاتِبًا أَوْ يَكْتُبَ لَهُ خُبْزًا وَقَوْلُهُ: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها إِشَارَةٌ إِلَى حَالِ الْكَافِرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَهُ مَعَ الْإِيمَانِ أَثَرٌ(25/147)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
أَمَّا الْكُفْرُ إِذَا جَاءَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَعْمَالِ، فَلَمْ يَقُلْ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وَعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَسَقُوا كَفَرُوا وَلَوْ جَعَلَ الْعِقَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ، لَظُنَّ أَنَّ مُجَرَّدَ الْكُفْرِ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُمْ) بِلَامِ التَّمْلِيكِ زِيَادَةُ إِكْرَامٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اسْكُنْ هَذِهِ الدَّارَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْعَارِيَةِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَإِذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى نِسْبَةِ الْمِلْكِيَّةِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ/ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة: 25] أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَسْكَنَ آدَمَ الْجَنَّةَ وَكَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ مِنْهَا قَالَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَةِ: 35] وَلَمْ يَقُلْ لَكُمَا الْجَنَّةُ وَفِي الْآخِرَةِ لَمَّا لَمْ يكن للمؤمنين خروج عنها قال: لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:
111] ولَهُمْ جَنَّاتٍ وَقَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى حُكْمِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْلِمَ إِذَا تَمَكَّنَ وَالْأَلَمَ إِذَا امْتَدَّ لَمْ يَبْقَ بِهِ شُعُورٌ تَامٌّ وَلِهَذَا قَالَ الْأَطِبَّاءُ إِنَّ حَرَارَةَ حُمَّى الدَّقِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَرَارَةِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةِ نِسْبَةُ النَّارِ إِلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَدْقُوقَ لَا يُحِسُّ مِنَ الْحَرَارَةِ بِمَا يُحِسُّ بِهِ مَنْ بِهِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةُ لِتَمَكُّنِ الدَّقِّ وَقُرْبِ الْعَهْدِ بِظُهُورِ حَرَارَةِ الْحُمَّى الْبَلْغَمِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي مَاءٍ بَارِدٍ يَتَأَلَّمُ مِنَ الْبَرْدِ، فَإِذَا صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا تَثْلُجُ يَدُهُ وَيَبْطُلُ عَنْهُ ذَلِكَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ مَعَ فَسَادِ مِزَاجِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَا يَسْكُنُ عَنْهُمْ بَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالِ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ يُجَدَّدُ وَقَوْلُهُ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَا وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ النَّارِ، فَلَمَّا ذَاقُوهُ كَانَ أَشَدَّ إِيلَامًا لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَوَقَّعُ شَيْئًا فَيُصِيبُهُ يَكُونُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي الدُّنْيَا يَجْزِمُونَ أَنْ لَا عَذَابَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَوَقَّعُونَ شَيْئًا آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ بِقَوْلِهِمْ لَا عَذَابَ فَوْقَ مَا نَحْنُ فيه فان مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لَيْسَ مُقْتَصِرًا عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا بَلْ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابًا كَذَّبْتُمْ بِهِ مِنْ قَبْلُ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِكُمْ لَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَبِقَوْلِكُمْ لَا عَذَابَ فَوْقَ ما نحن فيه ثم لما هددهم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : آية 21]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
يَعْنِي قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ نُذِيقُهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ شَدِيدًا، وَلَا يَكُونُ مَدِيدًا فَإِنَّ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ فِي الدُّنْيَا يُهْلِكُ فَيَمُوتُ الْمُعَذَّبُ وَيَسْتَرِيحُ مِنْهُ فَلَا يَمْتَدُّ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُعَذَّبُ أَنْ يَمْتَدَّ عَذَابُ الْمُعَذَّبِ لَا يُعَذِّبُهُ بِعَذَابٍ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَشَدِيدٌ ومديد، وفي الآية مسألتان:
إحداهما: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَقْصَى وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدْنَى بِالْأَكْبَرِ؟ فَنَقُولُ حَصَلَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ قَرِيبٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ وَحَصَلَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ الْقُرْبَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ/ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِذَا كَانَ آجِلًا، وَكَذَا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيَسْتَبْعِدُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْآجِلَ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هُوَ الْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ لَا الْبَعِيدُ لِمَا بَيَّنَّا فَقَالَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا الْعَذابِ الْأَدْنى لِيَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأصغر) ما(25/148)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
كَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لَعَلَّ هَذِهِ الترجي وَاللَّهُ تَعَالَى مُحَالٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَنُذِيقَنَّهُمْ إذاقة الراجين كقوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] يَعْنِي تَرَكْنَاكُمْ كَمَا يُتْرَكُ النَّاسِي حَيْثُ لَا يلتفت إليه أصلا، فكذلك هاهنا نُذِيقُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُ بِالرَّاجِي مِنَ التَّدْرِيجِ وَثَانِيهِمَا: مَعْنَاهُ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ إِذَاقَةً يَقُولُ الْقَائِلُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِسَبَبِهِ، وَنَزِيدُ وَجْهًا آخَرَ مِنْ عِنْدِنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَتْلُوهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ اتَّجَرَ لِيَرْبَحَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ بِحُصُولِ الْأَمْرِ مِنَ الْفِعْلِ نَظَرًا إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْعِلْمُ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَفْعَلُ كَذَا رَجَاءَ كَذَا، كَمَا يُقَالُ يَتَّجِرُ رَجَاءَ أَنْ يَرْبَحَ، وَإِنْ حَصَلَ لِلتَّاجِرِ جَزْمٌ بِالرِّبْحِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا يَرْجُو لِمَا أَنَّ الْجَزْمَ غَيْرُ حَاصِلٍ نَظَرًا إِلَى التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ حَاصِلًا نَظَرًا إِلَى الْفِعْلِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَرْجُو وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجَزْمُ يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فُلَانٌ حَزَّ رَقَبَةَ عَدُوِّهِ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ، لَا يَصِحُّ لِحُصُولِهِ الْجَزْمُ بِالْمَوْتِ عَقِيبَ الْحَزِّ نَظَرًا إِلَيْهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ لَا يَمُوتَ نَظَرًا إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُصَحِّحُ قَوْلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْمَغْفِرَةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَزْمُ حَاصِلًا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الطمع وكذلك قوله تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ الْجَزْمُ، فَإِنَّ مِنَ التَّعْذِيبِ لَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ لُزُومًا بَيِّنًا فَصَحَّ قَوْلُنَا يَرْجُو وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ حَاصِلًا بِمَا يَكُونُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ اسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَعْلُومًا فَأَوْهَمَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِطْلَاقُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّرَجِّي يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ حَقِيقَةُ التَّرَجِّي فِي حَقِّهِ عَلَى ما ذكرنا من المعنى/ ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 24]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها يَعْنِي لَنُذِيقَنَّهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ فَيَكُونُونَ قَدْ ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ النِّعَمِ أَوَّلًا وَالنِّقَمِ ثَانِيًا وَلَمْ يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد، لِأَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ ظَالِمٌ فَإِنَّ اللَّهَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَنِيرُ الْبَاطِنُ إِلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] أي دليلك الله لا تحتاج تأثير الْبَاطِنِ إِلَى دَلِيلٍ عَلَى اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ اللَّهُ فَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ، كَانَ فِيهَا نَفْعٌ أَوْ ضُرٌّ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] فَإِنْ لَمْ يكفهم ذلك(25/149)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
فَبِسَبْغِهِ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، فَالْأَوَّلُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ هُوَ عَدْلٌ وَالثَّانِي الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ وَالثَّالِثُ الَّذِي لَمْ تَكِفْهِ الْآفَاقُ ظَالِمٌ وَالرَّابِعُ الَّذِي لَمْ تُقْنِعْهُ النِّعَمُ أَظْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الظَّالِمِ وَقَدْ يَكُونُ أَظْلَمَ مِنْهُ آخَرُ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا أُذِيقَ الْعَذَابَ لَا يَرْجِعُ عَنْ ضَلَالَتِهِ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ كَانَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا مَسَّهُمْ ضُرٌّ دَعُوا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فَهَذَا لَمَّا عُذِّبَ وَلَمْ يَرْجِعْ فَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ أَصْلًا فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أَيْ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعَذَابُ الْأَدْنَى فَأَنَا مُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَمَّا قَرَّرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَادَ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [القصص: 46] وَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 9] بَلْ كَانَ قَبْلَكَ رُسُلٌ مِثْلُكَ وَاخْتَارَ مِنْ بَيْنِهِمْ مُوسَى لِقُرْبِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَوُجُودُ مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ إِلْزَامًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَخْتَرْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلذِّكْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يُوَافِقُونَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَمَسَّكَ/ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ مُوسَى فَإِنَّكَ تَرَاهُ وَتَلْقَاهُ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَاءِ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَلْقَاهُ كَمَا لَقِيَ مُوسَى الْكِتَابَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً لَا لِلتَّقْرِيرِ بَلْ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَتَى بِكُلِّ آيَةٍ وَذَكَّرَ بِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا قَوْمُهُ حَزِنَ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ تَذَكَّرْ حَالَ مُوسَى وَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُ لَقِيَ مَا لَقِيتَ وَأُوذِيَ كَمَا أُوذِيتَ، وَعَلَى هَذَا فَاخْتِيَارُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُؤْذِهِ قَوْمُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ غَيْرَ قَوْمِ مُوسَى فإن لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ آذَاهُ مِثْلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا آذَاهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَطَلَبِ أَشْيَاءَ مِنْهُ مِثْلَ طَلَبِ رؤية الله جهرة ومثل قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: 24] ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ هِدَايَتَهُ غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ تَخْلُ هِدَايَةُ مُوسَى، فَقَالَ: وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا فَحَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ كِتَابَ مُوسَى هَدًى وَجَعَلَ مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ كَذَلِكَ يَجْعَلُ كِتَابَكَ هَدًى وَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِكَ صَحَابَةٌ يَهْدُونَ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالصَّبْرِ، فَقَالَ:
لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فَكَذَلِكَ اصْبِرُوا وَآمِنُوا بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 26]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)
قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ هَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ كَانُوا يَهْدُونَ وَهُمُ اخْتَلَفُوا وَصَارُوا فِرَقًا وَسَبِيلُ الْحَقِّ وَاحِدٌ، فَقَالَ فِيهِمْ هُدَاةٌ وَاللَّهُ بَيَّنَ الْمُبْتَدِعَ مِنَ الْمُتَّبِعِ كَمَا يُبَيِّنُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الْأُمَمِ(25/150)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْمَنَ مَنْ آمَنَ وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَذَّبٌ كَالْكَافِرِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ، أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ أَشُدُّ وَآلَمُ وَأَمَدُّ وَأَدْوَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَقْرِيرٌ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِعَادَةٌ لِبَيَانِ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ/ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السَّجْدَةِ: 3] وَلَمَّا أَعَادَ ذِكْرَ الرِّسَالَةِ أَعَادَ ذِكْرَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَوْلُهُ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ زِيَادَةُ إِبَانَةٍ، أَيْ مَسَاكِنُ الْمُهْلَكِينَ دَالَّةٌ عَلَى حَالِهِمْ وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ فِيهَا وَتُبْصِرُونَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ اعْتُبِرَ فِيهِ السَّمْعُ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانَ لَهُمْ قُوَّةُ الْإِدْرَاكِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِنْبَاطُ بِعُقُولِهِمْ، فَقَالَ أَفَلَا يَسْمَعُونَ، يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ دَرَجَةُ الْمُتَعَلِّمِ الَّذِي يسمع الشيء ويفهمه. ثم قال تعالى:
[سورة السجده (32) : الآيات 27 الى 28]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بَيْنَ الْإِحْيَاءِ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَالْجُرُزُ هُوَ الْقَطْعُ وَكَأَنَّهَا الْمَقْطُوعُ عَنْهَا الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ قَدَّمَ الْأَنْعَامَ عَلَى الْأَنْفُسِ فِي الْأَكْلِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ يَصْلُحُ لِلدَّوَابِّ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِنْسَانِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءُ الدَّوَابِّ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَمَّا غِذَاءُ الْإِنْسَانِ فَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّ الْحَيَوَانَ يَأْكُلُ الزَّرْعَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّوَابِّ وَالْإِنْسَانُ يَأْكُلُ بِحَيَوَانِيَّتِهِ أَوْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَالُهُ بِالْعِبَادَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يُبْصِرُونَ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُرَى بِخِلَافِ حَالِ الْمَاضِينَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مَسْمُوعَةً، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الرِّسَالَةَ وَالتَّوْحِيدَ بَيَّنَ الْحَشْرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَصَارَ تَرْتِيبُ آخِرِ السُّورَةِ كَتَرْتِيبِ أَوَّلِهَا حَيْثُ ذَكَرَ الرِّسَالَةَ فِي أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً وَفِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [السجدة: 23] وَذَكَرَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [السجدة: 4] وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجدة: 7] وَفِي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [السجدة: 26] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ وَذَكَرَ الْحَشْرَ في أولها بقوله: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] وَفِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ.
[سورة السجده (32) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أَيْ لَا يُقْبَلُ إِيمَانُهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَقْبُولَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي دَارِ الدنيا، ولا يُنْظَرُونَ، أَيْ لَا يُمْهَلُونَ بِالْإِعَادَةِ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا فَيُقْبَلُ إِيمَانُهُمْ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الْمَسَائِلَ وَأَتْقَنَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ. قَالَ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ لَا(25/151)
تُنَاظِرْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ بَعْدَ هَذَا الْقِتَالُ. وَقَوْلُهُ: وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا:
وَانْتَظِرْ هَلَاكَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ هَلَاكَكَ، وَعَلَى هَذَا فَرَّقَ بَيَّنَ الِانْتِظَارَيْنِ، لِأَنَّ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَعْدِهِ وَانْتِظَارَهُمْ بِتَسْوِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: وَانْتَظِرِ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ النَّصْرَ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ الِانْتِظَارَيْنِ وَثَالِثُهَا: وَانْتَظِرْ عَذَابَهُمْ بِنَفْسِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ بِلَفْظِهِمُ اسْتِهْزَاءً، كَمَا قَالُوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الْأَعْرَافِ: 70] وَقَالُوا مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 71] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.(25/152)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
سورة الأحزاب
سبعون وثلاث آيات وهي مدينة بإجماع بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الأحزاب (33) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ. وفي تفسير الآية مسائل:
الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْمُنَادَى بِقَوْلِهِ يَا رَجُلُ وَيَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ يَا رَجُلُ يَدُلُّ عَلَى النِّدَاءِ وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَيُنْبِئُ عَنْ خَطَرِ خَطْبِ الْمُنَادَى لَهُ أَوْ غَفْلَةِ الْمُنَادَى أَمَّا الثَّانِي: فَمَذْكُورٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: (يَا أَيُّ) جَعَلَ الْمُنَادَى غَيْرَ مَعْلُومٍ أَوَّلًا فَيَكُونُ كُلُّ سَامِعٍ مُتَطَلِّعًا إِلَى الْمُنَادَى فَإِذَا خَصَّ وَاحِدًا كَانَ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءُ الْكُلِّ لِتَطَلُّعِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ يَا زَيْدُ أَوْ يَا رَجُلُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى جَانِبِ الْمُنَادَى إِلَّا الْمَذْكُورُ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ يا أَيُّهَا لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَفْلَةِ النَّبِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ النَّبِيُّ يُنَافِي الْغَفْلَةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبِيرٌ فَلَا يَكُونُ غَافِلًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى خَطَرِ الْخَطْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ اشْتِغَالِ الْمَأْمُورِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إِذْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ لِلْجَالِسِ اجْلِسْ وَلِلسَّاكِتِ اسْكُتْ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُتَّقِيًا فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
مَنْقُولٌ وَهُوَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْمُدَاوَمَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ لِلْجَالِسِ اجْلِسْ هاهنا إِلَى أَنْ أَجِيئَكَ، وَيَقُولُ الْقَائِلُ لِلسَّاكِتِ قَدْ أَصَبْتَ فَاسْكُتْ تَسْلَمْ، أَيْ دُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: وَهُوَ مَعْقُولٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ يَتَّقِي مِنْهُ عِبَادُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ بَعْضُهُمْ يَخَافُ مِنْ عِقَابِهِ وَبَعْضُهُمْ يَخَافُ مِنْ قَطْعِ ثَوَابِهِ وَثَالِثٌ يَخَافُ مِنِ احْتِجَابِهِ فَالنَّبِيُّ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّقْوَى بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَلَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالْمُخْلِصُ لَا يَأْمَنُهُ مادام فِي الدُّنْيَا.
وَكَيْفَ وَالْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ شَاغِلَةٌ وَالْآدَمِيُّ فِي الدُّنْيَا تَارَةً مَعَ اللَّهِ، وَأُخْرَى مُقْبِلٌ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ اللَّهُ وَإِلَى هَذَا إِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [فُصِّلَتَ: 6] يَعْنِي يُرْفَعُ الْحِجَابُ عَنِّي وَقْتَ الْوَحْيِ ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْكُمْ كَأَنِّي مِنْكُمْ فَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى يُوجِبُ اسْتِدَامَةَ الْحُضُورِ الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ لَحْظَةٍ كَانَ يَزْدَادُ عِلْمُهُ وَمَرْتَبَتُهُ حَتَّى كَانَ حَالُهُ فِيمَا مَضَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ تَرْكًا لِلْأَفْضَلِ، فَكَانَ لَهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ تَقْوَى مُتَجَدِّدَةٌ فَقَوْلُهُ: اتَّقِ اللَّهَ عَلَى هَذَا أُمِرَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: / «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ»
وَلِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِهِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي(25/153)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
عِلْماً
[طه: 114] وَأَيْضًا إِلَى هَذَا وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
يَعْنِي يَتَجَدَّدُ لَهُ مَقَامٌ يَقُولُ الَّذِي أَتَيْتُ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم بحكم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت: 6] كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا يَسِيرٌ مِنْ جِهَةِ أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَمِنْ أَيْدِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْوَى أُخْرَى فَوْقَ مَا يَتَّقِيهِ بِحَيْثُ تُنْسِيهِ الْخَلْقَ وَلَا يُرِيدُ إِلَّا الْحَقَّ وَزَادَ اللَّهُ بِهِ دَرَجَتَهُ فكان ذلك بشارة له، في يا أَيُّهَا النَّبِيُّ أَنْتَ مَا بَقِيتَ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يُقْنَعُ مِنْكَ بِتَقْوَى، مِثْلَ تَقْوَى الْآحَادِ أَوْ تَقْوَى الْأَوْتَادِ بَلْ لَا يُقْنَعُ مِنْكَ إِلَّا بِتَقْوَى تُنْسِيكَ نَفْسَكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ مَالٍ إِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ غَاشِمٌ يَقْصِدُ قَتْلَهُ يَذْهَلُ عَنِ الْمَالِ وَيَهْرُبُ وَيَتْرُكُهُ، فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرَ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّقْوَى وَمَعَ هَذِهِ التَّقْوَى لَا يَبْقَى الْخَوْفُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَخَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ يَخَافُ زيد أَوْ عَمْرًا خَفْ عَمْرًا فَإِنَّ زَيْدًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْكَ إِذَا كَانَ عَمْرٌو مَعَكَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْخَوْفِ مِنْ عَمْرٍو فَإِنَّهُ يَخَافُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الْخَوْفِ مِنْ زَيْدٍ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِزِيَادَةِ الْخَوْفِ من عمرو حتى ينسيه زيدا.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ يُقَرِّرُ قَوْلَنَا أَيِ اتَّقِ اللَّهَ تَقْوَى تَمْنَعُكَ مِنْ طَاعَتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِمَ خَصَّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيعَ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ؟
نَقُولُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذِكْرَ الْغَيْرِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاتِّبَاعَ، وَلَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يَصِيرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُطِيعًا لَهُ بَلْ يَقْصِدُ اتِّبَاعَهُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ إِلَّا مُطَاعًا وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ مَنَعَهُ مِنْ طَاعَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَاعَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ أَوْ مُنَافِقٌ لِأَنَّ مَنْ يَأْمُرُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَمْرٍ أَمْرَ إِيجَابٍ مُعْتَقِدًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ يُعَاقِبُهُ بِحَقٍّ يَكُونُ كَافِرًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّقْوَى يَنْبَغِي أن تَكُونُ عَنْ صَمِيمِ قَلْبِكَ لَا تُخْفِي فِي نَفْسِكَ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِي يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الشَّجَاعَةَ حَيْثُ يَخَافُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَجَلَّدُ فَإِنَّ التَّقْوَى مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلِيمٌ، وَقَوْلُهُ: حَكِيماً إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ وَهْمِ مُتَوَهِّمٍ وَهُوَ أَنَّ مُتَوَهِّمًا لَوْ قَالَ إِذَا قَالَ اللَّهُ شَيْئًا وَقَالَ جَمِيعُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مَعَ أَنَّهُمْ أَقَارِبُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْئًا آخَرَ وَرَأَوُا الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَذَكَرُوا وَجْهًا مَعْقُولًا فَاتِّبَاعُهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا مَصْلَحَةً فَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى إِنَّهُ حَكِيمٌ وَلَا تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ إلى فِي قَوْلِ الْحَكِيمِ، فَإِذَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِشَيْءٍ فاتبعه ولو منعك أهل العالم عنه. وقوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 2 الى 4]
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
يُقَرِّرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ حَكِيمٌ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْوَاجِبُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لَمَّا قَالَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَيَّنَ أَنَّهُ عَالِمٌ خَبِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ فَسَوُّوا قُلُوبَكُمْ وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:(25/154)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَعْنِي اتَّقِ اللَّهَ وَإِنْ تَوَهَّمْتَ مِنْ أَحَدٍ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ كَفَى بِهِ دَافِعًا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ مَعَهُ شَيْءٌ وَإِنْ ضَرَّ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَبِي مَعْمَرٍ كَانَ يَقُولُ لِي قَلْبَانِ أَعْلَمُ وَأَفْهَمُ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَفْهَمُ مُحَمَّدٌ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أَيْ مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ قَلْبَيْنِ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ لِرَجُلٍ أَمِينٍ وَلَا لِابْنِ أَبَوَيْنِ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَهُ بِتَقْوَى لَا يَكُونُ فَوْقَهَا تَقْوَى وَمَنْ يَتَّقِي وَيَخَافُ شَيْئًا خَوْفًا شَدِيدًا لَا يَدْخُلُ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ آخَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَائِفَ الشَّدِيدَ الْخَوْفِ يَنْسَى مُهِمَّاتِهِ حَالَةَ الْخَوْفِ فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي قَلْبِكَ تَقْوَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ المرء ليس له قلبان حي يتقي بأحدهما الله وبالآخرة غَيْرَهُ فَإِنِ اتَّقَى غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِصَرْفِ الْقَلْبِ عَنْ جِهَةِ اللَّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمُتَّقِي الَّذِي يَدَّعِي أنه يتق اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ أَحَدًا وَلَا مِثْلَ مَا اتَّقَيْتَ فِي حِكَايَةِ زَيْنَبَ زَوْجَةِ زَيْدٍ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] يَعْنِي مِثْلُ تِلْكَ التَّقْوَى لَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَ فِي/ قَلْبِكَ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ ذَكَرَ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ السُّوءَ. فَقَالَ: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أَيْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ دَعِيَّ الْمَرْءِ ابْنَهُ ثُمَّ قَدَّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى انْدِفَاعِ الْقُبْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أَيْ إِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ لِأَزْوَاجِكُمْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَلَا تَصِيرُ هِيَ أُمًّا بِإِجْمَاعِ الْكُلِّ، أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَلِأَنَّهُ ظِهَارٌ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ، وَأَمَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا حَتَّى كَانَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا مِنْ جَدِيدٍ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أُمِّي أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي لَا يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الزَّوْجَةِ أُمًّا كَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِلدَّعِيِّ أنت ابني لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ ابْنًا فَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ زَوْجَةَ الِابْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ خَوْفُكَ مِنَ النَّاسِ لَهُ وَجْهٌ كَيْفَ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا مَخُوفًا مَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَخَافَ غَيْرَ اللَّهِ أَوْ لَيْسَ لَكَ قَلْبَانِ وَقَلْبُكَ مَشْغُولٌ بِتَقْوَى اللَّهِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَخَافَ أَحَدًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُعْتَبَرَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَلَامٌ يَكُونُ عَنْ شَيْءٍ كَانَ فَيُقَالُ: وَالثَّانِي: كَلَامٌ يُقَالُ فَيَكُونُ كَمَا قِيلَ وَالْأَوَّلُ كَلَامُ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا يَكُونُ وَالْآخَرُ كَلَامُ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ إِذَا قَالُوا شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالُوهُ وَكِلَاهُمَا صَادِرٌ عَنْ قَلْبٍ وَالْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ بِالْفَمِ فَحَسْبُ هُوَ مِثْلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ أَوْ نُبَاحِ الْكَلْبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَالَّذِي لَا يَكُونُ عَنْ قَلْبٍ وَرَوِيَّةٍ لَا اعْتِمَادَ عليه، والله تعالى ما كَرَّمَ ابْنَ آدَمَ وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهَا، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا ابْنُ فُلَانٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ ابْنَهُ لَيْسَ كَلَامًا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْفُؤَادِ وَهَذَا فِي الْفَمِ لَا غَيْرُ، وَاللَّطِيفَةُ هِيَ أن الله تعالى هاهنا قَالَ: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التَّوْبَةِ: 30] يَعْنِي نِسْبَةَ الشَّخْصِ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ قَوْلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ وَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا فِي قَلْبٍ فَهُوَ قَوْلٌ بِالْفَمِ مِثْلُ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِمَّا عَنْ(25/155)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
عَقْلٍ أَوْ عَنْ شَرْعٍ فَإِذَا قَالَ فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَنْ حَقِيقَةٍ أَوْ يَكُونَ عَنْ شَرْعٍ بِأَنْ يَكُونَ ابْنَهُ شَرْعًا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَقِيقَةَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ قَبْلُ زَوْجَةَ شَخْصٍ آخَرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَإِنَّا نُلْحِقُهُ بِالزَّوْجِ الثَّانِي لِقِيَامِ الْفِرَاشِ وَنَقُولُ إِنَّهُ ابْنُهُ وَفِي الدَّعِيِّ لَمْ تُوجَدِ الْحَقِيقَةُ وَلَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَهَذَا خِلَافُ الْحَقِّ لِأَنَّ أَبَاهُ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ وَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ زَوْجَةُ الِابْنِ فَتَحْرُمُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ لَكَ حَلَالٌ، وَقَوْلُهُمْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ فَإِنَّهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَأَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ، وَقَوْلُ اللَّهِ حَقٌّ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يَعْنِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِكَوْنِهِ حَقًّا وَلِكَوْنِهِ هَادِيًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بِالْفَمِ فَحَسْبُ يُشْبِهُ صَوْتَ الْبَهَائِمِ الَّذِي يُوجَدُ لَا عَنْ قَلْبٍ، ثُمَّ إِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بِالْقَلْبِ قَدْ/ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ شَيْئًا عَنِ اعْتِقَادٍ قَدْ يَكُونُ مُطَابِقًا فَيَكُونُ حَقًّا، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَالْقَوْلُ الَّذِي بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ أَقْوَالِكُمْ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْوُجُودَ، وَقَوْلُ اللَّهِ حَقٌّ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ الْوُجُودُ فَإِنَّهُ يَقُولُ عَمَّا كَانَ أَوْ يَقُولُ فَيَكُونُ، فَإِذَنْ قَوْلُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَقْوَالِكُمُ الَّتِي عَنْ قُلُوبِكُمْ فَكَيْفَ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إِلَى أَقْوَالِكُمُ الَّتِي بِأَفْوَاهِكُمْ، فَإِذَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَأْخُذُوا بِقَوْلِكُمُ الْكَاذِبِ اللَّاغِي وَتَتْرُكُوا قَوْلَ اللَّهِ الْحَقَّ فَمَنْ يَقُولُ بِأَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِزَيْنَبَ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا يَكُونُ قَدْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ الْحَقَّ وَأَخَذَ بِقَوْلٍ خَرَجَ عَنِ الْفَمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرٌ مِنَ الأخذ بقول الغير.
ثم بين الهداية وقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 5]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أَرْشَدُ وَقَالَ: هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ أَعْدَلُ فَإِنَّهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْإِضَافَةَ لِلْعُمُومِ أَيْ أَعْدَلُ كُلِّ كَلَامٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَثَانِيهِمَا:
أَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ مَنْوِيًّا كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ أَقْسَطُ مِنْ قَوْلِكُمْ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ تَمَّمَ الْإِرْشَادَ وَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يَعْنِي قُولُوا لَهُمْ إِخْوَانُنَا وَأَخُو فُلَانٍ فَإِنْ كَانُوا مُحَرَّرِينَ فَقُولُوا مَوْلَى فُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ يَعْنِي قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ يَا بُنَيَّ بِطَرِيقِ الشَّفَقَةِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ يَا أَبِي بِطَرِيقِ التَّعْظِيمِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ الْخَطَأِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ مِثْلُ الْخَطَأِ وَسَبْقِ اللِّسَانِ فَكَذَلِكَ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ ابْنِي وَالسَّهْوُ فِي قَوْلِهِ ابْنِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ سَوَاءٌ، وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ وَهُوَ الْجُنَاحُ يَعْنِي مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فِيهِ جُنَاحٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ الْمُذْنِبَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامًا شَافِيًا فِي المغفرة والرحمة في مواضع، ونعيد بعضها هاهنا فَنَقُولُ الْمَغْفِرَةُ هُوَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ حَتَّى إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَتَرَ عَيْبَ سَيِّدِهِ مَخَافَةَ عِقَابِهِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ غَفَرَ لَهُ، وَالرَّحْمَةُ هُوَ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ لِعَجْزِ الْمَرْحُومِ إِلَيْهِ لَا لِعِوَضٍ فَإِنَّ مَنْ مَالَ(25/156)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
إِلَى إِنْسَانٍ قَادِرٍ كَالسُّلْطَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، وَكَذَا مَنْ أَحْسَنَ إِلَى غَيْرِهِ رَجَاءً فِي خَيْرِهِ أَوْ عِوَضًا عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ آنِفًا مِنَ الْإِحْسَانِ لَا يُقَالُ رَحِمَهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا/ فَالْمَغْفِرَةُ إِذَا ذُكِرَتْ قَبْلَ الرَّحْمَةِ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ سَتَرَ عَيْبَهُ ثُمَّ رَآهُ مُفْلِسًا عَاجِزًا فَرَحِمَهُ وَأَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ، وَإِذَا ذُكِرَتِ الْمَغْفِرَةُ بَعْدَ الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَلِيلٌ يَكُونُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ مَالَ إِلَيْهِ لِعَجْزِهِ فَتَرَكَ عِقَابَهُ وَلَمْ يقتصر عليه بل ستر ذنوبه. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَقْرِيرٌ لِصِحَّةِ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ التَّزَوُّجِ بِزَيْنَبَ وَكَأَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ هَبْ أَنَّ الْأَدْعِيَاءَ لَيْسُوا بِأَبْنَاءٍ كَمَا قُلْتَ لَكِنَّ مَنْ سَمَّاهُ غَيْرُهُ ابْنًا إِذَا كَانَ لِدَعِيِّهِ شَيْءٌ حَسَنٌ لَا يَلِيقُ بِمُرُوءَتِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَطْعَنَ فِيهِ عُرْفًا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ دَفْعَ الْحَاجَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَجَانِبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ عَلَى حَوَاشِي النَّسَبِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ ثُمَّ دَفْعَ حَاجَةِ النَّفْسِ، وَالْأَوَّلُ عُرْفًا دُونَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ شَرْعًا فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ الدِّيَةُ عَنْهُمْ وَلَا تَتَحَمَّلُهَا عَنِ الْأَجَانِبِ وَالثَّانِي دُونَ الثَّالِثِ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرٌ بِدَلِيلِ النَّفَقَةِ وَالثَّالِثُ دُونَ الرَّابِعِ فَإِنَّ النَّفْسَ تُقَدَّمُ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يُغَطِّي بِهِ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَةً عَنْ أَحَدِ شِقَّيْ بَدَنِهِ، فَلَوْ أَخَذَ الْغِطَاءَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَغَطَّى بِهِ الْآخَرَ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ بِئْسَمَا فَعَلْتَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ أَشْرَفَ مِنَ الْآخَرِ مِثْلَ مَا إِذَا وَقَى الْإِنْسَانُ عَيْنَهُ بِيَدِهِ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ عَنْ رَأْسِهِ الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ حَوَاسِّهِ وَيَتْرُكُ رِجْلَهُ تَبْرُدُ فَإِنَّهُ الْوَاجِبُ عَقْلًا، فَمَنْ يَعْكِسُ الْأَمْرَ يُقَالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَلَوْ دَفَعَ الْمُؤْمِنُ حَاجَةَ نَفْسِهِ دُونَ حَاجَةِ نَبِيِّهِ يَكُونُ مَثَلُهُ مَثَلَ مَنْ يَدْهُنُ شَعْرَهُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ فِي بَرْدٍ مُفْرِطٍ قَاصِدًا بِهِ تَرْبِيَةَ شَعْرِهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِي رَأْسَهُ الَّذِي لَا نَبَاتَ لِشَعْرِهِ إِلَّا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ دَفْعُ حَاجَةِ النَّفْسِ فَرَاغُهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْعِبَادَةِ إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَوْ دَفَعَ الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ لَا لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ لَيْسَ/ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ مَا هُوَ فَوْقَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاجَةً وَإِذَا كَانَ لِلْعِبَادَةِ فَتَرْكُ النَّبِيِّ الَّذِي مِنْهُ يَتَعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْعِبَادَةِ فِي الْحَاجَةِ وَدَفْعِ حَاجَةِ النَّفْسِ مِثْلُ تَرْبِيَةِ الشَّعْرِ مَعَ إِهْمَالِ أَمْرِ الرَّأْسِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا حَرُمَ عَلَى الْأُمَّةِ التَّعَرُّضُ إِلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ الْوَاضِحَةِ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تقريرا آخَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْأُمِّ إِلَّا لِقَطْعِ نَظَرِ الْأُمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِامْرَأَةٍ شَارَكَتِ الزَّوْجَاتِ فِي التَّعَلُّقِ فَحَرُمَتْ مِثْلَ مَا حَرُمَتْ أَزْوَاجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَالَ: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ غَيْرَ مَنْ وَلَدَتْ لَا تَصِيرُ أُمًّا بِوَجْهٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 2] فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى في(25/157)
الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ جَوَابٌ عَنْ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ مِثْلُ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَاقِلُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الشَّرِيعَةِ. كَمَا أَنَّ امْرَأَتَيْنِ إِذَا ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَلَدًا بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ وَحَلَفَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى حُكِمَ لَهَا بِالْوَلَدِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الَّتِي حَلَفَتْ دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ بِكْرٌ بِبَيِّنَةٍ لَا يُحْكَمُ لَهَا بِالْوَلَدِ، فَعُلِمَ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِيقَةِ يُرْجَعُ إِلَى الشَّرْعِ، لَا بَلْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى النُّدُورِ تَغْلُبُ الشَّرِيعَةُ الْحَقِيقَةَ، فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يُجْعَلُ أَبًا لِوَلَدِ الزِّنَا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّارِعُ لَهُ الْحُكْمُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ هَذِهِ أُمِّي قَوْلٌ يُفْهَمُ لَا عَنْ حَقِيقَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِعِ [فَهُوَ] حَقٌّ وَالَّذِي يُؤَيِّدُهُ هُوَ أَنَّ الشَّارِعَ بِهِ الْحَقَائِقُ حَقَائِقُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ مَا صَارَتْ أُمًّا إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ الْوَلَدَ فِي رَحِمِهَا، وَلَوْ خَلَقَهُ فِي جَوْفِ غَيْرِهَا لَكَانَتِ الْأُمُّ غَيْرَهَا، فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّ الْحَقِيقِيَّةَ أُمًّا فَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ امْرَأَةً أُمًّا وَيُعْطِيَهَا حُكْمَ الْأُمُومَةِ، وَالْمَعْقُولُ فِي جَعْلِ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ زَوْجَةَ الْأَبِ مُحَرَّمَةً عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَحَلُّ الْغَيْرَةِ وَالتَّنَازُعِ فِيهَا، فَإِنَّ تَزَوُّجَ الِابْنِ بِمَنْ كَانَتْ تَحْتَ الْأَبِ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْرَفُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْأَبِ وَأَوْلَى بِالْإِرْضَاءِ، فَإِنَّ الْأَبَ يُرَبِّي فِي الدُّنْيَا فَحَسْبُ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرَبِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَاتُهُ مِثْلَ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ إِنَّ النَّبِيَّ أَبُوكُمْ وَيَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ أَزْوَاجَهُ أَزْوَاجُ أَبِيكُمْ فَنَقُولُ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ زَوْجَةَ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَوْ قَالَ أَنْتَ أَبُوهُمْ لَحَرُمَ عَلَيْهِ زَوْجَاتُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالنَّفْسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ»
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْقُوتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ إِلَى الْأَبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُهُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ أَزْوَاجَهُ لَهُمْ حُكْمُ زَوْجَاتِ/ الْأَبِ حَتَّى لَا تَحْرُمَ أَوْلَادُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَخَوَاتُهُنَّ وَلَا أُمَّهَاتُهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ يَحْرُمْنَ فِي الْأُمِّ الْحَقِيقِيَّةِ وَالرَّضَاعِيَّةِ.
ثُمَّ قال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً إِشَارَةً إِلَى الْمِيرَاثِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً إِشَارَةٌ إِلَى الْوَصِيَّةِ، يَعْنِي إِنْ أَوْصَيْتُمْ فَغَيْرُ الْوَارِثِينَ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تُوصُوا فَالْوَارِثُونَ أَوْلَى بِمِيرَاثِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا أَيُّ تَعَلُّقٍ لِلْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ بِمَا ذَكَرْتَ نَقُولُ تَعَلُّقٌ قَوِيٌّ خَفِيٌّ لَا يَتَبَيَّنُ إِلَّا لِمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِنُورِهِ، وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَصِيرُ لَهُ مَالُ الْغَيْرِ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لَا يَصِيرُ مَالُهُ لِغَيْرِ وَرَثَتِهِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَصِيرُ لَهُ مَالُ الْغَيْرِ إِذَا أَرَادَهُ وَلَا يَصِيرُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ قَطْعِ مِيرَاثِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ وَعَوَّضَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا تَرَكَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ حَرَجٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في أن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا يَصِيرُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ وَيَبْقَى لِوَرَثَتِهِ فَيُفَوَّتُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْجِعُ إليهم فقال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يَعْنِي بَيْنَكُمُ التَّوَارُثُ فَيَصِيرُ مَالُ أَحَدِكُمْ لِغَيْرِهِ بِالْإِرْثِ وَالنَّبِيُّ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلُ هَذَا أَنَّهُ أَوْلَى فِي حَيَاتِهِ بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ بِرًّا مَعَ صَدِيقٍ فَيُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ فيصير(25/158)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
أَوْلَى مِنْ قَرِيبِهِ وَكَأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ قَطَعَ الْإِرْثَ وَقَالَ هَذَا مَالِي لَا يَنْتَقِلُ عَنِّي إِلَّا إِلَى مَنْ أُرِيدُهُ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِصَدِيقِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَرَادَهُ ثُمَّ مَا يَفْضُلُ مِنْهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِ وَقَوْلُهُ: كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالثَّانِي: فِي اللوح المحفوظ. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 7]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] وَأَكَّدَهُ بِالْحِكَايَةِ الَّتِي خَشِيَ فِيهَا النَّاسَ لِكَيْ لَا يَخْشَى فِيهَا أَحَدًا غَيْرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ أَمْرًا يُوجِبُ الْخَشْيَةَ بِقَوْلِهِ: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] أَكَّدَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَقَالَ:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ كَأَنَّهُ قَالَ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَخَفْ أَحَدًا وَاذْكُرْ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ فِي أَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفٌ وَلَا طَمَعٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنَ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ مِنَ النَّبِيِّينَ إِرْسَالُهُمْ وَأَمْرُهُمْ بِالتَّبْلِيغِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ بِالذِّكْرِ أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى كَانَ لَهُمَا فِي زَمَانِ نَبِيِّنَا قَوْمٌ وَأُمَّةٌ فَذَكَرَهُمَا احْتِجَاجًا عَلَى قَوْمِهِمَا، وَإِبْرَاهِيمَ كَانَ الْعَرَبُ يَقُولُونَ بِفَضْلِهِ وَكَانُوا يَتْبَعُونَهُ فِي الشَّعَائِرِ بَعْضِهَا، وَنُوحًا لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلًا ثَانِيًا لِلنَّاسِ حَيْثُ وُجِدَ الْخَلْقُ مِنْهُ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ فَآدَمُ كَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ مِنْ نُوحٍ فَنَقُولُ خَلْقُ آدَمَ كَانَ لِلْعِمَارَةِ وَنُبُوَّتُهُ كَانَتْ مِثْلَ الْإِرْشَادِ لِلْأَوْلَادِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ إِهْلَاكُ قَوْمٍ وَلَا تَعْذِيبٌ، وَأَمَّا نُوحٌ فَكَانَ مَخْلُوقًا لِلنُّبُوَّةِ وَأُرْسِلَ لِلْإِنْذَارِ وَلِهَذَا أُهْلِكَ قَوْمُهُ وَأُغْرِقُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَثِيرٍ مِنَ المواضع يقول الله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [البقرة: 87] الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ لَوَقَعَ التَّعْرِيفُ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً غِلَظُ الْمِيثَاقِ هُوَ سُؤَالُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا فِي الْإِرْسَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: 6] وَهَذَا لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ وَقَبِلَهُ فَهُوَ مِيثَاقٌ، فَإِذَا أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَكُونُ ذَلِكَ تَغْلِيظًا لِلْمِيثَاقِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَزِيدَ وَلَا يَنْقُصَ فِي الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاءِ: 21] هو الإخبار بأنهم مسؤلون عَنْهَا كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ»
وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّجَالَ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ جَعَلَ الْأَنْبِيَاءَ قَائِمِينَ بِأُمُورِ أُمَّتِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الرشاد. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 8]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
يَعْنِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَعَاقِبَةُ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا حِسَابٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، لِأَنَّ الصَّادِقَ مُحَاسَبٌ وَالْكَافِرَ مُعَذَّبٌ، وَهَذَا كَمَا
قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عَذَابٌ»
وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ الخوف العام فيتأكد قوله:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] . ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 10]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)(25/159)
تَحْقِيقًا لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهُ خَوْفٌ مِنْ أَحَدٍ وذلك لأن في وَاقِعَةَ اجْتِمَاعِ الْأَحْزَابِ وَاشْتِدَادِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَصْحَابِ حَيْثُ اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ بِأَسْرِهِمْ وَالْيَهُودُ بِأَجْمَعِهِمْ وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْخَنْدَقَ، كَانَ الْأَمْرُ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ بَالِغًا إِلَى الْغَايَةِ وَاللَّهُ دَفَعَ الْقَوْمَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَآمَنَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَبِّهِ فَإِنَّهُ كَافٍ أَمْرَهُ وَلَا يَأْمَنُ مَكْرَهُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَقْهَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ كَمَا قَهَرَ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَعَ قُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها إِشَارَةٌ إِلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ إِرْسَالِ رِيحٍ بَارِدَةٍ عَلَيْهِمْ فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ وَإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ وَقَذْفِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى كَانَ الْبَعْضُ يَلْتَزِقُ بِالْبَعْضِ مِنْ خَوْفِ الْخَيْلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَالْحِكَايَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ علم التجاء كم إِلَيْهِ وَرَجَاءَكُمْ فَضْلَهُ فَنَصَرَكُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الِاسْتِعْدَاءِ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِوُجُوبِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ جَوَازِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها أَيِ اللَّهُ يَقْضِي حَاجَتَكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ لَكُمْ وَجْهُ الْأَمْنِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى عَدَمِ ظُهُورِهِ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْأَشْيَاءَ فَلَا تَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فَلَا تَقُولُوا بِأَنَّا نَفْعَلُ شَيْئًا وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَغَايَةِ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ مِنْ جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الْأَبْصَارُ أَيْ مَالَتْ عَنْ سُنَنِهَا فَلَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى الْعَدُوِّ لِكَثْرَتِهِ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الشِّدَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ عِنْدَ الْغَضَبِ يَنْدَفِعُ وَعِنْدَ الْخَوْفِ يَجْتَمِعُ فَيَتَقَلَّصُ فَيَلْتَصِقُ بِالْحَنْجَرَةِ وَقَدْ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَسُدَّ مَجْرَى النفس فلا يقدر المرء أن يَتَنَفَّسُ وَيَمُوتُ مِنَ الْخَوْفِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الْوَاقِعَةِ: 83] وَقَوْلُهُ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ مُبَالَغَةً يَعْنِي تَظُنُّونَ كُلَّ ظَنٍّ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كُلُّ أَحَدٍ يَظُنُّ شَيْئًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ظُنُونَهُمُ الْمَعْهُودَةَ، لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ظَنُّ الْخَيْرِ بِاللَّهِ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ظُنُّوا بِاللَّهِ خَيْرًا»
وَمِنَ الْكَافِرِ الظَّنُّ السَّوْءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] وَقَوْلُهُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 23] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْمَصْدَرُ لَا يُجْمَعُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي جَمْعِ الظُّنُونِ؟ فَنَقُولُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَلَكِنَّ الِاسْمَ قَدْ يُجْعَلُ مَصْدَرًا كَمَا يُقَالُ ضَرَبْتُهُ سِيَاطًا وَأَدَّبْتُهُ مِرَارًا فَكَأَنَّهُ قَالَ ظَنَنْتُمْ ظَنًّا بَعْدَ ظَنٍّ أَيْ مَا ثَبَتُّمْ عَلَى ظَنٍّ فَالْفَائِدَةُ هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ قَالَ: تَظُنُّونَ ظَنًّا، جَازَ أَنْ يَكُونُوا مُصِيبِينَ فَإِذَا قَالَ: ظُنُونًا، تَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ ظَنُّهُ كَاذِبًا لِأَنَّ الظُّنُونَ قَدْ تُكَذَّبُ كُلُّهَا/ وَقَدْ يُكَذَّبُ بَعْضُهَا إِذَا كَانَتْ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مِثَالُهُ إِذَا رَأَى جَمْعٌ مِنْ بَعِيدٍ جِسْمًا وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ زَيْدٌ وَآخَرُونَ أَنَّهُ عَمْرٌو وَقَالَ ثَالِثٌ إِنَّهُ بَكْرٌ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمُ الْحَقُّ قَدْ يَكُونُ الْكُلُّ مُخْطِئِينَ وَالْمَرْئِيُّ شَجَرٌ أَوْ حَجَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمْ مُصِيبًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُصِيبِينَ فَقَوْلُهُ: الظُّنُونَا أَفَادَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ أَخْطَأَ الظَّنَّ، وَلَوْ قَالَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظَنًّا مَا كَانَ يُفِيدُ هذا. ثم قال تعالى:(25/160)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
[سورة الأحزاب (33) : آية 11]
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ امْتَحَنَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ عَنِ الْمُنَافِقِ، وَالِامْتِحَانُ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ لِاسْتِبَانَةِ الْأَمْرِ لَهُ بَلْ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ أَرَادَ إِظْهَارَ الْأَمْرِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَلِمَ مِنْ عَبْدِهِ الْمُخَالَفَةَ وَعَزَمَ عَلَى مُعَاقَبَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَعِنْدَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَغَيْرُهُمْ فَيَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ عَالِمًا بِأَنَّهُ يُخَالِفُهُ فَيُبَيِّنُ الْأَمْرَ عِنْدَ الْغَيْرِ فَتَقَعُ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ حَيْثُ لَا يَقَعُ لِأَحَدٍ أَنَّهَا بِظُلْمٍ أَوْ مِنْ قِلَّةِ حِلْمٍ وَقَوْلُهُ: وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا وَحُرِّكُوا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَبِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ مَرَّةً أُخْرَى، وهم المؤمنون حقا. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 12 الى 13]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
فَسَّرَ الظُّنُونَ وَبَيَّنَهَا، فَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ زُورًا وَوَعْدُهُمَا كَانَ غُرُورًا حَيْثُ قَطَعُوا بِأَنَّ الْغَلَبَةَ وَاقِعَةٌ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ أَيْ لَا وَجْهَ لِإِقَامَتِكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ كَمَا يُقَالُ لَا إِقَامَةَ عَلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ أَيْ لَا وَجْهَ لَهَا وَيَثْرِبُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ الَّتِي هِيَ الْمَدِينَةُ فَارْجِعُوا أَيْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَاتَّفِقُوا مَعَ الْأَحْزَابِ تَخْرُجُوا مِنَ الْأَحْزَانِ ثُمَّ السَّامِعُونَ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ وَاسْتَأْذَنُوهُ وَتَعَلَّلُوا بِأَنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ أَيْ فِيهَا خَلَلٌ لَا يَأْمَنُ صَاحِبُهَا السَّارِقَ عَلَى مَتَاعِهِ وَالْعَدُوَّ عَلَى أَتْبَاعِهِ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ وَبَيَّنَ قَصْدَهُمْ وَمَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَهُوَ الْفِرَارُ وزوال القرار بسبب الخوف/ ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 14]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِرَارَ وَالرُّجُوعَ لَيْسَ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ لِأَنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا لِغَرَضٍ، فَإِذَا فَاتَهُ الْغَرَضُ لَا يَفْعَلُهُ، كَمَنْ يَبْذُلُ الْمَالَ لِكَيْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ بَيْتُهُ فَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ الْبَيْتُ لَا يَبْذُلُهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ قَالُوا بِأَنَّ رُجُوعَنَا عَنْكَ لِحِفْظِ بُيُوتِنَا وَلَوْ دَخَلَهَا الْأَحْزَابُ وَأَخَذُوهَا مِنْهُمْ لَرَجَعُوا أَيْضًا، وَلَيْسَ رُجُوعُهُمْ عَنْكَ إِلَّا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَحُبِّهِمُ الْفِتْنَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَدِينَةَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْبُيُوتَ، وَقَوْلُهُ:
وَما تَلَبَّثُوا بِها يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْفِتْنَةَ إِلَّا يَسِيراً فَإِنَّهَا تَزُولُ وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَدِينَةَ أَوِ الْبُيُوتَ أَيِ مَا تَلَبَّثُوا بِالْمَدِينَةِ إلا يسيرا فإن المؤمنين يخرجونهم. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 الى 16]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)
بَيَانًا لِفَسَادِ سَرِيرَتِهِمْ وَقُبْحِ سِيرَتِهِمْ لِنَقْضِهِمُ الْعُهُودَ فَإِنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا عُذْرًا وندما، وذكروا أن القتال لا يزال لَهُمْ قَدَمًا ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا وَقَوْلُهُ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ مُقَدَّرَةٌ لَا يُمْكِنُ الْفِرَارُ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْقَرَارُ، وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ كَائِنٌ فَمَنْ(25/161)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
أَمَرَ بِشَيْءٍ إِذَا خَالَفَهُ يَبْقَى فِي وَرْطَةِ الْعِقَابِ آجِلًا وَلَا يَنْتَفِعُ بِالْمُخَالَفَةِ عَاجِلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا كَأَنَّهُ يَقُولُ وَلَوْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ فِي يَوْمِكُمْ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَمَا دُمْتُمْ بَلْ لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْغَبُ فِي شَيْءٍ قَلِيلٍ مَعَ أَنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَا فِرَارَ لَكُمْ وَلَوْ كَانَ لَمَا مُتِّعْتُمْ بَعْدَ الْفِرَارِ إِلَّا قَلِيلًا. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 17]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
بَيَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ وَقَوْلُهُ: وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلِيٌّ يَشْفَعُ لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاكُمْ وَلَا نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ وَيَدْفَعُ عنكم السوء إذا أتاكم.
ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ.
أَيِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ تَعَالَوْا إِلَيْنَا وَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْأَنْصَارِ لَا تُقَاتِلُوا وَأَسْلِمُوا مُحَمَّدًا إِلَى قُرَيْشٍ وَثَانِيهِمَا: الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لأهل المدينة تعالوا إلينا وكونوا معنا وهلم بِمَعْنَى تَعَالَ أَوِ احْضُرْ وَلَا تُجْمَعُ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ وَتُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا فَيُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ هَلُمُّوا وَلِلنِّسَاءِ هَلُمُّنَّ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ بِمَعْنَى يَتَخَلَّفُونَ عَنْكُمْ وَلَا يَخْرُجُونَ مَعَكُمْ وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ بُخَلَاءَ حَيْثُ لَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَيْئًا وَثَانِيهِمَا: لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ بِمَعْنَى لَا يُقَاتِلُونَ مَعَكُمْ وَيَتَعَلَّلُونَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ وَقْتَ الْحُضُورِ مَعَكُمْ، وَقَوْلُهُ: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أَيْ بِأَنْفُسِهِمْ وأبدانهم.
ثم قال تعالى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ جُبْنِهِمْ وَنِهَايَةِ رَوْعِهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخْلَ شَبِيهُ الْجُبْنِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْبُخْلَ بَيَّنَ سَبَبَهُ وَهُوَ الْجُبْنُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْجَبَانَ يَبْخَلُ بِمَالِهِ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّعُ الظَّفَرَ/ فَلَا يَرْجُو الْغَنِيمَةَ فَيَقُولُ هَذَا إِنْفَاقٌ لَا بَدَلَ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَيَتَيَقَّنُ الظَّفَرَ وَالِاغْتِنَامَ فَيَهُونُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَالِ فِي الْقِتَالِ طَمَعًا فِيمَا هُوَ أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَأَمَّا بِالنَّفْسِ وَالْبَدَنِ فَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْجَبَانَ يَخَافُ قَرْنَهُ وَيَتَصَوَّرُ الْفَشَلَ فَيَجْبُنُ وَيَتْرُكُ الْإِقْدَامَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ فَيَحْكُمُ بِالْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ فَيُقْدِمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ أَيْ غَلَبُوكُمْ بِالْأَلْسِنَةِ وَآذَوْكُمْ بِكَلَامِهِمْ يَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ قَاتَلْنَا وَبِنَا انْتَصَرْتُمْ وَكَسَرْتُمُ الْعَدُوَّ وَقَهَرْتُمْ وَيُطَالِبُونَكُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوْفَرِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ رَاضِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ، وَقَوْلُهُ: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ قِيلَ الْخَيْرُ الْمَالُ(25/162)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ قَلِيلُو الْخَيْرِ في الحالتين كثير والشر فِي الْوَقْتَيْنِ فِي الْأَوَّلِ يَبْخَلُونَ، وَفِي الْآخِرِ كَذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَعْنِي لَمْ يُؤْمِنُوا حَقِيقَةً وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ لَفْظًا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُ: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَكُونُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْبَاطَ إِعْدَامٌ وَإِهْدَارٌ، وَإِعْدَامُ الْأَجْسَامِ إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ يَقُولُ الْجِسْمُ بِتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَحْرَقَ شَيْئًا يَبْقَى مِنْهُ رَمَادٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّمَادَ إِنْ فَرَّقَتْهُ الرِّيحُ يَبْقَى مِنْهُ ذَرَّاتٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ بَعْضِ النَّاسِ وَالْحَقُّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ الْأَجْسَامَ وَيُعِيدُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ فِي الْعَيْنِ مَعْدُومٌ وَإِنْ كَانَ يبقى يَبْقَى بِحُكْمِهِ وَآثَارِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ وَاعْتِبَارٌ فَهُوَ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَالْعَمَلُ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْحَقِيقَةِ بخلاف الجسم. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 الى 21]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
أَيْ مِنْ غَايَةِ الْجُبْنِ عِنْدَ ذَهَابِهِمْ كَانُوا يَخَافُونَهُمْ وَعِنْدَ مَجِيئِهِمْ كَانُوا يَوَدُّونَ لَوْ كَانُوا فِي الْبَوَادِي وَلَا يَكُونُونَ بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ أَنَّهُمْ عِنْدَ حُضُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ غَائِبُونَ حَيْثُ لَا يُقَاتِلُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: / وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 22]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ ثُمَّ قَالُوا:
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الْأَحْزَابِ: 12] وَقَوْلُهُمْ:
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى مَا وَقَعَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ صِدْقَ اللَّهِ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَإِنَّمَا هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَقَدْ وَقَعَ وَصَدَقَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ مَا وَعَدَ فَيَقَعُ الْكُلُّ مِثْلُ فَتْحِ مَكَّةَ وَفَتْحِ الروم وفارس وقوله: ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً بِوُقُوعِهِ وَتَسْلِيمًا عِنْدَ وُجُودِهِ. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 25]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
إِشَارَةً إِلَى وَفَائِهِمْ بِعَهْدِهِمُ الَّذِي عَاهَدُوا اللَّهَ أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ نَبِيَّهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ أَيْ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَوَفَى بِنَذْرِهِ وَالنَّحْبُ النَّذْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بَعْدُ فِي الْقِتَالِ يَنْتَظِرُ الشَّهَادَةَ وَفَاءً بِالْعَهْدِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَا نُوَلِّي الْأَدْبَارَ فَبَدَّلُوا قَوْلَهُمْ وَوَلَّوْا أَدْبَارَهُمْ وَقَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أَيْ بِصِدْقِ مَا وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا صَدَقُوا مَوَاعِيدَهُمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَأَخْلَفُوا(25/163)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ/ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَرَادَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ يَأْسُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَآمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً حيث ستر ذنوبهم ورَحِيماً حَيْثُ رَحِمَهُمْ وَرَزَقَهُمُ الْإِيمَانَ فَيَكُونُ هَذَا فِيمَنْ آمَنَ بَعْدَهُ أَوْ نَقُولُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لِكَثْرَةِ ذَنْبِهِمْ وَقُوَّةِ جُرْمِهِمْ وَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَغَفَرَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ مَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَقَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أَيْ مَعَ غَيْظِهِمْ لَمْ يَشْفُوا صَدْرًا وَلَمْ يُحَقِّقُوا أَمْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أَيْ لَمْ يُحْوِجْهُمْ إِلَى قِتَالٍ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى قِتَالِهِمْ عَزِيزًا قَادِرًا على استئصال الكفار وإذلالهم ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 26]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)
أَيْ عَاوَنُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ مِنْ قِلَاعِهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ للقتل وأولادهم ونسائهم لِلسَّبْيِ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَهُمُ الرِّجَالُ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَهُمُ الصِّبْيَانُ وَالنِّسْوَانُ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ حَيْثُ قَالَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْخِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فَائِدَةٌ؟
قُلْتُ قَدْ أَجَبْنَا أَنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَالْأَعْرَفِ فَالْأَعْرَفِ وَالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَالرِّجَالُ كَانُوا مَشْهُورِينَ فَكَانَ الْقَتْلُ وَارِدًا عَلَيْهِمْ وَالْأَسْرَى كَانُوا هُمُ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَلَمْ يَكُونُوا مَشْهُورِينَ وَالسَّبْيُ وَالْأَسْرُ أَظْهَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَبْقَى فَيَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ أَسِيرٌ فَقَدَّمَ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ مَا هُوَ أَشْهَرُ عَلَى الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ وَمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدَّمَهُ عَلَى الْمَحَلِّ الْأَخْفَى، وَإِنْ شِئْنَا نَقُولُ بِعِبَارَةٍ تُوَافِقُ الْمَسَائِلَ النَّحْوِيَّةَ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ فِعْلٌ وَمَفْعُولٌ وَالْأَصْلُ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ، أَمَّا أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ اسْمِيَّةً لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي فَرِيقٍ الرَّفْعَ وَكَانَ يَقُولُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ تَقْتُلُونَهُمْ فَلَمَّا نَصَبَ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ تَقْتُلُونَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَالْحَامِلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ الْمَفْعُولِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ وَأَنَّهُ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَلَوْ قَالَ تَقْتُلُونَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ السَّامِعُ مَفْعُولَ تَقْتُلُونَ يَكُونُ زَمَانٌ وَقَدْ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ فَيُفَوِّتُهُ فَلَا يُعَلْمُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَقْتُولُونَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ فَرِيقًا مَعَ سَبْقٍ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ إِلَى سَمْعِهِ يَسْتَمِعُ إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فِعْلًا وَمَفْعُولًا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ لِفَائِدَةِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا عَلَى/ الْأَصْلِ فَعَدَمُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّقْدِيمِ إِذَا عَرَفَ حَالَهُمْ وَمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِمْ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَرِيقًا تَأْسِرُونَ فَمَنْ سَمِعَ فَرِيقًا رُبَّمَا يَظُنُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ يُطْلَقُونَ، أَوْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ تَقْدِيمُ الفعل هاهنا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وَقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فَإِنَّ قَذْفَ الرُّعْبِ قَبْلَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّ الرُّعْبَ صَارَ سَبَبَ الْإِنْزَالِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرَحُ فِي إِنْزَالِهِمْ أَكْثَرَ، قُدِّمَ الإنزال على قذف الرعب والله أعلم. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 27]
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
فِيهِ تَرْتِيبٌ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا تَمَلَّكُوا أَرْضَهُمْ بِالنُّزُولِ فِيهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ثُمَّ تملكوا ديارهم(25/164)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَأَخْذِ قِلَاعِهِمْ ثُمَّ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي كانت في بيوتهم وقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قِيلَ الْمُرَادُ الْقِلَاعُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الرُّومُ وَأَرْضُ فَارِسَ وَقِيلَ كُلُّ مَا يُؤْخَذُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً هَذَا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ من قولهم: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها هُوَ مَا سَيُؤْخَذُ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَلَّكَهُمْ تِلْكَ الْبِلَادَ وَوَعَدَهُمْ بِغَيْرِهَا دَفَعَ اسْتِبْعَادَ مَنْ لَا يَكُونُ قَوِيَّ الِاتِّكَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ أَلَيْسَ اللَّهُ مَلَّكَكُمْ هَذِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُمَلِّكُكُمْ غَيْرَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 29]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)
وَجْهُ التَّعَلُّقِ هُوَ أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ مُنْحَصِرَةٌ فِي شَيْئَيْنِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِقَوْلِهِ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ نَبِيَّهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الشَّفَقَةِ وَبَدَأَ بِالزَّوْجَاتِ فَإِنَّهُنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالشَّفَقَةِ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُنَّ فِي النَّفَقَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ مِنْهَا أَنَّ التَّخْيِيرَ/ هَلْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ التَّخْيِيرُ قَوْلًا كَانَ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ لِأَنَّهُ إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ قُلْ لَهُمْ صَارَ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَأَمَّا التَّخْيِيرُ مَعْنًى فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لَوِ اخْتَارَتِ الْفِرَاقَ هَلْ كَانَ يَصِيرُ اخْتِيَارُهَا فِرَاقًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ فِرَاقًا وَإِنَّمَا تُبِينُ الْمُخْتَارَةُ نَفْسَهَا بِإِبَانَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَمِنْهَا أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقُلْنَا بِأَنَّهَا لَا تَبِينُ إِلَّا بِإِنَابَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَلْ كَانَ يجب على النبي عليه السلام الطلاق أو لَا؟ الظَّاهِرُ نَظَرًا إِلَى مَنْصِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ بِخِلَافٍ وَاحِدٍ مِنَّا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا الْوَفَاءُ بِمَا يَعِدُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُخْتَارَةَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ هَلْ كَانَتْ تَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ أَمْ لَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ، وَإِلَّا لَا يَكُونُ التَّخْيِيرُ مُمْكِنًا لَهَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِزِينَةِ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا أَنَّ مَنِ اخْتَارَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَاقُهَا أَمْ لَا؟ الظَّاهِرُ الْحُرْمَةُ نَظَرًا إِلَى مَنْصِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُبَاشِرُهُ أَصْلًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ لَعُوقِبَ أَوْ عُوتِبَ، وَفِيهَا لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ مِنْهَا تَقْدِيمُ اخْتِيَارِ الدُّنْيَا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَى جَانِبِهِنَّ غَايَةَ الِالْتِفَاتِ وَكَيْفَ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ مَعَ التَّأَذِّي الْقَوِيِّ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَادَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَتَأَثَّرُ مِنَ اخْتِيَارِهِنَّ فِرَاقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّسْرِيحَ الْجَمِيلَ مِنْهُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ إِعْلَامًا لَهُنَّ بِأَنَّ فِي اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِيَارَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الدِّينُ وَقَوْلُهُ: أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَيْ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْكُنَّ، وَقَوْلُهُ: تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فِيهِ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: لِلْمُحْسِناتِ لِبَيَانِ الْإِحْسَانِ حَتَّى تَكُونَ الْآيَةُ فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [لُقْمَانَ: 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الكهف: 88] وقوله:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقَرَةِ: 82] وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ فِي الذَّاتِ الْحَسَنِ فِي الصِّفَاتِ الْبَاقِي فِي(25/165)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَظِيمَ فِي الْأَجْسَامِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الزَّائِدِ فِي الطُّولِ وَفِي الْعَرْضِ وَفِي الْعُمْقِ، حَتَّى لَوْ كَانَ زَائِدًا فِي الطُّولِ يُقَالُ لَهُ طَوِيلٌ، وَلَوْ كَانَ زَائِدًا فِي الْعَرْضِ يُقَالُ لَهُ عَرِيضٌ، وَكَذَلِكَ الْعَمِيقُ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ قِيلَ عَظِيمٌ، فَيُقَالُ جَبَلٌ عَظِيمٌ إِذَا كَانَ عَالِيًا مُمْتَدًّا فِي الْجِهَاتِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَفِعًا فَحَسْبُ يُقَالُ جَبَلٌ عَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَجْرُ الدُّنْيَا فِي ذَاتِهِ قَلِيلٌ وَفِي صِفَاتِهِ غَيْرُ خَالٍ عَنْ جِهَةِ قُبْحٍ، لِمَا فِي مَأْكُولِهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالثِّقَلِ، وَكَذَلِكَ فِي مَشْرُوبِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَغَيْرُ دَائِمٍ، وَأَجْرُ الْآخِرَةِ كَثِيرٌ خَالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم/ ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 30]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
اما خيرهن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَدَّبَهُنَّ اللَّهُ وَهَدَّدَهُنَّ لِلتَّوَقِّي عَمَّا يَسُوءُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْبُحُ بِهِنَّ مِنَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي هِيَ أَصْعَبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ كُلِّ مَا تَأْتِي بِهِ زَوْجَتُهُ وَأَوْعَدَهُنَّ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ وَفِيهِ حِكْمَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ زَوْجَةَ الْغَيْرِ تُعَذَّبُ عَلَى الزِّنَا بِسَبَبِ مَا فِي الزِّنَا مِنَ الْمَفَاسِدِ وَزَوْجَةُ النَّبِيِّ تُعَذَّبُ إن أتت به لذلك والإيذاء قَلْبِهِ وَالْإِزْرَاءِ بِمَنْصِبِهِ، وَعَلَى هَذَا بَنَاتُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ تحت النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَتَتْ بِفَاحِشَةٍ تَكُونُ قَدِ اخْتَارَتْ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ خَيْرًا عِنْدَهَا مِنَ النَّبِيِّ وَأَوْلَى، وَالنَّبِيُّ أَوْلَى مِنَ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنَ الْغَيْرِ، فَقَدْ نَزَّلَتْ مَنْصِبَ النَّبِيِّ مَرْتَبَتَيْنِ فَتُعَذَّبُ مِنَ الْعَذَابِ ضِعْفَيْنِ ثَانِيَتِهِمَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى شَرَفِهِنَّ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَذَابُهَا ضِعْفُ عَذَابِ الْأَمَةِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهَا، وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ نِسْبَةُ السَّادَاتِ إِلَى الْعَبِيدِ لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَذَلِكَ زَوْجَاتُهُ وَقَرَائُبُهُ اللَّاتِي هُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّ الشَّخْصِ امْرَأَةٌ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِ وَاجِبَةُ الطَّاعَةِ، وَزَوْجَتُهُ مَأْمُورَةٌ مَحْكُومَةٌ لَهُ وَتَحْتَ طَاعَتِهِ، فَصَارَتْ زَوْجَةُ الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَوْجَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] مِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنُ الْوُقُوعِ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ، وَلَا يَقَعُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ جَزْمًا وَفِي بَعْضٍ يَقَعُ جَزْمًا مَنْ مَاتَ فَقَدِ اسْتَرَاحَ، وَفِي الْبَعْضِ يَتَرَدَّدُ السَّامِعُ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ عِنْدَنَا مِنَ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَانَ اللَّهُ زَوْجَاتِهِمْ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أَيْ لَيْسَ كَوْنُكُنَّ تَحْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَوْنُكُنَّ شَرِيفَاتٍ جَلِيلَاتٍ مِمَّا يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْكُنَّ، وَلَيْسَ أَمْرُ اللَّهِ كَأَمْرِ الْخَلْقِ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ تَعْذِيبُ الْأَعِزَّةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَوْلِيَائِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ أَوْ شُفَعَائِهِمْ وإخوانهم. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 31]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً بَيَانًا لِزِيَادَةِ ثَوَابِهِنَّ، كَمَا بَيَّنَ/ زِيَادَةَ عِقَابِهِنَّ نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ مَعَ لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ إِيتَاءِ الْأَجْرِ ذَكَرَ الْمُؤْتِي وَهُوَ اللَّهُ، وَعِنْدَ الْعَذَابِ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْمُعَذِّبِ فَقَالَ: يُضاعَفْ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، كَمَا أَنَّ الْكَرِيمَ الْحَيَّ عِنْدَ النَّفْعِ يُظْهِرُ نَفْسَهُ وَفِعْلَهُ، وَعِنْدَ الضُّرِّ لَا يَذْكَرُ نَفْسَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً(25/166)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
كَرِيماً
وُصِفَ رِزْقُ الْآخِرَةِ بِكَوْنِهِ كَرِيمًا، مَعَ أَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَصْفًا لِلرَّزَّاقِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ، وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا مُقَدَّرٌ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ، التَّاجِرُ يَسْتَرْزِقُ مِنَ السُّوقَةِ، وَالْمُعَامِلِينَ وَالصُّنَّاعُ مِنَ الْمُسْتَعْمِلِينَ، وَالْمُلُوكُ مِنَ الرَّعِيَّةِ وَالرَّعِيَّةُ مِنْهُمْ، فَالرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا لَا يَأْتِي بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَخَّرٌ لِلْغَيْرِ يُمْسِكُهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى الْأَغْيَارِ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مُرْسِلٌ وَمُمْسِكٌ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِنَفْسِهِ، فَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُوصَفُ فِي الدُّنْيَا بِالْكَرِيمِ إِلَّا الرَّزَّاقُ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق.
[سورة الأحزاب (33) : آية 32]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
ثُمَّ قال تعالى: يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ عَذَابَهُنَّ ضِعْفُ عَذَابِ غَيْرِهِنَّ وَأَجْرَهُنَّ مِثْلَا أَجْرِ غَيْرِهِنَّ صِرْنَ كَالْحَرَائِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَاءِ، فَقَالَ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فُلَانٌ كَآحَادِ النَّاسِ، يَعْنِي لَيْسَ فِيهِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، بَلْ وَصْفٌ أَخَصُّ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا أَوْ عَامِلًا أَوْ نَسِيبًا أَوْ حَسِيبًا، فَإِنَّ الْوَصْفَ الْأَخَصَّ إِذَا وُجِدَ لَا يَبْقَى التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ رَجُلًا وَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ غَيْرَ كَوْنِهِ رَجُلًا يَقُولُ رَأَيْتُ رَجُلًا فَإِنْ عَرَفَ عِلْمَهُ يَقُولُ رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ يَعْنِي فِيكُنَّ غَيْرُ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِكُنَّ وَهُوَ كَوْنُكُنَّ أُمَّهَاتِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجَاتِ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ كَأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ»
كَذَلِكَ قَرَائِبُهُ اللَّاتِي يَشْرُفْنَ بِهِ وَبَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَوْعٌ مِنَ الْكَفَاءَةِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ عَلَى مَعْنَى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَإِنَّ الْأَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْأَتْقَى وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُنَّ مِنَ الْفَاحِشَةِ وَهِيَ الْفِعْلُ الْقَبِيحُ مَنَعَهُنَّ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ مَعَ الرِّجَالِ وَالِانْقِيَادُ فِي الْكَلَامِ لِلْفَاسِقِ. ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَيْ فِسْقٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أَيْ ذِكْرَ اللَّهِ، وَمَا تَحْتَجْنَ إِلَيْهِ/ مِنَ الْكَلَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَقُلْنَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ أَمْرًا بِالْإِيذَاءِ وَالْمُنْكَرِ بَلِ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ هو المأمور به لا غيره. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنَ الْقَرَارِ وَإِسْقَاطُ أَحَدِ حَرْفَيِ التَّضْعِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَةِ: 65] وَقِيلَ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَقَارِ كما يقال وعد يعد عد وقول: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَتَكَسَّرْنَ وَلَا تَتَغَنَّجْنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا تُظْهِرْنَ زِينَتَكُنَّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ نُوحٍ وَالْجَاهِلِيَّةُ الْأُخْرَى مَنْ كَانَ بَعْدَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أُولَى تَقْتَضِي أُخْرَى بَلْ مَعْنَاهُ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَدِيمَةِ كقول القائل: أين الأكاسرة الجبابرة الأولى.(25/167)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي لَيْسَ التَّكْلِيفُ فِي النَّهْيِ فَقَطْ حَتَّى يَحْصُلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَخْضَعْنَ، وَلَا تَبَرَّجْنَ بَلْ فِيهِ وَفِي الْأَوَامِرِ ف أَقِمْنَ الصَّلاةَ الَّتِي هِيَ تَرْكُ التَّشَبُّهِ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ وَآتِينَ الزَّكاةَ الَّتِي هِيَ تَشَبُّهٌ بِالْكَرِيمِ الرَّحِيمِ وَأَطِعْنَ اللَّهَ أَيْ لَيْسَ التَّكْلِيفُ مُنْحَصِرًا فِي الْمَذْكُورِ بَلْ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَأَتَيْنَ بِهِ وَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَانْتَهَيْنَ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
يَعْنِي لَيْسَ الْمُنْتَفِعُ بِتَكْلِيفِكُنَّ هُوَ اللَّهُ وَلَا تَنْفَعْنَ اللَّهَ فِيمَا تَأْتِينَ بِهِ. وَإِنَّمَا نَفْعُهُ لَكُنَّ وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاكُنَّ لِمَصْلَحَتِكُنَّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ يَزُولُ عَيْنًا وَلَا يَطْهُرُ الْمَحَلُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَيْ يُزِيلُ عَنْكُمُ الذُّنُوبَ وَيُطَهِّرَكُمْ أَيْ يُلْبِسَكُمْ خِلَعَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَرَكَ خِطَابَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَخَاطَبَ بِخِطَابِ الْمُذَكَّرِينَ بِقَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ لِيَدْخُلَ فِيهِ نِسَاءُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَرِجَالِهِمْ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَقْوَالُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُمْ أَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ مِنْهُمْ وَعَلِيٌّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِسَبَبِ مُعَاشَرَتِهِ بِبِنْتِ النَّبِيِّ عليه السلام وملازمته للنبي.
[سورة الأحزاب (33) : آية 34]
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أَيِ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ أَيْ كَلِمَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى لِيَعْلَمْنَ الْوَاجِبَاتِ كُلَّهَا فَيَأْتِينَ بِهَا، وَالْمُحَرَّمَاتِ بِأَسْرِهَا فَيَنْتَهِينَ عَنْهَا.
[وَقَوْلُهُ] : إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِالْبَوَاطِنِ، لَطِيفٌ فَعِلْمُهُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْمَسَامِّ الضَّيِّقَةِ وَيَخْرُجُ مِنَ المسالك المسدودة.
[سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ لَمَّا أَمَرَهُنَّ وَنَهَاهُنَّ وَبَيَّنَ مَا يَكُونُ لَهُنَّ وَذَكَرَ لَهُنَّ عَشْرَ مَرَاتِبَ الْأُولَى: الْإِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ: الْإِيمَانُ بِمَا يَرِدُ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ أَوَّلًا يَقُولُ كُلُّ مَا يَقُولُهُ أَقْبَلُهُ فَهَذَا إِسْلَامٌ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ شَيْئًا وَقَبِلَهُ صَدَّقَ مَقَالَتَهُ وَصَحَّحَ اعْتِقَادَهُ فَهُوَ إِيمَانٌ ثُمَّ اعْتِقَادُهُ يَدْعُوهُ إِلَى الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَيَقْنُتُ وَيَعْبُدُ وَهُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَذْكُورَةُ بِقَوْلِهِ: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ثُمَّ إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا كَمُلَ فَيُكَمِّلُ غَيْرَهُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْصَحُ أَخَاهُ فَيَصْدُقُ فِي كَلَامِهِ عِنْدَ النَّصِيحَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ثُمَّ إِنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يُصِيبُهُ أَذًى فَيَصْبِرُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا كَمُلَ وكمل قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته(25/168)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
فمنه مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أَوْ نَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحَسَنَاتِ أَشَارَ إِلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهَا وَهُوَ إِمَّا حُبُّ الْجَاهِ أَوْ حُبُّ الْمَالِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ أَوِ الشَّهْوَةُ مِنَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ، وَالْغَضَبُ مِنْهُمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِسَبَبِ نَقْصِ جَاهٍ أَوْ فَوْتِ مَالٍ أَوْ مَنْعٍ مِنْ أَمْرٍ مَشْتَهًى فَقَوْلُهُ: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أَيِ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ لَا يُمِيلُهُمُ الْجَاهُ عَنِ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ أَيِ الْبَاذِلِينَ الْأَمْوَالَ الَّذِينَ لَا يَكْنِزُونَهَا لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ إِشَارَةً إِلَى الَّذِينَ لَا تَمْنَعُهُمُ الشَّهْوَةُ الْبَطْنِيَّةُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ أَيِ الَّذِينَ لَا تَمْنَعُهُمُ الشَّهْوَةُ الْفَرْجِيَّةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ يَعْنِي هُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيَكُونُ إِسْلَامُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ وَقُنُوتُهُمْ وَصِدْقُهُمْ وَصَبْرُهُمْ وَخُشُوعُهُمْ وَصَدَقَتُهُمْ وَصَوْمُهُمْ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ لِلَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ حَيْثُ ذكر الذكر قرنه بالكثرة هاهنا، وفي قوله بعد هذا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] وَقَالَ مِنْ قَبْلُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:
21] لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَوْ عُسْرٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَتَحْصِيلُ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَشْتَغِلَ دَائِمًا بِالصَّلَاةِ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ آكِلٌ وَيَذْكُرَهُ وَهُوَ شَارِبٌ أَوْ مَاشٍ أَوْ بَائِعٌ أَوْ شَارٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 191] ولأن جميع الأعمال صحتها بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ النِّيَّةُ:
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً تَمْحُو ذُنُوبَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَأَجْراً عَظِيماً ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
قِيلَ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَيْنَبَ حَيْثُ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ تَزْوِيجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَكَرِهَتْ إِلَّا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ أَخُوهَا امْتَنَعَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَرَضِيَا بِهِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لِزَوْجَاتِهِ إِنَّهُنَّ مُخَيَّرَاتٌ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَا يُرِيدُ ضَرَرَ الْغَيْرِ فَمَنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى شَيْءٍ يُمَكِّنُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتْرُكُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقَّ نَفْسِهِ لِحَظِّ غَيْرِهِ، فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ هَوَى نفسه متبعه وأن زمان الِاخْتِيَارِ بِيَدِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي الزَّوْجَاتِ، بَلْ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ اخْتِيَارٌ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا أَمَرَ الله وهو الْمُتَّبَعُ وَمَا أَرَادَ النَّبِيُّ هُوَ الْحَقُّ وَمَنْ خَالَفَهُمَا فِي شَيْءٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَقْصِدُ وَالنَّبِيُّ هُوَ الْهَادِي الْمُوصِلُ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَقْصِدَ وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الهادي فهو ضال قطعا. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 37]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
وَهُوَ زَيْدٌ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ هَمَّ زَيْدٌ بِطَلَاقِ زَيْنَبَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ أَمْسِكْ أَيْ لَا تُطَلِّقْهَا وَاتَّقِ اللَّهَ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ، وَقِيلَ فِي الشَّكْوَى مِنْ زَيْنَبَ، فَإِنَّ(25/169)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
زَيْدًا قَالَ فِيهَا إِنَّهَا تَتَكَبَّرُ عَلَيَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ أَنَّكَ تُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِزَيْنَبَ وَتَخْشَى النَّاسَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا أَخَذَ زَوْجَةَ الْغَيْرِ أَوِ الِابْنِ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ خَشِيَ النَّاسَ وَلَمْ يَخْشَ اللَّهَ بَلِ الْمَعْنَى اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ وَلَا تَخْشَ أَحَدًا مَعَهُ وَأَنْتَ تَخْشَاهُ وَتَخْشَى النَّاسَ أَيْضًا، فَاجْعَلِ الْخَشْيَةَ لَهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها أَيْ لَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَا دَامَتْ فِي نِكَاحِ الزَّوْجِ فَهِيَ تَدْفَعُ حَاجَتَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرَ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَسْتَغْنِ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْعِدَّةِ لَهُ بِهَا تَعَلُّقٌ لِإِمْكَانِ شَغْلِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَقْضِ مِنْهَا بَعْدُ وَطَرَهُ، وَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا اسْتَغْنَى عَنْهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَعَهَا تَعَلُّقٌ فَيَقْضِي مِنْهَا الْوَطَرَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ بِزَوْجَةِ الْغَيْرِ أَوْ بِمُعْتَدَّتِهِ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا قَالَ: فَلَمَّا قَضى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أَيْ إِذَا طَلَّقُوهُنَّ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّزْوِيجَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِقَضَاءِ شَهْوَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ لِبَيَانِ الشَّرِيعَةِ بِفِعْلِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ وَقَوْلُهُ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ مَقْضِيًّا مَا قَضَاهُ كَائِنٌ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تَزَوُّجَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُبَيِّنًا لِشَرْعٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى فائدة كان خاليا من المفاسد فقال:
[سورة الأحزاب (33) : آية 38]
مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)
يَعْنِي كَانَ شَرْعُ مَنْ تَقَدَّمَهُ كَذَلِكَ، كَانَ يَتَزَوَّجُ الْأَنْبِيَاءُ بِنِسْوَةٍ كَثِيرَةٍ أَبْكَارٍ وَمُطَلَّقَاتِ الْغَيْرِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيِ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَالْقَدَرُ التَّقْدِيرُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ وَالْمَقْدُورِ فَرْقٌ مَقُولٌ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَالْقَضَاءُ مَا كَانَ مَقْصُودًا فِي الْأَصْلِ وَالْقَدَرُ مَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ، مِثَالُهُ مَنْ كَانَ يَقْصِدُ مَدِينَةً فَنَزَلَ بِطَرِيقِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِخَانٍ أَوْ قَرْيَةٍ يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ لِمَ جِئْتَ إِلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ إِنِّي مَا جِئْتُ إِلَى هَذِهِ وَإِنَّمَا قَصَدْتُ الْمَدِينَةَ الْفُلَانِيَّةَ وَهَذِهِ وَقَعَتْ فِي طَرِيقِي وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا وَدَخَلَهَا وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِقَضَاءٍ وَمَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَدَرٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْمُكَلَّفَ بِحَيْثُ يَشْتَهِي وَيَغْضَبُ، لِيَكُونَ اجْتِهَادُهُ فِي تَغْلِيبِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ عَلَيْهِمَا مُثَابًا عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَأَفْضَى ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ إِلَى أَنْ زَنَى وَقَتَلَ فَاللَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُمَا فِيهِ مَقْصُودًا مِنْهُ الْقَتْلُ وَالزِّنَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَقَوْلِهِ ثَانِيًا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ زَوَّجْناكَها قَالَ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أَيْ تَزْوِيجَنَا زَيْنَبَ إِيَّاكَ كَانَ مَقْصُودًا مَتْبُوعًا مَقْضِيًّا مُرَاعًى، وَلَمَّا قَالَ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ افْتَتَنَ بِامْرَأَةٍ أُورِيَا قَالَ: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أَيْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا تَبَعِيًّا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالتَّوْلِيدِ وَالْفَلَاسِفَةِ بِوُجُوبِ كَوْنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وُجُوهٍ مِثْلُ كَوْنِ النَّارِ تَحْرِقُ حَيْثُ قَالُوا اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ مَا يُنْضِجُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُحْرِقًا بِالطَّبْعِ فَخَلَقَ النَّارَ لِلنَّفْعِ فَوَقَعَ اتِّفَاقُ(25/170)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
أَسْبَابٍ أَوْجَبَتِ احْتِرَاقَ دَارِ زَيْدٍ أَوْ دَارِ عَمْرٍو، فَنَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُخْتَارٍ فِي أَفْعَالِهِ أَوْ يَقَعُ شَيْءٌ لَا بِاخْتِيَارِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ بِكَذَا أَيْ وَلَهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّارَ بِحَيْثُ عِنْدَ حَاجَةِ إِنْضَاجِ اللَّحْمِ تَنْضَجُ وَعِنْدَ مِسَاسِ ثَوْبِ الْعَجُوزِ لَا تُحْرَقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَحْرِقْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا لَكِنْ خَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ أَوْ لِحِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، فَنَقُولُ مَا كَانَ فِي مَجْرَى عَادَتِهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ الْبَشَرِيَّةُ نَقُولُ بِقَضَاءٍ، وَمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ لِعَقْلٍ قَاصِرٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ كَانَ وَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِهِ نَقُولُ بِقَدَرٍ، ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِينَ خَلَوْا بِقَوْلِهِ:
[سورة الأحزاب (33) : آية 39]
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
يَعْنِي كَانُوا هُمْ أَيْضًا مِثْلَكَ رُسُلًا، ثُمَّ ذَكَّرَهُ بِحَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَرَّدُوا الْخَشْيَةَ وَوَحَّدُوهَا بِقَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] وَقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أَيْ مُحَاسِبًا/ فَلَا تَخْشَ غَيْرَهُ أَوْ مَحْسُوبًا فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ وَلَا تَجْعَلْهُ فِي حِسَابِكَ. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 40]
مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ مَا فِي تَزَوُّجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِزَيْنَبَ مِنَ الْفَوَائِدِ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَالِيًا مِنْ وُجُوهِ الْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ كَانَ مُنْحَصِرًا فِي التَّزَوُّجِ بِزَوْجَةِ الِابْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ زَيْدًا لَمْ يَكُنِ ابْنًا لَهُ لَا بَلْ أَحَدُ الرِّجَالِ لَمْ يَكُنِ ابْنَ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ قَائِلٌ النَّبِيُّ كَانَ أَبَا أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الرَّجُلَ اسْمُ الذَّكَرِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمِ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً [النِّسَاءِ: 176] وَالصَّبِيُّ دَاخِلٌ فِيهِ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّجُلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْكِبَرُ وَالْبُلُوغُ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنٌ كَبِيرٌ يُقَالُ إِنَّهُ رَجُلٌ وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ رِجالِكُمْ وَوَقْتَ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَفَى كَوْنَهُ أَبًا عَقَّبَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْأُبُوَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَالْأَبِ لِلْأُمَّةِ فِي الشَّفَقَةِ مِنْ جَانِبِهِ، وَفِي التَّعْظِيمِ مِنْ طَرَفِهِمْ بَلْ أَقْوَى فَإِنَّ النَّبِيَّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْأَبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الشَّفَقَةِ مِنْ جَانِبِهِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ:
وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ يَسْتَدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَكُونُ أَشْفَقَ عَلَى أُمَّتِهِ وَأَهْدَى لَهُمْ وَأَجْدَى، إِذْ هُوَ كَوَالِدٍ لِوَلَدِهِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَحَدٍ وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يَعْنِي عِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهِ أَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ إِكْمَالَ شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِتَزَوُّجِهِ بِزَوْجَةِ دَعِيِّهِ تَكْمِيلًا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يُفِيدُ شَرْعًا لَكِنْ إِذَا امْتَنَعَ هُوَ عَنْهُ يَبْقَى فِي بَعْضِ النُّفُوسِ نُفْرَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ بِقَوْلِهِ مَا فُهِمَ مِنْهُ حِلُّ أَكْلِ الضَّبِّ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَأْكُلْهُ بَقِيَ فِي النُّفُوسِ شَيْءٌ وَلَمَّا أَكَلَ لَحْمَ الْجَمَلِ طَابَ أَكْلُهُ مَعَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ لَا يُؤْكَلُ وَكَذَلِكَ الْأَرْنَبُ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 41]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ السُّورَةَ أَصْلُهَا وَمَبْنَاهَا عَلَى تَأْدِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ اللَّهِ وَهُوَ التَّقْوَى وَذَكَرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ(25/171)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الْأَحْزَابِ: 28] وَاللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ/ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ الْمُرْسَلِينَ فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ كَمَا أَدَّبَ نَبِيَّهُ وَبَدَأَ بِمَا يتعلق بجانبه من التعظيم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً كما قال لنبيه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] .
ثم هاهنا لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَنْسَى ذِكْرَ اللَّهِ فَأُمِرَ بِدَوَامِ الذِّكْرِ، أَمَّا النَّبِيُّ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لَا يَنْسَى وَلَكِنْ قَدْ يَغْتَرُّ الْمُقَرَّبُ مِنَ الْمَلِكِ بِقُرْبِهِ مِنْهُ فَيَقِلُّ خَوْفُهُ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ وَحَسَنَةُ الْأَوْلِيَاءِ سَيِّئَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوْلُهُ: ذِكْراً كَثِيراً قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ لَمَّا ذَكَرَ الذِّكْرَ وَصَفَهُ بِالْكَثْرَةِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنَ الذِّكْرِ عَلَى مَا بينا. وقوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 42]
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
أَيْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَقِيلَ لِلصَّلَاةِ تَسْبِيحُهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إِشَارَةً إِلَى الْمُدَاوَمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُرِيدَ الْعُمُومِ قَدْ يَذْكُرُ الطَّرَفَيْنِ وَيَفْهَمُ مِنْهُمَا الْوَسَطَ
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ»
وَلَمْ يَذْكُرْ وَسَطَكُمْ فَفُهِمَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ في العموم. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 43]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)
يَعْنِي هُوَ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَيَرْحَمُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَذْكُرُونَهُ فَذَكَرَ صَلَاتَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يَعْنِي يَهْدِيَكُمْ بِرَحْمَتِهِ وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ فَقِيلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَيَيْهِ مَعًا وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ جَائِزٍ وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ فَإِنْ أُرِيدَ تَقْرِيبُهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ فِي غَايَةِ الْقُرْبِ نَقُولُ الرَّحْمَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَشْتَرِكَانِ فِي الْعِنَايَةِ بِحَالِ الْمَرْحُومِ وَالْمُسْتَغْفَرِ لَهُ وَالْمُرَادُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فَتَكُونُ الدَّلَالَةُ تَضَمُّنِيَّةً لِكَوْنِ الْعِنَايَةِ جزأ مِنْهُمَا وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ غَيْرُ مختص بالسامعين وقت الوحي.
[سورة الأحزاب (33) : آية 44]
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ عِنَايَتَهُ فِي الْأُولَى بَيَّنَ عِنَايَتَهُ فِي الْآخِرَةِ وَذَكَرَ السَّلَامَ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرَاتِ فَإِنَّ مَنْ لَقِيَ غَيْرَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى الْمُصَافَاةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ دَلَّ عَلَى الْمُنَافَاةِ وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي دُنْيَاهُ غَيْرُ مُقْبِلٍ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ وَكَيْفَ وَهُوَ حَالَةَ نَوْمِهِ غَافِلٌ عَنْهُ وَفِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مَشْغُولٌ بِتَحْصِيلِ رِزْقِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا شُغْلَ لِأَحَدٍ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ حَقِيقَةُ اللِّقَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً لو قائل قال الْإِعْدَادُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الشَّيْءِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ وَلَا عَجْزَ فَحَيْثُ يَلْقَاهُ اللَّهُ يُؤْتِيهِ مَا يَرْضَى بِهِ وَزِيَادَةً فَمَا مَعْنَى الْإِعْدَادِ مِنْ قَبْلُ فَنَقُولُ الْإِعْدَادُ لِلْإِكْرَامِ لَا لِلْحَاجَةِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قِيلَ لَهُ فُلَانٌ وَاصِلٌ، فَإِذَا أَرَادَ إِكْرَامَهُ يُهَيِّئُ له بيتا(25/172)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
وَأَنْوَاعًا مِنَ الْإِكْرَامِ وَلَا يَقُولُ بِأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ نَفْتَحُ بَابَ الْخِزَانَةِ وَنُؤْتِيهِ مَا يُرْضِيهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ لِكَمَالِ الْإِكْرَامِ أَعَدَّ لِلذَّاكِرِ أَجْرًا كَرِيمًا وَالْكِرِيمُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ أَيْ أَعَدَّ لَهُ أَجْرًا يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَطْلُبُ الرِّزْقَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَلَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِقَدَرٍ. وَقَوْلُهُ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا اللَّهَ فِي دُنْيَاهُمْ حَصَلَ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ وَلَمَّا سَبَّحُوهُ تَأَكَّدَتِ الْمَعْرِفَةُ حَيْثُ عَرَفُوهُ كَمَا يَنْبَغِي بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَقَالَ: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] وَالْمُتَعَارِفَانِ إِذَا الْتَقَيَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَفِيقًا بِالْآخَرِ وَالْآخَرُ مُعَظِّمًا لَهُ غَايَةَ التَّعْظِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا السَّلَامُ وَأَنْوَاعُ الْإِكْرَامِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 46]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّورَةَ فِيهَا تَأْدِيبٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَبِّهِ فَقَوْلُهُ فِي ابْتِدَائِهَا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أن يكون عليه مع ربه وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أن يكون عليه مع أهله وقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَعَ عَامَّةِ الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ تعالى: شاهِداً يحتمل وجوها أحدهما: أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ بُعِثَ شَاهِدًا أَيْ مُتَحَمِّلًا لِلشَّهَادَةِ وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ شَهِيدًا أَيْ مُؤَدِّيًا لِمَا تَحَمَّلَهُ ثَانِيهَا: أَنَّهُ شَاهِدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا لَطِيفَةٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّبِيَّ شَاهِدًا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالشَّاهِدُ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ النَّبِيَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ مُدَّعِيًا لَهَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَقُولُ شَيْئًا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَالْوَحْدَانِيَّةُ أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ فَجَعَلَ اللَّهُ نَفْسَهُ شَاهِدًا لَهُ فِي مُجَازَاةِ كَوْنِهِ شَاهِدًا لِلَّهِ فقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ «1» [المنافقون: 1] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ شَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَشَاهِدٌ فِي الْآخِرَةِ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَقَوْلُهُ: وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً فِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُرْسِلَ شَاهِدًا بِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُرَغِّبُ فِي ذَلِكَ بِالْبِشَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَكْفِ/ ذلك يرهب بالإندار ثُمَّ لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] وَقَوْلُهُ:
وَسِراجاً مُنِيراً أَيْ مُبَرْهِنًا عَلَى مَا يَقُولُ مُظْهِرًا لَهُ بِأَوْضَحِ الْحُجَجِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: 125] .
وَفِيهِ لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَشَاهِدًا بِإِذْنِهِ وَمُبَشِّرًا وَعِنْدَ الدُّعَاءِ قَالَ وَدَاعِيًا بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ عَنْ مَلِكٍ إِنَّهُ مَلِكُ الدُّنْيَا لَا غَيْرُهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا فِيهِ وَكَذَلِكَ إِذَا قال من يطيعه يسعد ومن يعصه يَشْقَى يَكُونُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ مِنَ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ تَعَالَوْا إِلَى سِمَاطِهِ، وَاحْضُرُوا عَلَى خِوَانِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِذْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ يَقُولُ إِنِّي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَالْوَلِيُّ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ لَا إِذْنَ لَهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، وَالثَّانِي مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
__________
(1) في تفسير الرازي المطبوع (والله يشهد إنك لرسوله) وهو خطأ لذا اقتضى التصحيح. [.....](25/173)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
[يُوسُفَ: 108]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»
وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمَأْذُونُ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قال في حق النبي عليه السلام سراجا وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ شَمْسٌ مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ إِضَاءَةً مِنَ السِّرَاجِ لِفَوَائِدَ مِنْهَا، أَنَّ الشَّمْسَ نُورُهَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ وَالسِّرَاجُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنْوَارٌ كَثِيرَةٌ فَإِذَا انْطَفَأَ الْأَوَّلُ يَبْقَى الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ غَابَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَذَلِكَ إِذْ كَلُّ صَحَابِيٍّ أَخَذَ مِنْهُ نُورَ الْهِدَايَةِ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»
وَفِي الْخَبَرِ لَطِيفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِنَ التَّفْسِيرِ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ يَجُرُّ الْكَلَامَ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وو جعلهم كَالنُّجُومِ لِأَنَّ النَّجْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُورٌ بَلْ لَهُ فِي نَفْسِهِ نُورٌ إِذَا غَرَبَ هُوَ لَا يَبْقَى نُورٌ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابِيُّ إِذَا مَاتَ فَالتَّابِعِيُّ يَسْتَنِيرُ بِنُورِ النَّبِيِّ عليه السلام ولا يأخذ مِنْهُ إِلَّا قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلُهُ، فَأَنْوَارُ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّهِمْ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ولم جَعَلَهُمْ كَالسُّرُجِ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا سِرَاجٌ كَانَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَسْتَنِيرَ بِمَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَيَأْخُذَ النُّورَ مِمَّنِ اخْتَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَعَ نَصِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَيُؤْخَذُ مِنَ النَّبِيِّ النُّورُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الصَّحَابِيِّ فَلَمْ يَجْعَلْهُ سِرَاجًا وَهَذَا يُوجِبُ ضَعْفًا فِي حَدِيثِ سِرَاجِ الْأُمَّةِ وَالْمُحَدِّثُونَ ذَكَرُوهُ وَفِي تَفْسِيرِ السِّرَاجِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ وَتَقْدِيرُهُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ أَيْ وَأَرْسَلْنَا سِرَاجًا مُنِيرًا وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّهُ عُطِفَ عَلَى مُبَشِّراً وَنَذِيراً يَكُونُ مَعْنَاهُ وَذَا سِرَاجٍ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَصْفًا لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَالسِّرَاجُ لَيْسَ وَصْفًا لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ سِرَاجًا حَقِيقَةً أَوْ يَكُونُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ رَأَيْتُهُ أَسَدًا أَيْ شُجَاعًا فقوله سراجا أَيْ هَادِيًا مُبَيِّنًا كَالسِّرَاجِ يُرِي الطَّرِيقَ وَيُبَيِّنُ الأمر.
