تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَبَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْهَا، وَزَعَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ الْأَصْحَابَ سَلَكُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ طُرُقًا كَثِيرَةً. قَالَ: وَأَنَا لَا أَرْتَضِي شَيْئًا مِنْهَا لِأَنَّ الَّتِي ذَكَرُوهَا إِمَّا تَخْصِيصٌ، وَإِمَّا مُعَارَضَةٌ، وَإِمَّا إِضْمَارٌ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِصَّةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْ أَنَّهُ سَيُجْزَى بِجَهَنَّمَ، وَهَذَا وَعِيدٌ قَالَ: وَخُلْفُ الْوَعِيدِ كَرَمٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْلِفَ اللَّه وَعِيدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهُ.
وَأَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَاصِلٌ، فَنُزُولُهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَيَسْقُطُ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: كَمَا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَامًّا فِي كُلِّ قَاتِلٍ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فكذا هاهنا وَجْهٌ آخَرُ يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكَافِرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ، فَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: 92] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ حُكْمَ قَتْلِ الْعَمْدِ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ، فَلَمَّا كَانَ بَيَانُ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ بَيَانًا لِحُكْمٍ اخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ دُخُولِهِمْ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: 94] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَوْا قَوْمًا فَأَسْلَمُوا فَقَتَلُوهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَسْلَمُوا مِنَ الْخَوْفِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً نَازِلًا فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَحْصُلَ التَّنَاسُبُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِالْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: 38] وَقَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النُّورِ: 2] الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ السرقة، والموجب للجلد هو الزنا، / فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِهَذَا الْوَعِيدِ هُوَ هَذَا الْقَتْلُ الْعَمْدُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَزِمَ كَوْنُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا الْحُكْمُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكَافِرِ وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنْشَأَ لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَعِيدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكُفْرُ أَوْ هَذَا الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ، فَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ الْكُفْرَ كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا قَبْلَ هَذَا الْقَتْلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِهَذَا الْقَتْلِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى مَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ يَتَعَمَّدُ قَتْلَ نَفْسٍ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا(10/183)
فِيهَا وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ جَرَى مَجْرَى النَّفْسِ وَمَجْرَى سَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا عَمْدًا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ يَحْصُلُ هَذَا الْوَعِيدُ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْوَاحِدِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَارَهُمَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْوَعِيدَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْخَبَرِ، فَإِذَا جَوَّزَ عَلَى اللَّه الْخُلْفَ فِيهِ فَقَدْ جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، بَلْ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَوَّزَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّه فِي الْوَعِيدِ لِأَجْلِ مَا قَالَ: إِنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ الْخُلْفُ فِي الْقَصَصِ وَالْأَخْبَارِ لِغَرَضِ الْمَصْلَحَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُفْضِي إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَكُلِّ الشَّرِيعَةِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَحَكَى الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهًا آخَرَ، هُوَ الْجَوَابُ وَقَالَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ مَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ هَذَا الْجَزَاءَ إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: جَزَاؤُكَ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ كَذَا وَكَذَا، إِلَّا أَنِّي لَا أَفْعَلُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَثَبَتَ بِسَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْجَزَاءَ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ. قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] وَقَالَ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِرٍ: 17] وَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ:
7، 8] بَلْ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْجَزَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً فَإِنَّ بَيَانَ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ حَصَلَ بِقَوْلِهِ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً إِخْبَارًا عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ تَكْرَارًا، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّهُ تَعَالَى سَيَفْعَلُ لَمْ يَلْزَمِ التَّكْرَارُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ غَيْرَ عُدْوَانٍ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْوَعِيدُ الْبَتَّةَ. وَالثَّانِي: الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ إِذَا تَابَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِيهِ الْوَعِيدُ، وَإِذَا ثَبَتَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ فِيمَا إِذَا حَصَلَ الْعَفْوُ بِدَلِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ إِحْدَى عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَعُمُومَاتُ الْوَعْدِ أَكْثَرُ مِنْ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي تَرْجِيحِ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ وَبَيَّنَّا أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ رَاجِحَةٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَوْبَةُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مَقْبُولَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ فَإِذَا قُبِلَتِ التَّوْبَةُ عَنِ الْكُفْرِ فَالتَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا(10/184)
مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً
[الفرقان: 68- 70] وَإِذَا كَانَتْ تَوْبَةُ الْآتِي بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ مَعَ سَائِرِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقْبُولَةً فَبِأَنْ تَكُونَ تَوْبَةُ الْآتِي بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَحْدَهُ مَقْبُولَةً كَانَ أَوْلَى.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَعْدٌ بِالْعَفْوِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الْكُفْرِ، فَبِأَنْ يَعْفُوَ عنه بعد التوبة أولى واللَّه أعلم.
تم الجزء العاشر، ويليه إن شاء اللَّه تعالى الجزء الحادي عشر، وأوله قول تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من سورة النساء. أعان اللَّه على إكماله.(10/185)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
الجزء الحادي عشر
[تتمة سورة النساء]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
[سورة النساء (4) : آية 94]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمْرُ الْمُجَاهِدِينَ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا بِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مسائل:
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هُنَا وَكَذَلِكَ فِي الْحُجُرَاتِ فَتَثَبَّتُوا مِنْ ثَبَتَ ثَبَاتًا، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ مِنَ الْبَيَانِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، فَمَنْ رَجَّحَ التَّثْبِيتَ قَالَ: إِنَّهُ خِلَافُ الْإِقْدَامِ، وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ التَّأَنِّي وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ، وَمَنْ رَجَّحَ التَّبْيِينَ قَالَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّثْبِيتِ التَّبْيِينُ، فَكَانَ التَّبْيِينُ أَبْلَغَ وَأَكْمَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّرْبُ مَعْنَاهُ السَّيْرُ فِيهَا بِالسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوِ الْجِهَادِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرْبِ بِالْيَدِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا كَانَتْ حَرَكَةُ يَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ سَرِيعَةً، فَجُعِلَ الضَّرْبُ كِنَايَةً عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ غَزَوْتُمْ وَسِرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلم لَسْتَ مُؤْمِنًا.
أَرَادَ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْلِ: 87] أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِلْأَمْرِ، وَمَنْ قَرَأَ السَّلامَ بِالْأَلِفِ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّلَامَ الَّذِي يَكُونُ هُوَ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاكُمْ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا فَتُقْدِمُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ لِتَأْخُذُوا/ مَالَهُ وَلَكِنْ كُفُّوا وَاقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا لِمَنِ اعْتَزَلَكُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ السَّلَامَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَ طَالِبٌ لِلسَّلَامَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ مُؤْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ آمَنَهُ أَيْ لَا نُؤَمِّنُكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ:
الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّ
مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ أَسْلَمَ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ قَوْمِهِ غَيْرُهُ، فَذَهَبَتْ سَرِيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ وَأَمِيرُهُمْ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ، فَهَرَبَ الْقَوْمُ وَبَقِيَ مِرْدَاسٌ لِثِقَتِهِ بِإِسْلَامِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْلَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ إِلَى عَاقُولٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا تَلَاحَقُوا وَكَبَّرُوا كَبَّرَ وَنَزَلَ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَاقَ غَنَمَهُ، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجِدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَقَالَ: قَتَلْتُمُوهُ إِرَادَةَ مَا(11/189)
مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ عَلَى أُسَامَةَ، فَقَالَ أُسَامَةُ يَا رَسُولَ اللَّه اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: فَكَيْفَ وَقَدْ تَلَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه! قَالَ أُسَامَةُ فَمَا زَالَ يُعِيدُهَا حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِي وَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً.
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ
الْقَاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ لَقِيَهُ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ بَيْنَ مُحَلِّمٍ وَبَيْنَهُ إِحْنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَا غَفَرَ اللَّه لَكَ» فَمَا مَضَتْ بِهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَ فَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّه أَرَادَ أَنْ يُرِيَكُمْ عِظَمَ الذَّنَبِ عِنْدَهُ» ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ الْحِجَارَةُ.
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ
الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قَدْ وَقَعَتْ لَهُ مِثْلَ وَاقِعَةِ أُسَامَةَ قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَاذَ بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ أَسْلَمْتُ للَّه تَعَالَى أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّه بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه لَا تَقْتُلْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهُ قَطَعَ يَدِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ بَعْدَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ»
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَشْرَعَ أَحَدُكُمُ الرُّمْحَ إِلَى الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ سِنَانُهُ عِنْدَ نُقْرَةِ نَحْرِهِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه فَلْيَرْفَعْ عَنْهُ الرُّمْحَ»
قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِهَا بِأَسْرِهَا، فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يَظُنُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَاقِعَتِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ هَلْ تُقْبَلُ أَمْ لَا؟ فَالْفُقَهَاءُ قَبِلُوهَا وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَلْ أَوْجَبَ/ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْكَفَرَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الزِّنْدِيقَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشُّورَى: 25] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَفِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِسْلَامُ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عَامٌّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، وَفِي حَقِّ الْبَالِغِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَحَّ الْإِسْلَامُ مِنْهُ لَوَجَبَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا فِي الْكُفْرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» الْحَدِيثَ،
واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ لَا يُحْكَمُ بِهَذَا الْقَدْرِ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَوْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه، فَعِنْدَ قَوْمٍ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّه إِلَى الْعَرَبِ لَا إِلَى الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ الْحَقُّ بَعْدُ مَا جَاءَ وَسَيَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَأَنَّ الدِّينَ الْمَوْجُودَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هو الحق واللَّه أعلم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا عَرَضٌ(11/190)
بِفَتْحِ الرَّاءِ، يُقَالُ: إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْخُذُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ مَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَتَاعُ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ عَارِضٌ زَائِلٌ غَيْرُ بَاقٍ وَمِنْهُ يُسَمِّي الْمُتَكَلِّمُونَ مَا خَالَفَ الْجَوْهَرَ مِنَ الْحَوَادِثِ عَرَضًا لِقِلَّةٍ لُبْثِهِ، فَقَوْلُهُ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي ثَوَابًا كَثِيرًا، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِتَسْمِيَتِهِ عَرَضًا عَلَى كَوْنِهِ سَرِيعَ الْفَنَاءِ قَرِيبَ الِانْقِضَاءِ، وَبِقَوْلِهِ: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّه مَوْصُوفٌ بِالدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ كَمَا قال: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [مريم: 76] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ وَهَذَا يَقْتَضِي تَشْبِيهَ هَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَلْقَوُا/ السَّلَمَ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ فِيمَ وَقَعَ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ أَوَّلَ مَا دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا سَمِعْتُ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ حَقَنْتُ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَلْبَكُمْ مُوَافِقٌ لِمَا فِي لِسَانِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَنْ تَفْعَلُوا بِالدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فُعِلَ بِكُمْ، وَأَنْ تَعْتَبِرُوا ظَاهِرَ الْقَوْلِ، وَأَنْ لَا تَقُولُوا إِنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ، هَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: مَا كَانَ إِيمَانُنَا مِثْلَ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّا آمَنَّا عَنِ الطَّوَاعِيَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَهَؤُلَاءِ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرَادُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ كَمَا أَخْفَى هَذَا الدَّاعِي إِيمَانَهُ عَنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِكُمْ حَتَّى أَظْهَرْتُمْ دِينَكُمْ، فَأَنْتُمْ عَامِلُوهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْإِيمَانِ مَا كَانَ عَامًّا فِيهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قِبْلِ الْهِجْرَةِ حِينَ كُنْتُمْ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ تَأْمَنُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه بِكَلِمَةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَحْدُثُ مَيْلٌ قَلِيلٌ بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتوقى إِلَى أَنْ يَكْمُلَ وَيَسْتَحْكِمَ وَيَحْصُلَ الِانْتِقَالُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ:
كُنْتُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِنَّمَا حَدَثَ فِيكُمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ بِأَسْبَابٍ ضَعِيفَةٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ بِتَقْوِيَةِ ذَلِكَ الْمَيْلِ وَتَأْكِيدِ النَّفْرَةِ عَنِ الْكُفْرِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ كَمَا حَدَثَ فِيهِمْ مَيْلٌ ضَعِيفٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ هَذَا الْخَوْفِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْإِيمَانَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُؤَكِّدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيُقَوِّي تِلْكَ الرَّغْبَةَ فِي صُدُورِهِمْ، فهذا ما عندي فيه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ يَعْنِي إِيمَانُكُمْ كَانَ مِثْلَ إِيمَانِهِمْ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا عَرَفَ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ دُونَ مَا فِي الْقَلْبِ، أَوْ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ حَاصِلًا بِسَبَبٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ حَيْثُ قَوَّى نُورَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ وَأَعَانَكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا مُنْقَطِعًا عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَتَلُوا مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنَ الْعَظَائِمِ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ مَنَّ عَلَيْكُمْ بِأَنْ/ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ.
ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبْيِينِ فَقَالَ: فَتَبَيَّنُوا وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالتَّبْيِينِ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار.(11/191)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَغَّبَ فِي الْجِهَادِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَانُ الْحَالِ فِي قَتْلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْخَطَأِ كَيْفَ، وَعَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ كَيْفَ، وَعَلَى سَبِيلِ تَأْوِيلِ الْخَطَأِ كَيْفَ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَتْبَعَهُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ بَيَانُ فَضْلِ الْمُجَاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا عَاتَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَعَلَّهُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِمْ أَنَّ الْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ عَنِ الْجِهَادِ لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحْذُورِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي عَقِيبِهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَبَيَّنَ فِيهَا فَضْلَ الْمُجَاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ إِزَالَةً لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاتَبَهُمْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ قَتْلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ أَتَى بِالْجِهَادِ فَقَدْ فَازَ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَلْيَحْتَرِزْ/ صَاحِبُهَا مِنْ تِلْكَ الْهَفْوَةِ لِئَلَّا يُخِلَّ مَنْصِبَهُ الْعَظِيمَ فِي الدين بسبب هذه الهفوة، واللَّه أعلم [في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ فِي غَيْرُ فَالرَّفْعُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:
الْقاعِدُونَ وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْمُغَايِرُونَ لِأُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ [النُّورِ: 31] وَذَكَرْنَا جَوَازَ أَنْ يَكُونَ (غَيْرِ) صِفَةَ الْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الْفَاتِحَةِ: 7] قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ رَفْعًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعْنَى لا يستوي القاعدون والمجهدون إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ، أَيِ الَّذِينَ أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ الضَّرَرُ، وَالْكَلَامُ فِي رَفْعِ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: 66] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْقَاعِدِينَ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ، وَالْمُجَاهِدُونَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ غَيْرَ مَرِيضٍ، أَيْ جَاءَنِي زَيْدٌ صَحِيحًا، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَكَقَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [الْمَائِدَةِ: 1] وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا بَيَانُ الْوُجُوهِ فِي هَذِهِ القراءات.
ثم هاهنا بَحْثٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَخْفَشَ قَالَ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ قَوْمٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْخُرُوجِ.
رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فَضِيلَةَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ جَاءَ قَوْمٌ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَالَتُنَا كَمَا تَرَى، وَنَحْنُ نَشْتَهِي الْجِهَادَ، فَهَلْ لَنَا مِنْ طَرِيقٍ؟ فَنَزَلَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
فَاسْتَثْنَاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْقَاعِدِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الأصل في(11/192)
كَلِمَةِ (غَيْرُ) أَنْ تَكُونَ صِفَةً، ثُمَّ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً فَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ حَاصِلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهَا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ أَخْرَجَتْ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ تِلْكَ الْمَفْضُولِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلًا عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَكَانَ الأصل في كلمة (غير) أن تكون صفة كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّرَرُ النُّقْصَانُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمَى أَوِ الْعَرَجِ أَوِ الْمَرَضِ، أَوْ كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَاصِلُ الْآيَةِ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَصِحَّاءُ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءَ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ (غَيْرُ) عَلَى الصِّفَةِ وَقُلْنَا التَّخْصِيصُ/ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَقُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ لَمْ يَلْزَمْ أَيْضًا ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَقُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ لَزِمَ الْقَوْلُ بِالْمُسَاوَاةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُسَاوَاةَ فِي حَقِّ الْأَضِرَّاءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا مَشْرُوطَةٌ بِشَرْطٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَةِ: 91] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا النَّقْلُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ أَقْوَامٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصحة إلى أن يبرأ»
وذكر بعض المفسرون فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التِّينِ: 5، 6] أَنَّ مَنْ صَارَ هَرِمًا كَتَبَ اللَّه تَعَالَى لَهُ أَجْرَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ قَبْلَ هَرَمِهِ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ»
أَنَّ مَا يَنْوِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ دَوَامِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَوْ بَقِيَ أَبَدًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي أَدْرَكَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ اسْتِنَارَةُ الْقَلْبِ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنْ حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِيهِ لِلْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ فَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاعِدُ أَكْثَرَ حَظًّا مِنْ هَذَا الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ هُوَ أَكْثَرَ ثَوَابًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَةِ: 111] فَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّفْسِ عَلَى الْمَالِ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي نحن فيها وهي قوله: الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ عَلَى النَّفْسِ، فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
وَجَوَابُهُ: أَنَّ النَّفْسَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ، فَالْمُشْتَرِي قَدَّمَ ذِكْرَ النَّفْسِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِيهَا أَشَدُّ وَالْبَائِعُ أَخَّرَ ذِكْرَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُضَايَقَةَ فِيهَا أَشَدُّ، فَلَا يَرْضَى بِبَذْلِهَا إِلَّا فِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ لَا يَسْتَوِيَانِ ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الِاسْتِوَاءِ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَيَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، لَا جَرَمَ كَشَفَ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ دَرَجَةً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْذَفُ الْجَارُّ، وَالتَّقْدِيرُ بِدَرَجَةٍ فَلَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ وُصِلَ الْفِعْلُ فَعَمِلَ الثَّانِي: قَوْلُهُ دَرَجَةً أَيْ فَضِيلَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَفَضَّلَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ فَضِيلَةً كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ أَكْرَمَ عَمْرًا إِكْرَامًا(11/193)
والفائدة في التنكير التفخيم. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ/ دَرَجَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ وَكُلًّا مِنَ الْقَاعِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ فَقَدْ وَعَدَهُ اللَّه الْحُسْنَى قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى كَمَا وَعَدَ الْمُجَاهِدِينَ، وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُ أَهْلًا لِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ الْحُسْنَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: أَجْراً وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: انْتَصَبَ بِقَوْلِهِ: وَفَضَّلَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: آجَرَهُمْ أَجْرًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَجْراً. الثاني: انتصب على التمييز ودَرَجاتٍ عَطْفُ بَيَانٍ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى دَرَجاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذكر أولا دَرَجَةً، وهاهنا دَرَجاتٍ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
الْمُرَادُ بِالدَّرَجَةِ لَيْسَ هُوَ الدَّرَجَةَ الْوَاحِدَةَ بِالْعَدَدِ، بَلْ بِالْجِنْسِ، وَالْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْكَثِيرُ بِالنَّوْعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالدَّرَجَاتُ الرَّفِيعَةُ فِي الْجَنَّةِ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُجَاهِدَ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاعِدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَضِرَّاءِ بِدَرَجَةٍ، وَمِنَ الْقَاعِدِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْأَصِحَّاءِ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَبَيْنَ الْقَاعِدِينَ الْأَضِرَّاءِ. الثَّالِثُ:
فَضَّلَ اللَّه الْمُجَاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْجَنَّةِ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. الرَّابِعُ: قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمُجَاهِدِ هُوَ الْمُجَاهِدَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَقَطْ، وَإِلَّا حَصَلَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ كَانَ مُجَاهِدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، أَعْنِي فِي عَمَلِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْقَلْبِ وَهُوَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَةِ، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
وَحَاصِلُ هَذَا الْجِهَادِ صَرْفُ الْقَلْبِ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّه، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ لَا جَرَمَ جَعَلَ فَضِيلَةَ الْأَوَّلِ دَرَجَةً، وَفَضِيلَةَ هَذَا الثَّانِي دَرَجَاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَكْثَرَ جِهَادًا، فَالْقَدْرُ الذي فيه حصل التَّفَاوُتُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ/ الْقَاعِدِينَ فِيهِ، وَعَلِيٌّ مِنَ الْقَائِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ مُبَاشَرَةَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَتْلِ الْكُفَّارِ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الرَّسُولِ لِذَلِكَ، فَيَلْزَمُكُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ مُجَاهَدَةَ الرَّسُولِ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مُجَاهَدَةِ عَلِيٍّ مَعَهُمْ، لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ، وَهَذَا الْجِهَادُ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْجِهَادِ، فَنَقُولُ: فَاقْبَلُوا مِنَّا مِثْلَهُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَعَى فِي إِسْلَامِ سَائِرِ النَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص وعثمان بْنُ مَظْعُونٍ، وَكَانَ يُبَالِغُ فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ في(11/194)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
الْإِيمَانِ وَفِي الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِمَالِهِ، وَعَلِيٌّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ صَبِيًّا مَا كَانَ أَحَدٌ يُسَلِّمُ بِقَوْلِهِ، وَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الذَّبِّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ جِهَادُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْمَدِينَةِ فِي الْغَزَوَاتِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوِيًّا. وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَأَكْثَرُ أَفَاضِلِ الْعَشَرَةِ إِنَّمَا أَسْلَمُوا عَلَى يَدِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجِهَادِ هُوَ حِرْفَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا جِهَادُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ بِالْقَتْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْعَمَلِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْعَمَلِ لَمَّا أَوْجَبَ التَّفَاوُتَ فِي الثَّوَابِ وَالْفَضِيلَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الثَّوَابِ هُوَ الْعَمَلُ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ مُوجِبًا لِلثَّوَابِ لَكَانَ الثَّوَابُ هِبَةً لَا أَجْرًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ أَجْرًا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
الْعَمَلُ علة الثواب لكن لا لذاته، بل بجعل الشَّارِعُ ذَلِكَ الْعَمَلَ مُوجِبًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنَّوَافِلِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ مَوْعُودًا مِنْ عِنْدِ اللَّه بِالْحُسْنَى.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قَامَتْ طَائِفَةٌ بِالْجِهَادِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّوَافِلِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُجَاهِدِينَ سَوَاءٌ كَانَ جِهَادُهُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَالْمُشْتَغِلُ بِالنِّكَاحِ قَاعِدٌ عَنِ الْجِهَادِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ/ بِالْجِهَادِ الْمَنْدُوبِ أفضل من الاشتغال بالنكاح واللَّه أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
[في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ ثَوَابَ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِعِقَابِ مَنْ قَعَدَ عَنْهُ وَرَضِيَ بِالسُّكُونِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ تَوَفَّاهُمُ مَاضِيًا وَلَمْ تَضُمَّ تَاءً مَعَ التَّاءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [الْبَقَرَةِ: 70] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالِ أَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ انْقَرَضُوا وَمَضَوْا، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مُسْتَقْبَلًا، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الآية عامة في حق كل من كان بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي هَذَا التَّوَفِّي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعْنَاهُ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها(11/195)
[الزُّمَرِ: 42] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: 2] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: 28] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السَّجْدَةِ: 11] .
قُلْنَا: خَالِقُ الْمَوْتِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَالرَّئِيسُ الْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ هَذَا الْعَمَلُ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ/ وَسَائِرُ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانُهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يَعْنِي يَحْشُرُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي خَبَرِ (إِنَّ) وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ قَوْلُهُ: قَالُوا لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ، فَحَذَفَ «لَهُمْ» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فَيَكُونُ (قَالُوا لَهُمْ) فِي مَوْضِعِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَهُوَ هَلَكُوا، ثُمَّ فَسَّرَ الْهَلَاكَ بِقَوْلِهِ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَالِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِانْفِصَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا النُّونَ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُ أَوِ الِاسْتِقْبَالُ فَقَدْ يَكُونُ مَفْصُولًا فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَافِ: 24] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] ثانِيَ عِطْفِهِ [الْحَجِّ: 9] فَالْإِضَافَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا لَفْظِيَّةٌ لَا مَعْنَوِيَّةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: 13] وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فَاطِرٍ: 32] وَفِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ فِي هَذِهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي دَارِ الْكُفْرِ وَبَقُوا هُنَاكَ، وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَوْفًا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا لَهُمُ الْكُفْرَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْهِجْرَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: فِيمَ كُنْتُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ. وَثَانِيهَا: فِيمَ كُنْتُمْ فِي حَرْبِ مُحَمَّدٍ أَوْ فِي حَرْبِ أَعْدَائِهِ. وَثَالِثُهَا: لِمَ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ وَلِمَ رَضِيتُمْ بِالسُّكُونِ فِي دِيَارِ الْكُفَّارِ؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ فِيمَ كُنْتُمْ وَكَانَ حَقُّ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولُوا: كُنَّا فِي كَذَا، أَوْ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ مَعْنَى فِيمَ كُنْتُمْ التَّوْبِيخُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ حَيْثُ قَدَرُوا عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَقَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعْتِذَارًا عَمَّا وُبِّخُوا بِهِ، وَاعْتِلَالًا بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ هَذَا الْعُذْرَ بَلْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أَرَادُوا أَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا تُمْنَعُونَ/ فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ دِينِكُمْ، فَبَقِيتُمْ بَيْنَ الْكُفَّارِ لَا لِلْعَجْزِ عَنْ مُفَارَقَتِهِمْ، بَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُفَارَقَةِ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى وَعِيدَهُمْ فَقَالَ:
فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً.(11/196)
ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى فَقَالَ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حِيلَةٍ وَلَا نَفَقَةٍ، أَوْ كَانَ بِهِمْ مَرَضٌ، أَوْ كَانُوا تَحْتَ قَهْرِ قَاهِرٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُهَاجَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أَيْ لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ.
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ فَقَالَ جُنْدَبُ بْنُ ضَمْرَةَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي فَإِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَا أَنِّي لَا أَهْتَدِي الطَّرِيقَ، واللَّه لَا أَبِيتُ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ، فَحَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرٍ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَدْخَلَ الْوِلْدَانِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ؟
قُلْنَا: سُقُوطُ الْوَعِيدِ إِذَا كَانَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ، وَالْعَجْزُ تَارَةً يَحْصُلُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ وَتَارَةً بِسَبَبِ الصِّبَا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْوِلْدَانِ الْأَطْفَالُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمُرَاهِقُونَ مِنْهُمُ الَّذِينَ كَمُلَتْ عُقُولُهُمْ لِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ الْبَالِغُونَ فَلَا سُؤَالَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الشَّيْءِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَةٌ، فَلِمَ قَالَ:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَالْعَفْوُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مَعَ الذَّنْبِ، وَأَيْضًا (عَسَى) كَلِمَةُ الْإِطْمَاعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَطْعِ بِحُصُولِ الْعَفْوِ فِي حَقِّهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسْتَضْعَفَ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَتَمْيِيزُ الضَّعْفِ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي لَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الرُّخْصَةُ شَاقٌّ وَمُشْتَبَهٌ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْمُهَاجَرَةِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْهِجْرَةِ عَنِ الْوَطَنِ فَإِنَّهَا شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ النَّفْرَةِ قَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ كَوْنَهُ عَاجِزًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَفْوِ شَدِيدَةً فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذكر لفظة عَسَى هاهنا؟ فَنَقُولُ: الْفَائِدَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْهِجْرَةِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ لَا تَوْسِعَةَ فِيهِ، حَتَّى أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْبَيِّنَ الِاضْطِرَارِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي غَيْرِهِ. هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لِشِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْ مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ رُبَّمَا ظَنَّ نَفْسَهُ عَاجِزًا عَنْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الْعَفْوَ بِكَلِمَةِ عَسَى لَا بِالْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَطْعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي كانَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: كَانَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ كانَ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ عَادَةُ(11/197)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
اللَّه تَعَالَى أَجْرَاهَا فِي حَقِّ خَلْقِهِ. الثَّالِثُ: لَوْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَفُوٌّ غَفُورٌ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فَقَطْ، وَلَمَّا قَالَ إِنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا وَقَعَ مُخْبِرُهُ عَلَى وَفْقِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صِدْقًا وَحَقًّا وَمُبَرَّأً عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ فإنه لو لم يحصل هاهنا شَيْءٌ مِنَ الذَّنْبِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ فِيهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ دَلَّ عَلَى حُصُولِ الذَّنْبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالْعَفْوِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالِ التَّوْبَةِ فَيَدُلُّ عَلَى ما ذكرناه.
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي وَطَنِهِ نَوْعُ رَاحَةٍ وَرَفَاهِيَةٍ، فَيَقُولُ لَوْ فَارَقْتُ الْوَطَنَ وَقَعْتُ فِي الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ، فَأَجَابَ اللَّه عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً يُقَالُ: رَاغَمْتُ الرَّجُلَ إِذَا فَعَلْتَ مَا يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَغْمَ أَنْفِهِ، يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ/ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَنْفَ عُضْوٌ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَالتُّرَابُ فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ، فَجَعَلُوا قَوْلَهُمْ: رَغْمَ أَنْفِهِ كِنَايَةً عَنِ الذُّلِّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاغَمَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ فَارَقُوا وَخَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ.
وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّه إِلَى بَلَدٍ آخَرَ يَجِدْ فِي أَرْضِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْمِ أَنْفِ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي بَلْدَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذا اسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَوَصَلَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ خَجِلُوا مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَهُ، وَرَغِمَتْ أُنُوفُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا قَالُوهُ واللَّه أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كُنْتَ إِنَّمَا تَكْرَهُ الْهِجْرَةَ عَنْ وَطَنِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَقَعَ فِي الْمَشَقَّةِ وَالْمِحْنَةِ فِي السَّفَرِ، فَلَا تَخَفْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيكَ مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَرَاتِبِ الْعَظِيمَةِ فِي مُهَاجَرَتِكَ مَا يَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ أَعْدَائِكَ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِسَعَةِ عَيْشِكَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرَ رَغْمِ الْأَعْدَاءِ عَلَى ذِكْرِ سَعَةِ الْعَيْشِ لِأَنَّ ابْتِهَاجَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُهَاجِرُ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ عَلَيْهِ بِدَوْلَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَصِيرُ سَبَبًا لِرَغْمِ أُنُوفِ الْأَعْدَاءِ، أَشَدُّ مِنَ ابْتِهَاجِهِ بِتِلْكَ الدَّوْلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا صَارَتْ سَبَبًا لِسَعَةِ الْعَيْشِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الثَّانِي: مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ: إِنْ خَرَجْتُ عَنْ بَلَدِي فِي طَلَبِ هَذَا الْغَرَضِ، فَرُبَّمَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا لَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا أُضَيِّعَ الرَّفَاهِيَةَ الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أَصِلُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا لَا أَصِلُ إِلَيْهِ، فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ:
الْمُرَادُ مَنْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّه ثُمَّ عَجَزَ عَنْ إِتْمَامِهَا، كَتَبَ اللَّه لَهُ ثَوَابَ تَمَامِ تِلْكَ الطَّاعَةِ: كَالْمَرِيضِ يَعْجِزُ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ مِنَ الطَّاعَةِ، فَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ الْعَمَلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم.
وقال آخَرُونَ: ثَبَتَ لَهُ أَجْرُ قَصْدِهِ وَأَجْرُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا أَجْرُ تَمَامِ الْعَمَلِ فَذَلِكَ مُحَالٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هذه الآية هاهنا فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي(11/198)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
الْجِهَادِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ إِلَى السَّفَرِ لِأَجْلِ الرَّغْبَةِ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَدْ وَجَدَ ثَوَابَ الْهِجْرَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرْغِيبَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ثَوَابُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَمَلِ، فَلَا يَصْلُحُ مُرَغِّبًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ فَإِنَّهُ يَجِدُ الثَّوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ/
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»
وَأَيْضًا
رُوِيَ في قصة جُنْدَبِ بْنِ ضَمْرَةَ، أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مَوْتُهُ أَخَذَ يُصَفِّقُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ لَكَ، وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أُبَايِعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُكَ، ثُمَّ مَاتَ فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَوْ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجِبُ الثَّوَابَ عَلَى اللَّه، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْوُقُوعِ، وَحَقِيقَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الْحَجِّ: 26] أَيْ وَقَعَتْ وَسَقَطَتْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْأَجْرِ، وَالْأَجْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَذَاكَ لَا يُسَمَّى أَجْرًا بَلْ هِبَةً.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: عَلَى اللَّهِ وَكَلِمَةُ (عَلَى) لِلْوُجُوبِ، قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَالْجَوَابُ: أَنَّنَا لَا نُنَازِعُ فِي الْوُجُوبِ، لَكِنْ بِحُكْمِ الْوَعْدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ، لَا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَخَرَجَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْغَازِيَ إِذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَجَبَ سَهْمُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَمَا وَجَبَ أَجْرُهُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْأَجْرِ، وَأَيْضًا فَاسْتِحْقَاقُ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِحِيَازَتِهَا، إِذْ لَا تَكُونُ غَنِيمَةً إِلَّا بَعْدَ حِيَازَتِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَالِ: 41] واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ يَغْفِرُ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى أَنْ خَرَجَ، ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة.
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
[في قوله تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ] اعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَيْهَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي زَمَانِ الْخَوْفِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ اللَّه تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ قَصَرَ فُلَانٌ صَلَاتَهُ وَأَقْصَرَهَا وَقَصَّرَهَا، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ/ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَقْصُرُوا مِنْ أَقْصَرَ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: مِنْ قَصَرَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقَصْرُ فِي كَمِّيَّةِ الرَّكَعَاتِ وَعَدَدِهَا أَوْ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، فَلَا جَرَمَ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكُونُ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا الْقَصْرِ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، أَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمَا الْقَصْرُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ(11/199)
بِهَذِهِ الْآيَةِ صَلَاةَ السَّفَرِ، بَلْ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه وَجَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَرَضَ اللَّه صَلَاةَ الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَصَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاةَ الْخَوْفِ رَكْعَةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَفَرِّعَانِ عَلَى مَا إِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ تَقْلِيلُ الرَّكَعَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ إِدْخَالُ التَّخْفِيفِ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الرَّكَعَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكْتَفِيَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ بَدَلَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَنْ يَجُوزَ الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ تَجُوزَ الصَّلَاةُ عِنْدَ تَلَطُّخِ الثَّوْبِ بِالدَّمِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا حَالَ شِدَّةِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَزُولُ فِيمَا يُؤْتَى بِرَكْعَتَيْنِ عَلَى إِتْمَامِ أَوْصَافِهِمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَوْفُ فِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الرَّكَعَاتِ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ خَصْمُهُ بِكَوْنِهِ مُصَلِّيًا، أَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الرَّكَعَاتُ طَالَتِ الْمُدَّةُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَصْرَ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّخْفِيفُ كَمَا يَحْصُلُ بِحَذْفِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ فَكَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ قَائِمًا مُقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْقَصْرِ عَلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَا
رَوَى عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِهَا عليكم فاقبلوا صدقته»
وهذا يدل على أن الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَصْرُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَصْرَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يُؤْتَى بِبَعْضِ الشَّيْءِ، وَيُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا أَنْ يُؤْتَى بِشَيْءٍ/ آخَرَ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى قَصْرًا، وَلَا اقْتِصَارًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِقَامَةَ الْإِيمَاءِ مُقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَجْوِيزَ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَتَجْوِيزَ الصَّلَاةِ مَعَ الثَّوْبِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَصْرًا، بَلْ كُلُّهَا إِثْبَاتٌ لِأَحْكَامٍ جَدِيدَةٍ وَإِقَامَةٌ لِشَيْءٍ مُقَامَ شَيْءٍ آخَرَ، فَكَانَ تَفْسِيرُ الْقَصْرِ بِمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنَ الصَّلاةِ لِلتَّبْعِيضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ جَوَازَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْقَصْرِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ الرَّكَعَاتِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ لَفْظَ الْقَصْرِ كَانَ مَخْصُوصًا فِي عُرْفِهِمْ بِنَقْصِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَصْرَ بِمَعْنَى تَغَيُّرِ الصَّلَاةِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ الْقَصْرِ بِمَعْنَى حَذْفِ الرَّكَعَاتِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَصْرُ رُخْصَةٌ، فَإِنْ شَاءَ الْمُكَلَّفُ أَتَمَّ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى عَلَى الْقَصْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَصْرُ وَاجِبٌ، فَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثِّنْتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَعَدَ بَيْنَهُمَا مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ مُشْعِرٌ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، بَلْ هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَأَمَّا إِيجَابُهُ عَلَى التَّعْيِينِ فَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ(11/200)
مُسْتَعْمَلٍ فِيهِ، أَمَّا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقْلِيلَ الرَّكَعَاتِ، بَلْ تَخْفِيفَ الْأَعْمَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فِيهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَلِفُوا الْإِتْمَامَ، فَرُبَّمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ نُقْصَانًا فِي الْقَصْرِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْجُنَاحَ لِتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ بِالْقَصْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الِاحْتِمَالُ إِنَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ لَهُمْ: رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي هَذَا الْقَصْرِ، أَمَّا إِذَا قَالَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَصْرَ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الْإِتْمَامَ، وَجَعَلْتُهُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِكُمْ، فَهَذَا الِاحْتِمَالُ مِمَّا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ لَائِقًا بِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: اعْتَمَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَصَرْتُ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ، وَمَا ظَهَرَ إِنْكَارٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ جَمِيعَ رُخَصِ السَّفَرِ شُرِعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْوِيزِ، لا على سبيل التعيين جزما فكذا هاهنا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ مِنْهَا مَا
رَوَى عُمَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّه بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
فَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تدل على كون القصر مشروعا جائزا، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ غَيْرُهُ؟
وَلَمَّا دَلَّ لَفْظُ الْقُرْآنِ عَلَى جَوَازِ غَيْرِهِ كَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُبْطِلُ هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْقَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ تَخْفِيفُ الركعات، ولو كان الأمر على مَا ذَكَرُوهُ لَمَا كَانَ هَذَا قَصْرًا فِي صَلَاةِ السَّفَرِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: زَعَمَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الرُّخْصَةِ وَزَعَمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السَّفَرَ مَا لَمْ يُقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرُّخْصَةُ. احْتَجَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِالْآيَةِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ، وَجَزَاءُ الشَّرْطِ هُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ جَوَازُ الْقَصْرِ، وَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الرُّخْصَةِ عِنْدَ انْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ:
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ إِنْ لَمْ يُسَمَّ بِأَنَّهُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ تَطَرَّقَ إِلَى هَذَا النَّصِّ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى النَّصُّ مُعْتَبَرًا فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الضَّرْبَ فِي الأرض شرطا(11/201)
لِحُصُولِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ كَانَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ اسْمًا لِمُطْلَقِ الِانْتِقَالِ لَكَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا دَائِمًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ طُولَ عُمُرِهِ مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الدَّارِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَمِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى السُّوقِ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلًا دَائِمًا امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّه الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ شَرْطًا لِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِمُطْلَقِ الِانْتِقَالِ/ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى سَفَرًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ السَّفَرِ وَاقِعٌ عَلَى الْقَرِيبِ وَعَلَى الْبَعِيدِ، فَعَلِمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى حُصُولِ الرُّخْصَةِ فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ، أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ السَّفَرِ مُقَدَّرٌ، قَالُوا:
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ:
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ تَامٍّ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَصَرَ. وَالثَّالِثَةُ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: الْمُعْتَبَرُ خَمْسُ فَرَاسِخَ. الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: مَسِيرَةُ لَيْلَتَيْنِ. الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدَايِنِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا سَافَرَ إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ جَازَ الْقَصْرُ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. السَّادِسَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، كُلُّ فَرْسَخٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ بِأَمْيَالِ هَاشِمٍ جَدِّ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّرَ أَمْيَالَ الْبَادِيَةِ كُلُّ مِيلٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَقْدَامٍ خُطْوَةٌ قَالَ الْفُقَهَاءُ:
فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَدُلُّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ على أن الحكم عير مَرْبُوطٍ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ، قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: اضْطِرَابُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلًا قَوِيًّا فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ، إِذْ لَوْ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ لَمَا حَصَلَ هَذَا الِاضْطِرَابُ، وَأَمَّا سُكُوتُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى ارْتِبَاطِ الْحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَرِ، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي مُطْلَقِ السَّفَرِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَذْكُورًا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، فَلِهَذَا سَكَتُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ عَوَّلُوا فِي تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمَسْحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُسَافِرًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا لَمْ يَحْصُلِ الرُّخَصُ الْمَشْرُوعَةُ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُمْ عَوَّلُوا عَلَى مَا
رَوَى مُجَاهِدٌ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ،
قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ جَائِزٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ مُشْتَرِكَانِ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحُكْمِ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعُ الْمَتْنِ، وَالْخَبَرُ مَظْنُونُ الْمَتْنِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْخَبَرِ، فَتَرْجِيحُ/ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ» ،
دَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُودٌ، فَهَذَا الْخَبَرُ لَمَّا وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي دَفْعِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَهُوَ أَنَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ وَرَدَتْ فِي وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَرْدُودَةً، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا عَامَّةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فِي السَّفَرِ وَفِي(11/202)
الْغَزْوِ، فَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ مَخْصُوصَةً بِسَفَرٍ مُقَدَّرٍ، كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مِقْدَارِ السَّفَرِ الْمُفِيدِ لِلرُّخْصِ حَاجَةً عَامَّةً فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَعَرَفُوهَا وَلَنَقْلُوهَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، لَا سِيَّمَا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ دَلَائِلَ الشَّافِعِيَّةِ وَدَلَائِلَ الْحَنَفِيَّةِ صَارَتْ مُتَقَابِلَةً مُتَدَافِعَةً، وَإِذَا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَكَلِمَةَ (إِنْ) لَا يُفِيدَانِ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَعْقِبًا لِلْجَزَاءِ فَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَعْقِبًا لِذَلِكَ الْجَزَاءِ فِي جَمِيعِ الأوقات فهذا غير لا زم، بدليل أنه إذا قال لا مرأته: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ ثَانِيًا لَا يَقَعُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) وَكَلِمَةَ (إِنْ) لَا يفيدان الْعُمُومِ الْبَتَّةَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِالْآيَةِ، فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ يَسْتَعْقِبُ مَرَّةً وَاحِدَةً هَذِهِ الرُّخَصَ وَعِنْدَنَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا، فَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْآيَةِ لَوْ قُلْنَا إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لِلْعُمُومِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ الأمر كذلك فقد سقط هذا الِاسْتِدْلَالُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُجْتَهِدُونَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَكَانَتْ مَقْبُولَةً صَحِيحَةً، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: زَعَمَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّ جَوَازَ الْقَصْرِ مَخْصُوصٌ بِحَالِ الْخَوْفِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ هَذَا الْحُكْمَ مَشْرُوطًا بِالْخَوْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالْمَشْرُوطُ بِالشَّيْءِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ جَوَازُ الْقَصْرِ عِنْدَ الْأَمْنِ.
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ رَفْعُ هَذَا الشَّرْطِ بِخَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَقَدْ صَعُبَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى قوله ذَكَرُوا فِيهِ/ وُجُوهًا مُتَكَلَّفَةً فِي الْآيَةِ لِيَتَخَلَّصُوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ. وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا غُمُوضٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: 31] أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) وَكَلِمَةَ (إِذَا) يُفِيدَانِ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ يَحْصُلُ الْمَشْرُوطُ، وَلَا يُفِيدَانِ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَلْزَمُ عدم المشروط، واستدللنا على صحة هذا الْكَلَامِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ خِفْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ حصول الخوف تحصل الرخصة، ويقتضي أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ لَا تَحْصُلُ الرُّخْصَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ سَاكِتَةً عَنْ حَالِ الْأَمْنِ بِالنَّفْيِ وَبِالْإِثْبَاتِ، وَإِثْبَاتُ الرُّخْصَةِ حَالَ الْأَمْنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ إِثْبَاتًا لِحُكْمٍ سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، إِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا لَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا حَالَ الْأَمْنِ وَحَالَ الْخَوْفِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْيِيدِهِ بِحَالِ الْخَوْفِ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَالِبِ أَسْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْثَرُهَا لَمْ يَخْلُ عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، فَذَكَرَ اللَّه هَذَا الشَّرْطَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الْأَغْلَبُ فِي الْوُقُوعِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ بَدَلًا عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّلَاةُ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَخْصُوصَةٌ بِحَالِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْأَمْنِ لَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، وَلَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً وَلَا صَحِيحَةً، واللَّه(11/203)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
أَعْلَمُ. ثُمَّ يُقَالُ لِأَهْلِ الظَّاهِرِ: إِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْخَوْفِ الْحَاصِلِ مِنْ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ الْخَوْفُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَصْرُ، فَإِنِ الْتَزَمُوا ذَلِكَ سَلِمُوا مِنَ الطَّعْنِ، إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ تَوَجَّهَ النَّقْضُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ هَذَا الْخَوْفُ الْمَخْصُوصُ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخَوْفِ كَافٍ، أَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ فَنَقُولُ: خَالَفْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْإِجْمَاعُ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، لِأَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا مَعَ هَذَا الْخَوْفِ الْمَخْصُوصِ، واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ عَنْ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي جَمِيعِهَا. الثَّانِي: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ وَشِدَّةٍ فَهِيَ فِتْنَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ قَدِيمَةٌ، وَالْآنَ قَدْ أَظْهَرْتُمْ خِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ وَازْدَادَتْ عَدَاوَتُهُمْ، وَبِسَبَبِ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ أَقْدَمُوا عَلَى مُحَارَبَتِكُمْ وَقَصْدِ إِتْلَافِكُمْ إِنْ قَدَرُوا، فَإِنْ طَالَتْ صَلَاتُكُمْ فَرُبَّمَا وَجَدُوا الْفُرْصَةَ فِي قَتْلِكُمْ، فَعَلَى هَذَا رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَدُوًّا وَلَمْ يَقُلْ أَعْدَاءً، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: 77] .
[سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 103]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ قَصْرِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ فِي الْعَدَدِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَهَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: صَلَاةُ الْخَوْفِ كَانَتْ خَاصَّةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَتْ ثَابِتَةً ثُمَّ نُسِخَتْ. وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله تعالى:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ إِقَامَةَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، لِأَنَّ كَلِمَةَ «إِذَا» تُفِيدُ الِاشْتِرَاطَ الثَّانِي: أَنَّ تَغْيِيرَ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصُلَ لِلنَّاسِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ(11/204)
حَاصِلٍ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الثَّانِي كَهِيَ خَلْفَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَحْتَاجُ هُنَاكَ إِلَى تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: لَمَّا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التَّوْبَةِ: 103] لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِلَفْظِ «إِذَا» فَالْجَوَابُ أَنَّ مُقْتَضَاهُ هُوَ الثُّبُوتُ عِنْدَ الثُّبُوتِ، أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإِبَاحَةِ تَغْيِيرِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْفَضِيلَةِ يُوجِبُ تَرْكَ الْفَرْضِ، فَانْدَفَعَ هَذَا الْكَلَامُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَرْحُ صَلَاةِ الْخَوْفِ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْعَلُ الْقَوْمَ طَائِفَتَيْنِ وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ يُسَلِّمُونَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَيُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَةٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي بِتِلْكَ الطَّائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تَذْهَبُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً تَامَّةً، ثُمَّ يَبْقَى الْإِمَامُ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ رَكْعَةً أُخْرَى، وَيَتَشَهَّدُونَ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَيُصَلُّونَ مَعَ الْإِمَامِ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً، ثُمَّ يَجْلِسُ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ إِلَى أَنْ تُصَلِّيَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ بِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى يُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَةً/ وَيَعُودُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَعُودُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى أَدْرَكَتْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَهُمْ فِي حُكْمِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَمْ تُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالْمَسْبُوقُ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ فِي صَلَاتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَتِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ وَالْأَشَدَّ مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْآيَةِ أَيُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَمَّا الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ: الْآيَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَاتِ الَّتِي أَخَذَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّتْ عِنْدَ إِتْيَانِ الثَّانِيَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ عِنْدَهُ تَأْتِي وَالْأُولَى بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَمَا فَرَغُوا مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ مُطْلَقَ قَوْلِكَ: صَلَّيْتُ مَعَ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ أَدْرَكْتَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ مَعَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: الْآيَةُ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِنَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَمْ يَفْرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَةً ثُمَّ يَكُونُونَ مِنْ وَرَاءِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ لِلْحِرَاسَةِ، وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا جَعَلْنَا السُّجُودَ وَالْكَوْنَ مِنْ وَرَائِكُمْ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لِطَائِفَتَيْنِ السُّجُودُ لِلْأُولَى، وَالْكَوْنُ مِنْ وَرَائِكُمُ الَّذِي(11/205)
بِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَلَنَرْجِعْ إلى تفسير الآية [قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إلى قوله أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ] فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ أَيْ وَإِذَا كُنْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ وَخَوْفِهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَالْمَعْنَى فَاجْعَلْهُمْ طَائِفَتَيْنِ، فَلْتَقُمْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مَعَكَ فَصَلِّ بِهِمْ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَالضَّمِيرُ إِمَّا لِلْمُصَلِّينَ وَإِمَّا لِغَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُصَلِّينَ فَقَالُوا: يَأْخُذُونَ مِنَ السِّلَاحِ مَا لَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَمْنَعُ لِلْعَدُوِّ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ الْمُصَلِّينَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِلْفَرِيقَيْنِ بِحَمْلِ السِّلَاحِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا.
يَعْنِي غَيْرَ الْمُصَلِّينَ مِنْ وَرائِكُمْ يَحْرُسُونَكُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَدَاءَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَهُوَ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ، إِنَّمَا التَّفَاوُتُ يَقَعُ فِي أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا/ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
ثُمَّ قَالَ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحِذْرَ وَهُوَ التَّحَذُّرُ وَالتَّيَقُّظُ آلَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْغَازِي، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَهُ وبني الْأَسْلِحَةِ فِي الْأَخْذِ وَجُعِلَا مَأْخُوذَيْنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَفِيهِ رُخْصَةٌ لِلْخَائِفِ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ فِكْرِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَسْلِحَتَهُمْ فَقَطْ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.
قُلْنَا: لِأَنَّ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَلَّمَا يَتَنَبَّهُ الْعَدُوُّ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَظُنُّونَ كَوْنَهُمْ قَائِمِينَ لِأَجْلِ الْمُحَارَبَةِ أَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ ظَهَرَ لِلْكُفَّارِ كَوْنُهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَهَهُنَا يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ فِي الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ خَصَّ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَوْضِعَ بِزِيَادَةِ تَحْذِيرٍ فَقَالَ: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أَيْ بِالْقِتَالِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ، وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ، فَقَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ:
بِئْسَمَا صَنَعْنَا حَيْثُ لَمْ نُقْدِمْ عَلَيْهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ السِّلَاحِ إِمَّا لِأَنَّهُ يُصِيبُهُ بَلَلُ الْمَطَرِ فَيَسْوَدُّ وَتَفْسُدُ حِدَّتُهُ، أَوْ لِأَنَّ مِنَ الْأَسْلِحَةِ مَا يَكُونُ مُبَطَّنًا فَيَثْقُلُ على لا بسه إِذَا ابْتَلَّ بِالْمَاءِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا فَيَشُقُّ عَلَيْهِ حَمْلُ السَّلَاحِ، فَهَهُنَا لَهُ أَنْ يَضَعَ حَمْلَ السِّلَاحِ.