[سورة الأحزاب (33) : آية 47]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى مَفْهُومٍ تَقْدِيرُهُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا فَاشْهَدْ وَبَشِّرْ وَلَمْ يَذْكُرْ فَاشْهَدْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْبِشَارَةُ فَإِنَّهَا ذُكِرَتْ إِبَانَةً لِلْكَرَمِ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَوْلَا الْأَمْرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً هو مثل قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35] فَالْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ مُتَقَارِبَانِ وَكَوْنُهُ مِنَ اللَّهِ كَبِيرٌ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ كَبَارَةٌ أُخْرَى. وقوله تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 48]
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
إِشَارَةٌ إِلَى الإنذار يعني خالفهم وورد عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَعْ أَذاهُمْ أَيْ دَعْهُ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِأَيْدِيكُمْ وَبِالنَّارِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ اللَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ، قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْوَكِيلِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَدْوَنُ مِنَ الْمُوَكَّلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَشُبْهَتُهُ وَاهِيَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ يُوَكَّلُ لِلتَّرَفُّعِ وَقَدْ يُوَكَّلُ لِلْعَجْزِ وَاللَّهُ وَكِيلُ عِبَادِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَتَبَيَّنُ إِذَا نَظَرْتَ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَكْفِي الْوَكِيلُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ كَالْمَلِكِ الْكَثِيرِ الْأَشْغَالِ يَحْتَاجُ إِلَى وُكَلَاءَ لِعَجْزِ الْوَاحِدِ عَنِ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ أَشْغَالِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فِيهِ التَّوْكِيلُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَنِيًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ قادر وغير محتاج فكيفي وكيلا. ثم قال تعالى:(25/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
[سورة الأحزاب (33) : آية 49]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَأَدَّبَ نَبِيَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ الْمُرْسَلَ فَكُلَّمَا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ مَكْرُمَةً وَعَلَّمَهُ أَدَبًا ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُنَاسِبُهُ، فَكَمَا بَدَأَ اللَّهُ فِي تَأْدِيبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الله بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] وَثَنَّى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ من أزواجه بقوله بعد: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الأحزاب: 45] / كَذَلِكَ بَدَأَ فِي إِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بجانب الله فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الْأَحْزَابِ: 41] ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ من تحت أيديهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ كَمَا ثَلَّثَ فِي تَأْدِيبِ النَّبِيِّ بِجَانِبِ الْأُمَّةِ ثَلَّثَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بجانب نبيهم، فقال بعد هذا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الْأَحْزَابِ: 53] وبقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الْأَحْزَابِ: 56] وَفِي الْآيَةِ مسائل:
إحداها: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّ هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ مَنْ هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَرْءِ فَلِمَ خَصَّ الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي طُلِّقْنَ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالذِّكْرِ؟ فَنَقُولُ هَذَا إِرْشَادٌ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَكْرُمَاتِ لِيُعْلَمَ مِنْهَا مَا دُونَهَا وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا تَأَكُّدُ الْعَهْدِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمَمْسُوسَةِ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاءِ:
21] وَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّمَتُّعِ وَالْإِحْسَانِ مَعَ مَنْ لَا مَوَدَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ حَصَلَتِ الْمَوَدَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا بِالْإِفْضَاءِ أَوْ حَصَلَ تَأَكُّدُهَا بِحُصُولِ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا وَالْقُرْآنُ فِي الْحَجْمِ صَغِيرٌ وَلَكِنْ لَوِ اسْتُنْبِطَتْ مَعَانِيهِ لَا تَفِي بِهَا الْأَقْلَامُ وَلَا تَكْفِي لَهَا الْأَوْرَاقُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: 23] لَوْ قَالَ لَا تَضْرِبْهُمَا أَوْ لَا تَشْتُمْهُمَا ظُنَّ أَنَّهُ حَرَامٌ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِالضَّرْبِ أَوِ الشَّتْمِ، أَمَّا إِذَا قَالَ لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ عُلِمَ مِنْهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ هاهنا لَمَّا أُمِرَ بِالْإِحْسَانِ مَعَ مَنْ لَا مَوَدَّةَ مَعَهَا عُلِمَ مِنْهُ الْإِحْسَانُ مَعَ الْمَمْسُوسَةِ وَمَنْ لَمْ تُطَلَّقْ بَعْدُ وَمَنْ وَلَدَتْ عِنْدَهُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ الْمُؤْمِنَةَ فَإِنَّهَا أَشَدُّ تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ، وَهِيَ لِلتَّرَاخِي وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ بَيَّنَ.
أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فِيهَا غَالِبٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: تَعْتَدُّونَها أَيْ تَسْتَوْفُونَ أَنْتُمْ عَدَدَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ قِيلَ بِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُفَوَّضَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَجَبَ لَهَا الْمُتْعَةُ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ عَامٌّ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ أَوْ أَمْرُ نَدْبٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ مَعَ نِصْفِ الْمَهْرِ الْمُتْعَةُ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِلِاسْتِحْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمَتِّعَهَا مَعَ الصَّدَاقِ بِشَيْءٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا الْجَمَالُ فِي التسريح أن لا يطالبها بما آتاها. ثم قال تعالى:(25/175)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
[سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا هُوَ الْأَوْلَى فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الَّتِي أُوتِيَتْ مَهْرَهَا أَطْيَبُ قَلْبًا مِنَ الَّتِي لَمْ تُؤْتَ، وَالْمَمْلُوكَةُ الَّتِي سَبَاهَا الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ أَطْهَرُ مِنَ الَّتِي اشْتَرَاهَا الرَّجُلُ لِأَنَّهَا لَا يُدْرَى كَيْفَ حَالُهَا، وَمَنْ هَاجَرَتْ مِنْ أَقَارِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُ أَشْرَفُ مِمَّنْ لَمْ تُهَاجِرْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءُ الْمَهْرِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا الِامْتِنَاعُ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ مَهْرَهَا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَسْتَوْفِي مَا لَا يَجِبُ لَهُ، وَالْوَطْءُ قَبْلَ إِيتَاءِ الصَّدَاقِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَإِنْ كَانَ كَانَ حَلَالًا لَنَا وَكَيْفَ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا طَلَبَ شَيْئًا حَرُمَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْمَطْلُوبِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّالِبَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، إِنَّمَا يَكُونُ هُوَ الرَّجُلُ لِحَيَاءِ الْمَرْأَةِ فَلَوْ طَلَبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَرْأَةِ التَّمْكِينَ قَبْلَ الْمَهْرِ لَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ وَأَنْ لَا يَجِبَ وَهَذَا مُحَالٌ وَلَا كَذَلِكَ أَحَدُنَا، وَقَالَ وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يَعْنِي حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهَا صَدَاقٌ فَتَصِيرُ كَالْمُسْتَوْفِيَةِ مَهْرَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هِبَتَهَا نَفْسَهَا لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ قَبُولٍ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ بِالْهِبَةِ وَحُصُولُ التَّزَوُّجِ بِلَفْظِهَا مِنْ خَوَاصِّكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ صَارَتْ خَالِصَةً لَكَ زَوْجَةً وَمِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِكَ أَبَدًا، وَالتَّرْجِيحُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ عَلَى هَذَا فَالتَّخْصِيصُ بِالْوَاهِبَةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَإِنَّ أَزْوَاجَهُ كُلَّهُنَّ خَالِصَاتٌ لَهُ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَقَوْلُهُ: قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضَكَ وَحُكْمَكَ مَعَ نِسَائِكَ وَأَمَّا حُكْمُ أُمَّتِكَ فَعِنْدَنَا عِلْمُهُ وَنُبَيِّنُهُ لَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِئَلَّا يَحْمِلَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَهُ عَلَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّ لَهُ فِي النِّكَاحِ خَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي السَّرَارِي. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أَيْ تَكُونُ فِي فُسْحَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَلَا يَبْقَى لَكَ شُغْلُ قَلْبٍ فَيَنْزِلُ الرُّوحُ الْأَمِينُ بِالْآيَاتِ عَلَى قَلْبِكَ الْفَارِغِ وَتُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّكَ بِجِدِّكَ وَاجْتِهَادِكَ، وَقَوْلُهُ/ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَيَرْحَمُ الْعَبِيدَ.
[سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَزْوَاجِ بَيَّنَ أَنَّهُ أُحِلَّ لَهُ وُجُوهُ الْمُعَاشَرَةِ بِهِنَّ حَتَّى يَجْتَمِعَ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسْمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَّتِهِ نِسْبَةُ السَّيِّدِ الْمُطَاعِ وَالرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يك نَبِيًّا فَالزَّوْجَةُ فِي مِلْكِ نِكَاحِهِ وَالنِّكَاحُ عَلَيْهَا رِقٌّ، فَكَيْفَ زَوْجَاتُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَنْ هُنَّ(25/176)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
كَالْمَمْلُوكَاتِ لَهُ وَلَا يَجِبُ الْقَسْمُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَاتِ، وَالْإِرْجَاءُ التَّأْخِيرُ وَالْإِيوَاءُ الضَّمُّ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يَعْنِي إِذَا طَلَبْتَ مَنْ كُنْتَ تَرَكْتَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا مَعَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْآيَةِ قَالَ الْمُرَادُ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ أَيْ تُؤَخِّرُهُنَّ إِذَا شِئْتَ إِذْ لَا يَجِبُ الْقَسْمُ فِي الْأَوَّلِ وَلِلزَّوْجِ أَنْ لَا يَنَامَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُنَّ، وَإِنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فَابْدَأْ بِمَنْ شِئْتَ وَتَمِّمِ الدَّوْرَ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ.
يَعْنِي إِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ الْقَسْمُ وَأَنْتَ لَا تَتْرُكُ الْقَسْمَ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لِتَسْوِيَتِكَ بَيْنَهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْكَ ذَلِكَ، فَلَيْلَةَ تَكُونُ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ تَقُولُ مَا جَاءَنِي لِهَوَى قَلْبِهِ إِنَّمَا جَاءَنِي لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِيجَابِهِ عَلَيْهِ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ مِنَ الْإِرْجَاءِ وَالْإِيوَاءِ إِذْ لَيْسَ لَهُنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى لَا يَرْضَيْنَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً.
أَيْ إِنْ أَضْمَرْنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرْنَ فَاللَّهُ يَعْلَمُ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ، فَإِنْ لَمْ يُعَاتِبْهُنَّ فِي الْحَالِ فَلَا يَغْتَرِرْنَ فَإِنَّهُ حليم لا يعجل. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
لَمَّا لَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ الْقَسْمَ وَأَمَرَهُ بِتَخْيِيرِهِنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذَكَرَ لَهُنَّ مَا جَازَاهُنَّ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ غَيْرِهِنَّ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْعِهِ مِنْ طَلَاقِهِنَّ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ بَعْدِهِنَّ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَرِضَاهُنَّ بِمَا يُؤْتِيهِنَّ مِنَ الْوَصْلِ وَالْهُجْرَانِ وَالنَّقْصِ وَالْحِرْمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ يُفِيدُ حُرْمَةَ طَلَاقِهِنَّ إِذْ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَجَازَ أَنْ يُطَلِّقَ الْكُلَّ، وَبَعْدَهُنَّ إِمَّا أن يتزوج بغيرهن أولا يَتَزَوَّجَ فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ يَدْخُلُ فِي زُمْرَةِ الْعُزَّابِ وَالنِّكَاحُ فَضِيلَةٌ لَا يَتْرُكُهَا النَّبِيُّ، وَكَيْفَ
وَهُوَ يَقُولُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي»
وَإِنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ يَكُونُ قَدْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبَدُّلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ غَيْرِهِنَّ وَلَا الْمَنْعُ مِنْ طَلَاقِهِنَّ بَلِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَحِلَّ لَكَ النِّسَاءُ غَيْرَ اللَّاتِي ذَكَرْنَا لَكَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ بَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ فَلَا يَحِلُّ لَكَ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ وَقَوْلُهُ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مَنْعٌ مِنْ شُغْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبَادِلُونَ زَوْجَةً بِزَوْجَةٍ فينزل أحدهم عن زوجته وبأخذ زَوْجَةَ صَدِيقِهِ وَيُعْطِيهِ زَوْجَتَهُ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ وَقَعَ خِلَافٌ فِي مَسْأَلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: حُرْمَةُ طَلَاقِ زَوْجَاتِهِ وَالثَّانِيَةُ: حُرْمَةُ تَزَوُّجِهِ بِالْكِتَابِيَّاتِ فَمَنْ فَسَّرَ عَلَى الْأَوَّلِ حَرَّمَ الطَّلَاقَ وَمَنْ فَسَّرَ عَلَى الثَّانِي حَرَّمَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أَيْ حُسْنُ النِّسَاءِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْجَبَكَ(25/177)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذُو الْحَالِ قَوْلَهُ: مِنْ أَزْواجٍ لِغَايَةِ التَّنْكِيرِ فِيهِ وَلِكَوْنِ ذِي الْحَالِ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً فَإِذَنْ هُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَأَنْتَ مُعْجَبٌ بِحُسْنِهِنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ظَاهِرُ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا رَأَى وَاحِدَةً فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ مَوْقِعًا كَانَتْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُكْمِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ تَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ بُرَحَاءُ الْوَحْيِ ثُمَّ يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ مَعَ أَصْحَابِهِمْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَحَلَّ اللَّهُ مَنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَفْرِيغًا لِقَلْبِهِ وَتَوْسِيعًا لِصَدْرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَ بِالْوَحْيِ وَبِمَنْ عَلَى لِسَانِهِ الْوَحْيُ نُسِخَ ذَلِكَ، إِمَّا لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِمَّا أَنَّهُ بِدَوَامِ الْإِنْزَالِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَأْلُوفٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى إِحْلَالِ التَّزَوُّجِ بِمَنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ تَحْرِيمَ النِّسَاءِ عَلَيْهِ هَلْ نُسِخَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ نُسِخَ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا مَاتَ النَّبِيُّ إِلَّا وَأُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ، وَعَلَى هَذَا فَالنَّاسِخُ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ [الأحزاب: 50] إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَقَالَ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذِ النَّاسِخُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ إِنْ كَانَ خَبَرًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ الْمَمْلُوكَاتِ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَمْلُوكَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ضَرَّتَيْنِ فِي بَيْتٍ لِحُصُولِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَإِمْكَانِ الْمُخَاصَمَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ الزَّوْجَةَ وَجَمْعًا مِنَ الْمَمْلُوكَاتِ لِعَدَمِ التَّسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَلِهَذَا لَا قَسْمَ لَهُنَّ عَلَى أَحَدٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أَيْ حَافِظًا عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يحصل إلا بهما.
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
ثُمَّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ.
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي النِّدَاءِ الثالث يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الْأَحْزَابِ: 45] بَيَانًا لِحَالِهِ مَعَ أُمَّتِهِ الْعَامَّةِ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا النِّدَاءِ لَا تَدْخُلُوا إِرْشَادًا لَهُمْ وَبَيَانًا لِحَالِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الِاحْتِرَامِ ثُمَّ إِنَّ حَالَ الْأُمَّةِ مَعَ النَّبِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي حَالِ الْخَلْوَةِ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ عَدَمُ إِزْعَاجِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَثَانِيهِمَا: فِي الْمَلَأِ وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ إِظْهَارُ التعظيم كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(25/178)
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الْأَحْزَابِ: 56] وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أَيْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [إلى آخر الآية] فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ/ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً.
لَمَّا بَيَّنَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ أَنَّهُ دَاعٍ إِلَى الله بقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ قال هاهنا لَا تَدْخُلُوا إِلَّا إِذَا دُعِيتُمْ يَعْنِي كَمَا أَنَّكُمْ مَا دَخَلْتُمُ الدِّينَ إِلَّا بِدُعَائِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ دُعَائِهِ وَقَوْلُهُ: غَيْرَ ناظِرِينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَالْعَامِلُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا تَدْخُلُوا قَالَ وتقديره لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا مَأْذُونِينَ غَيْرَ نَاظِرِينَ، وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ وَلَا تَدْخُلُوا إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الطَّعَامِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَا تَدْخُلُوا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ إِلَى الطَّعَامِ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فَلَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ فِي الدُّخُولِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامٍ لَا لِأَكْلِ طَعَامٍ لَا يَجُوزُ، نَقُولُ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي لِيَعُمَّ النَّهْيَ عَنِ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْإِذْنِ الَّذِي إِلَى طَعَامٍ، نَقُولُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْخِطَابُ مَعَ قَوْمٍ كَانُوا يَجِيئُونَ حِينَ الطَّعَامِ وَيَدْخُلُونَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَمُنِعُوا مِنَ الدُّخُولِ فِي وَقْتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ فَإِنَّ مَنْ جَازَ دُخُولُ بَيْتِهِ بِإِذْنِهِ إِلَى طَعَامِهِ جَازَ دُخُولُهُ إِلَى غَيْرِ طَعَامِهِ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ مُمْكِنٌ وُجُودُهُ مَعَ الطَّعَامِ، فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يَدْعُوهُ إِلَى طَعَامٍ وَيَسْتَقْضِيهِ فِي حَوَائِجِهِ وَيُعَلِّمُهُ مِمَّا عِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِطْعَامِ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْكُلِّ فَرِضَاهُ بِالْبَعْضِ أَقْرَبُ إِلَى الْفِعْلِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَوْلُهُ: غَيْرَ ناظِرِينَ يَعْنِي أَنْتُمْ لَا تَنْتَظِرُوا وَقْتَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَهَيَّأُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فيه لطيفة وهي أن في الْعَادَةَ إِذَا قِيلَ لِمَنْ كَانَ يَعْتَادُ دُخُولَ دَارٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ لَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ يَتَأَذَّى وَيَنْقَطِعُ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا أَصْلًا لا بالدعاء، فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا مِثْلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُسْتَنْكِفُونَ بَلْ كُونُوا طَائِعِينَ سَامِعِينَ إِذَا قِيلَ لَكُمْ لَا تَدْخُلُوا لَا تَدْخُلُوا وَإِذَا قِيلَ لَكُمُ ادْخُلُوا فَادْخُلُوا، وَإِنَاهُ قِيلَ وَقْتُهُ وَقِيلَ اسْتِوَاؤُهُ وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ يُفِيدُ الْجَوَازَ وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا يُفِيدُ الْوُجُودَ فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ لَيْسَ تَأْكِيدًا بَلْ هُوَ يُفِيدُ فَائِدَةً جَدِيدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِذْنِ التَّصْرِيحُ بِهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِالرِّضَا جَازَ الدُّخُولُ وَلِهَذَا قَالَ:
إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ فَاعِلٍ، فَالْآذِنُ إِنْ كَانَ اللَّهَ أَوِ النَّبِيَّ أَوِ الْعَقْلَ الْمُؤَيَّدَ بِالدَّلِيلِ/ جَازَ وَالنَّقْلُ دَالٌّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَوْ صَدِيقِكُمْ وَحَدُّ الصَّدَاقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنْ لَا مَانِعَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مِنْ بُيُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَكَشُّفٍ أَوْ حُضُورِ غَيْرِ مَحْرَمٍ عِنْدَهَا أَوْ عَلِمَ خُلُوَّ الدَّارِ مِنَ الْأَهْلِ أَوْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى(25/179)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
إِطْفَاءِ حَرِيقٍ فِيهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، جَازَ الدُّخُولُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَطَالَ الْمُكْثَ يَوْمَ وَلِيمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عُرْسِ زَيْنَبَ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، فَوَرَدَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِآدَابٍ، مِنْهَا الْمَنْعُ مِنْ إِطَالَةِ الْمُكْثِ فِي بُيُوتِ النَّاسِ، وَفِي مَعْنَى الْبَيْتِ مَوْضِعٌ مُبَاحٌ اخْتَارَهُ شَخْصٌ لِعِبَادَتِهِ أَوِ اشْتِغَالِهِ بِشُغْلٍ فَيَأْتِيهِ أَحَدٌ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ عِنْدَهُ، وَقَوْلُهُ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُوَ عَطْفٌ عَلَى غَيْرَ ناظِرِينَ مَجْرُورٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ لَا تَدْخُلُوهَا هَاجِمِينَ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ ذَلِكَ أَدَبًا وَكَوْنَ النَّبِيِّ حَلِيمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَأَدَبٌ، وَقَوْلُهُ كَانَ إِشَارَةٌ إِلَى تَحَمُّلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ أَدَبًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ لَمَّا مَنَعَ اللَّهُ النَّاسَ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَعَذُّرُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاعُونِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فَلْيَسْأَلْ وَلْيَطْلُبْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَقَوْلُهُ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يَعْنِي الْعَيْنُ رَوْزَنَةُ الْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ تَرَ الْعَيْنُ لَا يَشْتَهِي الْقَلْبُ. أَمَّا إِنْ رَأَتِ الْعَيْنُ فَقَدْ يَشْتَهِي الْقَلْبُ وَقَدْ لَا يَشْتَهِي، فَالْقَلْبُ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ أَطْهَرُ، وَعَدَمُ الْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَدَبَ أَكَّدَهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَافَظَتِهِ، فَقَالَ: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا مُنِعْتُمْ عَنْهُ مُؤْذٍ فَامْتَنِعُوا عَنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قِيلَ هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّه، قَالَ لَئِنْ عِشْتُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ لَأَنْكِحَنَّ عَائِشَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ حَرَامٌ، وَالتَّعَرُّضُ لِنِسَائِهِ فِي حَيَاتِهِ إِيذَاءٌ فَلَا يَجُوزُ، ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي إيذاء الرسول. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 55]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الْحِجَابَ اسْتَثْنَى الْمَحَارِمَ بِقَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: فِي الْحِجَابِ أَوْجَبَ السُّؤَالَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ عَلَى الرِّجَالِ، فَلِمَ لَمْ يَسْتَثْنِ الرِّجَالَ عَنِ الْجُنَاحِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا جُنَاحَ عَلَى آبائهن؟ فنقول قوله تعالى: فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] أَمْرٌ بِسَدْلِ السَّتْرِ عَلَيْهِنَّ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَوْنِهِنَّ مَسْتُورَاتٍ مَحْجُوبَاتٍ وَكَانَ الْحِجَابُ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ أَمَرَ الرِّجَالَ بِتَرْكِهِنَّ كَذَلِكَ، وَنُهُوا عَنْ هَتْكِ أَسْتَارِهِنَّ فَاسْتُثْنِينَ عِنْدَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عِنْدَ الْحِجَابِ أَمَرَ اللَّهُ الرَّجُلَ بِالسُّؤَالِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَحْجُوبَةً عَنِ الرَّجُلِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَعِنْدَ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ تَعَالَى: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ رَفْعِ الْحِجَابِ عَنْهُنَّ، فَالرِّجَالُ أَوْلَى بذلك.(25/180)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدَّمَ الْآبَاءَ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى بَنَاتِهِنَّ أَكْثَرُ، وَكَيْفَ وَهُمْ قَدْ رَأَوْا جَمِيعَ بَدَنِ الْبَنَاتِ فِي حَالِ صِغَرِهِنَّ، ثُمَّ الْأَبْنَاءَ ثُمَّ الْإِخْوَةَ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ. إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَنِي الْإِخْوَةِ حَيْثُ قَدَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّ بَنِي الْأَخَوَاتِ آبَاؤُهُمْ لَيْسُوا بِمَحَارِمَ إِنَّمَا هُمْ أَزْوَاجُ خَالَاتِ أَبْنَائِهِمْ، وَبَنِي الْإِخْوَةِ آبَاؤُهُمْ مَحَارِمُ أَيْضًا، فَفِي بَنِي الْأَخَوَاتِ مَفْسَدَةٌ مَا وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ رُبَّمَا يَحْكِي خَالَتَهُ عِنْدَ أَبِيهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلَا كَذَلِكَ بَنُو الْإِخْوَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ مِنَ الْمَحَارِمِ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَ، فَلَمْ يَقُلْ وَلَا أَعْمَامِهِنَّ وَلَا أَخْوَالِهِنَّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْ بَنِيَ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَنِي الْأَخِ لِلْعَمَّاتِ مَحَارِمُ عَلِمَ أَنَّ بَنَاتِ الْأَخِ لِلْأَعْمَامِ مَحَارِمُ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَمْرِ الْخَالِ ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَعْمَامَ رُبَّمَا يَذْكُرُونَ بَنَاتِ الْأَخِ عِنْدَ أَبْنَائِهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مَحَارِمَ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي ابْنِ الْخَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَلا نِسائِهِنَّ مُضَافَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنَاتِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّكَشُّفُ لِلْكَافِرَاتِ فِي وَجْهٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ هَذَا بَعْدَ الْكُلِّ، فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي التَّكَشُّفِ لَهُمْ ظَاهِرَةٌ، وَمِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ من كان دون البلوغ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ عِنْدَ الْمَمَالِيكِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكَشُّفَ لَهُمْ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ الْمَحْذُورِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا سَبَقَ إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الْخَلْوَةِ بِهِمْ وَالتَّكَشُّفِ لَهُمْ، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ شَاهِدٌ عِنْدَ اخْتِلَاءِ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، فَخَلْوَتُكُمْ مِثْلُ مَلَئِكُمْ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تعالى فاتقوا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِئْذَانِ وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَى وُجُوهِ نِسَائِهِ احْتِرَامًا كَمَّلَ بَيَانَ حُرْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَتَهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي اثْنَتَيْنِ حَالَةَ خَلْوَتِهِ، وَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى احْتِرَامِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَحَالَةَ يَكُونُ فِي مَلَأٍ. وَالْمَلَأُ إِمَّا الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَإِمَّا الْمَلَأُ الْأَدْنَى، أَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَهُوَ مُحْتَرَمٌ، فَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَدْنَى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ صَلَّى عَلَيْهِ، أَيْ دَعَا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَدْعُو لَهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ طَلَبُ نَفْعِهِ مِنْ ثَالِثٍ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ بِمَعَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الْأَحْزَابِ: 43] والذي نزيده هاهنا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ جَعَلَ الصَّلَاةَ لِلَّهِ وعطف الملائكة على الله، وهاهنا جَمَعَ نَفْسَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَسْنَدَ الصَّلَاةَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: يُصَلُّونَ وَفِيهِ تَعْظِيمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهَذَا لِأَنَّ إِفْرَادَ الْوَاحِدِ بِالذِّكْرِ وَعَطْفَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ يُوجِبُ تَفْضِيلًا لِلْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْطُوفِ، كَمَا أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا قَالَ يَدْخُلُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ أَيْضًا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْدِيمٌ لَا يُفْهَمُ لَوْ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَدْخُلَانِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَقَالَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْأَصْلِ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى المؤمنين(25/181)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
اللَّهُ يَرْحَمُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُوَافِقُونَهُ فَهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلُّونَ بِالْإِضَافَةِ كَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْدُوبَةٌ سَوَاءٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُصَلِّ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَتَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِ التَّشَهُّدِ فَتَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ/ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا صَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى صَلَاتِنَا؟ نَقُولُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لَيْسَ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ إِلَى صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ صَلَاةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْنَا ذِكْرَ نَفْسِهِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِهِ مِنَّا شَفَقَةً عَلَيْنَا لِيُثِيبَنَا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَتْرُكِ اللَّهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحْتَ مِنَّةِ أُمِّتِهِ بِالصَّلَاةِ حَتَّى عَوَّضَهُمْ مِنْهُ بِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأُمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] وَقَوْلُهُ: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أَمْرٌ فَيَجِبُ وَلَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُنَا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِيُكْمِلَ السَّلَامَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤَكِّدِ الصَّلَاةَ بِهَذَا التَّأْكِيدِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)
فَصَّلَ الْأَشْيَاءَ بِتَبْيِينِ بَعْضِ أَضْدَادِهَا، فَبَيَّنَ حَالَ مُؤْذِي النَّبِيِّ لِيُبَيِّنَ فَضِيلَةَ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَاللَّعْنُ أَشَدُّ الْمَحْذُورَاتِ لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنَ اللَّهِ لَا يُرْجَى مَعَهُ خَيْرٌ بِخِلَافِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا تَغَيَّرَ عَلَى مَمْلُوكٍ إِنْ كَانَ تَأَذِّيهِ غَيْرَ قَوِيٍّ يَزْجُرُهُ وَلَا يَطْرُدُهُ وَلَوْ خُيِّرَ الْمُجْرِمُ [بَيْنَ] أَنْ يضرب أو يطرد عند ما يَكُونُ الْمَلِكُ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْكَرَمِ يَخْتَارُ الضَّرْبَ عَلَى الطَّرْدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَلِكٌ غَيْرَ سَيِّدِهِ، وَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدٍ لَا رَجَاءَ لِلْقُرْبِ مَعَهُ، لِأَنَّ الْمُبْعَدَ فِي الدُّنْيَا يَرْجُو الْقُرْبَةَ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا أُبْعِدَ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْعَدَهُ وَطَرَدَهُ فَمَنِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْصُرْ جَزَاءَهُ فِي الْإِبْعَادِ بَلْ أَوْعَدَهُ بِالْعَذَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ إِيذَاءَ اللَّهِ وَإِيذَاءَ الرَّسُولِ وَذَكَرَ عَقِيبَهُ أَمْرَيْنِ اللَّعْنَ وَالتَّعْذِيبَ فَاللَّعْنُ جَزَاءُ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ آذَى الْمَلِكَ يُبْعِدُهُ عَنْ بَابِهِ إِذَا كَانَ لَا يَأْمُرُ بِعَذَابِهِ، وَالتَّعْذِيبُ جَزَاءُ إِيذَاءِ الرَّسُولِ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا آذَى بَعْضَ عَبِيدِهِ كَبِيرٌ يَسْتَوْفِي مِنْهُ قِصَاصَهُ، لَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا مَنْ يُؤْذِي اللَّهَ وَلَا يُؤْذِي الرَّسُولَ لَا يُعَذَّبُ، لِأَنَّا نَقُولُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَنِ الْآخَرِ مُحَالٌ لِأَنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ فَقَدْ آذَى الرَّسُولَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يُؤْذِي اللَّهَ كَمَنْ عَصَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ، كَمَنْ فَسَقَ أَوْ فَجَرَ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ وَكُفْرٍ، فَقَدْ آذَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ/ تَعَالَى صَبُورٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَجْزِيهِ بِالْعَذَابِ وَلَا يَلْعَنُهُ بِكَوْنِهِ يُبْعِدُهُ عن الباب.(25/182)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكَّدَ الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ مُهِينًا لِأَنَّ مَنْ تَأَذَّى مِنْ عَبْدِهِ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ فَإِنْ أَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي مَوْضِعٍ مُمَيَّزٍ، أَوْ أَمَرَ بِضَرْبِهِ رَجُلًا كَبِيرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنٌ، وَإِنْ أَمَرَ بِضَرْبِهِ عَلَى مَلَأٍ وَحَبْسِهِ بَيْنَ الْمُفْسِدِينَ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ، فَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ فَيُعَذَّبُ عَذَابًا مُهِينًا، وَقَوْلُهُ: أَعَدَّ لَهُمْ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا عَذَّبَ عَبْدَهُ حَالَةَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ إِعْدَادٍ يَكُونُ دُونَ مَا إِذَا أَعَدَّ لَهُ قَيْدًا وَغُلًّا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَثَرُ الْغَضَبِ فَإِذَا سكت الغضب يزول ولا كذلك الثاني. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 58]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُصَلِّيًا عَلَى نَبِيِّهِ لَمْ يَنْفَكَّ إيذاء الله عن إيذانه، فَإِنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ فَقَدْ آذَى الرَّسُولَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّكُمْ إِنْ أَتَيْتُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ وَصَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ كَمَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، لَا يَنْفَكُّ إِيذَاؤُكُمْ عَنْ إِيذَاءِ الرَّسُولِ فَيَأْثَمُ مَنْ يُؤْذِيكُمْ لِكَوْنِ إِيذَائِكُمْ إِيذَاءَ الرَّسُولِ، كَمَا أَنَّ إِيذَائِي إِيذَاؤُهُ وَبِالْجُمْلَةِ لَمَّا حَصَلَتِ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ صَارَ لَا يَكَادُ يَنْفَكُّ إِيذَاءُ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ إِيذَاءِ الْآخَرِ كَمَا يَكُونُ حَالُ الْأَصْدِقَاءِ الصَّادِقِينَ فِي الصَّدَاقَةِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا احْتِرَازٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ زَائِدٍ، فَإِنَّ مَنْ جُلِدَ مِائَةً عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ حُدَّ أَرْبَعِينَ عَلَى لَعِبِ النَّرْدِ آذَى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ أَيْضًا، وَمَنْ جُلِدَ عَلَى الزِّنَا أَوْ حَدِّ الشُّرْبِ لَمْ يُؤْذَ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ لَمْ يُؤْذَ أَصْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ إِصْلَاحُ حَالِ الْمَضْرُوبِ، وَقَوْلُهُ: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً الْبُهْتَانُ هُوَ الزُّورُ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقَوْلِ وَالْإِيذَاءُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ فَمَنْ آذَى مُؤْمِنًا بِالضَّرْبِ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ لَا يَكُونُ قَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا، فَنَقُولُ: الْمُرَادُ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوْلِ. وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ إِظْهَارَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهَ لُعِنَ، وَإِيذَاءُ اللَّهِ بِأَنْ يُنْكَرَ وُجُودُ اللَّهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ دَلَائِلِ وَجُودِهِ أَوْ يُشْرَكَ بِهِ مَنْ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ أَوْ مَنْ لَا يَقْدِرُ وَلَا يَعْلَمُ أَوْ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى مُوجِدٍ وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَ إِيذَاءَ الْمُؤْمِنِ بِالْقَوْلِ، وَعَلَى هَذَا خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِالْقَوْلِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأَتَمُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤْذِيَ اللَّهَ بِمَا يُؤْلِمُهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ أَخْذِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيُؤْذِيهِ بِالْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ إِيذَاؤُهُ بِالْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ إِيذَاؤُهُ بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَقُولَ فِيهِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ فَيَتَأَذَّى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي/ الْجَوَابِ هُوَ أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِثْماً مُبِيناً مُسْتَدْرَكٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ احْتَمَلَ بُهْتَانًا إِنْ كَانَ بِالْقَوْلِ وَإِثْمًا مُبِينًا كَيْفَمَا كَانَ الْإِيذَاءُ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّ الْإِيذَاءَ الْقَوْلِيَّ بِالذِّكْرِ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَعَمُّ وَلِأَنَّهُ أَتَمُّ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانُ دليله ويدخل في القلب والآذان سبيله. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ يَحْتَمِلُ بُهْتَانًا وَكَانَ فِيهِ مَنْعُ الْمُكَلَّفِ عَنْ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِ، أَمَرَ الْمُؤْمِنَ بِاجْتِنَابِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا التُّهَمُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّأَذِّي لِئَلَّا يَحْصُلَ الْإِيذَاءُ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيذَاءُ الْقَوْلِيُّ مُخْتَصًّا بِالذِّكْرِ اخْتَصَّ بِالذِّكْرِ مَا هُوَ سَبَبُ الْإِيذَاءِ الْقَوْلِيِّ وَهُوَ النِّسَاءُ فَإِنَّ ذِكْرَهُنَّ بِالسُّوءِ يُؤْذِي الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِخِلَافِ ذِكْرِ الرِّجَالِ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ امْرَأَةً بِالسُّوءِ تَأَذَّتْ وَتَأَذَّى أَقَارِبُهَا أَكْثَرَ مِنْ تَأَذِّيهَا، وَمَنْ ذَكَرَ رَجُلًا بِالسُّوءِ تَأَذَّى(25/183)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
وَلَا يَتَأَذَّى نِسَاؤُهُ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَخْرُجُ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ مَكْشُوفَاتٍ يَتْبَعُهُنَّ الزُّنَاةُ وَتَقَعُ التُّهَمُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْحَرَائِرَ بِالتَّجَلْبُبِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ قِيلَ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يُتْبَعْنَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ لَا يَزْنِينَ لِأَنَّ مَنْ تَسْتُرُ وَجْهَهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لَا يُطْمَعُ فِيهَا أَنَّهَا تَكْشِفُ عَوْرَتَهَا فَيُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ مَسْتُورَاتٌ لَا يُمْكِنُ طَلَبُ الزِّنَا مِنْهُنَّ. وَقَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَغْفِرُ لَكُمْ مَا قَدْ سَلَفَ بِرَحْمَتِهِ وَيُثِيبُكُمْ عَلَى مَا تَأْتُونَ بِهِ راحما عليكم.
[سورة الأحزاب (33) : آية 60]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَالْمُجَاهِرِ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُسِرِّ الَّذِي يُظْهِرُ الْحَقَّ وَيُضْمِرُ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: وَهُمُ الْمُؤْذُونَ اللَّهَ، وَالْمُؤْذُونَ الرَّسُولَ، وَالْمُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ مِنَ الْمُسِرِّينَ ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: الْمُنَافِقُ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ سِرًّا وَالثَّانِي: الَّذِي/ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ وَالثَّالِثُ:
الْمُرْجِفُ الَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِرْجَافِ بِقَوْلِهِ غُلِبَ مُحَمَّدٌ وَسَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَيُؤْخَذُ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ لَهُمْ ثَلَاثَ اعْتِبَارَاتٍ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ: 35] حَيْثُ ذَكَرَ أَصْنَافًا عَشَرَةً وَكُلُّهُمْ يُوجَدُ فِي وَاحِدٍ فَهُمْ وَاحِدٌ بِالشَّخْصِ كَثِيرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَقَوْلُهُ: لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ ولنخرجنهم من المدينة، ثم لا يجاوزونك وَتَخْلُو الْمَدِينَةُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْإِخْرَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، فَإِذَا أَغْرَيْنَاكَ لَا يُجَاوِرُونَكَ، وَالْأَوَّلُ:
كَقَوْلِ الْقَائِلِ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَيَقْرَأُ إِشَارَةً إِلَى أَمْرَيْنِ وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ يَخْرُجُ فُلَانٌ وَيَدْخُلُ السُّوقَ فَفِي الْأَوَّلِ يَقْرَأُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَفِي الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُخْرِجُ أَعْدَاءَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَيَنْفِيهِمْ عَلَى يَدِهِ إِظْهَارًا لِشَوْكَتِهِ، وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ النَّبِيِّ لَأَخْلَى الْمَدِينَةَ عَنْهُمْ فِي أَلْطَفِ آنٍ [بِقَوْلِهِ] كُنْ فَيَكُونُ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ لَا يَقَعُ ذَلِكَ إِلَّا بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطُفَ فَقَالَ: ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا وهو أن يتهيئوا ويتأهبوا للخروج. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 61]
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)
أَيْ فِي ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يُجَاوِرُونَكَ فِيهِ يَكُونُونَ مَلْعُونِينَ مَطْرُودِينَ مِنْ بَابِ اللَّهِ وَبَابِكَ وَإِذَا خَرَجُوا لَا يَنْفَكُّونَ عَنِ الْمَذَلَّةِ، وَلَا يَجِدُونَ مَلْجَأً بَلْ أَيْنَمَا يَكُونُونَ يُطْلَبُونَ وَيُؤْخَذُونَ وَيُقْتَلُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 62]
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
يَعْنِي هَذَا لَيْسَ بِدْعًا بِكُمْ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ جَارِيَةٌ وَعَادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ تُفْعَلُ بِالْمُكَذِّبِينَ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مِثْلَ الْحُكْمِ الَّذِي يُبَدَّلُ وَيُنْسَخُ فَإِنَّ النَّسْخَ يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ وَالْأَخْبَارُ فَلَا تُنْسَخُ ثم قال
[سورة الأحزاب (33) : آية 63]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)(25/184)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ يُلْعَنُونَ وَيُهَانُونَ وَيُقْتَلُونَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَكَّرَهُمْ بِالْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مَا يَكُونُ لَهُمْ فيها فقال: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْفَاهَا لِحِكْمَةٍ هِيَ امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ عَنِ الِاجْتِرَاءِ وَخَوَّفَهُمْ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِشَارَةً إِلَى التَّخْوِيفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ اللَّهُ يَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ يُنْبِئُ عَنْ إِبْطَاءِ الْأَمْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُطَالِبُ مَدْيُونًا بِحَقِّهِ فَإِنِ اسْتَمْهَلَهُ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ رُبَّمَا يَصْبِرُ ذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ لَهُ اصْبِرْ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ مِنْ سَفَرِهِ يَقُولُ اللَّهُ يَعْلَمُ مَتَى يَجِيءُ فُلَانٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ فُلَانٍ قبل انقضاء تلك المدة فقال هاهنا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً يَعْنِي هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوهَا فَرُبَّمَا تَقَعُ عَنْ قَرِيبٍ وَالْقَرِيبُ فَعِيلٌ يَسْتَوِي فِيهِ المذكر والمؤنث، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: 56] وَلِهَذَا لَمْ يقل لعل الساعة تكون قريبة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 65]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً يَعْنِي كَمَا أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَكُمْ فَكَذَلِكَ مَلْعُونُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [الْأَحْزَابِ: 57] خالِدِينَ فِيها أَبَداً مُطِيلِينَ الْمُكْثَ فِيهَا مُسْتَمِرِّينَ لَا أَمَدَ لِخُرُوجِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. لَمَّا ذَكَرَ خُلُودَهُمْ بَيَّنَ تَحْقِيقَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَذَّبَ لَا يُخَلِّصُهُ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا صَدِيقٌ يَشْفَعُ لَهُ أَوْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُ، وَلَا ولي لهم يشفع ولا نصير يدفع. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 66 الى 68]
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَفِيعَ لَهُمْ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ أَعْضَائِهِمْ أَيْضًا لَا يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنِ الْبَعْضِ بِخِلَافِ عَذَابِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَدْفَعُ عَنْ وَجْهِهِ الضَّرْبَةَ اتِّقَاءً بِيَدِهِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ تَجِدُهُ يَجْعَلُ يَدَهُ جُنَّةً أَوْ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ كَيْ لَا يُصِيبَ وَجْهَهُ، وَفِي الْآخِرَةِ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ أَعْضَائِهِمُ الَّتِي تُجْعَلُ جُنَّةً لِلْوَجْهِ وَوِقَايَةً لَهُ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فَيَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا تُغْنِيهِمُ النَّدَامَةُ وَالْحَسْرَةُ، لِحُصُولِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْخَلَاصَ لَيْسَ إِلَّا لِلْمُطِيعِ. ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا يَعْنِي بَدَلَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَطَعْنَا السَّادَةَ وَبَدَلَ طَاعَةِ الرَّسُولِ أَطَعْنَا الْكُبَرَاءَ وَتَرَكْنَا طَاعَةَ سَيِّدِ السَّادَاتِ وَأَكْبَرِ الْأَكَابِرِ/ فَبَدَّلْنَا الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، فَلَا جَرَمَ فَاتَنَا خَيْرُ الْجِنَانِ وَأُوتِينَا شَرَّ النِّيرَانِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ بَعْضَ التَّشَفِّي بِتَعْذِيبِ الْمُضِلِّينَ وَيَقُولُونَ: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أَيْ بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَفِي قوله تعالى: ضِعْفَيْنِ (مِنَ الْعَذابِ) وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الأمر(25/185)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
الْمَدْعُوِّ بِهِ وَالْعَذَابُ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ وَاللَّعْنُ كَذَلِكَ فَطَلَبُوا مَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِمْ:
ضِعْفَيْنِ وَزِيَادَةُ اللَّعْنِ بِقَوْلِهِمْ: لَعْناً كَبِيراً.
[سورة الأحزاب (33) : آية 69]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُلْعَنُ وَيُعَذَّبُ وَكَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِيذَاءٍ هُوَ كُفْرٌ، أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إِيذَاءٍ هُوَ دُونَهُ وَهُوَ لَا يُورِثُ كُفْرًا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقِسْمَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِحُكْمِهِ بِالْفَيْءِ لِبَعْضٍ وغير ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى وَحَدِيثُ إِيذَاءِ مُوسَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ إِيذَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى عَيْبٍ فِي بَدَنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: [إِنَّ] قَارُونَ قَرَّرَ مَعَ امْرَأَةٍ فَاحِشَةٍ حَتَّى تَقُولَ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ مُوسَى زَنَى بِي فَلَمَّا جَمَعَ قَارُونُ الْقَوْمَ وَالْمَرْأَةُ حَاضِرَةٌ أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهَا أَنَّهَا صَدَقَتْ وَلَمْ تَقُلْ مَا لُقِّنَتْ وَبِالْجُمْلَةِ الْإِيذَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ كَافٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: 24] وَقَوْلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [الْبَقَرَةِ: 55] وَقَوْلُهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَةِ: 61] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ إِذَا طَلَبَكُمُ الرَّسُولُ إِلَى الْقِتَالِ أَيْ لَا تَقُولُوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا وَلَا تَسْأَلُوا مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَكُمْ فِيهِ: «وَإِذَا أَمَرَكُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَقَوْلُهُ: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ أَبْرَزَ جِسْمَهُ لِقَوْمِهِ فَرَأَوْهُ وَعَلِمُوا فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ وَنَطَقَتِ المرأة بالحق وأمر الملائكة حتى عبروا بهرون عَلَيْهِمْ فَرَأَوْهُ غَيْرَ مَجْرُوحٍ فَعَلِمُوا بَرَاءَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِهِ الَّذِي رَمَوْهُ بِهِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أَيْ أَخْرَجَهُ عَنْ عُهْدَةِ مَا طَلَبُوا بِإِعْطَائِهِ الْبَعْضَ إِيَّاهُمْ وَإِظْهَارِهِ عَدَمَ جَوَازِ الْبَعْضِ وَبِالْجُمْلَةِ قَطَعَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالْمَسْكَنَةَ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ:
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أَيْ ذَا وَجَاهَةٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَالْوَجِيهُ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَجْهٌ أَيْ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ، وَكُلُّ أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْرُوفًا لَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تَكْفِي فِي الْوَجَاهَةِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ غَيْرَهُ لِكَوْنِهِ خَادِمًا لَهُ وَأَجِيرًا عِنْدَهُ لَا يُقَالُ هُوَ وَجِيهٌ عِنْدَ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا الْوَجِيهُ مَنْ يَكُونُ لَهُ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ تَجْعَلُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يعرف ولا ينكر وكان كذلك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
ثم قال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَالْخَيْرُ، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَالْحَقُّ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْخَيْرِ وَتَرَكَ الشَّرَّ فَقَدِ اتَّقَى اللَّهَ وَمَنْ قَالَ الصِّدْقَ قَالَ قَوْلًا سَدِيدًا، ثُمَّ وَعَدَهُمْ عَلَى الْأَمْرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ:
عَلَى الْخَيْرَاتِ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ يَصْلُحُ الْعَمَلُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يُرْفَعُ وَيَبْقَى فَيَبْقَى فَاعِلُهُ خَالِدًا فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ السَّدِيدِ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فَطَاعَةُ اللَّهِ هِيَ طَاعَةُ الرَّسُولِ، وَلَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِبَيَانِ شَرَفِ فِعْلِ الْمُطِيعِ فَإِنَّهُ يَفْعَلْهُ الْوَاحِدُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا وَعِنْدَ الرَّسُولِ يَدًا وَقَوْلُهُ: فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً جَعَلَهُ عَظِيمًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَالنَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ تَعْظُمُ بِعِظَمِ العذاب.(25/186)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
حَتَّى إِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ غَيْرَهُ سَوْطًا ثُمَّ نَجَا مِنْهُ لَا يُقَالُ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، لِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي نَجَا مِنْهُ لَوْ وَقَعَ مَا كَانَ يَتَفَاوَتُ الْأَمْرُ تَفَاوُتًا كَثِيرًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ثَوَابٍ كَثِيرٍ وَهُوَ الثَّوَابُ الدَّائِمُ الْأَبَدِيُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 72]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
لَمَّا أَرْشَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَأَدَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحْسَنِ الْآدَابِ، بَيَّنَ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى الْإِنْسَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَقَالَ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أَيِ التَّكْلِيفَ وَهُوَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا فِي الطَّبِيعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع من التكليف ليس في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَرْضَ وَالْجَبَلَ وَالسَّمَاءَ كُلُّهَا عَلَى مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ الْجَبَلُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ السَّيْرُ وَالْأَرْضُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الصُّعُودُ وَلَا مِنَ السَّمَاءِ الْهُبُوطُ وَلَا فِي الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَإِنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ عَنْ أَشْيَاءَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَنَا فَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ كَمَا يَشْتَغِلُ الْإِنْسَانُ بِأَمْرٍ مُوَافِقٍ لِطَبْعِهِ، وَفِي الْآيَةِ مسائل:
الأولى: في الأمانة وجوه كثيرة منهم مَنْ قَالَ هُوَ التَّكْلِيفُ وَسُمِّيَ أَمَانَةً لِأَنَّ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ/ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ، وَمَنْ وَفَّرَ فَلَهُ الْكَرَامَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ بَعِيدٌ فَإِنَّ السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِأَلْسِنَتِهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَعْضَاءُ فَالْعَيْنُ أَمَانَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَهَا وَالْأُذُنُ كَذَلِكَ وَالْيَدُ كَذَلِكَ، وَالرِّجْلُ وَالْفَرْجُ وَاللِّسَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِمَا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْعَرْضِ وُجُوهٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ الْعَرْضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَشْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُقَابَلَةُ أَيْ قَابَلْنَا الأمانة على السموات فرجحت الأمانة على أهل السموات والأرض.