ثُمَّ قَالَ: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لَهُمْ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ حَالَ الْمَطَرِ وَحَالَ الْمَرَضِ أَمَرَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى بِالتَّيَقُّظِ وَالتَّحَفُّظِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْحِذْرِ، لِئَلَّا يَجْتَرِئَ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمُ احْتِيَالًا فِي الْمَيْلِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْنَامًا مِنْهُمْ لِوَضْعِ الْمُسْلِمِينَ أَسْلِحَتَهُمْ، وفيه مسائل:(11/206)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أَمْرٌ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَخْذُ السِّلَاحِ وَاجِبًا ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ فَخَصَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي وَضْعِ السِّلَاحِ بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ فِيمَا وَرَاءَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ الْإِثْمُ وَالْجُنَاحُ حَاصِلًا بِسَبَبِ وَضْعِ السِّلَاحِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْأَصَحُّ مَا بَيَّنَّاهُ/ ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَحْمِلَ سِلَاحًا نَجِسًا إِنْ أَمْكَنَهُ، وَلَا يَحْمِلَ الرُّمْحَ إِلَّا فِي طَرَفِ الصَّفِّ، وَبِالْجُمْلَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ عَلَى جِهَةٍ يَكُونُ بِهَا حَاذِرًا غَيْرَ غَافِلٍ عَنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ. وَالَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ وَجْهُ الْحِذْرِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَوْمَئِذٍ بِذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا مُسْتَدْبِرِينَ الْقِبْلَةَ، وَمَتَى اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ صَارُوا مُسْتَدْبِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، فَلَا جَرَمَ أُمِرُوا بِأَنْ يَصِيرُوا طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ وَبِبَطْنِ نَخْلٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابَهُ طَائِفَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا مُسْتَقْبِلِينَ لَهَا، فَكَانُوا يَرَوْنَ الْعَدُوَّ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى الِاحْتِرَاسِ إِلَّا عِنْدَ السُّجُودِ، فَلَا جَرَمَ لَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ بَقِيَ الصَّفُّ الثَّانِي يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ السُّجُودِ وَقَامُوا تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي وَسَجَدُوا وَكَانَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَالَ قِيَامِهِمْ يَحْرُسُونَ الصَّفَّ الثَّانِيَ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: خُذُوا حِذْرَكُمْ يدل على جواز كل هَذِهِ الْوُجُوهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْمِلْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَصَارَ تَكْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَلَوَقَعَ فِعْلُ الرَّسُولِ بِعُسْفَانَ وَبِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِالْحِذْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى التَّرْكِ وَعَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْحِذْرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً للَّه تَعَالَى، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْحِذْرِ عَنِ الْعَدُوِّ، فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحِذْرِ عَنْ جَمِيعِ الْمَضَارِّ الْمَظْنُونَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعِلَاجِ بِالدَّوَاءِ وَالْعِلَاجِ بِالْيَدِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْوَبَاءِ وَعَنِ الْجُلُوسِ تَحْتَ الْجِدَارِ الْمَائِلِ وَاجِبًا واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَفِيهِ سُؤَالٌ، أَنَّهُ كَيْفَ طَابَقَ الْأَمْرُ بِالْحِذْرِ قَوْلَهُ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْحِذْرِ عَنِ الْعَدُوِّ أَوْهَمَ ذَلِكَ قُوَّةَ الْعَدُوِّ وَشِدَّتَهُمْ، فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُهِينُهُمْ وَيَخْذُلُهُمْ وَلَا يَنْصُرُهُمُ الْبَتَّةَ حَتَّى يُقَوِّيَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِذْرِ لَيْسَ لِمَا لَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْهَيْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ الْخَوْفُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ مُتَضَرِّعِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي أَنْ يَمُدَّهُمْ بِالنَّصْرِ/ وَالتَّوْفِيقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْأَنْفَالِ: 45] .(11/207)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَوَاظِبُوا عَلَى ذِكْرِ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِذْرِ مَعَ الْعَدُوِّ جَدِيرٌ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّه وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ، يَعْنِي صَلُّوا قِيَامًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالْمُسَابَقَةِ وَالْمُقَارَعَةِ، وَقُعُودًا حَالَ اشْتِغَالِكُمْ بِالرَّمْيِ، وَعَلَى جُنُوبِكُمْ حَالَ مَا تَكْثُرُ الْجِرَاحَاتُ فِيكُمْ فَتَسْقُطُونَ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حِينَ تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَاقْضُوا مَا صَلَّيْتُمْ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ.
هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي حَالِ الْمُسَابَقَةِ إِذَا حَضَرَ وَقْتُهَا، وَإِذَا اطْمَأَنُّوا فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَصَلُّوا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الذِّكْرِ عَلَى الصَّلَاةِ مَجَازٌ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِحُكْمَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: بَيَانُ الْقَصْرِ وَهُوَ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَالثَّانِي: صَلَاةُ الْخَوْفِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يَحْتَمِلُ نَقِيضَ الْأَمْرَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُسَافِرًا بَلْ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ: فَإِذَا صِرْتُمْ مُقِيمِينَ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ تَامَّةً مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ الْبَتَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِاطْمِئْنَانِ أَنْ لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ، بَلْ يَصِيرُ سَاكِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ النَّفْسِ بِسَبَبِ أَنَّهُ زَالَ الْخَوْفُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ:
فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ عَنْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْرِفُونَهَا، وَلَا تُغَيِّرُوا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهَا وَهَيْآتِهَا، ثُمَّ لَمَّا بَالَغَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَرْحِ أَقْسَامِ الصَّلَاةِ فَذَكَرَ صَلَاةَ السَّفَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَاةَ الْخَوْفِ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي فرضا موقتا، والمراد بالكتاب هاهنا الْمَكْتُوبُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَكْتُوبَةٌ مَوْقُوتَةٌ، ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ مِنَ الْمَوْقُوتِ كَمَا جَعَلَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ مُذَكَّرٌ، وَمَعْنَى الْمَوْقُوتِ أَنَّهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتٍ مُوَقَّتَةٍ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ وَوَقَتَهُ مخففا، وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 11] بِالتَّخْفِيفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ مُقَدَّرٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أجمل ذكر الأوقات هاهنا وَبَيَّنَهَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَةِ: 238] فَقَوْلُهُ الصَّلَواتِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَوَاتٍ ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُهُ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى الثَّلَاثَةِ/ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةً، وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا وُسْطَى، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا خَمْسَةً لِتَحْصُلَ الْوُسْطَى، وَكَمَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوَتْرِ، وَإِلَّا لَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَةُ سِتَّةً، فَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الْوُسْطَى فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى بَيَانِ أَوْقَاتِهَا. وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاءِ: 78] فَالْوَاجِبُ مِنَ الدُّلُوكِ إِلَى الْغَسَقِ هُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَالْوَاجِبُ مِنَ الْغَسَقِ إِلَى الْفَجْرِ هُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْوَاجِبُ فِي الْفَجْرِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوهِمُ أَنَّ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا وَاحِدًا وَلِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتًا وَاحِدًا. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاتَانِ الْوَاقِعَتَانِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الرُّومِ: 18](11/208)
فَقَوْلُهُ وَعَشِيًّا الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ اللَّيْلِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الْمُرَادُ الصَّلَاةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَحْضِ النَّهَارِ، وَهِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ كَمَا قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الرُّومِ: 17] صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَكَذَلِكَ قَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ صَلَاةَ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ فِي الذِّكْرِ، فَصَارَتِ الصَّلَوَاتُ الْأَرْبَعَةُ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ أَفْرَدَهَا اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي قوله وَالْعَصْرِ تَشْرِيفًا لَهَا بِالْإِفْرَادِ بِالذِّكْرِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ
[هُودٍ: 114] فَقَوْلُهُ طَرَفَيِ النَّهارِ يُفِيدُ وُجُوبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوُجُوبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِأَنَّهُمَا كَالْوَاقِعَتَيْنِ عَلَى الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَاقِعَةً قَبْلَ حُدُوثِ الطَّرَفِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يُفِيدُ وُجُوبَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَتْرِ قَالَ: لِأَنَّ الزُّلَفَ جَمْعٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجِبَ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ فِي اللَّيْلِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ فَقَوْلُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: 130] إِشَارَةٌ إِلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 114] وَقَوْلُهُ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وَكَمَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ آنَاءِ اللَّيْلِ جَمْعٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا مَجْمُوعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الصَّلَوَاتِ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْقُولِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرَاتِبَ خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: مَرْتَبَةُ الْحُدُوثِ وَالدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ كَمَا يُولَدُ الْإِنْسَانُ وَيَبْقَى في النشو وَالنَّمَاءِ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سن/ النشو وَالنَّمَاءِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّةُ الْوُقُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الشَّيْءُ عَلَى صِفَةِ كَمَالِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الشَّبَابِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مُدَّةُ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانٌ خَفِيٌّ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تُسَمَّى سِنَّ الْكُهُولَةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مُدَّةُ الشَّيْخُوخَةِ، وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْإِنْسَانِ نُقْصَانَاتٌ ظاهرة جليلة إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَهْلِكَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمُدَّةُ سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ.
الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَبْقَى آثَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً، ثُمَّ بِالْآخِرَةِ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَبْطُلُ وَتَزُولُ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْخَمْسَةُ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ سَوَاءٌ كَانَ إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ النَّبَاتَاتِ، وَالشَّمْسُ حَصَلَ لَهَا بِحَسَبِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مشرقها يشبه حالها حال المولود عند ما يُولَدُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَزْدَادُ ارْتِفَاعُهَا وَيَقْوَى نُورُهَا وَيَشْتَدُّ حَرُّهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ، فَتَقِفَ هُنَاكَ سَاعَةً ثُمَّ تَنْحَدِرُ وَيَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ خَفِيَّةٌ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ يَظْهَرُ فِيهَا نُقْصَانَاتٌ ظَاهِرَةٌ فَيَضْعُفُ ضَوْؤُهَا وَيَضْعُفُ حَرُّهَا، وَيَزْدَادُ انْحِطَاطُهَا وَقُوَّتُهَا إِلَى الْغُرُوبِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتْ يَبْقَى بَعْضُ آثَارِهَا فِي أُفُقِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ الشَّفَقُ، ثُمَّ تَنْمَحِي تِلْكَ الْآثَارُ وَتَصِيرُ الشَّمْسُ كَأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْعَالَمِ، فَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ لَهَا وَهِيَ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى لَا جرم(11/209)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
أَوَجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسَةِ لَهَا صَلَاةً، فَأَوْجَبَ عِنْدَ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنَ الطُّلُوعِ صَلَاةَ الْفَجْرِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ زَوَالِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ وَحُصُولِ النُّورِ، وَبِسَبَبِ زَوَالِ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ كَالْمَوْتِ وَحُصُولِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ كَالْحَيَاةِ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى غَايَةِ الِارْتِفَاعِ ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا أَثَرُ الِانْحِطَاطِ أَوْجَبَ صَلَاةَ الظُّهْرِ تَعْظِيمًا لِلْخَالِقِ الْقَادِرِ عَلَى قَلْبِ أَحْوَالِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ مِنَ الضِّدِّ إِلَى الضِّدِّ، فَجَعَلَ الشَّمْسَ بَعْدَ غَايَةِ ارْتِفَاعِهَا وَاسْتِعْلَائِهَا مُنْحَطَّةً عَنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ وَآخِذَةً فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ الْخَفِيُّ، ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْكُهُولَةِ وَدَخَلَتْ فِي أَوَّلِ زَمَانِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْجَبَ تَعَالَى صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَنِعْمَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ أَوَّلَ الْعَصْرِ هُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ تَظْهَرُ النُّقْصَانَاتُ الظَّاهِرَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَا ازْدَادَ الظل إلا مثل الشيء، ثم ان في زمان الطيف يَصِيرُ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يَصِيرُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلًا لَهُ تَأْخُذُ الشَّمْسُ فِي النُّقْصَانَاتِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَشْبَهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَمَّا غَرَبَ الشَّفَقُ فَكَأَنَّهُ انْمَحَتْ آثَارُ الشَّمْسِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، فَلَا جَرَمَ أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِيجَابَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ مُطَابِقٌ لِلْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأُصُولِ الحكمية، واللَّه أعلم بأسرار أفعاله.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا عَادَ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ فَقَالَ وَلا تَهِنُوا أَيْ وَلَا تَضْعُفُوا وَلَا تَتَوَانَوْا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أَيْ فِي طَلَبِ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْأَلَمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ خَوْفُ الْأَلَمِ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ فَكَيْفَ صَارَ مَانِعًا لَكُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ، ثُمَّ زَادَ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمُصَابَرَةِ عَلَى الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُقِرُّونَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانُوا مَعَ إِنْكَارِهِمُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ يُجِدُّونَ فِي الْقِتَالِ فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّ لَكُمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ ثَوَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْكُمْ فِي تَرْكِهِ عِقَابًا عَظِيمًا، أَوْلَى بِأَنْ تَكُونُوا مُجِدِّينَ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرَّجَاءِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] وفي قوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: 64] وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْإِلَهَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ فَيَصِحُّ مِنْكُمْ أَنْ تَرْجُوا ثَوَابَهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهِيَ جَمَادَاتٌ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ ثَوَابًا أَوْ يَخَافُوا مِنْهَا عِقَابًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى: وَلَا تَهِنُوا لِأَنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ تَعْلِيلٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ لَا يُكَلِّفُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَأْمُرُكُمْ وَلَا يَنْهَاكُمْ إِلَّا بِمَا هُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ/ سَبَبٌ لِصَلَاحِكُمْ في دينكم ودنياكم.(11/210)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ ثُمَّ اتَّصَلَ بِذَلِكَ أَمْرُ الْمُحَارَبَةِ، وَاتَّصَلَ بِذِكْرِ الْمُحَارَبَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، مِثْلُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ خَطَأً عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَمِثْلُ بَيَانِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، رَجَعَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَحْمِلُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ وَيَذَرَ الْحُكْمَ الْحَقَّ، فَأَطْلَعَ اللَّه رَسُولَهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَقْبَلَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ بِإِنْزَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّسُولِ أَنْ يَحِيدَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا طَلَبًا لِرِضَا قَوْمِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْخِيَانَةُ مَعَهُمْ وَلَا إِلْحَاقُ مَا لَمْ يَفْعَلُوا بِهِمْ، وَأَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يُبِيحُ الْمُسَامَحَةَ بِالنَّظَرِ لَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ فِي الدِّينِ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَنْ لَا يَلْحَقَ الْكَافِرَ حَيْفٌ لِأَجْلِ أَنْ يرضى المنافق بذلك، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ رِوَايَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ طُعْمَةَ سَرَقَ دِرْعًا فَلَمَّا طُلِبَتِ الدِّرْعُ مِنْهُ رَمَى وَاحِدًا مِنَ الْيَهُودِ بِتِلْكَ السَّرِقَةِ، وَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ قَوْمِهِ وَبَيْنَ قَوْمِ الْيَهُودِيِّ جَاءَ قَوْمُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَأَنْ يُلْحِقَ هَذِهِ الْخِيَانَةَ بِالْيَهُودِيِّ، فَهَمَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ وَاحِدًا وَضَعَ عِنْدَهُ دِرْعًا عَلَى سَبِيلِ الْوَدِيعَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَاهِدٌ، فَلَمَّا طَلَبَهَا مِنْهُ جَحَدَهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُودِعَ لَمَّا طَلَبَ الْوَدِيعَةَ زَعَمَ أَنَّ الْيَهُودِيَّ سَرَقَ الدِّرْعَ/ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طُعْمَةَ وَقَوْمَهُ كَانُوا مُنَافِقِينَ، وَإِلَّا لَمَا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ نُصْرَةَ الْبَاطِلِ وَإِلْحَاقَ السَّرِقَةِ بِالْيَهُودِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّخَرُّصِ وَالْبُهْتَانِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النِّسَاءِ: 113] ثُمَّ
رُوِيَ أَنَّ طُعْمَةَ هَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ وَثَقَبَ حَائِطًا هُنَاكَ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ وَمَاتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ أَراكَ اللَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا بِالْهَمْزَةِ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، أَوْ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ، أَوْ مِنْ رَأَيْتَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاعْتِقَادُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَادِثَةِ لَا يُرَى بِالْبَصَرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ لَا إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّعْدِيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْكَافُ الَّتِي هِيَ لِلْخِطَابِ، وَالْآخَرُ الْمَفْعُولُ الْمُقَدَّرُ، وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا أَرَاكَهُ اللَّه، وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ بَقِيَ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ رَأَيْتَ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ بِما أَراكَ اللَّهُ مَعْنَاهُ بِمَا أَعْلَمَكَ اللَّه، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْعِلْمُ(11/211)
بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ الْمُبَرَّأَ عَنْ جِهَاتِ الرَّيْبِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِي اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيِّهِ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَالنَّصِّ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: أنه لما ثبت أنه عليه والصلاة وَالسَّلَامُ مَا كَانَ يَحْكُمُ إِلَّا بِالنَّصِّ ثَبَتَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَا كَانَ جَائِزًا لَهُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ إِلَّا بِالنَّصِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: 158] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ حَرَامًا.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِالنَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ أَنَّ حُكْمَ الصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِثْلُ حُكْمِ الصُّورَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ أَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّ تَكْلِيفِي فِي حَقِّكَ أَنْ تَعْمَلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ الظَّنِّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ بِهَذَا الْقِيَاسِ عَمَلًا بِعَيْنِ النَّصِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تَكُنْ لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ مُخَاصِمًا لِمَنْ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الذَّنْبِ، يَعْنِي/ لَا تُخَاصِمِ الْيَهُودَ لِأَجْلِ الْمُنَافِقِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: خَصْمُكَ الَّذِي يُخَاصِمُكَ، وَجَمْعُهُ الْخُصَمَاءُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَصْمِ وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَطَرَفُهُ، وَالْخَصْمُ طَرَفُ الزَّاوِيَةِ وَطَرَفُ الْأَشْفَارِ، وَقِيلَ لِلْخَصْمَيْنِ خَصْمَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّعْوَى، وَخُصُومُ السَّحَابَةِ جَوَانِبُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ لِأَجْلِ الْخَائِنِ وَيَذُبَّ عَنْهُ وَإِلَّا لَمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بَلْ
ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْمَ طُعْمَةَ لَمَّا الْتَمَسُوا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ يَذُبَّ عَنْ طُعْمَةَ وَأَنْ يُلْحِقَ السَّرِقَةَ بِالْيَهُودِيِّ تَوَقَّفَ وَانْتَظَرَ الْوَحْيَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَنْبِيهَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ طُعْمَةَ كَذَّابٌ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ بَرِيءٌ عَنْ ذَلِكَ الْجُرْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُرْمَ قَدْ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه بِالِاسْتِغْفَارِ دَلَّ عَلَى سَبْقِ الذَّنْبِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُ مَالَ طَبْعُهُ إِلَى نُصْرَةِ طُعْمَةَ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا الْقَدْرِ، وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَالثَّانِي: لَعَلَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَهِدُوا عَلَى سَرِقَةِ الْيَهُودِيِّ(11/212)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
وَعَلَى بَرَاءَةِ طُعْمَةَ مِنْ تِلْكَ السَّرِقَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي شَهَادَتِهِمْ هَمَّ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالسَّرِقَةِ عَلَى الْيَهُودِيِّ، ثُمَّ لَمَّا أَطْلَعَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى كَذِبِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ خَطَأً، فَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ هَمَّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي لَوْ وَقَعَ لَكَانَ خَطَأً فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا عِنْدَ اللَّه فِيهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّه لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 107]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ طُعْمَةُ وَمَنْ عَاوَنَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ عَلِمَ كَوْنَهُ سَارِقًا، وَالِاخْتِيَانُ كَالْخِيَانَةِ/ يُقَالُ: خَانَهُ وَاخْتَانَهُ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 187] وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى لِطُعْمَةَ وَلِمَنْ ذَبَّ عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَقْدَ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوَابَ وَأَوْصَلَهَا إِلَى الْعِقَابِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً مَعَ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ لِمَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ: إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَهْدِيدًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا مَالَ طَبْعُهُ قَلِيلًا إِلَى جَانِبِ طُعْمَةَ، وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه أَنَّ طُعْمَةَ كَانَ فَاسِقًا، فاللَّه تَعَالَى عَاتَبَ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ إِعَانَةِ الْمُذْنِبِ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَعْلَمُ مِنَ الظَّالِمِ كَوْنَهُ ظَالِمًا ثُمَّ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ، بَلْ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ أَشَدَّ التَّرْغِيبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنْ طُعْمَةَ خَانَ فِي الدِّرْعِ، وَأَثِمَ فِي نِسْبَةِ الْيَهُودِيِّ إِلَى تِلْكَ السَّرِقَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ خَوَّاناً أَثِيماً
مَعَ أَنَّ الصَّادِرَ عَنْهُ خِيَانَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِثْمٌ وَاحِدٌ.
قُلْنَا: عَلِمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ فِي طَبْعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْخِيَانَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْإِثْمُ الْكَثِيرُ، فَذَكَرَ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي طَبْعِهِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ وَنَقَبَ حَائِطَ إِنْسَانٍ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ وَمَاتَ، وَمَنْ كَانَ خَاتِمَتُهُ كَذَلِكَ لَمْ يُشَكَّ فِي خِيَانَتِهِ، وَأَيْضًا طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَدْفَعَ السَّرِقَةَ عَنْهُ وَيُلْحِقَهَا بِالْيَهُودِيِّ، وَهَذَا يُبْطِلُ رِسَالَةَ الرَّسُولِ، وَمَنْ حَاوَلَ إِبْطَالَ رِسَالَةَ الرَّسُولِ وَأَرَادَ إِظْهَارَ كَذِبِهِ فَقَدْ كَفَرَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَهُ اللَّه بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ.
وَقِيلَ: إِذَا عَثَرْتَ مِنْ رَجُلٍ عَلَى سَيِّئَةٍ فَاعْلَمْ أَنَّ لَهَا أَخَوَاتٍ. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ تَبْكِي وَتَقُولُ هَذِهِ أَوَّلُ سَرِقَةٍ سَرَقَهَا فَاعْفُ عَنْهُ، فَقَالَ كَذَبْتِ إِنَّ اللَّه لَا يُؤَاخِذُ عَبْدَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ هَذَا الْوَعِيدَ بِمَنْ كَانَ عَظِيمَ الْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْخِيَانَةِ والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 108]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
الِاسْتِخْفَاءُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الِاسْتِتَارُ، يُقَالُ اسْتَخْفَيْتُ مِنْ/ فُلَانٍ، أَيْ تَوَارَيْتُ مِنْهُ وَاسْتَتَرْتُ. قَالَ تعالى:(11/213)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ [الرَّعْدِ: 10] أَيْ مُسْتَتِرٌ، فَقَوْلُهُ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أَيْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللَّه. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَحْيُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنَ اللَّه. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا مَعْنًى وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ النَّاسِ يُوجِبُ الِاسْتِتَارَ مِنَ النَّاسِ وَالِاسْتِخْفَاءَ مِنْهُمْ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِحْيَاءُ هُوَ نَفْسُ الِاسْتِخْفَاءِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مَعَهُمْ
يُرِيدُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ، وَكَفَى هَذَا زَاجِرًا لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَقَوْلُهُ: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
أَيْ يُضْمِرُونَ وَيُقَدِّرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَذَكَرْنَا مَعْنَى التبييت في قوله بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ [النساء: 81] وَالَّذِي لَا يَرْضَاهُ اللَّه مِنَ الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ طُعْمَةَ قَالَ: أَرْمِي الْيَهُودِيَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ الدِّرْعَ وَأَحْلِفُ أَنِّي لَمْ أَسْرِقْهَا، فَيَقْبَلُ الرَّسُولُ يَمِينِي لِأَنِّي عَلَى دِينِهِ وَلَا يَقْبَلُ يَمِينَ الْيَهُودِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سُمِّيَ التَّبْيِيتُ قَوْلًا وَهُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ؟
قُلْنَا: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْكَلَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَا إِشْكَالَ، وَمَنْ أَنْكَرَ كَلَامَ النَّفْسِ فَلَهُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ طُعْمَةَ وَأَصْحَابَهُ لَعَلَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي اللَّيْلِ وَرَتَّبُوا كَيْفِيَّةَ الْحِيلَةِ وَالْمَكْرِ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى كَلَامَهُمْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ الْمُبَيَّتِ الَّذِي لَا يَرْضَاهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
فَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُخْفُونَ كَيْفِيَّةَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي عِلْمِ اللَّه، لِأَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ منها شيء ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 109]
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
هَا لِلتَّنْبِيهِ فِي هَا أَنْتُمْ
وهؤُلاءِ
وَهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ جادَلْتُمْ
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِوُقُوعِ أُولَاءِ خَبَرًا، كَمَا تَقُولُ لِبَعْضِ الْأَسْخِيَاءِ: أَنْتَ حَاتِمٌ تَجُودُ بِمَالِكَ وَتُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَاءِ اسْمًا مَوْصُولًا بِمَعْنَى الَّذِي وجادَلْتُمْ
صِلَةً، وَأَمَّا الْجِدَالُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمُخَاصَمَةِ، وَجَدْلُ الْحَبْلِ شِدَّةُ فَتْلِهِ، وَرَجُلٌ مَجْدُولٌ كَأَنَّهُ فُتِلَ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ لِأَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الطُّيُورِ قُوَّةً. هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَتِ الْمُخَاصَمَةُ جِدَالًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُرِيدُ مَيْلَ صَاحِبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَصَرْفَهُ عَنْ رَأْيِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْ طُعْمَةَ وَعَنْ قَوْمِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى: هَبُوا أَنَّكُمْ خَاصَمْتُمْ عَنْ طُعْمَةَ وَقَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنِ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّه بِعَذَابِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُ، يَعْنِي عَنْ طُعْمَةَ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
فَقَوْلُهُ أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَطْفٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ السَّابِقِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي وُكِلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ، وَالْمَعْنَى: مَنِ الَّذِي يَكُونُ مُحَافِظًا وَمُحَامِيًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّه؟(11/214)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
[سورة النساء (4) : آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَتْبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَذَكَرَ فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول:
وَالْمُرَادُ بِالسُّوءِ الْقَبِيحُ الَّذِي يَسُوءُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فَعَلَ طُعْمَةُ مِنْ سَرِقَةِ الدِّرْعِ وَمِنْ رَمْيِ الْيَهُودِيِّ بِالسَّرِقَةِ وَالْمُرَادُ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ كَالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَا يَتَعَدَّى إِلَى الْغَيْرِ بِاسْمِ السُّوءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ إِيصَالًا لِلضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالضَّرَرُ سُوءٌ حَاضِرٌ، فَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي يَخُصُّ الْإِنْسَانَ فَذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ لَا يَكُونُ ضَرَرًا حَاضِرًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَصِلُ الضَّرَرَ إِلَى نَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى حُكْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ قَتْلًا، عَمْدًا أَوْ غَصْبًا لِلْأَمْوَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
عَمَّ الْكُلَّ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِغْفَارِ كَافٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاسْتِغْفَارُ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَوْلُهُ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
مَعْنَاهُ غَفُورًا رَحِيمًا لَهُ، وَحُذِفَ هَذَا الْقَيْدُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّرْغِيبِ فِي الِاسْتِغْفَارِ إِلَّا إذا كان المراد ذلك.
[سورة النساء (4) : آية 111]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي التَّوْبَةِ قوله تعالى:
وَالْكَسْبُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُفِيدُ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْعَاصِي فِي الِاسْتِغْفَارِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الذَّنْبُ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ مَا عَادَتْ مَضَرَّتُهُ إِلَيَّ فَإِنَّنِي مُنَزَّهٌ عن النفع والضرر، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بِمَا فِي قَلْبِهِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَى التَّوْبَةِ حَكِيماً
تَقْتَضِي حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ يتجاوز عن التائب.
[سورة النساء (4) : آية 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
النوع الثالث: قوله تعالى:
وَذَكَرُوا فِي الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَطِيئَةَ هِيَ الصَّغِيرَةُ، وَالْإِثْمَ هُوَ الْكَبِيرَةُ وَثَانِيهَا: الْخَطِيئَةُ هِيَ الذَّنْبُ الْقَاصِرُ عَلَى فَاعِلِهَا، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْغَيْرِ كَالظُّلْمِ وَالْقَتْلِ. وَثَالِثُهَا: الْخَطِيئَةُ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمْدِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَالْإِثْمُ مَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْعَمْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
[النساء: 111] فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِثْمَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
فَالضَّمِيرُ فِي بِهِ
إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: ثُمَّ يَرْمِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْإِثْمِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ كَمَا عَادَ إِلَى التِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِذا رَأَوْا(11/215)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْكَسْبِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَرْمِ بِكَسْبِهِ بَرِيئًا، فَدَلَّ يَكْسِبُ عَلَى الْكَسْبِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْخَطِيئَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَكْسِبْ ذَنْبًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
فَالْبُهْتَانُ أَنْ تَرْمِيَ أَخَاكَ بِأَمْرٍ مُنْكَرٍ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبُهْتَانِ مَذْمُومٌ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الذَّمِّ، وَمُعَاقَبٌ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ الْعِقَابِ، فَقَوْلُهُ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الذَّمِّ الْعَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ وَإِثْماً مُبِيناً
إِشَارَةٌ إِلَى/ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وَالْمَعْنَى وَلَوْلَا أَنَّ اللَّه خَصَّكَ بِالْفَضْلِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، وَبِالرَّحْمَةِ وَهِيَ الْعِصْمَةُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَ طُعْمَةَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ سَارِقٌ، ثُمَّ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَدْفَعَ وَيُجَادِلَ عَنْهُ وَيُبَرِّئَهُ عَنِ السَّرِقَةِ، وَيَنْسُبَ تِلْكَ السَّرِقَةَ إِلَى الْيَهُودِيِّ، وَمَعْنَى يُضِلُّوكَ أَيْ يُلْقُوكَ فِي الْحُكْمِ الْبَاطِلِ الْخَطَأِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
بِسَبَبِ تَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَشَهَادَتِهِمْ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَهُمْ لَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَهُمُ الَّذِينَ يعلمون عَمَلَ الضَّالِّينَ.
وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَمَا يَضُرُّونَكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَعَدَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِدَامَةِ الْعِصْمَةِ لَهُ مِمَّا يُرِيدُونَ مِنْ إِيقَاعِهِ فِي الْبَاطِلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ وَإِنْ سَعَوْا فِي إِلْقَائِكَ فِي الْبَاطِلِ فَأَنْتَ مَا وَقَعْتَ فِي الْبَاطِلِ، لِأَنَّكَ بَنَيْتَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ، وَأَنْتَ مَا أُمِرْتَ إِلَّا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ قَوْلُهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ الْوَعْدِ، يَعْنِي لَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأَمَرَكَ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَى الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ لَا يَعْصِمَكَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ، وَإِنْ فَسَّرْنَا تِلْكَ الْآيَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَعْذُورًا فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ كَانَ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَأَوْجَبَ فِيهَا بِنَاءَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يَضُرُّكَ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّاهِرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: هَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، كَمَا/ قَالَ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشُّورَى: 52] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ(11/216)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
وَالْحِكْمَةَ وَأَطْلَعَكَ عَلَى أَسْرَارِهِمَا وَأَوْقَفَكَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا مَعَ أَنَّكَ مَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ عَالِمًا بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ فِي مُسْتَأْنَفِ أَيَّامِكَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِضْلَالِكَ وَإِزْلَالِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَلِكَ يُعَلِّمُكَ مِنْ حِيَلِ الْمُنَافِقِينَ وَوُجُوهِ كَيْدِهِمْ مَا تَقْدِرُ بِهِ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ وُجُوهِ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَعْطَى الْخَلْقَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا الْقَلِيلَ، كَمَا قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] وَنَصِيبُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْ عُلُومِ جَمِيعِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَلِيلًا، ثُمَّ إِنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ الْقَلِيلَ عَظِيمًا حَيْثُ قَالَ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَسَمَّى جَمِيعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا حَيْثُ قَالَ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النِّسَاءِ: 77] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غاية شرف العلم.
[سورة النساء (4) : آية 114]
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيهِ حِينَ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ سِرٌّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ نَاجَيْتُ الرَّجُلَ مُنَاجَاةً وَنَجَاءً، وَيُقَالُ: نَجَوْتُ الرَّجُلَ أَنْجُو نَجْوَى بِمَعْنَى نَاجَيْتُهُ، وَالنَّجْوَى قَدْ تَكُونُ مَصْدَرًا بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاجَاةِ، قَالَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ تَعَالَى وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاءِ: 47] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَحَلِّ (مَنْ) وُجُوهًا، وَتِلْكَ/ الْوُجُوهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى النَّجْوَى فِي هذه الآية، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السِّرَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ عَنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ نَصْبًا كَقَوْلِهِ إِلَّا أَذىً [آلِ عِمْرَانَ: 111] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا فِي لُغَةِ مَنْ يَرْفَعُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ:
إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ جَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ فَقَالَ: التَّقْدِيرُ إِلَّا فِي نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ (مَنْ) فِي مَحَلِّ النَّجْوَى لِأَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:
الْخَفْضُ بَدَلٌ مِنْ نَجْوَاهُمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زِيدٍ. وَالثَّانِي: النَّصْبُ على الاستثناء فكما تَقُولُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا، وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا النَّجْوَى اسْمًا لِلْقَوْمِ الْمُتَنَاجِينَ كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْجِنْسِ مِنَ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (مَنْ) فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِكَثِيرٍ، عَلَى مَعْنَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، كَقَوْلِكَ: لَا خَيْرَ فِي الْقَوْمِ إِلَّا نَفَرٍ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّجْوَى، كَمَا تَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ، إِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَ زَيْدًا الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ شِئْتَ أَتْبَعْتَهُ الْقَوْمَ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مُنَاجَاةِ بَعْضِ قَوْمِ ذَلِكَ السَّارِقِ مَعَ بَعْضٍ إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى عَامَّةٌ، وَالْمُرَادُ: لَا خَيْرَ فِيمَا يَتَنَاجَى فِيهِ النَّاسُ وَيَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى(11/217)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
ذَكَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ، أَمَّا إِيصَالُ الْخَيْرِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الْمَالِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعُلُومِ، أَوْ تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَمَجْمُوعُهُمَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ مَعْرُوفٍ وَأَمَّا إِزَالَةُ الضَّرَرِ فَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَثَبَتَ أَنَّ مَجَامِعَ الْخَيْرَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرٍ اللَّه»
وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَا أَشَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ! فَقَالَ سُفْيَانُ: أَلَمْ تَسْمَعِ اللَّه يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّه يَقُولُ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: 1، 2] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا/ إِذَا أَتَى بِهَا لِوَجْهِ اللَّه وَلِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بِهَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ فَصَارَتْ مَنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ رِعَايَةُ أَحْوَالِ الْقَلْبِ فِي إِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَتَصْفِيَةُ الدَّاعِيَةِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَرَضٍ سِوَى طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَقَوْلُهُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النَّجْمِ: 39]
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: لم انتصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ؟
وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لا لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّه.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ إِلَّا مَنْ أَمَرَ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ لَمَّا دَخَلَ فِي زُمْرَةِ الْخَيِّرِينَ فَبِأَنْ يَدْخُلَ فَاعِلُ الْخَيْرِ فِيهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: وَمَنْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ أَيْضًا فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ.
[سورة النساء (4) : آية 115]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ لَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَتَكَ سِتْرَهُ وَبَرَّأَ الْيَهُودِيَّ عَنْ تُهْمَةِ السَّرِقَةِ ارْتَدَّ وَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَنَقَبَ جِدَارَ إِنْسَانٍ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ فَتَهَدَّمَ الْجِدَارُ عَلَيْهِ وَمَاتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَمَّا الشِّقَاقُ وَالْمُشَاقَقَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَقٍّ آخَرَ مِنَ الْأَمْرِ، أَوْ عَنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَاعِلًا فِعْلًا يَقْتَضِي لُحُوقَ مَشَقَّةٍ بِصَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ لَهُ بِالدَّلِيلِ صِحَّةُ دِينِ الْإِسْلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ طُعْمَةَ هَذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّه تَعَالَى مِنْ أَمْرِهِ وَأَظْهَرَ مِنْ سَرِقَتِهِ مَا دَلَّهُ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَى الرَّسُولَ وَأَظْهَرَ الشِّقَاقَ وَارْتَدَّ عَنْ(11/218)
دين الإسلام، فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، قَوْلُهُ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي غَيْرَ دِينِ الْمُوَحِّدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طُعْمَةَ تَرَكَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَاتَّبَعَ دِينَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
ثُمَّ قَالَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أَيْ نَتْرُكْهُ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَنَكِلْهُ إِلَى مَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ.
ثُمَّ قَالَ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يَعْنِي نُلْزِمُهُ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُهُ الصِّلَاءُ وَهُوَ لُزُومُ النَّارِ وَقْتَ الِاسْتِدْفَاءِ وَساءَتْ مَصِيراً انْتَصَبَ مَصِيراً عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ طَابَ نَفْسًا، وَتَصَبَّبَ عَرَقًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا، بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ عَدَمُ اتِّبَاعِهِمْ حَرَامًا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ لَا خُرُوجَ عَنْ طَرَفَيِ النَّقِيضِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يُتَّبَعَ لَا سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ الْغَيْرُ، فَإِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ أَتَى بِمِثْلِ فِعْلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُتَّبِعًا لَهُمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاتِّبَاعُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ مُتَّبِعُونَ لِآحَادِ الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُوَحِّدُونَ اللَّه كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ يُوَحِّدُ اللَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ، بَلِ الِاتِّبَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فِعْلُ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَرَكَ مُتَابَعَةَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَا وَجَدَ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِمْ دَلِيلًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ، فَهَذَا الشَّخْصُ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ أُخَرُ دَقِيقَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ/ الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ لَجَازَ مَنْعُهُ، وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ كَانَ مُشَاقِقًا لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ فِي شَقٍّ غَيْرَ الشَّقِّ الَّذِي يَكُونُ الْآخَرُ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ الذَّنْبُ عَنِ الرَّسُولِ لَوَجَبَتْ مُشَاقَّتُهُ، لَكِنَّ مُشَاقَّتَهُ مُحَرَّمَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصْدُرَ الذَّنْبُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَفْعَالِهِ إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُ الْأُمَّةِ غَيْرَ فِعْلِ الرَّسُولِ لَزِمَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شَقٍّ آخَرَ مِنَ الْعَمَلِ فَتَحْصُلُ الْمُشَاقَّةُ، لكن المشاقة(11/219)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
مُحَرَّمَةٌ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الْأُصُولِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُطَابِقٌ لِلْمُعْتَقَدِ، بَلْ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَبَيُّنُ الْهُدَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَعِيدُ حَاصِلًا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ وَعِيدَ الْكُفَّارِ قَطْعِيٌّ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116] وَالْقَاطِعُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَظْنُونُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الدِّينِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ حُصُولَ الْوَعِيدِ بِتَبَيُّنِ الْهُدَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَبَيُّنُ الْهُدَى مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ الدِّينِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الشَّرْطِ مَعْنًى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهُدَى اسْمٌ لِلدَّلِيلِ لَا لِلْعِلْمِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْهُدَى اسْمًا لِلْعِلْمِ لَكَانَ تَبَيُّنُ الْهُدَى إِضَافَةَ الشَّيْءِ إلى نفسه وأنه فاسد.
[سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ] / اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي تَكْرَارِهَا فَائِدَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ وَعُمُومَاتِ الْوَعْدِ مُتَعَارِضَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعَادَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ أَعَادَ هَذِهِ الْآيَةَ دالة عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرِيرِ إِلَّا التَّأْكِيدُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ جَانِبَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ بِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْوَعْدِ عَلَى الْوَعِيدِ.
وَالْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سَارِقِ الدِّرْعِ، وَقَوْلَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ارْتِدَادِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا يَحْسُنُ اتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ(11/220)
ذَلِكَ السَّارِقَ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ وَأَشْرَكَ باللَّه صار محروما قطع عَنْ رَحْمَةِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ شَرَحَ أَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه فَقَالَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يَعْنِي وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ باللَّه لَمْ يَكُنْ ضَلَالُهُ بَعِيدًا، فَلَا جَرَمَ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ دَالَّةٌ قَطْعًا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ قَطْعًا سَوَاءٌ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الشِّرْكِ ضَلَالًا بَعِيدًا فَقَالَ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ
(إن) هاهنا مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159] ويَدْعُونَ بِمَعْنَى يَعْبُدُونَ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَدْعُوهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا بَاسْمِ الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَاللَّاتُ تَأْنِيثُ اللَّه، وَالْعُزَّى تَأْنِيثُ الْعَزِيزِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَيُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: إِلَّا أَوْثَانًا، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أُثْنًا، جَمْعُ وَثَنٍ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً نَحْوَ قَوْلِهِ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: 11] قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أُثُنٌ أَصْلُهَا أُثْنٌ، فَأَتْبَعَتِ الضَّمَّةُ الضَّمَّةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً أَيْ إِلَّا أَمْوَاتًا، وَفِي تَسْمِيَةِ الْأَمْوَاتِ إِنَاثًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمَوَاتِ يَكُونُ عَلَى صِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُنْثَى، تَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي: كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُعْجِبُنِي.
الثَّانِي: أَنَّ الْأُنْثَى أَخَسُّ مِنَ الذَّكَرِ، وَالْمَيِّتُ أَخَسُّ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَطْلَقُوا اسْمَ الْأُنْثَى عَلَى الْجَمَادَاتِ الْمَوَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْمِ: 27] وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هَلْ إِنْسَانٌ أَجْهَلُ مِمَّنْ أَشْرَكَ خَالِقَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جَمَادًا يُسَمِّيهِ بِالْأُنْثَى.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ يُكَلِّمُهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: المراد بالشيطان هاهنا إِبْلِيسُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الَّذِي تَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَأَمَّا الْمَرِيدُ فَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْعِصْيَانِ الْكَامِلِ فِي الْبُعْدِ مِنَ الطَّاعَةِ وَيُقَالُ لَهُ: مَارِدٌ وَمَرِيدٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ:
يُقَالُ: حَائِطٌ مُمَرَّدٌ أَيْ مُمَلَّسٌ، وَيُقَالُ شَجَرَةٌ مَرْدَاءُ إِذَا تَنَاثَرَ وَرَقُهَا، وَالَّذِي لَمْ تَنْبُتْ لَهُ لِحْيَةٌ يُقَالُ لَهُ أَمْرَدٌ لِكَوْنِ مَوْضِعِ اللِّحْيَةِ أَمْلَسَ، فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْبُعْدِ عَنِ الطَّاعَةِ يُقَالُ لَهُ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ لِأَنَّهُ مُمَلَّسٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّه لَمْ يَلْتَصِقْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ صِفَتَانِ بِمَعْنَى شَيْطَانًا مَرِيدًا جَامِعًا بَيْنَ لَعْنَةِ اللَّه وَهَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ. واعلم أن الشيطان هاهنا قَدِ ادَّعَى أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَالْفُرْضَةُ الثُّلْمَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي طَرَفِ النَّهْرِ، وَالْفَرْضُ الْحَزُّ الَّذِي فِي الْوَتَرِ، وَالْفَرْضُ فِي الْقَوْسِ الْحَزُّ الَّذِي يُشَدُّ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْفَرِيضَةُ مَا فَرَضَ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ حَتْمًا عليهم(11/221)
قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ جَعَلْتُمْ لَهُنَّ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَعَنَهُ اللَّه قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ حَظًّا مُقَدَّرًا مُعَيَّنًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ خُطُوَاتِهِ وَيَقْبَلُونَ وَسَاوِسَهُ، وَفِي التَّفْسِيرِ
عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ للَّه وَسَائِرُهُ لِلنَّاسِ وَلِإِبْلِيسَ» .
فَإِنْ قِيلَ: النَّقْلُ وَالْعَقْلُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ حِزْبِ اللَّه.
أَمَّا النَّقْلُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] وَقَالَ حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 62] . وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُخْلَصِينَ قَلِيلُونَ.
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفُسَّاقَ وَالْكُفَّارَ كُلَّهمْ حِزْبُ إِبْلِيسَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِمَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَعَ أَنَّ لَفْظَ النَّصِيبِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَ الْأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي نَوْعِ الشَّرِّ، أَمَّا إِذَا ضَمَمْتَ زُمْرَةَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ غَايَةِ كَثْرَتِهِمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلَصِينَ، وَأَيْضًا فَالْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي الْعَدَدِ إِلَّا أَنَّ مَنْصِبَهُمْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه، وَالْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَإِنْ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْعَدَدِ فَهُمْ كَالْعَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ اسْمُ النَّصِيبِ عَلَى قَوْمِ إِبْلِيسَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يَعْنِي عَنِ الْحَقِّ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنْ أُصُولِنَا.
فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ: الْمُضِلُّ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَلَيْسَ الْمُضِلُّ هُوَ اللَّه تَعَالَى قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضِلَّ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ادَّعَى ذَلِكَ واللَّه تَعَالَى مَا كَذَّبَهُ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَقَوْلُهُ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: 16] وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُضِلًّا لِلنَّاسِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ/ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِضْلَالُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَقُلْنَا: لَيْسَ الْإِضْلَالُ عِبَارَةً عَنْ خَلْقِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ بِدَلِيلِ أَنَّ إِبْلِيسَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ مُضِلٌّ مَعَ أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ الضَّلَالِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا كَلَامُ إِبْلِيسَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَأَيْضًا أَنَّ كَلَامَ إِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ جِدًّا، فَتَارَةً يَمِيلُ إِلَى الْقَدَرِ الْمَحْضِ، وَهُوَ قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَأُخْرَى إِلَى الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَهُوَ قَوْلُهُ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [القصص: 39] وَتَارَةً يُظْهِرُ التَّرَدُّدَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَصِ: 63] يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ: نَحْنُ أُغْوِينَا فَمَنِ الَّذِي أَغْوَانَا عَنِ الدِّينِ؟ وَلَا بُدَّ مِنَ انْتِهَاءِ الْكُلِّ بِالْآخِرَةِ إِلَى اللَّه. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ يُضِلُّ الْخَلْقَ قَالَ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا حِيلَةَ لَهُ فِي الْإِضْلَالِ أَقْوَى مِنْ إِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَطَلَبُ الْأَمَانِيِّ يُورِثُ شَيْئَيْنِ: الْحِرْصَ(11/222)
وَالْأَمَلَ، وَالْحِرْصُ وَالْأَمَلُ يَسْتَلْزِمَانِ أَكْثَرَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَهُمَا كَالْأَمْرَيْنِ اللَّازِمَيْنِ لِجَوْهَرِ الْإِنْسَانِ
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ»
وَالْحِرْصُ يَسْتَلْزِمُ رُكُوبَ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَأَهْوَالِ الدِّينِ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّه وَإِيذَاءِ الْخَلْقِ، وَإِذَا طَالَ أَمَلُهُ نَسِيَ الْآخِرَةَ وَصَارَ غَرِيقًا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَكَادُ يُقْدِمُ عَلَى التَّوْبَةِ، وَلَا يَكَادُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ فَيَصِيرُ قَلْبُهُ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدَّ قَسْوَةً.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ الْبَتْكُ الْقَطْعُ، وَسَيْفٌ بَاتِكٌ أَيْ قَاطِعٌ، وَالتَّبْتِيكُ التَّقْطِيعُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: التبتيك هاهنا هُوَ قَطْعُ آذَانِ الْبَحِيرَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُقُّونَ آذَانَ النَّاقَةِ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَجَاءَ الْخَامِسُ ذَكَرًا، وَحَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُقَطِّعُونَ آذَانَ الْأَنْعَامِ نُسُكًا فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ كُفْرٌ وَفِسْقٌ. خَامِسُهَا: قَوْلُهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وللمفسرين هاهنا: قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّه تَغْيِيرُ دِينِ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَطَرَ الْخَلْقَ عَلَى الْإِسْلَامِ يَوْمَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَآمَنُوا بِهِ، فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ غَيَّرَ فِطْرَةَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»
وَلَكِنْ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَغْيِيرِ دِينِ اللَّه هُوَ تبديل الحلال حراما/ أو الحرام الْقَوْلُ الثَّانِي: حَمْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ عَلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالٍ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مَا
رَوَى عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّه الْوَاصِلَاتِ وَالْوَاشِمَاتِ»
قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَوَصَّلُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ إِلَى الزِّنَا. الثَّانِي: رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّ مَعْنَى تَغْيِيرِ خلق اللَّه هاهنا هُوَ الْإِخْصَاءُ وَقَطْعُ الْآذَانِ وَفَقْءُ الْعُيُونِ، وَلِهَذَا كَانَ أَنَسٌ يَكْرَهُ إِخْصَاءَ الْغَنَمِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا بَلَغَتْ إِبِلُ أَحَدِهِمْ أَلْفًا عَوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ التَّخَنُّثُ، وَأَقُولُ: يَجِبُ إِدْخَالُ السَّحَّاقَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ التَّخَنُّثَ عِبَارَةٌ عَنْ ذَكَرٍ يُشْبِهُ الْأُنْثَى، وَالسَّحْقَ عِبَارَةٌ عَنْ أُنْثَى تُشْبِهُ الذَّكَرَ الرَّابِعُ: حَكَى الزَّجَّاجُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِيَرْكَبُوهَا وَيَأْكُلُوهَا فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْوَصَائِلِ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَةً لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا فَعَبَدَهَا الْمُشْرِكُونَ، فَغَيَّرُوا خَلْقَ اللَّه، هَذَا جُمْلَةُ كلام المفسرين في هذا الباب [قوله تعالى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ إلى قوله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً] ويخطر ببالي هاهنا وَجْهٌ آخَرُ فِي تَخْرِيجِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ دُخُولَ الضَّرَرِ وَالْمَرَضِ فِي الشَّيْءِ يَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: التَّشَوُّشُ، وَالنُّقْصَانُ، وَالْبُطْلَانُ.
فَادَّعَى الشَّيْطَانُ لَعَنَهُ اللَّه إِلْقَاءَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي مَرَضِ الدِّينِ، وَضَرَرُ الدِّينِ هُوَ قَوْلُهُ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمَرَضَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ التَّشَوُّشُ وَالنُّقْصَانُ وَالْبُطْلَانُ، فَأَمَّا التَّشَوُّشُ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَمَانِيِّ يَشْغَلُ عَقْلَهُ وَفِكْرَهُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ وَالْحِيَلِ وَالْوَسَائِلِ اللَّطِيفَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ، فَهَذَا مَرَضٌ رُوحَانِيٌّ مِنْ جِنْسِ التَّشَوُّشِ، وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَتْكَ الْآذَانِ نَوْعُ نُقْصَانٍ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ مُسْتَغْرِقَ الْعَقْلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا صَارَ فَاتِرَ الرَّأْيِ ضَعِيفَ الْحَزْمِ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ، وأما البطلان(11/223)
فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ يُوجِبُ بُطْلَانَ الصِّفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمُدَّةِ الْأُولَى، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مُوَاظِبًا عَلَى طَلَبِ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ مُعْرِضًا عَنِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَلَا يَزَالُ يَزِيدُ فِي قَلْبِهِ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالنُّفْرَةُ عَنِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَزَالُ تَتَزَايَدُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ذِكْرُ الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَزُولُ عَنْ خَاطِرِهِ حُبُّ الدُّنْيَا الْبَتَّةَ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْخِلْقَةِ لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ عَلَى سَبِيلِ السَّفَرِ، وَهِيَ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى عَالَمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا نَسِيَتْ مَعَادَهَا وَأَلِفَتْ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ/ الَّتِي لَا بُدَّ مِنَ انْقِضَائِهَا وَفَنَائِهَا كَانَ هَذَا بِالْحَقِيقَةِ تَغْيِيرًا لِلْخِلْقَةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الْحَشْرِ: 19] وَقَالَ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: 46] .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الشَّيْطَانِ دَعَاوِيَهِ فِي الْإِغْوَاءِ وَالضَّلَالِ حَذَّرَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَقَالَ: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً وَاعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا لَا يَخْتَارُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّه، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ مَا أَمَرَهُ الشَّيْطَانُ بِهِ وَتَرَكَ مَا أَمَرَهُ الرَّحْمَنُ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ اتَّخَذَ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا لِنَفْسِهِ وَتَرَكَ وِلَايَةَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّه تُفِيدُ الْمَنَافِعَ الْعَظِيمَةَ الدَّائِمَةَ الْخَالِصَةَ عَنْ شَوَائِبِ الضَّرَرِ، وَطَاعَةَ الشَّيْطَانِ تُفِيدُ الْمَنَافِعَ الثَّلَاثَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الْمَشُوبَةَ بِالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ الْغَالِبَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا، فَمَنْ رَغِبَ فِي وِلَايَتِهِ فَقَدْ فَاتَهُ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ وَأَجَلُّهَا بِسَبَبِ أَخَسِّ الْمَطَالِبِ وَأَدْوَنِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْخَسَارُ الْمُطْلَقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ عُمْدَةَ أَمْرِ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ بِإِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي الْقَلْبِ، وَأَمَّا تَبْتِيكُ الْآذَانِ وَتَغْيِيرُ الْخِلْقَةِ فَذَاكَ مِنْ نَتَائِجِ إِلْقَاءِ الْأَمَانِيِّ فِي الْقَلْبِ وَمِنْ آثَارِهِ، فَلَا جَرَمَ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي دَفْعِ تِلْكَ الْأَمَانِيِّ وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْأَمَانِيَّ لَا تُفِيدُ إِلَّا الْغُرُورَ، وَالْغُرُورُ هُوَ أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ أَنَّهُ نَافِعٌ وَلَذِيذٌ، ثُمَّ يَتَبَيَّنَ اشْتِمَالُهُ عَلَى أَعْظَمِ الْآلَامِ وَالْمَضَارِّ، وَجَمِيعُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا كَذَلِكَ، وَالْعَاقِلُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَمِثَالُ هَذَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ سَيَطُولُ عُمُرُهُ وَيَنَالُ مِنَ الدُّنْيَا أَمَلَهُ وَمَقْصُودَهُ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الدُّنْيَا دُوَلٌ فَرُبَّمَا تَيَسَّرَتْ لَهُ كَمَا تَيَسَّرَتْ لِغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ كل ذلك غرور فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ كُلَّمَا كَانَ أَلَذَّ وَأَشْهَى وَكَانَ الْإِلْفُ مَعَهُ أَدْوَمَ وَأَبْقَى كَانَتْ مُفَارَقَتُهُ أَشَدَّ إِيلَامًا وَأَعْظَمَ تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْعُمْدَةُ وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُمْ بِأَنَّهُ لَا قِيَامَةَ وَلَا جَزَاءَ فَاجْتَهَدُوا فِي اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغُرُورَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ وِجْدَانِ مَا يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَعْظُمُ تَأَذِّيهِ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ فِيهِ، وَالِاسْتِغْرَاقُ/ فِي طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَالِانْهِمَاكُ فِي مَعَاصِي اللَّه سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَذِيذًا إِلَّا أَنَّ عَاقِبَتَهُ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَسُخْطُ اللَّه وَالْبُعْدُ عَنْ رَحْمَتِهِ، فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُقَوِّي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْغُرُورُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً الْمَحِيصُ الْمَعْدِلُ وَالْمَفَرُّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هَذِهِ الْآيَةُ(11/224)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وُرُودِهَا. الثَّانِي: التَّخْلِيدُ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْكُفَّارِ، وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَلا يَجِدُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ نَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ هُمُ الْكُفَّارُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ آيَاتِ الْوَعْدِ ذَكَرَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَلَوْ كَانَ الْخُلُودُ يُفِيدُ التَّأْبِيدَ وَالدَّوَامَ لَلَزِمَ التَّكْرَارُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخُلُودَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ لَا عَنِ الدَّوَامِ، وَأَمَّا فِي آيَاتِ الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ الْخُلُودَ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّأْبِيدَ إِلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْفُسَّاقِ مُنْقَطِعٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُمَا مَصْدَرَانِ: الْأَوَّلُ: مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، كأنه قال: وعد وعدا وحقا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ، أَيْ حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَهُوَ تَوْكِيدٌ ثَالِثٌ بَلِيغٌ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ التَّوْكِيدَاتِ مُعَارَضَةُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْطَانُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ وَعْدَ اللَّه أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَأَحَقُّ بِالتَّصْدِيقِ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ أَحَدٌ أَكْذَبَ مِنْهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا بِإِشْمَامِ الصَّادِ الزَّايَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ صَادٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا دَالٌ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَصْدُ السَّبِيلِ [النَّحْلِ: 9] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحِجْرِ: 94] وَالْقِيلُ: مَصْدَرُ قَالَ قولا وقيلا، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأُمْنِيَّةُ أُفْعُولَةٌ مِنَ الْمُنْيَةِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى/ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الْحَجِّ: 52] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (لَيْسَ) فِعْلٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْمٍ يَكُونُ هُوَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَيْسَ الثَّوَابُ الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي [النساء: 122] الْآيَةَ، بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَيْسَ يُسْتَحَقُّ بِالْأَمَانِيِّ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. الثَّانِي: لَيْسَ وَضْعُ الدِّينِ عَلَى أَمَانِيِّكُمْ. الثَّالِثُ:
لَيْسَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ بِأَمَانِيِّكُمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ إِسْنَادَ لَيْسَ إِلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ خِطَابٌ مَعَ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ حَشْرٌ وَلَا نَشْرٌ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِهِ لَكِنَّهُمْ يَصِفُونَ أَصْنَامَهُمْ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه، وَأَمَّا أَمَانِيُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ(11/225)
نَصارى
[الْبَقَرَةِ: 111] وَقَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] فَلَا يُعَذِّبُنَا، وَقَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] .
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَإِنِ ارْتَكَبُوا الْكَبَائِرَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ بِالْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ مَنْ يَشَاءُ كَمَا قَالَ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 116] وَرُوِيَ أَنَّهُ تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ أَوْلَى باللَّه مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا نَاسِخُ الْكُتُبِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ شَيْءٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يُشْكِلُ بِالصَّغَائِرِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ قَالُوا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَ الصَّغِيرَةِ قَدِ انْحَبَطَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِ بِمِقْدَارِ عِقَابِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، فَهَهُنَا قَدْ وَصَلَ جَزَاءُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إِلَيْهِ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى عُمُومَاتِهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] وَالَّذِي نَزِيدُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذَا الْجَزَاءِ مَا يَصِلُ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَالْأَسْقَامِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا [الْمَائِدَةِ: 38] سَمَّى ذَلِكَ الْقَطْعَ بِالْجَزَاءِ/ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ غَفَرَ اللَّه لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَمْرَضُ، أَلَيْسَ يُصِيبُكَ الْأَذَى فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ:
أَنُجْزَى بِكُلِّ مَا نَعْمَلُ لَقَدْ هَلَكْنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُ فَقَالَ: يُجْزَى الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا بِمُصِيبَتِهِ فِي جَسَدِهِ وَمَا يُؤْذِيهِ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنَا شَيْئًا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا مِنْكُمْ مُصِيبَةٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا جَعَلَهَا اللَّه لَهُ كَفَّارَةً حَتَّى الشَّوْكَةُ الَّتِي تَقَعُ فِي قَدَمِهِ» .
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزَاءُ بِنَقْصِ ثَوَابِ إِيمَانِهِ وَسَائِرِ طَاعَاتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] .
وَأَمَّا الْخَبَرُ: فَمَا
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه وَأَيُّنَا لَمْ يعمل سوأ فَكَيْفَ الْجَزَاءُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ الْوَاحِدَةِ عُقُوبَةً وَاحِدَةً فَمَنْ جُوزِيَ بِالسَّيِّئَةِ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ عَشَرَةٍ وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعُ حَسَنَاتٍ فَوَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ» .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَجَمِيعَ الطَّاعَاتِ أَعْظَمُ لَا مَحَالَةَ مِنْ عِقَابِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ والعدل(11/226)
يَقْتَضِي أَنْ يُحَطَّ مِنَ الْأَكْثَرِ مِثْلُ الْأَقَلِّ، فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مِنَ الْأَكْثَرِ شَيْءٌ زَائِدٌ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النِّسَاءِ: 124] فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي أَطَاعَ اللَّه سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ شَرِبَ قَطْرَةً مِنَ الْخَمْرِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُهُمْ: خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا إِلَى قَوْلِهِ فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى [الْحُجُرَاتِ: 9] سَمَّى الْبَاغِيَ حَالَ كَوْنِهِ بَاغِيًا مؤمنا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [الْبَقَرَةِ: 178] سَمَّى صَاحِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مُؤْمِنًا، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيمِ: 8] سَمَّاهُ مُؤْمِنًا حَالَ مَا أَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ حُجَّةً فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ مَخْصُوصًا بِأَهْلِ الْكُفْرِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ: هَبْ أَنَّ النَّصَّ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: 48] أَخَصُّ مِنْهُ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّ إِلْحَاقَ التَّأْوِيلِ بِعُمُومَاتِ الْوَعِيدِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ كَرَمٌ، وَإِهْمَالَ الْوَعِيدِ وَحَمْلَهُ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالتَّعْرِيضِ جُودٌ وَإِحْسَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَدَخَلَ فِيهِ مَا صَدَرَ عَنِ الْكُفَّارِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَوْلُهُ يُجْزَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى وُصُولِ جَزَاءِ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ عِبَارَةً عَمَّا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ فِي الدُّنْيَا.
قُلْنَا: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَنَعُّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ ولذاتهم هاهنا أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَزَاءَ أَفْعَالِهِمُ الْمَحْظُورَةِ تَصِلُ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِوُصُولِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ، وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ بِعَمَلِ السُّوءِ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ، وَإِذَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ اللَّه غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عَمَلًا للَّه تَعَالَى لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ مَقْدُورٍ واحد بِقَادِرَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى لَمَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ عَلَيْهِ جَزَاءً الْبَتَّةَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لَأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ مُكَرَّرٌ في هذا الكتاب.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ الْعُصَاةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَلِيَّ(11/227)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
لِأَحَدٍ وَلَا نَصِيرَ لِأَحَدٍ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وتعالى ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 124]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
قَالَ مَسْرُوقٌ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَفِي حم الْمُؤْمِنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ في هذه السورة جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ، وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ أَفْخَمُ، وَيَدُلُّ عَلَى مُثِيبٍ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَيُوَافِقُ وَلا يُظْلَمُونَ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ [الزُّخْرُفِ: 70] وَلِقَوْلِهِ ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: 46] [ق: 34] واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: الْفَرْقُ بَيْنَ (مَنِ) الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى لِلتَّبْعِيضِ، وَالْمُرَادُ مَنْ يَعْمَلْ بَعْضَ الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بَعْضَهَا حَالَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، بَلْ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ قَدْ صَلَّى وَصَامَ وَحَجَّ وَزَكَّى وَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَزِمَ بِحُكْمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْفُسَّاقِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، فَأَمَّا أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ يُنْقَلَ إِلَى النَّارِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يَدْخُلُ النَّارَ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّقِيرُ: نُقْرَةٌ فِي ظَهْرِ النَّوَاةِ مِنْهَا تَنْبُتُ النَّخْلَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُنْقَصُونَ قَدْرَ مَنْبِتِ النَّوَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ خَصَّ اللَّه الصَّالِحِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُمْ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: 46] وَقَالَ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 108] .
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاجِعُ فِي قَوْلِهِ وَلا يُظْلَمُونَ عَائِدًا إِلَى عُمَّالِ السُّوءِ/ وَعُمَّالِ الصَّالِحَاتِ جَمِيعًا، وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْقُصُ عَنِ الثَّوَابِ كَانَ بِأَنْ لَا يَزِيدَ فِي الْعِقَابِ أَوْلَى هَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق.
[سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 126]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَطَ حُصُولَ النَّجَاةِ وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مُؤْمِنًا شَرَحَ الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ فَضْلَهُ مِنْ(11/228)
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الدِّينُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى إِظْهَارِ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ للَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّرْغِيبِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَاعْلَمْ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ: الِاعْتِقَادُ وَالْعَمَلُ: أَمَّا الِاعْتِقَادُ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ. وَالْوَجْهُ أَحْسَنُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا عَرَفَ بِقَلْبِهِ رَبَّهُ وَأَقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَبِعُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّه، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَيَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ، فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَرَةِ وَاحْتِوَائِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ للَّه، وَمَا أَسْلَمَ لِغَيْرِ اللَّه وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ تَفْوِيضِ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَى الْخَالِقِ وَإِظْهَارِ التَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ طَرِيقَةِ مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللَّه، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَعِينُونَ بِالْأَصْنَامِ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه، وَالدَّهْرِيَّةُ وَالطَّبِيعِيُّونَ يَسْتَعِينُونَ. بِالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَقُولُونَ فِي دَفْعِ عِقَابِ الْآخِرَةِ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَجَمِيعُ الْفِرَقِ قَدِ اسْتَعَانُوا بِغَيْرِ اللَّه. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَسْلَمَتْ وُجُوهُهُمْ للَّه لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الطَّاعَةَ الْمُوجِبَةَ لِثَوَابِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمَعْصِيَةَ الْمُوجِبَةَ لِعِقَابِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ فِي/ الْحَقِيقَةِ لَا يَرْجُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ فَوَّضُوا التَّدْبِيرَ وَالتَّكْوِينَ وَالْإِبْدَاعَ وَالْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا مُوجِدَ وَلَا مُؤَثِّرَ إِلَّا اللَّه فَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ للَّه وَعَوَّلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى فَضْلِ اللَّه، وَانْقَطَعَ نَظَرُهُمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا سِوَى اللَّه.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا دَعَا الْخَلْقَ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ كُلِّ الْخَلْقِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى كما قال:
إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَامِ: 19] وَمَا كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ فَلَكٍ وَلَا طَاعَةِ كَوْكَبٍ وَلَا سَجْدَةِ صَنَمٍ وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِطَبِيعَةٍ، بَلْ كَانَ دِينُهُ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّه وَالْإِعْرَاضَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه وَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْخِتَانِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا وَالطَّوَافِ بِهَا وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ وَالْحَلْقِ وَالْكَلِمَاتِ الْعَشْرِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَةِ: 124] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ إِنَّ شَرْعَ إِبْرَاهِيمَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْكُلِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِشَيْءٍ كَافْتِخَارِهِمْ بِالِانْتِسَابِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِمْ مُفْتَخِرِينَ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ مَقْبُولًا عِنْدَ الْكُلِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَنِيفاً فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمَتْبُوعِ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِلتَّابِعِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ رَاكِبًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّاكِبُ حَالًا لِلْمَرْئِيِّ وَالرَّائِي.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْحَنِيفُ الْمَائِلُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَائِلٌ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، لِأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَائِلٌ عَنْ كُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُضَادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُجَانِسُهُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ فَيَكُونُ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ كَالْمَرْكَزِ الَّذِي يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ.(11/229)
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَاحِبَ شَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ.
قُلْنَا: يَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ دَاخِلَةً فِي مِلَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ اشْتِمَالِ هَذِهِ الْمِلَّةِ عَلَى زَوَائِدَ حَسَنَةٍ وَفَوَائِدَ جَلِيلَةٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ/ لَمَّا بَلَغَ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَةِ فِي الدِّينِ أَنِ اتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَّبِعَ خُلُقَهُ وَطَرِيقَتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَنِيفًا ثُمَّ قَالَ عَقِيبَهُ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا اتَّخَذَهُ خَلِيلًا لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ الشَّرْعِ آتِيًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: 124] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ إِمَامًا لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ أَتَمَّ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ.
وإذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الْعَالِي وَهُوَ كَوْنُهُ خَلِيلًا للَّه تَعَالَى بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَذَا الشَّرْعِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفُوزَ بِأَعْظَمِ الْمَنَاصِبِ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّرْغِيبَ الْعَظِيمَ فِي هَذَا الدِّينِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.
قُلْنَا: هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ وَالْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ مِنْ شَأْنِهَا تَأْكِيدُ ذَلِكَ الكلام، والأمر هاهنا كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ الْخَلِيلِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَلِيلَ الْإِنْسَانِ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي خِلَالِ أُمُورِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَالَّذِي دَخَلَ حُبُّهُ فِي خِلَالِ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْمَحَبَّةِ.
قِيلَ: لَمَّا أَطْلَعَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ وَدَعَا الْقَوْمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّه، وَمَنَعَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَمَنَعَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلنِّيرَانِ وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ وَمَالَهُ لِلضِّيفَانِ جَعَلَهُ اللَّه إِمَامًا لِلْخَلْقِ وَرَسُولًا إِلَيْهِمْ، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ الْمُلْكَ وَالنُّبُوَّةَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَلِهَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتِ سَمَّاهُ خَلِيلًا، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه لِعَبْدِهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ لِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعِ إِلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي اشْتِقَاقِ اسْمِ الْخَلِيلِ: أَنَّهُ الَّذِي يُوَافِقُكَ فِي خِلَالِكَ. أَقُولُ:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّه»
فَيُشْبِهُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَلَغَ فِي هَذَا الْبَابِ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّه بِهَذَا التَّشْرِيفِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّ الْخَلِيلَ هُوَ الَّذِي يُسَايِرُكَ فِي طَرِيقِكَ، مِنَ الْخَلِّ وَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الرَّمْلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى شِدَّةِ طَاعَتِهِ للَّه وَعَدَمِ تَمَرُّدِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَنْ حُكْمِ اللَّه، كَمَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ/ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: 131] .(11/230)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْخَلِيلُ هُوَ الَّذِي يَسُدُّ خَلَلَكَ كَمَا تَسُدُّ خَلَلَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ خَلِيلًا مَعَ اللَّه امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَسُدُّ الْخَلَلَ، ومن هاهنا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْخَلِيلِ بِذَلِكَ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذَا اللَّقَبِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا صَارَ الرَّمْلُ الَّذِي أَتَى بِهِ غِلْمَانُهُ دَقِيقًا قَالَتِ امْرَأَتُهُ: هَذَا مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ الْمِصْرِيِّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بَلْ هُوَ مِنْ خَلِيلِيَ اللَّه، وَالثَّانِي: قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هَبَطَ مَلَكٌ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّه بِصَوْتٍ رَخِيمٍ شَجِيٍّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْكُرْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ لَا أَذْكُرُهُ مَجَّانًا، فَقَالَ لَكَ مَالِي كُلُّهُ، فَذَكَرَهُ الْمَلَكُ بِصَوْتٍ أَشْجَى مِنَ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: اذْكُرْهُ مَرَّةً ثَالِثَةً وَلَكَ أَوْلَادِي، فَقَالَ الْمَلَكُ: أَبْشِرْ فَإِنِّي مَلَكٌ لَا أَحْتَاجُ إِلَى مَالِكَ وَوَلَدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ امْتِحَانَكَ، فَلَمَّا بَذَلَ الْمَالَ وَالْأَوْلَادَ عَلَى سَمَاعِ ذِكْرِ اللَّه لَا جَرَمَ اتَّخَذَهُ اللَّه خَلِيلًا. الثَّالِثُ: رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي صُورَةِ غِلْمَانٍ حِسَانِ الْوُجُوهِ وَظَنَّ الْخَلِيلُ أَنَّهُمْ أَضْيَافُهُ وَذَبَحَ لَهُمْ عِجْلًا سَمِينًا وَقُرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ كُلُوا عَلَى شَرْطِ أَنْ تُسَمُّوا اللَّه فِي أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ فِي آخِرِهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ أَنْتَ خَلِيلُ اللَّه، فَنَزَلَ هَذَا الْوَصْفُ. وَأَقُولُ: فِيهِ عِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ إِذَا كَانَ مُضِيئًا مُشْرِقًا عُلْوِيًّا قَلِيلَ التَّعَلُّقِ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْجَسَدَانِيَّةِ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَى مَثَلِ هَذَا الْجَوْهَرِ الْمُقَدَّسِ الشَّرِيفِ أَعْمَالٌ تَزِيدُهُ صِقَالَةً عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَأَفْكَارٌ تَزِيدُهُ اسْتِنَارَةً بِالْمَعَارِفِ الْقُدْسِيَّةِ وَالْجَلَايَا الْإِلَهِيَّةِ، صَارَ مِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ مُتَوَغِّلًا فِي عَالَمِ الْقُدُسِ وَالطَّهَارَةِ مُتَبَرِّئًا عَنْ عَلَائِقِ الْجِسْمِ وَالْحِسِّ، ثُمَّ لَا يَزَالُ هَذَا الْإِنْسَانُ يَتَزَايَدُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَرَى إِلَّا اللَّه، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا اللَّه، وَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا باللَّه، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا باللَّه، وَلَا يَمْشِي إِلَّا باللَّه، فَكَأَنَّ نُورَ جَلَالِ اللَّه قَدْ سَرَى فِي جَمِيعِ قُوَاهُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَخَلَّلَ فِيهَا وَغَاصَ فِي جَوَاهِرِهَا، وَتَوَغَّلَ فِي مَاهِيَّاتِهَا، فَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ هُوَ الْمَوْصُوفُ حَقًّا بِأَنَّهُ خَلِيلٌ لِمَا أَنَّهُ تَخَلَّلَتْ مَحَبَّةُ اللَّه فِي جَمِيعِ قُوَاهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي عَصَبِي نُورًا» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّصَارَى: لَمَّا جَازَ إِطْلَاقُ اسْمِ الخليل على إنسان معنى عَلَى سَبِيلِ الْإِعْزَازِ وَالتَّشْرِيفِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ اسْمِ الِابْنِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْزَازِ وَالتَّشْرِيفِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ كَوْنَهُ خَلِيلًا عِبَارَةٌ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْمُفْرِطَةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ، أَمَّا/ الِابْنُ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْجِنْسِيَّةِ، وَجَلَّ الْإِلَهُ عَنْ مُجَانَسَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُشَابَهَةِ الْمُحْدَثَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذِ اللَّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَمَا تَكُونُ خُلَّةُ الآدميين، وكيف يعقل ذلك وله ملك السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَشَرِ الضَّعِيفِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ خَلِيلًا بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخْلِصًا فِي الْعُبُودِيَّةِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّه بِهَذَا التَّشْرِيفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَهُ خَلِيلًا يُوهِمُ الْجِنْسِيَّةَ فَهُوَ سُبْحَانُهُ أَزَالَ وَهْمَ الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَبَيَّنَ هاهنا أَنَّهُ إِلَهُ الْمُحْدَثَاتِ وَمُوجِدُ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَخْضَعَ لِتَكَالِيفِهِ وَأَنْ يَنْقَادَ(11/231)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَا يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِمَا إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ التَّامُّ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ حَتَّى لَا يُشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ، فَدَلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَعَلَى كَمَالِ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً الرَّابِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ خَلِيلُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْخُلَّةِ عَبْدٌ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] ومجرى قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النِّسَاءِ: 172] يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَمَالِهِمْ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لَمَّا لَمْ يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ مَعَ ضعف بشريته عن عبودية اللَّه؟ كذا هاهنا، يعني إذا كان كل من في السموات وَالْأَرْضِ مُلْكَهُ فِي تَسْخِيرِهِ وَنَفَاذِ/ إِلَهِيَّتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اتِّخَاذَ اللَّه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلًا يُخْرِجُهُ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ مُتَنَاسِبَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا قَالَ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ (مَنْ) لِأَنَّهُ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجِنْسِ، وَالَّذِي يَعْقِلُ إِذَا ذُكِّرَ وَأُرِيدَ بِهِ الجنس ذكر بما.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَاطَةُ بِالْقُدْرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [الْفَتْحِ: 21] قَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي/ الْأَرْضِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نقول: إن قَوْلِهِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَا يُفِيدُ ظَاهِرُهُ إِلَّا كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا مالكا لكل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى مَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُمَا وَمُغَايِرًا لَهُمَا، فَلَمَّا قَالَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ خَارِجًا عَنْ هَذِهِ السموات وَالْأَرْضِ، عَلَى أَنَّ سِلْسِلَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِنَّمَا تَنْقَطِعُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِبْدَاعِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِنَّمَا يَحْصُلُ وَيَكْمُلُ بِمَجْمُوعِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا مَعًا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ لِمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلْمَ باللَّه هُوَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ قَادِرًا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عَالِمًا لِمَا أَنَّ الْفِعْلَ بِحُدُوثِهِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الثَّانِي.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
اعْلَمْ أَنَّ عَادَةَ اللَّه فِي تَرْتِيبِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ أَنَّهُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ آيَاتٍ كثيرة في الوعد والوعيد وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَيَخْلِطُ بِهَا آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى كِبْرِيَاءِ اللَّه وَجَلَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ إِلَهِيَّتِهِ. ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا أَحْسَنُ أَنْوَاعِ التَّرْتِيبِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّأْثِيرِ فِي القلوب،(11/232)
لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ لَا يَقَعُ فِي مَوْقِعِ الْقَبُولِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ إِلَّا عِنْدَ/ الْقَطْعِ بِغَايَةِ كَمَالِ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ أَحْسَنُ التَّرْتِيبَاتِ اللَّائِقَةِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ جَلَالِ اللَّه وَكَمَالِ كِبْرِيَائِهِ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ فَقَالَ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الِاسْتِفْتَاءُ طَلَبُ الْفَتْوَى يقال: استفتيت الرجل في المسألة فأفتاني إفتاء وَفُتْيًا وَفَتْوًى، وَهُمَا اسْمَانِ مَوْضُوعَانِ مَوْضِعَ الْإِفْتَاءِ، وَيُقَالُ: أَفْتَيْتُ فُلَانًا فِي رُؤْيَا رَآهَا إِذَا عَبَرَهَا قَالَ تَعَالَى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ [يُوسُفَ: 46] وَمَعْنَى الْإِفْتَاءِ إِظْهَارُ الْمُشْكِلِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَتَى وَهُوَ الشَّابُّ الَّذِي قَوِيَ وَكَمُلَ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ يَقْوَى بِبَيَانِهِ مَا أُشْكِلَ وَيَصِيرُ قَوِيًّا فَتِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تُوَرِّثُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ شَيْئًا مِنَ الْمِيرَاثِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي تَوْرِيثِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَوْفِيَةِ الصَّدَاقِ لَهُنَّ، وَكَانَتِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَإِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً وَلَهَا مَالٌ تَزَوَّجَ بِهَا وَأَكَلَ مَالَهَا، وَإِذَا كَانَتْ دَمِيمَةً مَنَعَهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ لَا يَقَعُ عَنْ ذَوَاتِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهن، وَتِلْكَ الْحَالَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ عَنْهُ الِاسْتِفْتَاءُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالتَّقْدِيرُ: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِي النِّسَاءِ، وَالْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أَيْضًا، وَذَلِكَ الْمَتْلُوُّ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلِهِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النِّسَاءِ: 3] .
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا عَنْ أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْوَالِ النِّسَاءِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الْحُكْمِ ذَكَرَ أَنَّ اللَّه يُفْتِيهِمْ فِيهَا، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُبَيَّنَ الْحُكْمِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةَ تُفْتِيهِمْ فِيهَا.
وَجَعَلَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ إِفْتَاءً مِنَ الْكِتَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْمَجَازِ الْمَشْهُورِ: إِنَّ كِتَابَ اللَّه بَيَّنَ لَنَا هَذَا الْحُكْمَ، وَكَمَا جَازَ هَذَا جَازَ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ/ كِتَابَ اللَّه أَفْتَى بِكَذَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مبتدأ وفِي الْكِتابِ خَبَرُهُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ حَالِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَأَنَّ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، وَالْمُخِلُّ بِهَا ظَالِمٌ مُتَهَاوِنٌ بِمَا عَظَّمَهُ اللَّه. وَنَظِيرُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ قَوْلِهِ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزُّخْرُفِ: 4] .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَجْرُورٌ عَلَى الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَأُقْسِمُ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَسَمُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ.(11/233)
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ فِيهِنَّ وَالْمَعْنَى: قُلِ اللَّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ جِدًّا نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جائز كما شرحناه في قوله تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاءِ: 1] وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَفْتَى وَيُفْتِي أَيْضًا فِيمَا يُتْلَى مِنَ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُفْتِي فِيمَا سَأَلُوا مِنَ الْمَسَائِلِ. بقي هاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي يَتامَى النِّساءِ.
قُلْنَا: هُوَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ صِلَةُ يُتْلى أَيْ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَعْنَاهُنَّ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ فَبَدَلٌ مِنْ فِيهِنَّ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْإِضَافَةُ فِي يَتامَى النِّساءِ مَا هِيَ؟
الْجَوَابُ: قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ فِي النِّسَاءِ الْيَتَامَى، فَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إِلَى الِاسْمِ، كَمَا تَقُولُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الِاسْمِ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِطَالِعَةِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ وَالْمَوْصُوفَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ قَدْ يَبْقَى بِدُونِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ غَيْرُ الصِّفَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَصْرِيِّينَ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالُوا: النِّسَاءُ فِي الْآيَةِ غَيْرُ الْيَتَامَى، وَالْمُرَادُ بِالنِّسَاءِ أُمَّهَاتُ الْيَتَامَى أُضِيفَتْ إِلَيْهِنَّ أَوْلَادُهُنَّ الْيَتَامَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ أُمِّ كُحَّةَ، وَكَانَتْ لَهَا يَتَامَى.
ثُمَّ قَالَ: اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا فُرِضَ لَهُنَّ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ:
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي مِيرَاثِ الْيَتَامَى وَالصِّغَارِ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَاقِينَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَا كُتِبَ/ لَهُنَّ الصَّدَاقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ وَالنَّفْرَةَ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الرَّغْبَةِ كَانَ الْمَعْنَى: وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى النَّفْرَةِ كَانَ الْمَعْنَى: وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا بَلَغْنَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا:
أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ مِنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شعبة ورغب أمها في المال، فجاؤا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ قُدَامَةُ: أَنَا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أَبِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا صَغِيرَةٌ وَإِنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ،
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذِكْرِ رَغْبَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَهُوَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى يَتَامَى النِّسَاءِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْأَطْفَالَ وَلَا النِّسَاءَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ الَّذِينَ بَلَغُوا إِلَى الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ دُونَ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَهُوَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ يُفْتِيكُمْ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ وَفِي أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّه مِنْهُ شيء.(11/234)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُفْتِيهِمْ بِهِ فِي النِّسَاءِ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التَّوْبَةِ: 6] وَقَوْلِهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] وهاهنا ارْتَفَعَ امْرَأَةٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ خافَتْ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَتْ أَيْ عَلِمَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: ظَنَّتْ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ نَفْسُ الْخَوْفِ إِلَّا أَنَّ الْخَوْفَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الْخَوْفِ، وَتِلْكَ الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لا مرأته: إِنَّكِ دَمِيمَةٌ أَوْ شَيْخَةٌ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ شَابَّةً جَمِيلَةً، وَالْبَعْلُ هُوَ الزَّوْجُ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَعْلِ هُوَ السَّيِّدُ، ثُمَّ سُمِّيَ الزَّوْجُ بِهِ لِكَوْنِهِ كَالسَّيِّدِ لِلزَّوْجَةِ، وَيُجْمَعُ الْبَعْلُ عَلَى بُعُولَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [الْبَقَرَةِ: 228] وَالنُّشُوزُ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ النَّشَزِ وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَنُشُوزُ الرَّجُلِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهَا وَيَعْبِسَ وَجْهُهُ فِي وَجْهِهَا وَيَتْرُكَ مُجَامَعَتَهَا وَيُسِيءَ عِشْرَتَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي السَّائِبِ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ وَكَانَتْ شَيْخَةً فَهَمَّ بِطَلَاقِهَا، فَقَالَتْ لَا تُطَلِّقْنِي وَدَعْنِي أَشْتَغِلْ بِمَصَالِحِ أَوْلَادِي وَاقْسِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ لَيَالِيَ قَلِيلَةً، فَقَالَ الزَّوْجُ: إِنْ كان الأمر كذلك فَهُوَ أَصْلَحُ لِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ أَرَادَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَالْتَمَسَتْ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا. وَالثَّالِثُ: رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَيُرِيدُ الرَّجُلُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا، فَتَقُولُ: أَمْسِكْنِي وَتَزَوَّجْ بِغَيْرِي، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الْمُرَادُ بِالنُّشُوزِ إِظْهَارُ الْخُشُونَةِ فِي الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ فِيهِمَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِعْرَاضِ السُّكُوتُ عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمُدَاعَاةِ وَالْإِيذَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِعْرَاضِ يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى النَّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُصْلِحا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَالْبَاقُونَ يَصَّالَحَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالصَّادِ، وَالْأَلِفِ بَيْنَ الصَّادِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مِنَ التَّصَالُحِ، وَيَصَّالَحَا فِي الْأَصْلِ هُوَ يَتَصَالَحَا، فَسَكَنَتِ التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي الصَّادِ. وَنَظِيرُهُ قوله/ ادَّارَكُوا فِيها [الْأَعْرَافِ: 38] أَصْلُهُ تَدَارَكُوا سَكَنَتِ التَّاءُ وَأُبْدِلَتْ بِالدَّالِ لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ، ثُمَّ اجْتُلِبَتِ الْهَمْزَةُ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا فَصَارَ ادَّارَكُوا.(11/235)
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ يُصْلِحا فَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِصْلَاحَ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالتَّشَاجُرِ مُسْتَعْمَلٌ قَالَ تَعَالَى:
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 182] وَقَالَ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: 114] وَمَنْ قَرَأَ يَصَّالَحَا وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ قَالَ: أَنْ يَصَّالَحَا مَعْنَاهُ يَتَوَافَقَا، وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ صَالَحَا، وَانْتَصَبَ صُلْحًا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَصَالَحَا، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نُوحٍ: 17] وَقَوْلِهِ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 8] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الصُّلْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي شَيْءٍ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ إِمَّا الْمَهْرُ أَوِ النَّفَقَةُ أَوِ الْقَسْمُ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى طَلَبِهَا مِنَ الزَّوْجِ شَاءَ أَمْ أَبَى، أَمَّا الْوَطْءُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْوَطْءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا الصُّلْحُ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا بَذَلَتِ الْمَرْأَةُ كُلَّ الصَّدَاقِ أَوْ بَعْضَهُ لِلزَّوْجِ أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ، أَوْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ الْقَسْمَ، وَكَانَ غَرَضُهَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا، فَإِذَا وَقَعَتِ الْمُصَالَحَةُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الصُّلْحُ مُفْرَدٌ دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ، وَالْمُفْرَدُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ، وَذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَهَهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ فَحَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى أَمْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ؟ الْأَصَحُّ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ ضَرُورَةَ أَنَّا لَوْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَصَارَ مُجْمَلًا وَيَخْرُجُ عَنِ الْإِفَادَةِ، فَإِذَا حَصَلَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ سَابِقٌ انْدَفَعَ هَذَا الْمَحْذُورُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَنَقُولُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، يَعْنِي الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْأَوَّلُونَ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدَ بَيَّنَّا أَنَّ حَمْلَ هَذَا/ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْلَى، فَانْدَفَعَ اسْتِدْلَالُهُمْ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إِلَّا أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ مُؤَكِّدٌ لِلْمَطْلُوبِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا فَقَوْلُهُ فَلا جُناحَ يُوهِمُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالْغَايَةُ فِيهِ ارْتِفَاعُ الْإِثْمِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ كَمَا أَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ فَكَذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَمَنْفَعَةٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُمَا إِذَا تَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُقِيمَا عَلَى النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.(11/236)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
فَاعْلَمْ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّحَّ جُعِلَ كَالْأَمْرِ الْمُجَاوِرِ لِلنُّفُوسِ اللَّازِمِ لَهَا، يَعْنِي أَنَّ النُّفُوسَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الشُّحِّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشِحُّ بِبَذْلِ نَصِيبِهَا وَحَقِّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الزَّوْجَ يَشِحُّ بِأَنْ يَقْضِيَ عُمُرَهُ مَعَهَا مَعَ دَمَامَةِ وَجْهِهَا وَكِبَرِ سِنِّهَا وَعَدَمِ حُصُولِ اللَّذَّةِ بِمُجَانَسَتِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ، يَعْنِي وَإِنْ تُحْسِنُوا بِالْإِقَامَةِ عَلَى نِسَائِكُمْ وَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وَتَيَقَّنْتُمُ النُّشُوزَ وَالْإِعْرَاضَ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْأَذَى وَالْخُصُومَةِ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى خَبِيرًا، وَهُوَ يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، يَعْنِي وَإِنْ يُحْسِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا إِلَى صَاحِبِهِ وَيَحْتَرِزْ عَنِ الظُّلْمِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِغَيْرِهِمَا، يَعْنِي إِنْ تُحْسِنُوا فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُمَا وَتَتَّقُوا الْمَيْلَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَكَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ الْخَارِجِيَّ كَانَ مِنْ أَدَمِّ بَنِي آدَمَ، وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَجْمَلِهِمْ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَتْ: الْحَمْدُ للَّه، فَقَالَ مالك؟
فَقَالَتْ حَمِدْتُ اللَّه عَلَى أَنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّكَ رُزِقْتَ مِثْلِي فَشَكَرْتَ، وَرُزِقْتُ مِثْلَكَ فَصَبَرْتُ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّه بِالْجَنَّةِ عِبَادَهُ الشاكرين والصابرين.
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: لَنْ تَقْدِرُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي مَيْلِ الطِّبَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ تَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَلَا جَائِزِ الْوُقُوعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشْكَالَ لا زم عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ وَفِي الدَّوَاعِي.
الثَّانِي: لَا تَسْتَطِيعُونَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْحُبِّ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي نَتَائِجِ الْحُبِّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي وَمَعَ قِيَامِ/ الصَّارِفِ مُحَالٌ.
ثُمَّ قَالَ: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْ حُصُولِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ وُسْعِكُمْ، وَلَكِنَّكُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
رَوَى الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ وَيَقُولُ: «هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا لَا أَمْلِكُ» .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يَعْنِي تَبْقَى لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ، كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَلَّقَ لَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى السَّمَاءِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَتَذَرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ»
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَعَثَ إِلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِلَى كُلِّ أَزْوَاجِ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرُ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا، بَعَثَ إِلَى الْقُرَشِيَّاتِ بِمِثْلِ هَذَا، وَإِلَى غَيْرِهِنَّ بِغَيْرِهِ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ لِعُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعدل بيننا في الْقِسْمَةِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَأَتَمَّ لَهُنَّ جَمِيعًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا بِالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَتَتَّقُوا الْجَوْرَ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ الْبَعْضِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِنْ تُصْلِحُوا مَا مَضَى مِنْ مَيْلِكُمْ وَتَتَدَارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وَتَتَّقُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ مِثْلِهِ غفر اللَّه(11/237)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
لَكُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لَمَّا كَانَ خَارِجًا عَنِ الْوُسْعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَاجَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ.
[سورة النساء (4) : آية 130]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَوَازَ الصُّلْحِ إِنْ أَرَادَا ذَلِكَ، فَإِنْ رَغِبَا فِي الْمُفَارَقَةِ فاللَّه سُبْحَانَهُ بَيَّنَ جَوَازَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَوَعَدَ لَهُمَا أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُغْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْ زَوْجِهِ الْأَوَّلِ، وَيَعِيشُ أَهْنَأَ مِنْ عَيْشِهِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مِنْ/ سَعَتِهِ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَإِنَّمَا جَازَ وَصْفُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الرِّزْقِ، وَاسِعُ الْفَضْلِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْقُدْرَةِ، وَاسِعُ الْعِلْمِ، فَلَوْ ذَكَرَ تعالى أنه واسع في كذا لا ختص ذَلِكَ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَاسِعَ وَمَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاسِعٌ فِي جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ وَاسِعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْفَضْلِ وَالْجُودِ، وَالْكَرَمِ. وَقَوْلُهُ حَكِيماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بمعروف أو تسريح بإحسان.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
وَفِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُغْنِي كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ، وَأَنَّهُ وَاسِعٌ أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِ وَاسِعًا فَقَالَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَعْنِي/ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْجُودِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السموات وَالْأَرْضِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى عَمَلِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ، بَلْ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا رِعَايَةً لِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّه شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ لَمْ يَلْحَقْهَا نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بَلْ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.(11/238)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَصَّيْنَا، يَعْنِي وَلَقَدْ وَصَّيْنَا مَنْ قَبْلَكُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُوتُوا، يَعْنِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَصَّيْنَاهُمْ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْعَطْفِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْكِتَابُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ كَقَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ أَوْصَيْتُكَ أَنِ افْعَلْ كَذَا وَأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَيُقَالُ: أَلَمْ آمُرْكَ أَنِ ائْتِ زَيْدًا، وَأَنْ تَأْتِيَ زَيْدًا، قَالَ تَعَالَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَامِ: 14] وَقَالَ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْلِ: 91] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً قَوْلُهُ وَإِنْ تَكْفُرُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَقُلْنَا لَهُمْ وَلَكُمْ: إِنْ تَكْفُرُوا فإن للَّه ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ كُلِّهَا، فَحَقُّ كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَرْجُو ثَوَابَهُ وَيَخَافُ عِقَابَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّه مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَمَا فِي أَرْضِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَيَتَّقِيهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَمُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي ذَاتِهِ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ حَمِدُوهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدُوهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَقْرِيرِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى جَوَادًا مُتَفَضِّلًا، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ وَاسِعَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَثَانِيهَا: / قَالَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَعَنْ ذُنُوبِ الْمُذْنِبِينَ، فَلَا يَزْدَادُ جَلَالُهُ بِالطَّاعَاتِ، وَلَا يَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا لِذَاتِهِ عَنِ الْكُلِّ، وَثَالِثُهَا: قَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يُوجِدَ قَوْمًا آخَرِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعُبُودِيَّتِهِ وتعظيمه، فالغرض هاهنا تَقْدِيرُ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، وَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ ذِكْرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْمَدْلُولَاتِ، ثُمَّ يَذْكُرُهُ مَرَّةً أُخْرَى لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الثَّانِي، ثُمَّ يَذْكُرُهُ ثَالِثًا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَدْلُولِ الثَّالِثِ، وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يَخْطُرُ فِي الذِّهْنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ، فَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ أَقْوَى وَأَجْلَى، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا أَعَدْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّعْتَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِثْبَاتَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَنَبَّهَ الذهن حينئذ(11/239)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
لكون تخليق السموات وَالْأَرْضِ دَالًّا عَلَى أَسْرَارٍ شَرِيفَةٍ وَمَطَالِبَ جَلِيلَةٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجْتَهِدُ الْإِنْسَانُ فِي التَّفَكُّرِ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهَا وَصِفَاتِهَا عَلَى صِفَاتِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ صَرْفَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه، وَكَانَ هَذَا التَّكْرِيرُ مِمَّا يُفِيدُ حُصُولَ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَيُؤَكِّدُهُ، لَا جَرَمَ كَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ. وَقَوْلُهُ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، فَإِنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ لَوْ كَانَتْ حَادِثَةً لَافْتَقَرَ حُدُوثُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ إِلَى قُدْرَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِجِهَادِهِمُ الْغَنِيمَةَ فَقَطْ مُخْطِئُونَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ اللَّه ثَوَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلِمَ اكْتَفَى بِطَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ كَالْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا لَطَلَبَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ وَيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ دَخَلَ الْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَعِنْدَهُ تَعَالَى ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ سَوَاءٌ حَصَلَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ؟
قُلْنَا: تَقْرِيرُ الْكَلَامِ: فَعِنْدَ اللَّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ إِنْ أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يَعْنِي يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ الْجِهَادِ سِوَى الْغَنِيمَةِ وَيَرَى أَنَّهُمْ لَا يَسْعَوْنَ فِي الْجِهَادِ وَلَا يَجْتَهِدُونَ فِيهِ إِلَّا عِنْدَ تَوَقُّعِ الْفَوْزِ بِالْغَنِيمَةِ، وَهَذَا كَالزَّجْرِ مِنْهُ تَعَالَى لهم عن هذه الأعمال.
[سورة النساء (4) : آية 135]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النِّسَاءِ وَالنُّشُوزِ وَالْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَقَّبَهُ بِالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى وَبِالشَّهَادَةِ لِإِحْيَاءِ حُقُوقِ اللَّه، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
إِنِ اشْتَغَلْتَ بِتَحْصِيلِ مُشْتَهَيَاتِكَ كُنْتَ لِنَفْسِكَ لَا للَّه، وَإِنِ اشْتَغَلْتَ بِتَحْصِيلِ مَأْمُورَاتِ اللَّه كُنْتَ للَّه لَا لِنَفْسِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكَالِيفِ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ النَّاسَ عَنْ أَنْ يُقَصِّرُوا عَنْ طَلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا طَالِبِينَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ سَعَادَةِ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ للَّه وَفِعْلُهُ للَّه وَحَرَكَتُهُ للَّه وَسُكُونُهُ للَّه حَتَّى يَصِيرَ مِنَ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي آخِرِ مَرَاتِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَوَّلِ مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا إِذَا عَكَسَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ كَانَ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مُنْتَهَى أَمْرِهَا وِجْدَانُ عَلَفٍ، أَوِ السَّبُعِ الَّذِي غَايَةُ أَمْرِهِ إِيذَاءُ حَيَوَانٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمْرُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] وأمرهم بالإشهاد عن دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ(11/240)
بَعْدَ ذَلِكَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّه، وَأَجْرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ وَاجْتِمَاعَ قَوْمِهِ عَلَى الذَّبِّ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْيَهُودِيِّ/ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْمُصَالَحَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّه لِعِبَادِهِ بِأَنْ يَكُونُوا قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، شَاهِدِينَ للَّه عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْمُؤَكِّدِ لِكُلِّ مَا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَوَّامُ مُبَالَغَةٌ مِنْ قَائِمٍ، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِأَنْ يَكُونُوا مُبَالِغِينَ فِي اخْتِيَارِ الْعَدْلِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ، وَقَوْلُهُ شُهَداءَ لِلَّهِ أَيْ تُقِيمُونَ شَهَادَاتِكُمْ لِوَجْهِ اللَّه كَمَا أُمِرْتُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ أَوْ أَقَارِبِكُمْ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ لَهَا تَفْسِيرَانِ:
الأول: أن يقر على نَفْسَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا إِلْزَامَ الْحَقِّ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَبَالًا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ ضَرَرُهُ مِنْ سُلْطَانٍ ظَالِمٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي نَصْبِ شُهَداءَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوَّامِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ عَلَى أَنَّ كُونُوا لَهَا خَبَرَانِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَوَّامِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ عَلَى الْأَمْرِ بِالشَّهَادَةِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ غَيْرَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ تَرَكُوهُ حَتَّى أَنَّ أَقْبَحَ الْقَبِيحِ إِذَا صَدَرَ عَنْهُمْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْمُسَامَحَةِ وَأَحْسَنِ الْحُسْنِ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِمْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْمُنَازَعَةِ فاللَّه سُبْحَانَهُ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُوءِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْغَيْرِ ثَانِيًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْحَسَنَةَ أَنْ تَكُونَ مُضَايَقَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ فَوْقَ مُضَايَقَتِهِ مَعَ الْغَيْرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْعِقَابِ عَنِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْغَيْرِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فِعْلٌ، وَالشَّهَادَةَ قَوْلٌ، وَالْفِعْلُ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] فَقَدَّمَ الشَّهَادَةَ على القيام بالقسط، وهاهنا قَدَّمَ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ، فَمَا الْفَرْقُ؟
قُلْنَا: شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ رِعَايَةِ الْقَوَّامِينَ بِالْعَدْلِ فِي تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيَلْزَمُ هُنَاكَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، أَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُرَاعِيًا لِلْعَدْلِ وَمُبَايِنًا لِلْجَوْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْغَيْرِ مَقْبُولَةً، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّهَادَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَامِ بالقسط والواجب هاهنا أَنَّ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، / وَمَنْ تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْرَارَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أَيْ إِنْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ إِمَّا لِطَلَبِ رِضَا الْغَنِيِّ أَوِ التَّرَحُّمِ عَلَى الْفَقِيرِ، فاللَّه أَوْلَى بِأُمُورِهِمَا وَمَصَالِحِهِمَا، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فاللَّه أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فِي مَعْنَى إِنْ يَكُنْ أَحَدُ هَذَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى الضَّمِيرَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، أَيْ اللَّه أَوْلَى بِالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبي فاللَّه أَوْلَى بِهِمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ(11/241)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه: إِنْ يَكُنْ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، عَلَى (كَانَ) التَّامَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى حَتَّى تَصِيرُوا مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الْعَدْلِ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمَنْ تَرَكَ أَحَدَ النَّقِيضَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْآخَرُ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا يَعْنِي اتْرُكُوا مُتَابَعَةَ الْهَوَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْدِلُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَفِي الْآيَةِ قِرَاءَتَانِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَإِنْ تَلْوُوا بِوَاوَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ تَلُوا وَأَمَّا قِرَاءَةُ تَلْوُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الدَّفْعِ وَالْإِعْرَاضِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوَاهُ حَقَّهُ إِذَا مَطَلَهُ وَدَفَعَهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
لَوَى الشَّيْءَ إِذَا فَتَلَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الْتَوَى هَذَا الْأَمْرُ إِذَا تَعَقَّدَ وَتَعَسَّرَ تَشْبِيهًا بِالشَّيْءِ الْمُنْفَتِلِ، وَأَمَّا تَلُوا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وِلَايَةَ الشَّيْءِ إِقْبَالٌ عَلَيْهِ وَاشْتِغَالٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تُقْبِلُوا عَلَيْهِ فَتُتِمُّوهُ أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهُ فَإِنَّ اللَّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فَيُجَازَى الْمُحْسِنُ الْمُقْبِلُ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ الْمُعْرِضُ بِإِسَاءَتِهِ، وَالْحَاصِلُ: إِنْ تَلْوُوا عَنْ إِقَامَتِهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ إِقَامَتِهَا، وَالثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: تَلُوا أَصْلُهُ تَلْوُوا ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى السَّاكِنِ الَّذِي قَبْلَهَا فَصَارَ تَلْوُوا وَهَذَا أَضْعَفُ الْوَجْهَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فَهُوَ تَهْدِيدٌ ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا إِذَا كَانَ رَاسِخَ الْقَدَمِ فِي الْإِيمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ عَقِيبَهَا آيَةَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ المراد بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا دُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ آمِنُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [مُحَمَّدٍ: 19] مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ. وَثَانِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ آمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ. وَثَالِثُهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِحَسَبِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْجَمِيلَةِ آمِنُوا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ. وَرَابِعُهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالدَّلَائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ آمِنُوا بِأَنَّ كُنْهَ عَظَمَةِ اللَّه لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ عُقُولُكُمْ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْرَارُ الْكُتُبِ وَصِفَاتُ الرُّسُلِ لَا تَنْتَهِي إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ عُقُولُنَا. وَخَامِسُهَا:
رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ، وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ آمِنُوا باللَّه وَبِرُسُلِهِ وَبِمُحَمَّدٍ وبكتابه القرآن(11/242)
وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكُلُّهُمْ آمَنُوا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ آمَنُوا لَيْسَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُنَافِقِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللِّسَانِ آمِنُوا بِالْقَلْبِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ/ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [الْمَائِدَةِ: 41] وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَكَفَرُوا آخِرَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ آمِنُوا أَيْضًا آخِرَهُ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى آمِنُوا باللَّه، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ رَجَّحُوا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِ لَا يَتَنَاوَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ (نَزَّلَ وَأَنْزَلَ) بِالْفَتْحِ، فَمَنْ ضَمَّ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الْأَنْعَامِ: 114] وَمَنْ فَتَحَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وقوله وَأَنْزَلْنا (إِلَيْكَ) الذِّكْرَ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كِلَاهُمَا حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الضم أفخم كما في قوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هُودٍ: 44] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: باللَّه، وَثَانِيهَا: بِرَسُولِهِ، وَثَالِثُهَا:
بِالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ، وَرَابِعُهَا: بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرَ فِي الْكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: فَأَوَّلُهَا الْكُفْرُ باللَّه، وَثَانِيهَا الْكُفْرُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَثَالِثُهَا الْكُفْرُ بِكُتُبِهِ، وَرَابِعُهَا الْكُفْرُ بِرُسُلِهِ، وَخَامِسُهَا الْكُفْرُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قُدِّمَ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ ذِكْرَ الرَّسُولِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ، وَفِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّ فِي مَرْتَبَةِ النُّزُولِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ إِلَى الْخَلْقِ كَانَ الْكِتَابُ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّسُولِ وَفِي مَرْتَبَةِ الْعُرُوجِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْخَالِقِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِتَابِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذَكَرَ فِي مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ أُمُورًا ثَلَاثَةً: الْإِيمَانَ باللَّه وَبِالرَّسُولِ وَبِالْكُتُبِ، وَذَكَرَ فِي مَرَاتِبِ الْكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: الْكُفْرَ باللَّه وَبِالْمَلَائِكَةِ وَبِالْكُتُبِ وَبِالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِيمَانَ باللَّه وَبِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ مَتَى حَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا مَحَالَةَ، إِذْ رُبَّمَا ادَّعَى الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ باللَّه وَبِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُنْكِرُ الْمَلَائِكَةَ وَيُنْكِرُ الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْيَوْمِ الْآخِرِ مَحْمُولَةً عَلَى التَّأْوِيلِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمًا لَا جَرَمَ نَصَّ أَنَّ مُنْكِرَ الْمَلَائِكَةِ وَمُنْكِرَ الْقِيَامَةِ كَافِرٌ باللَّه.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ قِيلَ لِأَهْلِ الْكُتُبِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا/ كَافِرِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِهِمَا؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِمَا فَقَطْ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْكُتُبِ، فَأُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، الثَّانِي: أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ لأن طريق الإيمان(11/243)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
وهو الْمُعْجِزَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ حَاصِلَةً فِي الْكُلِّ كَانَ تَرْكُ الْإِيمَانِ بِالْبَعْضِ طَعْنًا فِي الْمُعْجِزَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الطَّعْنُ فِي الْمُعْجِزَةِ امْتَنَعَ التَّصْدِيقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النِّسَاءِ: 150، 151] .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لِمَ قَالَ نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وأَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ.
وَالْجَوَابُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً بِخِلَافِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ.
وَأَقُولُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ [آلِ عِمْرَانَ: 3، 4] .
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَأَيُّ الْكُتُبِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فيصلح للعموم.
[سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 138]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ وَرَغَّبَ فِيهِ بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَةِ مَنْ يَكْفُرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِيهَا أَقْوَالًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِينَ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَقْعَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، إذا لَوْ كَانَ لِلْإِيمَانِ وَقْعٌ وَرُتْبَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَا تَرَكُوهُ بِأَدْنَى سَبَبٍ، وَمَنْ لَا يَكُونُ للإيمان في قبله وَقْعٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ باللَّه إِيمَانًا صَحِيحًا مُعْتَبَرًا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِبْعَادُ وَالِاسْتِغْرَابُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ نَرَى الْفَاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُرْجَى مِنْهُ الثَّبَاتُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يموت على الفسق، فكذا هاهنا. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، ثُمَّ كَفَرُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِدَاوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. الثَّالِثُ: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ، فَالْإِيمَانُ الْأَوَّلُ إِظْهَارُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَكُفْرُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ نِفَاقُهُمْ وَكَوْنُ بَاطِنِهِمْ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِمْ، وَالْإِيمَانُ الثَّانِي هُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا لَقُوا جَمْعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَالْكَفْرُ الثَّانِي هُوَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا عَلَى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن، وَازْدِيَادُهُمْ فِي الْكُفْرِ هُوَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَارُ الْإِيمَانِ قَدْ يُسَمَّى إِيمَانًا قَالَ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] قَالَ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْهِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَيَانَ هَذَا الْعَدَدِ، بَلِ الْمُرَادُ تَرَدُّدُهُمْ كَمَا قَالَ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النِّسَاءِ: 143] قَالَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الرَّابِعُ: قَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدُوا تَشْكِيكَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانُوا يُظْهِرُونَ(11/244)
الْإِيمَانَ تَارَةً، وَالْكُفْرَ أُخْرَى عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آلِ عِمْرَانَ: 72] وَقَوْلُهُ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي ذَلِكَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهَذَا يُبْطِلُ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ، وَهِيَ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا نَحْمِلُ الْإِيمَانَ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ مُتَنَافِيَانِ، فَإِذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا التَّفَاوُتَ فَكَذَلِكَ الْآخَرُ، وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ ازْدَادُوا كُفْرًا بِسَبَبِ/ ذُنُوبٍ أَصَابُوهَا حَالَ كُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمَّا كَانَتْ إِصَابَةُ الذُّنُوبِ وَقْتَ الْكُفْرِ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ إِصَابَةُ الطَّاعَاتِ وَقْتَ الْإِيمَانِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً فِي الْإِيمَانِ. الثَّالِثُ:
أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الكفر إنما حصلت بقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ الْكُفْرِ وَأَقْوَى مَرَاتِبِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَفِيهِ سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِمَا قَبْلَ التَّوْبَةِ أَوْ بِمَا بَعْدَهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكُفْرَ قَبْلَ التَّوْبَةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَحِينَئِذٍ تَضِيعُ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَلْفِ مرة، فعلى كلا التقديرين فالسؤال لا زم.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نَحْمِلُ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، بَلْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَقْوَامٌ مُعَيَّنُونَ عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يَتُوبُونَ عَنْهُ قَطُّ فَقَوْلُهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إِخْبَارٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ زَالَ السُّؤَالُ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ كَثِيرَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِسْلَامِ فِي قَلْبِهِ وَقْعٌ وَلَا عِظَمٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مِثْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ عَنِ الْكُفْرِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ: إِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَضِيعُ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ.
قُلْنَا: إِنَّ إِفْرَادَهُمْ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ أَفْحَشُ وَخِيَانَتَهُمْ أَعْظَمُ وَعُقُوبَتَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ أَقْوَى فَجَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: 7] خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ التشريف، وكذلك قوله وَمَلائِكَتِهِ ... وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] .
السُّؤَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَهُمْ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ فَقَوْلُهُ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يُفِيدُ نَفْيَ التَّأْكِيدِ، وَهَذَا غَيْرُ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا اللَّائِقُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ نَفْيَ التَّأْكِيدِ إِذَا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَهْدِ الْكَافِرَ إِلَى الْإِيمَانِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ زِيَادَةِ اللُّطْفِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ.(11/245)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ كُفْرَهُمْ وَلَا/ يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَمَا لَا يُوصِلُهُمْ إِلَى دَارِ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْ إِلَى أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَقَوْلُهُ بَشِّرِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَحِيَّتُكَ الضرب، وعتابك السيف. ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 139]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
الَّذِينَ: نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، بِمَعْنَى أُرِيدُ الَّذِينَ، أَوْ رَفْعٌ بِمَعْنَى هُمُ الَّذِينَ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ: الْمُنَافِقُونَ، وَبِالْكَافِرِينَ الْيَهُودُ، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَالُونَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ لَا يَتِمُّ، فَيَقُولُ الْيَهُودُ بِأَنَّ الْعِزَّةَ وَالْمَنَعَةَ لَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْعِزَّةِ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ الشَّدِيدَةِ: عَزَازٌ، وَيُقَالُ: قَدِ اسْتَعَزَّ الْمَرَضُ عَلَى الْمَرِيضِ إِذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَكَادَ أَنْ يَهْلِكَ، وَعَزَّ الْهَمُّ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ عَزَّ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ كَذَا بِمَعْنَى اشْتَدَّ، وَعَزَّ الشَّيْءُ إِذَا قَلَّ حَتَّى لَا يَكَادَ يُوجَدُ لِأَنَّهُ اشْتَدَّ مَطْلَبُهُ، وَاعْتَزَّ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا اشْتَدَّ ظَهْرُهُ بِهِ، وَشَاةٌ عَزُوزٌ الَّتِي يَشْتَدُّ حَلْبُهَا وَيَصْعُبُ وَالْعِزَّةُ الْقُوَّةُ مَنْقُولَةٌ مِنَ الشِّدَّةِ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَالْعَزِيزُ الْقَوِيُّ الْمَنِيعُ بِخِلَافِ الذَّلِيلِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعِزَّةَ وَالْقُوَّةَ بِسَبَبِ اتِّصَالِهِمْ بِالْيَهُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الرَّأْيَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقين: 8] .
قُلْنَا: الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ للَّه، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ فَبِإِقْدَارِهِ صَارَ قَادِرًا، وَبِإِعْزَازِهِ صَارَ عَزِيزًا، فَالْعِزَّةُ الْحَاصِلَةُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الْأَمْرُ عند التحقيق أن العزة جميعا للَّه. ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 140]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي مَجَالِسِهِمْ يخوضون في ذكر القرآن ويستهزؤن بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الْأَنْعَامِ: 68](11/246)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْقَاعِدُونَ مَعَهُمْ وَالْمُوَافِقُونَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُنَافِقِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعْتُمُ الْكُفْرَ بِآيَاتِ اللَّه وَالِاسْتِهْزَاءَ بِهَا، وَلَكِنْ أَوْقَعَ فِعْلَ السَّمَاعِ عَلَى الْآيَاتِ وَالْمُرَادُ بِهِ سَمَاعُ الِاسْتِهْزَاءِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّه يُلَامُ. وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّه حَالَ مَا يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَ الْكِسَائِيُّ، فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ أَنْتُمْ مِثْلُ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ فِي الْكُفْرِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ رَضِيَ بِمُنْكَرٍ يَرَاهُ وَخَالَطَ أَهْلَهُ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ كَانَ فِي الْإِثْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تعالى ذكر لفظ المثل هاهنا، هَذَا إِذَا كَانَ الْجَالِسُ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْجُلُوسِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَاخِطًا لِقَوْلِهِمْ وَإِنَّمَا جَلَسَ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ وَالْخَوْفِ فَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْيَهُودَ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ كَانُوا كَافِرِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ كَانُوا بِمَكَّةَ يُجَالِسُونَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَاقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْيَهُودَ مَعَ الِاخْتِيَارِ، وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُجَالِسُونَ الْكُفَّارَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَقَّقَ كَوْنَ الْمُنَافِقِينَ مِثْلَ الْكَافِرِينَ فِي الْكُفْرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.
يُرِيدُ كَمَا أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّه فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ يَجْتَمِعُونَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَرَادَ جَامِعٌ بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّهُ بَعْدُ مَا جَمَعَهُمْ وَلَكِنْ حَذَفَ التَّنْوِينَ اسْتِخْفَافًا من اللفظ وهو مراد في الحقيقة.
[سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ، وَإِمَّا صِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَإِمَّا نَصْبٌ عَلَى الذَّمِّ، وَقَوْلُهُ يَتَرَبَّصُونَ أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يَحْدُثُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ أَيْ ظُهُورٌ عَلَى الْيَهُودِ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، أَيْ فَأَعْطُونَا قِسْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ يَعْنِي الْيَهُودَ نَصِيبٌ، أَيْ ظَفْرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَلَمْ نَغْلِبْكُمْ وَنَتَمَكَّنْ مِنْ قَتْلِكُمْ وَأَسْرِكُمْ ثُمَّ لَمْ نَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ ثَبَّطْنَاهُمْ عَنْكُمْ وَخَيَّلْنَا لَهُمْ مَا ضَعُفَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَتَوَانَيْنَا فِي مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَيْكُمْ فَهَاتُوا لَنَا نَصِيبًا مِمَّا أَصَبْتُمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَالْيَهُودَ كَانُوا قَدْ هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ حَذَّرُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَبَالَغُوا فِي تَنْفِيرِهِمْ عَنْهُ وَأَطْمَعُوهُمْ أَنَّهُ سَيَضْعُفُ أَمْرُ مُحَمَّدٍ وَسَيَقْوَى أَمْرُكُمْ، فَإِذَا اتَّفَقَتْ لَهُمْ صَوْلَةٌ عَلَى(11/247)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
الْمُسْلِمِينَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَسْنَا غَلَبْنَاكُمْ عَلَى رَأْيِكُمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ وَقُلْنَا لَكُمْ بِأَنَّهُ سَيَضْعُفُ أَمْرُهُ وَيَقْوَى/ أَمْرُكُمْ، فَلَمَّا شَاهَدْتُمْ صِدْقَ قَوْلِنَا فَادْفَعُوا إِلَيْنَا نَصِيبًا مِمَّا وَجَدْتُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَمُنُّونَ عَلَى الْكَافِرِينَ بِأَنَّا نَحْنُ الَّذِينَ أَرْشَدْنَاكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ، فَادْفَعُوا إِلَيْنَا نَصِيبًا مِمَّا وَجَدْتُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ سَمَّى ظَفْرَ الْمُسْلِمِينَ فَتْحًا وَظَفْرَ الْكُفَّارِ نَصِيبًا؟
قُلْنَا: تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَاحْتِقَارًا لِحَظِّ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ ظَفْرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرٌ عَظِيمٌ تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ بِالْفَتْحِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَأَمَّا ظَفْرُ الْكَافِرِينَ فَمَا هُوَ إِلَّا حَظٌّ دَنِيءٌ يَنْقَضِي وَلَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا الذَّمُّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ فِي الْعَاقِبَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَضَعَ السَّيْفَ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، بَلْ أَخَّرَ عِقَابَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْحُجَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبَةٌ عَلَى حُجَّةِ الْكُلِّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْلِبَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مَسَائِلُ: مِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ.
[سورة النساء (4) : آية 142]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْخِدَاعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ: 9] قَالَ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ يُخادِعُونَ اللَّهَ أَيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّه، أَيْ يُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَوْلُهُ وَهُوَ خادِعُهُمْ
أَيْ مُجَازِيهِمْ بِالْعِقَابِ عَلَى خِدَاعِهِمْ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَادِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ نُورًا كَمَا يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الصِّرَاطِ انْطَفَأَ نُورُهُمْ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يَعْنِي وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَامُوا كُسَالَى، أَيْ مُتَثَاقِلِينَ مُتَبَاطِئِينَ وَهُوَ مَعْنَى الْكَسَلِ فِي اللُّغَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ الْكَسَلِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَهَا/ فِي الْحَالِ وَلَا يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابًا وَلَا مِنْ تَرْكِهَا عِقَابًا، فَكَانَ الدَّاعِي لِلتَّرْكِ قَوِيًّا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَالدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ لَيْسَ إِلَّا خَوْفُ النَّاسِ، وَالدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَ الْفِعْلُ عَلَى وَجْهِ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ كُسالى
بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا جَمْعُ كَسْلَانٍ كسكارى في سكران.(11/248)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
ثم قال تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ.
فَإِنْ قِيلَ: ما معنى المراءاة وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَائِيَ يُرِيهِمْ عَمَلَهُ وَهُمْ يُرُونَهُ اسْتِحْسَانَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَفِي قَوْلِهِ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْأَجَانِبِ لَمْ يُصَلُّوا، وَإِذَا كَانُوا مَعَ النَّاسِ فَعِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يَتَكَلَّفُونَ حَتَّى يَصِيرُوا غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللَّه أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه إِلَّا قَلِيلًا، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِثْلُ التَّكْبِيرَاتِ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى مِثْلُ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا. الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّه فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتَ الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا قَلِيلًا نَادِرًا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَكَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَوْ صَحِبْتَهُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ تَهْلِيلَةً وَلَا تَسْبِيحَةً، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ بِهِ أَيَّامَهُ وَأَوْقَاتَهُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ إِنَّمَا قِيلَ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ، وَمَا رَدَّهُ اللَّه تَعَالَى فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ، وَمَا قَبِلَهُ اللَّه فَقَلِيلُهُ كثير ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 143]
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
[في قوله تَعَالَى مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مُذَبْذَبِينَ. إِمَّا حَالٌ من قوله يُراؤُنَ
أو من قوله لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النساء: 142] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُذَبْذَبِينَ: أَيْ مُتَحَيِّرِينَ، وَحَقِيقَةُ الْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُذَبُّ عَنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ، أَيْ/ يُرَدُّ وَيُدْفَعُ فَلَا يَقَرُّ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ الذبذبة فيها تكرير وليس فِي الذَّبِّ، فَكَانَ الْمَعْنَى كُلَّمَا مَالَ إِلَى جَانِبٍ ذُبَّ عَنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كَانَ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ هُوَ الْأَغْرَاضُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَثُرَ التَّذَبْذُبُ وَالِاضْطِرَابُ، لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذَا الْعَالَمِ وَأَسْبَابَهُ مُتَغَيِّرَةٌ سَرِيعَةُ التَّبَدُّلِ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَبَعًا لِلدَّاعِي، وَالدَّاعِي تَبَعًا لِلْمَقْصُودِ ثُمَّ إِنَّ الْمَقْصُودَ سَرِيعُ التَّبَدُّلِ وَالتَّغَيُّرِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّغَيُّرِ فِي الْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ، وَرُبَّمَا تَعَارَضَتِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ فِي الْحَيْرَةِ وَالتَّرَدُّدِ. أَمَّا مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ فِي فِعْلِهِ إِنْشَاءَ الْخَيْرَاتِ الْبَاقِيَةِ، وَاكْتِسَابَ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَالِبَ أُمُورٌ بَاقِيَةٌ بَرِيئَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ لَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ ثَابِتًا رَاسِخًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَصَفَ اللَّه تَعَالَى أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالثَّبَاتِ فَقَالَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَقَالَ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْدِ: 28] وَقَالَ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الْفَجْرِ: 26] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُذَبْذَبِينَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيَةِ، وَالْمَعْنَى يُذَبْذِبُونَ قُلُوبَهُمْ أَوْ دِينَهُمْ أَوْ رَأْيَهُمْ، بِمَعْنَى يَتَذَبْذَبُونَ كَمَا جَاءَ صَلْصَلَ وَتَصَلْصَلَ بِمَعْنًى، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ: مُتَذَبْذِبِينَ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: مُدَبْدِبِينَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَارَةً يَكُونُونَ فِي دُبَّةٍ وَتَارَةً فِي أُخْرَى، فَلَا يَبْقَوْنَ عَلَى دُبَّةٍ(11/249)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
وَاحِدَةٍ، وَالدُّبَّةُ الطَّرِيقَةُ وَهِيَ الَّتِي تَدِبُّ فِيهَا الدَّوَابُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَلِمَةُ ذلِكَ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [الْبَقَرَةِ: 68] وَذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 139] وَإِذَا جَرَى ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ جَرَى ذِكْرُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ مُخْلَصِينَ وَلَا مُشْرِكِينَ مُصَرِّحِينَ بِالشِّرْكِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْحَيْرَةَ فِي الدِّينِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ مُذَبْذَبِينَ يَقْتَضِي فَاعِلًا قَدْ ذَبْذَبَهُمْ وَصَيَّرَهُمْ مُتَحَيِّرِينَ مُتَرَدِّدِينَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ الدَّوَاعِي الْمُتَعَارِضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرَدُّدِ وَالْحَيْرَةِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَصْلًا، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِهِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الذَّبْذَبَةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ، وَثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَهَا لَيْسَ هُوَ الْعَبْدُ ثَبَتَ أَنَّ فَاعِلَهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ طَرِيقَةِ الْمُؤْمِنِينَ/ وَطَرِيقَةِ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَمَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
قُلْنَا: إِنَّ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَتْ خَبِيثَةً إِلَّا أَنَّ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ أَخْبَثُ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْكُفَّارَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي آيَتَيْنِ، وَذَمَّ الْمُنَافِقِينَ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ أَخْبَثُ مِنْ طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ، فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَمَّهُمْ لَا لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْكُفْرَ، بَلْ لِأَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَخْبَثُ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ مُذَبْذَبِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِلَّا لَمْ يَتَّصِلْ هَذَا الْكَلَامُ بِمَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَضَلَّهُ عَنِ الدِّينِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَعْنَى هَذَا الْإِضْلَالِ سَلْبُ الْأَلْطَافَ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّه عَلَيْهِ بِالضَّلَالِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُضِلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ قد تكلمنا عليها مرارا.
[سورة النساء (4) : آية 144]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ مَرَّةً إِلَى الْكَفَرَةِ وَمَرَّةً إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَقِرُّوا مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ نَهَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَالسَّبَبُ فِيهِ
أَنَّ الْأَنْصَارَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهُمْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ رَضَاعٌ وَحِلْفٌ وَمَوَدَّةٌ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَتَوَلَّى؟ فَقَالَ: الْمُهَاجِرِينَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.(11/250)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَهُوَ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُ: قَدْ بَيِّنْتُ لَكُمْ أَخْلَاقَ الْمُنَافِقِينَ وَمَذَاهِبَهُمْ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً.
فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ أَتُرِيدُونَ/ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه سُلْطَانًا مُبِينًا عَلَى كَوْنِكُمْ مُنَافِقِينَ، وَالْمُرَادُ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِأَهْلِ دِينِ اللَّه وَهُمُ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى الْمُنَافِقِينَ كَانَ الْمَعْنَى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للَّه عَلَيْكُمْ فِي عِقَابِكُمْ حُجَّةً بِسَبَبِ مُوَالَاتِكُمْ لِلْمُنَافِقِينَ ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 145]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الدَّرْكُ أَقْصَى قَعْرِ الشَّيْءِ كَالْبَحْرِ وَنَحْوِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أَقْصَى قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى اللُّحُوقِ، وَمِنْهُ إِدْرَاكُ الطَّعَامِ وَإِدْرَاكُ الْغُلَامِ، فَالدَّرْكُ مَا يُلْحَقُ بِهِ مِنَ الطَّبَقَةِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَهَنَّمَ طَبَقَاتٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَشَدَّهَا أَسْفَلُهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: الدَّرَجُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَالدَّرْكُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي الدَّرْكِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الشَّمْعِ وَالشَّمَعِ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ فَتْحُ الرَّاءِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: جَمْعُ الدَّرَكِ أَدْرَاكٌ كَقَوْلِهِمْ: جَمَلٌ وأجمل، وفرس وأفرس، وَجَمْعُ الدَّرْكِ أَدْرُكٌ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٌ وَكَلْبٍ وَأَكْلُبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَالَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِرٍ: 46] فَأَيُّهُمَا أَشَدُّ عَذَابًا، الْمُنَافِقُونَ أَمْ آلُ فِرْعَوْنَ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ أَشَدَّ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُ أَشَدَّ عَذَابًا مِنَ الْكَافِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْكُفْرِ، وَضُمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْإِسْلَامِ وَبِأَهْلِهِ، وَبِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ يُمْكِنُهُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُخْبِرُونَ الْكُفَّارَ بِذَلِكَ فَكَانَتْ تَتَضَاعَفُ الْمِحْنَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ جَعَلَ اللَّه عَذَابَهُمْ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا التَّهْدِيدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ النِّفَاقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ نِفَاقٌ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنِ النِّفَاقِ، فَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِهِ لَمْ يَبْقَ زَجْرًا عَنْهُ مِنْ حيث إنه نفاق ثم قال تعالى:(11/251)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
[سورة النساء (4) : آية 146]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا تَغْلِيظَاتٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي إِزَالَةِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: التَّوْبَةُ، وَثَانِيهَا: إِصْلَاحُ الْعَمَلِ، فَالتَّوْبَةُ عَنِ الْقَبِيحِ، وَإِصْلَاحُ الْعَمَلِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَسَنِ، وَثَالِثُهَا: الِاعْتِصَامُ باللَّه، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى لَا طَلَبَ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبُهُ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ لَتَغَيَّرَ عَنِ التَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ سَرِيعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ مَرْضَاةَ اللَّه تَعَالَى وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالِاعْتِصَامَ بِدِينِ اللَّه بَقِيَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْهَا. وَرَابِعُهَا: الإخلاص، والسبب فيه أنه تعالى أمرهم الأول: بِتَرْكِ الْقَبِيحِ، وَثَانِيًا: بِفِعْلِ الْحَسَنِ، وَثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَرَابِعًا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَرَضُ وَهُوَ طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى خَالِصًا وَأَنْ لَا يَمْتَزِجَ بِهِ غَرَضٌ آخَرُ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ فَأُولَئِكَ مُؤْمِنُونَ، ثُمَّ أَوْقَعَ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّشْرِيفِ لِانْضِمَامِ الْمُنَافِقِينَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وَهَذِهِ الْقَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ حال المنافق شديد عند اللَّه تعالى.
[سورة النساء (4) : آية 147]
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
فيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَيُعَذِّبُكُمْ لِأَجْلِ التَّشَفِّي، أَمْ لِطَلَبِ النَّفْعِ، أَمْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، كُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهٌ عَنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ حَمْلُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْقَبِيحِ، فَإِذَا أَتَيْتُمْ بِالْحَسَنِ وَتَرَكْتُمُ الْقَبِيحَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَرَمِهِ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ/ مَا خَلَقَ خَلْقًا لِأَجْلِ التَّعْذِيبِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَحَدًا لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ، وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ الشُّكْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدُ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِعْلًا للَّه تَعَالَى، وَإِلَّا لَصَارَ التَّقْدِيرُ: مَا يَفْعَلُ اللَّه بِعَذَابِكُمْ إِذَا خَلَقَ الشُّكْرَ وَالْإِيمَانَ فِيكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لِأَنَّا نَفْرِضُ الْكَلَامَ فِيمَنْ شَكَرَ وَآمَنَ ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الشُّرْبِ أَوِ الزِّنَا، فَهَذَا وَجَبَ أَنْ لَا يُعَاقَبَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فَإِنْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، قُلْنَا: ذَكَرْنَا الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقَدُّمِ الشُّكْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ إِنْ آمَنْتُمْ وَشَكَرْتُمْ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ. الثَّانِي: إِذَا قُلْنَا: الْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي نَفْسِهِ رَأَى النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ حَاصِلَةً فِي تَخْلِيقِهَا وَتَرْتِيبِهَا فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُجْمَلًا، ثُمَّ(11/252)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
إِذَا تَمَّمَ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا، فَكَانَ ذَلِكَ الشُّكْرُ الْمُجْمَلُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ سَمَّى جَزَاءَ الشُّكْرِ شُكْرًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، فَالْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَوْنُهُ مُثِيبًا عَلَى الشُّكْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ عَلِيمًا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا يَقَعُ الْغَلَطُ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَلَا جَرَمَ يُوصِلُ الثَّوَابَ إِلَى الشاكر والعقاب إلى المعرض.
[سورة النساء (4) : آية 148]
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَتَكَ سِتْرَ الْمُنَافِقِينَ وَفَضَحَهُمْ وَكَانَ هَتْكُ السِّتْرِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ إِظْهَارَ الْفَضَائِحِ/ وَالْقَبَائِحِ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ وَكَثُرَ مَكْرُهُ وَكَيْدُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ إِظْهَارُ فَضَائِحِهِ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ تَحْذَرَهُ النَّاسُ»
وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَدْ كَانَ كَثُرَ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ وَظُلْمُهُمْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَعَظُمَ ضَرَرُهُمْ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ اللَّه فَضَائِحَهُمْ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَابُوا وَأَخْلَصُوا صَارُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَتُوبُ بَعْضُهُمْ وَيُخْلِصُ فِي تَوْبَتِهِ ثُمَّ لَا يَسْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْيِيرِ وَالذَّمِّ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي الْمَاضِي مِنَ النِّفَاقِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَلَا يَرْضَى بِالْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَقَامَ عَلَى نِفَاقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ فِعْلَ الْقَبَائِحِ وَلَا يَخْلُقُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكَانَ مُرِيدًا لَهَا، وَلَوْ كَانَ مُرِيدًا لَهَا لَكَانَ قَدْ أَحَبَّ إِيجَادَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ: الْمَحَبَّةُ عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَهُ وَلَكِنَّهُ مَا أَحَبَّهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا غَيْرَ الْجَهْرِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِأَنَّ كَيْفِيَّتَهُ الْوَاقِعَةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
[النساء: 94] والتبين واجب في الظعن والإقامة، فكذا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَوْلَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَوْ مُتَّصِلًا.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ. ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، الثاني: قال الزجاج:
المصدر هاهنا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّه الْمُجَاهِرَ بِالسُّوءِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ.(11/253)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَا يُحِبُّ اللَّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، لَكِنَّ الْمَظْلُومَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ بِظُلَامَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمَظْلُومُ مَاذَا يَفْعَلُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُحِبُّ/ اللَّه رَفْعَ الصَّوْتِ بِمَا يَسُوءُ غَيْرَهُ إِلَّا الْمَظْلُومَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِظُلْمِ ظَالِمِهِ لَهُ. الثَّالِثُ: لَا يَجُوزُ إِظْهَارُ الْأَحْوَالِ الْمَسْتُورَةِ الْمَكْتُومَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ سَبَبًا لِوُقُوعِ النَّاسِ فِي الْغِيبَةِ وَوُقُوعِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فِي الرِّيبَةِ، لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَيَجُوزُ إِظْهَارُ ظُلْمِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ سُرِقَ أَوْ غُصِبَ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ.
قِيلَ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَإِنَّ رَجُلًا شَتَمَهُ فَسَكَتَ مِرَارًا، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: شَتَمَنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ قُمْتَ، قَالَ: إِنَّ مَلَكًا كَانَ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَجَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَجْلِسْ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّيْطَانِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ: الضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بِفَتْحِ الظَّاءِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ كَلَامٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ فَدَعُوهُ وَخَلُّوهُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: يَعْنِي لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ مَعَهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ التَّعَدِّي فِي الْجَهْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، يَعْنِي فَلْيَتَّقِ اللَّه وَلَا يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ وَلَا يَقْذِفْ مَسْتُورًا بِسُوءٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَاصِيًا للَّه بِذَلِكَ، وَهُوَ تَعَالَى سُمَيْعٌ لِمَا يَقُولُهُ عَلِيمٌ بِمَا يُضْمِرُهُ.
[سورة النساء (4) : آية 149]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
اعْلَمْ أَنَّ مَعَاقِدَ الْخَيْرَاتِ عَلَى كَثْرَتِهَا مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ: صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ، وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ مَحْصُورٌ فِي قِسْمَيْنِ إِيصَالُ نَفْعٍ إِلَيْهِمْ وَدَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ، فَقَوْلُهُ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ أَوْ تَعْفُوا إِشَارَةٌ إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، فَدَخَلَ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْجَانِبَيْنِ/ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الثَّانِي: إِنَّ اللَّه كَانَ عَفُوًّا لِمَنْ عَفَا، قَدِيرًا عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَقْدَرُ عَلَى عَفْوِ ذنوبك منك على عفو صاحبك.
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنَافِقِينَ عَادَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَذَاهِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُنَاقَضَاتِهِمْ وَذَكَرَ(11/254)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَنْوَاعًا:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ: إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ باللَّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّ وَبَيْنَ الْكُفْرِ بِالْكُلِّ سَبِيلًا أَيْ وَاسِطَةً، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي خَبَرِ إِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ جَمَعُوا الْمَخَازِيَ. وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ ذَهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِذَا ذُكِرَ بَقِيَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَذْكُورِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَأْسُ الْآيَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا كَافِرِينَ حَقًّا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْبَعْضِ لَيْسَ إِلَّا الْمُعْجِزَ، وَإِذَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ حَصَلَتِ النُّبُوَّةِ فَإِنْ جَوَّزْنَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حُصُولَ الْمُعْجِزِ بِدُونِ الصِّدْقِ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الصِّدْقِ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْكُفْرُ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ الْكُفْرُ بِجَمِيعِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الْكُفْرُ بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِذَا تَوَجَّهَ بَعْضُ الْإِلْزَامَاتِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ قَائِلًا بِهِ، فَإِلْزَامُ الْكُفْرِ غَيْرٌ، وَالْتِزَامُ الْكُفْرِ غَيْرٌ، وَالْقَوْمُ لَمَّا لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
قُلْنَا: الْإِلْزَامُ إِذَا كَانَ خَفِيًّا بِحَيْثُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ جَلِيًّا وَاضِحًا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ فَرْقٌ، وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قَبُولَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ إِنْ كَانَ لِأَجْلِ الِانْقِيَادِ لِطَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَجَبَ قَبُولُ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كُفْرًا بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ حَقًّا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَخُوكَ حَقًّا، وَالتَّقْدِيرُ:
أَخْبَرْتُكَ بِهَذَا الْمَعْنَى إِخْبَارًا حَقًّا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كُفْرًا حَقًّا. طَعَنَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَقَالَ: الْكُفْرُ لَا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَقِّ الْكَامِلُ، وَالْمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ كُفْرًا كَامِلًا ثَابِتًا حقا يقينا.
[سورة النساء (4) : آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ أَرْدَفَهُ بِالْوَعْدِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:(11/255)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ التَّفْرِيقَ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا إِلَّا أَنَّ أَحَدًا لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: 32] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ بَيْنَ جَمَاعَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَعَدَمِ الْإِحْبَاطِ فَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى/ وَعَدَ مَنْ آمَنَ باللَّه ورسله بأن يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَإِلَّا لَمْ تَصْلُحْ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنْ تَكُونَ تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِعَدَمِ الْإِحْبَاطِ وَالْقَطْعَ بِالْعَفْوِ وَبِالْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ الْإِدْخَالِ فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ يُؤْتِيهِمْ بِالْيَاءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ اللَّه، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَذَلِكَ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْخَمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مشاكل لقوله وَأَعْتَدْنا [الأحزاب: 31] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ إِيتَاءَهَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ فَالْغَرَضُ بِهِ تَوْكِيدُ الْوَعْدِ وَتَحْقِيقُهُ لَا كَوْنُهُ مُتَأَخِّرًا.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَعْفُو عنها ويغفرها.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ جَهَالَاتِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عند اللَّه فائتنا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ. وَقِيلَ: طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى فُلَانٍ وَكِتَابًا إِلَى فُلَانٍ بِأَنَّكَ/ رَسُولُ اللَّه وَقِيلَ: كِتَابًا نُعَايِنُهُ حِينَ يُنَزَّلُ، وَإِنَّمَا اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ كَانَتْ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَحَصَلَتْ فَكَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ السُّؤَالَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ وُجِدَ مِنْ آبَائِهِمْ فِي أَيَّامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ النُّقَبَاءُ السَّبْعُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَرَاضِينَ بِسُؤَالِهِمْ وَمُشَاكِلِينَ لَهُمْ فِي التَّعَنُّتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّعَنُّتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ الْقَدْرِ، بَلْ طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤْيَةَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَايَنَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ هَؤُلَاءِ لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ بَلْ لِمَحْضِ الْعِنَادِ.(11/256)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ فَسَّرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ هُنَاكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَالْمَعْنَى بَيَانُ كَمَالِ جَهَالَاتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ مَا اكْتَفَوْا بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ جَهْرَةً، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ بُعْدِهِمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَا أَرَاهُمْ مِنَ الصَّاعِقَةِ بَيِّنَاتٍ، فَإِنَّ الصَّاعِقَةَ وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ دَالَّةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى عِلْمِهِ وَعَلَى قِدَمِهِ، وَعَلَى كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَاتِ إِنْزَالُ الصَّاعِقَةِ وَإِحْيَاؤُهُمْ بعد ما أَمَاتَهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّتِي كَانَ يُظْهِرُهَا فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ، وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَطْلُبُونَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ مِنْكَ إِلَّا عِنَادًا وَلَجَاجًا، فَإِنَّ مُوسَى قَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ وَالْبُعْدِ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يَعْنِي لَمْ نَسْتَأْصِلْ عَبَدَةَ الْعِجْلِ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً يَعْنِي أَنَّ قَوْمَ مُوسَى وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي إِظْهَارِ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ مَعَهُ لَكِنَّا نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ فَعَظُمَ أَمْرُهُ وَضَعُفَ خَصْمُهُ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ، وَالرَّمْزُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ فَإِنَّهُ/ بِالْآخِرَةِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِمْ وَيَقْهَرُهُمْ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ سَائِرَ جَهَالَاتِهِمْ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَى أَبَاطِيلِهِمْ: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا عَنِ الدِّينِ. ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ وَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَرَفَعَ اللَّه فَوْقَهُمُ الطُّورَ حَتَّى يَخَافُوا فَلَا يَنْقُضُوا الْمِيثَاقَ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَرَفَعَ اللَّه الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حَتَّى قَبِلُوا، وَصَارَ الْمَعْنَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ لِأَجْلِ أَنْ يُعْطُوا الْمِيثَاقَ بِقَبُولِ الدِّينِ. الثَّالِثُ:
أَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمِيثَاقَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ عَنِ الدِّينِ فاللَّه يُعَذِّبُهُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَرَادَ، فَلَمَّا هَمُّوا بِتَرْكِ الدِّينِ أَظَلَّ اللَّه الطُّورَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَمَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَعْدُوا بِاقْتِنَاصِ السَّمَكِ فِيهِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
يُقَالُ عَدَا عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعَدَاءِ وَالْعَدْوِ وَالْعُدْوَانِ، أَيْ ظَلَمَهُ وَجَاوَزَ الْحَدَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً [الْأَنْعَامِ: 108] الثَّانِي: لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ مِنَ الْعَدْوِ بِمَعْنَى الْحَضَرِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْعَمَلِ وَالْكَسْبِ يَوْمَ السَّبْتِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: اسْكُنُوا عَنِ الْعَمَلِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاقْعُدُوا فِي مَنَازِلِكُمْ فَأَنَا الرَّزَّاقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ لَا تَعْدُوا سَاكِنَةَ الْعَيْنِ مُشَدَّدَةَ الدَّالِ، وَأَرَادَ: لَا تَعْتَدُوا، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [الْبَقَرَةِ: 65] فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا افْتَعَلُوا، ثُمَّ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا وَلِأَنَّ الدَّالَ تَزِيدُ عَلَى التَّاءِ فِي الْجَهْرِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ يُنْكِرُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ إِذَا كَانَ الثَّانِي(11/257)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
منهما مدغما ولم يكن الأول حرف الأول لِينٍ نَحْوَ دَابَّةٍ وَشَابَّةٍ، وَقِيلْ لَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَدَّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ لَا تَعَدُّوا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ نَقَلَ حَرَكَتَهَا إِلَى الْعَيْنِ، وَالْبَاقُونَ تَعْدُوا بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قال القفال: الميثاق الغليط هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ غَايَةَ التَّوْكِيدِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فيما يدعونه من التوراة ثم قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 155]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)
[في قوله تَعَالَى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُتَعَلِّقِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ محذوف تقديره فيما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَذَا، لَعَنَّاهُمْ وَسَخِطْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَذْفُ أَفْخَمُ لِأَنَّ عِنْدَ الْحَذْفِ يَذْهَبُ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ فَيَدُلُّ عَلَى اللَّعْنِ. الثَّانِي: أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْبَاءِ هُوَ قَوْلُهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: 160] وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ الْآيَتَيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا، فَجَعْلُ أَحَدِهِمَا بَدَلًا عَنِ الْآخَرِ بَعِيدٌ. الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ عَظِيمَةٌ جِدًّا لِأَنَّ كُفْرَهُمْ باللَّه وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَإِنْكَارَهُمْ لِلتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَذِكْرُ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ إِنَّمَا يَلِيقُ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَتَحْرِيمُ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ عُقُوبَةٌ خَفِيفَةٌ فَلَا يَحْسُنُ تَعْلِيقُهُ بِتِلْكَ الْجِنَايَاتِ الْعَظِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 159] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ حَرْفَ الْبَاءِ عَلَى أُمُورٍ: أَوَّلُهَا: نَقْضُ الْمِيثَاقِ. وَثَانِيهَا: كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّه، وَالْمُرَادُ مِنْهُ كُفْرُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ مُعْجِزَةَ رَسُولٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّه. وَثَالِثُهَا: قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ غُلْفًا جَمْعُ غِلَافٍ وَالْأَصْلُ غُلُفٌ بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَخَفَّفَ بِالتَّسْكِينِ، كَمَا قِيلَ كُتْبٌ وَرُسْلٌ بِتَسْكِينِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَيْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى عِلْمٍ سِوَى مَا عِنْدَنَا، فَكَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ/(11/258)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
غُلْفًا جَمْعُ أَغْلَفَ وَهُوَ الْمُتَغَطِّي بِالْغِلَافِ أَيْ بِالْغِطَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَغْطِيَةٍ فَهِيَ لَا تَفْقَهُ مَا تَقُولُونَ، نَظِيرُهُ مَا حَكَى اللَّه فِي قَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فُصِّلَتْ: 5] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ.
فَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَيْهَا وَخَتَمَ عَلَيْهَا فَلَا يَصِلُ أَثَرُ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ إِلَيْهَا، وَهَذَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِنَا، وَإِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ فِي الْأَكِنَّةِ وَالْأَغْطِيَةِ، وَهَذَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ دَعْوَاهُمْ وَزَعْمِهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِرَسُولٍ وَاحِدٍ وَبِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِيمَانُ بِأَحَدٍ مِنَ الرسل ألبتة.
[سورة النساء (4) : آية 156]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً.
اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا نَسَبُوا مَرْيَمَ إِلَى الزِّنَا لِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ دُونِ الْأَبِ وَمُنْكِرُ قُدْرَةِ اللَّه عَلَى ذَلِكَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ وَلَدٍ وُلِدَ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِوَالِدٍ لَا إِلَى أَوَّلٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَالدَّهْرِ، وَالْقَدْحَ فِي وُجُودِ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ، فَالْقَوْمُ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَوَّلًا: أَنْكَرُوا قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْ دُونِ الْأَبِ، وَثَانِيًا: نَسَبُوا مَرْيَمَ إِلَى الزِّنَا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَبِكُفْرِهِمْ هُوَ إِنْكَارُهُمْ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً نِسْبَتُهُمْ إِيَّاهَا إِلَى الزِّنَا، وَلَمَّا حَصَلَ التَّغَيُّرُ لَا جَرَمَ حَسُنَ الْعَطْفُ، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الطَّعْنُ بُهْتَانًا عَظِيمًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ وِلَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا دَلَّ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [مَرْيَمَ: 25] وَنَحْوَ كَلَامِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ كَوْنِهِ طِفْلًا مُنْفَصِلًا عَنْ أُمِّهِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَلَائِلُ قَاطِعَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ كُلِّ رِيبَةٍ، فَلَا/ جَرَمَ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى طَعْنَ الْيَهُودِ فِيهَا بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ طَعْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَائِشَةَ بِأَنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ حَيْثُ قَالَ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّورِ: 16] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي عَائِشَةَ بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ الذين يطعنون في مريم عليها السلام.
[سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ.(11/259)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي قَتْلِهِ مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كُفْرٌ عَظِيمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْيَهُودُ كَانُوا كَافِرِينَ بِعِيسَى أَعْدَاءً لَهُ عَامِدِينَ لِقَتْلِهِ يُسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابْنَ السَّاحِرَةِ وَالْفَاعِلَ ابْنَ الْفَاعِلَةِ، فَكَيْفَ قَالُوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: 27] وَكَقَوْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: 6] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ اللَّه الذِّكْرَ الْحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهِمُ الْقَبِيحَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ رَفْعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فاللَّه تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَالَ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ شُبِّهَ مُسْنَدٌ إِلَى مَاذَا؟ إِنْ جَعَلْتَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْمَسِيحِ فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهِ وَلَيْسَ بِمُشَبَّهٍ، وَإِنْ أَسْنَدْتَهُ إِلَى الْمَقْتُولِ فَالْمَقْتُولُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: خُيِّلَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُمُ الشَّبَهُ. الثَّانِي: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما قَتَلُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى غَيْرِهِ فَصَارَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مَذْكُورًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَحَسُنَ إِسْنَادُ شُبِّهَ إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُلْقِي شَبَهَ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَا زَيْدًا فَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ، وَلَكِنَّهُ أُلْقِيَ شَبَهُ زَيْدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذلك/ لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا بِهِ، وَأَيْضًا يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي التَّوَاتُرِ لِأَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ انْتِهَائِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ تَوَجَّهَ الطَّعْنُ فِي التَّوَاتُرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَلَيْسَ لِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ فَذَاكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ وَذَلِكَ الْبُرْهَانَ وَجَبَ أَنْ لَا يَقْطَعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَوَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَيْضًا فَفِي زَمَانِنَا إِنِ انْسَدَّتِ الْمُعْجِزَاتُ فَطَرِيقُ الْكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي التَّوَاتُرِ، وَالطَّعْنُ فِيهِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهَذَا فَرْعٌ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْأُصُولِ فَكَانَ مَرْدُودًا.
وَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَصَدُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ فَخَافَ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَأَخَذُوا إِنْسَانًا وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَالنَّاسُ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ إِلَّا بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَ السُّؤَالُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ النَّصَارَى(11/260)
يَنْقُلُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمْ أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ مَقْتُولًا، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ تَوَاتُرَ النَّصَارَى يَنْتَهِي إِلَى أَقْوَامٍ قَلِيلِينَ لَا يَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْبَيْتِ الْفُلَانِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ أَمَرَ يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ طَيْطَايُوسُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُخْرِجَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْرَجَ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ سَقْفِ الْبَيْتِ وَأَلْقَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ شَبَهَ عِيسَى فَظَنُّوهُ هُوَ فَصَلَبُوهُ وَقَتَلُوهُ. الثَّانِي: وَكَّلُوا بِعِيسَى رَجُلًا يَحْرُسُهُ وَصَعِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَبَلِ وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَلْقَى اللَّه شَبَهَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّقِيبِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ يَقُولُ لَسْتُ بِعِيسَى. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا هَمُّوا بِأَخْذِهِ وَكَانَ مَعَ عِيسَى عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ يَشْتَرِي الْجَنَّةَ بِأَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي؟ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَا، فَأَلْقَى اللَّه شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ فَأُخْرِجَ وَقُتِلَ، وَرَفَعَ اللَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: كَانَ رَجُلٌ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مُنَافِقًا فَذَهَبَ إِلَى الْيَهُودِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَعَ الْيَهُودِ لِأَخْذِهِ أَلْقَى اللَّه تَعَالَى شَبَهَهُ عَلَيْهِ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مُتَعَارِضَةٌ مُتَدَافِعَةٌ واللَّه أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ هُمُ النَّصَارَى وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بِأَسْرِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ، إِلَّا أَنَّ كِبَارَ فِرَقِ النَّصَارَى ثَلَاثَةٌ: النُّسْطُورِيَّةُ، وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ.
أَمَّا النُّسْطُورِيَّةُ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ صُلِبَ مِنْ جِهَةِ نَاسُوتِهِ لَا من جهة لا هوته، وَأَكْثَرُ الْحُكَمَاءِ يَرَوْنَ مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الْهَيْكَلِ بَلْ هُوَ إِمَّا جسم شريف مناسب فِي هَذَا الْبَدَنِ، وَإِمَّا جَوْهَرٌ رُوحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ مُدَبِّرٌ فِي هَذَا الْبَدَنِ، فَالْقَتْلُ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْهَيْكَلِ، وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْقَتْلُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، لَا يُقَالُ: فَكُلُّ إِنْسَانٍ كَذَلِكَ فَمَا الْوَجْهُ لِهَذَا التَّخْصِيصِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ قُدُسِيَّةً عُلْوِيَّةً سَمَاوِيَّةً شَدِيدَةَ الْإِشْرَاقِ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَظِيمَةَ الْقُرْبِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَالنَّفْسُ مَتَى كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَعْظُمْ تَأَلُّمُهَا بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَتَخْرِيبِ الْبَدَنِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ ظُلْمَةِ الْبَدَنِ تتخلص إلى فسحة السموات وَأَنْوَارِ عَالَمِ الْجَلَالِ فَيَعْظُمُ بَهْجَتُهَا وَسَعَادَتُهَا هُنَاكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ بَلْ هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ مِنْ مَبْدَأِ خِلْقَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ إِلَّا لِأَشْخَاصٍ قَلِيلِينَ، فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ.
وَأَمَّا الْمَلْكَانِيَّةُ فَقَالُوا: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَصَلَا إِلَى اللَّاهُوتِ بِالْإِحْسَاسِ وَالشُّعُورِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ.
وَقَالَتِ الْيَّعْقُوبِيَّةُ: الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَقَعَا بِالْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ، فَهَذَا هُوَ شَرْحُ مَذَاهِبِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ.