المسألة الثالثة: في السموات وَالْأَرْضِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هِيَ بِأَعْيَانِهَا، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أَهْلُوهَا، فَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السموات وَالْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها لَمْ يَكُنْ إِبَاؤُهُنَّ كَإِبَاءِ إِبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الْحِجْرِ: 31] مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هُنَاكَ السُّجُودَ كَانَ فرضا، وهاهنا الْأَمَانَةُ كَانَتْ عَرْضًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِبَاءَ كَانَ هناك استكبارا وهاهنا اسْتِصْغَارًا اسْتَصْغَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَأَشْفَقْنَ مِنْها.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا سَبَبُ الْإِشْفَاقِ؟ نَقُولُ الْأَمَانَةُ لَا تُقْبَلُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا صَعْبَ الْحِفْظِ كَالْأَوَانِي مِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي تَكُونُ عَزِيزَةً سَرِيعَةَ الِانْكِسَارِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَقَبِلَهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الزُّجَاجِ لَقَبِلَهَا، فِي الْأَوَّلِ لِأَمَانِهِ مِنْ هَلَاكِهَا، وَفِي الثَّانِي لِكَوْنِهَا غَيْرَ عَزِيزَةِ الْوُجُودِ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ زَمَانَ شُهُبٍ وَغَارَةٍ فَلَا يَقْبَلُ الْعَاقِلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوَدَائِعَ، وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَجُنُودَهُ كَانُوا فِي قَصْدِ الْمُكَلَّفِينَ إذ العرض كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ الثَّالِثُ: مُرَاعَاةُ الْأَمَانَةِ وَالْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ كَإِيدَاعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الْعَلْفِ وَالسَّقْيِ وَمَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ بِرَسْمِهَا، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِهَا بِخِلَافِ مَتَاعٍ يُوضَعُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ وَالتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةٍ وَتَنْمِيَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَيْفَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ وَلَمْ تَحْمِلْهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ؟ فِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِمَا(25/187)
فِيهَا وَعِلْمِهِنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَشْيَاءَ نَظَرَتْ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ فَرَأَيْنَ ضَعْفَهُنَّ فَامْتَنَعْنَ، وَالْإِنْسَانُ نَظَرَ إِلَى جَانِبِ الْمُكَلِّفِ، وَقَالَ الْمُودِعُ عَالِمٌ قَادِرٌ لَا يَعْرِضُ الْأَمَانَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِهَا وَإِذَا أَوْدَعَ لَا يَتْرُكُهَا بَلْ يَحْفَظُهَا بِعَيْنِهِ وَعَوْنِهِ فَقَبِلَهَا، وَقَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ الْإِنْسَانُ يَظْلِمُ بِالْعِصْيَانِ وَيَجْهَلُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ ثَالِثُهَا: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ/ يُقَالُ فَرَسٌ شَمُوسٌ وَدَابَّةٌ جَمُوحٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَأْنِهِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ فَلَمَّا أُودِعَ الْأَمَانَةَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ تَرَكَ الظُّلْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 82] وَتَرَكَ الْجَهْلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: 31] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ: 28] رَابِعُهَا: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي ظَنِّ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [الْبَقَرَةِ: 30] وَبَيَّنَ عِلْمَهُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: 31] وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِنَّ الْمَخْلُوقَ عَلَى قِسْمَيْنِ مُدْرِكٌ وَغَيْرُ مُدْرِكٍ، وَالْمُدْرِكُ مِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَالْجُزْئِيَّ مِثْلُ الْآدَمِيِّ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْبَهَائِمِ ثُمَّ تُدْرِكُ الشَّعِيرَ الَّذِي تَأْكُلُهُ وَلَا تَتَفَكَّرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَلَا تَنْظُرُ فِي الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، وَمِنْهُ مَنْ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّ وَلَا يُدْرِكُ الْجُزْئِيَّ كَالْمَلَكِ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يُدْرِكُ لَذَّةَ الْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ، قَالُوا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [الْبَقَرَةِ: 31] فَاعْتَرَفُوا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَلَى مُدْرِكِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَهُ لَذَّاتٌ بِأُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِتَحْصِيلِ لَذَّاتٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ مِثْلُ لَذَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ بَلْ بِمَعْنَى الْخِطَابِ فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ يُسَمَّى مُكَلَّفًا لِمَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَاطَبٌ فَسُمِّيَ الْمُخَاطَبُ مُكَلَّفًا وَفِي الْآيَةِ لِطَائِفُ الْأُولَى: الْأَمَانَةُ كَانَ عَرْضُهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا فَكَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فَهُوَ فَائِزٌ، بَقِيَ أَوْلَادُهُ أَخَذُوا الْأَمَانَةَ مِنْهُ وَالْآخِذُ مِنَ الْأَمِينِ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، وَلِهَذَا وَارِثُ الْمُودَعِ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ تَجْدِيدِ عَهْدٍ وَائْتِمَانٍ، فَالْمُؤْمِنُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَصَارَ أَمِينًا مِنَ اللَّهِ فَصَارَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَانَ لَهُ مَا كَانَ لِآدَمَ مِنَ الْفَوْزِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَابِ:
73] أَيْ كَمَا تَابَ عَلَى آدَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: 37] وَالْكَافِرُ صَارَ آخِذًا لِلْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤْتَمَنِ فَبَقِيَ فِي ضَمَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ وَالْأَمِينُ لَا يَضْمَنُ مَا فَاتَ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَصَابَ الْأَمَانَةَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، لِأَنَّهُ يَضْمَنُ مَا فَاتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِتَقْصِيرٍ اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: خَصَّ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ الْأُمُورِ وَأَحْمَلُهَا لِلْأَثْقَالِ، وَأَمَّا السموات فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النَّبَأِ: 12] وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ لَا تَخْفَى شِدَّتُهَا وَصَلَابَتُهَا، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا كَانَتْ لَهَا شِدَّةٌ وَصَلَابَةٌ عَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمَانَةَ عَلَيْهَا وَاكْتُفِيَ بِشِدَّتِهِنَّ وَقُوَّتِهِنَّ فَامْتَنَعْنَ، لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ أَقْوِيَاءَ إِلَّا أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ قُوَّتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاءِ: 28] وَلَكِنْ وَعَدَهُ بِالْإِعَانَةِ عَلَى حِفْظِ الْأَمَانَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ(25/188)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
[الطَّلَاقِ: 3] فَإِنْ قِيلَ فَالَّذِي يُعِينُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يُعَذَّبُ فَلِمَ يُعَذِّبُ الْكَافِرَ؟ نَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أُعِينُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِي وَيَتَوَكَّلُ عَلَيَّ» وَالْكَافِرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَتَرَكَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَبْقَى فِي عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ اللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ/ تَعَالَى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فَأَبَيْنَ أَنْ يَقْبَلْنَهَا وَقَبِلَهَا الْإِنْسَانُ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفِعْلِ تَعَبٌ يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً فَقَالَ تَعَالَى: وَحَمَلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مُجَرَّدِ حَمْلِ الْأَمَانَةِ، وَإِمَّا عَلَى رِعَايَتِهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ فَيَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ فَإِنْ قِيلَ فَالْكُلُّ حَمَلُوهَا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْحَمْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ عَلَى الْحَمْلِ فَنَقُولُ الْفِعْلُ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ الْإِذْنِ مِنَ الْمَالِكِ الْآمِرِ يَسْتَحِقُّ الْفَاعِلُ الْأُجْرَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ احْمِلْ هَذَا إِلَى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلَى الشِّمَالِ فَحَمَلَ وَنَقَلَهَا إِلَى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلَى الْجَنُوبِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ كَذَلِكَ الْكَافِرُ حَمَلَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِذْنِ فَغَرِمَ وَزَالَتْ حَسَنَاتُهُ الَّتِي عملها بسببه. ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (33) : آية 73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
أَيْ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ لِيَقَعَ تَعْذِيبُ الْمُنَافِقِ وَالْمُشْرِكِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لِمَ قَدَّمَ التَّعْذِيبَ عَلَى التَّوْبَةِ نَقُولُ لَمَّا سَمَّى التَّكْلِيفَ أَمَانَةً وَالْأَمَانَةُ مِنْ حُكْمِهَا اللَّازِمِ أَنَّ الْخَائِنَ يَضْمَنُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِهَا اللَّازِمِ أَنَّ الْأَمِينَ الْبَاذِلَ جُهْدَهُ يَسْتَفِيدُ أُجْرَةً فَكَانَ التَّعْذِيبُ عَلَى الْخِيَانَةِ كَاللَّازِمِ وَالْأَجْرُ عَلَى الْحِفْظِ إِحْسَانٌ وَالْعَدْلُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ عَطَفَ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُنَافِقِ، وَلَمْ يُعِدِ اسْمَهُ تَعَالَى فَلَمْ يَقُلْ وَيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَ التَّوْبَةِ أَعَادَ اسْمَهُ وَقَالَ وَيَتُوبَ اللَّهُ وَلَوْ قَالَ وَيَتُوبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ الْمَعْنَى حَاصِلًا؟ نَقُولُ أَرَادَ تَفْضِيلَ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُنَافِقِ فَجَعَلَهُ كَالْكَلَامِ المستأنف ويجب هناك ذكر الْفَاعِلُ فَقَالَ: وَيَتُوبَ اللَّهُ وَيُحَقِّقُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (وَيَتُوبُ اللَّهُ) بِالرَّفْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ وَصْفَيْنِ الظَّلُومُ وَالْجَهُولُ وَذَكَرَ مِنْ أَوْصَافِهِ وَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ كَانَ غَفُورًا لِلظَّلُومِ وَرَحِيمًا عَلَى الْجَهُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الظُّلْمَ جَمِيعًا إِلَّا الظُّلْمَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَأَمَّا الْوَعْدُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَأَمَّا الرَّحْمَةُ عَلَى الْجَهْلِ فَلِأَنَّ الْجَهْلَ مَحَلُّ الرَّحْمَةِ وَلِذَلِكَ يَعْتَذِرُ الْمُسِيءُ بِقَوْلِهِ ما علمت.
وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ عَبْدَهُ بِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَبَصَّرَهُ بِنَفْسِهِ فَرَآهُ ظَلُومًا جَهُولًا ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الْأَمَانَةَ فَقَبِلَهَا مَعَ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ لِعِلْمِهِ فِيمَا يَجْبُرُهَا مِنَ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ.(25/189)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
سُورَةُ سَبَأٍ
مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ فِيهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آية بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة سبإ (34) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
السُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْحَمْدِ خَمْسُ سُوَرٍ سُورَتَانِ مِنْهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهُمَا الْأَنْعَامُ وَالْكَهْفُ وَسُورَتَانِ فِي الْأَخِيرِ وَهُمَا هَذِهِ السُّورَةُ وَسُورَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَامِسَةُ وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ تُقْرَأُ مَعَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَمَعَ النِّصْفِ الْأَخِيرِ وَالْحِكْمَةُ فِيهَا أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَمِ قُدْرَتِنَا عَلَى إِحْصَائِهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَنَا أَوَّلًا بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ لَنَا مَا نَقُومُ بِهِ وَهَذِهِ النِّعْمَةُ تُوجَدُ مَرَّةً أُخْرَى بِالْإِعَادَةِ فَإِنَّهُ يَخْلُقُنَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَخْلُقُ لَنَا مَا يَدُومُ فَلَنَا حَالَتَانِ الِابْتِدَاءُ وَالْإِعَادَةُ وَفِي كُلِّ حَالَةٍ لَهُ تَعَالَى عَلَيْنَا نِعْمَتَانِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةُ الْإِبْقَاءِ فَقَالَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] إِشَارَةً إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَامِ: 2] إِشَارَةً إِلَى الْإِيجَادِ الْأَوَّلِ وَقَالَ فِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْفِ: 1، 2] إِشَارَةً إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ بِهَا البقاء ولولا شرع ينقاد له الخلق لا تبع كل واحد هواه ولو وقعت الْمُنَازَعَاتُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَأَدَّى إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ فِي الْمَلَائِكَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] وَالْمَلَائِكَةُ بِأَجْمَعِهِمْ لَا يَكُونُونَ رُسُلًا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْسِلُهُمُ اللَّهُ مُسَلِّمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ: 73] وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ لَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ النِّعْمَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] إِشَارَةً إِلَى النعمة العاجلة وقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] إِشَارَةً إِلَى النِّعْمَةِ/ الْآجِلَةِ قُرِئَتْ فِي الِافْتِتَاحِ وفي الاختتام، ثم في الآية مسائل:(25/190)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحَمْدُ شُكْرٌ وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعْمَةِ والله تعالى جعل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ لَنَا حَتَّى يَجِبَ الشُّكْرُ نَقُولُ جَوَابًا عَنْهُ الْحَمْدُ يُفَارِقُ الشُّكْرَ فِي مَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ فَيُحْمَدُ مَنْ فِيهِ صِفَاتٌ حَمِيدَةٌ وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى الْحَامِدِ أَصْلًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي حَقِّ عَالِمٍ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ أَصْلًا إِنَّهُ عَالِمٌ عَامِلٌ بَارِعٌ كَامِلٌ فَيُقَالُ لَهُ إِنَّهُ يَحْمَدُ فُلَانًا وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ يَشْكُرُهُ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ نِعَمَهُ أَوْ ذَكَرَهُ عَلَى نِعَمِهِ فالله تعالى محمود في الأزل لا تصافه بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ وَمَشْكُورٌ وَلَا يَزَالُ عَلَى مَا أَبْدَى مِنَ الْكَرَمِ وَأَسْدَى مِنَ النِّعَمِ فَلَا يَلْزَمُ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْحَمْدِ بَلْ يَكْفِي ذِكْرُ الْعَظَمَةِ وَفِي كَوْنِهِ مَالِكَ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ عَظَمَةٌ كَامِلَةٌ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يُوجِبُ شُكْرًا أَتَمَّ مِمَّا يُوجِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: 29] وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي السموات وَالْأَرْضِ إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَنَحْنُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ لَا هُوَ، يُوجِبُ ذَلِكَ شُكْرًا لَا يُوجِبُهُ كَوْنُ ذَلِكَ لَنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أن الحمد هاهنا إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ، فَلِمَ ذكر الله السموات وَالْأَرْضَ؟ فَنَقُولُ نِعَمُ الْآخِرَةِ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ فَذَكَرَ الله النعم المرئية وهي ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ:
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لِيُقَاسَ نِعَمُ الْآخِرَةِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا وَيُعْلَمَ فَضْلُهَا بِدَوَامِهَا وَفَنَاءِ الْعَاجِلَةِ وَلِهَذَا قَالَ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْحِكْمَةِ وَالْخَيْرِ، وَالْحِكْمَةُ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا فَيُمْكِنُ مِنْهُ إِيجَادُ أَمْثَالِ هَذِهِ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحِكْمَةُ هِيَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْفِعْلُ فَإِنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَمْرًا وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يُنَاسِبُ عِلْمَهُ لَا يُقَالُ لَهُ حَكِيمٌ، فَالْفَاعِلُ الَّذِي فِعْلُهُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ هُوَ الْحَكِيمُ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنَهَا فَقَوْلُهُ: (حَكِيمٌ) أَيْ فِي الِابْتِدَاءِ يَخْلُقُ كَمَا يَنْبَغِي وَخَبِيرٌ أَيْ بِالِانْتِهَاءِ يَعْلَمُ مَاذَا يَصْدُرُ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَمَا لَا يَصْدُرُ إِلَى مَاذَا يَكُونُ مَصِيرُ كُلِّ أَحَدٍ فَهُوَ حَكِيمٌ في الابتداء خبير في الانتهاء. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ:
[سورة سبإ (34) : آية 2]
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَبَّةِ وَالْأَمْوَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا مِنَ السَّنَابِلِ وَالْأَحْيَاءِ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ/ مِنْ أَنْوَاعِ رَحْمَتِهِ مِنْهَا الْمَطَرُ وَمِنْهَا الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا مِنْهَا الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَمِنْهَا الْأَرْوَاحُ وَمِنْهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ لِقَوْلِهِ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ الْحَبَّةَ تُبْذَرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُسْقَى ثَانِيًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ وَما يَعْرُجُ فِيها وَلَمْ يَقُلْ يَعْرُجُ إِلَيْهَا إِشَارَةً إِلَى قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَرْتَبَةِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ إِلَى لِلْغَايَةِ، فَلَوْ قَالَ وَمَا يعرج إليها لفهم الوقوف عند السموات فَقَالَ: وَما يَعْرُجُ فِيها لِيُفْهَمَ نُفُوذُهَا فِيهَا وَصُعُودُهَا مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْتَهَى وَلَا مَرْتَبَةَ فَوْقَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّمَاءُ فَهِيَ دُنْيَا وَفَوْقَهَا الْمُنْتَهَى.(25/191)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ رَحِيمٌ بِالْإِنْزَالِ حَيْثُ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ، غَفُورٌ عند ما تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ وَالْأَعْمَالُ فَرَحِمَ أَوَّلًا بِالْإِنْزَالِ وغفر ثانيا عند العروج.
[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 4]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ اللَّهُ بِهَا الْحَمْدَ وَهِيَ نِعْمَةُ الْآخِرَةِ أَنْكَرَهَا قَوْمٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ثم رد عليهم وقال: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
أَخْبَرَ بِإِتْيَانِهَا وَأَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ التَّأْكِيدُ بِالْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا رَبَّ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُصُولِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْيَمِينِ بَلْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَبَيَانُ كَوْنِهِ دَلِيلًا هُوَ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ يَبْقَى فِي الدُّنْيَا مُدَّةً مَدِيدَةً فِي اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ وَيَمُوتُ عَلَيْهَا وَالْمُحْسِنُ قَدْ يَدُومُ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي الْآلَامِ الشَّدِيدَةِ مُدَّةً وَيَمُوتُ فِيهَا، فَلَوْلَا دَارٌ تَكُونُ الْأَجْزِيَةُ فِيهَا لَكَانَ/ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَا هُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أَظْهَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُ أَجْزَاءَ الْأَحْيَاءِ وَيَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهَا فَالسَّاعَةُ مُمْكِنَةُ الْقِيَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ فَتَكُونُ وَاقِعَةً، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَالْأَجْسَامُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْأَرْضِ وَالْأَرْوَاحُ فِي السَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَرْوَاحِ وَقَوْلُهُ:
وَلا فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَجْسَامِ، وَإِذَا عَلِمَ الْأَرْوَاحَ وَالْأَشْبَاحَ وَقَدَرَ عَلَى جَمْعِهَا لَا يَبْقَى اسْتِبْعَادٌ فِي الْمَعَادِ. وَقَوْلُهُ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْقَالِ الذَّرَّةِ لَيْسَ لِلتَّحْدِيدِ بَلِ الْأَصْغَرُ مِنْهُ لَا يَعْزُبُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ الْأَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْأَكْبَرَ؟
فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بَيَانَ إِثْبَاتِ الْأُمُورِ فِي الْكِتَابِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَصْغَرِ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ يُثْبِتُ الصَّغَائِرَ، لِكَوْنِهَا مَحَلَّ النِّسْيَانِ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَلَا يُنْسَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَقَالَ الْإِثْبَاتُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَكْبَرَ أَيْضًا مَكْتُوبٌ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ عِلْمَهُ بِالصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ ذَكَرَ أَنَّ جَمْعَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ لِلْجَزَاءِ فَقَالَ:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذَكَرَ فِيهِمْ أَمْرَيْنِ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرَيْنِ الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، فَالْمَغْفِرَةُ جَزَاءُ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَنَا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال: أخبرني والذي عَنْ جَدِّي عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَلِيجِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّه النُّعَيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ «يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»
وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ(25/192)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وَهُوَ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ مَنْ عَمِلَ لِسَيِّدٍ كَرِيمٍ عَمَلًا، فَعِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا وَيُطْعِمَهُ طَعَامًا، وَوَصْفُ الرِّزْقِ بِالْكَرِيمِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى ذِي كَرَمٍ أَوْ مُكْرِمٍ، أَوْ لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ بِخِلَافِ رِزْقِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَطْلُبْ وَيَتَسَبَّبْ فِيهِ لَا يَأْتِي، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً فَيُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
أُولئِكَ لَهُمْ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْبِشَارَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا رِزْقًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ لِلتَّعْلِيلِ، مَعْنَاهُ الْآخِرَةُ لِلْجَزَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ؟
فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ ثَوَابُهُ فَجَعَلَ لِلْمُكَلَّفِ دَارًا بَاقِيَةً لِيَكُونَ ثَوَابُهُ وَاصِلًا إِلَيْهِ دَائِمًا أَبَدًا، وَجَعَلَ قَبْلَهَا دَارًا فِيهَا الْآلَامُ وَالْأَسْقَامُ وَفِيهَا الْمَوْتُ لِيَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ مِقْدَارَ مَا يَكُونُ/ فِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَيَّزَ الرِّزْقَ بِالْوَصْفِ بِقَوْلِهِ كَرِيمٌ وَلَمْ يَصِفِ الْمَغْفِرَةَ وَاحِدَةً هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرِّزْقُ مِنْهُ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمُ، وَمِنْهُ الْفَوَاكِهُ وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ، فَمَيَّزَ الرِّزْقَ لِحُصُولِ الِانْقِسَامِ فِيهِ، وَلَمْ يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 5]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أَيْ بِالْإِبْطَالِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: آمَنُوا مَعْنَاهُ صَدَّقُوا وَهَذَا مَعْنَاهُ كَذَّبُوا فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ كَوْنُ سَعْيِهِمْ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مُطْلَقُ السَّعْيِ؟ فَنَقُولُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُعاجِزِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالٌ مَعْنَاهُ سَعَوْا فِيهَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّعْجِيزَ وَبِالسَّعْيِ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّبْلِيغِ لَا يَكُونُ السَّاعِي مُعَاجِزًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَآيَاتِ اللَّهِ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُ فَهُوَ آتٍ بِإِخْفَاءِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى السَّعْيِ الْعَظِيمِ وَالْجَدِّ الْبَلِيغِ لِيُرَوِّجَ كَذِبَهُ لَعَلَّهُ يُعْجِزُ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:
مُعاجِزِينَ أَيْ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُفَوِّتُونَ اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوْنُ السَّاعِي سَاعِيًا بِالْبَاطِلِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ فِي مُقَابَلَةِ لَهُمْ رِزْقٌ، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ الْأُولَى: قال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهِمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ إِخْبَارٌ عَنْ مُسْتَحَقِّهِمُ الْمُعَدِّ لَهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ قَائِمٌ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ وهاهنا لَمْ يَقُلْ لِيُجَازِيَهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثُمَّ زَادَهُمْ فَقَالَ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهاهنا لَمْ يَقُلْ إِلَّا لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، وَالْجَوَابُ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَلَمْ يُقَلِّلْهُ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ رزق ولا رزق ن جنس كريم، وقال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ بِلَفْظَةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّبْعِيضِ وَكُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَقِلَّةِ الْغَضَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَالرِّجْزُ قِيلَ أَسْوَأُ الْعَذَابِ، وَعَلَى هَذَا (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي الْأَلِيمِ قِرَاءَتَانِ الْجَرُّ وَالرَّفْعُ فَالرَّفْعُ(25/193)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
عَلَى أَنَّ الْأَلِيمَ وَصْفُ الْعَذَابِ كَأَنَّهُ قَالَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِنْ أَسْوَأِ الْعَذَابِ وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلرِّجْزِ وَالرَّفْعُ أَقْرَبُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى، وَالْجَرُّ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ تَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ فِي الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ عَمَلُهُ وَالْمُكَذِّبِ السَّاعِي الْمُعَجِّزِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مُؤْمِنًا لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أَوْ كَافِرٌ مُتَوَقِّفٌ، فَنَقُولُ إِذَا عُلِمَ حَالُ الْفَرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَرِيبُ الدَّرَجَةِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ أَمْرُهُ وَالْكَافِرُ قَرِيبُ الدَّرَجَةِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَلِلْمُؤْمِنِ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَرَامَةِ مِثْلَ رِزْقِ الَّذِي عَمِلَ صَالِحًا/ وَلِلْكَافِرِ غَيْرِ الْمُعَانِدِ عَذَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ من أسوأ الأنواع التي للمكذبين المعاندين. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَسْعَى فِي التَّكْذِيبِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَنَّ سَعْيَهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا لَا يَغْتَرُّ بِتَكْذِيبِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَقَوْلُهُ: هُوَ الْحَقَّ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَيْسَ الْحَقُّ إِلَّا ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُكَذِّبِ فَبَاطِلٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَنَازَعَ خَصْمَانِ، وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ حَقًّا فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِكَوْنِهِ هُوَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ هَادٍ إِلَى هَذَا الصِّرَاطِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِفَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا هَادِيًا وَالْحَقُّ وَاجِبُ الْقَبُولِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يُفِيدُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَزِيزًا يَكُونُ ذَا انْتِقَامٍ يَنْتَقِمُ مِنَ الَّذِي يَسْعَى فِي التَّكْذِيبِ، وَإِذَا كَانَ حَمِيدًا يَشْكُرُ سَعْيَ مَنْ يُصَدِّقُ وَيَعْمَلُ صَالِحًا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَدَّمَ الصِّفَةَ الَّتِي لِلْهَيْبَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي لِلرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّكَ أَبَدًا تَسْعَى فِي بَيَانِ تَقْدِيمِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ؟
نَقُولُ كَوْنُهُ عَزِيزًا تَامَّ الْهَيْبَةِ شَدِيدَ الِانْتِقَامِ يُقَوِّي جَانِبَ الرَّغْبَةِ لِأَنَّ رِضَا الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ أَعَزُّ وَأَكْرَمُ مِنْ رِضَا مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْعِزَّةُ كَمَا تُخَوِّفُ تُرْجَى أَيْضًا، وَكَمَا تُرَغِّبُ عَنِ التَّكْذِيبِ تُرَغِّبُ فِي التَّصْدِيقِ لِيَحْصُلَ الْقُرْبُ مِنَ العزيز. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 7]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
وَجْهُ التَّرْتِيبِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّاعَةَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سَبَأٍ: 3] وَبَيَّنَ مَا يَكُونُ بَعْدَ إِتْيَانِهَا مِنْ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ عَلَى عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَجَزَاءِ السَّاعِي فِي تَكْذِيبِ الْآيَاتِ بِالتَّعْذِيبِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ فَقَالَ الْمُؤْمِنُ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْحَقُّ وَهُوَ يَهْدِي، وَقَالَ الْكَافِرُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ هُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْ غَايَةِ اعْتِقَادِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ قَالُوا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الِاسْتِبْعَادِ، جَاءَ رَجُلٌ يَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغْرِبِ إلى غير ذلك من المحالات.
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 8]
أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)(25/194)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَمَامَ قَوْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوَّلًا أَعْنِي هُوَ مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ السَّامِعِ الْمُجِيبِ لِمَنْ قَالَ: هَلْ نَدُلُّكُمْ كَأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْقَائِلِ:
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ قَالَ لَهُ: أَهُوَ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؟ إِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ، أَمْ بِهِ جَنَّةٌ [أَيْ] جُنُونٌ؟ إِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ (وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ) : وَهِيَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرْضَى بِأَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ، وَلِهَذَا قَسَمَ وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ، بَلْ قَالَ مُفْتَرٍ أَوْ مَجْنُونٌ، احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ كَيْفَ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ، مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْحَقَّ ذَلِكَ فَظَنُّ الصِّدْقِ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ الْقَائِلِ مُفْتَرِيًا وَكَاذِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَقُولُ جَاءَ زَيْدٌ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أنه لم يجيء وَقِيلَ لَهُ كَذَبْتَ، يَقُولُ مَا كَذَبْتُ، وَإِنَّمَا سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ جَاءَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيَدْفَعُ الْكَذِبَ عَنْ نَفْسِهِ بِالظَّنِّ، فَهُمُ احْتَرَزُوا عَنْ تَبَيُّنِ كَذِبِهِمْ، فَكُلُّ عَاقِلٍ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ظُهُورِ كَذِبِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا يَكُونُ الْعَاقِلُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنَ الْكَافِرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى وَقَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ في مقابلة قولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَقَوْلُهُ: وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: بِهِ جِنَّةٌ وَكِلَاهُمَا مُنَاسِبٌ. أَمَّا الْعَذَابُ فَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْكَذِبِ إِلَى الصَّادِقِ مُؤْذِيَةٌ، لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ فَجُعِلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ نَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَأَمَّا الْجُنُونُ فَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْجُنُونِ إِلَى الْعَاقِلِ دُونَهُ فِي الْإِيذَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُعَذَّبُ، وَلَكِنْ يَنْسُبُهُ إِلَى عَدَمِ الْهِدَايَةِ فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ، ثُمَّ وَصَفَ ضَلَالَهُمْ بِالْبُعْدِ، لِأَنَّ مَنْ يُسَمِّي الْمُهْتَدِي ضَالًّا يَكُونُ هُوَ الضَّالَّ، فَمَنْ يُسَمِّي الْهَادِيَ ضَالًّا يَكُونُ أَضَلَّ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ هَادِيَ كُلِّ مهتد.
[سورة سبإ (34) : آية 9]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
ثم قال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِكَوْنِهِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَكَوْنِهِ جَازِيًا عَلَى السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ وَذَكَرَ فِيهِ تَهْدِيدًا. أَمَّا الدَّلِيلُ فَقَوْلُهُ: مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَيَدُلَّانِ عَلَى الْحَشْرِ لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَمِنْهَا الْإِعَادَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] / وَأَمَّا التَّهْدِيدُ فَبِقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ يَعْنِي نَجْعَلُ عَيْنَ نَافِعِهِمْ ضَارَّهُمْ بِالْخَسْفِ وَالْكِسَفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أَيْ لِكُلِّ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَيَتْرُكُ التَّعَصُّبَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَنْ يُنِيبُ مِنْ عِبَادِهِ، ذَكَرَ مِنْهُمْ مَنْ أَنَابَ وَأَصَابَ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] وَبَيَّنَ مَا آتَاهُ الله على إنابته فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 10]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ(25/195)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا
مُسْتَقِلٌّ بِالْمَفْهُومِ وَتَامٌّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: آتَى الْمَلِكُ زَيْدًا خِلْعَةً، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ آتَاهُ مِنْهُ خِلْعَةً يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَاصِّ مَا يَكُونُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إِيتَاءُ اللَّهِ الْفَضْلَ عَامٌّ لَكِنَّ النُّبُوَّةَ مِنْ عِنْدِهِ خَاصٌّ بِالْبَعْضِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التَّوْبَةِ: 21] فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ تَصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ مِنْ عِنْدِهِ لِخَوَاصِّهِ فَقَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَا جِبالُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَضْلًا مَعْنَاهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا قَوْلُنَا يَا جِبَالُ، أَوْ مَنْ آتَيْنَا وَمَعْنَاهُ قُلْنَا يَا جِبَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ (أَوِّبِي) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ التَّأْوِيبِ وَبِسُكُونِهَا وَضَمِّ الْهَمْزَةِ أُوبِي مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَالتَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، وَقِيلَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ سِيرِي مَعَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحْنَ قَالُوا: هُوَ مِنَ السِّبَاحَةِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى مَحَلِّ الْمُنَادَى وَالطَّيْرُ بِالرَّفْعِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَكُنِ الْمُوَافِقُ لَهُ فِي التَّأْوِيبِ مُنْحَصِرًا فِي الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَلَكِنْ ذَكَرَ الْجِبَالَ، لِأَنَّ الصُّخُورَ لِلْجُمُودِ وَالطَّيْرَ لِلنُّفُورِ «1» تُسْتَبْعَدُ منها الْمُوَافَقَةُ، فَإِذَا وَافَقَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَهُمُ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ عَطْفٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا: يا جبال أَوِّبِي وَأَلَنَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى آتَيْنَا تَقْدِيرُهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا وَأَلَنَّا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ فِي يَدِهِ كَالشَّمْعِ وَهُوَ فِي قُدْرَةِ اللَّهُ يَسِيرٌ، فَإِنَّهُ يَلِينُ بِالنَّارِ وَيَنْحَلُّ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، قِيلَ/ إِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ أَكْلِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ اللَّبُوسِ وَهِيَ الدُّرُوعُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِلرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَسَعْيٌ فِي حِفْظِ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَالزَّرَّادُ خَيْرٌ مِنَ الْقَوَّاسِ والسياف وغيرهما. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 11]
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قِيلَ إِنَّ (أن) هاهنا لِلتَّفْسِيرِ فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ، بِمَعْنَى أَيِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وهو تفسير أَلَنَّا وَتَحْقِيقُهُ لِأَنْ يَعْمَلَ، يَعْنِي أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ لِيَعْمَلَ سَابِغَاتٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَلْهَمْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَأَلْهَمْنَاهُ عَمَلَ سَابِغَاتٍ وَهِيَ الدُّرُوعُ الْوَاسِعَةُ ذَكَرَ الصِّفَةَ وَيُعْلَمُ مِنْهَا الْمَوْصُوفُ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ لَا تُغَلِّظِ الْمَسَامِيرَ فَيَتَّسِعَ الثُّقْبُ وَلَا تُوَسِّعِ الثُّقْبَ فَتُقَلْقَلَ الْمَسَامِيرُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ السَّرْدُ هُوَ عَمَلُ الزَّرَدِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيِ الزَّرَدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ أَمْرَ إِيجَابٍ إِنَّمَا هُوَ اكْتِسَابٌ وَالْكَسْبُ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَاقِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي لِلْعِبَادَةِ فَقَدِّرْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلَ وَلَا تَشْغَلْ جَمِيعَ أَوْقَاتِكَ بِالْكَسْبِ بَلْ حَصِّلْ بِهِ الْقُوتَ فَحَسْبُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلا للعمل
__________
(1) في الأصل: للنقور بالقاف المثناة والصواب للنفور بالفاء الفوقية الموحدة، والنفور ضد الجمود.(25/196)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
الصَّالِحِ فَاعْمَلُوا ذَلِكَ وَأَكْثِرُوا مِنْهُ، وَالْكَسْبُ قَدِّرُوا فِيهِ، ثُمَّ أَكَّدَ طَلَبَ الْفِعْلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ لِمَلِكٍ شُغْلًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ بِمَرْأًى مِنَ الْمَلِكِ يُحْسِنُ الْعَمَلَ وَيُتْقِنُهُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمُنِيبَ الْوَاحِدَ ذَكَرَ مُنِيبًا آخَرَ وَهُوَ سُلَيْمَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34] . وذكر ما استفاد هو بالإنابة فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 12]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ وَجْهُ الرَّفْعِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ مُسَخَّرَةً أَوْ سُخِّرَتْ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَوَجْهُ النَّصْبِ وَلِسُلَيْمَانَ سَخَّرْنَا الرِّيحَ وَلِلرَّفْعِ وَجْهٌ آخَرُ/ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ كَمَا يُقَالُ لِزَيْدٍ الدَّارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ لَهُ كَالْمَمْلُوكِ الْمُخْتَصِّ بِهِ يَأْمُرُهَا بِمَا يُرِيدُ حَيْثُ يُرِيدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يَصِيرُ عَطْفًا لِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهُوَ لا يجوز أولا يَحْسُنُ فَكَيْفَ هَذَا فَنَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ دَاوُدَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا ذَكَرْنَا لِدَاوَدَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ، وَأَمَّا عَلَى النَّصْبِ فَعَلَى قَوْلِنَا: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَلَنَّا لِدَاوُدَ الْحَدِيدَ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُسَخَّرُ لِسُلَيْمَانَ كَانَتْ رِيحًا مَخْصُوصَةً لَا هَذِهِ الرِّيَاحُ، فَإِنَّهَا الْمَنَافِعُ عَامَّةً فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ إِلَّا عَلَى التَّوْحِيدِ فَمَا قَرَأَ أَحَدٌ الرِّيَاحَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهَا مَعَ دَاوُدَ أَنَّهَا كَانَتْ تُسَبِّحُ كَمَا يُسَبِّحُ كُلُّ شَيْءٍ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: 44] ، وَكَانَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْقَهُ تَسْبِيحَهَا فَيُسَبِّحُ، وَمِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ أَنَّهُ رَاضَ الْخَيْلَ وَهِيَ كَالرِّيحِ وَقَوْلُهُ: غُدُوُّها شَهْرٌ ثَلَاثُونَ فَرْسَخًا لِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ لِلتَّفَرُّجِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يَسِيرُ أَكْثَرَ مِنْ فَرْسَخٍ وَيَرْجِعُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ دَاوُدَ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَقَوْلُهُ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ:
وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أَنَّهُمُ اسْتَخْرَجُوا تَذْوِيبَ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ بِالنَّارِ وَاسْتِعْمَالَ الْآلَاتِ مِنْهُمَا وَالشَّيَاطِينَ أَيْ أُنَاسًا أَقْوِيَاءَ وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ حَمَلَهُ عَلَى هَذَا ضَعْفُ اعْتِقَادِهِ [وَ] عَدَمُ اعْتِمَادِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مُمْكِنٍ وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُمْكِنَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ [الْأَنْبِيَاءِ: 79] وَقَوْلُهُ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الأنبياء: 81] لَوْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وفي هذه السورة قال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] وقال في الريح هناك وهاهنا: وَلِسُلَيْمانَ تقول الْجِبَالُ لَمَّا سَبَّحَتْ شَرُفَتْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى دَاوُدَ بِلَامِ الْمِلْكِ بَلْ جَعَلَهَا مَعَهُ كَالْمُصَاحِبِ، وَالرِّيحُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ فَجَعَلَهَا كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَهَذَا حَسَنٌ وَفِيهِ أَمْرٌ آخَرُ مَعْقُولٌ يَظْهَرُ لِي وَهُوَ أَنَّ عَلَى قَوْلِنَا: أَوِّبِي مَعَهُ سِيرِي فَالْجَبَلُ فِي السَّيْرِ لَيْسَ أَصْلًا بَلْ هُوَ يَتَحَرَّكُ مَعَهُ تَبَعًا، وَالرِّيحُ لَا تَتَحَرَّكُ مَعَ سُلَيْمَانَ بَلْ تُحَرِّكُ سُلَيْمَانَ مَعَ نَفْسِهَا،(25/197)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فَلَمْ يَقُلِ الرِّيحُ مَعَ سُلَيْمَانَ، بَلْ سُلَيْمَانُ كَانَ مَعَ الرِّيحِ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أَيِ النُّحَاسِ وَمِنَ الْجِنِّ أَيْ سَخَّرَنَا لَهُ مِنَ الْجِنِّ، وَهَذَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ مَا كَانُوا تَحْتَ أَمْرِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ دَاوُدَ وَثَلَاثَةً فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْجِبَالُ الْمُسَخَّرَةُ لِدَاوُدَ مِنْ جِنْسِ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مَعَ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ إِذَا تَحَرَّكَا يَسْبِقُ الْخَفِيفُ الثَّقِيلَ وَيَبْقَى الثَّقِيلُ مَكَانَهُ، لَكِنَّ الْجِبَالَ كَانَتْ أَثْقَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالْآدَمِيُّ أَثْقَلُ مِنَ الرِّيحِ فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ سَارَ الثَّقِيلُ مَعَ الْخَفِيفِ أَيِ الْجِبَالُ مَعَ دَاوُدَ عَلَى مَا قُلْنَا: أَوِّبِي أَيْ سِيرِي وَسُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مَعَ الرِّيحِ الثَّقِيلُ مَعَ الْخَفِيفِ أَيْضًا، وَالطَّيْرُ مِنْ جِنْسِ تَسْخِيرِ الْجِنِّ لِأَنَّهُمَا/ لَا يَجْتَمِعَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ، الطَّيْرُ لِنُفُورِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ لِنُفُورِهِ مِنَ الْجِنِّ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَّقِي مَوَاضِعَ الْجِنِّ، وَالْجِنُّ يَطْلُبُ أَبَدًا اصْطِيَادَ الْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانُ يَطْلُبُ اصْطِيَادَ الطَّيْرِ فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنْ صَارَ الطَّيْرُ لَا يَنْفِرُ مِنْ دَاوُدَ بَلْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَيَطْلُبُهُ، وَسُلَيْمَانُ لَا يَنْفِرُ مِنَ الْجِنِّ بَلْ يُسَخِّرُهُ وَيَسْتَخْدِمُهُ وَأَمَّا الْقِطْرُ وَالْحَدِيدُ فَتَجَاذُبُهُمَا غَيْرُ خفي وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْآدَمِيَّ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّقِيَ الْجِنَّ وَيَجْتَنِبَهُ وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ يُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 97، 98] فَكَيْفَ طَلَبَ سُلَيْمَانُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُضُورَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَطِيفَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى قال هاهنا: بِإِذْنِ رَبِّهِ بِلَفْظِ الرَّبِّ وَقَالَ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا وَلَمْ يَقُلْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّبَّ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنِ الرحمة، فعند ما كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حِفْظِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: رَبِّهِ وعند ما كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْذِيبِهِمْ قَالَ: عَنْ أَمْرِنا بِلَفْظِ التَّعْظِيمِ الْمُوجِبِ لِزِيَادَةِ الْخَوْفِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا مُوَكَّلِينَ بِهِمْ وَبِأَيْدِيهِمْ مَقَارِعُ مِنْ نَارٍ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ السَّعِيرَ هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَأَوْعَدَهُمْ بِمَا في الآخرة من العذاب. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 13]
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
الْمَحَارِيبُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَبْنِيَةِ الرَّفِيعَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21] وَالتَّمَاثِيلُ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ النُّقُوشِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْبِنَاءَ الَّذِي هُوَ الْمَسْكَنُ بَيَّنَ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْكَنِ مِنْ مَاعُونِ الْأَكْلِ فَقَالَ: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ جَمْعُ جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَجْبِي الْمَاءَ أَيْ يَجْمَعُهُ وَقِيلَ كَانَ يَجْتَمِعُ عَلَى جَفْنَةٍ وَاحِدَةٍ أَلْفُ نَفْسٍ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثَابِتَاتٍ لَا تُنْقَلُ لِكِبَرِهَا، وَإِنَّمَا يُغْرَفُ مِنْهَا فِي تِلْكَ الْجِفَانِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدَّمَ الْمَحَارِيبَ عَلَى التَّمَاثِيلِ لِأَنَّ النُّقُوشَ تَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ وَقَدَّمَ الْجِفَانَ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْقُدُورِ مَعَ أَنَّ الْقُدُورَ آلَةُ الطَّبْخِ وَالْجِفَانَ آلَةُ الْأَكْلِ وَالطَّبْخُ قَبْلَ الْأَكْلِ، فَنَقُولُ: لَمَّا بَيَّنَ الْأَبْنِيَةَ الْمَلَكِيَّةَ أَرَادَ بَيَانَ عَظَمَةِ السِّمَاطِ الَّذِي يُمَدُّ فِي تِلْكَ الدُّورِ، وَأَشَارَ إِلَى الْجِفَانِ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ، وَأَمَّا الْقُدُورُ فَلَا تَكُونُ فِيهِ، وَلَا تُحْضَرُ هُنَاكَ، وَلِهَذَا قَالَ: راسِياتٍ أَيْ غَيْرِ مَنْقُولَاتٍ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْجِفَانِ الْعَظِيمَةِ، كَانَ يَقَعُ فِي النَّفْسِ أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ يُطْبَخُ، فَأَشَارَ إِلَى الْقُدُورِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْجِفَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ فِي حَقِّ دَاوُدَ اشْتِغَالَهُ بِآلَةِ الْحَرْبِ، وَفِي حَقِّ سُلَيْمَانَ بِحَالَةِ السِّلْمِ وَهِيَ الْمَسَاكِنُ(25/198)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
وَالْمَآكِلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ وَلَدَ دَاوُدَ، وَدَاوُدُ قَتَلَ جَالُوتَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ، وَاسْتَوَى دَاوُدُ عَلَى الْمُلْكِ، فَكَانَ سُلَيْمَانُ كَوَلَدِ مَلِكٍ يَكُونُ أَبُوهُ قَدْ سَوَّى عَلَى ابْنِهِ الْمُلْكَ وَجَمَعَ لَهُ الْمَالَ فَهُوَ يُفَرِّقُهُ عَلَى جُنُودِهِ، وَلِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ فِي ظَنِّهِ فَتَرَكُوا الْحَرْبَ مَعَهُ وَإِنْ حَارَبَهُ أَحَدٌ كَانَ زَمَانُ الْحَرْبِ يَسِيرًا لِإِدْرَاكِهِ إِيَّاهُ بِالرِّيحِ فَكَانَ في زمان الْعَظَمَةُ بِالْإِطْعَامِ وَالْإِنْعَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا قَالَ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ اعْمَلُوا صالِحاً [سبأ: 11] ، قَالَ عَقِيبَ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَالِيَّةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مُسْتَغْرِقَةً فِيهَا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَكُونُ شُكْرًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقِلَّةِ الِاشْتِغَالِ بِهَا كما في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ: 11] أَيِ اجْعَلْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْتِصَابُ شُكْراً يحتمل أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ جِئْتُكَ طَمَعًا وَعَبَدْتُ اللَّهَ رَجَاءَ غُفْرَانِهِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ شَكَرْتُ الله وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ كَقَوْلِ القائل جلست قعودا، وكذلك لِأَنَّ الْعَمَلَ شُكْرٌ فَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ: (اشْكُرُوا) وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ كَقَوْلِكَ اضْرِبْ زَيْدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاعْمَلُوا صالِحاً [سبأ: 11] لِأَنَّ الشُّكْرَ صَالِحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ خَفَّفَ الْأَمْرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الشُّكْرَ وَاجِبٌ لَكِنَّ شُكْرَ نِعَمِهِ كَمَا يَنْبَغِي لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّ الشُّكْرَ بِالتَّوْفِيقِ وَهُوَ نِعْمَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ وَهُوَ بِتَوْفِيقٍ آخَرَ، فَدَائِمًا تَكُونُ نِعْمَةُ اللَّهِ بَعْدَ الشُّكْرِ خَالِيَةً عَنِ الشُّكْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الشُّكْرِ التَّامِّ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ، فَإِنَّ عِبَادِي قَلِيلٌ مِنْهُمُ الشَّكُورُ وَيُقَوِّي قَوْلَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ الْكُلَّ فِي قَوْلِهِ: عِبادِيَ مَعَ الْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ، وَعِبَادِي بِلَفْظِ الْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي حَقِّ النَّاجِينَ، كقوله تعالى: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 53] وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْإِسْرَاءِ: 65] فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ شُكْرُ اللَّهِ بتمامه لا يمكن وقوله: قَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي عِبَادِهِ مَنْ هُوَ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِهِ، نَقُولُ الشُّكْرُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ هُوَ الْوَاقِعُ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا الشُّكْرُ الَّذِي يُنَاسِبُ نِعَمَ اللَّهِ فَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، أَوْ نَقُولُ الشَّاكِرُ التَّامُّ لَيْسَ إِلَّا مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدِي مَا أَتَيْتَ بِهِ مِنَ الشُّكْرِ الْقَلِيلِ قَبِلْتُهُ مِنْكَ وَكَتَبْتُ لَكَ أَنَّكَ شَاكِرٌ لِأَنْعُمِي بِأَسْرِهَا، وَهَذَا الْقَبُولُ نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
لَمَّا بَيَّنَ عَظَمَةَ سُلَيْمَانَ وَتَسْخِيرَ الرِّيحِ وَالرُّوحِ لَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِ الْمَوْتَ، تَنْبِيهًا لِلْخَلْقِ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْ نَجَا مِنْهُ أَحَدٌ لَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوْلَى بِالنَّجَاةِ مِنْهُ، وَفِيهِ مسائل:(25/199)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقِفُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ لَيْلَةً كَامِلَةً وَيَوْمًا «1» تَامًّا وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عَصًا يَتَّكِئُ عَلَيْهَا وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ثُمَّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَانَ وَاقِفًا عَلَى عَادَتِهِ فِي عِبَادَتِهِ إِذْ تُوُفِّيَ، فَظَنَّ جُنُودُهُ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَةِ وَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا وَتَمَادَى شُهُورًا، ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ الْأَمْرِ لَهُمْ، فَقَدَّرَ أَنْ أَكَلَتْ دَابَّةُ الْأَرْضِ عَصَاهُ فَوَقَعَ وَعُلِمَ حَالُهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ كَانَتِ الْجِنُّ تَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ عِلْمُ الْغَيْبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِنْسَانُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ الْحَاضِرَةِ لَا يَعْلَمُهُ، وَالْجِنُّ لَمْ تَعْلَمْ إِلَّا الْأَشْيَاءَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ لَمَا بَقُوا فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ ظَانِّينَ أَنَّ سُلَيْمَانَ حَيٌّ.