القول الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ اخْتَلَفُوا هُمُ الْيَهُودُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا الشَّخْصَ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَانَ الشَّبَهُ قَدْ أُلْقِيَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يُلْقَ عَلَيْهِ شَبَهُ جَسَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ وَنَظَرُوا إِلَى بَدَنِهِ قَالُوا:
الْوَجْهُ وَجْهُ عِيسَى وَالْجَسَدُ جَسَدُ غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ حَبَسُوا عِيسَى مع عشرة مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فِي(11/261)
بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِيُخْرِجَهُ وَيَقْتُلَهُ، فَأَلْقَى اللَّه شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ وَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخَذُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَقَتَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ/ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟ فَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ اتِّبَاعٌ لِلظَّنِّ، وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ مَذْمُومٌ فِي كِتَابِ اللَّه بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى وصف اليهود والنصارى هاهنا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ بِهَذَا فَقَالَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَذَمَّةِ الْكُفَّارِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116] وقال في آية أخرى وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُسَ: 36] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ مَذْمُومٌ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ اتباع الظن، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ مَعْلُومًا لَا مَظْنُونًا، وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ غَوْرٌ وَفِيهِ بحث.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقِينُ عَدَمِ الْقَتْلِ، وَالْآخَرُ يَقِينُ عَدَمِ الْفِعْلِ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ شَاكُّونَ فِي أَنَّهُ هَلْ قَتَلُوهُ أَمْ لَا، ثُمَّ أَخْبَرَ مُحَمَّدًا بِأَنَّ الْيَقِينَ حَاصِلٌ بِأَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ شَاكُّونَ في أنه هل قتلوه؟ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوا ذَلِكَ الشَّخْصَ الَّذِي قَتَلُوهُ لَا عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ عِيسَى عليه السلام، بل حين ما قَتَلُوهُ كَانُوا شَاكِّينَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ عِيسَى أَمْ لَا، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ بِعَدَمِ الْقَتْلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بإدغام الكلام فِي الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَرْكِ الْإِدْغَامِ، حُجَّتُهُمَا قُرْبُ مَخْرَجِ اللَّامِ مِنَ الرَّاءِ وَالرَّاءُ أَقْوَى مِنَ اللَّامِ بِحُصُولِ التَّكْرِيرِ فِيهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لِأَنَّ الْأَنْقَصَ يُدْغَمُ فِي الْأَفْضَلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الرَّاءَ وَاللَّامَ حَرْفَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْإِدْغَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْجِهَةِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ الرَّفْعُ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الْبَقَرَةِ: 210] وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاءِ: 100] وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصَّافَّاتِ: 99] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَفْعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ مَا شَرَحَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى عِيسَى أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ على أن رفعه إلى أَعْظَمُ فِي بَابِ الثَّوَابِ مِنَ الْجَنَّةِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْتَحُ عَلَيْكَ بَابَ مَعْرِفَةِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.(11/262)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِزَّةِ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَمِنَ الْحِكْمَةِ كَمَالُ الْعِلْمِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ عيسى من الدنيا إلى السموات وَإِنْ كَانَ كَالْمُتَعَذِّرِ عَلَى الْبَشَرِ لَكِنَّهُ لَا تَعَذُّرَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِي وَإِلَى حِكْمَتِي، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الْإِسْرَاءِ: 1] فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُ سَهْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ ثُمَّ قال تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِحَ الْيَهُودِ وَقَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَشَرَحَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّهُ حَصَلَ لِعِيسَى أَعْظَمُ الْمَنَاصِبِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الذين كانوا مبالغين في عداوته لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) بِمَعْنَى (مَا) النَّافِيَةِ كَقَوْلِهِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] فَصَارَ التَّقْدِيرُ:
وَمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ. ثُمَّ إِنَّا نَرَى أَكْثَرَ الْيَهُودِ يَمُوتُونَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ الْحَجَّاجُ إِنِّي مَا قَرَأْتُهَا إِلَّا وَفِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ، يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنِّي أَضْرِبُ عُنُقَ الْيَهُودِيِّ وَلَا أَسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: إِنَّ الْيَهُودِيَّ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ، وَقَالُوا يَا عَدُوَّ اللَّه أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَكَذَّبْتَ بِهِ، فَيَقُولُ آمَنْتُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّه، وَتَقُولُ لِلنَّصْرَانِيِّ: أَتَاكَ عِيسَى نَبِيًّا فَزَعَمْتَ أَنَّهُ هُوَ اللَّه وَابْنُ اللَّه، / فَيَقُولُ: آمَنْتُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّه فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ، فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا وَقَالَ: عَمَّنْ نَقَلْتَ هَذَا؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي بِهِ محمد بن علي بن الْحَنَفِيَّةِ فَأَخَذَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَخَذْتَهَا مِنْ عَيْنٍ صَافِيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: فَإِنْ خَرَّ مِنْ سَقْفِ بَيْتٍ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بِهَا فِي الْهَوَاءِ وَلَا تَخْرُجُ رُوحُهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبي إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى مَعْنَى وَإِنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُؤْمِنُونَ بِهِ قَبْلَ موتهم لأن أحدا يصلح للجمع، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْفَائِدَةُ فِي إِخْبَارِ اللَّه تَعَالَى بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى عَلِمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَلِأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَالَ مَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ حَالَ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ: أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ نُزُولِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ لَا يُمْنَعُ نُزُولَهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ التَّكَالِيفِ أَوْ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ، إِذْ لَوْ نَزَلَ مَعَ بَقَاءِ التَّكَالِيفِ عَلَى وَجْهٍ يُعْرَفُ أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ غَيْرَ نَبِيٍّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّ انْتِهَاءَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ مَبْعَثِهِ انْتَهَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَصِيرَ بَعْدَ نُزُولِهِ تَبَعًا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قِيلَ: يَشْهَدُ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ وَطَعَنُوا فِيهِ، وَعَلَى النَّصَارَى أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمته ثم قال تعالى:(11/263)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ فَضَائِحَ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَقَبَائِحَ الْكَافِرِينَ وَأَفْعَالِهِمْ ذَكَرَ عَقِيبَهُ تَشْدِيدَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا تَشْدِيدُهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الْأَنْعَامِ: 146] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ الذُّنُوبِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: الظُّلْمِ لِلْخَلْقِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، أَمَّا ظُلْمُ الْخَلْقِ فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، فَتَارَةً يُحَصِّلُونَهُ بِالرِّبَا مَعَ أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ، وَتَارَةً بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [الْمَائِدَةِ: 43] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الذُّنُوبُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ طَرِيقَةَ الْكُفَّارِ وَالْجُهَّالِ مِنَ اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم.
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الثَّابِتُونَ فِيهِ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ الْبَتَّةَ، فَالرَّاسِخُونَ هُمُ الْمُسْتَدِلُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وارتفع الراسخون على الابتداء ويُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ/ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ فِي الْمُصْحَفِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ مَنْقُولٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ ثُبُوتُ اللَّحْنِ فِيهِ، الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، قَالُوا إِذَا قُلْتَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْكَرِيمِ فَلَكَ أَنْ تَجُرَّ الْكَرِيمَ لِكَوْنِهِ صِفَةً لِزَيْدٍ، وَلَكَ أَنْ تَنْصِبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ الْكَرِيمُ، وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: جَاءَنِي قَوْمُكَ الْمُطْعِمِينَ فِي الْمَحَلِّ وَالْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ، وَالتَّقْدِيرُ جَاءَنِي قَوْمُكَ أَعْنِي الْمَطْعِمِينِ فِي الْمَحَلِّ وَهُمُ الْمُغِيثُونَ فِي الشَّدَائِدِ فَكَذَا هاهنا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَعْنِي الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَهُمُ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، طَعَنَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الكلام، وهاهنا لم(11/264)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
يَتِمَّ الْكَلَامُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُنْتَظِرٌ لِلْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتِمُّ إِلَّا عِنْدَ قَوْلِهِ أُولئِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ وَأَيْضًا لِمَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْمَدْحِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْخَبَرِ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِهِ؟ فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكِسَائِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمِينَ خُفِضَ بِالْعَطْفِ عَلَى (مَا) فِي قَوْلِهِ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمَعْنَى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُرَادُ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ الْأَنْبِيَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ شَرْعُ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ. قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْدَادًا مِنْهُمْ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ [الْأَنْبِيَاءِ: 73] وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمُ الصَّافُّونَ وَهُمُ الْمُسَبِّحُونَ وَأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَقَوْلُهُ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي يُؤْمِنُونَ بِالْكُتُبِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ يعني يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ. الرَّابِعُ: جَاءَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِالْوَاوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَالْجَحْدَرِيِّ وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى فَقَطْ. وَالثَّانِي: الْعُلَمَاءُ بِذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِ اللَّه فَقَطْ. وَالثَّالِثُ: الْعُلَمَاءُ بِأَحْكَامِ اللَّه وَبِذَاتِ اللَّه، أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِأَحْكَامِ اللَّه وَتَكَالِيفِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُمُ الْعَالِمُونَ بِذَاتِ اللَّه وَبِصِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ وَالْجَائِزَةِ وَالْمُمْتَنِعَةِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْعَامِلِينَ وَهُمْ أَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَخَالِطِ الْحُكَمَاءَ وَرَافِقِ الْكُبَرَاءَ» .
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، ثُمَّ شَرَحَ ذَلِكَ فَبَيَّنَ أَوَّلًا: كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِأَحْكَامِ اللَّه فَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَأَمَّا عَمَلُهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمَا أَشْرَفَ الطَّاعَاتِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةَ أَشْرَفُ الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَمَّا شَرَحَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه وَعَامِلِينَ بِهَا شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ باللَّه، وَأَشْرَفُ الْمَعَارِفِ الْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، فَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْعِلْمُ بِالْمَعَادِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَمَّا شَرَحَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ ظَهَرَ كَوْنُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ عَالِمِينَ بِأَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَعَامِلِينَ بِهَا وَظَهَرَ كَوْنُهُمْ عَالِمِينَ باللَّه وَبِأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ ظَهَرَ كَوْنُهُمْ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ هَذَا الْمَقَامَ فِي الْكَمَالِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)(11/265)
[في قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ، وَحَكَى أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمْ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، شَرَعَ الآية فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فَقَالَ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى نُبُوَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَجَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِمْ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِمْ أَنْبِيَاءَ اللَّه وَرُسُلَهُ إِلَّا ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كِتَابًا بِتَمَامِهِ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَدَمُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً قَادِحًا فِي نُبُوَّتِهِمْ، بَلْ كَفَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّتِهِمْ ظُهُورُ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهِمْ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ إِصْرَارَ الْيَهُودِ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ بَاطِلٌ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ إِثْبَاتَ الْمَدْلُولِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ إِذَا حَصَلَ الدَّلِيلُ وَتَمَّ فَالْمُطَالَبَةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ تَكُونُ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ وَإِظْهَارًا لِلتَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ، واللَّه سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ بِأَنَّهُ لِمَ أَعْطَى هَذَا الرَّسُولَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ وَذَلِكَ الرَّسُولَ الْآخَرَ مُعْجِزًا آخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ المذكور هاهنا هُوَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: 90] إِلَى قَوْلِهِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 93] يَعْنِي أَنَّكَ إِنَّمَا ادَّعَيْتَ الرِّسَالَةَ، وَالرَّسُولُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَذَلِكَ قَدْ حَصَلَ، وَأَمَّا أَنْ تَأْتِيَ بِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْكَ فَذَاكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّسَالَةِ، فَهَذَا جَوَابٌ مُعْتَمَدٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْيَهُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِيحَاءُ الْإِعْلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْخَفَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: 11] أَيْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي [الْمَائِدَةِ: 111] وَقَالَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: 68] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ الْإِلْهَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا إِنَّمَا بَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ نُوحٍ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شَرَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ الْأَحْكَامَ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سِوَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَا عَشَرَ وَلَمْ يُذْكَرْ مُوسَى/ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ نَبِيًّا فَأْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ(11/266)
بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فاللَّه تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا مَعَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ مَا أَتَى بِكِتَابٍ مِثْلِ التَّوْرَاةِ دُفْعَةً واحدة، وإذا كان المقصود من تعديد هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هذا المعنى لم يجر ذكر موسى معهم، ثُمَّ خَتَمَ ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يَعْنِي أَنَّكُمُ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ الزَّبُورَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ مَا نَزَلَ عَلَى دَاوُدَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فِي أَلْوَاحٍ مِثْلَ مَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ نُزُولَ الْكِتَابِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْكِتَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهَذَا إِلْزَامٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الزَّبُورُ الْكِتَابُ، وَكُلُّ كِتَابٍ زَبُورٌ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالرَّسُولِ وَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ، وَأَصْلُهُ مِنْ زَبَرْتُ بِمَعْنَى كَتَبْتُ، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ [آلِ عِمْرَانَ: 184] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ زَبُوراً بِضَمِّ الزَّايِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، حُجَّةُ حَمْزَةَ أَنَّ الزَّبُورَ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَنَسْجُ فُلَانٍ فَصَارَ اسْمًا ثُمَّ جُمِعَ عَلَى زُبُرٍ كَشُهُودٍ وَشُهُدٍ، وَالْمَصْدَرُ إِذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُهُ كَمَا يُجْمَعُ الْكِتَابُ عَلَى كُتُبٍ، فَعَلَى هَذَا، الزَّبُورُ الْكِتَابُ، وَالزُّبُرُ بِضَمِّ الزَّايِ الْكُتُبُ، أَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَشْهَرُ، وَالْقِرَاءَةُ بِهَا أَكْثَرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ انْتَصَبَ قَوْلُهُ رُسُلًا بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ أَحْوَالَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْأَكْثَرُونَ غَيْرُ مَذْكُورِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ.
ثُمَّ قَالَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وَالْمُرَادُ أَنَّهُ بَعَثَ كُلَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَخَصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّكَلُّمِ مَعَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ الطَّعْنُ فِي نُبُوَّةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً طَعْنٌ فِيمَنْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ الْكِتَابَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا وَكَلَّمَ اللَّهُ بِالنَّصْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَلَّمَ اللَّه مَعْنَاهُ وَجَرَحَ اللَّه مُوسَى بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ وَمَخَالِبِ الْفِتَنِ وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ رُسُلًا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأَوْجَهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ وَرُسُلًا الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَشِّرُوا الْخَلْقَ عَلَى اشْتِغَالِهِمْ بِعُبُودِيَّةِ اللَّه، وَأَنْ يُنْذِرُوهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْبِعْثَةِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ فَقَدْ كَمُلَ الْغَرَضُ وَتَمَّ الْمَطْلُوبُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ حَاصِلٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُ هذا المطلوب(11/267)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا فِي الْأَلْوَاحِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبِأَنْ يَكُونَ نَازِلًا دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا، بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ إِنْزَالَ الْكِتَابِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ إِذَا نَزَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَثُرَتِ التَّكَالِيفُ وَتَوَجَّهَتْ بِأَسْرِهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ قَبُولُهَا، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَصَرَّ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّمَرُّدِ وَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ التَّكَالِيفَ، أَمَّا إِذَا نَزَلَ الْكِتَابُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بَلْ يُنْزِلُ التَّكَالِيفَ شَيْئًا فَشَيْئًا وَجُزْءًا فَجُزْءًا، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ مِنَ الْقَوْمِ وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ سَوَاءٌ نَزَلَ الْكِتَابُ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ اقْتِرَاحُ الْيَهُودِ فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً اقْتِرَاحًا فَاسِدًا. وَهَذَا أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَطْلُبُونَهُ مِنَ الرَّسُولِ أَمْرٌ هَيِّنٌ فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنَّكُمْ طَلَبْتُمُوهُ عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَهُوَ تَعَالَى عَزِيزٌ، وَعِزَّتُهُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُجَابَ الْمُتَعَنِّتُ إِلَى مَطْلُوبِهِ فَكَذَلِكَ حِكْمَتُهُ تَقْتَضِي هَذَا الِامْتِنَاعَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى لَجَاجِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا التَّشْرِيفَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْمُهُ بَقُوا مَعَهُ عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْإِصْرَارِ وَاللَّجَاجِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالسَّمْعِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبْلَ الْبِعْثَةِ يَكُونُ لِلنَّاسِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَحْتَجُّ عَلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُمْ عَلَى اللَّه حُجَّةً قَبْلَ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّةٌ أَيْ مَا يُشْبِهُ الْحُجَّةَ فِيمَا بَيْنَكُمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ عَدَمَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِذَا كَانَ يَصْلُحُ عُذْرًا فَبِأَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمُكْنَةِ وَالْقُدْرَةِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ عُذْرًا كَانَ أولى، وجوابه المعارضة بالعلم واللَّه أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ] وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ لكِنِ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَفِي ذَلِكَ الْمُسْتَدْرَكِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَسْرِهَا جَوَابٌ عَنْ قوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاءِ: 153] وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابًا نَازِلًا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ وَإِنْ شَهِدُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّ اللَّه يَشْهَدُ بِأَنَّهُ نَازِلٌ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ(11/268)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: 163] قَالَ الْقَوْمُ: نَحْنُ لَا نَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ اللَّه إِنَّمَا عُرِفَتْ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ الْبَالِغَ فِي الْفَصَاحَةِ فِي اللَّفْظِ وَالشَّرَفِ فِي الْمَعْنَى إِلَى حَيْثُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا وَإِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ شَهَادَةٌ بِكَوْنِ الْمُدَّعِي صَادِقًا، وَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَتُهُ إِنَّمَا عُرِفَتْ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ لَا جَرَمَ قَالَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَيْ يَشْهَدُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بَيَّنَ صِفَةَ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمٍ تَامٍّ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَصَارَ قَوْلُهُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَقَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِغَايَةِ الْحُسْنِ وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ إِذَا صَنَّفَ كِتَابًا وَاسْتَقْصَى فِي تَحْرِيرِهِ: إِنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ هَذَا بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ اتَّخَذَ جُمْلَةَ عُلُومِهِ آلَةً وَوَسِيلَةً إِلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِ ذَلِكَ التَّصْنِيفِ بِغَايَةِ الْجَوْدَةِ ونهاية الحسن، فكذا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ للَّه تَعَالَى عِلْمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ نَفْسَ ذَاتِهِ لَزِمَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى شَهِدَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِذَا شَهِدَ اللَّه لَهُ بِذَلِكَ فَقَدْ شَهِدَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا مَحَالَةَ بِذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كَذَّبَكَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ فَلَا تُبَالِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ إِلَهُ العالمين يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السَّبْعِ يُصَدِّقُونَكَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ صَدَّقَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَلَائِكَةُ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَوَاتِ السَّبْعِ أَجْمَعُونَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَكْذِيبِ أَخَسِّ النَّاسِ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وَالْمَعْنَى وَكَفَى اللَّه شَهِيدًا، وَقَدْ سَبَقَ الكلام في مثل هذا.
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِالْقُرْآنِ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّه، وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ رَسُولًا لَأَتَى/ بِكِتَابِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنْ وَلَدِ هَارُونَ وَدَاوُدَ، وَقَوْلُهُ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ضَلَالًا مَنْ كَانَ ضَالًّا وَيَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِذَلِكَ الضَّلَالِ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَبْذُلُ كُنْهَ جُهْدِهِ فِي إِلْقَاءِ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الضَّلَالِ، فَهَذَا الْإِنْسَانُ لَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ في الضلال(11/269)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَأَعْظَمِ النِّهَايَاتِ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَلَمَّا وَصَفَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ضَلَالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُ وَعِيدَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِ ذِكْرِ بِعْثَتِهِ وَظَلَمُوا عَوَامَّهُمْ بِإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ شَرْطٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّا نَحْمِلُ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَقْوَامٍ عَلِمَ اللَّه مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَضْمَرْنَا فِيهِ شَرْطَ عَدَمِ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ جَهَنَّمَ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انْتَصَبَ خَالِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى لَا لِيَهْدِيَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نُعَاقِبُهُمْ خَالِدِينَ، وَانْتَصَبَ أَبَداً عَلَى الظَّرْفِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّه يَسِيرًا، وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَ إِيصَالُ الْأَلَمِ إِلَيْهِمْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ يَسِيرًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا عَلَى غَيْرِهِ.
[سورة النساء (4) : آية 170]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ وَبَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ خِطَابًا عَامًّا يَعُمُّهُمْ وَيَعُمُّ غَيْرَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَذَا الْحَقُّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ جَاءَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْعَقْلُ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يَعْنِي فَآمِنُوا يَكُنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، أَيْ أَحْمَدَ عَاقِبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّه غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات وَالْأَرْضِ وَخَالِقُهُمَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فإن للَّه ما في السموات وَالْأَرْضِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْكُمْ لَوْ كَفَرْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنْ كَفَرْتُمْ فَلَهُ ملك السموات وَالْأَرْضِ وَلَهُ عَبِيدٌ يَعْبُدُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أَيْ عَلِيمًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عباده المؤمنين والكافرين شيء، وحكيما لَا يَضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسِيءِ وَالْمُحْسِنِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] .
[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)(11/270)
[في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ إلى قوله وَرُوحٌ مِنْهُ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْيَهُودِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ النَّصَارَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ لَا تُفْرِطُوا فِي تَعْظِيمِ الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الطَّعْنِ فِي الْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِهِمْ ذَمِيمٌ، فَلِهَذَا قَالَ لِلنَّصَارَى لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَوْلُهُ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يَعْنِي لَا تَصِفُوا اللَّه بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ رُوحِهِ، وَنَزِّهُوهُ عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَلَمَّا مَنَعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْغُلُوِّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه وَعَبْدُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّا فَسَّرْنَا (الْكَلِمَةَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ [آلِ عِمْرَانَ: 45] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللَّه وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا نُطْفَةٍ كَمَا قَالَ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] أما قَوْلُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ قَالُوا: إِنَّهُ رُوحٌ، فَلَمَّا كَانَ عِيسَى لَمْ يَتَكَوَّنْ مِنْ نُطْفَةِ الْأَبِ وَإِنَّمَا تَكَوَّنُ مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا جَرَمَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْهُ التَّشْرِيفُ وَالتَّفْضِيلُ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه، وَالْمُرَادُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ كَامِلَةً شَرِيفَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْخَلْقِ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ رُوحٌ. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشُّورَى: 52] الثَّالِثُ: رُوحٌ مِنْهُ أَيْ رَحْمَةٌ مِنْهُ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [الْمُجَادَلَةِ: 22] أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» فَلَمَّا كَانَ عِيسَى رَحْمَةً مِنَ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ كَانَ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا جَرَمَ سُمِّيَ رُوحًا مِنْهُ. الرَّابِعُ: / أَنَّ الرُّوحَ هُوَ النَّفْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالرِّيحَ مُتَقَارِبَانِ، فَالرُّوحُ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ وَقَوْلُهُ مِنْهُ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ النَّفْخَ مِنْ جِبْرِيلَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّه وَإِذْنِهِ فَهُوَ مِنْهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] الْخَامِسُ: قَوْلُهُ رُوحٌ أَدْخَلَ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِ رُوحٌ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَرُوحٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الشَّرِيفَةِ الْقُدُسِيَّةِ الْعَالِيَةِ، وَقَوْلُهُ مِنْهُ إِضَافَةٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَيْ أَنَّ عِيسَى مِنْ رُسُلِ اللَّه فَآمِنُوا بِهِ كَإِيمَانِكُمْ بِسَائِرِ الرُّسُلِ وَلَا تَجْعَلُوهُ إِلَهًا.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى: وَلَا تَقُولُوا إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ بِالْجَوْهَرِ ثَلَاثَةٌ بِالْأَقَانِيمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى مَجْهُولٌ جِدًّا، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَاتًا مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ وَإِنْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ ذَوَاتٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عَلَيْهَا الْحُلُولَ فِي عِيسَى وَفِي مَرْيَمَ(11/271)
بِأَنْفُسِهَا، وَإِلَّا لَمَا جَوَّزُوا عَلَيْهَا أَنْ تَحِلَّ فِي الْغَيْرِ وَأَنْ تُفَارِقَ ذَلِكَ الْغَيْرَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُثْبِتُونَ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا، وَذَلِكَ مَحْضُ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا فَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الثَّلَاثَةَ عَلَى أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةً، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّا نَقُولُ: هُوَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْعَالِمُ الْحَيُّ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ، وَنَفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ كُفْرًا لَزِمَ رَدُّ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَزِمَ رَدُّ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا أَوْ حَيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ ثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:
مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا تَقُولُوا آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه وَالْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ كقوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف: 22] وذلك لأن ذكر عِيسَى وَمَرْيَمَ مَعَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ يُوهِمُ كَوْنَهُمَا إِلَهَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى مَذْهَبًا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ رَكَاكَةً وَبُعْدًا عَنِ الْعَقْلِ مِنْ/ مَذْهَبِ النَّصَارَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ انْتِصَابِهِ عِنْدَ قوله فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.
ثُمَّ أَكَّدَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَدَلَائِلُ تَنْزِيهِ اللَّه عَنِ الْوَلَدِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِنْ يَكُونُ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنْ وَرَفْعِ النُّونِ مِنْ يَكُونَ، أَيْ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ ذَكَرَ كَوْنَهُ مَلِكًا وَمَالِكًا لِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي مَرْيَمَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: 93] وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مَالِكًا لكل السموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ مَالِكًا لِعِيسَى ولمريم لأنهما كانا في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَمَا كَانَا أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا فَبِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا تَوَهُّمُ كَوْنِهِمَا لَهُ وَلَدًا وَزَوْجَةً.
ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي حِفْظِ الْمُحْدَثَاتِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ آخَرَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ كَانَ كَافِيًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا آخَرَ مَعَهُ لَكَانَ مُعَطَّلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ، وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا.
ثُمَّ قال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْ لَنْ يَأْنَفَ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بإصبعك عن خدك، فتأويل نْ يَسْتَنْكِفَ
أي لن يتنغص ولم يَمْتَنِعَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرِيَّ يَقُولُ:(11/272)
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْكَافِ فَقَالَ: هُوَ مِنَ النَّكْفِ، يُقَالُ مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ نَكْفٍ وَلَا وَكْفٍ، وَالنَّكْفُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سُوءٌ، وَاسْتَنْكَفَ إِذَا دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَعِيبُ صَاحِبَنَا قَالَ: وَمَنْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالُوا عِيسَى، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قُلْتُ؟ قَالُوا تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّه وَرَسُولُهُ، قَالَ إِنَّهُ/ لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ أَشَارَ بَعْدَهُ إِلَى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِمْ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّه هُوَ أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَكَانَ يَأْتِي بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْقُدْرَةِ لِأَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ حَمَلُوا الْعَرْشَ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَنَاسِبَةً مُتَتَابِعَةً وَمُنَاظَرَةً شَرِيفَةً كَامِلَةً، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: 34] وَأَجَبْنَا عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُوهٍ كثيرة، والذي نقول هاهنا: إِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ اطِّلَاعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَنُسَلِّمُ أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَشَدُّ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، كَيْفَ وَيُقَالُ: إِنَّ جبريل قلع مدائن قوله لُوطٍ بِرِيشَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ أَمْ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى إِنَّمَا أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى بِسَبَبِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغُيُوبِ وَأَتَى بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. فَإِيرَادُ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَقْوَى حَالًا فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَفِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا قَوِيَ فِي الْأَوْهَامِ لِأَنَّ النَّاسَ مَا لَخَّصُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْطُوفُونَ عَلَى الْمَسِيحِ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا للَّه وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المراد ولا كل واحد من المقربين. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَنْ يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله بْداً لِلَّهِ
عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (عبيد اللَّه) على التصغير.
المسألة السادسة: قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَبَقَاتِ الْمَلَائِكَةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَقَدْ شَرَحْنَا طَبَقَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَةِ: 30] .(11/273)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
ثم قال تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا فَإِنَّ اللَّه يَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ أَيْ يَجْمَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ.
فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ آخِرًا عِقَابَ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
فَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عِقَابِ الْمُسْتَنْكِفِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ ثُمَّ شَاهَدُوا بَعْدَهُ عِقَابَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الحسرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَجَابَ عَنْ جَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ عَمَّمَ الْخِطَابَ. وَدَعَا جَمِيعَ النَّاسِ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبُرْهَانُ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بُرْهَانًا لِأَنَّ حِرْفَتَهُ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ هُوَ/ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُقُوعِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَمَّا قَرَّرَ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا حَقًّا أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَقَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ وَالْمُرَادُ آمَنُوا باللَّه فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ باللَّه فِي أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَيَصُونَهُمْ عَنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَيُدْخِلَهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مستقيما، فَوَعَدَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّحْمَةُ الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يُرِيدُ دِينًا مُسْتَقِيمًا.
وَأَقُولُ: الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَالْمُرَادُ مِنْهَا السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِتَجَلِّي أَنْوَارِ عَالِمِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَهَذَا هُوَ السَّعَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَأَخَّرَ ذِكْرَهَا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَهْجَةَ الرُّوحَانِيَّةَ أَشْرَفُ من اللذات الجسمانية.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)(11/274)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إلى قوله فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَخَتَمَ آخِرَهَا بِذَلِكَ لِيَكُونَ الْآخِرُ مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ، وَوَسَطُ السُّورَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْفِرَقِ الْمُخَالِفِينَ لِلدِّينِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْكَلَالَةِ آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ وَهِيَ الَّتِي فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلِهَذَا تُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الصَّيْفِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَالَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى/ الْوَارِثِ وَعَلَى الْمَوْرُوثِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْوَارِثِ فَهُوَ مَنْ سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمَوْرُوثِ فَهُوَ الَّذِي مَاتَ وَلَا يَرِثُهُ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ قَالَ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ ارْتَفَعَ امْرُؤٌ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَمَحَلُّ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرَّفْعُ عَلَى الصِّفَةِ، أَيْ إِنْ هَلَكَ امْرُؤٌ غَيْرُ ذِي وَلَدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ تَقْيِيدَاتٌ ثَلَاثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ كَوْنِ الْأُخْتِ تَأْخُذُ النِّصْفَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدُ ابْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ فَإِنَّ الْأُخْتَ تَأْخُذُ النِّصْفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الشَّرْطُ أَنْ لَا يكون للميت ولد ولا والد، وذلك لأن الْأُخْتَ لَا تَرِثُ مَعَ الْوَالِدِ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلَهُ أُخْتٌ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخَ مِنَ الْأُمِّ قَدْ بَيَّنَ اللَّه حُكْمَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يَعْنِي أَنَّ الْأَخَ يَسْتَغْرِقُ مِيرَاثَ الْأُخْتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُخْتِ وَلَدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْأَخَ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنَ الْأَبِ، أَمَّا الْأَخُ مِنَ الْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمِيرَاثَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ، وَرُوِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّه فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْفَرَائِضِ، فَأَوَّلُهَا: فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، وَثَانِيهَا: فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وفيه وجوه: الأول: قال البصريون: المضاف هاهنا مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ: يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ تضلوا، إلا أنه حذف المضاف كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] الثَّانِي:
قَالَ الْكُوفِيُّونَ: حَرْفُ النَّفْيِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: 41] أَيْ لِئَلَّا تَزُولَا. الثَّالِثُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : يُبَيِّنُ اللَّه لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجَنَّبُوهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَيَكُونُ بَيَانُهُ حَقًّا وَتَعْرِيفُهُ صِدْقًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَطِيفَةً عَجِيبَةً، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ قال:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [النِّسَاءِ: 1] وَهَذَا دَالٌّ عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ، وَآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ هُمَا اللَّذَانِ بِهِمَا تَثْبُتُ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْإِلَهِيَّةُ وَالْجَلَالَةُ وَالْعِزَّةُ، وَبِهِمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُنْقَادًا لِكُلِّ التَّكَالِيفِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فَرَغْتُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خمس وتسعين وخمسمائة.(11/275)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة (5)
مدنية وآياتها مائة وعشرون
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: وَفَى بِالْعَهْدِ وَأَوْفَى بِهِ، ومنه الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 177] وَالْعَقْدُ هُوَ وَصْلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيثَاقِ وَالْإِحْكَامِ، وَالْعَهْدُ إِلْزَامٌ، وَالْعَقْدُ الْتِزَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إِظْهَارُ الِانْقِيَادِ للَّه تَعَالَى فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَكَانَ هَذَا الْعَقْدُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحَقُّقِ ماهية الإيمان، فلهذا قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يَعْنِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ الْتَزَمْتُمْ بِإِيمَانِكُمْ أَنْوَاعَ الْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي إِظْهَارِ طَاعَةِ اللَّه أَوْفُوا بِتِلْكَ الْعُقُودِ، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى هَذِهِ التَّكَالِيفَ عُقُودًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَبَطَهَا بِعِبَادِهِ كَمَا يُرْبَطُ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ بِالْحَبْلِ الْمُوَثَّقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُسَمِّي هَذِهِ التَّكَالِيفَ عُقُودًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الْمَائِدَةِ: 89] وَتَارَةً عُهُودًا، قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ [النَّحْلِ: 91] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَدَاءِ التَّكَالِيفِ فِعْلًا وَتَرْكًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ نَذَرَ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَغَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: بَلْ يَصِحُّ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَذَرَ الصَّوْمَ وَالذَّبْحَ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ وَالذَّبْحُ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَنَذَرَ ذبح الولد، وصوم يوم الْعِيدِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الصَّوْمِ وَمِنْ وُقُوعِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْوَلَدِ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الذَّبْحِ وَمِنْ وُقُوعِهِ فِي الْوَلَدِ، وَالْآتِي بِالْمُرَكَّبِ يَكُونُ آتِيًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَيْهِ، فَمُلْتَزِمُ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَذَبْحِ الْوَلَدِ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ مُلْتَزِمًا لِلصَّوْمِ وَالذَّبْحِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالذَّبْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2] وَلِقَوْلِهِ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الْإِنْسَانِ: 7]
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِ بِنَذْرِكَ»
أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَغَا هَذَا النَّذْرَ فِي خُصُوصِ كَوْنِ الصَّوْمِ وَاقِعًا فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَفِي خُصُوصِ(11/276)
كَوْنِ الذَّبْحِ وَاقِعًا فِي الْوَلَدِ، إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ هَذَا نَذْرٌ فِي الْمَعْصِيَةِ فَيَكُونُ لَغْوًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّه» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: خِيَارُ الْمَجْلِسِ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: ثَابِتٌ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْفَسْخُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِالْخَبَرِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه: الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ حَرَامٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَيْسَ بِحَرَامٍ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 235] فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ رَفْعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ حَرُمَ الْجَمْعُ لَمَا نفذ وقد نفذ فلا يحرم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ بِالْآيَةِ الْأُولَى عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الِانْقِيَادُ لِجَمِيعِ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ كَالْأَصْلِ الْكُلِّيِّ وَالْقَاعِدَةِ الْجَمِيلَةِ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ التَّكَالِيفِ الْمُفَصَّلَةِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ فَقَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: كُلُّ حَيٍّ لَا عَقْلَ لَهُ فَهُوَ بَهِيمَةٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَبْهَمَ الْأَمْرُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَشْكَلَ، وَهَذَا بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ مَسْدُودُ الطَّرِيقِ، ثُمَّ اخْتُصَّ هَذَا الِاسْمُ بِكُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، قَالَ تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ [النَّحْلِ: 5- 8] فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ الْأَنْعَامِ وَبَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 71، 72] وَقَالَ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الْأَنْعَامِ: 142- 144] قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَلَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْأَنْعَامِ الْحَافِرُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نُعُومَةِ الْوَطْءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَهِيمَةَ اسْمُ الْجِنْسِ، وَالْأَنْعَامَ اسْمُ النَّوْعِ فَقَوْلُهُ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَوَانُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَدْرَكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ، لَكَانَ الْكَلَامُ تَامًّا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الحج: 30] فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي زِيَادَةِ لَفْظِ الْبَهِيمَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْبَهِيمَةِ بِلَفْظِ الْوُحْدَانِ، وَلَفْظَ الْأَنْعَامِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَهِيمَةِ وَبِالْأَنْعَامِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَإِضَافَةُ الْبَهِيمَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ لِلْبَيَانِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ، وَمَعْنَاهُ الْبَهِيمَةُ من الأنعام أو للتأكيد كقولنا: نفس(11/277)
الشَّيْءِ وَذَاتُهُ وَعَيْنُهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَهِيمَةِ شَيْءٌ، وَبِالْأَنْعَامِ شَيْءٌ آخَرُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَنَحْوُهَا، كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُمَاثِلُ الْأَنْعَامَ وَيُدَانِيهَا مِنْ جِنْسِ الْبَهَائِمِ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى الْأَنْعَامِ لِحُصُولِ الْمُشَابَهَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ بَقَرَةً ذُبِحَتْ فَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَنَبِهَا وَقَالَ: هَذَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهَا أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ، وَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَنَّ الْجَنِينَ مُذَكًّى بِذَكَاةِ الْأُمِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الثَّنَوِيَّةُ: ذَبْحُ الْحَيَوَانَاتِ إِيلَامٌ، وَالْإِيلَامُ قَبِيحٌ، وَالْقَبِيحُ لَا يَرْضَى بِهِ/ الْإِلَهُ الرَّحِيمُ الْحَكِيمُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ حَلَالًا مُبَاحًا بِحُكْمِ اللَّه. قَالُوا: وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ لَيْسَ لَهَا قُدْرَةٌ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهَا، وَلَا لَهَا لِسَانٌ تَحْتَجُّ عَلَى مَنْ قَصَدَ إِيلَامَهَا، وَالْإِيلَامُ قَبِيحٌ إِلَّا أَنَّ إِيلَامَ مَنْ بَلَغَ فِي الْعَجْزِ وَالْحَيْرَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ أَقْبَحُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِرَقَ الْمُسْلِمِينَ افْتَرَقُوا فِرَقًا كَثِيرَةً بِسَبَبِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقَالَتِ الْمُكْرَمِيَّةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَتَأَلَّمُ عِنْدَ الذَّبْحِ، بَلْ لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى يَرْفَعُ أَلَمَ الذَّبْحِ عَنْهَا. وَهَذَا كَالْمُكَابَرَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِيلَامَ قَبِيحٌ مُطْلَقًا، بَلْ إِنَّمَا يَقْبُحُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بجناية ولا ملحقا بعوض. وهاهنا اللَّه سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْآخِرَةِ بِأَعْوَاضٍ شَرِيفَةٍ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ هَذَا الذَّبْحُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا، قَالُوا:
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا تُقُرِّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّهُ يَحْسُنُ تَحَمُّلُ أَلَمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ لِطَلَبِ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ تَحَمُّلُ الْأَلَمِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الذَّبْحِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ الْإِذْنَ فِي ذَبْحِ الْحَيَوَانَاتِ تَصَرُّفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَالْمَالِكُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي مُلْكِ نَفْسِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إِنَّمَا يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أُضِيفَ إِلَى الذَّاتِ فَتَعَذَّرَ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَلَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِحْلَالَ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا أَوْ عَظْمِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ لَحْمِهَا، أَوِ الْمُرَادُ إِحْلَالُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَكْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ فَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النَّحْلِ: 5] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بها من كل هذه الوجوه.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أَلْحَقَ بِهِ نَوْعَيْنِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلٌ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكَلَامِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مُجْمَلًا أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ يَقْتَضِي إِحْلَالَهَا لَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً، أَوْ مَوْقُوذَةً أَوْ مُتَرَدِّيَةً أَوْ نَطِيحَةً أَوِ افْتَرَسَهَا السَّبُعُ أَوْ ذُبِحَتْ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ.(11/278)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَحَلَّ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ صَيْدِهَا وَغَيْرِ صَيْدِهَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا صَيْدًا، فَإِنَّهُ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَإِنَّهُ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ مُحْرِمُونَ أَيْ دَاخِلُونَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، يُقَالُ: أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهُوَ مُحْرِمٌ وَحُرُمٌ، كَمَا يُقَالُ: أَجَنْبَ فَهُوَ مُجْنِبٌ وَجُنُبٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، يُقَالُ قَوْمٌ حُرُمٌ كَمَا يُقَالُ قَوْمٌ جُنُبٌ. قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [الْمَائِدَةِ: 65] .
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: أَحْرَمَ الرَّجُلُ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: الْأَوَّلُ: هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَوْلُهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَيَحْرُمُ الصَّيْدُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا فَإِنَّ إِذَا لِلشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّيْءِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ إِنَّمَا هُوَ صَيْدُ الْبَرِّ لَا صَيْدُ الْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [الْمَائِدَةِ: 96] فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانًا لِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: انْتَصَبَ غَيْرَ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ أُحِلَّتْ لَكُمْ كَمَا تَقُولُ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّعَامُ غَيْرَ مُعْتَدِينَ فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِكِ: أُحِلَّ لَكَ الشَّيْءُ لَا مُفَرِّطًا فِيهِ وَلَا مُتَعَدِّيًا، وَالْمَعْنَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنْ تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ إِذَا كُنْتُمْ مُحْرِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَنْعَامَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَبَاحَ الصَّيْدَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا السَّبَبُ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ وَالتَّخْصِيصِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْأَشْيَاءِ وَخَالِقُهَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى حُكْمِهِ اعْتِرَاضٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا إِنَّ عِلَّةَ حُسْنِ التَّكْلِيفِ هِيَ الرُّبُوبِيَّةُ وَالْعُبُودِيَّةُ لَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ رِعَايَةِ المصالح.
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا حَرَّمَ الصَّيْدَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ تَكَالِيفِ اللَّه تعالى فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ.(11/279)
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّعَائِرَ جَمْعٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَاحِدُهَا شَعَارَةٌ، وَالشَّعِيرَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مُفَعَّلَةٍ، وَالْمُشَّعَرَةُ الْمُعَلَّمَةُ، وَالْأَشْعَارُ الْأَعْلَامُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أُشْعِرَ فَقَدْ أُعْلِمُ، وَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى شَيْءٍ أَوْ عُلِّمَ بِعَلَامَةٍ جَازَ أَنْ يُسَمَّى شَعِيرَةً، فَالْهَدْيُ الَّذِي يُهْدَى إِلَى مَكَّةَ يُسَمَّى شَعَائِرَ لِأَنَّهَا مُعَلَّمَةٌ بِعَلَامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِشَعَائِرِ اللَّه، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أَيْ لَا تُخِلُّوا بِشَيْءٍ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه وَفَرَائِضِهِ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَشَعَائِرُ اللَّه عَامٌّ فِي جَمِيعِ تَكَالِيفِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ: شَعَائِرُ اللَّه دِينُ اللَّه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ شَيْءٌ خَاصٌّ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لَا تَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْكُمْ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ مِنَ الصَّيْدِ. وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَيُهْدُونَ الْهَدَايَا وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاعِرَ وَيَنْحَرُونَ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتْ عَامَّةُ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَلَا يَطُوفُونَ بِهِمَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَا تَسْتَحِلُّوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بِجَمِيعِهَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ:
الشَّعَائِرُ هِيَ الْهَدَايَا تُطْعَنُ فِي أَسَنَامِهَا وَتُقَلَّدُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْحَجِّ: 36] وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ شَعَائِرَ اللَّه ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الْهَدْيَ، وَالْمَعْطُوفُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أَيْ لَا تُحِلُّوا الشَّهْرَ الْحَرَامَ بِالْقِتَالِ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التَّوْبَةِ: 36] / فَقِيلَ:
هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، فَقَوْلُهُ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْوَاحِدِ عَلَى الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ رَجَبٌ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الْهَدْيَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْهَدْيُ مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّه مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، وَيُقَالُ أَيْضًا هَدِيَّةٌ، وَجَمْعُهَا هَدِيٌّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الْهَدِيِّ مُقَلَّدَاتٍ
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَةِ: 95] وَقَوْلُهُ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الْفَتْحِ: 25] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا الْقَلائِدَ وَالْقَلَائِدُ جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ. وَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْهَدْيُ ذَوَاتُ الْقَلَائِدِ، وَعُطِفَتْ عَلَى الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي التَّوْصِيَةِ بِهَا لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْهَدْيِ كَقَوْلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: 98] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالْقَلَائِدُ مِنْهَا خُصُوصًا الثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ لِقَلَائِدِ الْهَدْيِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْيِ عَلَى مَعْنَى: وَلَا تُحِلُّوا قَلَائِدَهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُحِلُّوهَا، كَمَا قَالَ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النُّورِ: 31] فَنَهَى عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ:
كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْمُحَارَبَةِ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَمَنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأشهر الحرم(11/280)
أُصِيبَ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ، أَوْ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ إِلَى الْبَيْتِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، فَأَمَرَ اللَّه الْمُسْلِمِينَ بِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى.
ثُمَّ قَالَ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أَيْ قَوْمًا قَاصِدِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّه: ولا آمي البيت الحرام على الإضافة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَعْرَجُ تَبْتَغُونَ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْفَضْلِ وَالرِّضْوَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ الْمُبَاحَةِ لَهُمْ فِي حَجِّهِمْ، كَقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَةِ: 198] قَالُوا: نَزَلَتْ فِي تِجَارَاتِهِمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوهُمْ فَإِنَّمَا قَصَدُوا الْبَيْتَ لِإِصْلَاحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، فَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ لِلدُّنْيَا، وَابْتِغَاءُ الرِّضْوَانِ لِلْآخِرَةِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِحَجِّهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه وَإِنْ كَانُوا لَا يَنَالُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الْقَصْدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِ اللَّه الثَّوَابُ، وَبِالرِّضْوَانِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُ الْفَضْلَ وَالرِّضْوَانَ لَكِنَّهُ يَظُنُّ أن بِفِعْلِهِ طَالِبٌ لَهُمَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ، قَالَ تَعَالَى:
وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ [طه: 97] وَقَالَ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: 49] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] قوله وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [البقرة: 28] وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا نُخِيفَ مَنْ يَقْصِدُ بَيَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَخْذَ الْهَدْيِ مِنَ الْمُهْدِينَ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَشَعَائِرُ اللَّه إِنَّمَا تَلِيقُ بِنُسُكِ الْمُسْلِمِينَ وَطَاعَاتِهِمْ لَا بِنُسُكِ الْكُفَّارِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ قَوْلُهُ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ لَا بِالْكَافِرِ. الثَّانِي:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا زَالَ الْعَهْدُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ زَالَ ذَلِكَ الْحَظْرُ وَلَزِمَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَفِيهِ مسائل:
المسألة الأولى: قريء: وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل، وقريء بِكَسْرِ الْفَاءِ وَقِيلَ هُوَ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ حِلِّ الِاصْطِيَادِ هُوَ الْإِحْرَامُ، فَإِذَا زَالَ الْإِحْرَامُ وَجَبَ أَنْ يزول المنع.(11/281)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ إلا أنه لا يفيد هاهنا إِلَّا الْإِبَاحَةَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَةِ: 10] وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا تَدْخُلَّنَ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى تُؤَدِّيَ ثَمَنَهَا، فَإِذَا أَدَّيْتَ فَادْخُلْهَا، أَيْ فَإِذَا أَدَّيْتَ فَقَدْ أُبِيحَ لَكَ دُخُولُهَا، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لَمْ يُفِدِ الْوُجُوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَعْنِي وَلَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا فَتَمْنَعُوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَدَى بِهِ. وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْعُدْوَانِ حَتَّى إِذَا تَعَدَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ تَعَدَّى ذَلِكَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، لكن الجواب أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا فِيهِ الْبِرُّ وَالتَّقْوَى، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَرَمَ يَجْرِي مَجْرَى كَسَبَ فِي تَعَدِّيهِ تَارَةً إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَتَارَةً إِلَى اثْنَيْنِ، تَقُولُ: جَرَمَ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبَهُ، وَجَرَمْتُهُ ذَنْبًا نَحْوَ كَسَبْتُهُ إِيَّاهُ، وَيُقَالُ: أَجْرَمْتُهُ ذَنْبًا عَلَى نَقْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: أَكْسَبْتُهُ ذَنْبًا، وَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّه وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَأَوَّلُ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمَعْنَى لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ لِأَنْ صَدُّوكُمُ الِاعْتِدَاءَ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّنَآنُ الْبُغْضُ، يُقَالُ: شَنَأْتُ الرَّجُلَ أشنؤه شنأ ومشنأ وَمَشْنَأَةً وَشَنَآنًا بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ شَنَآنٌ وَامْرَأَةٌ شَنَآنَةٌ مَصْرُوفَانِ، وَيُقَالُ شَنَآنُ بِغَيْرِ صَرْفٍ، وَفَعَلَانُ قَدْ جَاءَ وَصْفًا وَقَدْ جَاءَ مَصْدَرًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ بِجَزْمِ النُّونِ الْأُولَى، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهَا فِي الْمَصَادِرِ كَالضَّرَبَانِ وَالسَّيَلَانِ وَالْغَلَيَانِ وَالْغَشَيَانِ، وَأَمَّا بِالسُّكُونِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَكْثَرِ وَصْفًا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمِمَّا جَاءَ مَصْدَرًا قَوْلُهُمْ: لَوَيْتُهُ حَقَّهُ لَيَّانًا، وَشَنْآنٌ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَأَنْشَدَ لِلْأَحْوَصِ.
وَإِنْ عَابَ فِيهِ ذُو الشَّنْآنِ وَفَنَّدَا
فَقَوْلُهُ: ذُو الشَّنْآنِ عَلَى التَّخْفِيفِ كَقَوْلِهِمْ: إِنِّي ظَمْآنٌ، وَفُلَانٌ ظَمْآنٌ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنْ صَدُّوكُمْ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، يَعْنِي لِأَنْ صَدُّوكُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّ مَعْنَى صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْعُ أَهْلِ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا الصَّدُّ مُتَقَدِّمًا لَا مَحَالَةَ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الآية.(11/282)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، يَعْنِي اتَّقُوا اللَّه وَلَا تَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْ مَحَارِمِهِ إِنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، لَا يَطِيقُ أَحَدٌ عقابه.
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أول السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة: 1] ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ اسْتِثْنَاءَ أَشْيَاءَ تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَهَهُنَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الصُّوَرَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَهِيَ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا: الْأَوَّلُ: الْمَيْتَةُ:
وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا، فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ الدَّمُ فِي عُرُوقِهِ وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ وَحَصَلَ مِنْ أَكْلِهِ مَضَارٌّ عَظِيمَةٌ. والثاني: الدم: قال صاحب «الكشاف» كانوا يملؤون الْمَعْيَ مِنَ الدَّمِ وَيَشْوُونَهُ وَيُطْعِمُونَهُ الضَّيْفَ، فاللَّه تَعَالَى حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْغِذَاءُ يَصِيرُ جُزْءًا مِنْ جَوْهَرِ الْمُغْتَذِي، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُغْتَذِي أَخْلَاقٌ وَصِفَاتٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي الْغِذَاءِ، وَالْخِنْزِيرُ مَطْبُوعٌ عَلَى حِرْصٍ عَظِيمٍ وَرَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ فِي الْمُشْتَهَيَاتِ، فَحَرُمَ أَكْلُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِئَلَّا يَتَكَيَّفَ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنَّهَا حَيَوَانٌ فِي غَايَةِ السَّلَامَةِ، فَكَأَنَّهَا ذَاتٌ عَارِيَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ أَكْلِ لَحْمِهَا كَيْفِيَّةٌ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ. الرَّابِعُ: مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّه بِهِ، وَالْإِهْلَالُ/ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَهَلَّ فُلَانٌ بِالْحَجِّ إِذَا لَبَّى بِهِ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَهُوَ صُرَاخُهُ إِذَا وُلِدَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَحَرَّمَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ. وَالْخَامِسُ: الْمُنْخَنِقَةُ، يُقَالُ: خَنَقَهُ فَاخْتَنَقَ، وَالْخَنْقُ وَالِاخْتِنَاقُ انْعِصَارُ الْحَلْقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَخْنُقُونَ الشَّاةَ فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، وَمِنْهَا مَا يُخْنَقُ بِحَبْلِ الصَّائِدِ، وَمِنْهَا مَا يُدْخَلُ رَأْسُهَا بَيْنَ عُودَيْنِ فِي شَجَرَةٍ فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ اخْتَنَقَتْ فَهِيَ حَرَامٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُنْخَنِقَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ وَمَا سَالَ دَمُهَا كَانَتْ كَالْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ.
وَالسَّادِسُ: الْمَوْقُوذَةُ، وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ إِلَى أَنْ مَاتَتْ يُقَالُ: وَقَذَهَا وَأَوْقَذَهَا إِذَا ضَرَبَهَا إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ وَفِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا.
السَّابِعُ: الْمُتَرَدِّيَةُ، وَالْمُتَرَدِّي هُوَ الْوَاقِعُ فِي الرَّدَى وَهُوَ الْهَلَاكُ. قَالَ تَعَالَى: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [اللَّيْلِ: 11] أَيْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ تَرَدَّى مِنَ السَّطْحِ، فَالْمُتَرَدِّيَةُ هِيَ الَّتِي تَسْقُطُ مِنْ جَبَلٍ أو موضع(11/283)
مُشْرِفٍ فَتَمُوتُ، وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَمَا سَالَ مِنْهَا الدَّمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا إِذَا أَصَابَهُ سَهْمٌ وَهُوَ فِي الْجَبَلِ فَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مَاتَ بِالتَّرَدِّي أَوْ بِالسَّهْمِ، وَالثَّامِنُ: النَّطِيحَةُ، وَهِيَ الْمَنْطُوحَةُ إِلَى أَنْ مَاتَتْ، وَذَلِكَ مِثْلُ شَاتَيْنِ تَنَاطَحَا إِلَى أَنْ مَاتَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَهَذَا أَيْضًا دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ سَيَلَانِ الدَّمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَ الْهَاءِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ، أَعْنِي: الْمُنْخَنِقَةَ، وَالْمَوْقُوذَةَ، وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّطِيحَةَ، إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ الشَّاةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الشَّاةُ الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ، وَخُصَّتِ الشَّاةُ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَمِّ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَالْكَلَامُ يَخْرُجُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ الْكُلُّ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَثْبَتَ الْهَاءَ فِي النَّطِيحَةِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ مَنْطُوحَةً فَعَدَلَ بِهَا إِلَى النَّطِيحَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكُونُ الْهَاءُ مَحْذُوفَةً، كَقَوْلِهِمْ: كَفٌّ خَضِيبٌ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ، وَعَيْنٌ كَحِيلٌ.
قُلْنَا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إِذَا كَانَتْ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ يَتَقَدَّمُهَا، فَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْمَوْصُوفُ وَذُكِرَتِ الصِّفَةُ وَضَعْتَهَا مَوْضِعَ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ بِالْهَاءِ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْخِلِ الْهَاءَ لَمْ يُعْرَفْ أَرَجُلٌ هُوَ أَوِ امْرَأَةٌ، فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا دَخَلَتِ الْهَاءُ فِي النَّطِيحَةِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِمُؤَنَّثٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الشَّاةُ، وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّبُعُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَهُ نَابٌ وَيَعْدُو عَلَى الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ وَيَفْتَرِسُهَا، / مِثْلَ الْأَسَدِ وَمَا دُونَهُ، وَيَجُوزُ التَّخْفِيفُ فِي سَبُعٍ فَيُقَالُ: سَبْعٌ وَسَبْعَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: السَّبْعُ بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكِيلُ السَّبُعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ بَعْضَهُ أَكَلُوا مَا بَقِيَ، فَحَرَّمَهُ اللَّه تَعَالَى. وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ السَّبُعُ فَقَدْ نَفِدَ وَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْبَاقِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ الذَّكَاءِ فِي اللُّغَةِ إِتْمَامُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الذَّكَاءُ فِي الْفَهْمِ وَهُوَ تَمَامُهُ، وَمِنْهُ الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ، وَقِيلَ: جَرْيُ الْمُذَكِّيَاتِ غِلَابٌ، أَيْ جَرْيُ الْمُسِنَّاتِ الَّتِي قَدْ أَسَنَّتْ، وَتَأْوِيلُ تَمَامِ السِّنِّ النِّهَايَةُ فِي الشَّبَابِ، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ زَادَ فَلَا يُقَالُ لَهُ الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ، وَيُقَالُ ذَكَّيْتُ النَّارَ أَيْ أَتْمَمْتُ إِشْعَالَهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، فَعَلَى هَذَا إِنَّكَ إِنْ أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ بِأَنْ وَجَدْتَ لَهُ عَيْنًا تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبًا يَتَحَرَّكُ أَوْ رِجْلًا تَرْكُضُ فَاذْبَحْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنَّهُ لَوْلَا بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَلَمَّا وَجَدْتَهَا مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ بِتَمَامِهَا حَاصِلَةٌ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُخْتَصٌّ بِقَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ غَيْرِ هَذَا فَهُوَ حَلَالٌ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّحْرِيمِ لَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، يَعْنِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا مَضَى إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ فَإِنَّهُ لَكُمْ(11/284)
حَلَالٌ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْضًا. الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصُبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ جَمْعٌ فَفِي وَاحِدِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهُ نِصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نِصَابٌ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: حِمَارٌ وَحُمُرٌ. الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبُ، فَقَوْلُنَا نَصْبُّ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: سَقْفٌ وَسُقُفٌ وَرَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبَةُ.
قَالَ اللَّيْثُ: النُّصُبُ جَمْعُ النَّصْبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: أَنَّ النُّصُبَ وَاحِدٌ فَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نُصُبٌ وَأَنْصَابٌ كَقَوْلِنَا طُنُبٌ وَأَطْنَابٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ الْأَعْشَى النُّصُبَ وَاحِدًا فَقَالَ:
وَلَا النُّصُبُ الْمَنْصُوبُ لَا تُنْسِكَنَّهُ ... لِعَاقِبَةٍ واللَّه رَبَّكَ فَاعْبُدَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: النُّصُبُ هِيَ الْأَوْثَانُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الذَّبْحُ عَلَى اسْمِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النُّصُبُ لَيْسَ بِأَصْنَامٍ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ أَحْجَارٌ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَهَذِهِ النُّصُبُ أَحْجَارٌ كَانُوا يَنْصِبُونَهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا لِلْأَصْنَامِ، وَكَانُوا يُلَطِّخُونَهَا بِتِلْكَ الدِّمَاءِ وَيَضَعُونَ اللُّحُومَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّه كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الْحَجِّ: 37] .
وَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ وَما ذُبِحَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَمَا ذُبِحَ عَلَى اعْتِقَادِ تَعْظِيمِ النُّصُبِ، وَالثَّانِي: وَمَا ذُبِحَ لِلنُّصُبِ، وَ (اللَّامُ) وَ (عَلَى) يَتَعَاقَبَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: 91] أَيْ فَسَلَامٌ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَقَالَ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: 7] أَيْ فَعَلَيْهَا.
النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: ذُكِرَ هَذَا فِي جُمْلَةِ الْمَطَاعِمِ لِأَنَّهُ مِمَّا أَبْدَعَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا كَانُوا فَعَلُوهُ فِي الْمَطَاعِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الذَّبْحَ عَلَى النُّصُبِ إِنَّمَا كَانَ يَقَعُ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَكَذَا الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ كَانُوا يُوقِعُونَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ إِذَا كَانُوا هُنَاكَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ نِكَاحًا أَوْ أَمْرًا آخَرَ مِنْ مَعَاظِمِ الْأُمُورِ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا عَلَى بَعْضِهَا: أَمَرَنِي رَبِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهَانِي رَبِّي، وَتَرَكُوا بَعْضَهَا خَالِيًا عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الْعَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِوَاسِطَةِ ضَرْبِ الْقِدَاحِ. الثَّانِي: قَالَ الْمُؤَرِّجُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الِاسْتِقْسَامُ هُنَا هُوَ الْمَيْسِرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِدَاحُ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهَا زُلِّمَتْ أَيْ سُوِّيَتْ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ مُزَلَّمٌ وَامْرَأَةٌ مُزَلَّمَةٌ إِذَا كَانَ خَفِيفًا قَلِيلَ الْعَلَائِقِ، وَيُقَالُ قَدَحٌ مُزَلَّمٌ وَزَلَمٌ إِذَا ظُرِفَ وَأُجِيدَ(11/285)
قَدُّهُ وَصَنْعَتُهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا زُلِّمَ سَهْمُهُ، أَيْ سَوَّاهُ، وَيُقَالُ لِقَوَائِمِ الْبَقَرِ أَزْلَامٌ، شُبِّهَتْ بِالْقِدَاحِ لِلَطَافَتِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكُمْ فِسْقٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ فَقَطْ وَمُقْتَصِرًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَمَنْ خَالَفَ فِيهِ رَادًّا عَلَى اللَّه تَعَالَى كَفَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِمَ صَارَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ فِسْقًا؟ أَلَيْسَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْفَأْلِ فَلِمَ صَارَ فِسْقًا؟
قُلْنَا: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً [لُقْمَانَ: 34] وَقَالَ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النَّمْلِ: 65]
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ تَطَيَّرَ طِيَرَةً تَرُدُّهُ عَنْ سَفَرِهِ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ طَلَبُ الظَّنِّ بِنَاءً عَلَى الْأَمَارَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ طَلَبًا لِمَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ التَّعْبِيرِ غَيْبًا أَوْ كُفْرًا لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِلْغَيْبِ، وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِالْفَأْلِ كُفْرًا لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِلْغَيْبِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ الْكَرَامَاتِ الْمُدَّعُونَ لِلْإِلْهَامَاتِ كُفَّارًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْعِلْمِ، وَالْمُسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ ذَلِكَ ظَنًّا ضَعِيفًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ تِلْكَ الْأَزْلَامَ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى تِلْكَ الْأَزْلَامِ فَبِإِرْشَادِ الْأَصْنَامِ وَإِعَانَتِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ذَلِكَ فِسْقًا وَكُفْرًا، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى وأقرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ فِيمَا مَضَى مَا حَرَّمَهُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَمَا أَحَلَّهُ مِنْهَا خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِقَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَحْذِيرُ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ حَرَّضَهُمْ عَلَى التَّمَسُّكِ/ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ بِأَكْمَلِ مَا يَكُونُ فَقَالَ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ أَيْ فَلَا تَخَافُوا الْمُشْرِكِينَ فِي خِلَافِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، فَإِنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِالدَّوْلَةِ الْقَاهِرَةِ وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ وَصَارُوا مَقْهُورِينَ لَكُمْ ذَلِيلِينَ عِنْدَكُمْ، وَحَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ أَنْ يَصِيرُوا قَاهِرِينَ لَكُمْ مُسْتَوْلِينَ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ، وَأَنْ تُقْبِلُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا يَئِسُوا قَبْلَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ خَارِجٌ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ مَعْنَاهُ لَا حَاجَةَ بِكُمُ الْآنَ إِلَى مُدَاهَنَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لِأَنَّكُمُ الْآنَ صِرْتُمْ بِحَيْثُ لَا يَطْمَعُ أَحَدٌ مِنْ أَعْدَائِكُمْ فِي تَوْهِينِ أَمْرِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: كُنْتَ بِالْأَمْسِ شَابًّا وَالْيَوْمَ قَدْ صِرْتَ شَيْخًا، وَلَا يُرِيدُ بِالْأَمْسِ الْيَوْمَ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَلَا بِالْيَوْمِ يَوْمَكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَكَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي(11/286)
حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَئِسُوا مِنْ أَنْ تُحَلِّلُوا هَذِهِ الْخَبَائِثَ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا اللَّه مُحَرَّمَةً. وَالثَّانِي: يَئِسُوا مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ وَعَدَ بِإِعْلَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى كُلِّ الْأَدْيَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التَّوْبَةِ: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] فَحَقَّقَ تِلْكَ النُّصْرَةَ وَأَزَالَ الْخَوْفَ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَعَلَ الْكُفَّارَ مَغْلُوبِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا غَالِبِينَ، وَمَقْهُورِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّقِيَّةَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْخَوْفِ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ وَإِظْهَارِ الْعَمَلِ بِهَا وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الْخَوْفِ مِنْ جِهَةِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْخَوْفِ يُجَوِّزُ تَرْكَهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ أَكْثَرَ عُمُرِهِ كَانَ نَاقِصًا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَ الدِّينَ الْكَامِلَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مُدَّةً قَلِيلَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ لِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ/ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هُوَ إِزَالَةُ الْخَوْفِ عَنْهُمْ وَإِظْهَارُ الْقُدْرَةِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا كما يقول الملك عند ما يَسْتَوْلِي عَلَى عَدُوِّهِ وَيَقْهَرُهُ قَهْرًا كُلِّيًّا: الْيَوْمَ كَمُلَ مَلْكُنَا، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مُلْكَ ذَلِكَ الْمَلِكِ كَانَ قَبْلَ قَهْرِ الْعَدُوِّ نَاقِصًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكَالِيفِكُمْ مِنْ تَعَلُّمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكْمِلْ لَهُمْ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَائِعِ كَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ: أَنَّ الدِّينَ مَا كَانَ نَاقِصًا الْبَتَّةَ، بَلْ كَانَ أَبَدًا كَامِلًا، يَعْنِي كَانَتِ الشَّرَائِعُ النَّازِلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّه فِي كُلِّ وَقْتٍ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْمَبْعَثِ بِأَنَّ مَا هُوَ كَامِلٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي الْغَدِ وَلَا صَلَاحَ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ يَنْسَخُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَكَانَ يَزِيدُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَمَّا فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ فَأَنْزَلَ اللَّه شَرِيعَةً كَامِلَةً وَحَكَمَ بِبَقَائِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَالشَّرْعُ أَبَدًا كَانَ كَامِلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ كَمَالٌ إِلَى زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالثَّانِي كَمَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ، إِذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الْحُكْمِ لَمْ يَكُنِ الدِّينُ كَامِلًا، وَإِذَا حَصَلَ النَّصُّ فِي جَمِيعِ الْوَقَائِعِ فَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ النَّصِّ كَانَ عَبَثًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ بَاطِلًا.
أَجَابَ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِكْمَالِ الدِّينِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ بَعْضَهَا بِالنَّصِّ وَبَعْضَهَا بِأَنْ بَيَّنَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْوَقَائِعَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الَّتِي نُصَّ عَلَى(11/287)
أَحْكَامِهَا، وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْوَاعٌ يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ فِيهَا بِوَاسِطَةِ قِيَاسِهَا عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِيَاسِ وَتَعَبَّدَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانًا لِكُلِّ الْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ إِكْمَالًا للدين.
قال نفاة القياس: الطريق الْمُقْتَضِيَةُ لِإِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَائِلَ قَاطِعَةً أَوْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ، فَإِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ الْيَقِينِيَّةِ حُجَّةٌ، إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ الْمُصِيبُ فِيهِ وَاحِدًا، وَالْمُخَالِفُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ، وَيُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ كَانَ ذَلِكَ تَمْكِينًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هَلْ هُوَ دِينُ اللَّه أَمْ لَا، وَهَلْ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ اللَّه أَمْ لَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِكْمَالًا لِلدِّينِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِلْقَاءً لِلْخَلْقِ فِي وَرْطَةِ الظُّنُونِ وَالْجَهَالَاتِ، قَالَ/ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: إِذَا كَانَ تَكْلِيفُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ كَانَ ذَلِكَ إِكْمَالًا لِلدِّينِ، وَيَكُونُ كُلُّ مُكَلَّفٍ قَاطِعًا بِأَنَّهُ عَامِلٌ بِحُكْمِ اللَّه فَزَالَ السُّؤَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الرَّافِضَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَئِسُوا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فَلَوْ كَانَتْ إمامة عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى وقبل رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا وَاجِبَ الطَّاعَةِ لَكَانَ مَنْ أَرَادَ إِخْفَاءَهُ وَتَغْيِيرَهُ آيِسًا مِنْ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ النَّصِّ وَعَلَى تَغْيِيرِهِ وَإِخْفَائِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَجْرِ لِهَذَا النَّصِّ ذِكْرٌ، وَلَا ظَهَرَ مِنْهُ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، عَلِمْنَا أَنَّ ادِّعَاءَ هَذَا النَّصِّ كَذِبٌ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُ الْآثَارِ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَمَّرْ بَعْدَ نُزُولِهَا إِلَّا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، أَوِ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَهَا زِيَادَةٌ وَلَا نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ الْبَتَّةَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قُرْبِ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الصَّحَابَةِ فَرِحُوا جِدًّا وَأَظْهَرُوا السُّرُورَ الْعَظِيمَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ بَكَى فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا الزَّوَالُ،
فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ حَيْثُ وَقَفَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سِرٍّ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَإِيجَادِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَضَافَ إِكْمَالَ الدِّينِ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَلَنْ يَكُونَ إِكْمَالُ الدِّينِ مِنْهُ إِلَّا وَأَصْلُهُ أَيْضًا مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا سَوَاءٌ قُلْنَا: الدِّينُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ وَالْفِعْلِ فَالِاسْتِدْلَالُ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى إِكْمَالِ بَيَانِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ عُدُولٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَمَعْنَى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِإِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ كَأَنَّهُ(11/288)
قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِكْمَالِ لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْإِيمَانِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: الدِّينُ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ نِعْمَةٌ، وَكُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْإِسْلَامِ مِنَ اللَّه.
إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ نِعْمَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْكَلِمَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى لِسَانِ الْأُمَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ للَّه عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ذَكَرَ لَفْظَ النِّعْمَةِ مُبْهَمَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ الدِّينُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ جَعْلَهُمْ قَاهِرِينَ لِأَعْدَائِهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ جَعْلَ هَذَا الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ نَسْخٌ.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ عُرِفَ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا يَكُونُ تَكْرِيرًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ إِبْقَاءَ هَذَا الدِّينِ لَمَّا كَانَ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ نِعْمَةً لَا مَحَالَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ نِعْمَةٍ فَهِيَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَإِذَا ثَبَتَ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا هُوَ الدِّينُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَطَاعِمِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّه تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً إِلَّا أَنَّهَا تَحِلُّ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، وَمِنْ قَوْلِهِ ذلِكُمْ فِسْقٌ إِلَى هاهنا اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينِ الْكَامِلِ وَالنِّعْمَةِ التَّامَّةِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَمَعْنَى اضْطُرَّ أُصِيبَ بِالضُّرِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مَعَهُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالْمَخْمَصَةُ المجاعة. قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ الْجُوعِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَمْصِ الَّذِي هُوَ ضُمُورُ الْبَطْنِ. يُقَالُ: رَجُلٌ خَمِيصٌ وَخَمْصَانٌ وَامْرَأَةٌ خَمِيصَةٌ وَخَمْصَانَةٌ وَالْجَمْعُ خَمَائِصُ وَخَمْصَانَاتٌ، وَقَوْلُهُ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَنَفِ الَّذِي هُوَ الْمَيْلُ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [الْبَقَرَةِ: 182] أَيْ مَيْلًا، فَقَوْلُهُ غَيْرَ مُتَجانِفٍ أَيْ غَيْرَ/ مَائِلٍ وَغَيْرَ مُنْحَرِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ غَيْرَ بِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَعْنَى فَتَنَاوَلَ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ بِقَوْلِهِ اضْطُرَّ وَيَكُونُ الْمُقَدَّرُ مُتَأَخِّرًا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لا ثم فَتَنَاوَلَ فَإِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَمَعْنَى الْإِثْمِ هاهنا فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ تَلَذُّذًا، وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [الْبَقَرَةِ: 173] وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ(11/289)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
غَفُورٌ رَحِيمٌ
يَعْنِي يَغْفِرُ لَهُمْ أَكْلَ الْمُحَرَّمِ عند ما اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهِ، وَرَحِيمٌ بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَحَلَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى أَكْلِهِ.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَهَذَا أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَآكِلِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَقُولُونَ لَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا حِكَايَةً لِمَا قَالُوهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَالُوا مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ مَاذَا أُحِلَّ لَنَا، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ حِكَايَةً لِكَلَامِهِمْ بِعِبَارَتِهِمْ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْوَاقِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَاذَا إِنْ جَعَلْتَهُ اسْمًا وَاحِدًا فَهُوَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أُحِلَّ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ (مَا) وَحْدَهَا اسْمًا، وَيَكُونُ خَبَرُهَا (ذَا) وَ (أُحِلَّ) مِنْ صِلَةِ (ذَا) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: مَا الَّذِي أُحِلَّ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. فَهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِكَوْنِهَا طَيِّبَةً إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَهَا لِشُبُهَاتٍ ضَعِيفَةٍ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَطَابُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَأَكَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ/ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: 32] وَبِقَوْلِهِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّيِّبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُسْتَلَذُّ، وَالْحَلَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ يُسَمَّى أَيْضًا طَيِّبًا تَشْبِيهًا بِمَا هُوَ مُسْتَلَذٌّ، لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أن يكون المراد بالطيبات هاهنا الْمُحَلَّلَاتِ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ:
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الْمُحَلَّلَاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا رَكِيكٌ، فَوَجَبَ حَمْلُ الطَّيِّبَاتِ عَلَى الْمُسْتَلَذِّ الْمُشْتَهَى، فَصَارَ التَّقْدِيرُ:
أُحِلَّ لَكُمْ كُلُّ مَا يَسْتَلَذُّ وَيُشْتَهَى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الِاسْتِلْذَاذِ وَالِاسْتِطَابَةِ بِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَسْتَطِيبُونَ أَكْلَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، وَيَتَأَكَّدُ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
[الْبَقَرَةِ: 29] فَهَذَا يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّهُ أَدْخَلَ التَّخْصِيصَ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ فَقَالَ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: 157] وَنَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا كَبِيرًا، وَقَانُونًا مَرْجُوعًا إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، مِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَيْسَ بِمُبَاحٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَلَذٌّ مُسْتَطَابٌ، وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَمِنْهَا أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه مُبَاحٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ مُسْتَطَابٌ مُسْتَلَذٌّ، فَوَجَبَ أَنْ يحل(11/290)
لِقَوْلِهِ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتَثْنَى الْمُذَكَّاةَ ثُمَّ فَسَّرَ الذَّكَاةَ بِمَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالصَّدْرِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْخَيْلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُذَكَّاةً، فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لِعُمُومِ قوله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. [المائدة: 3] وَأَمَّا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ فَالذَّكَاةُ أَيْضًا حَاصِلَةٌ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا فَهِيَ مُذَكَّاةٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ اللَّه تَعَالَى بِاللِّسَانِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِتْيَانُ بِالذَّكَاةِ بِدُونِ الْإِتْيَانِ بِالتَّسْمِيَةِ مُمْكِنًا، فَنَحْنُ مِثْلُكُمْ فِيمَا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ، وَإِذَا حَصَلَتِ الذَّكَاةُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمِنْهَا أَنَّ لَحْمَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُبَاحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَقَدِ احْتَجَّا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّا نَعْتَمِدُ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهَا إِضْمَارًا، وَالتَّقْدِيرُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ، فحذف الصيد وهو المراد فِي الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ الْبَاقِي عَلَيْهِ، وَهُوَ/ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، وَخَبَرُهُ هُوَ قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِحُّ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَإِضْمَارٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْكَوَاسِبُ مِنَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَاحِدُهَا جَارِحَةٌ، سُمِّيَتْ جَوَارِحَ لِأَنَّهَا كَوَاسِبُ مِنْ جَرَحَ وَاجْتَرَحَ إِذَا اكْتَسَبَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
[الجاثية: 21] أي اكتسبوا، وقال وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] أي ما كسبتم. والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وَقَالُوا: إِنَّ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّيْدِ فَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ دَمٌ لَمْ يَحِلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْكِلَابِ فَلَمْ يُدْرَكْ ذَكَاتُهُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ قالوا: لأن التخصيص يذل عَلَى كَوْنِ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا بِهِ، وَزَعَمَ الْجُمْهُورُ أَنَّ قَوْلَهُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ، كَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ مِنَ الطَّيْرِ:
مِثْلَ الشَّاهِينِ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ، قَالَ اللَّيْثُ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنِ الصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالْفَهْدِ وَمَا يَصْطَادُ بِهِ مِنَ السِّبَاعِ، فَقَالَ: هَذِهِ كُلُّهَا جَوَارِحُ. وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُكَلِّبِينَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلِّبَ هُوَ مُؤَدِّبُ الْجَوَارِحِ وَمُعَلِّمُهَا أَنْ تَصْطَادَ لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْكَلْبِ لِأَنَّ التَّأْدِيبَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكِلَابِ، فَاشْتُقَّ مِنْهُ هَذَا اللَّفْظُ لِكَثْرَتِهِ فِي جِنْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ سَبْعٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى كَلْبًا، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ» .
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ فُلَانٌ: كَلِبٌ بِكَذَا إِذَا كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ. وَالرَّابِعُ: هَبْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي حِلَّ غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالرَّمْيِ وَوَضْعِ الشَّبَكَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاصْطِيَادَ بِالْجَوَارِحِ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا كَانَتِ الْجَوَارِحُ مُعَلَّمَةً، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ» ،
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: وَالْكَلْبُ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إِلَّا عِنْدَ أُمُورٍ، وَهِيَ إِذَا أُرْسِلَ(11/291)
اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أُخِذَ حُبِسَ وَلَا يَأْكُلُ، وَإِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ، وَإِذَا أَرَادَهُ لَمْ يَفِرَّ مِنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ فَهُوَ مُعَلَّمٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَحِمَهُ اللَّه فِيهِ حَدًّا مُعَيَّنًا، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ تَعَلَّمَ حُكِمَ بِهِ قَالَ لِأَنَّ الِاسْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنَ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَاتِ.
وَقَالَ/ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِتَكْرِيرِ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّه، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه: أَنَّهُ يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكَلَّابُ وَالْمُكَلِّبُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْكِلَابَ الصَّيْدَ، فَمُكَلِّبٌ صَاحِبُ التَّكْلِيبِ كَمُعَلِّمٍ صَاحِبِ التَّعْلِيمِ، وَمُؤَدِّبٍ صَاحِبِ التَّأْدِيبِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ مُكْلِبِينَ بِالتَّخْفِيفِ، وَأَفْعَلَ وَفَعَلَ يَشْتَرِكَانِ كَثِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: انْتِصَابُ مُكَلِّبِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عَلَّمْتُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ وَقَدِ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِعَلَّمْتُمْ؟
قُلْنَا: فَائِدَتُهَا أَنْ يَكُونَ مَنْ يُعَلِّمُ الْجَوَارِحَ نِحْرِيرًا فِي عِلْمِهِ مُدَرَّبًا فِيهِ مَوْصُوفًا بِالتَّكْلِيبِ وتُعَلِّمُونَهُنَّ حَالٌ ثَانِيَةٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا ثُمَّ صَادَ صَيْدًا وَجَرَحَهُ وَقَتَلَهُ وَأَدْرَكَهُ الصَّائِدُ مَيِّتًا فَهُوَ حَلَالٌ، وَجُرْحُ الْجَارِحَةِ كَالذَّبْحِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ. وَكَذَا فِي السَّهْمِ وَالرُّمْحِ، أَمَّا إِذَا صَادَهُ الْكَلْبُ فَجَثَمَ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَحِلُّ لِدُخُولِهِ تَحْتَ قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، قَالُوا: لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحِلُّ إِذَا أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعدي ابن حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّه فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ وَلَمْ يَقْتُلْ فَاذْبَحْ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ وَقَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ فَقَدْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ أَكَلَ فَلَا تَطْعَمْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»
وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: إِنَّهُ يَحِلُّ وَإِنْ أَكَلَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَازِي إِذَا أَكَلَ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ
لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلْبِ، فَإِنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُؤْكَلْ ذَلِكَ الصَّيْدُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ: يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ وَلَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلْبِ، الْفَرْقُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّبَ الْكَلْبُ عَلَى الْأَكْلِ بِالضَّرْبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدَّبَ الْبَازِي عَلَى الْأَكْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا أَمْسَكْنَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ/ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [الْأَنْعَامِ: 141] وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّيْدَ كُلَّهُ لَا يُؤْكَلُ فَإِنَّ لَحْمَهُ يُؤْكَلُ، أَمَّا عَظْمُهُ وَدَمُهُ وَرِيشُهُ فَلَا يُؤْكَلُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى كُلُوا مِمَّا تُبْقِي لَكُمُ الْجَوَارِحُ بَعْدَ(11/292)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
أَكْلِهَا مِنْهُ، قَالُوا: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ كَانَتِ الْبَقِيَّةُ حَلَالًا، قَالُوا وَإِنْ أَكَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ لَا يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِمْسَاكِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّيْدَ وَلَا يَتْرُكَهُ حَتَّى يَذْهَبَ، وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: سَمِّ اللَّه إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّه فَكُلْ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالضَّمِيرُ في قوله عَلَيْهِ عائد إلى ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أَيْ سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا أَمْسَكْنَ، يَعْنِي سَمُّوا عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ، يَعْنِي وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَى الْأَكْلِ.
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «سَمِّ اللَّه وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَإِنْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ النَّدْبَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّهِ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَامِ: 121] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ وَاحْذَرُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّه فِي تَحْلِيلِ مَا أَحَلَّهُ وَتَحْرِيمِ ما حرمه.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ أَعَادَ ذِكْرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَكَذَلِكَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْإِعَادَةِ رِعَايَةُ هَذِهِ النُّكْتَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ هاهنا وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الذَّبَائِحُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَدْ سُنَّ فِيهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ،
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، وَقَالَ: لَيْسُوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْهَا إِلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ،
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَبْزُ وَالْفَاكِهَةُ وَمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الذَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ(11/293)
الزيدية، والثالث: أن المراد جميع الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَرَجَّحُوا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّ الذَّبَائِحَ هِيَ الَّتِي تَصِيرُ طَعَامًا بِفِعْلِ الذَّابِحِ، فَحَمْلُ قَوْلِهِ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى، وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا سِوَى الذَّبَائِحِ فَهِيَ مُحَلَّلَةٌ قَبْلَ أَنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ لَهُمْ، فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهَا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَائِدَةٌ، وَثَالِثُهَا: مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ أَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أَيْ وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ طَعَامِكُمْ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّه أَنْ نُطْعِمَهُمْ مِنْ ذَبَائِحِنَا، وَأَيْضًا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّ إِبَاحَةَ الْمُنَاكَحَةِ غَيْرُ حَاصِلَةٍ فِي الْجَانِبَيْنِ، وَإِبَاحَةَ الذَّبَائِحِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الْجَانِبَيْنِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَفِي الْمُحْصَنَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْحَرَائِرُ، وَالثَّانِي:
أَنَّهَا الْعَفَائِفُ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَمَهْرُ الْأَمَةِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهَا بَلْ إِلَى سَيِّدِهَا، وَثَانِيهَا: أَنَّا بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النِّسَاءِ: 25] أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ إِنَّمَا يَحِلُّ بِشَرْطَيْنِ: عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَحُصُولُ الْخَوْفِ مِنَ الْعَنَتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَفَائِفِ بِالْحِلِّ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ/ الزَّانِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْحَرَائِرِ يَلْزَمُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ عَلَى بَعْضِ التَّقْدِيرَاتِ، وَرَابِعُهَا: أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِحْصَانِ مِنَ التَّحَصُّنِ، وَوَصْفُ التَّحَصُّنِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ أَكْثَرُ ثُبُوتًا مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ وَإِنْ كانت عفيفة إلا أنها لا تخلوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُحْصَنَاتِ بِالْحَرَائِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِغَيْرِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ التَّزَوُّجُ بِالذِّمِّيَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا لَا يَرَى ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [الْبَقَرَةِ: 221] وَيَقُولُ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِهَا: إِنَّ رَبَّهَا عِيسَى، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إِذَا آمَنَتْ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا أَمْ لَا؟ فَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَوَازَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَخَّصَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمُسْلِمَاتِ قِلَّةٌ، وَأَمَّا الْآنَ فَفِيهِنَّ الْكَثْرَةُ الْعَظِيمَةُ، فَزَالَتِ الْحَاجَةُ فَلَا جَرَمَ زَالَتِ الرُّخْصَةُ، وَالثَّالِثُ: الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَاعَدَةِ عَنِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَقَوْلِهِ لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 118] وَلِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الزَّوْجِيَّةِ رُبَّمَا قَوِيَتِ الْمَحَبَّةُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَيْلِ الزَّوْجِ إِلَى دِينِهَا، وَعِنْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ فَرُبَّمَا مَالَ الْوَلَدُ إِلَى دِينِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِلْقَاءٌ لِلنَّفْسِ فِي الضَّرَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ عَنِ التَّزَوُّجِ بِالْكَافِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِبَاحَةَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِيبَهَا كَالتَّنَاقُضِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.(11/294)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، لَمْ تَدْخُلِ الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْآيَةِ، وَإِنْ قُلْنَا:
الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْعَفَائِفُ دَخَلَتْ، وَعَلَى هَذَا الْبَحْثِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِالْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ. قَالَ: لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي حَقِّهَا نَوْعَانِ مِنَ النُّقْصَانِ: الْكُفْرُ وَالرِّقُّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ، وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَدْخُلُ فِيهِ الذِّمِّيَّاتُ وَالْحَرْبِيَّاتُ، فَيَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِكُلِّهِنَّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالذِّمِّيَّةِ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَحِلُّ لَنَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَنَا، وَقَرَأَ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التَّوْبَةِ: 29] فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ حَلَّ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَحِلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ قَدْ سُنَّ بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ مَرِيضًا فَأَمَرَ الْمَجُوسِيَّ أَنْ يَذْكُرَ اللَّه وَيَذْبَحَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وَإِنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا بَأْسَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكَثِيرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّمَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي دَانَتْ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَانَ الْكِتَابَ بَعْدَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَتَقْيِيدُ التَّحْلِيلِ بِإِيتَاءِ الْأُجُورِ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ وُجُوبِهَا وَأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا يُعْطِيَهَا صَدَاقَهَا كَانَ فِي صُورَةِ الزَّانِي، وَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ بِالْأَجْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَتَقَدَّرُ، كَمَا أَنَّ أَقَلَّ الْأَجْرِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْإِجَارَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ: الزِّنَا ضَرْبَانِ: السِّفَاحُ وَهُوَ الزِّنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَانِ، وَاتِّخَاذُ الْخِدْنِ وَهُوَ الزِّنَا فِي السِّرِّ، واللَّه تَعَالَى حَرَّمَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَبَاحَ التَّمَتُّعَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّرْغِيبُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، يَعْنِي وَمَنْ يَكْفُرْ بِشَرَائِعِ اللَّه وَبِتَكَالِيفِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَضِيلَةُ الْمُنَاكَحَةِ وَإِبَاحَةُ الذَّبَائِحِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَفِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَفَرَ باللَّه فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَصِلْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ السَّعَادَاتِ فِي الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا/ يُعْقَلُ باللَّه وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا الْكُفْرُ بِالْإِيمَانِ فَهُوَ مُحَالٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ وَمَنْ يَكْفُرْ باللَّه، إِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْإِيمَانِ، وَرَبُّ الشَّيْءِ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أَيْ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ(11/295)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
إِلَّا اللَّه، فَجَعَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إِيمَانًا، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهَا لَمَّا كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْإِيمَانُ مِنْ لَوَازِمِهَا بِحَسَبِ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشيء على لا زمه مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَالثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا! فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَيْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِمَا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ كَذَا وَكَذَا، فَسَمَّى الْقُرْآنَ إِيمَانًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْإِحْبَاطِ قَالُوا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ عِقَابُ كُفْرِهِ يُزِيلُ مَا كَانَ حَاصِلًا لَهُ مِنْ ثَوَابِ إِيمَانِهِ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَوْلَ بِالْإِحْبَاطِ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّ عَمَلَهُ الَّذِي أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ فَقَدْ هَلَكَ وَضَاعَ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ ضَائِعًا بَاطِلًا كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ بَاطِلَةً فِي أَنْفُسِهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ من قوله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ، إِذْ لَوْ تَابَ عَنِ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ [البقرة: 217] الآية.
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ السورة بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ/ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ، فَقَوْلُهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ طَلَبَ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَفُوا بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَهُنَا الْعَهْدُ نَوْعَانِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْكَ، وَعَهْدُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَّا، فَأَنْتَ أَوْلَى بِأَنْ تُقَدِّمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ. فَقَالَ تَعَالَى: نَعَمْ أَنَا أُوفِي أَوَّلًا بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْكَرَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: لَذَّاتِ الْمَطْعَمِ، وَلَذَّاتِ الْمَنْكَحِ، فَاسْتَقْصَى سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمُنَاكِحِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمَطْعُومِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إِلَى الْمَنْكُوحِ، لَا جَرَمَ قَدَّمَ بَيَانَ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَنْكُوحِ، وَعِنْدَ تَمَامِ هَذَا الْبَيَانِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ وَفَّيْتُ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِيمَا يُطْلَبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لَا جَرَمَ بَدَأَ تَعَالَى بِذِكْرِ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:(11/296)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَيْسَ نَفْسَ الْقِيَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ الْوُضُوءِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْأَعْضَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لَكَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِذَا شَمَّرْتُمْ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَرَدْتُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَشْهُورٌ مُتَعَارَفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: 34] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَ الَّذِي هُوَ الِانْتِصَابُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، قَالَ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَتَّةَ الِانْتِصَابَ، بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَهَيِّئًا لَهُ مُسْتَعِدًّا لِإِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ، فكذا هاهنا قَوْلُهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمْ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالَ بِإِقَامَتِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، الشَّرْطُ فِيهَا الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْجَزَاءُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: المقصود من الوضوء الطهارة، والطاهرة مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ»
وَقَالَ: «أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ/ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ وَارِدَةٌ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ. احْتَجَّ دَاوُدُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قِيَامًا وَاحِدًا وَصَلَاةً وَاحِدَةً، فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لِأَنَّ تَعْيِينَ تِلْكَ الْمَرَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَأْنِهِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ غَيْرُ مَقْصُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ، إِذْ لَوْ لَمْ تُحْمَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ لَزِمَ احْتِيَاجُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُجْمَلَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ مِنْ إِيمَاءِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اشْتِغَالٌ بِخِدْمَةِ الْمَعْبُودِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ كَوْنُهُ آتِيًا بِالْخِدْمَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّظَافَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ لِعُمُومِهِ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ دَاوُدُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ فِي(11/297)
الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّا نَتْرُكُ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ لِوُرُودِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ فَمَرْدُودَةٌ قَطْعًا، لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ثُبُوتَ قُرْآنٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِكَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْوُضُوءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمِنْ أَشَدِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا لَامْتَنَعَ بَقَاؤُهُ فِي حَيِّزِ الشُّذُوذِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أنه لو قال لا مرأته: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً طُلِّقَتْ، ثُمَّ لَوْ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ ثَانِيًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ السُّوقَ فَادْخُلْ عَلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ: فَلَعَلَّهُ يَلْتَزِمُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْوَارِدَةَ فِي الْقُرْآنِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ، فَإِنَّ الْقَرَائِنَ الظَّاهِرَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَبْنَى الْأَمْرِ فِيهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُ ذَلِكَ يَا عُمَرُ.
أَجَابَ دَاوُدُ بِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [سبأ: 20] بَقِيَ أَنْ يُقَالَ:
قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَنَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّ التَّجْدِيدَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزِيدُ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ فِي الطَّاعَاتِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّه تُنَاسِبُ زِيَادَةَ الطَّاعَاتِ لَا نُقْصَانَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِنَا فَيَكُونُ رَاجِحًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» .
الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِنَا لَفْظِيَّةٌ، وَدَلَالَةَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ فِعْلِيَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى مِنَ الدَّلَالَةِ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْقَوْلِيَّةَ غَنِيَّةٌ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَهَذَا مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَالْأَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَكَانَ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: 43] أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمُتَغَوِّطِ وَالْمُجَامِعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ فِعْلَ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهُورِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ/ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْوُضُوءِ، فَالْآتِي بِالصَّلَاةِ بِدُونِ(11/298)
الْوُضُوءِ تَارِكٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلَا مَعْنَى لِلْبَقَاءِ فِي عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ إِلَّا ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: النِّيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه:
لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا فَالْوُضُوءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوُضُوءَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا أَمْرٌ، وإنما قلنا: إن كل مأمور به أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الْبَيِّنَةِ: 5] وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَعْبُدُوا ظَاهِرٌ لِلتَّعْلِيلِ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَاءِ لِمَا عُرِفَ مِنْ جَوَازِ إِقَامَةِ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَالْإِخْلَاصُ عِبَارَةٌ عَنِ النِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَتَى كَانَتِ النِّيَّةُ الْخَالِصَةُ مُعْتَبَرَةً كَانَ أَصْلُ النِّيَّةِ مُعْتَبَرًا. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ زِيَادَةِ الْإِتْقَانِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وُضُوءٍ مَأْمُورٌ بِهِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ وُضُوءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ قَوْلَنَا: كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنَوِيًّا مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، لَكِنَّا إِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِعُمُومِ النَّصِّ، وَالْعَامُّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يُوجِبِ النِّيَّةَ فِيهَا، فَإِيجَابُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ.
وَجَوَابُنَا: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبْنَا النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه: لَيْسَ كَذَلِكَ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَإِذَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ فِي هَذَا الْعُضْوِ وَجَبَ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَاءُ التَّعْقِيبِ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَجَرَى الْكَلَامُ مَجْرَى أَنْ يُقَالَ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَأْتُوا بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
قُلْنَا: فَاءُ التَّعْقِيبِ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْوَجْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ مُلْتَصِقَةٌ بِذِكْرِ الْوَجْهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْفَاءَ بِوَاسِطَةِ دُخُولِهَا عَلَى الْوَجْهِ دَخَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَعَلَى هَذَا دُخُولُ الْفَاءِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ أَصْلٌ، وَدُخُولُهَا عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تَبَعٌ لِدُخُولِهَا عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِيجَابِ تَقْدِيمِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَبَيْنَ إِيجَابِ(11/299)
مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْفَاءِ فِي الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ، وَأَنْتُمْ أَلْغَيْتُمُوهَا فِي الْأَصْلِ وَاعْتَبَرْتُمُوهَا فِي التَّبَعِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: وَقَعَتِ الْبَدَاءَةُ فِي الذِّكْرِ بِالْوَجْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْبَدَاءَةُ بِهِ فِي الْعَمَلِ لِقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هُودٍ: 112]
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّه بِهِ»
وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ وَرَدَ فِي قِصَّةِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَكِنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْحِسِّ، وَلَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحِسِّ أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الرَّأْسِ نَازِلًا إِلَى الْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْقَدَمِ صَاعِدًا إِلَى الرَّأْسِ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَيُفْرِدَ الْمَمْسُوحَةَ عَنْهَا، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَدْرَجَ الْمَمْسُوحَ فِي أَثْنَاءِ الْمَغْسُولَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إِهْمَالَ التَّرْتِيبِ فِي الْكَلَامِ مُسْتَقْبَحٌ، فَوَجَبَ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا صَارَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ إِيجَابَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ، بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَثَ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ وَالْغَسْلَ يَجِبُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ،
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»
وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ مُحَالٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْوُضُوءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ضِدُّ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ/ الْغَسْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْبَتَّةَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ نَظَافَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْكَدِرَ الْعَفِنَ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ، وَمَاءَ الْوَرْدِ لَا يُفِيدُهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ مُعْتَبَرًا إِمَّا لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ أَوْ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْجَبْنَا رِعَايَةَ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي أركان الصلاة، بل هاهنا أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِي كِتَابِهِ مُرَتَّبَةً وَذَكَرَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرْتَبَةً فَلَمَّا وَجَبَ التَّرْتِيبُ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ: الْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَانَتِ الْآيَةُ خَالِيَةً عَنْ إِيجَابِ التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ نَسْخٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَجَوَابُنَا: أَنَّا بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ غَيْرِ التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ شَرْطٌ لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيجَابَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَالَاةِ وَإِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُضُوءَ بِدُونِ الْمُوَالَاةِ(11/300)
يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، تُرِكَ العمل به عند ما لَمْ يَخْرُجِ الْخَارِجُ النَّجِسُ مِنَ الْبَدَنِ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ خُرُوجِ الْخَارِجِ النَّجِسِ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَوَّلَ عَلَى مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ أَثَرِ مَحَاجِمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: لَا وُضُوءَ فِي الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ وَسَلَّمَ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا وُضُوءَ أَيْضًا فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، لَنَا التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّكُوعِ/ وَالسُّجُودِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: لَا تَنْقُضُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَمْسُ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُهُ. لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، قَالَ: وَهَذَا الْعُمُومُ مُتَأَكِّدٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وَحُجَّةُ الْخَصْمِ خَبَرُ وَاحِدٍ، أَوْ قِيَاسٌ، فَلَا يَصِيرُ مُعَارِضًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَسُّ الْفَرْجِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَنْقُضُهُ، لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَتَمَسَّكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَهَذَا الْعُمُومُ مُتَأَكِّدٌ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»
وَالْخَبَرُ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ الْخَصْمُ عَلَى خِلَافِ عُمُومِ الْآيَةِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مَعَنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ وَجْهِهِ نَجَاسَةٌ فَغَسَلَهَا وَنَوَى الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ بِذَلِكَ الغسل هل يصح وضوؤه؟ مَا رَأَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةً فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهُ يَكْفِي لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ فِي قَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه، كذا هاهنا. وَأَيْضًا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»
وَهَذَا الْإِنْسَانُ نَوَى فَيَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْمَنْوِيُّ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عشر: لَوْ وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى سَالَ عَلَيْهِ الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أَمْ لَا؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ، وَالْغَسْلُ عَمَلٌ وَهُوَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ، وَيُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ لِأَنَّ الْغَسْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْلِ الْمُفْضِي إِلَى الِانْغِسَالِ، وَالْوُقُوفُ تَحْتَ الْمِيزَابِ يُفْضِي إِلَى الِانْغِسَالِ فَكَانَ ذَلِكَ الْوُقُوفُ غَسْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا غَسَلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَشَّرَتِ الْجِلْدَةُ عَنْهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ظَهَرَ تَحْتَ الْجَلْدَةِ غَيْرُ مَغْسُولٍ، إِنَّمَا الْمَغْسُولُ هُوَ تِلْكَ الْجَلْدَةُ وَقَدْ تَقَلَّصَتْ وَسَقَطَتْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، فَلَوْ رَطَّبَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَلَكِنْ مَا سَالَ الْمَاءُ عَلَيْهَا لَمْ يَكْفِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ احْتِمَالٌ أَنْ يَكْفِيَ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ الْغَسْلُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ إِمْرَارِ الْمَاءِ، وَفِي الْجَنَابَةِ الْمَأْمُورُ بِهِ الطُّهْرُ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ التَّرْطِيبِ.(11/301)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَخَذَ الثَّلْجَ وَأَمَرَّهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنْ كَانَ الْهَوَاءُ حَارًّا يُذِيبُ الثَّلْجَ/ وَيُسِيلُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِالْغَسْلِ، وَهَذَا لَا يسمى غسلا، فوجب أن لا يجزئ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: التَّثْلِيثُ فِي أَعْمَالِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، إِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ فَقَالَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَمَاهِيَّةُ الْغَسْلِ تَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ حُصُولَ الطِّهَارَةِ فَقَالَ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ مرة مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّه الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: السِّوَاكُ سُنَّةٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: وَاجِبٌ وَلَكِنْ تَرْكُهُ لَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ. لَنَا أَنَّ السِّوَاكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَإِذَا حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ حَصَلَ جَوَازُ الصَّلَاةِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ» .
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: وَاجِبَةٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا بَطَلَتِ الطَّهَارَةُ. لَنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ حَكَمَ بِحُصُولِ الطَّهَارَةِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ» .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: تَقْدِيمُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوُضُوءِ وَاجِبٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي السِّوَاكِ وَفِي التَّسْمِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: حَدُّ الْوَجْهِ مِنْ مَبْدَأِ سَطْحِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ طُولًا، وَمِنَ الْأُذُنِ إِلَى الْأُذُنِ عَرْضًا، وَلَفْظُ الْوَجْهِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ فَيَجِبُ غَسْلُ كُلِّ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى دَاخِلِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ لَا يَجِبُ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ كُلِّ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَالْعَيْنُ جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ. حُجَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إِدْخَالِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ حَرَجًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ لَا يَجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّه وَاجِبَانِ فِيهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَاجِبٌ فِي الْغُسْلِ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ. لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُوَاجِهًا وَدَاخِلَ الْأَنْفِ وَالْفَمُ غَيْرُ مُوَاجِهٍ فَلَا يَكُونُ مِنَ الْوَجْهِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِقَوْلِهِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَالطَّهَارَةُ تُفِيدُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجِبُ. لَنَا أَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْآيَةِ، وَلِأَنَّا(11/302)
أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَحَيْلُولَةُ الشَّعْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْهِ لَا تَسْقُطُ كَالْجَبْهَةِ لَمَّا وَجَبَ غَسْلُهَا قَبْلَ نَبَاتِ شَعْرِ الْحَاجِبِ وَجَبَ أَيْضًا بَعْدَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ الْخَفِيفَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يُوجِبُ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ اسْمٌ لِلْجِلْدَةِ الْمُمْتَدَّةِ مِنَ الْجَبْهَةِ إِلَى الذَّقَنِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ كَثَافَةِ اللِّحْيَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وَعِنْدَ خِفَّةِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْحَرَجُ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ وَعَلَى الْخَارِجِ مِنْهَا إِلَى الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا؟ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ لَا يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَنَابِتِ الشُّعُورِ وَهِيَ الْجِلْدُ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا هَذَا التَّكْلِيفَ لِأَنَّا أَقَمْنَا ظَاهِرَ اللِّحْيَةِ مَقَامَ جِلْدَةِ الْوَجْهِ فِي كَوْنِهِ وَجْهًا، وَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ اللِّحْيَةِ يُسَمَّى وَجْهًا وَالْوَجْهُ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالتَّمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لَزِمَ بِحُكْمِ هَذَا الدَّلِيلِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى ظَاهِرِ جَمِيعِ اللِّحْيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جِلْدَةِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ اللِّحْيَةُ كَثِيفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجِلْدَةِ الْمُمْتَدَّةِ مِنْ مَبْدَأِ الْجَبْهَةِ إِلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِحْيَةُ الْمَرْأَةِ نَادِرَةٌ فَتَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الْعَنْفَقَةُ، وَالْحَاجِبَانِ وَالشَّارِبَانِ، وَالْعِذَارَانِ، وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ كُلِّ جِلْدِ الْوَجْهِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهَذِهِ الشُّعُورُ خَفِيفَةٌ فَلَا حَرَجَ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى الْجِلْدَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا أَقْبَلَ مِنَ الْأُذُنِ مَعْدُودٌ مِنَ الْوَجْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْوَجْهِ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُ فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الرَّأْسِ فَيُمْسَحُ، وَعِنْدَنَا الْأُذُنُ لَيْسَتِ الْبَتَّةَ مِنَ الْوَجْهِ إِذِ الْوَجْهُ مَا بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَالْأُذُنُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّلَاثُونَ: قَالَ الْجُمْهُورُ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَاجِبٌ مَعَهُمَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّه:
لَا يَجِبُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَاصِلٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حُجَّةُ زُفَرَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَمَا يُجْعَلُ غَايَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَةِ: 187] فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَدَّ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَحْدُودِ بمقطع محسوس، وهاهنا يَكُونُ الْحَدُّ خَارِجًا عَنِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فَإِنَّ النَّهَارَ مُنْفَصِلٌ عَنِ اللَّيْلِ انْفِصَالًا مَحْسُوسًا لِأَنَّ انْفِصَالَ النُّورِ عَنِ الظُّلْمَةِ مَحْسُوسٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ إِلَى ذَلِكَ الطَّرَفِ، فَإِنَّ طَرَفَ الثَّوْبِ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ عَنِ الثَّوْبِ بِمَقْطَعٍ مَحْسُوسٍ.(11/303)
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ امْتِيَازَ الْمِرْفَقِ عَنِ السَّاعِدِ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مُعَيَّنٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ إِيجَابُ الْغَسْلِ إِلَى جُزْءٍ أَوْلَى مِنْ إِيجَابِهِ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِإِيجَابِ غَسْلِ كُلِّ الْمِرْفَقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، لَكِنَّ الْمِرْفَقَ اسْمٌ لِمَا جَاوَزَ طَرَفَ الْعَظْمِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُرْتَفَقُ بِهِ أَيْ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مَا وَرَاءَ طَرَفِ الْعَظْمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: الرَّجُلُ إِنْ كَانَ أَقْطَعَ، فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ مِمَّا دُونَ الْمِرْفَقِ وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمِرْفَقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهُ بِالْقَطْعِ وَجَبَ غَسْلُ الْبَاقِي بِحُكْمِ الْآيَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَقْطَعَ مِمَّا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ لِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا التَّكْلِيفِ لَمْ يَبْقَ أَصْلًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَقْطَعَ مِنَ الْمِرْفَقِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَجِبُ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِطَرَفِ الْعَظْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَسْلَ الْمِرْفَقِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا وَالْمِرْفَقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ، فَإِذَا وَجَبَ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِمُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ وَجَبَ إِمْسَاسُ الْمَاءِ لِطَرَفِ الْعَظْمِ الثَّانِي لَا مَحَالَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ: تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: / هُوَ وَاجِبٌ.
لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ: السُّنَّةُ أَنْ يُصَبَّ الْمَاءُ عَلَى الْكَفِّ بِحَيْثُ يَسِيلُ الْمَاءُ مِنَ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، فَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى الْمِرْفَقِ حَتَّى سَالَ الْمَاءُ إِلَى الْكَفِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فَجَعَلَ الْمَرَافِقَ غَايَةَ الْغَسْلِ، فَجَعَلَهُ مَبْدَأَ الْغَسْلِ خِلَافَ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِصِحَّةِ الْوُضُوءِ إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ تَرْكًا لِلسُّنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَوْ نَبَتَ مِنَ الْمِرْفَقِ سَاعِدَانِ وَكَفَّانِ وَجَبَ غَسْلُ الْكُلِّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ عَلَى الْكَفِّ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَى الْمَرافِقِ يَقْتَضِي تَحْدِيدَ الْأَمْرِ لَا تَحْدِيدَ الْمَأْمُورِ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أَمْرٌ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَإِيجَابُ الْغَسْلِ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْحَدِّ، فَبَقِيَ الْوَاجِبُ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ فَقَطْ، أَمَّا نَفْسُ الْغَسْلِ فَغَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذَا الْحَدِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ تَطْوِيلَ الْغُرَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَقَلُّ شَيْءٍ يُسَمَّى مَسْحًا لِلرَّأْسِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ مَسْحُ الْكُلِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَسَحْتُ الْمِنْدِيلَ، فَهَذَا لَا يُصَدَّقُ إِلَّا عِنْدَ مَسْحِهِ بِالْكُلِّيَّةِ أَمَّا لَوْ قَالَ: مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ فَهَذَا يَكْفِي فِي صِدْقِهِ مَسْحُ الْيَدَيْنِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ.
إِذَا ثبت هذا فنقول: قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَسْحُ الْيَدِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْآيَةِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا تَقْدِيرَهُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ إِلَّا بدليل مغاير(11/304)
لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَيَلْزَمُ صَيْرُورَةُ الْآيَةِ مُجْمَلَةً وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ إِيقَاعُ الْمَسْحِ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيِّنَةً مُفِيدَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَحْمَلٍ تَبْقَى الْآيَةُ مَعَهُ مُفِيدَةً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَحْمَلٍ تَبْقَى الْآيَةُ مَعَهُ مُجْمَلَةً، فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى. وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ مِنَ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: لَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ:
يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ، وَمَسْحُ الْعِمَامَةِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرَّأْسِ/ وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ.
جَوَابُنَا: لَعَلَّهُ مَسَحَ قَدْرَ الْفَرْضِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْبَقِيَّةَ عَلَى الْعِمَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وَفِي غَسْلِهِمَا،
فَنَقَلَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الْمَسْحُ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: فَرْضُهُمَا الْغَسْلُ، وَقَالَ دَاوُدُ الْأَصْفَهَانِيُّ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ النَّاصِرِ لِلْحَقِّ مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْمَسْحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ فَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِالْجَرِّ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ بِالنَّصْبِ، فَنَقُولُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَهِيَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ معطوفة على الرؤوس، فَكَمَا وَجَبَ الْمَسْحُ فِي الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْجُلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا كُسِرَ عَلَى الْجِوَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، وَقَوْلِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلٍ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَسْرَ عَلَى الْجِوَارِ مَعْدُودٌ في اللحن الذي قد يُتَحَمَّلُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ، وَكَلَامُ اللَّه يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكَسْرَ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ حَيْثُ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنَ الِالْتِبَاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْخَرِبَ لَا يَكُونُ نَعْتًا لِلضَّبِّ بَلْ لِلْجُحْرِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْنُ مِنَ الِالْتِبَاسِ غَيْرُ حَاصِلٍ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَسْرَ بِالْجِوَارِ إِنَّمَا يَكُونُ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَمَّا مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ فَلَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهَا توجب المسح، وذلك لأن قوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فرؤوسكم في النَّصْبِ وَلَكِنَّهَا مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ، فَإِذَا عَطَفْتَ الْأَرْجُلَ على الرؤوس جَازَ فِي الْأَرْجُلِ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الرؤوس، وَالْجَرُّ عَطْفًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ لِلنُّحَاةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ هُوَ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا لَكِنِ الْعَامِلَانِ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ كَانَ إِعْمَالُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ وَأَرْجُلَكُمْ هُوَ قَوْلَهُ وَامْسَحُوا فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ اللَّامِ تُوجِبُ الْمَسْحَ أَيْضًا، فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ(11/305)
بِالْأَخْبَارِ لِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مِنْ بَابِ الْآحَادِ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ/ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ وَرَدَتْ بِإِيجَابِ الْغَسْلِ، وَالْغَسْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَسْحِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَكَانَ الْغَسْلُ أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ يَقُومُ مَقَامَ مَسْحِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ مَحْدُودٌ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالتَّحْدِيدُ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْغَسْلِ لَا فِي الْمَسْحِ، وَالْقَوْمُ أَجَابُوا عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَعْبَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَ مَفْصِلِ الْقَدَمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ الْكَعْبَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاقِ، إِلَّا أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ ظُهُورَ الْقَدَمَيْنِ إِلَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى هَذَا السُّؤَالُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ مِنْ جَانِبَيِ السَّاقِ، وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ وَكُلُّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ: إِنَّ الْكَعْبَ عِبَارَةٌ عَنْ عَظْمٍ مُسْتَدِيرٍ مِثْلَ كَعْبِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عَظْمِ السَّاقِ حَيْثُ يَكُونُ مَفْصِلُ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّه.
وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَخْتَارُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ: الطَّرَفَانِ النَّاتِئَانِ يُسَمَّيَانِ الْمَنْجِمَيْنِ. هَكَذَا رَوَاهُ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ.
حُجَّةُ الْجُمْهُورِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَعْبُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامِيَّةُ لَكَانَ الْحَاصِلُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبًا وَاحِدًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكِعَابِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَاصِلُ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا وَاحِدًا لَا جَرَمَ قَالَ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَظْمَ الْمُسْتَدِيرَ الْمَوْضُوعَ فِي الْمَفْصِلِ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمُشَرِّحُونَ، وَالْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي طَرَفَيِ السَّاقِ مَحْسُوسَانِ مَعْلُومَانِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَمَنَاطُ التَّكَالِيفِ الْعَامَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا ظَاهِرًا، لَا أَمْرًا خَفِيًّا. الثَّالِثُ:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ألصقوا الكعب بِالْكِعَابِ»
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَعْبَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّرَفِ وَالِارْتِفَاعِ، وَمِنْهُ جَارِيَةٌ كَاعِبٌ إِذَا نَتَأَ ثَدْيَاهَا، وَمِنْهُ الْكَعْبُ لِكُلِّ مَا لَهُ ارْتِفَاعٌ.
حُجَّةُ الْإِمَامِيَّةِ: أَنَّ اسْمَ الْكَعْبِ وَاقِعٌ عَلَى الْعَظْمِ الْمَخْصُوصِ الْمَوْجُودِ فِي أَرْجُلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا الْمَفْصِلُ يُسَمَّى كَعْبًا، وَمِنْهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ لِمَفَاصِلِهِ، وَفِي وَسَطِ الْقَدَمِ مَفْصِلٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَعْبُ هُوَ هُوَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنَاطَ التَّكَالِيفِ الظَّاهِرَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَعْبُ هُوَ هُوَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأَرْبَعُونَ: أَثْبَتَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَطْبَقَتِ الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ عَلَى إِنْكَارِهِ، واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَقْتَضِي إِمَّا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَسْحَهُمَا، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَيْسَ مَسْحًا لِلرِّجْلَيْنِ وَلَا غَسْلًا لَهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بِحُكْمِ نَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِنَّمَا يُعَوِّلُونَ عَلَى الْخَبَرِ، لَكِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى هَذَا الْخَبَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَا مَنْسُوخَ فِيهَا الْبَتَّةَ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا(11/306)
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
[المائدة: 2] فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِأَنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مَنْسُوخٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ بِالْعَكْسِ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَرْجِيحَ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْآيَةِ أَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّه فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ»
وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قِصَّةَ مُعَاذٍ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي بَيَانِ ضَعْفِ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
لَأَنْ تُقْطَعَ قَدَمَايَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَرَفَ فِيهِ ضَعْفًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَا أَبَاحَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُقِيمِ، وَأَبَاحَهُ لِلْمُسَافِرِ مَهْمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فِيهِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوهُ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَسْحِ بَعْدَ الْحَدَثِ، قَالُوا: فَهَذَا الِاخْتِلَافُ الشَّدِيدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَا بَلَغَ مَبْلَغَ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَمَّا تَعَارَضَتْ تَسَاقَطَتْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَعَرَفَهُ الْكُلُّ، وَلَبَلَغَ/ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ ضَعْفُهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: ظَهَرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الْقَوْلُ بِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْبَاقِينَ إِنْكَارٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَهَذَا أَقْوَى مَا يُقَالُ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ،
وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فَرُوِيَ أَنَّ عِكْرِمَةَ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقَالَ:
كَذَبَ عَلَيَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى وَافَقَهُمْ، وَأَمَّا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا
فَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَقَالَتِ: اذْهَبْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْأَلْهُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ امْسَحْ،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ تَرَكَتْ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَجُلٌ مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ هَذَانِ الْفَرْضَانِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ غَسْلُ الْوَجْهِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَنْ يُوَضِّئُهُ أَوْ يُيَمِّمُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ذلك أيضا، لأن قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا فَاتَتِ الْقُدْرَةُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَسَائِلِ بِآيَةِ الْوُضُوءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ فَتَطَهَّرُوا، إِلَّا أَنَّ التَّاءَ تُدْغَمُ فِي الطَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ سَكَنَ أَوَّلُ الْكَلِمَةِ فَزِيدَ فِيهَا أَلِفُ الْوَصْلِ لِيُبْتَدَأَ بِهَا. فَقِيلَ: اطهروا.(11/307)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ذَكَرَ بَعْدَهَا كَيْفِيَّةَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِحُصُولِ الْجَنَابَةِ سَبَبَانِ: الْأَوَّلُ: نُزُولُ الْمَنِيِّ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ»
وَالثَّانِي: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْمَاءِ. لَنَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْهُ جِلْدَةُ الْقُلْفَةِ، وَأَمَّا خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ شَفْرَيْهَا مُحِيطَانِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: ثُقْبَةٌ فِي أَسْفَلِ الْفَرْجِ وَهُوَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ، وَثُقْبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ هَذِهِ مِثْلُ إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَهِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ لَا غَيْرَ، وَالثَّالِثُ، فَوْقَ ثُقْبَةِ الْبَوْلِ مَوْضِعُ/ خِتَانِهَا، وَهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْلُ عُرْفِ الدِّيكِ، وَقَطْعُ هَذِهِ الْجِلْدَةِ هُوَ خِتَانُهَا، فَإِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ حَاذَى خِتَانَهَا خِتَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَاطَّهَّرُوا أمر بالطهارة عَلَى الْإِطْلَاقِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا بِعُضْوٍ مُعَيَّنٍ دُونَ عُضْوٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ فِي كُلِّ الْبَدَنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ الطهارة الصغرى لَمَّا كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْأَعْضَاءَ عَلَى التَّعْيِينِ، فَهَهُنَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرٌ بِطَهَارَةِ كُلِّ الْبَدَنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّطْهِيرَ هُوَ الِاغْتِسَالُ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النِّسَاءِ: 43] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الدَّلْكُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: وَاجِبٌ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ الْبَدَنِ، وَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلْكُ بِدَلِيلِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ خَفِيفَاتٍ مِنَ الْمَاءِ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ»
أَثْبَتَ حُصُولَ الطِّهَارَةِ بِدُونِ الدَّلْكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلْكِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ. لَنَا قَوْلُهُ فَاطَّهَّرُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ، وَإِلَّا لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَطْهِيرِ الطَّاهِرِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الْوَاقِعَةِ: 79] .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الْغُسْلِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ: يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ، وَالتَّطْهِيرُ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِسَالِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُضُوءِ بِدَلِيلِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ غَيْرُ وَاجِبَيْنِ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: هُمَا وَاجِبَانِ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ» .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاطَّهَّرُوا وَهَذَا أَمْرٌ بِأَنْ يُطَهِّرُوا أنفسهم، وتطهير(11/308)
النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّفْسِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْأَجْزَاءِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ تَطْهِيرُهَا، وَدَاخِلُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُمَا، فَوَجَبَ بَقَاؤُهُمَا تَحْتَ النَّصِّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُلُّوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً»
فَقَوْلُهُ «بُلُّوا الشَّعَرَ»
يَدْخُلُ فِيهِ الْأَنْفُ لِأَنَّ فِي دَاخِلِهِ شَعَرًا، وَقَوْلُهُ «وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» يَدْخُلُ فِيهِ جلدة داخل الفم.
المسألة السابعة: شَعَرُ الرَّأْسِ إِنْ كَانَ مَفْتُولًا لَا مَشْدُودًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جِلْدَةِ الرَّأْسِ وَجَبَ نَقْضُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ لَمْ يَجِبْ وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَجِبُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ شَدُّ بَعْضِ الشُّعُورِ بِالْبَعْضِ مَانِعًا مِنْهُ وَجَبَ إِزَالَةُ ذَلِكَ الشَّدِّ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْمَانِعُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْهُ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهُ، لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا تَرْتِيبَ فِي الْغُسْلِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَاطَّهَّرُوا أَمْرٌ بِالتَّطْهِيرِ الْمُطْلَقِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى كُلِّ الْبَدَنِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّطْهِيرُ وَجَبَ أَنْ يكون كافيا في الخروج عن العهدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاءَ: 43] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ شَرَطَ فِيهِ عَدَمَ الْمَاءِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، فَلَا مَعْنَى لِضَمِّهِ إِلَى الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً إِلَى الْمُسَافِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَرَضُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ الضَّرَرَ وَالتَّلَفَ، فَهَهُنَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالِاتِّفَاقِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَخَافَ الضَّرَرَ وَلَا التَّلَفَ، فَهَهُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ يَجُوزُ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَرَضِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ فِي الْعِلَّةِ وَبُطْءِ الْمَرَضِ، فَهَهُنَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّه، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الرَّابِعُ: أَنْ يَخَافَ بَقَاءَ شَيْنٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أعضائه، قال في «الجديد» : لا يتيمم. وقال فِي «الْقَدِيمِ» يَتَيَمَّمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ كَانَ الْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَاصِلًا فِي بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ يَغْسِلُ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ/ أَكْثَرُ الْبَدَنِ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ دُونَ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ جَرِيحًا يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ أَحَدَ أَسْبَابِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَالْمَرَضُ إِذَا كَانَ حَالًّا فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَهُوَ مَرِيضٌ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ لَصُوقًا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَلَا يَخَافُ مِنْ نَزْعٍ ذَلِكَ اللَّصُوقِ التَّلَفَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللَّصُوقِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ حَتَّى يَصِلَ التُّرَابُ إِلَيْهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ:(11/309)
لَا يَجِبُ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رِعَايَةُ الِاحْتِيَاطِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى التَّخْفِيفِ وَإِزَالَةِ الْحَرَجِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] فَإِيجَابُ نَزْعِ اللَّصُوقِ حَرَجٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى أَوْ عَلى سَفَرٍ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلُ أَنَّ السَّفَرَ هَلْ هُوَ طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ السَّفَرِ مُطْلَقًا وَجَبَ أَنْ نَقُولَ: الْمَرَضُ الْخَفِيفُ وَالشَّدِيدُ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ لِكَوْنِ لَفْظِ الْمَرَضِ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ الْقَصِيرَ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ قَوْمِهِ فَبَلَغَ مَوْضِعًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَطَلَبَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ فَلَمْ يَجِدْ فَجَعَلَ يَتَيَمَّمُ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَتَتَيَمَّمُ وَهَا هِيَ تَنْظُرُ إِلَيْكَ جُدْرَانُ المدينة! فقال: أو أعيش حَتَّى أَبْلُغَهَا، وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ بَيْضَاءُ وَمَا أَعَادَ الصَّلَاةَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُسَافِرُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَيَخَافُ الْعَطَشَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ سَقَطَ عَنْهُ إِذَا أَضَرَّ بِمَالِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، فَإِذَا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَكَانَ حَيَوَانٌ آخَرُ عَطْشَانًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ وَاجِبُ الصَّرْفِ إِلَى ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ حَقَّ الْحَيَوَانِ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ عِنْدَ إِشْرَافِ صَبِيٍّ أَوْ أَعْمَى عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ كَالْمَعْدُومِ، فَدَخَلَ حِينَئِذٍ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ وَلَكِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مَاءٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إِلَّا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ جَازَ التَّيَمُّمُ لَهُ: لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] رَفَعَ عَنْهُ تَحَمُّلَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَالْفَاقِدِ لِلْمَاءِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَكَذَا الْقَوْلُ إِذَا كَانَ يُبَاعُ/ الْمَاءُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَكِنَّهُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ الثَّمَنَ، أَوْ كَانَ مَعَهُ ذَلِكَ الثَّمَنُ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَهُنَا يَجِبُ شِرَاءُ الْمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا وُهِبَ مِنَّةً ذَلِكَ الْمَاءَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ الْمَاءِ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي قَبُولِ الْهِبَةِ شَاقَّةٌ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَرَجِ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلِمَ لَمْ يَجِدُوا خَوْفَ زِيَادَةِ الْأَلَمِ فِي الْمَرَضِ سَبَبًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إِذَا أُعِيرَ مِنَّهً الدَّلْوَ وَالرِّشَاءَ، فَهَهُنَا الْأَكْثَرُونَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِي هَذِهِ الْإِعَارَةِ قَلِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ وِجْدَانِ الْمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَلْحَقُوا بِهِ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مُعْتَادًا أَوْ نَادِرًا لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ.(11/310)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ إِمَّا بِالْمَاءِ وَإِمَّا بِالْأَحْجَارِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: غَيْرُ وَاجِبٍ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا أَوْجَبَ عِنْدَ الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ الْوُضُوءَ أَوِ التَّيَمُّمَ وَلَمْ يُوجِبْ غَسْلَ مَوْضِعِ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَمْسُ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَلَا يَنْقُضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِ وُضُوءِ اللَّامِسِ، أَمَّا انْتِقَاضُ وُضُوءِ الْمَلْمُوسِ فَغَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْخَبَرِ، أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَفِيهِ مَسَائِلُ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُطَهِّرَ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ كَيْفَ هُوَ؟
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: الوضوء بالماء المسخن جاز وَلَا يُكْرَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكْرَهُ. لَنَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ وَقَدْ أَتَى بِهِ/ فَيَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بفقدان الماء، وهاهنا لَمْ يَحْصُلْ فِقْدَانُ الْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمَاءُ إِذَا قَصَدَ تَشْمِيسَهُ فِي الْإِنَاءِ كُرِهَ الْوُضُوءُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّه: لَا يُكْرَهُ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا مَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلو من إِلَّا نَفْسَهُ»
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ أَمَرَ بِالْغَسْلِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَهَذَا غَسْلٌ فَيَكُونُ كَافِيًا، الثَّانِي أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِمَا فَضَلَ عَنْ وُضُوءِ الْمُشْرِكِ، وَكَذَا لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَا يَتَيَمَّمُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ، وَمَنْ وَجَدَ مَاءَ الْبَحْرِ فَقَدْ وَجَدَ الْمَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا أَوْجَبَ الشَّارِعُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمَ، وَعِنْدَ الْخَصْمِ يَجُوزُ لَهُ التَّرْكُ لِلتَّيَمُّمِ بَلْ يَجِبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، فإن(11/311)
تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ الْجِنِّ قُلْنَا: قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَاءً نُبِذَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٌ لِإِزَالَةِ الْمُلُوحَةِ، وَأَيْضًا فَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَجَعْلُ هَذَا نَاسِخًا لِذَلِكَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْأَصَمُّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِجَمِيعِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجُوزُ. لَنَا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْجَبَ اللَّه التَّيَمُّمَ، وَتَجْوِيزُ الْوُضُوءِ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ يُبْطِلُ ذَلِكَ.
احْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلِقِ الْغَسْلِ، وَإِمْرَارُ الْمَائِعِ عَلَى الْعُضْوِ يُسَمَّى غَسْلًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا
وَإِذَا كَانَ الْغَسْلُ اسْمًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ مَا يَحْصُلُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَانَ قَوْلُهُ فَاغْسِلُوا إِذْنًا فِي الْوُضُوءِ بِكُلِّ الْمَائِعَاتِ.
قُلْنَا: هَذَا مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُقَيَّدٌ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُوَ الْوَاجِبُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالزَّعْفَرَانِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَاءِ لَا يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَوَاجِدُهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ وَاجِدَهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالزَّعْفَرَانِ مَاءٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ أَصْلُ الْمَاءِ مَوْجُودًا لَا مَحَالَةَ، فَوَاجِدُهُ يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ وَتَعَفَّنَ بِطُولِ الْمُكْثِ طَاهِرٌ طَهُورٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ وَهَذَا الْمَاءُ الْمُتَعَفِّنُ مَاءٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ وُجُودِهِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى طَاهِرًا طَهُورًا، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ طَهُورًا وَلَكِنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِنَّهُ نَجِسٌ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ مُعَلَّقٌ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَوَاجِدُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ جَازَ لَهُ التَّوَضُّؤُ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: 48] وَالطَّهُورُ هُوَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ مِنْهُ هَذَا الْفِعْلُ كَالضَّحُوكِ وَالْقَتُولِ وَالْأَكُولِ وَالشَّرُوبِ، وَالتَّكْرَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ: الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَاءُ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ بَقِيَ طَاهِرًا طَهُورًا سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فِي عَشَرَةٍ يَنْجَسُ. حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ اللَّه جَعَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ مُتَغَيِّرًا، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْعَامُّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْغَسْلِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي سَائِرِ(11/312)
الْمَائِعَاتِ وَفِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ، فَيَبْقَى حُجَّةً فِي الْبَاقِي. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: ثُمَّ تَأَيَّدَ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ
بِقَوْلِهِ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ»
وَلَا يُعَارَضُ هَذَا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا»
لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنَ الْمَفْهُومِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِفَضْلِ مَاءِ الْجُنُبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ بِفَضْلِ مَاءِ الْمَرْأَةِ إِذَا خَلَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَوَاجِدُ هَذَا الْمَاءِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَسْآرُ السِّبَاعِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ، وَكَذَا سُؤْرُ الْحِمَارِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: نَجِسَةٌ.
لَنَا أَنَّ وَاجِدَ هَذَا السُّؤْرِ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَاغْسِلُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَاءُ إِذَا بَلَغَ قلتين ووقعت فيه نجاسة غير مُغَيِّرَةٌ بَقِيَ طَاهِرًا طَهُورًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَنْجَسُ. لَنَا أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْغَسْلِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمَاءُ الَّذِي تَفَتَّتَتِ الْأَوْرَاقُ فِيهِ، لِلنَّاسِ فِيهِ تَفَاصِيلُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ طَاهِرًا مُطَهِّرًا مَا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا بَقِيَ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَانَ طَاهِرًا طَهُورًا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَكْثَرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّه: لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ مِنَ النِّيَّةِ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجِبُ. لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا وَالتَّيَمُّمُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ تَيَمُّمُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ،
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الرُّسْغَيْنِ،
وَعَنْ مَالِكٍ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَى الْآبَاطِ.
لَنَا: الْيَدُ اسْمٌ لِهَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْإِبِطِ فَقَوْلُهُ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ يَقْتَضِي الْمَسْحَ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهَذَا النَّصِّ فِي الْعَضُدَيْنِ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى التَّخْفِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَاجِبَ تَطْهِيرُ أَعْضَاءٍ أَرْبَعَةٍ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي التَّيَمُّمِ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ عُضْوَيْنِ وَتَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فَإِذَا كَانَ الْعَضُدَانِ/ غَيْرَ مُعْتَبَرَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَبِأَنْ لَا يَكُونَا مُعْتَبَرَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ أَوْلَى، وَإِذَا خَرَجَ الْعَضُدَانِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ بَقِيَ الْيَدَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ فِيهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ تَقْيِيدَ التَّيَمُّمِ فِي الْيَدَيْنِ بِالْمِرْفَقَيْنِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْوُضُوءِ، فَتَقْيِيدُهُ بِهِمَا فِي الْوُضُوءِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ هَذَا التَّقْيِيدِ فِي التَّيَمُّمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ. وَنَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ.(11/313)
لَنَا قَوْلُهُ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالِاسْتِيعَابِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ ذكرتم في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أن الباء تفيد التبعيض فكذا هاهنا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَمَا لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُبَارِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللَّه يُجْزِئُهُ.
لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وَكَلِمَةُ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى التَّمَسُّحِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: فُلَانٌ يَمْسَحُ مِنَ الدُّهْنِ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّيَمُّمِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ بِالتُّرَابِ وَبِالرَّمْلِ وَبِالْخَزَفِ الْمَدْقُوقِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزَّرْنِيخِ.
لَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الصَّعِيدُ هُوَ التُّرَابُ، وَأَيْضًا التَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ الْمَعْنَى، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ الْمُفَصَّلُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي التُّرَابِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ»
وَقَالَ «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا»
واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَوْ وَقَفَ عَلَى مَهَبِّ الرِّيَاحِ فَسَفَتِ الرِّيَاحُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُمِرَّ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ لَا يَكْفِي. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَكْفِي، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْغُبَارُ إِلَى أَعْضَائِهِ ثُمَّ أَمَرَّ الْغُبَارَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ قَصَدَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ فِي أَعْضَائِهِ فَكَانَ كَافِيًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا يَمَّمَهُ غَيْرُهُ صَحَّ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَتَيَمَّمُوا أَمْرٌ/ لَهُ بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُوجَدْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه يَجُوزُ.
لنا قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا.
وَالْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِذَا ضَرَبَ رِجْلَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ عَنْهُ غُبَارٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَجُوزُ. حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَالْغُبَارُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ التُّرَابِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ صَعِيدٌ طَيِّبٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِيَ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ نَجِسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وَالنَّجِسُ لَا يَكُونُ طَيِّبًا.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْمُسَافِرُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بِقُرْبِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بعد(11/314)
الطَّلَبِ عَنِ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَادٍ هَبَطَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ جَبَلٌ صَعِدَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ طَلَبُهُ.
لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا جَعَلَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ شَرْطًا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ مَشْرُوطٌ بِتَقْدِيمِ الطَّلَبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الطَّلَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَا يَصِحُّ الطَّلَبُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ طَلَبَ قَبْلَهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ ثَانِيًا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إِلَّا أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ يَقِينٌ أَنَّ الْأَمْرَ بَقِيَ كَمَا كَانَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ.
لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا فقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ عِبَارَةٌ عَنْ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَلَمْ تَجِدُوا عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ الْوِجْدَانِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ فِي حِقِّ الْجُنُبِ فَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
لَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ أَوْ يَدْخُلُ فِيهِ الْجِمَاعُ، فَوَجَبَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ لِقَوْلِهِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجْمَعُ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ كَمَا فِي الْوُضُوءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجْمَعُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ صلاتي وقتين.
حجة الشافعي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إِلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِكُلِّ وُضُوءٍ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إِنْ وُجِدَ الْمَاءُ، وَبِالتَّيَمُّمِ إِنْ فُقِدَ الْمَاءُ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْوُضُوءِ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَبْقَى فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيَتَوَقَّعُ وِجْدَانَهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: بَلْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَقَوْلُهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ الْمُرَادُ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: لَا يَبْطُلُ.
لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ بِجَوَازِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ فَاتَهُ(11/315)
هَذَا الشَّرْطُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ. قَالَ طَاوُسٌ: يلزمه.
لنا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا جَوَّزَ لَهُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ سَبَبٌ لِلْإِجْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ.
لَنَا أَنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ يَقْتَضِي جَوَازَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِحُكْمِ التَّيَمُّمِ عَلَى مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، فَقَدِ انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: مَا لَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ/ لَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، فَيَتَوَقَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ دَوْرًا وَهُوَ بَاطِلٌ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ وُجُودَ الْمَاءِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْمَاءِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَكَذَلِكَ النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ عِنْدَ النِّسْيَانِ عَاجِزٌ فِيهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي ذَلِكَ النِّسْيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: إِذَا ضَلَّ رَحْلُهُ فِي الرِّحَالِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ الْإِعَادَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِذَا نَسِيَ كَوْنَ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَقْصَى فِي الطَّلَبِ فَلَمْ يَجِدْهُ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْعُذْرَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَقْصَى فِي الطَّلَبِ صَارَ عَاجِزًا عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ مَاءً فِي بِئْرٍ بِجَنْبِهِ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا قَطُّ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ فَلَا إِعَادَةَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مِائَةُ مَسْأَلَةٍ، وَقَدْ كَتَبْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ مَا كَانَ مَعَنَا شَيْءٌ مِنَ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَكَانَ الْقَلْبُ مُشَوَّشًا بِسَبَبِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ. فَنَسْأَلُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّهُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَدَّنَا فِي اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِ اللَّه مِنْ نَصِّ اللَّه سَبَبًا لِرُجْحَانِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السيئات أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ(11/316)
كَوْنِهِ مُرِيدًا، فَقَالَ الْحَسَنُ النَّجَّارُ: أَنَّهُ مُرِيدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُكْرَهٍ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَوْنُهُ تَعَالَى مَرِيداً صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَى إِيجَادِهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِأَفْعَالِ غَيْرِهِ أَنَّهُ دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَى الْأَمْرِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَاحِظِ وَأَبِي قَاسِمٍ الْكَعْبِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَوْنُهُ مُرِيدًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالدَّاعِي، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ لِذَاتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْحَسَنِ النَّجَّارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ، ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ مُحْدَثَةٍ لَا فِي مَحَلِّهِ وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ: مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ مُحْدَثَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَا يُوجَدُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَمَّا كَانَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مُحَالَ الْوُقُوعِ فَقَدْ لَزِمَكُمْ مَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ أَنْ لَا تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فإنه تعالى قال: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الْحَجِّ: 78] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: 185] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ»
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: 29] وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [الْمَائِدَةِ: 4] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّاتُ وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ أَصْلًا إِلَى الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ تَقَعُ فَحُكْمُهَا الْمُفَصَّلُ إِنْ كَانَ مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَضَارِّ حَرَّمْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ أَبَحْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى إِبَاحَةِ الْمَنَافِعِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْمُعَارِضَ لَهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَكُونُ قِيَاسًا وَاقِعًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ مَرْدُودٌ، فَكَانَ بَاطِلًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّطْهِيرِ، فَقَالَ جُمْهُورُ/ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّ عِنْدَ خُرُوجِ الْحَدَثِ تَنْجَسُ الْأَعْضَاءُ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّطْهِيرِ إِزَالَةُ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمَيَّةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ عِنْدَنَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَنْجَسُ أَعْضَاؤُهُ الْبَتَّةَ. الثَّانِي:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجَسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»
فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ تِلْكَ الْآيَةِ كَالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالُوهُ. الثَّالِثُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمُحْدِثِ لَوْ كَانَ رَطْبًا فَأَصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَتَنَجَّسْ، وَلَوْ حَمَلَهُ إِنْسَانٌ وَصَلَّى لَمْ تفسد صلاته، وذلك بدل عَلَى أَنَّهُ لَا نَجَاسَةَ فِي أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَدَثَ لَوْ كَانَ يُوجِبُ نَجَاسَةَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ كَانَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ طَهَارَةَ كُلِّ الْأَعْضَاءِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْخَامِسُ: أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ مَوْضِعٍ كَيْفَ يُوجِبُ(11/317)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
تَنَجُّسَ مَوْضِعٍ آخَرَ! السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ مَذْكُورٌ عَقِيبَ التَّيَمُّمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّيَمُّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَإِزَالَةِ الْوَضَاءَةِ وَالنَّظَافَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنَ النَّجَاسَاتِ أَصْلًا، السَّابِعُ: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَسْحَ لَا يُزِيلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ عَنِ الرِّجْلَيْنِ، الثَّامِنُ: أَنَّ الَّذِي يُرَادُ زَوَالُهُ إِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْسَامِ فَالْحِسُّ يَشْهَدُ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ فَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَ الْأَعْرَاضِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بَعِيدٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّطْهِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَهَارَةَ الْقَلْبِ عَنْ صِفَةِ التَّمَرُّدِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ نَجَاسَةٌ لِلْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا كَانَتْ نَجَاسَةً لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُرَادُ نَفْيُهُ وَإِزَالَتُهُ وَتَبْعِيدُهُ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي كَذَلِكَ، فَكَانَتْ نَجَاسَاتٍ رُوحَانِيَّةً، وَكَمَا أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ تُسَمَّى طَهَارَةً فَكَذَلِكَ إِزَالَةُ هَذِهِ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْبَاطِلَةِ تُسَمَّى طَهَارَةً، وَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَجَعَلَ رَأْيَهُمْ نَجَاسَةً، وَقَالَ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: 33] فَجَعَلَ بَرَاءَتَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي طَهَارَةً لَهُمْ. وَقَالَ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 55] فَجَعَلَ خَلَاصَهُ عَنْ طَعْنِهِمْ وَعَنْ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ تَطْهِيرًا لَهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْعَبْدَ بِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ طَاهِرَةً لَمْ يَعْرِفِ الْعَبْدُ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ فَائِدَةً مَعْقُولَةً، فَلَمَّا انْقَادَ لِهَذَا التَّكْلِيفِ كَانَ ذَلِكَ الِانْقِيَادُ لِمَحْضِ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الِانْقِيَادُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ آثَارَ التَّمَرُّدِ فَكَانَ ذَلِكَ طَهَارَةً، فَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ طَهَارَةً، وَتَأَكَّدَ/ هَذَا بِالْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَّتْ خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي يديه ورأسه ورجائه.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ فَرْضِ الْوُضُوءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِتَتِمَّ النِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالنِّعْمَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَانِيًا وَهِيَ نِعْمَةُ الدِّينِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ بِالتَّرَخُّصِ فِي التَّيَمُّمِ وَالتَّخْفِيفِ فِي حَالِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخَفِّفُ عَنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَالْكَلَامُ فِي «لَعَلَّ» مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا التَّكْلِيفَ أَرْدَفَهُ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَبُولَ وَالِانْقِيَادَ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأول:(11/318)
كَثْرَةُ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثْرَةَ النِّعَمِ تُوجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ الْمُنْعِمِ وَالِانْقِيَادَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَقُلْ نِعَمَ اللَّه عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأَمُّلَ فِي أَعْدَادِ نِعَمِ اللَّه، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأَمُّلُ فِي جِنْسِ نِعَمِ اللَّه لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ جِنْسٌ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّه عَلَيْهِ، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَاءِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ وَالصَّوْنِ عَنِ الْآفَاتِ وَالْإِيصَالِ إِلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجِنْسُ نِعْمَةِ اللَّه جِنْسٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ/ غَيْرُ اللَّه، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ الْمُرَادُ التَّأَمُّلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُمْتَازٌ عَنْ نِعْمَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الِامْتِيَازُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّعْمَةَ مَتَى كَانْتَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ وُجُوبُ الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهَا أَتَمَّ وَأَكْمَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ مُشْعِرٌ بِسَبْقِ النِّسْيَانِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ نِسْيَانُهَا مَعَ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ عَلَيْنَا فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ وَالْأَوْقَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَتَعَاقُبِهَا صَارَتْ كَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ، فَصَارَتْ غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا سَبَبًا لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ النِّسْيَانِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ بَاطِنًا لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قولهم: سبحانه مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ بِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ.
السَّبَبُ الثَّانِي: مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، وَالْمُوَاثَقَةُ الْمُعَاهَدَةُ الَّتِي قَدْ أُحْكِمَتْ بِالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشَابِهَةٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيثَاقِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَوَاثِيقُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، مِثْلُ مُبَايَعَتِهِ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَمُبَايَعَتِهِ عَامَّةَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْمِيثَاقَ الصَّادِرَ عَنِ الرَّسُولِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاءِ: 80] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ ذَكَّرَهُمْ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ وَقَبِلُوا تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ مِنْ نَقْضِ تِلْكَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
يَعْنِي لَا تَنْقُضُوا تِلْكَ الْعُهُودَ وَلَا تَعْزِمُوا بِقُلُوبِكُمْ عَلَى نَقْضِهَا، فَإِنَّهُ إِنْ خَطَرَ ذَلِكَ بِبَالِكُمْ فاللَّه يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهِ مُجَازِيًا.
وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ قَالُوا آمَنَّا بِالتَّوْرَاةِ وَبِكُلِّ مَا فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي التَّوْرَاةِ الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَذْكُرُونَ هَذَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَكَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِحِفْظِهِ؟
قُلْنَا: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا حَصَلَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ. الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْمِيثَاقِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى التَّوْحِيدِ والشرائع، وهو اختيار أكثر المتكلمين.(11/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
[سورة المائدة (5) : آية 8]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ هَذَا أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ حَثُّهُمْ عَلَى الِانْقِيَادِ لِتَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّكَالِيفَ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّهَا مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه، فَقَوْلُهُ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه، وَمَعْنَى الْقِيَامِ للَّه هُوَ أَنْ يَقُومَ للَّه بِالْحَقِّ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَتَعْظِيمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ عَطَاءٌ: يَقُولُ لَا تُحَابِ فِي شَهَادَتِكَ أَهْلَ وُدِّكَ وَقَرَابَتَكَ، وَلَا تَمْنَعْ شَهَادَتَكَ أَعْدَاءَكَ وَأَضْدَادَكَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى تُبَيِّنُونَ عَنْ دِينِ اللَّه، لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُبَيِّنُ مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا، وَأَرَادَ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِيهِمْ لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ وَالْمَعْنَى لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَجُورُوا عَلَيْهِمْ وَتُجَاوِزُوا الحد فيهم، بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم، وَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ وَإِنْ بَالَغُوا فِي إِيحَاشِكُمْ، فَهَذَا خِطَابٌ عَامٌّ، وَمَعْنَاهُ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى جَمِيعَ الْخَلْقِ بِأَنْ لَا يُعَامِلُوا أَحَدًا إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَتَرْكِ الْمَيْلِ وَالظُّلْمِ وَالِاعْتِسَافِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ لَمَّا صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَيْفَ يُعْقَلُ ظُلْمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ؟
قُلْنَا: يُمْكِنُ ظُلْمُهُمْ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُمْ إِذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا قَتْلُ أَوْلَادِهِمُ الْأَطْفَالِ لِاغْتِمَامِ الْآبَاءِ، وَمِنْهَا إِيقَاعُ الْمُثْلَةِ بِهِمْ، وَمِنْهَا نَقْضُ عُهُودِهِمْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ أَنْ يَحْمِلَهُمُ الْبَغْضَاءُ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ/ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَصَرَّحَ لَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ تَأْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ مَعَاصِي اللَّه تَعَالَى، وَالثَّانِي: هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ عَذَابِ اللَّه وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ اللَّه تَعَالَى، فَمَا الظَّنُّ بِوُجُوبِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْكَلَامَ الَّذِي يَكُونُ وَعْدًا مَعَ الْمُطِيعِينَ وَوَعِيدًا لِلْمُذْنِبِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يَعْنِي أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
[سورة المائدة (5) : آية 9]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
ثُمَّ ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فَالْمَغْفِرَةُ إِسْقَاطُ السَّيِّئَاتِ كَمَا قَالَ فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: 70] وَالْأَجْرُ العظيم إيصال(11/320)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الثَّوَابِ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَيُّ شَيْءٍ وَعَدَهُمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَالَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَالثَّالِثُ: أَجْرَى قَوْلَهُ وَعَدَ مَجْرَى قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّه فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ وَعَدَ وَاقِعًا عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ وَعَدَهُمْ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِالْمَوْعُودِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى؟
قُلْنَا: بَلِ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ هَذَا الْوَعْدِ وَعْدَ اللَّه أَقْوَى. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَضَافَ هَذَا الْوَعْدَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ وَعَدَ اللَّهُ وَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ الْحَاجَاتِ، وَهَذَا يَمْتَنِعُ الْخُلْفُ فِي وَعْدِهِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْخُلْفِ إِنَّمَا يَكُونُ إِمَّا لِلْجَهْلِ حَيْثُ يَنْسَى وَعْدَهُ، وَإِمَّا لِلْعَجْزِ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ، وَإِمَّا لِلْبُخْلِ حَيْثُ يَمْنَعُهُ الْبُخْلُ عَنِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ، وَإِمَّا لِلْحَاجَةِ، فَإِذَا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ دُخُولُ الْخُلْفِ فِي وَعْدِهِ مُحَالًا، فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا الْوَعْدِ أَوْكَدَ وَأَقْوَى مِنْ نَفْسِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ هَذَا الْوَعْدَ يَصِلُ إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَتَسْهُلُ بِسَبَبِهِ/ تِلْكَ الشَّدَائِدُ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ الْبَقَاءُ فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الأهوال.
[سورة المائدة (5) : آية 10]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي أَنَّ الْخُلُودَ لَيْسَ إِلَّا لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي الْمُلَازَمَةَ كَمَا يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها.
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانُوا غَالِبِينَ، وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَقْهُورِينَ مَغْلُوبِينَ، وَلَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَبَدًا يُرِيدُونَ إِيقَاعَ الْبَلَاءِ وَالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ بِالْمُسْلِمِينَ، واللَّه تَعَالَى كَانَ يَمْنَعُهُمْ عَنْ مَطْلُوبِهِمْ إِلَى أَنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَعَظُمَتْ شَوْكَةُ المسلمين فقال تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالنَّفْيِ فَكَفَّ اللَّه تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ أَيْدِيَ الْكُفَّارِ عَنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَمُخَالَفَتَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ كُونُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَا تَخَافُوا أَحَدًا فِي إِقَامَةِ طَاعَاتِ اللَّه تعالى.(11/321)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى بَنِي عَامِرٍ فَقُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ: أَحَدُهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِي، وَانْصَرَفَ هُوَ وَآخَرُ مَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَاهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَلَقِيَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَاهُمَا وَلَمْ يَعْلَمَا أَنَّ مَعَهُمَا أَمَانًا، فَجَاءَ قَوْمُهُمَا يَطْلُبُونَ الدِّيَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ/ وَعَلِيٌّ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ وَعَلَى أَنْ يُعِينُوهُ فِي الدِّيَاتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَصَابَ رَجُلَيْنِ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنِّي فَلَزِمَنِي دِيَتُهُمَا، فَأُرِيدُ أَنْ تُعِينُونِي، فَقَالُوا اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ مَا تُرِيدُ، ثُمَّ هَمُّوا بِالْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّه وَبِأَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَالِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَخَرَجُوا، فَقَالَ الْيَهُودُ: إِنَّ قُدُورَنَا تَغْلِي، فَأَعْلَمَهُمُ الرَّسُولُ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الوحي بما عزموا عليه.
قال عطاء: توامروا عَلَى أَنْ يَطْرَحُوا عَلَيْهِ رَحًا أَوْ حَجَرًا، وَقِيلَ: بَلْ أَلْقَوْا فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي:
قَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ نَزَلَ مَنْزِلًا وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَعَلَّقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحَهُ بِشَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ وَسَلَّ سَيْفَ رَسُولِ اللَّه ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وقال: من يمنعك مني؟ قال: اللَّه، قالها ثلاثا، فأسقطه جبريل من يده فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: لَا أَحَدَ، ثُمَّ صَاحَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ وَأَبَى أَنْ يُعَاقِبَهُ،
وَعَلَى هَذَيْنِ القولين فالمراد من قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرُ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْهِمْ بِدَفْعِ الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمِحَنِ، وَالثَّالِثُ:
رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَامُوا إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ بَعُسْفَانَ، فَلَمَّا صَلَّوْا نَدِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا لَيْتَنَا أَوْقَعْنَا بِهِمْ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهَا صَلَاةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَآبَائِهِمْ، يَعْنُونَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ: بَسَطَ إِلَيْهِ لِسَانَهُ إِذَا شَتَمَهُ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ إِذَا بَطَشَ بِهِ. وَمَعْنَى بَسْطِ الْيَدِ مَدُّهَا إِلَى الْمَبْطُوشِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: فُلَانٌ بَسِيطُ الْبَاعِ وَمَدِيدُ الْبَاعِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أَيْ منعها أن تصل إليكم.
[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْمَائِدَةِ: 7] ثُمَّ ذَكَرَ الْآنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ وَتَرَكُوا الْوَفَاءَ بِهِ، فَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِثْلَ أُولَئِكَ الْيَهُودِ فِي هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ لِئَلَّا تَصِيرُوا مِثْلَهُمْ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ اللَّعْنِ وَالذِّلَّةِ/ وَالْمَسْكَنَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذكر قوله اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [الْمَائِدَةِ: 11] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ الروايات أن(11/322)
هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِيقَاعَ الشَّرِّ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَضَائِحِهِمْ وَبَيَانِ أَنَّهُمْ أَبَدًا كَانُوا مُوَاظِبِينَ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرْغِيبُ الْمُكَلَّفِينَ فِي قَبُولِ التَّكَالِيفِ وَتَرْكِ التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّفَ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَلَّفَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَادَةَ اللَّه فِي التَّكْلِيفِ وَالْإِلْزَامِ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ بِهِمْ، بَلْ هِيَ عَادَةٌ جَارِيَةٌ لَهُ مَعَ جَمِيعِ عِبَادِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّقِيبُ فَعِيلٌ أَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ وَهُوَ الثُّقْبُ الْوَاسِعُ، يُقَالُ فُلَانٌ نَقِيبُ الْقَوْمِ لِأَنَّهُ يَنْقُبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَنْقُبُ عَنِ الْأَسْرَارِ وَمِنْهُ الْمَنَاقِبُ وَهِيَ الْفَضَائِلُ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِالتَّنْقِيبِ عَنْهَا، وَنَقَبْتُ الْحَائِطَ أَيْ بَلَغْتُ في النقب إلى آخره، ومنه النقبة من الجرب لأنه داء شديد الدخول، وذلك لأنه يطلي البعير بالهناء فيعجد طعم القطران في لحمه، والنقبة السَّرَاوِيلُ بِغَيْرِ رِجْلَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ بُولِغَ فِي فَتْحِهَا وَنَقْبِهَا، وَيُقَالُ:
كَلْبٌ نَقِيبٌ، وَهُوَ أَنْ يَنْقُبَ حَنْجَرَتَهُ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ صَوْتُ نُبَاحِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْبُخَلَاءُ مِنَ الْعَرَبِ لِئَلَّا يَطْرُقَهُمْ ضَيْفٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّقِيبُ فَعِيلٌ، وَالْفَعِيلُ يَحْتَمِلُ الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهُوَ النَّاقِبُ عَنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ الْمُفَتِّشُ عنها، وقال أبو مسلم: النقيب هاهنا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَعْنِي اخْتَارَهُمْ عَلَى عِلْمٍ بِهِمْ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمَضْرُوبِ: ضَرِيبٌ، وَلِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: هُمُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِمْ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِمْ أُمُورُ الْقَوْمِ وَتَدْبِيرُ مَصَالِحِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا. فَاخْتَارَ اللَّه تَعَالَى مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا يَكُونُ نَقِيبًا لَهُمْ وَحَاكِمًا فِيهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ النُّقَبَاءَ بُعِثُوا إِلَى مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقِتَالِ مَعَهُمْ لِيَقِفُوا عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَيَرْجِعُوا بِذَلِكَ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا ذَهَبُوا إِلَيْهِمْ رَأَوْا أَجْرَامًا عَظِيمَةً وَقُوَّةً وَشَوْكَةً فَهَابُوا وَرَجَعُوا فحدثوا قَوْمُهُمْ، وَقَدْ نَهَاهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُحَدِّثُوهُمْ، فَنَكَثُوا الْمِيثَاقَ إِلَّا كَالِبَ بْنَ يُوفِنَا مَنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ مِنْ سِبْطِ إِفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ، وَهُمَا اللَّذَانِ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمَا قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ [المائدة: 23] الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ اللَّه لَهُمْ إِنِّي مَعَكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِذِكْرِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِنِّي مَعَكُمْ خِطَابٌ لِمَنْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنُّقَبَاءِ، أَيْ وَقَالَ اللَّه لِلنُّقَبَاءِ إِنِّي مَعَكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِكُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورِ هُنَا النُّقَبَاءُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ وَالْمَعْنَى إِنِّي مَعَكُمْ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَأَسْمَعُ كَلَامَكُمْ وَأَرَى أَفْعَالَكُمْ وَأَعْلَمُ ضَمَائِرَكُمْ وَأَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْجَزَاءِ إِلَيْكُمْ، فَقَوْلُهُ إِنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةٌ مُعْتَبَرَةٌ جِدًّا فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ لَمَّا وَضَعَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْكُلِّيَّةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا جُمْلَةً شَرْطِيَّةً،(11/323)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وَالشَّرْطُ فِيهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أُمُورٍ خَمْسَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَالْجَزَاءُ هُوَ قَوْلُهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِزَالَةِ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ أَخَّرَ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ عَنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِ بَعْضِ الرُّسُلِ، فَذَكَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّجَاةِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى التَّعْزِيرِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَزْرُ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ، وَتَأْوِيلُ عَزَّرْتُ فُلَانًا، أَيْ فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرُدُّهُ عَنِ الْقَبِيحِ وَيَزْجُرُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أَيْ نَصَرْتُمُوهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَصَرَ إِنْسَانًا فَقَدْ رَدَّ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ هُوَ التَّوْقِيرُ لَكَانَ قَوْلُهُ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الْفَتْحِ: 9] تَكْرَارًا.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دَخَلَ تَحْتَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ؟
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَاتُ، وَبِهَذَا الْإِقْرَاضِ الصَّدَقَاتُ الْمَنْدُوبَةُ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهَا وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قَالَ: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّه إِقْرَاضًا حَسَنًا لَكَانَ صَوَابًا أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَامُ الِاسْمُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آلِ عِمْرَانَ: 37] وَلَمْ يَقُلْ بَتَقَبُّلٍ، وَقَوْلُهُ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَلَمْ يَقُلْ إِنْبَاتًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
قُلْنَا: أَجَلْ، وَلَكِنَّ الضَّلَالَ بَعْدَهُ أَظْهَرُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِنَّمَا عَظُمَ قُبْحُهُ لِعِظَمِ النِّعْمَةِ الْمَكْفُورَةِ، فَإِذَا زَادَتِ النِّعْمَةُ زَادَ قُبْحُ الْكُفْرِ وَبَلَغَ النِّهَايَةَ القصوى.