وَقَوْلُهُ: مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجِنِّ لَمْ يَكُونُوا فِي التَّسْخِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ حَالَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِأَنْعُمِهِ، بِحِكَايَةِ أَهْلِ سَبَأٍ، وَفِي سَبَأٍ قِرَاءَتَانِ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ بُقْعَةٍ وَبِالْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْآيَةَ لِسَبَأٍ وَالْفَاهِمُ هُوَ الْعَاقِلُ لَا الْمَكَانُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْأَهْلِ وَقَوْلُهُ: آيَةٌ أَيْ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِذِكْرِ بَدَلِهِ بِقَوْلِهِ: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيَّةُ آيَةٍ فِي جَنَّتَيْنِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ بِلَادِ الْعِرَاقِ فِيهَا آلَافٌ مِنَ الْجِنَانِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَنَّتَانِ أَوْ عَنْ يَمِينِ بَلَدِهِمْ وَشِمَالِهَا جَمَاعَتَانِ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَلِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَعَلَهَا جَنَّةً وَاحِدَةً، قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ/ حَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ أَكْلِ ثِمَارِهَا خَوْفٌ وَلَا مَرَضٌ، وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لَهُ بَيَانٌ أَيْضًا لِكَمَالِ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ الشُّكْرَ لَا يُطْلَبُ إِلَّا عَلَى النِّعْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ وَأَكْلِهِمْ أَتَمَّ بَيَانَ النِّعْمَةِ بِأَنْ بَيَّنَ أَنْ لَا غَائِلَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَبِعَةَ فِي الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ طَاهِرَةٌ عَنِ الْمُؤْذِيَاتِ لَا حَيَّةَ فِيهَا وَلَا عَقْرَبَ وَلَا وَبَاءَ وَلَا وَخَمَ، وَقَالَ: وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَعِنْدَ هَذَا بَانَ كَمَالُ النِّعْمَةِ حَيْثُ كَانَتْ لَذَّةً حالية خالية عن المفاسد المالية. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِمْ فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 16 الى 17]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
__________
(1) قوله: «ويوما» الواو فيه بمعنى أو، وبذلك تتصور الزيادة على اليوم أو الليلة إذ ليس للإنسان بعد اليوم التام والليلة الكاملة وقت آخر ويزيده.(25/200)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
فَبَيَّنَ كَمَالَ ظُلْمِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ بَعْدَ إِبَانَةِ الْآيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الكهف: 57] ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السَّجْدَةِ: 22] وَكَيْفِيَّتُهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ سَيْلًا غَرَّقَ أَمْوَالَهُمْ وَخَرَّبَ دُورَهُمْ، وَفِي الْعَرِمِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْجُرَذُ الَّذِي سَبَّبَ خَرَابَ السِّكْرِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بِلْقِيسَ كَانَتْ قَدْ عَمَدَتْ إِلَى جِبَالٍ بَيْنَهَا شُعَبٌ فَسَدَّتِ الشُّعَبَ حَتَّى كَانَتْ مِيَاهُ الْأَمْطَارِ وَالْعُيُونِ تَجْتَمِعُ فِيهَا وَتَصِيرُ كَالْبَحْرِ وَجَعَلَتْ لَهَا أَبْوَابًا ثَلَاثَةً مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ يُفْتَحُ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ، فَنَقَبَ الْجُرَذُ السِّكْرَ، وَخَرِبَ السِّكْرُ بِسَبَبِهِ وَانْقَلَبَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَرِمَ اسْمُ السِّكْرِ وَهُوَ جَمْعُ الْعَرِمَةِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ ثَالِثُهَا: اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ الْمَاءُ وَقَوْلُهُ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ بَيَّنَ بِهِ دَوَامَ الْخَرَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَسَاتِينَ الَّتِي فِيهَا النَّاسُ يَكُونُ فِيهَا الْفَوَاكِهُ الطَّيِّبَةُ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ فَإِذَا تُرِكَتْ سِنِينَ تَصِيرُ كَالْغَيْضَةِ وَالْأَجَمَةِ تَلْتَفُّ الْأَشْجَارُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَنْبُتُ الْمُفْسِدَاتُ فِيهَا فَتَقِلُّ الثِّمَارُ وَتَكْثُرُ الْأَشْجَارُ، وَالْخَمْطُ كُلُّ شَجَرَةٍ لَهَا شَوْكٌ أَوْ كُلُّ شَجَرَةٍ ثَمَرَتُهَا مُرَّةٌ، أَوْ كُلُّ شَجَرَةٍ ثَمَرَتُهَا لَا تُؤْكَلُ، وَالْأَثْلُ نَوْعٌ مِنَ الطَّرْفَاءِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ ثَمَرَةٌ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَالْعَفْصِ أَوْ أَصْغَرُ مِنْهُ فِي طَعْمِهِ وَطَبْعِهِ، وَالسِّدْرُ مَعْرُوفٌ وَقَالَ فِيهِ قَلِيلٌ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ أَشْجَارِهِمْ فَقَلَّلَهُ اللَّهُ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى كُفْرَانِهِمْ فَقَالَ: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي أَيْ لَا نُجَازِي بِذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَّا الْكَفُورَ قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُجَازَاةُ تُقَالُ فِي النِّقْمَةِ وَالْجَزَاءُ/ فِي النِّعْمَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي النِّقْمَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ مُفَاعَلَةٌ وَهِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَكُونُ بين اثنين، يؤخذ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءً فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَفِي النِّعْمَةِ لَا تَكُونُ مُجَازَاةً لِأَنَّ اللَّهَ تعالى مبتدئ بالنعم. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
أَيْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ فَإِنَّهَا هِيَ البقعة المباركة. وقرى (ظَاهِرَةً) أَيْ يَظْهَرُ بَعْضُهَا لِبَعْضِهَا يُرَى سَوَادُ الْقَرْيَةِ مِنَ الْقَرْيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا مِنَ النِّعَمِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ نِعَمِهِمْ قَوْلُهُ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ فَكَيْفَ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَيَانِ النِّعْمَةِ بَعْدَ النِّقْمَةِ؟ فَنَقُولُ ذَكَرَ حَالَ نَفْسِ بَلَدِهِمْ وَبَيَّنَ تَبْدِيلَ ذَلِكَ بِالْخَمْطِ وَالْأَثْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ خَارِجِ بَلَدِهِمْ وَذَكَرَ عِمَارَتَهَا بِكَثْرَةِ الْقُرَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَبْدِيلَهُ ذَلِكَ بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَيَادِي وَالْبَرَارِي بِقَوْلِهِ: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (رَبُّنَا بَعَّدَ) عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ الْأَمَاكِنُ الْمَعْمُورَةُ تَكُونُ مَنَازِلُهَا مَعْلُومَةً مُقَدَّرَةً لَا تَتَجَاوَزُ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ كُلِّ قَرْيَةٍ مَسِيرَةُ نِصْفِ نَهَارٍ، وَكَانُوا يَغْدُونَ إِلَى قَرْيَةٍ وَيَرُوحُونَ إِلَى أُخْرَى مَا أَمْكَنَ فِي الْعُرْفِ تَجَاوُزُهَا، فَهُوَ الْمُرَادُ(25/201)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
بِالتَّقْدِيرِ وَالْمَفَاوِزُ لَا يَتَقَدَّرُ السَّيْرُ فِيهَا بَلْ يَسِيرُ السَّائِرُ فِيهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ جَادًّا حَتَّى يَقْطَعَهَا، وَقَوْلُهُ: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً أَيْ كَانَ بَيْنَهُمْ لَيَالٍ وَأَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَوْلُهُ: آمِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْعِمَارَةِ، فَإِنَّ خَوْفَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ الرَّقِيقِ لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ، وَقِيلَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَيالِيَ وَأَيَّاماً تَسِيرُونَ فِيهِ إِنْ شِئْتُمْ لَيَالِيَ وَإِنْ شِئْتُمْ أَيَّامًا لِعَدَمِ الْخَوْفِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْمَخُوفَةِ فَإِنَّ بَعْضَهَا يُسْلَكُ لَيْلًا، لِئَلَّا يَعْلَمَ الْعَدُوُّ بِسَيْرِهِمْ، وَبَعْضُهَا يُسْلَكُ نَهَارًا لِئَلَّا يَقْصِدَهُمُ الْعَدُوُّ، إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَيْرَ مُجَاهِرٍ بِالْقَصْدِ وَالْعَدَاوَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قِيلَ بِأَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلُوا بَطَرًا كَمَا طَلَبَتِ الْيَهُودُ الثُّومَ وَالْبَصَلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَشِدَّةِ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْدَرُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ اضْرِبْنِي إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بِلِسَانِ الْحَالِ، أَيْ لَمَّا كَفَرُوا فَقَدْ طَلَبُوا أَنْ يُبَعِّدَ/ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَيُخَرِّبَ الْمَعْمُورَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يَكُونُ بَيَانًا لِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أَيْ فَعَلْنَا بِهِمْ مَا جَعَلْنَاهُمْ بِهِ مَثَلًا، يُقَالُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِيَ سَبَأٍ، وَقَوْلُهُ:
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ بَيَانٌ لِجَعْلِهِمْ أَحَادِيثَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ الشَّاكِرِينَ وَوَبَالِ الكافرين. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 20]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
أَيْ ظَنُّهُ أَنَّهُ يُغْوِيهِمْ كَمَا قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] وَقَوْلُهُ: فَاتَّبَعُوهُ بَيَانٌ لِذَلِكَ أَيْ أَغْوَاهُمْ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ فِي أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ خَيْرٌ مِنَ التَّابِعِ وَإِلَّا لَا يَتْبَعُهُ الْعَاقِلُ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ خَيْرٌ مِنَ الْكَافِرِ، هُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي امْتِنَاعِهِ ترك عبادة الله عنادا كفر، والمشكر يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ كَفَرَ بِأَمْرٍ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهُمْ كَفَرُوا بِأَمْرٍ هُوَ الْإِشْرَاكُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُغْوِي الْكُلَّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْهُ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 76] فَمَا ظَنَّ أَنَّهُ يُغْوِي الْمُؤْمِنِينَ فَمَا ظَنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ اعْتَقَدَ الْخَيْرِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِدَلِيلِ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الْأَعْرَافِ: 12] وَقَدْ كَذَبَ فِي ظَنِّهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ إِغْوَاءَ الْكُلِّ وَعَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ نَاجٍ، لَكِنْ ظَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّاجِيَ، إِلَى أَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يُغْوِيهِ فَكَذَبَ فِي ظَنِّهِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَصَدَقَ في البعض. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 21]
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: 3] أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ وَعِلْمُهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَهُوَ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَلَكِنْ يَتَغَيَّرُ تَعَلُّقُ علمه،(25/202)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
فَإِنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ يَظْهَرُ بِهَا كُلُّ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَعَلِمَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ أَنَّ الْعَالَمَ سَيُوجَدُ، فَإِذَا وُجِدَ عَلِمَهُ مَوْجُودًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِذَا عُدِمَ يَعْلَمُهُ مَعْدُومًا بِذَلِكَ، مِثَالُهُ: أَنَّ الْمِرْآةَ الْمَصْقُولَةَ فِيهَا الصَّفَاءُ/ فَيَظْهَرُ فِيهَا صُورَةُ زَيْدٍ إِنْ قَابَلَهَا، ثُمَّ إِذَا قَابَلَهَا عَمْرٌو يَظْهَرُ فِيهَا صُورَتُهُ، وَالْمِرْآةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ فِي ذَاتِهَا وَلَا تَبَدَّلَتْ فِي صفاتها، إنما التغير في الخارجات فكذلك هاهنا قَوْلُهُ: إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ لِيَقَعَ فِي الْعِلْمِ صُدُورُ الْكُفْرِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَكَانَ قَبْلَهُ فِيهِ أَنَّهُ سَيَكْفُرُ زَيْدٌ وَيُؤْمِنُ عَمْرٌو.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْجِئٍ وَإِنَّمَا هُوَ آيَةٌ، وَعَلَامَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَبْيِينِ مَا هُوَ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَيِ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى مَنْعِ إِبْلِيسَ عَنْهُمْ عَالِمٌ بِمَا سَيَقَعُ، فَالْحِفْظُ يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، إِذِ الْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ ولا العاجز. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ الشَّاكِرِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ وَذَكَّرَهُمْ بِمَنْ مَضَى عَادَ إِلَى خِطَابِهِمْ وَقَالَ لرسوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمُ الضُّرَّ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الشِّرْكِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ وَالسَّمَاوِيَّاتِ وَجَعَلَ الْأَرْضَ وَالْأَرْضِيَّاتِ فِي حُكْمِهِمْ، وَنَحْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِيَّاتِ فَنَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ فَهُمْ آلِهَتُنَا وَاللَّهُ إِلَهُهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إبطال قولهم: إنهم لا يملكون في السموات شَيْئًا كَمَا اعْتَرَفْتُمْ، قَالَ وَلَا فِي الْأَرْضِ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمْتُمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُ مَنْ يقول السموات مِنَ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْدَادِ وَالْأَرْضِيَّاتُ مِنْهُ وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَنَاصِرَ وَالتَّرْكِيبَاتِ الَّتِي فِيهَا بِالِاتِّصَالَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالطَّوَالِعِ فَجَعَلُوا لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي الْأَرْضِ وَالْأَوَّلُونَ جَعَلُوا الْأَرْضَ لِغَيْرِهِ وَالسَّمَاءَ لَهُ، فَقَالَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أَيِ الْأَرْضُ كَالسَّمَاءِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهَا نَصِيبٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّرْكِيبَاتُ وَالْحَوَادِثُ كُلُّهَا مِنَ/ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى الْكَوَاكِبِ، وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ يُنْسَبُ إِلَى الْآذِنِ وَيُسْلَبُ عَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، مِثَالُهُ إِذَا قَالَ مَلِكٌ لِمَمْلُوكِهِ اضْرِبْ فُلَانًا فَضَرَبَهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ الْمَلِكُ ضَرَبَهُ وَيَصِحُّ عُرْفًا قَوْلُ الْقَائِلِ مَا ضَرَبَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَإِنَّمَا الْمَلِكُ أَمَرَ بِضَرْبِهِ فَضُرِبَ، فَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا السَّمَاوِيَّاتِ مُعَيَّنَاتٍ لِلَّهِ فَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ مَا فَوَّضَ إِلَى شَيْءٍ شَيْئًا، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَرَقِيبٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ لِيَشْفَعُوا لَنَا فَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فَلَا فَائِدَةَ لِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَبِطَلَبِكُمُ الشَّفَاعَةَ تُفَوِّتُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الشَّفَاعَةَ وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَيْ أُزِيلَ الْفَزَعُ عَنْهُمْ، يُقَالُ قُرِّدَ الْبَعِيرُ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ الْقُرَادُ(25/203)
وَيُقَالُ لِهَذَا تَشْدِيدُ السَّلْبِ، وَفِي قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْفَزَعُ الذي عند الوحي فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات، ثُمَّ يُزِيلُ اللَّهُ عَنْهُمُ الْفَزَعَ فَيَقُولُونَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاذَا قَالَ اللَّهُ؟ فَيَقُولُ قَالَ الْحَقَّ أَيِ الْوَحْيَ وَثَانِيهَا: الْفَزَعُ الَّذِي مِنَ السَّاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْحَى إلى محمد عليه السلام فزع من في السموات مِنَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ إِرْسَالَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَلَمَّا زَالَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْفَزَعُ قَالُوا مَاذَا قَالَ اللَّهُ قَالَ جِبْرِيلُ الْحَقَّ أَيِ الْوَحْيَ وَثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزِيلُ الْفَزَعَ وَقْتَ الْمَوْتِ عَنِ الْقُلُوبِ فَيَعْتَرِفُ كُلُّ أَحَدٍ بِأَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ فَيَنْفَعُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَنْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ يَقْبِضُ رُوحَهُ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَضُرُّ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَنْ سَبَقَ مِنْهُ خِلَافُهُ فَيَقْبِضُ رُوحَهُ عَلَى الْكُفْرِ الْمُتَّفَقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى: إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى غَايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِأَنَّهُ بَيَّنَهُ بِالْوَحْيِ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ قُلْ لِفُلَانٍ لِلْإِنْذَارِ حَتَّى يَسْمَعَ الْمُخَاطَبُ مَا يَقُولُهُ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ مَا يَجِبُ قَوْلُهُ فَلَمَّا قَالَ: قُلْ فزع من في السموات، ثُمَّ أُزِيلُ عَنْهُ الْفَزَعُ، وَعَلَى الثَّالِثِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: زَعَمْتُمْ أَيْ زَعَمْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى غَايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ مَا زَعَمْتُمْ وَقُلْتُمْ قَالَ الْحَقَّ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَاعِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا مَاذَا هُوَ الْمَلَائِكَةُ السَّائِلُونَ مِنْ جِبْرِيلَ، وَعَلَى الثَّالِثِ الْكُفَّارُ السَّائِلُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ: الْحَقَّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى الثَّالِثِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وُجُودُهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ عَدَمٌ كَانَ حَقًّا مُطْلَقًا لَا يَرْتَفِعُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ وَالْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ صِدْقًا يُسَمَّى حَقًّا، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الْخَارِجِ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي الذِّهْنِ، وَالَّذِي فِي الذِّهْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا فِي الْخَارِجِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ جَاءَ زَيْدٌ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ تَعَلُّقُهُ بِمَا فِي ذِهْنِ الْقَائِلِ وَذِهْنُ الْقَائِلِ تَعَلُّقُهُ بِمَا فِي الْخَارِجِ لَكِنْ لِلصِّدْقِ مُتَعَلِّقٌ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ فَيَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ مُسْتَمِرٌّ وَلِلْكَذِبِ مُتَعَلِّقٌ لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ كَالْمَعْدُومِ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً/ عَنْ مُعَانِدٍ كَاذِبٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّهْنِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ اعْتِقَادًا بَاطِلًا جَهْلًا أَوْ ظَنًّا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِمُتَعَلِّقِهِ مُتَعَلِّقٌ يَزُولُ ذَلِكَ الْكَلَامُ وَيَبْطُلُ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَا بُطْلَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ الأمر كما يكون كلام الكاذب المعاند ولا يأتيه الباطل كَمَا يَكُونُ كَلَامُ الظَّانِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان: 30] أَنَّ الْحَقَّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَامِلٌ لَا نَقْصَ فِيهِ فَيَقْبَلُ نِسْبَةَ الْعَدَمِ، وَفَوْقَ الْكَامِلِينَ لِأَنَّ كُلَّ كَامِلٍ فَوْقَهُ كَامِلٌ فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْكَامِلِينَ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ جِسْمًا وَفِي حَيِّزٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي حَيِّزٍ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مُشَارٌ إِلَيْهِ وَهُوَ مَقْطَعُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَوْ لَمْ تَقَعْ إِلَيْهِ لَمَا كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هو، وإذا وقعت الإشارة إليه فقد تناهب الْإِشَارَةُ عِنْدَهُ، وَفِي كُلِّ مَوْقِعٍ تَقِفُ الْإِشَارَةُ بِقَدْرِ الْعَقْلِ عَلَى أَنْ يَفْرِضَ الْبُعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ لَوْ كَانَ بَيْنَ مَأْخَذِ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ لَكَانَ هَذَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَعْلَى فَيَصِيرُ عَلِيًّا بِالْإِضَافَةِ لَا مُطْلَقًا وَهُوَ عَلِيٌّ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ لَهُ مِقْدَارٌ، وَكُلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ أَنْ يُفْرَضَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَيَكُونَ كَبِيرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ لَا مُطْلَقًا وَهُوَ كَبِيرٌ مطلقا.(25/204)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
[سورة سبإ (34) : آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعَامَّةَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ لَا لِكَوْنِهِ إِلَهًا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ بِهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ إِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ أَوْ جَرُّ نَفْعٍ فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَامَّةَ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ: 22] عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الضُّرَّ أَحَدٌ إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَقَالَ بَعْدَ إِتْمَامِ بَيَانِ ذَلِكَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ جَرَّ النَّفْعِ لَيْسَ إِلَّا بِهِ وَمِنْهُ، فَإِذًا إِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ فَاعْبُدُوهُ لِعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ سَوَاءٌ دَفَعَ عَنْكُمْ ضُرًّا أَوْ لَمْ يَدْفَعْ وَسَوَاءٌ نَفَعَكُمْ بِخَيْرٍ أَوْ لَمْ يَنْفَعْ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَرِّ النَّفْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُ يَعْنِي إِنْ لَمْ يَقُولُوا هُمْ فَقُلْ أَنْتَ اللَّهُ يرزق وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الضُّرِّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ وَيَعْتَرِفُونَ بِالْحَقِّ حَيْثُ قَالَ: قالُوا الْحَقَّ وَعِنْدَ النَّفْعِ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُمْ حَالَةً يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ كَاشِفَ الضُّرِّ هُوَ اللَّهُ حَيْثُ يَقَعُونَ فِي الضُّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الرُّومِ: 33] وَأَمَّا عِنْدَ الرَّاحَةِ فَلَا تَنَبُّهَ لَهُمْ لِذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَالَ: قُلِ اللَّهُ أَيْ هُمْ فِي حَالَةِ الرَّاحَةِ غَافِلُونَ عَنِ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ إِلَى الْمُنَاظَرَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْعُلُومِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا قَالَ لِلْآخَرِ هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ خَطَأٌ وَأَنْتَ فِيهِ مُخْطِئٌ يُغْضِبُهُ وَعِنْدَ الْغَضَبِ لَا يَبْقَى سَدَادُ الْفِكْرِ وَعِنْدَ اخْتِلَالِهِ لَا مَطْمَعَ فِي الْفَهْمِ فَيَفُوتُ الْغَرَضُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ بِأَنَّ أَحَدَنَا لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَالتَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ قَبِيحٌ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ فَنَجْتَهِدُ وَنُبْصِرُ أَيُّنَا عَلَى الْخَطَأِ لِيَحْتَرِزَ فَإِنَّهُ يَجْتَهِدُ ذَلِكَ الْخَصْمُ فِي النَّظَرِ وَيَتْرُكُ التَّعَصُّبَ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْمَنْزِلَةِ لِأَنَّهُ أَوْهَمَ بِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ شَاكٌّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ هُوَ الْهَادِي وَهُوَ الْمُهْتَدِي وَهُمُ الضَّالُّونَ وَالْمُضِلُّونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ذَكَرَ فِي الْهُدَى كَلِمَةَ عَلَى وَفِي الضَّلَالِ كَلِمَةَ فِي لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ كَأَنَّهُ مُرْتَفِعٌ مُتَطَلِّعٌ فَذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ التَّعَلِّي، وَالضَّالُّ مُنْغَمِسٌ فِي الظُّلْمَةِ غَرِيقٌ فِيهَا فَذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ فِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَصَفَ الضَّلَالَ بِالْمُبِينِ وَلَمْ يَصِفِ الْهُدَى لِأَنَّ الْهُدَى هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَى الْحَقِّ وَالضَّلَالُ خِلَافُهُ لَكِنَّ الْمُسْتَقِيمَ وَاحِدٌ وَمَا هُوَ غَيْرُهُ كُلُّهُ ضَلَالٌ وَبَعْضُهُ بَيِّنٌ مِنْ بَعْضٍ، فَمَيَّزَ الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ بِالْوَصْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدَّمَ الْهُدَى عَلَى الضَّلَالِ لِأَنَّهُ كَانَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا وَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الذكر. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 25]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)(25/205)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
أَضَافَ الْإِجْرَامَ إِلَى النَّفْسِ وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ: وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ذَكَرَ بِلَفْظِ الْعَمَلِ لِئَلَّا يَحْصُلَ الإغضاب المانع من الفهم وقوله: لا تُسْئَلُونَ ولا نُسْئَلُ زِيَادَةُ حَثٍّ عَلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِجُرْمِهِ فَإِذَا احْتَرَزَ نَجَا، وَلَوْ كَانَ الْبَرِيءُ يُؤَاخَذُ بِالْجُرْمِ لَمَا كفى النظر.
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 26]
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
أَكَّدَ مَا يُوجِبُ النَّظَرَ وَالتَّفَكُّرَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَوْمَ عَرْضٍ وَحِسَابٍ وَثَوَابٍ وَعَذَابٍ وَقَوْلُهُ: يَفْتَحُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَحْكُمُ، ويمكن أن يقال بأن الفتح هاهنا مَجَازٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَابَ الْمُغْلَقَ وَالْمَنْفَذَ الْمَسْدُودَ يُقَالُ فِيهِ فَتَحَهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ فِيهِ انْغِلَاقٌ وَعَدَمُ وُصُولٍ إِلَيْهِ فَإِذَا بَيَّنَهُ أَحَدٌ يَكُونُ قَدْ فَتَحَهُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ لَا مِثْلَ حُكْمِ مَنْ يَحْكُمُ بِمَا يَتَّفِقُ لَهُ بِمُجَرَّدِ هواه.
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 27]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْبُودَ قَدْ يَعْبُدُهُ قَوْمٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَجَمْعٌ لِتَوَقُّعِ الْمَنْفَعَةِ وَقَلِيلٌ مِنَ الْأَشْرَافِ الْأَعِزَّةِ يَعْبُدُونَهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ إِذْ لَا دَافِعَ لِلضَّرَرِ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ غَيْرُ اللَّهِ لِتَوَقُّعِ الْمَنْفَعَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بين هاهنا أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ أَحَدٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ غَيْرَ اللَّهِ فَقَالَ: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيْ هُوَ الْمَعْبُودُ لِذَاتِهِ وَاتِّصَافُهُ بِالْعِزَّةِ وَهِيَ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ الْعِلْمُ التَّامُّ الَّذِي عمله موافق له. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 28]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
لَمَّا بَيَّنَ مَسْأَلَةَ التَّوْحِيدِ شَرَعَ فِي الرِّسَالَةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهَا: كَافَّةً أَيْ إِرْسَالُهُ كَافَّةً أَيْ عَامَّةً لِجَمِيعِ النَّاسِ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الِانْقِيَادِ لَهَا وَالثَّانِي: كَافَّةً أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَافَّةً تَكُفُّ النَّاسَ أَنْتَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَشِيراً أَيْ تَحُثُّهُمْ بِالْوَعْدِ وَنَذِيراً تَزْجُرُهُمْ بِالْوَعِيدِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لا لخفائه ولكن لغفلتهم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمَّا ذَكَرَ الرِّسَالَةَ بَيَّنَ الْحَشْرَ.
وَقَالَ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ قَوْلَهُ:
لَا تَسْتَأْخِرُونَ يُوجِبُ الْإِنْذَارَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَدَمُ الْمُهْلَةِ عَنِ الْأَجَلِ وَلَكِنَّ الِاسْتِقْدَامَ مَا وَجْهُهُ؟ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ(25/206)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
وجهه ونذكر هاهنا أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا الِاسْتِعْجَالَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا اسْتِعْجَالَ فِيهِ كَمَا لَا إِمْهَالَ، وَهَذَا يُفِيدُ عِظَمَ الْأَمْرِ وَخَطَرَ الْخَطْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْحَقِيرَ إِذَا طَالَبَهُ طَالِبٌ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُؤَخِّرُهُ وَلَا يُوقِفُهُ عَلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْخَطِيرِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ قِرَاءَاتٌ أَحَدُهَا: رَفْعُهُمَا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَلَى هَذَا يَوْمٌ بَدَلٌ وَثَانِيهَا:
نَصْبُ يَوْمٍ مَعَ رَفْعِ مِيعَادٍ وَالتَّنْوِينُ فِيهِمَا مِيعَادٌ يَوْمًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ مِيعَادٌ أَعْنِي يَوْمًا وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ وَالتَّهْوِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ مِيعَادٌ يَوْمًا/ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنَا جَائِيكَ يَوْمًا وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ الْعِلْمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَكُمْ مِيعَادٌ تَعْلَمُونَهُ يَوْمًا وَقَوْلُهُ مَعْلُومٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّهُ مَقْتُولٌ يَوْمًا الثَّالِثَةُ: الْإِضَافَةُ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ سَحْقُ ثَوْبٍ لِلتَّبْيِينِ وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤَخَّرُ عَنْكُمْ زِيَادَةُ تأكيد لوقوع اليوم.
[سورة سبإ (34) : آية 31]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لَمَّا بَيَّنَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَكَانُوا بِالْكُلِّ كَافِرِينَ بَيَّنَ كُفْرَهُمُ الْعَامَّ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُلِّ وَقَوْلُهُ: وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّاتِ وَالْحَشْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّا لَا نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ وَلَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ وَالْمَسَائِلِ وَالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ، وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُرَادُ مِنْهُمُ الْعُمُومُ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا بِالَّذِي فِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وتفاصيل الحشر، فإن قيل: أليس هم مؤمنون بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْحَشْرِ، فَنَقُولُ إِذَا لَمْ يُصَدِّقْ وَاحِدٌ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ لِكَوْنِهِ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ إِيمَانُهُ لَا بِمَا فِيهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّ مَنْ يُكَذِّبُ رَجُلًا فِيمَا يَقُولُهُ فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ لَا يُكَذِّبُهُ فِيهِ وَلَكِنْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَدَّقَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَيِ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَارِدٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ.
لَمَّا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِقَوْلِهِمْ لَنْ نُؤْمِنَ فَإِنَّهُ لِتَأْيِيدِ النَّفْيِ وَعَدَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ يَرَاهُمْ عَلَى أَذَلِّ حَالٍ مَوْقُوفِينَ لِلسُّؤَالِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ جَمَاعَةٍ أَخْطَئُوا فِي أَمْرٍ يَقُولُ بَعْضُهُمْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِكَ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ لَرَأَيْتَ عَجَبًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَتْبَاعِ لِأَنَّ الْمُضِلَّ أَوْلَى بِالتَّوْبِيخِ فَقَالَ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ/ كُفْرَهُمْ كَانَ لِمَانِعٍ لَا لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا(25/207)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
مَا جَاءَنَا رَسُولٌ، وَلَا أَنْ يَقُولُوا قَصَّرَ الرَّسُولُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَوْ أَهْمَلَ شَيْئًا لَمَا كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا.
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 32]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
رَدًّا لِمَا قَالُوا إِنَّ كُفْرَنَا كَانَ لِمَانِعٍ أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ يَعْنِي الْمَانِعُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْمُقْتَضِي حَتَّى يَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ الْهُدَى، وَالَّذِي صَدَرَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُكُمْ بِالْمَانِعِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ إِجْرَامًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَعْذُورَ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا إِلَّا لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي أَوْ لِقِيَامِ المانع ولم يوجد شيء منهما.
[سورة سبإ (34) : آية 33]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً.
لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَكْبِرُونَ أَنَّا مَا صَدَدْنَاكُمْ وَمَا صَدَرَ مِنَّا مَا يَصْلُحُ مَانِعًا وَصَارِفًا اعْتَرَفَ الْمُسْتَضْعَفُونَ بِهِ وَقَالُوا:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مَنَعَنَا ثُمَّ قَالُوا لَهُمْ إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالصَّارِفِ الْقَطْعِيِّ وَالْمَانِعِ الْقَوِيِّ وَلَكِنِ انْضَمَّ أَمْرُكُمْ إِيَّانَا بِالْكُفْرِ إِلَى طُولِ الْأَمَدِ وَالِامْتِدَادِ فِي الْمَدَدِ فَكَفَرْنَا فَكَانَ قَوْلُكُمْ جُزْءَ السَّبَبِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَلْ مَكْرُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ أَيْ نُنْكِرَهُ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ مَعَ أَنَّهُ فِي الصُّورَةِ مُثْبِتٌ لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرٌ لِوُجُودِ اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يُسَاوِيهِ الْمَخْلُوقُ الْمَنْحُوتُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَقَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُتَأَخِّرَتَيْنِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ وَالتَّرَاجُعَ فِي الْقَوْلِ لَمْ يَقَعْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاجِبَ الْوُقُوعِ يُوجَدُ كَأَنَّهُ وَقَعَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ.
مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِذَا جَاءَهُمُ الْعَذَابُ الشَّاغِلُ يُسِرُّونَ ذَلِكَ التَّرَاجُعَ الدَّالَّ عَلَى النَّدَامَةِ، وَقِيلَ مَعْنَى الْإِسْرَارِ الْإِظْهَارُ أَيْ أَظْهَرُوا النَّدَامَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا تَرَاجَعُوا فِي الْقَوْلِ رَجَعُوا إِلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السَّجْدَةِ: 12] ثُمَّ أُجِيبُوا وَأُخْبِرُوا بِأَنْ لَا مَرَدَّ(25/208)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
لَكُمْ فَأَسَرُّوا ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِشَارَةٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْعَذَابِ وَإِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ كَافِيًا بَلْ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ قَطَعُوا بِأَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ فَتَرَكُوا النَّدَمَ وَوَقَعُوا فِيهِ فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقُّهُمْ عَدْلًا. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
تَسْلِيَةً لِقَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيَانًا لِأَنَّ إِيذَاءَ الْكُفَّارِ الْأَنْبِيَاءَ الْأَخْيَارَ لَيْسَ بِدْعًا، بَلْ ذَلِكَ عَادَةٌ جَرَتْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا نَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَيْضًا قَالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ الْمُتْرَفِينَ هُمُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ عَنِ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إِنَّهُمْ قَالُوا لِلْمُسْتَكْبِرِينَ لَوْلَا أَنْتُمْ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِمْ مُصِيبِينَ فِي ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أَيْ بِسَبَبِ لَزُومِنَا لِدِينِنَا، وَقَوْلُهُ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أَيْ فِي الْآخِرَةِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا حَالُنَا عَاجِلًا خَيْرٌ مِنْ حَالِكُمْ، وَأَمَّا آجِلًا فَلَا نُعَذَّبُ إِمَّا إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِلْعَذَابِ رَأْسًا أَوِ اعْتِقَادًا لِحُسْنِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا قِيَاسًا [عَلَى حُسْنِ حالهم في الدنيا] .
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِقَوْلِهِ:
[سورة سبإ (34) : آية 36]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
يَعْنِي أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَا تَدُلُّ سِعَتُهُ وَضِيقُهُ عَلَى حَالِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ فَكَمْ مِنْ مُوسِرٍ شَقِيٍّ وَمُعْسِرٍ تَقِيٍّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّ قِلَّةَ الرِّزْقِ وَضَنْكَ الْعَيْشِ وَكَثْرَةَ الْمَالِ وَخِصْبَ الْعَيْشِ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ غير اختصاص بالفاسق والصالح.
ثم بين فساد استدلالهم بقولهم:
[سورة سبإ (34) : آية 37]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)
يَعْنِي قَوْلَكُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا فَنَحْنُ أَحْسَنُ عِنْدَ اللَّهِ حَالًا لَيْسَ اسْتِدْلَالًا صَحِيحًا، فَإِنَّ الْمَالَ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالتَّعَزُّزِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمُفِيدُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ فَيُبْعِدُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَرِّبُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَاشْتِغَالٌ بِاللَّهِ وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ وَصَلَ وَمَنْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا حَصَلَ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أَيِ الْحَسَنَةُ فَإِنَّ الضَّعْفَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَسَنَةِ وَفِي السَّيِّئَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا الْمِثْلُ.
ثُمَّ زَادَ وَقَالَ: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ إِشَارَةً إِلَى دَوَامِ النَّعِيمِ وَتَأْبِيدِهِ، فَإِنَّ مَنْ تنقطع عنه النعمة لا يكون آمنا.(25/209)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
ثم بين حال المسيء بقوله:
[سورة سبإ (34) : آية 38]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الِانْفِطَارِ: 16] .
ثُمَّ قَالَ تعالى مرة أخرى:
[سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
إِشَارَةً إِلَى أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَا يُنَافِي نِعْمَةَ الدُّنْيَا، بَلِ الصَّالِحُونَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا النِّعَمُ مَعَ الْقَطْعِ بِحُصُولِ النَّعِيمِ لَهُمْ فِي الْعُقْبَى بِنَاءً عَلَى الْوَعْدِ، قَطْعًا لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِذَا كَانَتِ الْعَاجِلَةُ لَنَا وَالْآجِلَةُ لَهُمْ فَالنَّقْدُ أَوْلَى، فَقَالَ هَذَا النَّقْدُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِكُمْ/ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مُدْقَعُونَ، وكثير من الأتقياء ممتعون وفيه مسائل:
الْأُولَى: ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِبَيَانِ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى حُسْنِ أَحْوَالِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَمَرَّةً لِبَيَانِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ وُجُودُ التَّرَفِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرَفِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَيَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُمَلِّكُهُمْ دِيَارَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلًا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، بَلْ قَالَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَثَانِيًا قَالَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعِبَادُ الْمُضَافَةُ يُرَادُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، ثُمَّ وَعَدَ الْمُؤْمِنَ بِخِلَافِ مَا لِلْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ دَابِرُهُ مَقْطُوعٌ، وَمَالُهُ إِلَى الزَّوَالِ، وَمَآلُهُ إِلَى الْوَبَالِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَمَا يُنْفِقُهُ يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَمُخْلَفُ اللَّهِ خَيْرٌ، فَإِنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ فِي مَعْرِضِ الْبَوَارِ وَالتَّلَفِ وَهُمَا لَا يَتَطَرَّقَانِ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَفِ، ثُمَّ أكد ذلك بقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 11] وَخَيْرِيَّةُ الرَّازِقِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا:
أَنْ لَا يُؤَخِّرَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُنَكِّدَهُ بِالْحِسَابِ وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُكَدِّرَهُ بِطَلَبِ الثَّوَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ وَالثَّانِي: فَلِأَنَّهُ غَنِيٌّ وَاسِعٌ وَالثَّالِثُ: فَلِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [البقرة: 212] وَمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُرَادُ، أَيْ يَرْزُقُهُ حَلَالًا لَا يُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ وَالرَّابِعُ: فَلِأَنَّهُ عَلِيٌّ كَبِيرٌ وَالثَّوَابُ يَطْلُبُهُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَعْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْأَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ يُحَقِّقُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَلِكٌ عَلِيٌّ وَهُوَ غَنِيٌّ مَلِيٌّ، فَإِذَا قَالَ أَنْفِقْ وَعَلَيَّ بَدَلُهُ فَبِحُكْمِ الْوَعْدِ يَلْزَمُهُ، كَمَا إِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَمَنْ أَنْفَقَ فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ شَرْطُ حُصُولِ الْبَدَلِ فَيَحْصُلُ الْبَدَلُ، وَمَنْ لَمْ يُنْفِقْ فَالزَّوَالُ لَازِمٌ لِلْمَالِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَدَلِ فَيَفُوتُ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ وَهُوَ التَّلَفُ، ثُمَّ إِنَّ(25/210)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ التَّاجِرَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَالًا مِنْ أَمْوَالِهِ فِي مَعْرِضِ الْهَلَاكِ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَيَقُولُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْإِمْهَالِ «1» إِلَى الْهَلَاكِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْ حَتَّى يَهْلَكَ يُنْسَبْ إِلَى الْخَطَأِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ بِهِ كَفِيلٌ مَلِيءٌ وَلَا يَبِيعُ يُنْسَبُ إِلَى قِلَّةِ الْعَقْلِ، فَإِنْ حَصَلَ بِهِ رَهْنٌ وَكَتَبَ بِهِ وَثِيقَةً وَلَا يَبِيعُهُ يُنْسَبْ إِلَى الْجُنُونِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنَ الْجُنُونِ، فَإِنَّ أَمْوَالَنَا كُلَّهَا فِي مَعْرِضِ الزَّوَالِ الْمُحَقَّقِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ إِقْرَاضٌ، وَقَدْ حَصَلَ الضَّامِنُ الْمَلِيءُ وَهُوَ اللَّهُ الْعَلِيُّ وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ثُمَّ رَهَنَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ إِمَّا أَرْضًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ طَاحُونَةً أَوْ حَمَّامًا أَوْ مَنْفَعَةً، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَنْعَةٌ أَوْ جِهَةٌ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا مَالٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكُ اللَّهِ وَفِي يَدِ الْإِنْسَانِ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ فَكَأَنَّهُ مَرْهُونٌ بِمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ مِنْ رِزْقِهِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْوُثُوقُ التَّامُّ، وَمَعَ هَذَا لَا يُنْفِقُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ لِيَتْلَفَ لَا مَأْجُورًا وَلَا مَشْكُورًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: خَيْرُ الرَّازِقِينَ يُنْبِئُ عَنْ كَثْرَةٍ فِي الرَّازِقِينَ وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ فَنَقُولُ عَنْهُ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَهُمْ رَازِقِينَ وكذلك في قوله تعالى:
أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [الصافات: 125] وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْهَا مَا حَصَلَ لِلَّهِ وَلِلْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَمِنْهَا مَا يُقَالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلِلْعَبْدِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَمِنْهَا مَا يُقَالُ لِلَّهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُقَالُ لِلْعَبْدِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِعَدَمِ حُصُولِهِ لِلْعَبْدِ لَا حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً، مِثَالُ الْأَوَّلِ الْعِلْمُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ وَالْعَبْدُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ النَّارِ حَارَّةً، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ وَعِلْمُنَا حَادِثٌ، مِثَالُ الثَّانِي الرَّازِقُ وَالْخَالِقُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ صُورَةِ الْعَطَاءِ مِنْهُ سُمِّيَ مُعْطِيًا، كَمَا يُقَالُ لِلصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ عَلَى الْحَائِطِ فَرَسٌ وَإِنْسَانٌ، مِثَالُ الثَّالِثِ الْأَزَلِيُّ وَاللَّهُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ يُقَالُ فِي أَشْيَاءَ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً وَعَلَى اللَّهِ مَجَازًا كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَعِيَّةِ وَيَدِ الله وجنب الله.
ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَالَ قَوْمِهِ كَحَالِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، بَيَّنَ مَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ وَبِمَنْ تَقَدَّمَكَ، ثُمَّ نَقُولُ لِمَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِنَّ غَايَةَ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ مَنْزِلَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةَ أَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَكُمْ! إِهَانَةً لَهُمْ، فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ سُبْحَانَكَ نُنَزِّهُكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ مَعْبُودًا وَأَنْتَ مَعْبُودُنَا وَمَعْبُودُ كُلِّ خَلْقٍ، وَقَوْلُهُمْ: أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، بَعْضُهُمْ لَا يَسْكُنُ الْمَوَاضِعَ الْمَعْمُورَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَأَّسُ هُنَاكَ فَيَرْضَى الضِّيَاعَ وَالْبِلَادَ الصَّغِيرَةَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُرِيدُ الْبِلَادَ الصَّغِيرَةَ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِ فِيهَا بِالنَّاسِ وَقِلَّةِ وُصُولِهِ فِيهَا إِلَى الْأَكْيَاسِ، ثُمَّ إِنَّ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ خِدْمَةُ السُّلْطَانِ وَاسْتِخْدَامُ الْأَرْذَالِ الَّذِينَ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِمْ أَصْلًا يَخْتَارُ الْعَاقِلُ خِدْمَةَ السُّلْطَانِ عَلَى اسْتِخْدَامِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ به، ولو أن
__________
(1) في النسخة الأميرية إلى «الإهمال» ولكن ما كتبناه أولى وأنسب لسياق الكلام.(25/211)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
رَجُلًا سَكَنَ جَبَلًا وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الذُّبَابُ وَالدِّيدَانُ، وَهُوَ/ يَقُولُ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعِي وَأَشْيَاعِي، وَلَا أَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَخَافَةَ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ وَالتَّرَدُّدُ إِلَيْهِ يُنْسَبُ إِلَى الْجُنُونِ، فَكَذَلِكَ مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يَتْرُكَ خِدْمَةَ اللَّهِ وَعِبَادَتَهُ، وَرَضِيَ بِاسْتِتْبَاعِ الْهَمَجِ الَّذِينَ هُمْ أَضَلُّ مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَقَلُّ مِنَ الْهَوَامِّ يَكُونُ مَجْنُونًا، فَقَالُوا: أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يعني كونك ولينا بالمبعودية أَوْلَى، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَنَا بِالْعِبَادَةِ لَنَا وَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَيْ كَانُوا يَنْقَادُونَ لِأَمْرِ الْجِنِّ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَنَحْنُ كُنَّا كَالْقِبْلَةِ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الطَّاعَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ جَمِيعُهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلشَّيَاطِينِ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْ لَهُمْ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ احْتَرَزُوا عَنْ دَعْوَى الْإِحَاطَةِ بِهِمْ فَقَالُوا أَكْثَرُهُمْ لِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُمْ وَاطَّلَعُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَلَعَلَّ فِي الْوُجُودِ مَنْ لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ وَالْإِيمَانَ عَمَلٌ بَاطِنٌ فَقَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَقَالُوا: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ عِنْدَ عَمَلِ الْقَلْبِ لِئَلَّا يَكُونُوا مُدَّعِينَ اطِّلَاعَهُمْ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا اطِّلَاعَ عله إلا الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الأنفال:
43] .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ لَا ينفعهم فقال:
[سورة سبإ (34) : آية 42]
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ مَعَ مَنْ؟ نَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلَائِكَةَ لِسَبْقِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ تَنْكِيلًا لِلْكَافِرِينَ حَيْثُ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَيُصَحِّحُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مَرْيَمَ: 87] وَقَوْلُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَلِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا فَأَفْرَدَهُمْ وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ هُمُ الْكُفَّارَ لَقَالَ فَذُوقُوا.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكُفَّارُ دَاخِلِينَ فِي الْخِطَابِ حَتَّى يَصِحَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيِ الْمَلَائِكَةُ لِلْكُفَّارِ، وَالْحَاضِرُ الْوَاحِدُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي أَمْرٍ مُخَاطَبًا بِسَبَبِهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِوَاحِدٍ حَاضِرٍ لَهُ شَرِيكٌ فِي كَلَامٍ أَنْتُمْ قُلْتُمْ، عَلَى مَعْنَى أَنْتَ قُلْتَ، وَهُمْ قَالُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمُ الْجِنُّ أَيْ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أَيُّهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ، وَإِذَا لَمْ تَمْلِكُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ فَلَا تَمْلِكُوهَا لِغَيْرِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ هُمُ الْكُفَّارَ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّمَا ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي الظُّلْمِ، وَسَبَبِ نَكَالِهِمْ مِنَ الْإِثْمِ وَلَوْ قَالَ: (فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ) لَكَانَ كَافِيًا لَكِنَّهُ، لَا يَحْصُلُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مَا كَانُوا/ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعِنَادِ وَالْإِثْمِ وَالْفَسَادِ يَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: نَفْعاً مُفِيدٌ لِلْحَسْرَةِ، وَأَمَّا الضُّرُّ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ(25/212)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
لَمَا نَفَعَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَقَعُ لِدَفْعِ ضُرِّ الْمَعْبُودِ كَمَا يُعْبَدُ الْجَبَّارُ وَيُخْدَمُ مَخَافَةَ شَرِّهِ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَحْسُنُ لِأَجْلِهِ عِبَادَتُهُمْ.
المسألة الثالثة: قال: هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَقَالَ فِي السَّجْدَةِ: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ جعل المكذب هنالك العذاب وجعل المكذب هاهنا النَّارَ وَهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالْكُلِّ، وَالْفَائِدَةُ فِيهَا أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارَ بَلْ كَانُوا هُمْ فِيهَا مِنْ زَمَانٍ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السَّجْدَةِ: 20] أَيِ الْعَذَابَ الْمُؤَبَّدَ الَّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] أَيْ قُلْتُمْ إِنَّ الْعَذَابَ إِنْ وَقَعَ فَلَا يَدُومُ فَذُوقُوا الدائم، وهاهنا أَوَّلُ مَا رَأَوُا النَّارُ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ الْحَشْرِ وَالسُّؤَالِ فَقِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 43]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
إِظْهَارًا لِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَاشْتِدَادِ عِنَادِهِمْ حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْلَى مَنْ يَعْبُدُونَهُ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعِبَادَةِ لِذَوَاتِهِمْ كَمَا قَالُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا [سَبَأٍ: 41] أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا إِلَّا لِعِبَادَتِكَ مِنْ دُونِهِمْ أَيْ لَا أَهْلِيَّةَ لَنَا لِأَنْ نَكُونَ مَعْبُودِينَ لَهُمْ وَلَا لِنَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا [سبأ: 42] ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِذَا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامًا مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ أَنْكَرُوهَا وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ يَعْنِي يُعَارِضُونَ الْبُرْهَانَ بِالتَّقْلِيدِ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمُوَحِّدَ كَانَ يَقُولُ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِ إِنَّهُ يَأْفِكُ كَمَا قَالَ تعالى في حقهم: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 86] وَكَمَا قَالُوا هُمْ لِلرَّسُولِ: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا [الْأَحْقَافِ: 22] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ أَيِ الْقُرْآنُ إِفْكٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا/ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إِشَارَةً إِلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَدَلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ وَقَالُوا لِلْحَقِّ هُوَ أَنَّ إِنْكَارَ التَّوْحِيدِ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ [فَقَدْ] كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ [فَقَالَ] تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : الآيات 44 الى 45]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ تَأْكِيدٌ لِبَيَانِ تَقْلِيدِهِمْ يَعْنِي يقولون عند ما تُتْلَى عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ هَذَا رَجُلٌ كَاذِبٌ وَقَوْلُهُمْ: إِفْكٌ مُفْتَرىً مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَلَا رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، فَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ لَا تُعَارَضَ إِلَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَا أَوْ بِالتَّقَلُّبَاتِ وَمَا عِنْدَهُمْ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ غَيْرَكَ، وَالنَّقْلُ الْمُعْتَبَرُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ خَبَرُ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْلُهُ(25/213)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
تَعَالَى: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: وَمَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْقُوَّةِ وَالنِّعْمَةِ وَطُولِ الْعُمُرِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَهُمْ وَمَا نَفَعَتْهُمْ قُوَّتُهُمْ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، وَعِنْدِي [أَنَّهُ] يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ أَيِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كِتَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْمَلُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَوْضَحُ، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ وأفصح، وبرهانه أو في، وَبَيَانُهُ أَشَفَى، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ لَمَّا كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَبِمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الرُّسُلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِأَفْصَحِ الرُّسُلِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يَعْنِي غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ الْكِتَابَ، فَحَمْلُ الْإِيتَاءِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى إِيتَاءِ الْكِتَابِ أَوْلَى. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
ذَكَرَ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْهُ تَقْرِيرُهَا بِالدَّلَائِلِ فَقَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّسَالَةِ وَقَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى اليوم الآخرة وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَصْرُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فَنَقُولُ التَّوْحِيدُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ حَقَّ التَّوْحِيدِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ وَيَرْفَعُ فِي الْآخِرَةِ قَدْرَهُ فالنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْعِبَادَاتِ ويهيء لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَاتِ، وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا قَالَ إِنِّي لَا آمُرُكُمْ فِي جَمِيعِ عُمُرِي إِلَّا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ أَعِظُكُمْ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ وَلَا آمُرُكُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فَإِنَّ التَّفَكُّرَ أَيْضًا صَارَ مَأْمُورًا بِهِ وَمَوْعُوظًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِواحِدَةٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّثَهَا عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ خَصْلَةٍ أَيْ أَعِظُكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ حَسَنَةٌ وَإِحْسَانٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: 29] أَنَّ الْعَدْلَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالْإِحْسَانَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ لَهُ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ: 60] أَنَّ الْمُرَادَ هَلْ جَزَاءُ الْإِيمَانِ إِلَّا الْجِنَانُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فُصِّلَتْ: 33] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَثْنى وَفُرادى إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَكُونَ وَحْدَهُ، فَإِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثْنى وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: فُرادى فَكَأَنَّهُ يَقُولُ تَقُومُوا لِلَّهِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ لَا تَمْنَعُكُمُ الْجَمْعِيَّةُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا يُحْوِجُكُمُ الِانْفِرَادُ إِلَى مُعِينٍ يُعِينُكُمْ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ.(25/214)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يَعْنِي اعْتَرِفُوا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّوْحِيدُ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ بَعْدَ مَا بَانَ وَظَهَرَ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَقُولُ بَعْدَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ، وَكَلِمَةُ ثُمَّ تُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ... ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ وَهُوَ أَمْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَسُولًا وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ لَا يَكُونُ بِهِ جِنَّةٌ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً لِلْبَشَرِ وَغَيْرُ الْبَشَرِ مِمَّنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْعَجَائِبُ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْمَلَكُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ مِنَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْجِنِّ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الطُّرُقِ، وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ الصِّفَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ فِي الْبَشَرِ بِنَفْيِ أَخَسِّ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلًا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ النِّزَاعُ، فَإِذَا قَالَ مَا هُوَ مَجْنُونٌ لَمْ/ يَسَعْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَحَالِهِ فِي قُوَّةِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ «1» فَإِذَا سَاعَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الْمَسْأَلَةُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ يَعْنِي إِمَّا هُوَ بِهِ جِنَّةٌ أَوْ هُوَ رَسُولٌ لَكِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جَنَّةٌ فَهُوَ نَذِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى قُرْبِ الْعَذَابِ كَأَنَّهُ قَالَ يُنْذِرُكُمْ بِعَذَابٍ حَاضِرٍ يَمَسُّكُمْ عَنْ قَرِيبٍ بَيْنَ يَدَيِ الْعَذَابِ أَيْ سَوْفَ يَأْتِي الْعَذَابُ بَعْدَهُ. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 47]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَا بِهِ جِنَّةٌ لِيَلْزَمَ مِنْهُ كَوْنُهُ نَبِيًّا ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ إِذَا لم يكن مجنونا لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مَجْنُونًا، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ عَاجِلًا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُهُ وَيُعَادِيهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ يَفْعَلُهُ لِلْآخِرَةِ، وَالْكَاذِبُ فِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبٌ لَا مُثَابٌ، فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَكَانَ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَلَيْسَ بِكَاذِبٍ، فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَقْرِيرٌ آخَرُ لِلرِّسَالَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ النُّبُوَّةَ وَيُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ الْمُعْجِزَةَ فَهِيَ بَيِّنَةٌ شَاهِدَةٌ وَالتَّصْدِيقُ بِالْفِعْلِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِقَوْمٍ إِنِّي مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ إِلَيْكُمْ أُلْزِمُكُمْ قَبُولَ قَوْلِي وَالْمَلِكُ حَاضِرٌ نَاظِرٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي رَسُولُكَ فَإِذَا قَالَ إِنَّهُ رَسُولِي إِلَيْكُمْ لَا يَبْقَى فِيهِ شَكٌّ كَذَلِكَ إِذَا قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَأَلْبِسْنِي قَبَاءَكَ فَلَوْ أَلْبَسَهُ قَبَاءَهُ فِي عَقِبِ كَلَامِهِ يَجْزِمُ النَّاسُ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ، كَذَلِكَ حَالُ الرَّسُولِ إِذَا قَالَ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْمِهِمْ نَحْنُ رُسُلُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا يَا إِلَهَنَا إِنْ كُنَّا رُسُلَكَ فَأَنْطِقْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ أَوْ أَنْشِرْ هَذَا الْمَيِّتَ فَفَعَلَهُ حصل الجزم بأنه صدقه. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 48]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)
__________
(1) في النسخة طبعة بولاق: في قوة لسانه وباله ولما كان غير واضحة المعنى فقد أثبتناها هكذا لأن اللازم لقوة اللسان قوة البيان.(25/215)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ فِي قُلُوبِ الْمُحِقِّينَ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا تَعَلُّقٌ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِبْعَادُ تَخْصِيصِ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ بِإِنْزَالِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، كما قال تعالى عنهم:
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] ذَكَرَ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُمْ فَقَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ فِي الْقُلُوبِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَيُعْطِي مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ فَاسِدٍ يُذْكَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا/ كَمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ مَحَلِّ الْفِعْلِ بِشَيْءٍ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ عَالِمًا وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، كَمَا إِذَا أَصَابَ السَّهْمُ مَوْضِعًا دُونَ غَيْرِهِ مَعَ تَسْوِيَةِ الْمَوَاضِعِ فِي الْمُحَاذَاةِ فَقَالَ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ كَيْفَ يَشَاءُ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَعَالِمٌ بِعَوَاقِبِ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْهَاجِمُ الْغَافِلُ عَنِ الْعَوَاقِبِ إِذْ هُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 18] وَعَلَى هَذَا تَعَلُّقُ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَيْضًا ظَاهِرٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ لَمَّا ظَهَرَتْ وَدَحَضَتْ شُبَهَهُمْ قَالَ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى بَاطِلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَهُ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ الْمَعْقُولَ الظَّاهِرَ لَمْ يَقُمْ إِلَّا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَمَّا الْحَشْرُ فَعَلَى وُقُوعِهِ لَا بُرْهَانَ غَيْرُ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ، وَعَنْ أَحْوَالِهِ وَأَهْوَالِهِ، وَلَوْلَا بَيَانُ اللَّهِ بِالْقَوْلِ لَمَا بَانَ لِأَحَدٍ بِخِلَافِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، فَلَمَّا قَالَ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى الْبَاطِلِ، إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَالَ: عَلَّامُ الْغُيُوبِ أَيْ مَا يُخْبِرُهُ عَنِ الْغَيْبِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَأَحْوَالُهَا فَهُوَ لَا خُلْفَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ تَفْسِيرًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أَيْ مَا يَقْذِفُهُ يَقْذِفُهُ بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ وَالْبَاءُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ أَيِ الْحَقُّ مَقْذُوفٌ وَعَلَى هَذَا الْبَاءُ فِيهِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزُّمَرِ: 69] وَفِي قَوْلِهِ: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَذَفَ مَا قَذَفَ فِي قَلْبِ الرُّسُلِ وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يَعْلَمُ مَا في قلوبهم وما في قلوبكم. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 49]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ وَكَانَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ، ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ قَدْ جَاءَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهُ الْقُرْآنُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ الثَّالِثُ: الْمُعْجِزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جاءَ الْحَقُّ ظَهَرَ الْحَقُّ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فَقَدْ ظَهَرَ وَالْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَلَمَّا كَانَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَمْ يُمْكِنِ انْتِفَاؤُهُ كَالتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، كَانَ حَقًّا لَا يَنْتَفِي، وَلَمَّا كَانَ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ كَانَ بَاطِلًا لَا يَثْبُتُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أَيِ الْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي الْأُولَى وَلَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا إِمْكَانَ لِوُجُودِهِ أَصْلًا، وَالْحَقُّ الْمَأْتِيُّ بِهِ لَا عَدَمَ لَهُ أَصْلًا، وَقِيلَ الْمُرَادُ لَا يُبْدِئُ الشَّيْطَانُ وَلَا يُعِيدُ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ(25/216)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
فَيَدْمَغُهُ
كَانَ يَقَعُ لِمُتَوَهِّمٍ أَنَّ الْبَاطِلَ كَانَ فورد عليه الحق/ فأبطله ودمغه، فقال هاهنا لَيْسَ لِلْبَاطِلِ تَحَقُّقٌ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَدْمَغُهُ أَيْ فَيَظْهَرُ بُطْلَانُهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاءِ: 81] يَعْنِي لَيْسَ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا زُهُوقُ الْبَاطِلِ، فَقَوْلُهُ: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أَيْ لَا يُثْبِتُ فِي الْأَوَّلِ شَيْئًا خِلَافَ الْحَقِّ وَما يُعِيدُ أَيْ لَا يُعِيدُ فِي الْآخِرَةِ شيئا خلاف الحق. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
هَذَا فِيهِ تَقْرِيرُ الرِّسَالَةِ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ [الزُّمَرِ:
41] وَقَالَ فِي حق النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يَعْنِي ضَلَالِي عَلَى نَفْسِي كَضَلَالِكُمْ، وَأَمَّا اهْتِدَائِي فَلَيْسَ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَاهْتِدَائِكُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْمُبِينِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ أَيْ يَسْمَعُ إِذَا نَادَيْتُهُ وَاسْتَعْدَيْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ قَرِيبٌ يَأْتِيكُمْ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، لَيْسَ يَسْمَعُ عَنْ بُعْدٍ وَلَا يلحق الداعي. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
لَمَّا قَالَ: سَمِيعٌ قَالَ هُوَ قَرِيبٌ فَإِنْ لَمْ يُعَذِّبْ عَاجِلًا وَلَا يُعِينُ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي الْحَالِ فَيَوْمُ الْفَزَعِ آتٍ لَا فَوْتَ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَرى جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ تَرَى عَجَبًا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لَا يَهْرُبُونَ وَإِنَّمَا الْأَخْذُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْهَرَبِ. ثم قال تعالى:
[سورة سبإ (34) : آية 52]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
أَيْ بَعْدَ ظُهُورِ الْأَمْرِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ إِيمَانٌ، قَالُوا آمَنَّا وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أَيْ كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى الظَّفَرِ بِالْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الدُّنْيَا وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ بَعِيدَةٌ، فَإِنْ قيل فكيف قال كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ إِنَّ الْآخِرَةَ مِنَ الدُّنْيَا قَرِيبَةٌ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ السَّاعَةَ وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: 17] نَقُولُ الْمَاضِي كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ بعد ما يَكُونُ إِذْ لَا وُصُولَ إِلَيْهِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاضِرِ سِنِينَ فَإِنَّهُ آتٍ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ لِمُضِيِّهَا وَفِي الدُّنْيَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَرِيبٌ لِإِتْيَانِهِ وَالتَّنَاوُشُ هُوَ التَّنَاوُلُ عَنْ قُرْبٍ. وَقِيلَ عَنْ بُعْدٍ، وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْفِعْلَ مَأْخُوذًا كَالْجِسْمِ جَعَلَ ظَرْفَ الْفِعْلِ وَهُوَ الزَّمَانُ كَظَرْفِ الْجِسْمِ وَهُوَ الْمَكَانُ فَقَالَ:
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَالْمُرَادُ مَا مَضَى مِنَ الدنيا.
[سورة سبإ (34) : آية 53]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إِيمَانَهُمْ لَا نَفْعَ فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: / آمَنَّا بِهِ وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، إِمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِمَّا الْقُرْآنُ وَإِمَّا الْحَقُّ الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ضِدُّ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّ الْغَيْبَ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَيَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ وَيَقْبَلُهُ الْمُؤْمِنُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَقْذِفُ بِالْغَيْبِ، أَيْ يَقُولُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَأْخَذَهُمْ بَعِيدٌ أَخَذُوا الشَّرِيكَ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ إِلَّا إِذَا كَانُوا أَشْخَاصًا كَثِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقَاتُ الْكَثِيرَةُ وَأَخَذُوا بَعْدَ الْإِعَادَةِ مِنْ(25/217)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
حَالِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِحْيَاءِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُدَاوَى فَإِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُهُمْ إِعَادَةُ الرُّوحِ إِلَيْهِ، وَقِيَاسُ اللَّهِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بَعِيدُ الْمَأْخَذِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَالثَّوَابُ وَالنَّعِيمُ لَنَا، كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا عَنْ إِحْسَاسٍ فَإِنَّ مَا لَا يَجِبُ عَقْلًا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْإِحْسَاسِ أَوْ بِقَوْلِ الصَّادِقِ، فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عَنِ الْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ الْآخِرَةَ قَرِيبٌ فَكَيْفَ قَالَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ؟ نَقُولُ الْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ عِنْدَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم من لَمْ يُؤْمِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّصْدِيقُ بِهِ فَيَكُونُ بَعِيدًا عِنْدَهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحِكَايَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ كَانُوا يَقْذِفُونَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَهُوَ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السَّجْدَةِ: 12] وَهُوَ قَذْفٌ بِالْغَيْبِ مِنْ مكان بعيد وهو الدنيا.
[سورة سبإ (34) : آية 54]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ بَيْنَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْعَوْدِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ وَمَا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَوْدِ؟ قُلْنَا لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ مَا حِيلَ بَيْنَهُمْ، بَلْ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ الْمَلِكُ طَلَبَ التَّأْخِيرَ وَلَمْ يُعْطَ وَأَرَادُوا أَنْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْيَأْسِ وَلَمْ يُقْبَلْ، وَقَوْلُهُ: مُرِيبٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: ذِي رَيْبٍ وَالثَّانِي: موقف فِي الرَّيْبِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وصحبه وأزواجه أجمعين.
تم الجزء الخامس والعشرون، ويليه السادس والعشرون وأوله سورة فاطر وقد راجعه على النسخة الأميرية الأستاذ محمد إسماعيل الصاوي بالإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف.(25/218)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
الجزء السادس والعشرون
سُورَةُ فَاطِرٍ
أَرْبَعُونَ وَخَمْسُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (35) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى النِّعْمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، وَنِعَمُ اللَّهِ قِسْمَانِ: عَاجِلَةٌ وَآجِلَةٌ، وَالْعَاجِلَةُ وُجُودٌ وَبَقَاءٌ، وَالْآجِلَةُ كَذَلِكَ إِيجَادٌ مَرَّةً وَإِبْقَاءٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] إِشَارَةٌ إِلَى النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيجَادُ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا [الْأَنْعَامِ: 2] وَقَوْلِهِ فِي الْكَهْفِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: 1] إِشَارَةً إِلَى النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ الَّتِي هِيَ الْإِبْقَاءُ، فَإِنَّ الْبَقَاءَ وَالصَّلَاحَ بِالشَّرْعِ وَالْكِتَابِ، وَلَوْلَاهُ لَوَقَعَتِ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي، فَإِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبَقَاءُ الْعَاجِلُ، وَفِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سَبَأٍ: 1] إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الثَّانِي بِالْحَشْرِ، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَما يَعْرُجُ فِيها [سَبَأٍ: 2] وَقَوْلِهِ عَنِ الْكَافِرِينَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي [سبأ: 3] وهاهنا الْحَمْدُ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْبَقَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أَيْ يَجْعَلُهُمْ رُسُلًا يَتَلَقَّوْنَ عِبَادَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى فاطِرِ السَّماواتِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ مُبْدِعُهَا كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّانِي: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ شَاقِّهِمَا لِنُزُولِ الْأَرْوَاحِ مِنَ السَّمَاءِ وَخُرُوجِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ رُسُلًا، وَعَلَى هَذَا فَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ مَا مَضَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ بَيَانٌ لِانْقِطَاعِ رَجَاءِ مَنْ كَانَ فِي شَكٍّ مُرِيبٍ وَتَيَقُّنِهِ بِأَنْ لَا قَبُولَ لِتَوْبَتِهِ وَلَا فَائِدَةَ لِقَوْلِهِ آمَنْتُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ [سَبَأٍ: 52] فَلَمَّا ذَكَرَ حَالَهُمْ بَيَّنَ حَالَ الْمُوقِنِ وَبَشَّرَهُ بِإِرْسَالِهِ الْمَلَائِكَةَ إِلَيْهِمْ/ مُبَشِّرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَفْتَحُ لهم أبواب الرحمة.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أَقَلُّ مَا يَكُونُ لِذِي الْجَنَاحِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَنَاحَانِ وَمَا(26/221)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
بَعْدَهُمَا زِيَادَةٌ، وَقَالَ قَوْمٌ فِيهِ إِنَّ الْجَنَاحَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِهَةِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ لَهُمْ وَجْهٌ إِلَى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنْهُ نِعَمَهُ وَيُعْطُونَ مَنْ دُونَهُمْ مما يأخذوه بِإِذْنِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النَّجْمِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النَّازِعَاتِ: 5] فَهُمَا جَنَاحَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنَ الْخَيْرِ بِوَاسِطَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَالْفَاعِلُ بِوَاسِطَةٍ فِيهِ ثَلَاثُ جِهَاتٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ جِهَاتٍ وَأَكْثَرُ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ إِطْبَاقُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ خَصَّصَهُ وَقَالَ الْمُرَادُ الْوَجْهُ الْحَسَنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كُلُّ وَصْفٍ مَحْمُودٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعَمَّمَ، وَيُقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ كَامِلٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَيَزِيدُ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُصُ مَا يَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُقَرِّرُ قَوْلَهُ: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
[سورة فاطر (35) : آية 2]
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ.
لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ الْقُدْرَةِ ذَكَرَ بَيَانَ نُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، وَقَالَ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ يَعْنِي إِنْ رَحِمَ فَلَا مَانِعَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْحَمْ فَلَا بَاعِثَ لَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سَبْقِ رَحْمَتِهِ غَضَبَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا التَّقْدِيمُ حَيْثُ قَدَّمَ بَيَانَ فَتْحِ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ فِي الذِّكْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَضْلِ وَثَانِيهَا: هُوَ أن أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فِي الْأَوَّلِ فَقَالَ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَجَازَ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ يُقَالَ لَهُ وَيَكُونُ عَائِدًا إِلَى مَا، وَلَكِنْ قَالَ تَعَالَى: لَها لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَفْتُوحَ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَلَا مُمْسِكَ لِرَحْمَتِهِ فَهِيَ وَصْلَةٌ إِلَى مَنْ رَحِمَتْهُ، وَقَالَ عِنْدَ الْإِمْسَاكِ وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ بالتذكير ولم يقل لها فَمَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُرْسِلَ لِلرَّحْمَةِ، بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَا يُرْسِلُ هُوَ غَيْرُ الرَّحْمَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما يُمْسِكْ عَامٌّ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَتَخْصِيصٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَإِنَّهُ مُخَصَّصٌ مُبَيَّنٌ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ:
مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، فَاسْتَثْنَى هاهنا وَقَالَ لَا مُرْسِلَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ فَنَزَلَ له مرسلا. وعند الإمساك/ الْإِمْسَاكِ قَالَ لَا مُمْسِكَ لَهَا، وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِذَا جَاءَتْ لَا تَرْتَفِعُ فَإِنَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُعَذِّبُهُ بَعْدَهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَمَنْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ فَقَدْ يَرْحَمُهُ اللَّهُ بَعْدَ الْعَذَابِ كالفساق من أهل الإيمان.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيْ كَامِلُ القدرة الْحَكِيمُ أي كامل العلم.
[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ وَبَيَّنَ بَعْضَ وُجُوهِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ بَيَّنَ نِعَمَهُ عَلَى سَبِيلِ الإجمال فقال: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ نِعْمَةِ الْإِيجَادِ، وَنِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ.(26/222)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةً إِلَى نِعْمَةِ الْإِبْقَاءِ بِالرِّزْقِ إِلَى الِانْتِهَاءِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ نَظَرًا إِلَى عَظَمَتِهِ حَيْثُ هُوَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نَافِذُ الْإِرَادَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا مِثْلَ لِهَذَا وَلَا مَعْبُودَ لِذَاتِهِ غَيْرُ هَذَا وَنَظَرًا إِلَى نِعْمَتِهِ حَيْثُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَازِقَ إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَيْ كَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ، فَكَيْفَ تُشْرِكُونَ الْمَنْحُوتَ بِمَنْ له الملكوت.
[سورة فاطر (35) : آية 4]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّانِيَ: وَهُوَ الرِّسَالَةُ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.
ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ أَنَّ الْمُكَذِّبَ فِي الْعَذَابِ وَالْمُكَذَّبَ لَهُ الثَّوَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ثُمَّ بَيَّنَ الْأَصْلَ الثالث: وهو الحشر. فقال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 5]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
أَيِ الشَّيْطَانُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى اللَّطِيفِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ ونعيده هاهنا فَنَقُولُ الْمُكَلَّفُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفَ الذِّهْنِ قَلِيلَ الْعَقْلِ سَخِيفَ الرَّأْيِ فَيَغْتَرُّ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يَغْتَرُّ بِهِ وَلَكِنْ إِذَا جَاءَهُ غَارٌّ وَزَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يَغْتَرُّ لِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَعَ مَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنْ دُعَاءِ ذَلِكَ الْغَارِّ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَوِيَّ الْجَأْشِ غَزِيرَ الْعَقْلِ فَلَا يَغْتَرُّ وَلَا يُغَرُّ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا إِشَارَةً إِلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَقَالَ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِشَارَةً إِلَى الثَّانِيَةِ لِيَكُونَ وَاقِعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَهِيَ العليا فلا يغر ولا يغتر. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 6]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5] ذَكَرَ مَا يَمْنَعُ الْعَاقِلَ مِنَ الِاغْتِرَارِ، وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا وَلَا تَسْمَعُوا قَوْلَهُ: وَقَوْلُهُ: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أَيِ اعْمَلُوا مَا يَسُوءُهُ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ إِشَارَةً إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ لَهُ عَدُوٌّ فَلَهُ فِي أَمْرِهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَادِيَهُ مُجَازَاةً لَهُ عَلَى مُعَادَاتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يُذْهِبَ عَدَاوَتَهُ بِإِرْضَائِهِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ أَمَرَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَيْسَ إِلَّا هَذَا، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِرْضَاءُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لأنكم إذا رأيتموه وَاتَّبَعْتُمُوهُ فَهُوَ لَا يُؤَدِّيكُمْ إِلَّا إِلَى السَّعِيرِ.
واعلم أن من علم أن له عدو لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنْهُ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهُ وَيَصْبِرُ عَلَى قِتَالِهِ وَالصَّبْرُ مَعَهُ الظَّفَرُ، فَكَذَلِكَ الشَّيْطَانُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَعَهُ، وَلَا يَزَالُ يَتْبَعُهُ إِلَّا أَنْ يَقِفَ لَهُ وَيَهْزِمَهُ، فَهَزِيمَةُ الشَّيْطَانِ بِعَزِيمَةِ الْإِنْسَانِ، فَالطَّرِيقُ الثَّبَاتُ عَلَى الْجَادَّةِ وَالِاتِّكَالُ على العبادة.(26/223)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
[سورة فاطر (35) : آية 7]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَ حِزْبِهِ وَحَالَ حِزْبِ اللَّهِ. فَقَالَ:
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فَالْمُعَادِي لِلشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ فِي عَذَابٍ ظَاهِرٍ وَلَيْسَ بِشَدِيدٍ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا يَخْتَارُ الْعَذَابَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ دَفْعًا لِلْعَذَابِ الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذا عَرَضَ فِي طَرِيقِهِ شَوْكٌ وَنَارٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَحَدِهِمَا يَتَخَطَّى الشَّوْكَ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ وَنِسْبَةُ النَّارِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا إِلَى النَّارِ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ دُونَ نِسْبَةِ الشَّوْكِ إِلَى النَّارِ الْعَاجِلَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ قَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهُ مِرَارًا، / وَبُيِّنَ فِيهِ أَنَّ الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤبده مُؤْمِنٌ فِي النَّارِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي مُقَابَلَتِهِ الأجر الكبير ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
يَعْنِي لَيْسَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا كَالَّذِي عَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ [فاطر: 19] وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسِيءِ الْكَافِرِ وَالْمُحْسِنِ الْمُؤْمِنِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ سَيِّئًا إِلَّا قَلِيلٌ، فَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ الَّذِي لَهُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ الشَّيْطَانَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ اسْتَهْوَتْهُمُ الْجِنُّ فَاتَّبَعُوهَا، وَالَّذِي لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ نَحْنُ الَّذِينَ دُمْنَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَسْتُمْ أَنْتُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ غير، ومن زين له العمل السيء فَرَآهُ حَسَنًا غَيْرٌ، بَلِ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهُمُ السيء دُونَ مَنْ أَسَاءَ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسِيءٌ فَإِنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي يَعْلَمُ جَهْلَهُ وَالْمُسِيءَ الَّذِي يَعْلَمُ سُوءَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ وَيَتُوبُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمُسِيءُ الْعَالِمُ لَهُ صِفَةُ ذَمٍّ بِالْإِسَاءَةِ وَصِفَةُ مَدْحٍ بِالْعِلْمِ. وَالْمُسِيءُ الَّذِي يَرَى الْإِسَاءَةَ إِحْسَانًا لَهُ صِفَتَا ذَمٍّ الْإِسَاءَةُ وَالْجَهْلُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ أَشْخَاصُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْإِسَاءَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَالسَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا عَرَفَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِقْلَالٍ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ.
ثُمَّ سلى رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَيْثُ حَزِنَ مِنْ إِصْرَارِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِكُلِّ آيَةٍ ظَاهِرَةٍ وَحُجَّةٍ بَاهِرَةٍ فَقَالَ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الْكَهْفِ: 6] .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ حُزْنَهُ إِنْ كَانَ لِمَا بِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ فَاللَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ وَبِمَا يَصْنَعُونَ لَوْ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ وَإِحْسَانَهُمْ لَصَدَّهُمْ عَنِ الضَّلَالِ وَرَدَّهُمْ عَنِ الْإِضْلَالِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا بِهِ منهم من الإيذاء فالله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعون.
ثم عاد إلى البيان فقال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
هُبُوبُ الرِّيَاحِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَوَاءَ قَدْ يَسْكُنُ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ وَعِنْدَ حَرَكَتِهِ قَدْ(26/224)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
يَتَحَرَّكُ إِلَى الْيَمِينِ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ إِلَى الْيَسَارِ، وَفِي حَرَكَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ قَدْ يُنْشِئُ السَّحَابَ، وَقَدْ لَا يُنْشِئُ، فَهَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ دَلِيلٌ عَلَى مُسَخِّرٍ مُدَبِّرٍ وَمُؤَثِّرٍ مُقَدِّرٍ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَالَ: فَتُثِيرُ سَحاباً بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ فِعْلَ الْإِرْسَالِ إِلَى اللَّهِ وَمَا يَفْعَلُ اللَّهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ كُنْ فَلَا يَبْقَى فِي الْعَدَمِ لَا زَمَانًا وَلَا جُزْءًا مِنَ الزَّمَانِ، فَلَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُجُوبِ وُقُوعِهِ وَسُرْعَةِ كَوْنِهِ كَأَنَّهُ كَانَ وَكَأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ قَدَّرَ الْإِرْسَالَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَعْلُومَةِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْمُعَيَّنَةِ وَالتَّقْدِيرُ كَالْإِرْسَالِ، وَلَمَّا أَسْنَدَ فِعْلَ الْإِثَارَةِ إِلَى الرِّيحِ وَهُوَ يؤلف في زمان فقال: فَتُثِيرُ أَيْ عَلَى هَيْئَتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: أَرْسَلَ إسنادا للفعل إلى الغائب وقال: فَسُقْناهُ بِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْيَيْنا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ قَالَ: أَنَا الَّذِي عَرَفْتَنِي سُقْتُ السَّحَابَ وَأَحْيَيْتُ الْأَرْضَ فَنَفْيُ الْأَوَّلِ كَانَ تَعْرِيفًا بِالْفِعْلِ الْعَجِيبِ، وَفِي الثَّانِي كَانَ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ فَإِنَّ كما [ل] «1» نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله: فَسُقْناهُ ... فَأَحْيَيْنا بِصِيغَةِ الْمَاضِي يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بين قوله: أَرْسَلَ وبين قوله: (فَتُثِيرُ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا وَجْهُ التَّشْبِيهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ النُّشُورُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ لَمَّا قَبِلَتِ الْحَيَاةَ اللَّائِقَةَ بِهَا كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ تَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَثَانِيهَا: كَمَا أَنَّ الرِّيحَ يَجْمَعُ الْقِطَعَ السَّحَابِيَّةَ كَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَعْضَاءِ وَأَبْعَاضِ الْأَشْيَاءِ وَثَالِثُهَا: كَمَا أَنَّا نَسُوقُ الرِّيحَ وَالسَّحَابَ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ نَسُوقُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ إِلَى الْبَدَنِ الْمَيِّتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَيْنِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، فَنَقُولُ لما ذكر الله أنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ الْأَرْوَاحَ وَإِرْسَالَهَا بقوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ذَكَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْضِيَّةِ الرِّيَاحَ وَإِرْسَالَهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
لَمَّا بَيَّنَ بُرْهَانَ الْإِيمَانِ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانَ يَمْنَعُ الْكُفَّارَ مِنْهُ وَهُوَ الْعِزَّةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَهَّمُونَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مَا كَانُوا فِي طَاعَةِ أَحَدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، فَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْأَصْنَامَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ آلِهَتُنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهَا مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَأَيَّةُ عِزَّةٍ فَوْقَ الْمَعِيَّةِ مَعَ الْمَعْبُودِ فَهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ وَهِيَ عَدَمُ التَّذَلُّلِ لِلرَّسُولِ وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ لَهُ، فَقَالَ إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ بِهَذَا الْكُفْرِ الْعِزَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ وَمَنْ يَتَذَلَّلُ لَهُ فَهُوَ الْعَزِيزُ، وَمَنْ يَتَعَزَّزُ عَلَيْهِ فَهُوَ الذَّلِيلُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) في الأصل الأميري «فإن كما نعمة» ولا معنى لها وقد زدت اللام ليستقيم الكلام.(26/225)
[الْمُنَافِقُونَ: 8] فَقَوْلُهُ: جَمِيعاً يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا عِزَّةَ لِغَيْرِهِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أَيْ فِي الْحَقِيقَةِ وَبِالذَّاتِ وَقَوْلُهُ: وَلِرَسُولِهِ أَيْ بِوَاسِطَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْعَزِيزِ وَهُوَ اللَّهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِزَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: 31] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تَقْرِيرٌ لِبَيَانِ الْعِزَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَا نَعْبُدُ مَنْ لَا نَرَاهُ وَلَا نَحْضُرُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْبُعْدَ مِنَ الْمَلِكِ ذِلَّةٌ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَيَقْبَلُ الطَّيِّبَ فَمَنْ قَبِلَ كَلَامَهُ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَهُوَ عَزِيزٌ وَمَنْ رَدَّ كَلَامَهُ فِي وَجْهِهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَهَا الذَّلِيلُ مِنَ الْعَزِيزِ إِذْ لَا عِلْمَ لَهَا فَكُلُّ أَحَدٍ يمسها وكذلك يرى عملكم فَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ فَالْعَزِيزُ مَنِ الَّذِي عَمَلُهُ لِوَجْهِهِ وَالذَّلِيلُ مَنْ يُدْفَعُ الَّذِي عَمِلَهُ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْنَامُ فَلَا تَعْلَمُ شَيْئًا فَلَا عَزِيزَ يُرْفَعُ عِنْدَهَا وَلَا ذَلِيلَ، فَلَا عِزَّةَ بِهَا بَلْ عَلَيْهَا ذِلَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذِلَّةَ السَّيِّدِ ذِلَّةٌ لِلْعَبْدِ وَمَنْ كَانَ مَعْبُودُهُ وَرَبُّهُ وَإِلَهُهُ حِجَارَةً أَوْ خَشَبًا مَاذَا يَكُونُ هُوَ!.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هِيَ الطَّيِّبَةُ وَثَانِيهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ طَيِّبٌ ثَالِثُهَا: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْأَرْبَعُ وَخَامِسَةٌ وَهِيَ تَبَارَكَ اللَّهُ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ أَوْ هُوَ لِلَّهِ كَالنَّصِيحَةِ وَالْعِلْمِ، فَهُوَ إِلَيْهِ يَصْعَدُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَفِي الْهَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْكَلِمِ الطَّيِّبِ أَيِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُهُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ»
وَثَانِيهِمَا: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَعَلَى هَذَا فِي الْفَاعِلِ الرَّافِعِ وَجْهَانِ: أحدهما: هو الكلم الطيب أي الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُهُ قوله تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل: 97] وَثَانِيهِمَا: الرَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا وَجْهُ تَرْجِيحِ الذِّكْرِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَيْثُ يَصْعَدُ الْكَلِمُ/ بِنَفْسِهِ وَيُرْفَعُ الْعَمَلُ بِغَيْرِهِ، فَنَقُولُ الْكَلَامُ شَرِيفٌ، فَإِنَّ امْتِيَازَ الْإِنْسَانِ عَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِالنُّطْقِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الْإِسْرَاءِ: 70] أَيْ بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْعَمَلُ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْإِنْسَانُ وَغَيْرُهُ، وَالشَّرِيفُ إِذَا وَصَلَ إِلَى بَابِ الْمَلِكِ لَا يُمْنَعُ وَمَنْ دُونَهُ لَا يَجِدُ الطَّرِيقَ إِلَّا عِنْدَ الطَّلَبِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ إِنْ كَانَ عَنْ صِدْقٍ أَمِنَ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَمِنَ فِي نَفْسِهِ وَدَمِهِ وَأَهْلِهِ وَحَرَمِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 82] ، وَوَجْهٌ آخَرُ: الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ،
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
وَمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِاللِّسَانِ وَمَا فِي اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل، فالقول أقرب إلى القلب من الفعل، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا عَنْ قَلْبٍ، وَأَمَّا الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ لَا عَنْ قَلْبٍ كَالْعَبَثِ بِاللِّحْيَةِ وَلِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَخْلُو عَنْ فِعْلٍ مِنْ حَرَكَةٍ وَتَقَلُّبٍ وَهُوَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ لَا يَتَكَلَّمُ فِي نَوْمِهِ إِلَّا نَادِرًا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ بِالْقَلْبِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَمَلُ، فَالْقَوْلُ أَشْرَفُ.(26/226)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَكْرُ لَا يَتَعَدَّى فَبِمَ انْتِصَابُ السَّيِّئَاتِ؟ وَقَالَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ الْمَكَرَاتِ السَّيِّئَاتِ فَهُوَ وَصْفُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ اسْتُعْمِلَ الْمَكْرُ اسْتِعْمَالَ الْعَمَلِ فعداه تعديته كما قال: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [العنكبوت: 4] وفي قوله: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّئَاتُ وَصْفًا لِمَصْدَرٍ تَقْدِيرُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْعَمَلَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ إِشَارَةً إِلَى بَقَائِهِ وَارْتِقَائِهِ وَمَكْرُ أُولئِكَ أي العمل السيء وهُوَ يَبُورُ إشارة إلى فنائه. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الدَّلَائِلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَمِ دُخُولِهَا فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ مُنْحَصِرَةٌ فِي قِسْمَيْنِ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: 53] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وَمَا يُرْسَلُ مِنْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْضِ وَمَا يُرْسَلُ فِيهَا مِنَ الرِّيَاحِ شَرَعَ/ فِي دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ مِرَارًا وَذَكَرْنَا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ تُرابٍ إِشَارَةٌ إِلَى خَلْقِ آدَمَ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إِشَارَةٌ خَلْقِ أَوْلَادِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بَلْ خَلَقَكُمْ خِطَابٌ مَعَ النَّاسِ وَهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ كُلُّهُمْ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ نُطْفَةٍ لِأَنَّ كُلَّهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةَ مِنْ غِذَاءٍ، وَالْغِذَاءَ بِالْآخِرَةِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، فَهُوَ مِنْ تُرَابٍ صَارَ نُطْفَةً.
وَقَوْلُهُ: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِشَارَةٌ إلى كمال العلم، فَإِنَّ مَا فِي الْأَرْحَامِ قَبْلَ الِانْخِلَاقِ بَلْ بَعْدَهُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ أَحَدٌ، كَيْفَ وَالْأُمُّ الْحَامِلَةُ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ كَمَالَ عِلْمِهِ ثُمَّ بَيَّنَ نُفُوذَ إِرَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ الْعَالِمُ الْمُرِيدُ وَالْأَصْنَامُ لَا قُدْرَةَ لَهَا وَلَا عِلْمَ وَلَا إِرَادَةَ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْهَا الْعِبَادَةَ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيِ الْخَلْقَ مِنَ التُّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْمِيرُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمَا تَحْمِلُهُ الْأُنْثَى يَسِيرٌ وَالْكُلُّ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ فَإِنَّ الْيَسِيرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْفِعْلِ أَلْيَقُ. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ ضَرْبُ الْمَثَلِ فِي حَقِّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ أَوِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، فَالْإِيمَانُ لَا يَشْتَبِهُ بِالْكُفْرِ فِي الحسن والنفع كما لا يشبه الْبَحْرَانِ الْعَذْبُ الْفُرَاتُ وَالْمِلْحُ الْأُجَاجُ. ثُمَّ عَلَى هَذَا، فَقَوْلُهُ:
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا لِبَيَانِ أَنَّ حَالَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَوِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ دُونَ حَالِ الْبَحْرَيْنِ لِأَنَّ الْأُجَاجَ يُشَارِكُ الْفُرَاتَ فِي خَيْرٍ وَنَفْعٍ إِذِ اللَّحْمُ الطَّرِيُّ يُوجَدُ فِيهِمَا وَالْحِلْيَةُ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَالْفُلْكُ تَجْرِي فِيهِمَا، وَلَا نَفْعَ فِي الْكُفْرِ وَالْكَافِرِ، وَهَذَا عَلَى نَسَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ:
179] وَقَوْلِهِ: كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [الْبَقَرَةِ: 74] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ(26/227)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
الْمُرَادَ مِنْهُ ذِكْرُ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَحْرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي الصُّورَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرَ مِلْحٌ/ أُجَاجٌ، وَلَوْ كَانَ ذلك بإيجاب لما اختلف المتساويان، ثُمَّ إِنَّهُمَا بَعْدَ اخْتِلَافِهِمَا يُوجَدُ مِنْهُمَا أُمُورٌ متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، واللحية تُؤْخَذُ مِنْهُمَا، وَمَنْ يُوجِدُ فِي الْمُتَشَابِهَيْنِ اخْتِلَافًا ومن الْمُخْتَلِفَيْنِ اشْتِبَاهًا لَا يَكُونُ إِلَّا قَادِرًا مُخْتَارًا. وَقَوْلُهُ: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَدَمَ اسْتِوَائِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُقَالُ فِي مَاءِ الْبَحْرِ إِذَا كَانَ فِيهِ مُلُوحَةٌ مَالِحٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ مِلْحٌ، وَقَدْ يُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ يَصِيرُ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ مَالِحًا، وَيُؤَاخَذُ قَائِلُهُ بِهِ. وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ الْعَذْبَ إِذَا أُلْقِيَ فِيهِ مِلْحٌ حَتَّى مَلُحَ لَا يُقَالُ لَهُ إِلَّا مَالِحٌ، وَمَاءٌ مِلْحٌ يُقَالُ لِلْمَاءِ الَّذِي صَارَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَالِحَ شَيْءٌ فِيهِ مِلْحٌ ظَاهِرٌ فِي الذَّوْقِ، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ لَيْسَ مَاءً وَمِلْحًا بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْمَالِحِ فَالْمَاءُ الْعَذْبُ الْمُلْقَى فِيهِ الْمِلْحُ مَاءٌ فِيهِ مِلْحٌ ظَاهِرٌ فِي الذَّوْقِ، بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ الْفَقِيهُ الْمِلْحُ أَجْزَاءٌ أَرْضِيَّةٌ سَبِخَةٌ يَصِيرُ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ مَالِحًا رَاعَى فِيهِ الْأَصْلَ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مَاءً جَاوَرَهُ مِلْحٌ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ حَيْثُ قَالُوا فِي الْبَحْرِ مَاؤُهُ مِلْحٌ جَعَلُوهُ كَذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَالْأُجَاجِ الْمُرِّ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا مِنَ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أَيْ مَاخِرَاتٍ تَمْخُرُ الْبَحْرَ بِالْجَرَيَانِ أَيْ تَشُقُّ، وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِالْبَحْرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 13]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
اسْتِدْلَالٌ آخَرُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ يَذْكُرُهُ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْقِسِيِّ الْوَاقِعَةِ فَوْقَ الْأَرْضِ وَتَحْتَهَا، فَإِنَّ فِي الصَّيْفِ تمر الشمس على سمت الرؤوس فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْمَاثِلَةِ فِي الْآفَاقِ، وَحَرَكَةُ الشَّمْسِ هُنَاكَ حَمَائِلِيَّةٌ فَتَقَعُ تَحْتَ الْأَرْضِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دَائِرَةٍ زَمَانَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَقْصُرُ اللَّيْلُ وَفِي الشِّتَاءِ بِالضِّدِّ فَيَقْصُرُ النَّهَارُ فَقَالَ اللَّهُ/ تَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَعْنِي سَبَبَ الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ فَهُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ.
أَيْ ذَلِكَ الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات وَالْأَرْضِ وَإِرْسَالِ الْأَرْوَاحِ وَإِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ فَلَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ لِذَاتِهِ الْكَامِلِ وَلِكَوْنِهِ مَلِكًا وَالْمَلِكُ مَخْدُومٌ بِقَدْرِ مُلْكِهِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ فَلَهُ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُنَافِي صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، وَهَهُنَا لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لِنَفْسِهِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَوْصَافِ أَحَدُهُمَا: إِنَّ الخلق بالقدرة الإرادة وَالثَّانِي: الْمُلْكُ وَاسْتُدِلَّ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ مَعْبُودٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ [النَّاسِ: 1- 3] ذَكَرَ الرَّبَّ وَالْمَلِكَ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا كَوْنَهُ إِلَهًا أَيْ مَعْبُودًا، وَذَكَرَ فِيمَنْ أَشْرَكُوا(26/228)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
بِهِ سَلْبَ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ عَدَمُ الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ سَلْبَ الْوَصْفِ الْآخَرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّهُمْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنْ لَا خَالِقَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ أَمْرَ الْأَرْضِ وَالْأَرْضِيَّاتِ إِلَى الْكَوَاكِبِ الَّتِي الْأَصْنَامُ عَلَى صُورَتِهَا وَطَوَالِعِهَا فَقَالَ: لَا مِلْكَ لَهُمْ وَلَا مَلَّكَهُمُ اللَّهُ شَيْئًا وَلَا مَلَكُوا شَيْئًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ عَدَمُ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَ شَيْئًا لَمَلَكَهُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ قطميرا ما خلق قليلا ولا كثيرا. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 14]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إِبْطَالًا لِمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عِزَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبِ مِنْهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَعَرْضِ الْحَوَائِجِ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ لَا يَرَى وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَقَالَ هَؤُلَاءِ لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ وَاللَّهُ يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع وَيَقْبَلُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ، وَقَالَ هَبْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَمَا يَظُنُّونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْمَعُ وَتَعْلَمُ وَلَكِنْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُمْ يُجِيبُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِلْمُحَسِّ بِهِ وَعَدَمَ سَمَاعِهِمْ إِنْكَارٌ لِلْمَعْقُولِ وَالنِّزَاعُ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي الْمَعْقُولِ فَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي الْمُحَسِّ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ لَمَّا بَيَّنَ عَدَمَ النَّفْعِ فِيهِمْ فِي الدُّنْيَا بَيَّنَ عَدَمَ النَّفْعِ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ أَشَارَ إِلَى وُجُودِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أَيْ بِإِشْرَاكِكُمْ بالله شيئا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] أَيِ/ الْإِشْرَاكُ وَقَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خطابا مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ الْخَشَبَ وَالْحَجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْطِقُ وَيُكَذِّبُ عَابِدَهُ وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ لَوْلَا إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ كَوْنِ الْخَبَرِ عَنْهُ أَمْرًا عَجِيبًا هُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ خَبِيرٌ وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ، أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ كَمَا قَالَ: وَلا يُنَبِّئُكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَائِنًا مَنْ كُنْتَ مِثْلُ خَبِيرٍ. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 15]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
لَمَّا كَثُرَ الدُّعَاءُ من النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَالْإِصْرَارُ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَعَلَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى عِبَادَتِنَا حَتَّى يَأْمُرَنَا بِهَا أَمْرًا بَالِغًا وَيُهَدِّدَنَا عَلَى تَرْكِهَا مُبَالِغًا فَقَالَ تَعَالَى: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ فَلَا يَأْمُرُكُمْ بِالْعِبَادَةِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ لِإِشْفَاقِهِ عَلَيْكُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: التَّعْرِيفُ فِي الْخَبَرِ قَلِيلٌ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ نَكِرَةً وَالْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَهُوَ مَعْقُولٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُخْبِرُ فِي الْأَكْثَرِ إِلَّا بِأَمْرٍ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُخْبَرِ بِهِ عِلْمٌ أَوْ فِي ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّ السَّامِعَ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ حَتَّى يَقُولَ لَهُ أَيُّهَا السَّامِعُ الْأَمْرَ الَّذِي تَعْرِفُهُ أَنْتَ فِيهِ الْمَعْنَى الْفُلَانِيُّ كَقَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ قَامَ أَيْ زَيْدٌ الَّذِي تَعْرِفُهُ ثَبَتَ لَهُ قِيَامٌ لَا عِلْمَ عِنْدَكَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِ وَالْمُبْتَدَأُ كَذَلِكَ وَيَقَعُ الْخَبَرُ تَنْبِيهًا لَا تَفْهِيمًا يَحْسُنُ تَعْرِيفُ الْخَبَرِ غَايَةَ الْحُسْنِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُ رَبُّنَا وَمُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا، حَيْثُ عُرِفَ كَوْنُ اللَّهِ رَبًّا، وَكَوْنُ مُحَمَّدٍ نبيا، وهاهنا لَمَّا كَانَ كَوْنُ النَّاسِ فُقَرَاءَ أَمْرًا ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ قَالَ: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ.(26/229)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
المسألة الثانية: قوله: إِلَى اللَّهِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَا افْتِقَارَ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا اتِّكَالَ إِلَّا عَلَيْهِ وَهَذَا يُوجِبُ عِبَادَتَهُ لِكَوْنِهِ مُفْتَقَرًا إِلَيْهِ وَعَدَمَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِافْتِقَارِ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ أَيْ هُوَ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ يَدْعُوكُمْ كُلَّ الدُّعَاءِ وَأَنْتُمْ مِنِ احْتِيَاجِكُمْ لَا تُجِيبُونَهُ وَلَا تَدْعُونَهُ فَيُجِيبُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: الْحَمِيدُ لَمَّا زَادَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ زِيَادَةً وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِلَى اللَّهِ إِشَارَةً لِوُجُوبِ حَصْرِ الْعِبَادَةِ فِي عِبَادَتِهِ زَادَ فِي وَصْفِهِ بِالْغَنِيِّ زِيَادَةً وَهُوَ كَوْنُهُ حَمِيدًا إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِكُمْ فُقَرَاءَ وَفِي مُقَابَلَتِهِ اللَّهُ غَنِيٌّ وَفَقْرُكُمْ إِلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ لِكَوْنِهِ حَمِيدًا وَاجِبَ الشُّكْرِ، فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ فُقَرَاءَ وَاللَّهُ مِثْلَكُمْ فِي الْفَقْرِ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَسْتُمْ أَنْتُمْ لَمَّا افْتَقَرْتُمْ إِلَيْهِ تَرَكَكُمْ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَاتِ بَلْ قَضَى فِي الدُّنْيَا حَوَائِجَكُمْ، وَإِنْ آمَنْتُمْ يَقْضِي فِي الْآخِرَةِ حوائجكم فهو حميد. / ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 16]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
بَيَانًا لِغِنَاهُ وَفِيهِ بَلَاغَةٌ كَامِلَةٌ وَبَيَانُهَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيْ لَيْسَ إِذْهَابُكُمْ مَوْقُوفًا إِلَّا عَلَى مَشِيئَتِهِ بِخِلَافِ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ لَا يَقُولُ فِيهِ إِنْ يَشَأْ فُلَانٌ هَدَمَ دَارَهُ وَأَعْدَمَ عَقَارَهُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ لَوْلَا حَاجَةُ السُّكْنَى إِلَى الدَّارِ لَبِعْتُهَا أَوْ لَوْلَا الِافْتِقَارُ إِلَى الْعَقَارِ لَتَرَكْتُهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ بَيَانَ الِاسْتِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ:
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يَعْنِي إِنْ كَانَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٍ أَنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَهُ كَمَالٌ وَعَظَمَةٌ فَلَوْ أَذْهَبَهُ لَزَالَ مُلْكُهُ وَعَظَمَتُهُ فَهُوَ قَادِرٌ بِأَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا جَدِيدًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَلَ وأتم وأكمل. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 17]
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
أَيِ الْإِذْهَابُ والإتيان وهاهنا مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ الْعَزِيزِ اسْتَعْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَارَةً فِي الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ: وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الْأَحْزَابِ: 25] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فَاطِرٍ:
28] وَاسْتَعْمَلَهُ فِي الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَقَالَ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التَّوْبَةِ:
128] فَهَلْ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ بِمَعْنَيَيْنِ؟ فَنَقُولُ الْعَزِيزُ هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ، فَاللَّهُ عَزِيزٌ أَيْ غَالِبٌ وَالْفِعْلُ إِذَا كَانَ لَا يُطِيقُهُ شَخْصٌ يُقَالُ هُوَ مَغْلُوبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أَيْ لَا يَغْلِبُ اللَّهَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بَلْ هُوَ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ أي يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.
[سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحَقَّ بِالدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْبَاهِرَةِ ذَكَرَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِيهِ فَقَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ نَفْسٍ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي دُعَائِهِ لَكَانَ مُذْنِبًا وَهُوَ مُعْتَقِدٌ بِأَنَّ ذَنْبَهُ لَا تَحْمِلُونَهُ أَنْتُمْ فَهُوَ يَتَوَقَّى وَيَحْتَرِزُ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ فَقِيرٍ إِلَى عِبَادَتِكُمْ فَتَفَكَّرُوا(26/230)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنْ ضَلَلْتُمْ فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْكُمْ وِزْرَكُمْ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ: أَكَابِرُكُمُ اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 12] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وازِرَةٌ أَيْ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ فَلَمْ يَقُلْ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وَازِرَةٌ وِزْرَةَ أُخْرَى لِفَائِدَةٍ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ وَازِرَةٍ مَهْمُومَةٍ بِهَمِّ وِزْرِهَا مُتَحَيِّرَةٍ فِي أَمْرِهَا وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ وَلَا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى، قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَهَا أَنْ/ لَا تَزِرَ وِزْرًا أَصْلًا كَالْمَعْصُومِ لَا يَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَزِرُ وِزْرًا رَأْسًا فَقَوْلُهُ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ بَيَّنَ أَنَّهَا تَزِرُ وِزْرَهَا وَلَا تَزِرُ وِزْرَ الْغَيْرِ وَأَمَّا تَرْكُ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ فَلِظُهُورِ الصِّفَةِ وَلُزُومِهَا لِلْمَوْصُوفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا مُبْتَدِئًا وَلَا بَعْدَ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ قَدْ يَصْبِرُ وَتُقْضَى حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الِافْتِقَارُ إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ يُحْوِجُهُ إِلَى السُّؤَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: مُثْقَلَةٌ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَيَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْمِلُ عَنْ أَحَدٍ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَوِيَّ إِذَا أَخَذَ بِيَدِهِ رُمَّانَةً أَوْ سَفَرْجَلَةً لَا تُحْمَلُ عَنْهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحِمْلُ ثَقِيلًا قَدْ يُرْحَمُ الْحَامِلُ فَيُحْمَلُ عَنْهُ فَقَالَ: مُثْقَلَةٌ يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُ الْوِزْرِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلرَّحْمَةِ بِالثِّقَلِ بَلْ لِكَوْنِ النَّفْسِ مُثْقَلَةً وَلَا يُحْمَلُ مِنْهَا شَيْءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَادَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيِ الْمَدْعُوُّ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى لَا يَحْمِلُهُ وَفِي الْأَوَّلِ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يَحْمِلُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَالْعَدُوِّ الَّذِي يَرَى عَدُوَّهُ تَحْتَ ثِقَلٍ، أَوِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي يَرَى أَجْنَبِيًّا تَحْتَ حِمْلٍ لَا يَحْمِلُ عَنْهُ فَقَالَ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةِ إِلَى الْحَمْلِ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ وَازِرَةً قَوِيَّةً تَحْتَمِلُ وَكَوْنِ الْأُخْرَى مُثْقَلَةً لَا يُقَالُ كَوْنُهَا قَوِيَّةً قادرة ليس عليها حمل وكونه سَائِلَةً دَاعِيَةً فَإِنَّ السُّؤَالَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، لَوْ كان المسؤول قَرِيبًا فَإِذَنْ لَا يَكُونُ التَّخَلُّفُ إِلَّا لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَحْتَ حِمْلٍ ثَقِيلٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِشَارَةً إِلَى أَنْ لَا إِرْشَادَ فَوْقَ مَا أَتَيْتُ بِهِ، وَلَمْ يُفِدْهُمْ، فَلَا تُنْذِرُ إِنْذَارًا مُفِيدًا إِلَّا الَّذِينَ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ خَشْيَةً وَتَتَحَلَّى ظَوَاهِرُهُمْ بِالْعِبَادَةِ كَقَوْلِهِ:
الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى عمل القلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِشَارَةً إِلَى عَمَلِ الظَّوَاهِرِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، ثم لما بين أن لا تزر وازرة وزر أخرى بَيَّنَ أَنَّ الْحَسَنَةَ تَنْفَعُ الْمُحْسِنِينَ.
فَقَالَ: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَيْ فَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَيِ الْمُتَزَكِّي إِنْ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَتُهُ عَاجِلًا فَالْمَصِيرُ إِلَى اللَّهِ يَظْهَرُ عِنْدَهُ فِي يَوْمِ اللِّقَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، وَالْوَازِرُ إِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَبِعَةُ وِزْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ تَظْهَرُ فِي الآخرة إذ المصير إلى الله.
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 22]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)(26/231)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
لَمَّا بَيَّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ وَلَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ، وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى، فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ حَيْثُ أَبْصَرَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة هاهنا حَيْثُ ذَكَرَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلْمَةَ وَالنُّورَ، وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، وَالْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ؟ فَنَقُولُ الْأَوَّلُ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى، ثُمَّ إِنَّ الْبَصِيرَ وَإِنْ كَانَ حَدِيدَ الْبَصَرِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ضَوْءٍ فَذَكَرَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مَثَلًا، وَقَالَ الْإِيمَانُ نُورٌ وَالْمُؤْمِنُ بَصِيرٌ وَالْبَصِيرُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ النُّورُ، وَالْكُفْرُ ظُلْمَةٌ وَالْكَافِرُ أَعْمَى فَلَهُ صَادٌّ فَوْقَ صَادٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ لِمَآلِهِمَا وَمَرْجِعِهِمَا مَثَلًا وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، فَالْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ فِي ظِلٍّ وَرَاحَةٍ وَالْكَافِرُ بِكُفْرِهِ فِي حَرٍّ وَتَعَبٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مَثَلًا آخَرَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى حَالُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَوْقَ حَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، فَإِنَّ الْأَعْمَى يُشَارِكُ الْبَصِيرَ فِي إِدْرَاكٍ مَا. وَالْكَافِرَ غَيْرُ مُدْرِكٍ إِدْرَاكًا نَافِعًا فَهُوَ كَالْمَيِّتِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ الْفِعْلَ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَعَطَفَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وَالظِّلَّ وَالْحَرُورَ، ثُمَّ أَعَادَ الْفِعْلَ، وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ كَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُقَابِلًا لِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَرَّرَ كَلِمَةَ النَّفْيِ بَيْنَ الظُّلُمَاتِ والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، وَلَمْ يُكَرِّرْ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُنَافَاةَ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ مُضَادَّةٌ، فَالظُّلْمَةُ تُنَافِي النُّورَ وَتُضَادُّهُ وَالْعَمَى وَالْبَصَرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ بَصِيرًا وَهُوَ بِعَيْنِهِ يَصِيرُ أَعْمَى، فَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفِ، وَالظِّلُّ وَالْحَرُورُ والمنافاة بَيْنَهُمَا ذَاتِيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظِّلِّ عَدَمُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَافَاةُ هُنَاكَ أَتَمَّ، أَكَّدَ بِالتَّكْرَارِ، وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَإِنْ كَانُوا كَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ حَيًّا مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فَيَصِيرُ مَيِّتًا مَحَلًّا لِلْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ أَتَمُّ مِنَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ يَشْتَرِكَانِ فِي إِدْرَاكِ أَشْيَاءَ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ، كَيْفَ وَالْمَيِّتُ يُخَالِفُ الْحَيَّ فِي الْحَقِيقَةِ لَا فِي الْوَصْفِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدَّمَ الْأَشْرَفَ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَأَخَّرَهُ فِي مَثَلَيْنِ وَهُوَ الْبَصَرُ وَالنُّورُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّهُ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَوَاخِيَ الْأَوَاخِرِ رَاجِعٌ إِلَى السَّجْعِ، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنَى لَا فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَالشَّاعِرُ يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ لِلسَّجْعِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَامِلًا لَهُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ صَحِيحٌ واللفظ فصحيح فَلَا يُقَدِّمُ وَلَا يُؤَخِّرُ اللَّفْظَ بِلَا مَعْنًى، فَنَقُولُ الْكُفَّارُ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانُوا فِي ضَلَالَةٍ فَكَانُوا كَالْعُمْيِ وَطَرِيقُهُمْ كالظلة ثُمَّ لَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ الْحَقَّ، وَاهْتَدَى بِهِ(26/232)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
مِنْهُمْ قَوْمٌ فَصَارُوا بَصِيرِينَ وَطَرِيقَتُهُمْ كَالنُّورِ فَقَالَ وَمَا يَسْتَوِي مَنْ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى الْكُفْرِ وَمَنِ اهْتَدَى بَعْدَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَبْلَ الْإِيمَانِ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَالْكَافِرُ قَبْلَ الْمُؤْمِنِ قَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْمَآلَ وَالْمَرْجِعَ قَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، ثُمَّ إِنَّ الْكَافِرَ الْمُصِرَّ بَعْدَ الْبَعْثَةِ صَارَ أَضَلَّ مِنَ الْأَعْمَى وَشَابَهَ الْأَمْوَاتَ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَالْأَمْوَاتُ الَّذِينَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا وَهَؤُلَاءِ كَانُوا بَعْدَ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ فَأَخَّرَهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِوُجُودِ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَمَاتِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَقَدَّمَ الْأَعْمَى عَلَى الْبَصِيرِ لِوُجُودِ الْكُفَّارِ الضَّالِّينَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ بَعْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنْ قُلْتَ قَابَلَ الْأَعْمَى بِالْبَصِيرِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَكَذَلِكَ الظِّلُّ بِالْحَرُورِ وَقَابَلَ الْأَحْيَاءَ بِالْأَمْوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَقَابَلَ الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْوَاحِدِ فِي الْآخَرِ، فَهَلْ تَعْرِفُ فِيهِ حِكْمَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ، أَمَّا فِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، فَلِأَنَّهُ قَابَلَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَفْرَادَ لِأَنَّ فِي الْعُمْيَانِ (وَأُولِي الْأَبْصَارِ قَدْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ يُسَاوِي فَرْدًا مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ كَالْبَصِيرِ الْغَرِيبِ فِي مَوْضِعٍ وَالْأَعْمَى الَّذِي هُوَ تَرْبِيَةُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يَقْدِرُ الْأَعْمَى عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقْصِدٍ وَلَا يَقْدِرُ الْبَصِيرُ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ الْأَعْمَى عِنْدَهُ مِنَ الذَّكَاءِ مَا يُسَاوِي بِهِ الْبَلِيدَ الْبَصِيرَ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْجِنْسَيْنِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَإِنَّ جِنْسَ الْبَصِيرِ خَيْرٌ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَى، وَأَمَّا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ، إِذْ مَا مِنْ مَيِّتٍ يُسَاوِي فِي الْإِدْرَاكِ حَيًّا مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَحْيَاءَ لَا يُسَاوُونَ الْأَمْوَاتَ سَوَاءٌ قَابَلْتَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَوْ قَابَلْتَ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فَالْحَقُّ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَاطِلُ كَثِيرٌ وَهُوَ طَرْقُ الْإِشْرَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَبَعْضَهُمُ النَّارَ وَبَعْضَهُمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَبَيْنَ هَذَا الْوَاحِدِ بَيِّنٌ، فَقَالَ الظُّلُمَاتُ كُلُّهَا إِذَا اعْتَبَرْتَهَا لَا تَجِدُ فِيهَا مَا يُسَاوِي النُّورَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الْأَنْعَامِ: 1] السَّبَبَ فِي تَوْحِيدِ النُّورِ وَجَمْعِ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ مُنَوِّرٍ وَمَحَلٍّ قَابِلٍ لِلِاسْتِنَارَةِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَ النُّورِ وَالْمُسْتَنِيرِ. مِثَالُهُ الشَّمْسُ/ إِذَا طَلَعَتْ وَكَانَ هُنَاكَ مَوْضِعٌ قَابِلٌ لِلِاسْتِنَارَةِ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ الشُّعَاعَ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ كُوَّةٌ يَدْخُلُ مِنْهَا الشُّعَاعُ إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْكُوَّةِ مَنْفَذٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الشُّعَاعُ وَيَدْخُلُ بَيْتًا آخَرَ وَيَبْسُطُ الشُّعَاعَ عَلَى أَرْضِهِ يُرَى الْبَيْتُ الثَّانِي مُضِيئًا وَالْأَوَّلُ مُظْلِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَائِلٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي لَا كُوَّةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُضِيءُ، فَإِذَا حَصَلَتِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ يَسْتَنِيرُ الْبَيْتُ وَإِلَّا فَلَا تَتَحَقَّقُ الظُّلْمَةُ بِفَقْدِ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَفِيهِ احْتِمَالُ مَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ كَوْنِ الْكُفَّارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَمَاعِهِمْ كَلَامَ النَّبِيِّ وَالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ دُونَ حَالِ الْمَوْتَى فَإِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ الْمَوْتَى وَالنَّبِيَّ لَا يُسْمِعُ مَنْ مَاتَ وَقُبِرَ، فَالْمَوْتَى سَامِعُونَ مِنَ اللَّهِ وَالْكُفَّارُ كَالْمَوْتَى لَا يَسْمَعُونَ مِنَ النَّبِيِّ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَسْلِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُسْمِعُهُمْ قَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ لَا يُسْمِعُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ صَخْرَةً صَمَّاءَ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تُسْمِعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَمَا عَلَيْكَ مِنْ حسابهم من شيء. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 23]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)(26/233)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
بيانا للتسلية.
[سورة فاطر (35) : آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً لَمَّا قَالَ: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَذِيرًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِنَّمَا هُوَ نَذِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِرْسَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ تَقْرِيرًا لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتَسْلِيَةِ قَلْبِهِ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ كَانَ مِثْلَهُ مُحْتَمِلًا لِتَأَذِّي الْقَوْمِ وَثَانِيهِمَا: إِلْزَامُ الْقَوْمِ قَبُولَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ غَيْرِهِ يَدَّعِي مَا ادَّعَاهُ الرُّسُلُ وَيُقَرِّرُهُ. وَقَوْلُهُ تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 25]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25)
يَعْنِي أَنْتَ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَالْكِتَابِ فَكَذَّبُوكَ وَآذَوْكَ وَغَيْرُكَ أَيْضًا أَتَاهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَفَعَلُوا بِهِمْ مَا فَعَلُوا بِكَ وَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا فَكَذَلِكَ نُلْزِمُهُمْ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الرُّسُلِ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُمْ رُسُلًا إِلَّا بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَقَدْ آتيناها محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ/ وَالْكُلُّ آتَيْنَاهَا مُحَمَّدًا، فَهُوَ رَسُولٌ مِثْلُ الرُّسُلِ يَلْزَمُهُمْ قَبُولُهُ كَمَا لَزِمَ قَبُولُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ، وَهَذَا يَكُونُ تَقْرِيرًا مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أُمُورًا ثَلَاثَةً أَوَّلُهَا الْبَيِّنَاتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ وَهِيَ أَدْنَى الدَّرَجَاتِ، ثُمَّ قَدْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ كِتَابٌ يَكُونُ فِيهِ مَوَاعِظُ وَتَنْبِيهَاتٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخٌ وَأَحْكَامٌ مَشْرُوعَةٌ شَرْعًا نَاسِخًا، وَمَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِمَّنْ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَدْ تَنْسَخُ شَرِيعَتُهُ الشَّرَائِعَ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِيهِ أَحْكَامٌ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَقَالَ الرُّسُلُ تُبَيِّنُ رِسَالَتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ كَانُوا أَعْلَى مَرْتَبَةً فَبِالزُّبُرِ، وَإِنْ كَانُوا أَعْلَى فَبِالْكِتَابِ وَالنَّبِيُّ آتَيْنَاهُ الْكُلَّ فَهُوَ رَسُولٌ أَشْرَفُ مِنَ الْكُلِّ لِكَوْنِ كِتَابِهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ. ثُمَّ قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 26]
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
أَيْ مَنْ كَذَّبَ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ قَبْلُ وبالرسول المرسل أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَنْ يُكَذِّبُ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ سُؤَالٌ لِلتَّقْرِيرِ فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا شِدَّةَ إِنْكَارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.(26/234)
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِي تَفْسِيرِهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِخْبَارِ، وَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَذَكَرَ الدَّلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِخْبَارِ وقال: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ أَقْرَبُ إِلَى النَّفْعِ وَالْمَنْفَعَةُ فِيهِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فِي الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمَاءَ مِنْهُ حَيَاةُ الْأَرْضِ فَعَظَّمَ دَلَالَتَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي لِلتَّقْرِيرِ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الظَّاهِرِ جِدًّا كَمَا أَنَّ مَنْ أَبْصَرَ الْهِلَالَ وَهُوَ خَفِيٌ جِدًّا، فَقَالَ لَهُ غَيْرُهُ أَيْنَ هُوَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَرَهُ، يَقُولُ لَهُ الْحَقُّ مَعَكَ إِنَّهُ خَفِيٌّ وَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَإِذَا كَانَ بَارِزًا يَقُولُ لَهُ أَمَا تَرَاهُ هَذَا هُوَ ظاهر والثاني: وهو أنه ذكره بعد ما قَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَظَهَرَ بِمَا تَقَدَّمَ لِلْمَدْعُوِّ بِصَارَةٌ بِوُجُوهِ الدَّلَالَاتِ، فَقَالَ لَهُ أَنْتَ صِرْتَ بَصِيرًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَبْقَ لَكَ عُذْرٌ، أَلَا تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُخَاطَبُ مَنْ هُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ قَطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ وَالْتَفَتَ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا نَصَحَ بَعْضَ الْعَبِيدِ وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْإِرْشَادُ، يَقُولُ لِغَيْرِهِ اسْمَعْ وَلَا تَكُنْ مِثْلَ هَذَا/ وَيُكَرِّرُ مَعَهُ مَا ذَكَرَهُ مَعَ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ نَقِيصَةٌ لَا يَسْتَأْهِلُ لِلْخِطَابِ فَيَتَنَبَّهُ لَهُ وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ النَّقِيصَةَ وَالْآخَرُ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْأَوَّلِ، بَلْ يَأْتِي بِمَا يُقَارِبُهُ لِئَلَّا يُسْمِعَ الْأَوَّلَ كَلَامًا آخَرَ فَيَتْرُكَ التَّفَكُّرَ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّصِيحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاخْتِيَارِهِ حَيْثُ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفَةً وَفِيهِ لِطَائِفُ الْأُولَى: قَالَ أَنْزَلَ وَقَالَ أَخْرَجْنَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ وَنُعِيدُهَا فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يَقُولُ نُزُولُ الْمَاءِ بِالطَّبْعِ لِثِقَلِهِ فَيُقَالُ لَهُ، فَالْإِخْرَاجُ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ إِنَّهُ بِالطَّبْعِ فَهُوَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَظْهَرَ أَسْنَدَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ وَوَجْهٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُلِمَ اللَّهُ بِدَلِيلٍ، وَقَرُبَ الْمُتَفَكَّرُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ مِنَ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ أَخْرَجْنَا لِقُرْبِهِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ:
الْإِخْرَاجُ أَتَمُّ نِعْمَةً مِنَ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لِفَائِدَةِ الْإِخْرَاجِ فَأَسْنَدَ الْأَتَمَّ إِلَى نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا دُونَهُ بِصِيغَةِ الغائب.
اللَّطِيفَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ.
كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ اخْتِلَافُ الثَّمَرَاتِ لِاخْتِلَافِ الْبِقَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ النَّبَاتَاتِ لَا تَنْبُتُ بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى اخْتِلَافُ الْبِقَاعِ لَيْسَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَإِلَّا فَلِمَ صَارَ بَعْضُ الْجِبَالِ فِيهِ مَوَاضِعُ حُمْرٌ وَمَوَاضِعُ بِيضٌ، وَالْجُدَدُ جَمْعُ جُدَّةٍ وَهِيَ الْخُطَّةُ أَوِ الطَّرِيقَةُ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ فِي: وَمِنَ الْجِبالِ مَا تَقْدِيرُهَا؟
نَقُولُ هِيَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى وَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ، وَفِي الْأَشْيَاءِ الْكَائِنَاتِ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ، رَادَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْإِرَادَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِ الثِّمَارِ ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِلْعَطْفِ تَقْدِيرُهَا وَخَلَقَ مِنَ الْجِبَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ ذُو جُدَدٍ وَاللَّطِيفَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْجِبَالَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَرْضَ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْدِ: 4] مَعَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ كَانَ نَفْسُ إِخْرَاجِ الثِّمَارِ دَلِيلًا عَلَى الْقُدْرَةِ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بَيَانًا، وَقَالَ مُخْتَلِفًا كَذَلِكَ فِي الْجِبَالِ فِي نَفْسِهَا دَلِيلٌ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، لِأَنَّ كون الجبال(26/235)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْأَرْضِ دُونَ بَعْضِهَا وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي فِي هَيْئَةِ الْجَبَلِ فَإِنَّ بَعْضَهَا يَكُونُ أَخْفَضَ وَبَعْضَهَا أَرْفَعَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، ثُمَّ زَادَهُ بَيَانًا وَقَالَ جُدَدٌ بِيضٌ، أَيْ مَعَ دَلَالَتِهَا بِنَفْسِهَا هِيَ دَالَّةٌ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا، كَمَا أَنَّ إِخْرَاجَ الثَّمَرَاتِ فِي نَفْسِهَا دَلَائِلُ وَاخْتِلَافَ/ أَلْوَانِهَا دَلَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، الظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ لَوْنٍ أَيْ بِيضٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا، لِأَنَّ الْأَبْيَضَ قَدْ يَكُونُ عَلَى لَوْنِ الْجِصِّ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى لَوْنِ التُّرَابِ الْأَبْيَضِ دُونَ بَيَاضِ الْجِصِّ، وَكَذَلِكَ الْأَحْمَرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الْبِيضَ وَالْحُمْرَ مُخْتَلِفُ الْأَلْوَانِ لَكَانَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ لَمْ يَذْكُرْ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا بَعْدَ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ وَالسُّودِ، بَلْ ذَكَرَهُ بَعْدَ الْبِيضِ وَالْحُمْرِ وَأَخَّرَ السُّودَ الْغَرَابِيبَ، لِأَنَّ الْأَسْوَدَ لَمَّا ذَكَرَهُ مَعَ الْمُؤَكَّدِ وَهُوَ الْغَرَابِيبُ يَكُونُ بَالِغًا غَايَةَ السَّوَادِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قِيلَ بِأَنَّ الْغِرْبِيبَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَسْوَدِ، يُقَالُ أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ وَالْمُؤَكِّدُ لَا يَجِيءُ إِلَّا مُتَأَخِّرًا فَكَيْفَ جَاءَ غَرَابِيبُ سُودٌ؟ نَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غَرَابِيبُ مُؤَكِّدٌ لِذِي لَوْنٍ مُقَدَّرٍ فِي الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ سَوَادُ غَرَابِيبَ، ثُمَّ أَعَادَ السُّودَ مَرَّةً أُخْرَى وَفِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ مُضْمَرًا وَمُظْهَرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ اسْتِدْلَالًا آخَرَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَّمَ دَلَائِلَ الْخَلْقِ فِي الْعَالَمِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ عَالَمُ الْمُرَكَّبَاتِ قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ وَغَيْرُ حَيَوَانٍ، وَغَيْرُ الْحَيَوَانِ إِمَّا نَبَاتٌ وَإِمَّا مَعْدِنٌ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَعْدِنَ بِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَيَوَانَ وَبَدَأَ بِالْأَشْرَفِ مِنْهَا وَهُوَ الْإِنْسَانُ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّوَابَّ، لِأَنَّ مَنَافِعَهَا فِي حَيَاتِهَا وَالْأَنْعَامَ مَنْفَعَتُهَا فِي الْأَكْلِ مِنْهَا، أَوْ لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي الْعُرْفِ تُطْلَقُ عَلَى الْفَرَسِ وَهُوَ بَعْدَ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ القول فيه كما أنها في أنفسها دلائل، كذلك في اختلافها دلائل. وأما قوله مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فَذُكِرَ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مِنْ جُمْلَةِ المذكورين، وكون التذكير أعلى وأولى.
ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
الْخَشْيَةُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمَخْشِيِّ، وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ اللَّهَ فَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ أَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الْعَابِدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: 13] فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَرَامَةَ بِقَدْرِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى بِقَدْرِ الْعِلْمِ. فَالْكَرَامَةُ بِقَدْرِ الْعِلْمِ لَا بِقَدْرِ الْعَمَلِ، نَعَمِ الْعَالِمُ إِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ قَدَحَ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ، فَإِنَّ مَنْ يَرَاهُ يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ لَعَمِلَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، فَكَوْنُهُ عَزِيزًا ذَا انْتِقَامٍ يُوجِبُ الْخَوْفَ التَّامَّ، وَكَوْنُهُ غَفُورًا لِمَا دُونَ ذَلِكَ يُوجِبُ الرَّجَاءَ الْبَالِغَ. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْعُلَمَاءِ وَرَفْعِ اللَّهِ، مَعْنَاهَا إِنَّمَا يعظم ويبجل.
[سورة فاطر (35) : آية 29]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ.
لَمَّا بَيَّنَ الْعُلَمَاءَ بِاللَّهِ وَخَشْيَتَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العالمين بِمَا فِيهِ. وَقَوْلُهُ:
يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ إِشَارَةٌ إلى الذكر.(26/236)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الْمَالِيِّ، وَفِي الْآيَتَيْنِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ اللِّسَانِ. وَقَوْلُهُ: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَانِبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يُعَظِّمُ مَلِكًا إِذَا رَأَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ فِي حَاجَةٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حَاجَتِهِ وَإِنْ تَهَاوَنَ فِيهِ يُخِلُّ بِالتَّعْظِيمِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: عَبْدِي مَرِضْتُ فَمَا عُدْتَنِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: كَيْفَ تَمْرَضُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ وَمَا زُرْتَهُ وَلَوْ زُرْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَعْنِي التَّعْظِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّفَقَةِ فَحَيْثُ لَا شَفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لَا تَعْظِيمَ لِجَانِبِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سِرًّا وَعَلانِيَةً حَثٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ كَيْفَمَا يَتَهَيَّأُ، فَإِنْ تَهَيَّأَ سِرًّا فَذَاكَ وَنِعْمَ وَإِلَّا فَعَلَانِيَةً وَلَا يَمْنَعُهُ ظَنُّهُ أَنْ يَكُونَ رِيَاءً، فَإِنَّ تَرْكَ الْخَيْرِ مَخَافَةَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ مُرَاءٍ عَيْنُ الرِّيَاءِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
سِرًّا أَيْ صَدَقَةً وَعَلانِيَةً أَيْ زَكَاةً، فَإِنَّ الْإِعْلَانَ بِالزَّكَاةِ كَالْإِعْلَانِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، أَيْ يُنْفِقُونَ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ كَرِيمٌ وَلَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ بَائِرٌ والتاجر فيه تجارته بائرة.
[سورة فاطر (35) : آية 30]
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أَيْ مَا يَتَوَقَّعُونَهُ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا بَالِغَ الْغَايَةِ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ يُعْطِيهِمْ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ عِنْدَ الْعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَزِيدُهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الزِّيَادَةِ إِنَّهُ غَفُورٌ عِنْدَ إِعْطَاءِ الْأُجُورِ شَكُورٌ عِنْدَ إِعْطَاءِ الزيادة.
[سورة فاطر (35) : آية 31]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ.
لَمَّا بَيَّنَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وُجُودُ اللَّهِ الْوَاحِدِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَائِلِ مِنْ قوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: 9] / وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ [فاطر: 11] وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ [فاطر: 27] ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّانِيَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ، فَقَالَ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وَأَيْضًا كَأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ فَقَالَ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ تَقْرِيرًا لِمَا بَيَّنَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ فَتَالِيهِ مُحِقٌّ وَمُحَقِّقٌ وَفِي تَفْسِيرِهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مِنَ الْكِتابِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ أُرْسِلَ إِلَيَّ كِتَابٌ مِنَ الْأَمِيرِ أَوِ الْوَالِي وَعَلَى هَذَا فَالْكِتَابُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ يَعْنِي الَّذِي أَوْحَيْنَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَيْكَ حَقٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْقُرْآنُ يَعْنِي الْإِرْشَادَ وَالتَّبْيِينَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَيَانِ كَمَا يُقَالُ أُرْسِلَ إِلَى فُلَانٍ مِنَ الثِّيَابِ وَالْقُمَاشِ جُمْلَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هُوَ الْحَقُّ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ حَقٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِنَّ(26/237)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
تَعْرِيفَ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي الْأَكْثَرِ يَكُونُ نَكِرَةً، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ إِعْلَامًا بِثُبُوتِ أَمْرٍ لَا مَعْرِفَةَ لِلسَّامِعِ بِهِ لِأَمْرٍ يَعْرِفُهُ السَّامِعُ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ قَامَ فَإِنَّ السَّامِعَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِزَيْدٍ وَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهُ فَيُخْبِرُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ أَيْضًا مَعْلُومًا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ لِلتَّنْبِيهِ فَيُعَرَّفَانِ بِاللَّامِ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ الْعَالِمُ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ علمه مشهورا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُتُبِ اللَّهِ يَكُونُ خَالِيًا عَنِ احْتِمَالِ الْبُطْلَانِ وَفِي قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ وَحْيًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا كَاتِبًا وَأَتَى بِبَيَانِ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ لَا يَكُونُ ذلك إلا من الله تعالى وجواب عَنْ سُؤَالِ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَرَدَ فِيهَا كَذَا وَالْإِنْجِيلَ ذُكِرَ فِيهِ كَذَا وَكَانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ التَّثْلِيثِ وَغَيْرِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ فَقَالَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لَمْ يَبْقَ بِهِمَا وُثُوقٌ بِسَبَبِ تَغْيِيرِكُمْ فَهَذَا الْقُرْآنُ مَا وَرَدَ فِيهِ إِنْ كَانَ فِي التَّوْرَاةِ فَهُوَ حَقٌّ وَبَاقٍ عَلَى مَا نَزَلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَكُونُ فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْوَحْيَ مُصَدِّقٌ لِمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْوَحْيَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ لَكَذَبَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَإِذَا وُجِدَ الْوَحْيُ وَنَزَلَ عَلَى محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عُلِمَ جَوَازُهُ وَصُدِّقَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ مُصَدِّقًا لِمَا مَضَى مَعَ أَنَّ مَا مَضَى أَيْضًا مُصَدِّقٌ لَهُ لِأَنَّ الْوَحْيَ إِذَا نَزَلَ عَلَى وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْعَلْ مَا تَقَدَّمَ مُصَدِّقًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَوْنُهُ مُعْجِزَةً يَكْفِي فِي تَصْدِيقِهِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ معه من معجزة تصدقه.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِكَوْنِهِ هُوَ الْحَقَّ لِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ خَبِيرٌ عَالِمٌ بِالْبَوَاطِنِ بَصِيرٌ عَالِمٌ بِالظَّوَاهِرِ، فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا فِي وَحْيِهِ لَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا فِي الظَّاهِرِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لما كانوا يقولونه إنه لم لَمْ يَنْزِلْ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ؟ فَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ يَعْلَمُ بَوَاطِنَهُمْ وَبَصِيرٌ يَرَى ظَوَاهِرَهُمْ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَخْتَرْ غيره فهو أصلح من الكل.
[سورة فاطر (35) : آية 32]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ وَعَلَى هَذَا فَالَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالظَّالِمُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرَّعْدِ: 23] أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ وَكَلِمَةُ ثُمَّ أَوْرَثْنَا أَيْضًا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيرَاثَ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْإِيحَاءِ وَلَا كِتَابَ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْمَوْرُوثُ وَالْإِيرَاثُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعْطَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الْمُعْطَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ جِنْسُ الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فَاطِرٍ: 25] وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: إِنَّا أَعْطَيْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الْمُصْطَفَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قَوْلَهُ: مِنْ عِبادِنا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ أكابر(26/238)
مُكْرَمُونَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَلَا يَلِيقُ بِمَنْ يَكُونُ أَشْرَفَ مِنَ الشُّرَفَاءِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا مَعَ أَنَّ لَفْظَ الظَّالِمِ أَطْلَقَهُ اللَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْكَافِرِ وَسُمِّيَ الشِّرْكُ ظُلْمًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الظَّاهِرِ بَيَّنَ مَعْنَاهُ آتَيْنَا الْقُرْآنَ لِمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَأَخَذُوهُ مِنْهُ وَافْتَرَقُوا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ وَهُوَ الْمُسِيءُ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَهُوَ الَّذِي خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وَهُوَ الَّذِي أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَجَرَّدَهُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ قَالَ فِي حَقِّ مَنْ ذَكَرَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ وَأَنَّهُ مُصْطَفًى إِنَّهُ ظَالِمٌ؟ مَعَ أن الظالم يطلق عَلَى الْكَافِرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، فَنَقُولُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ يَضَعُ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ حَالَ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَيْهِ الإشارة
بقوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
وَيُصَحِّحُ هَذَا
قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «ظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ»
وَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُصْطَفًى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ:
23] وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَضَعُ قَلْبَهُ الَّذِي بِهِ اعْتِبَارُ الْجَسَدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فَمُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يَضَعُهُ فِي غَيْرِ التَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَلَا يَضَعُ فِيهِ غَيْرَ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَفِي الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: الظَّالِمُ هُوَ الرَّاجِحُ السَّيِّئَاتِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الَّذِي/ تَسَاوَتْ سَيِّئَاتُهُ وَحَسَنَاتُهُ وَالسَّابِقُ هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَتْ حَسَنَاتُهُ ثَانِيهَا: الظَّالِمُ هُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ خَيْرٌ مِنْ بَاطِنِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ تَسَاوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، وَالسَّابِقُ مِنْ بَاطِنِهِ خَيْرٌ ثَالِثُهَا: الظَّالِمُ هُوَ الْمُوَحِّدُ بِلِسَانِهِ الَّذِي تُخَالِفُهُ جَوَارِحُهُ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُوَحِّدُ الَّذِي يَمْنَعُ جَوَارِحَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بِالتَّكْلِيفِ، وَالسَّابِقُ هُوَ الْمُوَحِّدُ الَّذِي يُنْسِيهِ التَّوْحِيدُ عَنِ التَّوْحِيدِ وَرَابِعُهَا: الظَّالِمُ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ صَاحِبُ الصَّغِيرَةِ، وَالسَّابِقُ الْمَعْصُومُ خَامِسُهَا: الظَّالِمُ التَّالِي لِلْقُرْآنِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ وَالْعَامِلُ بِمُوجَبِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ التَّالِي الْعَالِمُ، وَالسَّابِقُ التَّالِي الْعَالِمُ الْعَامِلُ سَادِسُهَا: الظَّالِمُ الْجَاهِلُ وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ وَالسَّابِقُ الْعَالِمُ سَابِعُهَا: الظَّالِمُ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالسَّابِقُ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ ثَامِنُهَا: الظَّالِمُ الَّذِي يُحَاسَبُ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ تَاسِعُهَا: الظَّالِمُ الْمُصِرُّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ النَّادِمُ وَالتَّائِبُ، وَالسَّابِقُ هو المقبول التوبة عاشرها: الظالم الذين أَخَذَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ فَعَمِلُوا بِهِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ كَامِلٌ وَمُكَمِّلٌ، وَالْمُقْتَصِدُ كَامِلٌ وَالظَّالِمُ نَاقِصٌ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ خَالَفَ فَتَرَكَ أَوَامِرَ اللَّهِ وَارْتَكَبَ مَنَاهِيَهُ فَإِنَّهُ وَاضِعٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فِي ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر مِنْهُ ذَنْبٌ وَصَدَرَ عَنْهُ إِثْمٌ فَإِنَّهُ اقْتَصَدَ وَاجْتَهَدَ وَقَصَدَ الْحَقَّ وَالسَّابِقُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ اللَّهِ أَيِ اجْتَهَدَ وَوُفِّقَ لِمَا اجْتَهَدَ فِيهِ وَفِيمَا اجْتَهَدَ فَهُوَ سَابِقٌ بِالْخَيْرِ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَيَسْبِقُ إِلَيْهِ قَبْلَ تَسْوِيلِ النَّفْسِ وَالْمُقْتَصِدُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَتُرَدِّدُهُ النَّفْسُ، وَالظَّالِمُ تَغْلِبُهُ النَّفْسُ، وَنَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى مَنْ غَلَبَتْهُ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ وَأَمَرَتْهُ فَأَطَاعَهَا ظَالِمٌ وَمَنْ جَاهَدَ نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد وَمَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ فَهُوَ السَّابِقُ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: التَّوْفِيقُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثَانِيهَا: السَّبْقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ثَالِثُهَا:
الْإِيرَاثُ فَضْلٌ كَبِيرٌ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ، أَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أَيْ جِنْسَ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فَاطِرٍ: 25] يَرُدُّ عَلَيْهِ أسئلة أحدهما: ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَإِيتَاءِ الْكِتَابِ بَعْدَ الْإِيحَاءِ إِلَى محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَمَا الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ؟ نَقُولُ مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بَصِيرٌ خَبَّرَهُمْ وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه تعالى قال إِنَّا عَلِمْنَا الْبَوَاطِنَ وَأَبْصَرْنَا الظَّوَاهِرَ(26/239)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
فَاصْطَفَيْنَا عِبَادًا ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ، ثَانِيهَا: كَيْفَ يَكُونُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؟ نَقُولُ مِنْهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ، بَلِ الْمَعْنَى إِنَّ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنْتَ الْمُصْطَفَى كَمَا اصْطَفَيْنَا رُسُلًا وَآتَيْنَاهُمْ كُتُبًا، وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ قَوْمِكَ/ ظَالِمٌ كَفَرَ بِكَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمُقْتَصِدٌ آمَنَ بِكَ وَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا أَمَرْتُهُ بِهِ وَسَابِقٌ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا وثالثها: قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرعد: 23] الدَّاخِلُونَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَكُونُ الظَّالِمُ دَاخِلًا، نَقُولُ الدَّاخِلُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَأَمْرُهُ مَوْقُوفٌ أَوْ هُوَ يَدْخُلُ النار أولا ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالْبَيَانُ لِأَوَّلِ الْأَمْرِ لَا لِمَا بَعْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الْكَهْفِ: 31] وقوله: أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] . ثم قال:
[سورة فاطر (35) : آية 33]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)
وَفِي الدَّاخِلِينَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الظَّالِمَ وَالْمُقْتَصِدَ وَالسَّابِقَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَالثَّالِثُ: هُمُ السَّابِقُونَ وَهُوَ أَقْوَى لِقُرْبِ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ إِكْرَامَهُمْ بِقَوْلِهِ:
يُحَلَّوْنَ فَالْمُكَرَّمُ هُوَ السَّابِقُ وَعَلَى هَذَا فِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ وَتَأْخِيرُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِتَرْتِيبِ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا: اللَّهَ خَلَقَ السموات وَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ بَنَى الْجِدَارَ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ لَهُ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ السموات، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ ثُمَّ الْجِدَارُ مِنْ بِنَائِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَفْعُولُ حَقِيقِيًّا كَقَوْلِنَا زَيْدٌ دَخَلَ الدَّارَ وَضَرَبَ عَمْرًا فَإِنَّ الدَّارَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مَفْعُولًا لِلدَّاخِلِ وَإِنَّمَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ تَحَقَّقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ وَكَذَلِكَ عَمْرٌو فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ زَيْدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَسُمِّيَ مَفْعُولًا لَا يَحْصُلُ هَذَا التَّرْتِيبُ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَلِهَذَا يُعَادُ الْمَفْعُولُ الْمُقَدَّمُ بِالضَّمِيرِ تَقُولُ عَمْرًا ضَرَبَهُ زَيْدٌ فَتُوقِعُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَطُولُ الْكَلَامُ فَلَا يَخْتَارُهُ الْحَكِيمُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْجَنَّاتِ عَلَى الْفِعْلِ الذي هو الدخول وإعادة ذكر بِالْهَاءِ فِي يَدْخُلُونَهَا، وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟ نَقُولُ السَّامِعُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا مِنَ الْمَدَاخِلِ وَلَهُ دُخُولٌ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْمَدْخَلِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَنْتَ تَدْخُلُ فَإِلَى أَنْ يَسْمَعَ الدَّارَ أَوِ السُّوقَ يَبْقَى مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْمَدَاخِلِ يَكُونُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ دَارَ زَيْدٍ تَدْخُلُهَا فَبِذِكْرِ الدَّارِ، يَعْلَمُ مَدْخَلَهُ وَبِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ السَّابِقِ بِأَنَّ لَهُ دُخُولًا يَعْلَمُ الدُّخُولَ فَلَا يَبْقَى لَهُ تَوَقُّفٌ وَلَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمَدْخَلَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا الثَّانِي: قَوْلُهُ: يُحَلَّوْنَ فِيها إِشَارَةٌ إِلَى سُرْعَةِ الدُّخُولِ فَإِنَّ التَّحْلِيَةَ لَوْ وَقَعَتْ خَارِجًا لَكَانَ فِيهِ تَأْخِيرُ الدُّخُولِ فَقَالَ: يَدْخُلُونَها وَفِيهَا تَقَعُ تَحْلِيَتُهُمْ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَساوِرَ بِجَمْعِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ جَمَعَ أَسْوِرَةً وَهِيَ جَمْعُ سِوَارٍ، وَقَوْلُهُ: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ اللِّبَاسِ/ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةٍ مِنْ دَفْعِ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الزِّينَةِ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغِنَى الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَسَاوِرَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُلِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الْإِنْسَانِ: 21] وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا:
إِظْهَارُ كَوْنِ الْمُتَحَلِّي غَيْرَ مُبْتَذَلٍ فِي الْأَشْغَالِ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ لَا يَكُونُ حَالَةَ الطَّبْخِ وَالْغَسْلِ وَثَانِيهِمَا: إِظْهَارُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحَلِّيَ إِمَّا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ وَإِمَّا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والتحلي بالجواهر واللئالئ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَلِّيَ لَا يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَيْثُ يَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ الْوُجُودِ لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضلة يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ حَاجَةً أَصْلِيَّةً(26/240)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
وَإِلَّا لَصَرَفَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْأَسَاوِرُ مَحَلُّهَا الْأَيْدِي وَأَكْثَرُ الْأَعْمَالِ بِالْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْبَطْشِ، فَإِذَا حُلِّيَتْ بِالْأَسَاوِرِ عُلِمَ الْفَرَاغُ وَالذَّهَبُ وَاللُّؤْلُؤُ إِشَارَةٌ إِلَى النوعين اللذين منهما الحلي. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 34]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
فِي الْحَزَنِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ إِذْهَابُ كُلِّ حَزَنٍ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ وَاسْتِغْرَاقِهِ وَإِذْهَابِ الْحَزَنِ بِحُصُولِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي وَبَقَائِهِ دَائِمًا فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَكَانَ الْحَزَنُ مَوْجُودًا بِسَبَبِهِ وَإِنْ حَصَلَ وَلَمْ يَدُمْ لَكَانَ الْحَزَنُ غَيْرَ ذَاهِبٍ بَعْدُ بِسَبَبِ زَوَالِهِ وَخَوْفِ فَوَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُمُورًا كُلُّهَا تُفِيدُ الْكَرَامَةَ مِنَ اللَّهِ الْأَوَّلُ: الْحَمْدُ فَإِنَّ الْحَامِدَ مُثَابٌ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ (رَبَّنَا) فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا وَاسْتَجَابَ لَهُمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُنَادِي قَدْ ضَيَّعَ الْوَقْتَ الْوَاجِبَ أَوْ طَلَبَ مَا لَا يَجُوزُ كَالرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا من الآخرة الثالث: قولهم: (غفور) ، الرَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: شَكُورٌ وَالْغَفُورُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا غَفَرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِمَا وَجَدَ لَهُمْ مِنَ الْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالشَّكُورُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُعْطِيهِمْ وَيَزِيدُ لَهُمْ بِسَبَبِ مَا وَجَدَ لهم في الآخرة من الحمد.
[سورة فاطر (35) : آية 35]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ دَارَ الْإِقَامَةِ، لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُرُورَهُمْ وَكَرَامَتَهُمْ بِتَحْلِيَتِهِمْ وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّاتِ بَيَّنَ سُرُورَهُمْ بِبَقَائِهِمْ فِيهَا وَأَعْلَمَهُمْ بِدَوَامِهَا حَيْثُ قَالُوا: الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أَيِ الْإِقَامَةِ وَالْمَفْعُولُ رُبَّمَا يَجِيءُ لِلْمَصْدَرِ مِنْ كُلِّ بَابٍ يُقَالُ مَا لَهُ مَعْقُولٌ أَيْ عَقْلٌ، وَقَالَ تَعَالَى: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: 19] وَكَذَلِكَ مُسْتَخْرَجٌ لِلِاسْتِخْرَاجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فُعِلَ فَجَازَ إِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ وَفِي قَوْلِهِ: دارَ الْمُقامَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلَةٌ يَنْزِلُهَا الْمُكَلَّفُ وَيَرْتَحِلُ عَنْهَا إِلَى مَنْزِلَةِ الْقُبُورِ وَمِنْهَا إِلَى مَنْزِلَةِ/ الْعَرْصَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَمْعُ وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ. وَقَدْ تَكُونُ النَّارُ لِبَعْضِهِمْ مَنْزِلَةً أُخْرَى وَالْجَنَّةُ دَارَ الْمُقَامَةِ، وَكَذَلِكَ النَّارُ لِأَهْلِهَا وَقَوْلُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ بِحُكْمِ وَعْدِهِ لا بإيجاب من عنده.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ اللُّغُوبُ الْإِعْيَاءُ وَالنَّصَبُ هُوَ السَّبَبُ لِلْإِعْيَاءِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ عُلِمَ أَنَّهُ لا يمسهم فيها لغوب وَلَا يَنْفِي الْمُتَكَلِّمُ الْحَكِيمُ السَّبَبَ، ثُمَّ يَنْفِي مُسَبِّبَهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَلَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَا أَكَلْتُ وَلَا شَبِعْتُ أَوْ لَا قُمْتُ وَلَا مَشَيْتُ وَالْعَكْسُ كَثِيرٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَا شَبِعْتُ وَلَا أَكَلْتُ لِمَا أَنَّ نَفْيَ الشِّبَعِ لَا يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْأَكْلِ وَسِيَاقُ مَا تَقَرَّرَ أَنْ يُقَالَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا إِعْيَاءٌ وَلَا مَشَقَّةٌ، فنقول ما قال اللَّهُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ أَجَلُّ وَبَيَانُهُ أَجْمَلُ، وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مُخَالَفَةَ الْجَنَّةِ لِدَارِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا أَمَاكِنُهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَوْضِعٌ نَمَسُّ فِيهِ الْمَشَاقَّ وَالْمَتَاعِبَ كَالْبَرَارِيِّ وَالصَّحَارِي وَالطُّرُقَاتِ وَالْأَرَاضِي وَالْآخَرُ: مَوْضِعٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِعْيَاءُ كَالْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي فِي الْأَسْفَارِ مِنَ الْخَانَاتِ فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ فِي مُبَاشَرَةِ شُغْلٍ لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْإِعْيَاءُ إِلَّا بعد ما يَسْتَرِيحُ فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أَيْ لَيْسَتِ الْجَنَّةُ كَالْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَظَانَّ الْمَتَاعِبِ بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ مَرْجِعِ الْعَيِّ، فَقَالَ: وَلا(26/241)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ
أَيْ، لَا نَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى مَوَاضِعَ نَتْعَبُ وَنَرْجِعُ إِلَيْهَا فَيَمَسُّنَا فِيهَا الْإِعْيَاءُ وَقُرِئَ لَغُوبٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالتَّرْتِيبُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَاهِرٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَا نَتْعَبُ وَلَا يَمَسُّنَا مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَوِيَّ السَّوِيَّ إِذَا قَالَ مَا تَعِبْتُ الْيَوْمَ لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا عَمِلَ شَيْئًا لِجَوَازِ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ بالنسبة إليه متعبا لوقته، فَإِذَا قَالَ مَا مَسَّنِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتْعِبًا يُفْهَمُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ قَدْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتْعِبًا لِضَعِيفٍ أَوْ مُتْعِبًا بِسَبَبِ كَثْرَتِهِ، وَاللُّغُوبُ هُوَ مَا يَغْلِبُ مِنْهُ وَقِيلَ النَّصَبُ التَّعَبُ الْمُمْرِضُ، وَعَلَى هَذَا فَحُسْنُ التَّرْتِيبِ ظَاهِرٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَمَسُّنَا مَرَضٌ وَلَا دُونَ ذَلِكَ وهو الذي يعيا منه مباشرة.
[سورة فاطر (35) : آية 36]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر:
29] وَمَا بَيْنَهُمَا كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِالَّذِينِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: 33] قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أَيْ لَا يَسْتَرِيحُونَ بِالْمَوْتِ بَلِ الْعَذَابُ دَائِمٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أَيِ النَّارِ وَفِيهِ لَطَائِفُ: / الْأُولَى: أَنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا إِنْ دَامَ كَثِيرًا يَقْتُلُ فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ الْبَدَنُ وَيَصِيرُ مِزَاجًا فَاسِدًا مُتَمَكِّنًا لَا يُحِسُّ بِهِ الْمُعَذَّبُ، فَقَالَ عَذَابُ نَارِ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَعَذَابِ الدُّنْيَا، إِمَّا أَنْ يُفْنِيَ وَإِمَّا أَنْ يَأْلَفَهُ الْبَدَنُ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَدِيدٌ وَالْمُعَذَّبُ فِيهِ دَائِمٌ الثَّانِيَةُ: رَاعَى التَّرْتِيبَ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ الْعَذَابُ، وَلَا يَفْتُرَ فَقَالَ لَا يَنْقَطِعُ وَلَا بِأَقْوَى الْأَسْبَابِ وَهُوَ الْمَوْتُ حَتَّى يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ولا يجابون كما قال تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] أَيْ بِالْمَوْتِ الثَّالِثَةُ: فِي الْمُعَذَّبِينَ اكْتَفَى بِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَذَابَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ نَزِيدُهُمْ عَذَابًا.
وَفِي الْمُثَابِينَ ذَكَرَ الزِّيَادَةَ بِقَوْلِهِ: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاءِ: 173] ثُمَّ لما بين أن عذابهم لا يخفف.
[سورة فاطر (35) : آية 37]
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أَيْ لَا يُخَفَّفُ وَإِنِ اصْطَرَخُوا وَاضْطَرَبُوا لَا يُخَفِّفُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ إِنْعَامًا إِلَى أَنْ يَطْلُبُوهُ بَلْ يَطْلُبُونَ وَلَا يَجِدُونَ وَالِاصْطِرَاخُ مِنَ الصُّرَاخِ وَالصُّرَاخُ صَوْتُ الْمُعَذَّبِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا أَخْرِجْنا أَيْ صُرَاخُهُمْ بِهَذَا أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا لِأَنَّ صُرَاخَهُمْ كَلَامٌ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِيلَامَهُمْ تَعْذِيبٌ لَا تَأْدِيبٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤَدَّبَ إِذَا قَالَ لِمُؤَدِّبِهِ: لَا أَرْجِعُ إِلَى مَا فَعَلْتُ وَبِئْسَمَا فَعَلْتُ يَتْرُكُهُ، وَأَمَّا الْمُعَذَّبُ فَلَا وَتَرْتِيبُهُ حَسَنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَعْفُو عَنْهُمْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ وَعْدًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ يَصْبِرُ لَعَلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَإِذَا طَالَ لُبْثُهُ تَطَلَّبَ الْإِخْرَاجَ مِنْ غَيْرِ قَطِيعَةٍ عَلَى نفسه فإن لم يقده يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ قَطِيعَةً وَيَقُولُ أَخْرِجْنِي أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ضَالًّا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ضَالٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ كانَ(26/242)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى
[الْإِسْرَاءِ: 72] ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا بَعِيدٌ مُحَالٌ بِحُكْمِ الْإِخْبَارِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: نَعْمَلْ صالِحاً جَازِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِاللَّهِ وَلَا مَثْنَوِيَّةٍ فِيهِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا كَانَ اعْتِمَادُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ عَمَّرْنَاكُمْ مِقْدَارًا يُمْكِنُ التَّذَكُّرُ فِيهِ وَالْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَقَوْلُهُمْ: غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِ فَسَادِ عَمَلِهِمْ لَهُمْ وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَهْدِهِمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَهْدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَمَا قَالُوا رَبُّنَا زِدْتَ لِلْمُحْسِنِينَ حَسَنَاتٍ بِفَضْلِكَ لَا بِعَمَلِهِمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَى تَخْفِيفِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ إِلَى تَضْعِيفِ الثَّوَابِ فَافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ نَظَرًا إِلَى فَضْلِكَ وَلَا تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ نَظَرًا إِلَى عَدْلِكَ وَانْظُرْ إِلَى مَغْفِرَتِكَ الْهَاطِلَةِ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَعْذِرَتِنَا الْبَاطِلَةِ، وَكَمَا هَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ فِي الدُّنْيَا هَدَاهُ فِي الْعُقْبَى حَتَّى دَعَاهُ بِأَقْرَبِ دُعَاءٍ إِلَى الْإِجَابَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِأَطْيَبِ ثَنَاءٍ عِنْدَ الْإِنَابَةِ فَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ وَقَالُوا رَبُّنَا غَفُورٌ اعْتِرَافًا بِتَقْصِيرِهِمْ شَكُورٌ إِقْرَارًا بِوُصُولِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ إِلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:
35] أَيْ لَا عَمَلَ لَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ وَهُمْ قَالُوا: أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً/ إِغْمَاضًا فِي حَقِّ تَعْظِيمِهِ وَإِعْرَاضًا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُنَاسِبُ عَظَمَتَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ آتَاهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِ الْمَحَلِّ مِنَ الْعُمْرِ الطَّوِيلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ فِي الْمَحَلِّ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَفَاعِلِ الْخَيْرِ فِيهِمْ وَمُظْهِرِ السَّعَادَاتِ.
فَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ.
فَإِنَّ الْمَانِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ النَّظَرِ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُرْشِدِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتْلُ عَلَيْهِمْ مَا يُرْشِدُهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَقَوْلُهُ: فَذُوقُوا إِشَارَةٌ إِلَى الدَّوَامِ وَهُوَ أَمَرُّ إِهَانَةً، فَمَا لِلظَّالِمِينَ الَّذِينَ وَضَعُوا أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَأَتَوْا بِالْمَعْذِرَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا مِنْ نَصِيرٍ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ يَنْصُرُهُمْ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ قَوْلُهُ: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَقَوْلُهُ: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الْبَقَرَةِ: 270] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الظَّالِمِ الْجَاهِلَ جَهْلًا مُرَكَّبًا، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ مِنْ نَصِيرٍ أَيْ مِنْ عِلْمٍ يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْبُرْهَانَ سُلْطَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ [إِبْرَاهِيمَ: 10] وَالسُّلْطَانُ أَقْوَى نَاصِرٍ إِذْ هُوَ الْقُوَّةُ أَوِ الْوِلَايَةُ وَكِلَاهُمَا يَنْصُرُ وَالْحَقُّ التَّعْمِيمُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُ وَلَيْسَ غَيْرُهُ نَصِيرًا فَمَا لَهُمْ مِنْ نَصِيرٍ أَصْلًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران: 192] وَقَالَ: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الروم: 29] وقال هاهنا: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أَيْ هَذَا وَقْتُ كَوْنِهِمْ وَاقِعِينَ فِي النَّارِ، فَقَدْ أَيِسَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُمُ النُّصْرَةَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَوَقُّعُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا لَكُمْ مِنْ نَصِيرٍ أَصْلًا، وَهُنَاكَ كَانَ الْأَمْرُ مَحْكِيًّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي أَوَائِلِ الْحَشْرِ، فَنَفَى مَا كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِنْهُمُ النصرة وهم آلهتهم. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)
تَقْرِيرًا لِدَوَامِهِمْ فِي الْعَذَابِ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى:(26/243)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
40] وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْكَافِرُ مَا كَفَرَ بِاللَّهِ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَذَّبَ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عليه غيب السموات فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي الصُّدُورِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ أَنَّ فِي قَلْبِهِ تَمَكُّنُ الْكُفْرِ بِحَيْثُ لَوْ دَامَ إِلَى الْأَبَدِ لَمَا أَطَاعَ اللَّهَ وَلَا عَبَدَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِذاتِ الصُّدُورِ
مَسْأَلَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا مَرَّةً وَنُعِيدُهَا أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الصُّدُورُ هِيَ ذَاتُ اعْتِقَادَاتٍ وَظُنُونٍ، فَكَيْفَ سَمَّى اللَّهُ الِاعْتِقَادَاتِ بِذَاتِ الصُّدُورِ؟ / وَيُقَرِّرُ السُّؤَالَ قَوْلُهُمْ أَرْضٌ ذَاتُ أَشْجَارٍ وَذَاتُ جَنًى إِذَا كَانَ فِيهَا ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الصَّدْرُ فِيهِ اعْتِقَادٌ فَهُوَ ذُو اعْتِقَادٍ، فَيُقَالُ لَهُ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ الصَّدْرِ بِمَا فِيهِ صَارَ مَا فِيهِ كَالسَّاكِنِ الْمَالِكِ حَيْثُ لَا يُقَالُ الدَّارُ ذَاتُ زَيْدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ ذُو دَارٍ وَمَالٍ وَإِنْ كان هو فيها.
[سورة فاطر (35) : آية 39]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ.
تَقْرِيرًا لِقَطْعِ حُجَّتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قالوا: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً [فاطر: 37] وقال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ [فاطر: 37] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْكِينَ وَالْإِمْهَالَ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْمَعْرِفَةُ قَدْ حَصَلَ وَمَا آمَنْتُمْ وَزَادَ عليه بقوله: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] أَيْ آتَيْنَاكُمْ عُقُولًا، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ الْمَعْقُولَ بِالدَّلِيلِ الْمَنْقُولِ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أَيْ نَبَّهَكُمْ بِمَنْ مَضَى وَحَالِ مَنِ انْقَضَى فَإِنَّكُمْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أُهْلِكَ لَكَانَ عِنَادُكُمْ أَخْفَى وَفَسَادُكُمْ أَخَفَّ، لَكِنْ أُمْهِلْتُمْ وَعُمِّرْتُمْ وَأُمِرْتُمْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ بِمَا أُمِرْتُمْ وَجُعِلْتُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ خَلِيفَةً بَعْدَ خَلِيفَةٍ تَعْلَمُونَ حَالَ الْمَاضِينَ وَتُصْبِحُونَ بِحَالِهِمْ رَاضِينَ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً لِأَنَّ الْكَافِرَ السَّابِقَ كَانَ مَمْقُوتًا كَالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَخْدِمُ سَيِّدَهُ وَاللَّاحِقُ الَّذِي أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَنْتَبِهْ أَمْقَتُ كَالْعَبْدِ الَّذِي يَنْصَحُهُ النَّاصِحُ وَيَأْمُرُهُ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ وَيَعِدُهُ وَيُوعِدُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ النُّصْحُ وَلَا يُسْعِدُهُ وَالتَّالِي لَهُمُ الَّذِي رَأَى عَذَابَ مَنْ تَقَدَّمَ وَلَمْ يَخْشَ عَذَابُهُ أَمْقَتُ الْكُلِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أَيِ الْكُفْرُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ حَيْثُ لَا يَزِيدُ إِلَّا الْمَقْتَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يُفِيدُهُمْ إِلَّا الْخَسَارَةَ، فَإِنَّ الْعُمْرَ كَرَأْسِ مَالٍ مَنِ اشْتَرَى بِهِ رِضَا اللَّهِ رَبِحَ، وَمَنِ اشْتَرَى بِهِ سُخْطَهُ خسر. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
تَقْرِيرًا لِلتَّوْحِيدِ وَإِبْطَالًا لِلْإِشْرَاكِ، وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَخْبِرُونِي، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا، يَقُولُ الْقَائِلُ أَرَأَيْتَ مَاذَا فَعَلَ زَيْدٌ؟ فَيَقُولُ السَّامِعُ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى، وَلَوْلَا تَضَمُّنُهُ مَعْنَى أَخْبِرْنِي وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْجَوَابُ إِلَّا قَوْلَهُ لَا أَوْ نَعَمْ، وَقَوْلُهُ: شُرَكاءَكُمُ إِنَّمَا أَضَافَ الشُّرَكَاءَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْنَامَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ(26/244)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
تَكُنْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا هُمْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ، فَقَالَ شُرَكَاءَكُمْ، أَيِ الشُّرَكَاءَ بِجَعْلِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ شُرَكَاءَكُمْ، أَيْ شُرَكَاءَكُمْ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَهُوَ قَرِيبٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَعِيدٌ لِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: أَرُونِي بَدَلٌ عَنْ أَرَأَيْتُمْ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا يُفِيدُ مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتُمْ استفهام حقيقي وأَرُونِي أَمْرُ تَعْجِيزٍ لِلتَّبْيِينِ، فَلَمَّا قَالَ:
أَرَأَيْتُمْ يَعْنِي أَعَلِمْتُمْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهَا كَمَا هِيَ وَعَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَجْزِ أَوْ تَتَوَهَّمُونَ فِيهَا قُدْرَةً، فَإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهَا عَاجِزَةً فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهَا؟ وَإِنْ كَانَ وَقَعَ لَكُمْ أَنَّ لَهَا قُدْرَةً فَأَرُونِي قُدْرَتَهَا فِي أَيِّ شَيْءٍ هِيَ، أَهِيَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ إِلَهُ السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ آلِهَةُ الْأَرْضِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا أُمُورُ الْأَرْضِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ صورها؟ أم هي في السموات، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ بِاسْتِعَانَةِ الملائكة والملائكة شركاء في خلق السموات، وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ صُوَرُهَا؟ أَمْ قُدْرَتُهَا فِي الشَّفَاعَةِ لَكُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا خَلَقُوا شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ فَنَعْبُدُهَا لِيَشْفَعُوا لَنَا، فَهَلْ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ إِذْنُهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ؟ وَقَوْلُهُ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّرَكَاءِ، أَيْ هَلْ آتَيْنَا الشُّرَكَاءَ كِتَابًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ هَلْ آتَيْنَا الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا، أَيْ هَلْ مَعَ مَا جُعِلَ شَرِيكًا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ فِيهِ أَنَّ لَهُ شَفَاعَةً عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَةَ هَؤُلَاءِ إِمَّا بِالْعَقْلِ وَلَا عَقْلَ لِمَنْ يَعْبُدُ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ مِنَ الْأَرْضِ جُزْءًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَلَا فِي السَّمَاءِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَإِمَّا بِالنَّقْلِ وَنَحْنُ مَا آتَيْنَا الْمُشْرِكِينَ كِتَابًا فِيهِ أَمْرُنَا بِالسُّجُودِ لِهَؤُلَاءِ وَلَوْ أَمَرْنَا لَجَازَ كَمَا أَمَرْنَا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا نَقْلِيَّةٌ فَوَعْدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لَيْسَ إِلَّا غُرُورًا غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام.
[سورة فاطر (35) : آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا بَيَّنَ شِرْكَهُمْ قَالَ مُقْتَضَى شِرْكِهِمْ زوال السموات وَالْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا/ لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90، 91] وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً كَانَ حَلِيمًا مَا تَرَكَ تَعْذِيبَهُمْ إِلَّا حِلْمًا مِنْهُ وَإِلَّا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ إِسْقَاطَ السَّمَاءِ وَانْطِبَاقَ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا أَخَّرَ إِزَالَةَ السموات إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ حِلْمًا، وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهًا ثَالِثًا:
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَيْضًا كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ شُرَكَاؤُكُمْ مَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا فِي السَّمَاءِ جُزْءًا وَلَا قَدَرُوا عَلَى الشَّفَاعَةِ، فَلَا عِبَادَةَ لَهُمْ. وَهَبْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهَلْ يَقْدِرُونَ على إمساك السموات وَالْأَرْضِ؟ وَلَا يُمْكِنُهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: 25] وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَخْلُقْ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ قَالَ الْكَافِرُ بِأَنَّ غَيْرَهُ خَلَقَ فَمَا خَلَقَ مِثْلَ مَا خَلَقَ فَلَا شَرِيكَ لَهُ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا، حَلِيمًا حَيْثُ لَمْ يُعَجِّلْ فِي إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَغَفُورًا يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ وَيَرْحَمُهُ وَإِنِ استحق العقاب. ثم قال تعالى:(26/245)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله تعالى إِلَّا نُفُوراً] لَمَّا بَيَّنَ إِنْكَارَهُمْ لِلتَّوْحِيدِ ذَكَرَ تَكْذِيبَهُمْ لِلرَّسُولِ وَمُبَالَغَتَهُمْ فِيهِ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ كَوْنُهُمْ رُسُلًا وَقَالُوا: إِنَّمَا نُكَذِّبُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا، وَلَوْ تَبَيَّنَ لَنَا كَوْنُهُ رَسُولًا لَآمَنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَامِ: 109] وَهَذَا مُبَالَغَةٌ مِنْهُمْ فِي التَّكْذِيبِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ دِينَ إِنْسَانٍ قَدْ يَقُولُ وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ شَيْئًا عَلَيَّ لَقَضَيْتُهُ وَزِدْتُ لَهُ، إِظْهَارًا لِكَوْنِهِ مُطَالِبًا بالباطل، فكذلك هاهنا عَانَدُوا وَقَالُوا وَاللَّهِ لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَكُنَّا أَهْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ أَيْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لَهُمْ بِالْبَيِّنَةِ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ كَانُوا كَافِرِينَ بِاللَّهِ وَبَعْدَهَا صَارُوا كَافِرِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأَنَّهُمْ قَبْلَ الرِّسَالَةِ مَا كَانُوا مُعَذَّبِينَ كَمَا صَارُوا بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَلْعَنُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِرُسُلِهِمْ لَمَّا جَاءُوهُمْ وَقَالُوا لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَأَطَعْنَاهُ/ وَاتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالرُّسُلِ، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفُوا أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبُوا وَمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ وَلَوْلَا كِتَابُ اللَّهِ وَبَيَانُ رَسُولِهِ مِنْ أَيْنَ كَانَ يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا شَيْئًا وَكَذَّبُوا فِي شَيْءٍ؟ بَلِ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ لَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَاذِبٌ وَلَوْ صَحَّ كَوْنُهُ رَسُولًا لَآمَنَّا وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ أي فلما صح لهم مجيؤه بِالْمُعْجِزَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَهْدى وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَهْدَى مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ وَعَلَى هذا فقوله: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ للنبيين كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ زَيْدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً أَيْ صَارُوا أَضَلَّ مِمَّا كَانُوا وَكَانُوا يَقُولُونَ نَكُونُ أَهْدَى وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ نَكُونَ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرٍو، وَفِي الْأُمَمِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ أَيْ أَهْدَى مِنْ أَيِّ إِحْدَى الْأُمَمِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ أَيْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَنَصْبُهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلِاسْتِكْبَارِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ النفور وقوله: الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِضَافَةُ الْجِنْسِ إِلَى نَوْعِهِ كَمَا يُقَالُ عِلْمُ الْفِقْهِ وَحِرْفَةُ الْحِدَادَةِ وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ وَمَكَرُوا مَكْرًا سَيِّئًا ثُمَّ عُرِّفَ لِظُهُورِ مَكْرِهِمْ، ثُمَّ تُرِكَ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ وَأُضِيفَ إِلَى السيء لكون السوء فيه أَبْيَنَ الْأُمُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمَكْرَ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْعَمَلِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ [فَاطِرٍ: 10] أَيْ يَعْمَلُونَ السيئات، ومكرهم السيء، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيذَاءِ وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْإِنْكَارِ، ثُمَّ قَالَ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أَيْ لَا يُحِيطُ إِلَّا بِفَاعِلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِأَهْلِهِ فَوَائِدُ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: يَحِيقُ فَهِيَ أَنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ الْإِحَاطَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ اللُّحُوقِ(26/246)
وَفِيهِ مِنَ التَّحْذِيرِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِ وَلَا يَلْحَقُ أَوْ وَلَا يَصِلُ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: بِأَهْلِهِ فَفِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ القائل ولا يحيق المكر السيء إِلَّا بِالْمَاكِرِ، كَيْ لَا يَأْمَنَ الْمُسِيءُ فَإِنَّ من أساء ومكره سيء آخَرُ قَدْ يَلْحَقُهُ جَزَاءً عَلَى سَيِّئَةٍ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ سَيِّئًا فَلَا يَكُونُ أَهْلًا فيأمن المكر السيء، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَفَائِدَتُهُ الْحَصْرُ بِخِلَافِ ما يقول القائل المكر السيء يَحِيقُ بِأَهْلِهِ، فَلَا يُنْبِئُ عَنْ عَدَمِ الْحَيْقِ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَثِيرًا مَا نَرَى أَنَّ الْمَاكِرَ يَمْكُرُ وَيُفِيدُهُ الْمَكْرُ وَيَغْلِبُ الْخَصْمَ بِالْمَكْرِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: إِنَّ الْمَكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَكْرُ الَّذِي مكروه مع النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِخْرَاجِ وَلَمْ يَحِقْ إِلَّا بِهِمْ، حَيْثُ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وغيره وثانيها: هو أن نقول المكر السيء عَامٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنِ الْمَكْرِ
وَأَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَمْكُرُوا وَلَا تُعِينُوا مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السيء/ إِلَّا بِأَهْلِهِ»
وَعَلَى هَذَا فَذَلِكَ الرَّجُلُ الْمَمْكُورُ بِهِ [لَا] يَكُونُ أَهْلًا فَلَا يُرِدْ نَقْضًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمُورَ بِعَوَاقِبِهَا، وَمَنْ مَكَرَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَفَذَ فِيهِ الْمَكْرُ عَاجِلًا فِي الظَّاهِرِ فَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَائِزُ وَالْمَاكِرُ هُوَ الْهَالِكُ وَذَلِكَ مِثْلُ رَاحَةِ الْكَافِرِ وَمَشَقَّةِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يَعْنِي إِذَا كَانَ لِمَكْرِهِمْ فِي الْحَالِ رَوَاجٌ فَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَالْأُمُورُ بِخَوَاتِيمِهَا، فَيَهْلِكُونَ كَمَا هلك الأولون.
وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ هَذَا إِلَّا انْتِظَارُ الْإِهْلَاكِ وَهُوَ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْإِهْلَاكُ لَيْسَ سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا هُوَ سُنَّةُ اللَّهِ بِالْأَوَّلِينَ، فَنَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الْمُطْلَقُ يُضَافُ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُقَالُ فِيمَا إِذَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو كيف ضرب مع ماله مِنَ الْعَزْمِ وَالْقُوَّةِ وَعَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ كيف ضرب مع ماله مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ بِهِمْ أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ سُنَّتْ بِهِمْ وَأَضَافَهَا إلى نفسه بعدها بقوله:
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ أَضَافَهَا فِي الْأَوَّلِ إليهم حيث قال: سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ الْإِهْلَاكُ بِالْإِشْرَاكِ وَالْإِكْرَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ أَيَّهُمَا فَإِذَا قَالَ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تَمَيَّزَتْ وَفِي الثَّانِي أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهَا لَمَّا عُلِمَتْ فَالْإِضَافَةُ إلى الله تعظمها وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لَيْسَ لَهَا مِنْ دَافِعٍ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ اسْتِئْصَالُهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِتْيَانَ بِسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ وَاللَّهُ يَأْتِي بِسُنَّةٍ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: التَّبْدِيلُ تَحْوِيلٌ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي التَّكْرَارِ؟ نقول بقوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا تبديل له بغيره، وبقوله: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ مَعَ أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهُ بِالثَّوَابِ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ إِلَى غَيْرِهِ فَيَتِمُّ تَهْدِيدُ الْمُسِيءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامًّا كَأَنَّهُ قَالَ فَلَنْ تَجِدَ أَيُّهَا السَّامِعُ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: سُنَّةُ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ مَا بَقِيَ فِي الْقَوْمِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، فَإِذَا/ آمَنَ مَنْ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُؤْمِنُ يُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ نُوحٌ:(26/247)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ [نُوحٍ: 27] أَيْ تُمْهِلُ الْأَمْرَ وجاء وقت سنتك.
[سورة فاطر (35) : آية 44]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ لِلْأَوَّلِينَ سُنَّةً وَهِيَ الْإِهْلَاكُ نَبَّهَهُمْ بِتَذْكِيرِ حَالِ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَارِّينَ عَلَى دِيَارِهِمْ رَائِينَ لِآثَارِهِمْ وَأَمَلُهُمْ كَانَ فَوْقَ أَمَلِهِمْ وَعَمَلُهُمْ كَانَ دُونَ عَمَلِهِمْ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِطُولِ أَعْمَارِهِمْ وَشِدَّةِ اقْتِدَارِهِمْ، وَأَمَّا عَمَلُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا مِثْلَ مُحَمَّدٍ وَلَا مُحَمَّدًا وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ كَذَّبْتُمْ مُحَمَّدًا وَمَنْ تَقَدَّمَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ، بَقِيَ فِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْأَوَّلُ: قال هناك: كانُوا أَشَدَّ [الروم: 9] من غير واو، وقال هاهنا بِالْوَاوِ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَمَا رَأَيْتَ زَيْدًا كَيْفَ أَكْرَمَنِي وَأَعْظَمُ مِنْكَ، يُفِيدُ أَنَّ الْقَائِلَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ زَيْدًا أَعْظَمُ، وَإِذَا قَالَ: أَمَا رَأَيْتَهُ كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ يُفِيدُ أَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَأَنَّهُ رَآهُ أَكْرَمَهُ وَرَآهُ أَكْبَرَ مِنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الْأَخِيرَةَ تُفِيدُ كَوْنَ الْأَمْرِ الثَّانِي فِي الظُّهُورِ مِثْلَ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْلَامٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ وَلَا إِخْبَارٍ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فنقول المذكور هاهنا كَوْنُهُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً لَا غَيْرَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ فَقَالَ بِالْوَاوِ أَيْ نَظَرُكُمْ كَمَا يَقَعُ عَلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ يَقَعُ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَأَمَّا هُنَاكَ فَالْمَذْكُورُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها [الرُّومِ: 9] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غَافِرٍ: 82] وَلَعَلَّ عِلْمَهُمْ لَمْ يَحْصُلْ بِإِثَارَتِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ بِكَثْرَتِهِمْ وَلَكِنْ نَفْسُ الْقُوَّةِ وَرُجْحَانُهُمْ فِيمَا عَلَيْهِمْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تَعْتَقِدُ فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُمْ أَيْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مَعَ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ مَا أَعْجَزُوا اللَّهَ وَمَا فَاتُوهُ فَهُمْ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُعْجِزُوهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِ الْجُهَّالِ فَإِنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: هَبْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَطْوَلَ أَعْمَارًا لَكِنَّا نَسْتَخْرِجُ بِذَكَائِنَا مَا يَزِيدُ عَلَى قُوَاهُمْ وَنَسْتَعِينُ/ بِأُمُورٍ أَرْضِيَّةٍ لَهَا خَوَاصُّ أَوْ كَوَاكِبَ سَمَاوِيَّةٍ لَهَا آثَارٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً على إهلاكهم واستئصالهم. ثم قال تعالى:
[سورة فاطر (35) : آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
لَمَّا خَوَّفَ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ بِمَنْ مَضَى وَكَانُوا مِنْ شِدَّةِ عِنَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالْعَذَابِ وَيَقُولُونَ عَجِّلْ لَنَا عَذَابَنَا فَقَالَ اللَّهُ: لِلْعَذَابِ أَجَلٌ وَاللَّهُ لَا يؤاخذ الله النَّاسَ بِنَفْسِ الظُّلْمِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ، وإنما(26/248)
يُؤَاخِذُ بِالْإِصْرَارِ وَحُصُولِ يَأْسِ النَّاسِ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَوُجُودِ الْإِيمَانِ مِمَّنْ كَتَبَ اللَّهُ إِيمَانَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ يُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يَوْمٍ إِهْلَاكٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ اللَّهُ يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا فَمَا بَالُ الدَّوَابِّ يَهْلِكُونَ؟ نَقُولُ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: إِنَّ خَلْقَ الدَّوَابِّ نِعْمَةٌ فَإِذَا كَفَرَ النَّاسُ يُزِيلُ اللَّهُ النِّعَمَ وَالدَّوَابُّ أَقْرَبُ النِّعَمِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُرَكَّبَ وَالْمُرَكَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَامِيًا وَالنَّامِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبَاتًا، وَالْحَيَوَانُ إِمَّا إِنْسَانٌ وَإِمَّا غَيْرُ إِنْسَانٍ فَالدَّوَابُّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ لِلْإِنْسَانِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْعَذَابِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّ بَقَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ بَقَاءَ الْإِنْسَانِ بِالْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُدَبِّرُ الْأَشْيَاءَ وَيُصْلِحُهَا فَتَبْقَى الْأَشْيَاءُ ثُمَّ ينتفع بها الإنسان فيبقى الْإِنْسَانُ فَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ عَامًّا لَا يَبْقَى مِنَ الْإِنْسَانِ مَنْ يُعَمِّرُ فَلَا تَبْقَى الْأَبْنِيَةُ والزروع فلا تَبْقَى الْحَيَوَانَاتُ الْأَهْلِيَّةُ لِأَنَّ بَقَاءَهَا بِحِفْظِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهَا عَنِ التَّلَفِ وَالْهَلَاكِ بِالسَّقْيِ وَالْعَلْفِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَطَرِ هُوَ إِنْعَامٌ مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا الْإِنْعَامَ قُطِعَتِ الْأَمْطَارُ عَنْهُمْ فَيَظْهَرُ الْجَفَافُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَتَمُوتُ جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لِأَنَّ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْأَمْطَارِ تَمُوتُ حَيَوَانَاتُ الْبَرِّ، أَمَّا حَيَوَانَاتُ الْبَحْرِ فَتَعِيشُ بِمَاءِ الْبِحَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى ظَهْرِها كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَكَيْفَ عُلِمَ؟ نَقُولُ مِمَّا تَقَدَّمَ وَمِمَّا تَأَخَّرَ، أَمَّا مَا تَقَدَّمَ فَقَوْلُهُ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [فاطر: 44] فَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ الصَّالِحَةِ لِعَوْدِ الْهَاءِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ فَقَوْلُهُ: مِنْ دَابَّةٍ لِأَنَّ الدَّوَابَّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ لِمَا عَلَيْهِ الْخَلْقُ مِنَ الْأَرْضِ وَجْهُ الْأَرْضِ/ وَظَهْرُ الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ مُقَابِلُ الظَّهْرِ كَالْمُضَادِّ؟ نَقُولُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَرْضَ كَالدَّابَّةِ الْحَامِلَةِ لِلْأَثْقَالِ وَالْحَمْلُ يَكُونُ عَلَى الظَّهْرِ يُقَالُ لَهُ ظَهْرُ الْأَرْضِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُقَابِلُ لِلْخَلْقِ الْمُوَاجِهُ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ وَجْهُهَا، عَلَى أَنَّ الظَّهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبَطْنِ وَالظَّهْرُ وَالظَّاهِرُ مِنْ بَابٍ وَالْبَطْنُ وَالْبَاطِنُ مِنْ بَابٍ، فَوَجْهُ الْأَرْضِ ظَهْرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ مِنْهَا بَاطِنٌ وَبَطْنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وُجُوهٌ أَحَدُهَا: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُسَمًّى مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ثَانِيهَا: يَوْمَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَلْقِ مَنْ يُؤْمِنُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ثَالِثُهَا: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ وَأَجَلُ قَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَيَّامُ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَقَالَ: لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَالِ: 25] قَالَ: فَإِذَا جَاءَ الْهَلَاكُ فَاللَّهُ بِالْعِبَادِ بَصِيرٌ، إِمَّا أَنْ يُنَجِّيهِمْ أَوْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ تَقْرِيبًا مِنَ اللَّهِ لَا تَعْذِيبًا، لَا يُقَالُ قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِمُجَرَّدِ الظُّلْمِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ حِينَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى الضَّلَالِ وَنَقُولُ بِأَنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْإِهْلَاكِ يُهْلِكُ الْمُؤْمِنَ فَكَيْفَ هَذَا، نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِفْنَاءَ إِنْ كَانَ لِلتَّعْذِيبِ فَهُوَ مُؤَاخَذَةٌ بِالذَّنْبِ وَإِهْلَاكٌ، وَإِنْ كَانَ لِإِيصَالِ الثَّوَابِ فَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ وَلَا بِمُؤَاخَذَةٍ، وَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ إِلَّا عِنْدَ عُمُومِ الكفر، وقوله: بَصِيراً اللَّفْظُ أَتَمُّ فِي التَّسْلِيَةِ مِنَ الْعَلِيمِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْبَصِيرَ بِالشَّيْءِ النَّاظِرَ إِلَيْهِ أَوْلَى بِالْإِنْجَاءِ مِنَ الْعَالِمِ بِحَالَةٍ دُونَ أَنْ يَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.(26/249)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
سُورَةُ يس
ثَمَانُونَ وَثَلَاثُ آيَاتٍ مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
قَدْ ذَكَرْنَا كَلَامًا كُلِّيًّا فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَذَكَرْنَا أَنَّ فِي كُلِّ سُورَةٍ بَدَأَ اللَّهُ فِيهَا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي كَانَ في أَوَائِلُهَا الذِّكْرَ أَوِ الْكِتَابَ أَوِ الْقُرْآنَ وَلْنَذْكُرْ هاهنا أَبْحَاثًا:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُمُورًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَلَكِنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَنَقُولُ مَا هُوَ الْكُلِّيُّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيهَا، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ نِصْفَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ حَرْفًا، وَهِيَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى قَوْلِنَا الْهَمْزَةُ أَلِفٌ مُتَحَرِّكَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْحُرُوفَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ مِنَ الْأَلِفِ إِلَى الذَّالِ وَتِسْعَةُ أَحْرُفٍ أُخَرَ فِي آخِرِ الْحُرُوفِ مِنَ الْفَاءِ إِلَى الْيَاءِ وَعَشَرَةٌ مِنَ الْوَسَطِ مِنَ الرَّاءِ إِلَى الْغَيْنِ، وَذَكَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَرْفَيْنِ هُمَا الْأَلِفُ وَالْحَاءُ وَتَرَكَ سَبْعَةً وَتَرَكَ مِنَ الْقِسْمِ الْآخَرِ حَرْفَيْنِ هُمَا الْفَاءُ وَالْوَاوُ وَذَكَرَ سَبْعَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ وَالصَّدْرِ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُوَ الْخَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ حُرُوفِ الشَّفَةِ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَتْرُكْهُ وَهُوَ الْمِيمُ، وَالْعَشْرُ الْأَوَاسِطُ ذَكَرَ مِنْهَا حَرْفًا وَتَرَكَ حَرْفًا فَذَكَرَ الرَّاءَ وَتَرَكَ الزَّايَ وَذَكَرَ السِّينَ وَتَرَكَ الشِّينَ وَذَكَرَ الصَّادَ وَتَرَكَ الضَّادَ وَذَكَرَ الطَّاءَ وَتَرَكَ الظَّاءَ وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَتَرَكَ الْغَيْنَ، وَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا يَقَعُ اتِّفَاقًا بَلْ هُوَ تَرْتِيبٌ مَقْصُودٌ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ، وَأَمَّا أَنَّ عَيْنَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَظَاهِرٌ وَهَبْ أَنَّ وَاحِدًا يَدَّعِي فِيهَا شَيْئًا فَمَاذَا يَقُولُ فِي كَوْنِ بَعْضِ السُّوَرِ مُفْتَتَحَةً بِحَرْفٍ كَسُورَةِ ن وَق وَص وَبَعْضِهَا بِحَرْفَيْنِ كَسُورَةِ حم وَيس وَطس وَطه وَبَعْضِهَا بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَسُورَةِ الم وَطسم وَالر وَبَعْضِهَا بِأَرْبَعَةٍ كَسُورَتَيْ المر والمص وَبَعْضِهَا بِخَمْسَةِ أَحْرُفٍ كَسُورَتَيْ حم عسق وَكهيعص وَهَبْ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ، إِمَّا حَرْفٌ، وَإِمَّا فِعْلٌ، وَإِمَّا اسْمٌ، وَالْحَرْفُ كَثِيرًا مَا جَاءَ عَلَى حَرْفٍ كَوَاوِ الْعَطْفِ وَفَاءِ التَّعْقِيبِ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَافِ التَّشْبِيهِ وَبَاءِ الْإِلْصَاقِ/ وَغَيْرِهَا وَجَاءَ عَلَى حَرْفَيْنِ كَمَنْ لِلتَّبْعِيضِ وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَأَمْ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُتَوَسِّطِ وَأَنْ لِلشَّرْطِ وَغَيْرِهَا وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَالْحَرْفُ جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَإِلَى وَعَلَى فِي الْحَرْفِ وَإِلَى وَعَلَى فِي الِاسْمِ وَأَلَا يَأْلُو وَعَلَا يَعْلُو فِي الْفِعْلِ، وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ جَاءَ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَالِاسْمُ خَاصَّةً جَاءَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ كَفُجْلٍ وَسُجْلٍ وَجِرْدَحْلٍ فَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكِيبَ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَمَاذَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ السُّوَرِ(26/250)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ وَالْبَعْضِ بِأَكْثَرَ فَلَا يَعْلَمُ تَمَامَ السِّرِّ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَنَقُولُ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْهَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهَا لِسَانِيَّةٌ، وَمِنْهَا جَارِحِيَّةٌ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قِسْمَانِ قِسْمٌ عُقِلَ مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ وَقِسْمٌ لَمْ يُعْلَمْ، أَمَّا الْقَلْبِيَّةُ مَعَ أَنَّهَا أَبْعَدُ عَنِ الشَّكِّ وَالْجَهْلِ فَفِيهَا مَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلُهُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاعْتِقَادُ سَمْعًا كَالصِّرَاطِ الَّذِي [هُوَ] أَرَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَيَمُرُّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُوقِنُ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَالْمِيزَانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي لَا ثِقَلَ لَهَا فِي نَظَرِ النَّاظِرِ وَكَيْفِيَّاتِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وُجُودُهَا لَمْ يُعْلَمْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ إِمْكَانُهَا وَوُقُوعُهَا مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ بِالسَّمْعِ وَمِنْهَا مَا عُلِمَ كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ الْجَارِحِيَّةِ مَا عُلِمَ مَعْنَاهُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَمَقَادِيرِ النُّصُبِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا آتِيًا بِمَحْضِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ الْفَائِدَةَ فَرُبَّمَا يَأْتِي بِهِ لِلْفَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ انْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ مِنْ هاهنا ولم يعلم بِمَا فِي النَّقْلِ فَنَقَلَهَا وَلَوْ قَالَ انْقُلْهَا فَإِنَّ تَحْتَهَا كَنْزًا هُوَ لَكَ يَنْقُلُهَا وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ، إِذَا عَلِمَ هَذَا فَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الذِّكْرِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ الْمَعْبُودِ الْآمِرِ النَّاهِي فَإِذَا قَالَ: حم، يس، الم، طس عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَفْهَمُهُ أَوْ يُفَهَّمُهُ فَهُوَ يَتَلَفَّظُ بِهِ إِقَامَةً لِمَا أُمِرَ بِهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قِيلَ فِي خُصُوصِ يس إِنَّهُ كَلَامٌ هُوَ نِدَاءٌ مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ، وَتَقْرِيرُهُ هُوَ أَنَّ تَصْغِيرَ إِنْسَانٍ أُنَيْسِينٌ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ الصَّدْرَ مِنْهُ وَأَخَذَ الْعَجُزَ وَقَالَ: يس أَيْ أُنَيْسِينُ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] .
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ يس إِمَّا بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ قَوْلُهُ هَذِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ يس، وَإِمَّا بِالضَّمِّ عَلَى نِدَاءِ الْمُفْرَدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَحَيْثُ، وَقُرِئَ يس إِمَّا بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى اتْلُ يس وَإِمَّا بِالْفَتْحِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ، وَقُرِئَ يس بِالْكَسْرِ كَجِيرٍ لِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَرِّ لِأَنَّ إِضْمَارَ الْجَارِّ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ فِيهِ حَرْفُ قَسَمٍ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَيْ ذِي الْحِكْمَةِ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ ذَاتِ رِضًا أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحِكْمَةِ فَهُوَ كَالْحَيِّ الْمُتَكَلِّمِ. وقوله تعالى:
[سورة يس (36) : آية 3]
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
مُقْسَمٌ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكُفَّارُ أَنْكَرُوا كَوْنَ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا وَالْمَطَالِبُ تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْقَسَمِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِقْسَامِ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ تُوجِبُ خَرَابَ الْعَالَمِ وصحح النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: «الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ»
ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصِيبُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ عَذَابٌ وَهِيَ الْكَوَاكِبُ فكان النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَحْلِفُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِنْزَالِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ وَبِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ يُصِيبُهُ عَذَابٌ بَلْ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ أَرْفَعَ شَأْنًا وَأَمْنَعَ مَكَانًا فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِقَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاذِبٍ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ إِذَا وَقَعَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَغَلَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِتَمْشِيَةِ دَلِيلِهِ وَأَسْكَتَهُ يَقُولُ الْمَطْلُوبُ إِنَّكَ قَرَّرْتَ هَذَا بِقُوَّةِ جِدَالِكَ وَأَنْتَ خَبِيرٌ فِي نَفْسِكَ بِضَعْفِ مَقَالِكَ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ وَإِنْ أَقَمْتَ عليه(26/251)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
صُورَةَ دَلِيلٍ وَعَجَزْتُ أَنَا عَنِ الْقَدْحِ فِيهِ، وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ بَيْنَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ فَعِنْدَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، لِأَنَّ السَّاكِتَ الْمُنْقَطِعَ يَقُولُ فِي الدَّلِيلِ الْآخَرِ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلَا يَجِدُ أَمْرًا إِلَّا الْيَمِينَ، فَيَقُولُ وَاللَّهِ إِنِّي لَسْتُ مُكَابِرًا وَإِنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ وَلَوْ عَلِمْتُ خِلَافَهُ لَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَهَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْيَمِينُ، فَكَذَلِكَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لَمَّا أَقَامَ الْبَرَاهِينَ وَقَالَتِ الْكَفَرَةُ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سَبَأٍ: 43] تَعَيَّنَ التَّمَسُّكُ بِالْأَيْمَانِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الدَّلِيلِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ خَرَجَ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ مُرْسَلًا هُوَ الْمُعْجِزَةُ وَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الدَّلِيلِ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ؟ قُلْنَا الدَّلِيلُ أَنَّ ذِكْرَهُ «1» فِي صُورَةِ الْيَمِينِ قَدْ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ سَامِعٌ فَلَا يَقْبَلُهُ فُؤَادُهُ فَإِذَا ابْتُدِئَ بِهِ عَلَى صُورَةِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ لَا يَقَعُ لَا سِيَّمَا مِنَ الْعَظِيمِ الْأَعْلَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْأَمْرُ الْعَظِيمُ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ فَلِصُورَةِ الْيَمِينِ تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَجْسَامُ، وَلِكَوْنِهِ دَلِيلًا شَافِيًا يَتَشَرَّبُهُ الْفُؤَادُ فَيَقَعُ فِي السَّمْعِ وَيَنْفَعُ فِي الْقَلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُ الْقُرْآنِ حَكِيمًا عِنْدَهُمْ لِكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَسَمٍ، نَقُولُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً بَيِّنٌ إِنْ أَنْكَرُوهُ قِيلَ لَهُمْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَالثَّانِي:
أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَثِقُ بِيَمِينِ غَيْرِهِ إِلَّا إِذَا حَلَفَ بِمَا يُعْتَقَدُ عَظَمَتُهُ، فَالْكَافِرُ إِنْ حَلَفَ بِمُحَمَّدٍ لَا نُصَدِّقُهُ كَمَا نُصَدِّقُهُ لَوْ حَلَفَ بِالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ، وَلَوْ حَلَفَ بِدِينِنَا الْحَقِّ لَا يُوثَقُ بِمِثْلِ مَا يُوثَقُ بِهِ لَوْ حَلَفَ بِدِينِهِ الْبَاطِلِ وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أن النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ فَحَلِفُهُ بِهِ هُوَ الذي يوجب ثقتهم به. وقوله تعالى:
[سورة يس (36) : آية 4]
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ أَنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْمُسْتَقِيمُ/ أَقْرَبُ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالدِّينِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَلَّى عَنْ غَيْرِهِ وَالْمَقْصِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمُتَوَجِّهُ إِلَى الْمَقْصِدِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُوَلِّي عَنْهُ وَالْمُتَحَرِّفِ مِنْهُ وَلَا يَذْهَبُ فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَ النَّاسِ مُجْتَبًى لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ وَقَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ يُعْلَمُ مِنْهُ فَسَادُ قَوْلِ الْمُبَاحِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمُكَلَّفُ يَصِيرُ وَاصِلًا إِلَى الْحَقِّ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرْسَلِينَ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا فَهُمْ سَالِكُونَ سَائِحُونَ مُهْتَدُونَ مُنْتَهِجُونَ إِلَى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز. وقوله تعالى:
[سورة يس (36) : آية 5]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قُرِئَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِعْلُهُ مَنْوِيٌّ كَأَنَّهُ قَالَ نُزِّلَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَوِ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مَنْوِيٍّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعني
__________
(1) في الأصل «أن ذكر لا» ولما كان لا معنى لها فمما لا شك فيه أنها مصحفة عما ذكرناه، لأن كتابة الهاء المربوطة في الخط قريبة من «لا» في الصورة فهي مصحفة عنها.(26/252)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَنْوِيٍّ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِتُنْذِرَ كَأَنَّهُ قَالَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ لِلْإِنْذَارِ وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِمَّا أَنْ يُخَالِفُوا الْمُرْسِلَ وَيُهِينُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ الْمَلِكُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ عَزِيزًا أَوْ يَخَافُوا الْمُرْسِلَ وَيُكْرِمُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ يَرْحَمُهُمُ الْمَلِكُ، أَوْ نَقُولُ الْمُرْسَلُ يَكُونُ مَعَهُ فِي رِسَالَتِهِ مَنْعٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَإِطْلَاقٌ لِأَشْيَاءَ فَالْمَنْعُ يُؤَكِّدُ الْعِزَّةَ وَالْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ. وقوله تعالى:
[سورة يس (36) : آية 6]
لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَصِ: 46] وَقِيلَ الْمُرَادُ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، فَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَعْنَاهُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِينَ أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، فَعَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ تَفْسِيرُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُ وَبَعُدَ الْإِنْذَارُ عَنْهُ فَهُوَ يَكُونُ غَافِلًا، وَعَلَى قَوْلِنَا هِيَ لِلْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِتُنْذِرَهُمْ إِنْذَارَ آبَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ غَافِلُونَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ يُفْهَمُ التَّفْسِيرَانِ وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ آبَاؤُهُمْ مُنْذَرِينَ وَالْآخَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُنْذَرِينَ وَبَيْنَهُمَا تَضَادٌّ؟ نَقُولُ عَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ مَعْنَاهُ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْذَارُ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ آبَائِهِمْ مُنْذَرِينَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُنْذَرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يكون النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ الْيَهُودِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ أُنْذِرُوا، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا مَا لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا هِيَ نَافِيَةٌ فَكَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السَّجْدَةِ: 3] وَقُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ آبَاءَهُمْ قَدْ أُنْذِرُوا بَعْدَ ضَلَالِهِمْ وَبَعْدَ إِرْسَالِ مَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَمَا دَامَ فِي الْقَوْمِ مَنْ يُبَيِّنُ دِينَ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَيَأْمُرُ بِهِ لَا يُرْسَلُ الرَّسُولُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يُبَيِّنُ وَيَضِلُّ الْكُلُّ وَيَتَبَاعَدُ الْعَهْدُ وَيَفْشُو الْكُفْرُ يَبْعَثُ رَسُولًا آخَرَ مُقَرِّرًا لِدِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ وَاضِعًا لِشَرْعٍ آخَرَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أَيْ ما أنذروا بعد ما ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَخَلُوا فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمُ الْأَدْنَوْنَ بعد ما ضَلُّوا، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا بِالْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَهُمْ غافِلُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْغَفْلَةِ، أَمَّا إِنْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَلِّغُهُمْ شَرِيعَةً وَيُخَالِفُونَهُ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْذِيبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وَكَذَلِكَ مَنْ خَالَفَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ الرُّسُلِ يَسْتَحِقُّ الْإِهْلَاكَ مِنْ غَيْرِ بَعْثَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِي قَوْمٍ عِلْمًا بِوُجُوبِ الْأَشْيَاءِ وَتَرَكُوهُ لَا يَكُونُونَ غَافِلِينَ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَعْذِيبُهُمْ على بعثة الرسل. ثم قال تعالى:
[سورة يس (36) : آية 7]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)(26/253)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَوِ الْإِنْزَالَ لِلْإِنْذَارِ، أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَيْهِ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْإِنْذَارُ وَقَدْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُنْذَرِينَ كَثِيرٌ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ القول هو قوله تعالى: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ... لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص: 85] ، الثَّانِي: هُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ لَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ هَذَا يُؤْمِنُ وَأَنَّ هَذَا لَا يُؤْمِنُ فَقَالَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ إِنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وقال في حق غيره أنه يؤمن فحق الْقَوْلُ أَيْ وُجِدَ وَثَبَتَ بِحَيْثُ لَا يُبَدَّلُ بِغَيْرِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَانَ بُرْهَانُهُ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّفُ لِاسْتِمَاعِ الدَّلِيلِ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ إِذَا بَانَ لَهُ الْبُرْهَانُ، فَإِذَا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن أكثرهم فأكثرهم تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِمُضِيِّ وَقْتِ رَجَاءِ الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عند ما حَقِّ الْقَوْلِ وَاسْتَمَرُّوا فَإِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ شَيْئًا أَوْضَحَ مِنَ الْبُرْهَانِ فَهُوَ الْعِيَانُ/ وَعِنْدَ الْعِيَانِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانُ، وَقَوْلُهُ: عَلى أَكْثَرِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَالْبُرْهَانُ قَلِيلُونَ فَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ مَاتُوا عَلَى الكفر ولم يؤمنوا وفيه وجه رابع وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَقَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ قريب من الأول. ثم قال تعالى:
[سورة يس (36) : آية 8]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنا وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّا جَعَلْنَاهُمْ مُمْسِكِينَ لَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الْإِسْرَاءِ: 29] وَالثَّانِي:
أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ حَيْثُ حَلَفَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يَرْضَخُ رَأْسَ مُحَمَّدٍ، فَرَآهُ سَاجِدًا فَأَخَذَ صَخْرَةً وَرَفَعَهَا لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَالْتَزَقَتْ بِيَدِهِ وَيَدُهُ بِعُنُقِهِ. وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَقْوَى وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ لِلْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنَاسَبَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ؟ نَقُولُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَهُ مُنَاسَبَةٌ وَهِيَ أَنَّ قوله تعالى: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] يَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَالزَّكَاةُ مُنَاسِبَةٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يُزَكُّونَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَمُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: 7] وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُرْهَانُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ عَايَنُوا وَأَبْصَرُوا مَا يَقْرُبُ مِنَ الضَّرُورَةِ حَيْثُ الْتَزَقَتْ يَدُهُ بِعُنُقِهِ وَمُنِعَ مِنْ إِرْسَالِ الْحَجَرِ وَهُوَ يُضْطَرُّ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَصْلًا وَالتَّفْسِيرُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَيْدِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة فِي الْغُلِّ إِلَى عُنُقِهِ وَثَانِيهِمَا: وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَغْلَالِ، مَعْنَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ثِقَالًا غِلَاظًا بِحَيْثُ تَبْلُغُ إِلَى الْأَذْقَانِ فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمَغْلُولُ مَعَهَا مِنْ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَيْفَ يُفْهَمُ مِنَ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ الْمَنْعُ مِنَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً فَنَقُولُ الْمَغْلُولُ الذي بلغ(26/254)