[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي: بِكِتْمَانِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ «اللَّعْنِ» وُجُوهٌ: الأول: قال عطاء: لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا.(11/324)
الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: مَسَخْنَاهُمْ حَتَّى صَارُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضَرَبْنَا الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (قَسِيَّةً) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بغير ألف على وزن فعيلة، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ، وَفِي قَوْلِهِ (قَسِيَّةً) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْقَسِيَّةُ بِمَعْنَى الْقَاسِيَةِ/ إِلَّا أَنَّ الْقَسِيَّ أَبْلَغُ مِنَ الْقَاسِي، كَمَا يُقَالُ: قَادِرٌ وَقَدِيرٌ، وَعَالِمٌ وَعَلِيمٌ، وَشَاهِدٌ وَشَهِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ الْقَدِيرَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَادِرِ فَكَذَلِكَ الْقِسِيُّ أبلغ من القاسي، والثاني: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ عَلَى وَزْنِ شَقِيٍّ، أَيْ فَاسِدٌ رَدِيءٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْقَسْوَةِ لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، وَالْمَغْشُوشَ فِيهِ يُبْسٌ وَصَلَابَةٌ، وَقُرِئَ (قِسِيَّةً) بِكَسْرِ الْقَافِ لِلْإِتْبَاعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ جَعَلْنَاهَا نَائِيَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مُنْصَرِفَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِلدَّلَائِلِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ أَخْبَرْنَا عَنْهَا بِأَنَّهَا صَارَتْ قَاسِيَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَعَلَ فُلَانًا فَاسِقًا وَعَدْلًا.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْضَ مَا هُوَ مِنْ نَتَائِجِ تِلْكَ الْقَسْوَةِ فَقَالَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَهَذَا التَّحْرِيفُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ، وَيَحْتَمِلُ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَنْقُولَ بِالتَّوَاتُرِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكُوا نَصِيبًا مِمَّا أُمِرُوا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وَفِي الْخَائِنَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَائِنَةَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ، كَالْكَافِيَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الْحَاقَّةِ: 5] أَيْ بِالطُّغْيَانِ. وَقَالَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَةِ: 2] أَيْ كَذِبٌ. وَقَالَ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: 11] أَيْ لَغْوًا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَمِعْتُ رَاغِيَةَ الْإِبِلِ. وَثَاغِيَةَ الشَّاءِ يَعْنُونَ رُغَاءَهَا وَثُغَاءَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ عَافَاهُ اللَّه عَافِيَةً، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْخَائِنَةُ صِفَةٌ، وَالْمَعْنَى: تَطَّلِعُ عَلَى فِرْقَةٍ خَائِنَةٍ أَوْ نَفْسٍ خَائِنَةٍ أَوْ عَلَى فِعْلَةٍ ذَاتِ خِيَانَةٍ. وَقِيلَ:
أَرَادَ الْخَائِنَ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ عَلَى خِيَانَةٍ مِنْهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ من الذين بقوا على الكفر لكنهم بَقُوا عَلَى الْعَهْدِ وَلَمْ يَخُونُوا فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ عَفْوٌ وَصَفْحٌ عَنِ الْكُفَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى فَاعْفُ عَنْ مُذْنِبِهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْقَلِيلَ على الْكُفَّارِ مِنْهُمُ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَمْرُ اللَّه رَسُولِهِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ عَنْ صَغَائِرِ زَلَّاتِهِمْ مَا دَامُوا بَاقِينَ عَلَى الْعَهْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.(11/325)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَفَوْتَ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِذَا كُنْتَ مُحْسِنًا فَقَدْ أَحَبَّكَ اللَّه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمُحْسِنِينَ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّه، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ صَرْفَ قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
المراد أَنَّ سَبِيلَ النَّصَارَى مِثْلُ سَبِيلِ الْيَهُودِ فِي نَقْضِ الْمَوَاثِيقِ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَإِنَّمَا قَالَ: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَلَمْ يَقُلْ: وَمِنَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ ادِّعَاءً لِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِعِيسَى نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: 52] فَكَانَ هَذَا الِاسْمُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمَ مَدْحٍ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ هَذِهِ الصِّفَةَ وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِهَا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أَيْ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَنْكِيرُ الْحَظِّ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَظٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْكَثِيرَ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُهِمُّ، وَقَوْلُهُ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أَيْ أَلْصَقْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ، يُقَالُ: أُغْرِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ إِذَا وَلِعَ بِهِ كَأَنَّهُ أُلْصِقَ بِهِ، وَيُقَالُ: لِمَا الْتَصَقَ بِهِ الشَّيْءُ: الْغِرَاءُ، وَفِي قَوْلِهِ بَيْنَهُمُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالثَّانِي: بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الْأَنْعَامِ: 65] وَقَوْلُهُ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَعِيدٌ لَهُمْ.
[سورة المائدة (5) : آية 15]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ وَعَنِ النَّصَارَى نَقْضَهُمُ الْعَهْدَ وَتَرْكَهُمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، دَعَاهُمْ عَقِيبَ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا أَهْلَ الْكِتابِ وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَإِنَّمَا وَحَّدَ الْكِتَابَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجِنْسِ، ثُمَّ وَصَفَ الرَّسُولَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَخْفَوْا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْفَوْا أَمْرَ الرَّجْمِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَهَذَا مُعْجِزٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا وَلَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمًا مِنْ أَحَدٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَسْرَارِ مَا فِي كِتَابِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
الوصف الثاني للرسول: قوله وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أَيْ لَا يُظْهِرُ كَثِيرًا مِمَّا تَكْتُمُونَهُ أَنْتُمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْهُ لِأَنَّهُ(11/326)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
لَا حَاجَةَ إِلَى إِظْهَارِهِ فِي الدِّينِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَوْنَ الرَّسُولِ عَالِمًا بِكُلِّ مَا يُخْفُونَهُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى تَرْكِ الْإِخْفَاءِ لِئَلَّا يَفْتَضِحُوا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ مُحَمَّدٌ وَبِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ الْإِسْلَامُ، وَبِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ. الثَّالِثُ: النُّورُ/ وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ وَالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ بِالنُّورِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ النُّورَ الظَّاهِرَ هُوَ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ الْبَصَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَالنُّورُ الْبَاطِنُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي تَتَقَوَّى بِهِ الْبَصِيرَةُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَالْمَعْقُولَاتِ.
[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أَيْ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْ طَلَبِ الدِّينَ اتِّبَاعَ الدِّينِ الَّذِي يَرْتَضِيهِ اللَّه تَعَالَى، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنْ دِينِهِ تَقْرِيرَ مَا أَلِفَهُ وَنَشَأَ عَلَيْهِ وَأَخَذَهُ مِنْ أَسْلَافِهِ مَعَ تَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَّبِعٍ رِضْوَانَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبُلَ السَّلامِ أَيْ طُرُقَ السَّلَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ سُبُلَ دَارِ السَّلَامِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ [محمد: 4، 5] ومعلوم أنه لَيْسَ الْمُرَادُ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ، بَلِ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفْرَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ صَاحِبُهُ كَمَا يَتَحَيَّرُ فِي الظَّلَامِ، وَيَهْتَدِي بِالْإِيمَانِ إِلَى طُرُقِ الْجَنَّةِ كَمَا يَهْتَدِي بِالنُّورِ، وَقَوْلُهُ بِإِذْنِهِ أَيْ بِتَوْفِيقِهِ، وَالْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالِاتِّبَاعِ أَيِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْهِدَايَةِ وَلَا بِالْإِخْرَاجِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ رِضْوَانَ اللَّه إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللَّه مِنْهُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لِذَاتِهِ، وَمُتَّفِقٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَفِيهِ كثرة، وكلها معوجة.
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقوله تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى لَا يَقُولُ: إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَيْفَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ يَحِلُّ فِي بَدَنِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ فِي رُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ النَّصَارَى ذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هَذَا أَقْرَبُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ اتَّحَدَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاتًا أَوْ(11/327)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
صِفَةً، فَإِنْ كَانَ ذَاتًا فَذَاتُ اللَّه تَعَالَى قَدْ حَلَّتْ فِي عِيسَى وَاتَّحَدَتْ بِعِيسَى فَيَكُونُ عِيسَى هُوَ الْإِلَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأُقْنُومَ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ، فَانْتِقَالُ الصِّفَةِ مِنْ ذَاتٍ إِلَى ذَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ مَعْقُولٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ انْتِقَالِ أُقْنُومِ الْعِلْمِ عَنْ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى إِلَى عِيسَى يَلْزَمُ خُلُوَّ ذَاتِ اللَّه عَنِ الْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِلَهُ هُوَ عِيسَى عَلَى قَوْلِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ حَاصِلَ مَذْهَبِهِمْ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ احْتَجَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَهَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ قَدَّمَ فِيهَا الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ مُرَادِهِ وَمَقْدُورِهِ، وَقَوْلُهُ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
أَيْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه شَيْئًا، وَالْمُلْكُ هُوَ الْقُدْرَةُ، يَعْنِي فَمَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مُرَادِهِ. وَقَوْلُهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [المعارج: 14] يعني أن عيسى مشاكل لمن فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَتَغْيِيرِ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَمَّا سَلَّمْتُمْ كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُلِّ مُدَبِّرًا لِلْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا خَالِقًا لِعِيسَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنَّمَا قَالَ وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَقُلْ: بَيْنَهُنَّ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الصِّنْفَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، فَتَارَةً يَخْلُقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا هُوَ مُعْتَادٌ، وَتَارَةً لَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ كَمَا في خلق آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَارَةً مِنَ الْأُمِّ لَا مِنَ الْأَبِ كَمَا فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَعْنِي أَنَّ عِيسَى إِذَا قَدَّرَ صُورَةَ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ فاللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِ اللَّحْمِيَّةَ وَالْحَيَاةَ وَالْقُدْرَةَ مُعْجِزَةً لِعِيسَى، وَتَارَةً يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ مُعْجِزَةً لَهُ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى اللَّه تعالى في شيء من أفعاله.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُمْ؟ وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَقِّ عِيسَى لَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَجُوزُ هَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ؟
أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ نَحْنُ أَبْنَاءُ رُسُلِ اللَّه، فَأُضِيفَ إِلَى اللَّه ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسول اللَّه، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: 10] وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الصُّلْبِ فَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ ابْنًا، وَاتِّخَاذُهُ ابْنًا بِمَعْنَى تَخْصِيصِهِ بِمَزِيدِ الشَّفَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، فَالْقَوْمُ لَمَّا ادَّعَوْا أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه بِهِمْ أَشَدُّ وَأَكْمَلُ مِنْ عِنَايَتِهِ بِكُلِّ مَا سِوَاهُمْ، لَا جَرَمَ عَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْ دَعْوَاهُمْ كَمَالَ عِنَايَةِ اللَّه بِهِمْ بِأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّه. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّه، وَالنَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّه، ثم زعموا أن عزيزا وَالْمَسِيحَ كَانَا مِنْهُمْ، صَارَ(11/328)
ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه، أَلَا تَرَى أَنَّ أَقَارِبَ الْمَلِكِ إِذَا فَاخَرُوا إِنْسَانًا آخر فَقَدْ يَقُولُونَ: نَحْنُ مُلُوكُ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ سَلَاطِينُ الْعَالَمِ، وَغَرَضُهُمْ مِنْهُ كَوْنُهُمْ مُخْتَصِّينَ بِذَلِكَ الشَّخْصِ الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا، وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَخَوَّفَهُمْ بِعِقَابِ اللَّه تَعَالَى فَقَالُوا:
كَيْفَ تُخَوِّفُنَا بِعِقَابِ اللَّه وَنَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْ تِلْكَ الطَّائِفَةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَتْلُونَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي لَهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ: أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ بِسَبَبِ أَسْلَافِهِمُ الْأَفَاضِلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي تَعْظِيمِ أَنْفُسِهِمْ إِلَى أَنْ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ وَقَالَ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللَّه وَأَحِبَّاءَهُ لَمَا عَذَّبَهُمْ لَكِنَّهُ عَذَّبَهُمْ، فَهُمْ لَيْسُوا أَبْنَاءَ اللَّه وَلَا أَحِبَّاءَهُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ تَدَّعُوا أَنَّ اللَّه عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَدَّعُوا أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ عَذَابَ الدُّنْيَا فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي ادِّعَائِهِمْ كَوْنَهُمْ أَحِبَّاءَ اللَّه لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ هُوَ وَأَمَّتُهُ أَحِبَّاءُ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا خَلَوْا عَنْ مِحَنِ الدُّنْيَا. انْظُرُوا إِلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَإِلَى قَتْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَالْقَوْمُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَمُجَرَّدُ إِخْبَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِكَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَافِيًا لَكَانَ مُجَرَّدُ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُ اللَّه كَافِيًا، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَائِعًا.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَالْمُعَارَضَةُ بِيَوْمِ أُحُدٍ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ: لو كانوا أبناء اللَّه وأحباءه لما عذبهم اللَّه فِي الدُّنْيَا، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أَحِبَّاءِ اللَّه وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ اللَّه فَزَالَ السُّؤَالُ. الثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: 80] وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فَلِمَ مَسَخَكُمْ، فَالْمُعَذَّبُ فِي الْحَقِيقَةِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُنَا، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ قَدْ وُجِدَ وَحَصَلَ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيًّا مَتِينًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ، بَلِ الْمُلْكُ لَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَ الْقَوْمِ مِنْ قَوْلِهِمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كَمَالُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكَمَالُ عِنَايَتِهِ بِهِمْ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَاحْتَرَزَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عقلا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبدا الْآبَادِ، وَلَوْ قَطَعَ عَنْهُ بَعْدَ أُلُوفِ سَنَةٍ فِي الْآخِرَةِ تِلْكَ النِّعَمَ لَحْظَةً وَاحِدَةً لَبَطَلَتْ إِلَهِيَّتُهُ وَلَخَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْحِكْمَةِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، وَكَمَا أَنَّ قَوْلُهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْيَهُودِ. فَبِأَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْلَى وَأَكْمَلُ.(11/329)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بِمَعْنَى مَنْ كَانَ مُلْكُهُ هَكَذَا وَقُدْرَتُهُ هَكَذَا فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْبَشَرُ الضَّعِيفُ عَلَيْهِ حَقًّا وَاجِبًا؟ وَكَيْفَ يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ الْجَاهِلُ بِعِبَادَتِهِ/ النَّاقِصَةِ وَمَعْرِفَتِهِ الْقَلِيلَةِ عَلَيْهِ دَيْنًا. إِنَّهَا كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أَيْ وَإِلَيْهِ يَؤُولُ أَمْرُ الْخَلْقِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضَّرَّ وَالنَّفْعَ هُنَاكَ إِلَّا هُوَ كما قال وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] .
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
[في قوله تعالى يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ يُبَيِّنُ لَكُمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَدَّرَ الْمُبَيَّنُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَبَيَّنُ هُوَ الدِّينُ وَالشَّرَائِعُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُهُ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا أُرْسِلَ لِبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا كُنْتُمْ تُخْفُونَ، وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُقَدَّرَ الْمُبَيَّنُ وَيَكُونُ الْمَعْنَى يُبَيِّنُ لَكُمُ الْبَيَانَ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ أَكْمَلُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ أَعَمَّ فَائِدَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُبَيِّنًا لَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ عَلَى انْقِطَاعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، يُقَالُ: فَتَرَ الشَّيْءُ يَفْتُرُ فُتُورًا إِذَا سَكَنَتْ حِدَّتُهُ وَصَارَ أَقَلَّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَتْرَةً لِفُتُورِ الدَّوَاعِي فِي الْعَمَلِ بِتِلْكَ الشرائع.
واعلم أن قوله عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ جاءَكُمْ أَيْ جَاءَكُمْ عَلَى حِينِ فُتُورٍ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. قِيلَ:
كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَأَلْفَا نَبِيٍّ، وَبَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَاحِدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَبْسِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَائِدَةُ فِي بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ هِيَ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَالتَّحْرِيفَ قَدْ تَطَرَّقَ إِلَى الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَقَادُمِ عَهْدِهَا وَطُولِ زَمَانِهَا، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالصِّدْقُ بِالْكَذِبِ، وَصَارَ ذلك عذرا ظاهر فِي إِعْرَاضِ الْخَلْقِ عَنِ الْعِبَادَاتِ، لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: يَا إِلَهَنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِبَادَتِكَ وَلَكِنَّا مَا عَرَفْنَا كَيْفَ نَعْبُدُ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ، وَهُوَ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يَعْنِي إِنَّمَا بَعَثْنَا إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ فِي وَقْتِ الْفَتْرَةِ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا: مَا جَاءَنَا فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فَزَالَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ وَارْتَفَعَ هَذَا الْعُذْرُ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ حُصُولَ الْفَتْرَةِ يُوجِبُ احْتِيَاجَ الْخَلْقِ إِلَى بِعْثَةِ الرُّسُلِ، واللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْبِعْثَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلْقُ مُحْتَاجِينَ إِلَى الْبِعْثَةِ، وَالرَّحِيمُ الْكَرِيمُ(11/330)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
قَادِرًا عَلَى الْبِعْثَةِ وَجَبَ فِي كَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَبْعَثَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْإِشَارَةُ إِلَى الدَّلَالَةِ التي قررناها.
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاتِّصَالِ هُوَ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وَاوُ عَطْفٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: 12] كَأَنَّهُ قِيلَ: أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ وَذَكَّرَهُمْ مُوسَى نِعَمَ اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ بِمُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ فَخَالَفُوا فِي الْقَوْلِ فِي الْمِيثَاقِ، وَخَالَفُوهُ فِي مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْهِمْ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ فِي أُمَّةٍ مَا بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ/ فَانْطَلَقُوا مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَيْضًا كَانُوا مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ بِالِاتِّفَاقِ كَانُوا مِنْ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَوْلَادُ يَعْقُوبَ أَيْضًا كَانُوا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَنْبِيَاءَ، واللَّه تَعَالَى أَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ إِلَّا مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، فَهَذَا الشَّرَفُ حَصَلَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِالَّذِينِ كَانُوا حَاضِرِينَ مَعَ مُوسَى، وَبِالَّذِينِ أَخْبَرَ اللَّه مُوسَى أَنَّهُ سَيَبْعَثُهُمْ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي وَجَعَلَكُمْ أَحْرَارًا تَمْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ مَا كُنْتُمْ فِي أَيْدِي الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا، وَلَا يَغْلِبُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ غَالِبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَنَبِيًّا كَانَ مَلِكًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَمْرَ أُمَّتِهِ وَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمْ، وَكَانَ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَلِكًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 54] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ كَانَ فِي أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ مُلُوكٌ وَعُظَمَاءُ، وَقَدْ يُقَالُ فِيمَنْ حَصَلَ فِيهِمْ مُلُوكٌ: أَنْتُمْ مُلُوكٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فِي مَصَالِحِهِ إِلَى أَحَدٍ فَهُوَ مَلِكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلِكُ مَنْ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاسِعَةً وَفِيهَا مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَخَدَمٌ يَقُومُونَ بِأَمْرِهِمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَلِكًا.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ النِّعَمِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ آتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِأَنْوَاعٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْإِكْرَامِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الْبَحْرَ لَهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمُ الْمِيَاهَ الْعَذْبَةَ مِنَ الْحَجَرِ، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَظَلَّ فَوْقَهُمُ الْغَمَامَ، وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لِقَوْمٍ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ كَمَا جُمِعَ لَهُمْ، وَسَابِعُهَا: أَنَّهُمْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَانُوا هُمُ الْعُلَمَاءُ باللَّه وَهُمْ أَحْبَابُ اللَّه وَأَنْصَارُ دِينِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَّرَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَشَرَحَهَا لَهُمْ أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بمجاهدة العدو فقال:
[سورة المائدة (5) : آية 21]
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
فِيهِ مَسَائِلُ:(11/331)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا صَعِدَ جَبَلَ لُبْنَانَ قَالَ لَهُ اللَّه تَعَالَى: انْظُرْ فَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهُوَ مُقَدَّسٌ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِذُرِّيَّتِكَ.
وَقِيلَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مِصْرَ وَعَدَهُمُ اللَّه تَعَالَى إِسْكَانَ أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُسَمُّونَ أَرْضَ الشَّامِ أَرْضَ الْمَوَاعِيدِ، ثُمَّ بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنَ الْأُمَنَاءِ لِيَتَجَسَّسُوا لَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَرَاضِي، / فَلَمَّا دَخَلُوا تِلْكَ الْبِلَادَ رَأَوْا أَجْسَامًا عَظِيمَةً هَائِلَةً. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّقَبَاءَ لِأَجْلِ التَّجَسُّسِ رَآهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْجَبَّارِينَ فَأَخَذَهُمْ وَجَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ مَعَ فَاكِهَةٍ كَانَ قَدْ حَمَلَهَا مِنْ بُسْتَانِهِ وَأَتَى بِهِمُ الْمَلِكَ، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ مُتَعَجِّبًا لِلْمَلِكِ:
هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَخْبِرُوهُ بِمَا شَاهَدْتُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ أُولَئِكَ النُّقَبَاءُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرُوهُ بِالْوَاقِعَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا مَا عَاهَدُوهُ فَلَمْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، إِلَّا رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالِبُ بْنُ يُوفِنَا، فَإِنَّهُمَا سَهَّلَا الْأَمْرَ وَقَالَا: هِيَ بِلَادٌ طَيِّبَةٌ كَثِيرَةُ النِّعَمِ، وَالْأَقْوَامُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْسَادُهُمْ عَظِيمَةً إِلَّا أَنَّ قُلُوبَهُمْ ضَعِيفَةٌ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ فَقَدْ أَوْقَعُوا الْجُبْنَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى أَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ مِنْ غَزْوِهِمْ، فَقَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [الْمَائِدَةِ: 24] فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ فَعَاقَبَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ أَبْقَاهُمْ فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالُوا: وَكَانَتْ مُدَّةُ غَيْبَةِ النُّقَبَاءِ لِلتَّجَسُّسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعُوقِبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ فِي التِّيهِ، وَأُهْلِكَ النُّقَبَاءُ الْعَشَرَةُ فِي التِّيهِ بِعُقُوبَاتٍ غَلِيظَةٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَاتَا أَيْضًا فِي التِّيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقِيَ وَخَرَجَ مَعَهُ يُوشَعُ وَكَالِبُ وَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَغَلَبُوهُمْ وَدَخَلُوا تِلْكَ الْبِلَادَ، فَهَذِهِ هِيَ الْقِصَّةُ واللَّه أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الْأُمُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُطَهَّرَةُ طُهِّرَتْ مِنَ الْآفَاتِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: طُهِّرَتْ مِنَ الشِّرْكِ وَجُعِلَتْ مَسْكَنًا وَقَرَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ لَمَّا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مَا كَانَتْ مُقَدَّسَةً عَنِ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَتْ مَقَرًّا لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِيمَا قَبْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَرِيحَا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِ، وَقِيلَ الطُّورُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا لَكُمْ وَثَانِيهَا:
وَهَبَهَا اللَّه لَكُمْ، وَثَالِثُهَا: أَمَرَكُمْ بِدُخُولِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثُمَّ قَالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 26] .
وَالْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ هِبَةً ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخُصُوصُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَرَامٌ عَلَى بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مَشْرُوطٌ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ لَا جَرَمَ لَمْ يُوجَدِ الْمَشْرُوطُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَى الْأَرْبَعُونَ حَصَلَ مَا كَتَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ وَإِنْ كَانُوا جَبَّارِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّه(11/332)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِصِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمُوا قَطْعًا أَنَّ اللَّه يَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَيُسَلِّطُهُمْ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقْدِمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ جُبْنٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا هَلَعٍ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَرْجِعُوا عَنِ الدِّينِ الصَّحِيحِ إِلَى الشَّكِّ فِي نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ كَانَ هَذَا وَعْدًا بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَقْطَعُوا بِهَذِهِ النُّصْرَةِ صَارُوا شَاكِّينَ فِي صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَصِيرُوا كَافِرِينَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا تَرْجِعُوا عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِهَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي خَرَجْتُمْ عَنْهَا.
يُرْوَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مِصْرَ،
وَقَوْلُهُ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: خَاسِرِينَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَفُوتُكُمُ الثَّوَابُ وَيَلْحَقُكُمُ الْعِقَابُ، وَثَانِيهَا: تَرْجِعُونَ إِلَى الذُّلِّ، وَثَالِثُهَا: تَمُوتُونَ فِي التِّيهِ وَلَا تَصِلُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مطالب الدنيا ومنافع الآخرة.
[سورة المائدة (5) : آية 22]
قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَفِي تَفْسِيرِ الْجَبَّارِينَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
الْجَبَّارُ فَعَّالٌ مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَاتِي الَّذِي يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ فَعَّالًا مِنْ أَفْعَلَ إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ وَهُمَا: جَبَّارٌ مِنْ أَجْبَرَ، وَدَرَّاكٌ مِنْ أَدْرَكَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةً مُرْتَفِعَةً لَا تَصِلُ الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ وَالْقَوْمُ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَعِظَمِ الْأَجْسَامِ بِحَيْثُ كَانَتْ أَيْدِي قَوْمِ مُوسَى مَا كَانَتْ تَصِلُ إِلَيْهِمْ، فَسَمَّوْهُمْ جَبَّارِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى.
ثُمَّ قَالَ الْقَوْمُ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَافِ: 40] .
ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يوفنا، وكانوا مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّه وَأَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمَا بِالْهِدَايَةِ وَالثِّقَةِ بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِمَادِ عَلَى نُصْرَةِ اللَّه. قَالَ الْقَفَّالُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمُ الْجَبَّارُونَ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْهُمْ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ فَآمَنَا، وَقَالَا هَذَا الْقَوْلَ لِقَوْمِ مُوسَى تَشْجِيعًا لَهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُخَافُونَ بِالضَّمِّ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْوَجْهِ.(11/333)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ رَجُلانِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ فِي الْبَيْنِ يُؤَكِّدُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَتَى دَخَلْتُمْ بَابَ بَلَدِهِمُ انْهَزَمُوا وَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ نَافِخُ نَارٍ وَلَا سَاكِنُ دَارٍ، فَلَا تَخَافُوهُمْ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّمَا جَزَمَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي قَوْلِهِمَا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لِأَنَّهُمَا كَانَا جَازِمَيْنِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّه قَالَ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَةِ: 21] لَا جَرَمَ قَطَعَا بِأَنَّ النُّصْرَةَ لَهُمْ وَالْغَلَبَةَ حَاصِلَةٌ فِي جَانِبِهِمْ، وَلِذَلِكَ خَتَمُوا كَلَامَهُمْ بِقَوْلِهِمْ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَعْنِي لَمَّا وَعَدَكُمُ اللَّه تَعَالَى النَّصْرَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَصِيرُوا خَائِفِينَ مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهِمْ وَعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ، بَلْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّه فِي حُصُولِ هَذَا النَّصْرِ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ وَمُؤْمِنِينَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السلام.
ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 24]
قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
وَفِي قَوْلِهِ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُجَسِّمَةً، وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ الذَّهَابَ وَالْمَجِيءَ عَلَى اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الذَّهَابِ بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ فَذَهَبَ يُجِيبُنِي، يَعْنِي يُرِيدُ أَنْ يُجِيبَنِي، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كُنْ أَنْتَ وَرَبُّكَ مُرِيدَيْنِ لِقِتَالِهِمْ، / وَالثَّالِثُ: التَّقْدِيرُ: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فَأَضْمَرَ خَبَرَ الِابْتِدَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَضْمَرْنَا الْخَبَرَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ قَوْلُهُ فَقاتِلا خَبَرًا أَيْضًا؟
قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَرَبُّكَ أَخُوهُ هَارُونُ، وَسَمَّوْهُ رَبًّا لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَوْلُهُمْ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إِنْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الذَّهَابِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَرُّدِ عَنِ الطَّاعَةِ فَهُوَ فِسْقٌ، وَلَقَدْ فَسَقُوا بِهَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 26] وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَرْحُ خِلَافِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَشِدَّةِ بُغْضِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ فِي الْمُنَازَعَةِ مَعَ أَنْبِيَاءِ اللَّه تَعَالَى منذ كانوا.
[سورة المائدة (5) : آية 25]
قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ وَأَخِي وَجْهَيْنِ: الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلَى مَوْضِعِ إِنِّي وَالْمَعْنَى أَنَا لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَأَخِي كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَةِ: 3] وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَمْلِكُ وَهُوَ «أَنَا» وَالْمَعْنَى: لَا أَمْلِكُ أَنَا وَأَخِي إِلَّا أَنْفُسَنَا، وَأَمَّا النَّصْبُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَسَقًا عَلَى الْيَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي وَأَخِي لَا(11/334)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
نَمْلِكُ إِلَّا أَنْفُسَنَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخِي مَعْطُوفًا عَلَى نَفْسِي فَيَكُونَ الْمَعْنَى لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَلَا أَمْلِكُ إِلَّا أَخِي، لِأَنَّ أَخَاهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا لَهُ فَهُوَ مَالِكُ طَاعَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، وَكَانَ مَعَهُ الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ؟
قُلْنَا: كَأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الْوُثُوقِ لِمَا رَأَى مِنْ إِطْبَاقِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلًا لِمَنْ يُوَافِقُهُ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَخِ مَنْ يُوَاخِيهِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَأَخِي.
ثُمَّ قَالَ: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يَعْنِي فَافْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ تَحْكُمَ لَنَا بِمَا نَسْتَحِقُّ وَتَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلِّصْنَا مِنْ صُحْبَتِهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 21] .
ثم أنه تعالى قال:
[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ فَإِنَّها أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِالتَّحْرِيمِ، أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ فَتَحَ اللَّه تَعَالَى تِلْكَ الْأَرْضَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ مُحَارَبَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَيْ بَقُوا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ وَمَاتُوا، ثُمَّ إِنَّ أَوْلَادَهُمْ دَخَلُوا تِلْكَ الْبَلْدَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْقَوْمِ فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَةِ: 25] لَمْ يَقْصِدْ بِدُعَائِهِ هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْعَذَابِ، بَلْ أَخَفَّ مِنْهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالتِّيهِ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْزَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَعَزَّاهُ وَهَوَّنَ أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ أَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَحْوَالِ التِّيهِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ دَعَوْتَ عَلَيْنَا وَنَدِمَ مُوسَى عَلَى مَا عمل، فأوحى اللَّه تعالى إليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَزَلْ شَأْنُهُمُ الْمَعَاصِيَ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ هَلْ بَقِيَا فِي التِّيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَوْمٌ:
إِنَّهُمَا مَا كَانَا فِي التِّيهِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا اللَّه يَفْرُقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَدَعَوَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجَابَةٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التِّيهَ كَانَ عَذَابًا وَالْأَنْبِيَاءُ لَا يُعَذَّبُونَ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا عُذِّبُوا بِسَبَبِ أَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَمُوسَى وَهَارُونُ مَا كَانَا كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَعَ أُولَئِكَ الْفَاسِقِينَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمَا كَانَا مَعَ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ التِّيهِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ الْعَذَابَ كَمَا سَهَّلَ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ(11/335)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمَا هَلْ مَاتَا فِي التِّيهِ أَوْ خَرَجَا مِنْهُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَارُونَ مَاتَ فِي التِّيهِ ثُمَّ مَاتَ مُوسَى بَعْدَهُ بِسَنَةٍ، وَبَقِيَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَانَ ابْنَ أُخْتِ مُوسَى وَوَصِيَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ الشَّأْمَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَقِيَ مُوسَى بَعْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنَ التِّيهِ وَحَارَبَ الْجَبَّارِينَ وَقَهَرَهُمْ وَأَخَذَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمُ تَعَبُّدٍ، / وَقِيلَ: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَمْكُثُوا فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلِيَّةِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي التِّيهِ فَقَالَ الرَّبِيعُ: مِقْدَارُ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ: تِسْعَةُ فَرَاسِخَ فِي ثَلَاثِينَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ: سِتَّةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقِيلَ: كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ بَقَاءُ هَذَا الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي هَذَا الْقَدْرِ الصَّغِيرِ مِنَ الْمَفَازَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً بِحَيْثُ لَا يَتَّفِقُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَجِدَ طَرِيقًا إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَلَوْ أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَعْيُنَهُمْ عَلَى حَرَكَةِ الشَّمْسِ أَوِ الْكَوَاكِبِ لَخَرَجُوا مِنْهَا وَلَوْ كَانُوا فِي الْبَحْرِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ فِي الْمَفَازَةِ الصَّغِيرَةِ؟
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ انْخِرَاقَ الْعَادَاتِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، إِذْ لَوْ فَتَحْنَا بَابَ الِاسْتِبْعَادِ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي جَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. الثَّانِي: إِذَا فَسَّرْنَا ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِتَحْرِيمِ التَّعَبُّدِ فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْمُكْثِ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالْمِحْنَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ تَيْهًا وَتِيهًا وَتَوْهًا، وَالتِّيهُ أَعَمُّهَا، وَالتَّيْهَاءُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا، وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَكَانَتْ حَرَكَتُهُمْ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدَارَةِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّهُمْ إِذَا وَضَعُوا أَعْيُنَهُمْ عَلَى مَسِيرِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَنْعَطِفُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَخْرُجُوا عَنِ الْمَفَازَةِ، بَلِ الْأَوْلَى حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّعَبُّدِ عَلَى مَا قررناه واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال فيما تقدم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الْمَائِدَةِ: 11] فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ/ الْأَعْدَاءَ يُرِيدُونَ إِيقَاعَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ بِهِمْ لَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُمْ بِفَضْلِهِ وَيَمْنَعُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ إِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّسْلِيَةِ وَتَخْفِيفِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى الْقَلْبِ ذَكَرَ قِصَصًا كَثِيرَةً فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّه تَعَالَى بِالنِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ والدنيا فإن الناس ينازعون حَسَدًا وَبَغْيًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا قِصَّةَ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَأَخْذِ اللَّه تَعَالَى الْمِيثَاقَ مِنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ نَقَضُوا ذَلِكَ الْمِيثَاقَ حَتَّى وَقَعُوا فِي اللَّعْنِ وَالْقَسَاوَةِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ شِدَّةَ إِصْرَارِ(11/336)
النَّصَارَى عَلَى كُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ بَعْدَ ظُهُورِ الدلائل القاطعة لهم عَلَى فَسَادِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِحَسَدِهِمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا آتَاهُ اللَّه مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ قِصَّةَ مُوسَى فِي مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ وَإِصْرَارِ قَوْمِهِ عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ بعده قصة ابني آدم وأن أَحَدَهُمَا قَتَلَ الْآخَرَ حَسَدًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَبِلَ قُرْبَانَهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَلَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّه عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ النِّعَمِ لَا جَرَمَ لَمْ يَبْعُدِ اتِّفَاقُ الْأَعْدَاءِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ أَنْوَاعِ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَصِ تَسْلِيَةً مِنَ اللَّه تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَمَّ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَمْكُرُوا بِهِ وَأَنْ يُوقِعُوا بِهِ آفَةً وَمِحْنَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الْمَائِدَةِ: 15] وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَكَيْفِيَّةُ إِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَيْهَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْرَاةِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ قِصَّةُ مُحَارَبَةِ الْجَبَّارِينَ، أَيِ اذْكُرْ لِلْيَهُودِ حَدِيثَ ابْنَيْ آدَمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ فِي النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَ مِثْلَ سَبِيلِ ابْنَيْ آدَمَ فِي إِقْدَامِ أَحَدِهِمَا عَلَى قَتْلِ الْآخَرِ.
وَالرَّابِعُ: قِيلَ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَوْنُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كُفْرِهِمْ كَمَا لَمْ يَنْتَفِعْ وَلَدُ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ بِكَوْنِ أَبِيهِ نَبِيًّا مُعَظَّمًا عِنْدَ اللَّه تَعَالَى. الْخَامِسُ: لَمَّا كَفَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا أَخْبَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِخَبَرِ ابْنِ آدَمَ وَأَنَّ الْحَسَدَ أَوْقَعَهُ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنِ الْحَسَدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَاتْلُ عَلَى النَّاسِ. وَالثَّانِي: وَاتْلُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ ابْنَيْ آدَمَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَهُمَا هَابِيلُ وَقَابِيلُ. وَفِي سَبَبِ وُقُوعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَابِيلَ كَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَقَابِيلَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَانًا، فَطَلَبَ هَابِيلُ أَحْسَنَ شَاةٍ كَانَتْ فِي غَنَمِهِ وَجَعَلَهَا قُرْبَانًا، وَطَلَبَ قَابِيلُ شَرَّ حِنْطَةٍ فِي زَرْعِهِ فَجَعَلَهَا قُرْبَانًا، ثُمَّ تَقَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقُرْبَانِهِ إِلَى اللَّه فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ تَحْمِلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَبِلَ قُرْبَانَ أَخِيهِ/ وَلَمْ يَقْبَلْ قُرْبَانَهُ فَحَسَدَهُ وَقَصَدَ قَتْلَهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا
رُوِيَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ غُلَامٌ وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام مِنْ بَطْنٍ آخَرَ، فَوُلِدَ لَهُ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ، وَبَعْدَهُمَا هَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ، وَكَانَتْ تَوْأَمَةُ قَابِيلَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، فَأَرَادَ آدَمُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ هَابِيلَ، فَأَبَى قَابِيلُ ذَلِكَ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهُوَ أَحَقُّ بِأُخْتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيُكَ، فَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمَا:
قَرِّبَا قُرْبَانًا، فَأَيُّكُمَا قُبِلَ قُرْبَانُهُ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ، فَقَبِلَ اللَّه تَعَالَى قُرْبَانَ هَابِيلَ بِأَنْ أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى قُرْبَانِهِ نَارًا، فَقَتَلَهُ قَابِيلُ حَسَدًا لَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا مَا كَانَا ابْنَيْ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَإِنَّمَا كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْقِصَّةِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] إِذْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ صُدُورَ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَّا لَمَّا أَقْدَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَمْكَنَ جَعْلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْقَصَاصِ عَلَيْهِمْ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الذَّنْبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيَانُ إِصْرَارِ الْيَهُودِ أَبَدًا من(11/337)
قَدِيمِ الدَّهْرِ عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْحَسَدِ حَتَّى بَلَغَ بِهِمْ شِدَّةُ الْحَسَدِ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا قَبِلَ اللَّه قُرْبَانَهُ حَسَدَهُ الْآخَرُ وَأَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا رُتْبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَسَدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ أَنَّ قُرْبَانَ صَاحِبِهِ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَذَلِكَ مِمَّا يَدْعُوهُ إِلَى حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتَلَهُ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَ فِي الْحَسَدِ إِلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيَانَ أَنَّ الْحَسَدَ دَأْبٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: هَذَانِ الرَّجُلَانِ كَانَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ، وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ جَهِلَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَقْتُولِ حَتَّى تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْغُرَابِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَهُوَ الْحَقُّ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ بِالْحَقِّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِالْحَقِّ، أَيْ تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ وَالصِّحَّةِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَيْ تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. الثَّالِثُ: بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ وَهُوَ تَقْبِيحُ الْحَسَدِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَحْسُدُونَ رَسُولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبيعون عليه. الرابع:
بالحق، أي ليعتبرون به لا يحملوه عَلَى اللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقَاصِيصِ التي لا فائدة فيها، وإنما في لَهْوُ الْحَدِيثِ، وَهَذَا/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذِّكْرِ مِنَ الْأَقَاصِيصِ وَالْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ لَا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يُوسُفَ: 111] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذْ: نُصِبَ بِمَاذَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ بِالنَّبَأِ، أَيْ قِصَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. الثَّانِي:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ النَّبَأِ أَيْ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبَأِ نَبَأَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْبَانُ: اسْمٌ لِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَبِيحَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً قَرَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَانًا إِلَّا أَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي الْفِعْلِ وَأَفْرَدَ الِاسْمَ، لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِمَا عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ قُرْبَانًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْقُرْبَانَ اسْمُ جِنْسٍ فَهُوَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، وَأَيْضًا فَالْقُرْبَانُ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالْعُدْوَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: كَانَتْ عَلَامَةُ الْقَبُولِ أَنْ تَأْكُلَهُ النَّارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَامَةُ الرَّدِّ أَنْ تَأْكُلَهُ النَّارُ، وَالْأَوَّلُ أولى لا تفاق أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقِيرٌ يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَكَانَتِ النَّارُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا صَارَ أَحَدُ الْقُرْبَانَيْنِ مَقْبُولًا وَالْآخَرُ مَرْدُودًا لِأَنَّ حُصُولَ التَّقْوَى شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى هاهنا حِكَايَةً عَنِ الْمُحِقِّ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَقَالَ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ مِنَ الْقُرْبَانِ بِالْبُدْنِ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ [الْحَجِّ: 37] فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَضْرَةِ اللَّه لَيْسَ إِلَّا التَّقْوَى وَالتَّقْوَى مِنْ صِفَاتِ الْقُلُوبِ
قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «التقوى هاهنا»
وَأَشَارَ إِلَى الْقَلْبِ،(11/338)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
وَحَقِيقَةُ التَّقْوَى أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى خَوْفٍ وَوَجَلٍ مِنْ تَقْصِيرِ نَفْسِهِ فِي تِلْكَ الطَّاعَةِ فَيَتَّقِيَ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَنْ جِهَاتِ التَّقْصِيرِ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الِاتِّقَاءِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الطَّاعَةِ لِغَرَضٍ سِوَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَتَّقِيَ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّه فِيهِ شَرِكَةٌ، وَمَا أَصْعَبَ رِعَايَةَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ! وَقِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:
إِنَّ أَحَدَهُمَا جَعَلَ قُرْبَانَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ مَعَهُ، وَالْآخَرَ جَعَلَ قُرْبَانَهُ أَرْدَأَ مَا كَانَ مَعَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَضْمَرَ أَنَّهُ لَا يُبَالِي سَوَاءً قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ وَلَا يُزَوِّجُ أُخْتَهُ مِنْ هَابِيلَ. وَقِيلَ: كَانَ قَابِيلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّه قُرْبَانَهُ.
ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ قَابِيلَ أَنَّهُ قَالَ لِهَابِيلَ لَأَقْتُلَنَّكَ فَقَالَ هَابِيلُ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّ هَابِيلَ قَالَ: لِمَ تَقْتُلُنِي؟ قَالَ لِأَنَّ قُرْبَانَكَ صَارَ مَقْبُولًا، فَقَالَ هَابِيلُ: وَمَا ذَنْبِي؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْقِصَّةِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ قُرْبَانَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْأَخِ الْمَظْلُومِ أَنَّهُ قَالَ:
[سورة المائدة (5) : آية 28]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)
السؤال الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَدْفَعِ الْقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الدَّفْعَ عَنِ النَّفْسِ وَاجِبٌ؟ وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلِمَ قَالَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الأول: يحتمل أن يقال: لا ح لِلْمَقْتُولِ بِأَمَارَاتٍ تَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ، يَعْنِي أَنَا لَا أُجَوِّزُ مِنْ نَفْسِي أَنْ أَبْدَأَكَ بِالْقَتْلِ الظُّلْمِ الْعُدْوَانِ، وَإِنَّمَا لَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ هَذَا الْكَلَامَ قَبْلَ إِقْدَامِ الْقَاتِلِ عَلَى قَتْلِهِ وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ تَقْبِيحَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَلْبِهِ، وَلِهَذَا يُرْوَى أَنَّ قَابِيلَ صَبَرَ حَتَّى نَامَ هَابِيلُ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ فَقَتَلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ يَعْنِي لَا أَبْسُطُ يَدِيَ إِلَيْكَ لِغَرَضِ قَتْلِكَ، وَإِنَّمَا أَبْسُطُ يَدِيَ إِلَيْكَ لِغَرَضِ الدَّفْعِ. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الدَّافِعُ عَنْ نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ الدَّفْعَ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِالْقَتْلِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَهَكَذَا فَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: «أَلْقِ كُمَّكَ عَلَى وَجْهِكَ وَكُنْ عَبْدَ اللَّه الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّه الْقَاتِلَ» .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وُجُوبُ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ أَمْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الدَّفْعَ عَنِ النَّفْسِ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ جَاءَ الشَّرْطُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ، وَالْجَزَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ.(11/339)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
وَالْجَوَابُ: لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّنِيعَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِالْبَاءِ المؤكد للنفي. ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 29]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَبُوءَ الْقَاتِلُ بِإِثْمِ الْمَقْتُولِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
[فَاطِرٍ: 18] .
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: مَعْنَاهُ تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، وَهَذَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَى اللَّه بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك.
السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي اللَّه تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي اللَّه، فَلِمَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا دَارَ بَيْنَهُمَا عند ما غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَقْتُولِ أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِقْدَامِ الْقَاتِلِ عَلَى إِيقَاعِ الْقَتْلِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ قَالَ لَهُ: وَإِنْ كُنْتَ لَا تَنْزَجِرُ عَنْ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَرَصَّدَ قَتْلِي فِي وَقْتٍ أَكُونُ غَافِلًا عَنْكَ وَعَاجِزًا عَنْ دَفْعِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَدْفَعَكَ عَنْ قَتْلِي إِلَّا إِذَا قَتَلْتُكَ ابْتِدَاءً بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَهَذَا مِنِّي كَبِيرَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَنَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ لَكَ لَا لِي، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِرَادَةَ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ لَا يَكُونُ حَرَامًا، بَلْ هُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ وَمَحْضُ الْإِخْلَاصِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعُقُوبَةِ قَتْلِي، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يُرِيدَ مِنَ اللَّه عِقَابَ ظَالِمِهِ، وَالثَّالِثُ:
رُوِيَ أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا لَمْ يَجِدْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يُرْضِي خَصْمَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ وَحُمِلَ عَلَى الظَّالِمِ،
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أن يقال: إني أريد أن تبوأ بِإِثْمِي فِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا لَمْ تَجِدْ مَا يُرْضِينِي، وَبِإِثْمِكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّايَ، وَهَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ الأول واللَّه أعلم، ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَهَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ شَجَّعَتْهُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ كَوْنَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يَصِيرُ صَارِفًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ كَالشَّيْءِ الْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُطِيعُهُ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، فَإِذَا أَوْرَدَتِ النَّفْسُ أَنْوَاعَ وَسَاوِسِهَا صَارَ هَذَا الْفِعْلُ سَهْلًا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ النَّفْسَ جَعَلَتْ بِوَسَاوِسِهَا الْعَجِيبَةِ هَذَا الْفِعْلَ كَالْمُطِيعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَالْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ.
فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ خَالِقُ الْكُلِّ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ التَّزْيِينُ وَالتَّطْوِيعُ مُضَافًا إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى النَّفْسِ.(11/340)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَتِ الْأَفْعَالُ إِلَى الدَّوَاعِي، وَكَانَ فَاعِلُ تِلْكَ الدَّوَاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَتَلَهُ قِيلَ: لَمْ يَدْرِ قَابِيلُ كَيْفَ يَقْتُلُ هَابِيلَ، فَظَهَرَ لَهُ إِبْلِيسُ وَأَخَذَ طَيْرًا وَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ، فَتَعَلَّمَ قَابِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ هَابِيلَ نَائِمًا يَوْمًا فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا»
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، أَمَّا الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ وَبَقِيَ مَذْمُومًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهُوَ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ. قِيلَ: إِنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَرَبَ إِلَى عَدَنَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ وَقَالَ: إِنَّمَا أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدُمُ النَّارَ وَيَعْبُدُهَا، فَإِنْ عَبَدْتَ النَّارَ أَيْضًا حَصَلَ مَقْصُودُكَ، فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَبَدَ النَّارَ.
وَرُوِيَ أَنَّ هَابِيلَ قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ عِنْدَ عُقْبَةِ حِرَاءٍ،
وَقِيلَ بِالْبَصْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وَكَانَ أَبْيَضَ، فَسَأَلَهُ آدَمُ عَنْ أَخِيهِ، فَقَالَ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، فَقَالَ بَلْ قَتَلْتَهُ، وَلِذَلِكَ اسْوَدَّ جَسَدُكَ، وَمَكَثَ آدَمُ بَعْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ قَطُّ.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُرْوَى أَنَّهُ رَثَاهُ بِشِعْرٍ.
قَالَ وَهُوَ كَذِبٌ بَحْتٌ، وَمَا الشِّعْرُ إِلَّا مَنْحُولٌ مَلْحُونٌ، وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ عَنِ الشِّعْرِ، وَصَدَقَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيمَا قَالَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الشِّعْرَ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ لَا يَلِيقُ بِالْحَمْقَى مِنَ الْمُعَلِّمِينَ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى مَنْ جَعَلَ اللَّه عِلْمَهُ حُجَّةً على الملائكة ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
[في قوله تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ: لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، ثُمَّ خَافَ عَلَيْهِ السِّبَاعَ فَحَمَلَهُ فِي جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتَّى تَغَيَّرَ فَبَعَثَ اللَّه غُرَابًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بَعَثَ اللَّه غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ، فَتَعَلَّمَ قَابِيلُ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَصَمُّ: لَمَّا قَتَلَهُ وَتَرَكَهُ بَعَثَ اللَّه غُرَابًا يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ أَنَّ اللَّه كَيْفَ يُكْرِمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ نَدِمَ وَقَالَ: يَا وَيْلَتَى. الثَّالِثُ:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: عَادَةُ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا فَتَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِيُرِيَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لِيُرِيَهُ اللَّه أَوْ لِيُرِيَهُ الْغُرَابُ، أَيْ لِيُعَلِّمَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُ تَعَلُّمِهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: سَوْأَةَ أَخِيهِ عَوْرَةَ أَخِيهِ، وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكَشِفَ مِنْ جَسَدِهِ، وَالسَّوْأَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا. وَقِيلَ سَوْأَةَ أَخِيهِ، أَيْ جِيفَةَ أَخِيهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:(11/341)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
المسألة الأولى: لا شك أن قوله يا وَيْلَتى كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ، وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ كَيْفَ يُدْفَنُ الْمَقْتُولُ، فَلَمَّا تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنَ الْغُرَابِ عَلِمَ أَنَّ الْغُرَابَ أَكْثَرُ عِلْمًا مِنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَنَدِمَ وَتَلَهَّفَ وَتَحَسَّرَ عَلَى فِعْلِهِ. الثَّانِي: أنه كان عالما منه بِكَيْفِيَّةِ دَفْنِهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ فِي الْإِنْسَانِ أَنْ لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، وَلَمَّا رَأَى الْغُرَابَ يَدْفِنُ الْغُرَابَ الْآخَرَ رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب، وقيل: إن هذا الْغُرَابَ جَاءَ وَكَانَ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى الْمَقْتُولِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ حَالَ حَيَاتِهِ بِقَبُولِ قُرْبَانِهِ. وَأَكْرَمَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِأَنْ بَعَثَ هَذَا الْغُرَابَ لِيَدْفِنَهُ تَحْتَ الْأَرْضِ عَلِمَ أَنَّهُ عَظِيمُ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّه/ فَتَلَهَّفَ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى أَخِيهِ إِلَّا بِأَنْ يَدْفِنَهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ يا وَيْلَتى اعْتِرَافٌ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ وُقُوعِ الدَّاهِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَفْظُهَا لَفْظُ النداء، كأن الْوَيْلَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَهُ فَنَادَاهُ لِيَحْضُرَهُ، أَيْ أَيُّهَا الْوَيْلُ احْضُرْ، فَهَذَا أَوَانُ حُضُورِكَ، وَذِكْرُ (يا) زيادة بيان كما في قوله يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هُودٍ: 72] واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ النَّدَمِ وُضِعَ لِلُّزُومِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّدِيمُ نَدِيمًا لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْمَجْلِسَ. وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»
فَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِمِينَ كَانَ مِنَ التَّائِبِينَ فَلِمَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؟
أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمِ الدَّفْنَ إِلَّا مِنَ الْغُرَابِ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَارَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وَإِخْوَتُهُ، فَكَانَ نَدَمُهُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَدَمَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فلما رأى أن الْغُرَابَ دَفَنَهُ نَدِمَ عَلَى قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَقَالَ: هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي وَلَحْمُهُ مُخْتَلِطٌ بِلَحْمِي وَدَمُهُ مُخْتَلِطٌ بِدَمِي، فَإِذَا ظَهَرَتِ الشَّفَقَةُ مِنَ الْغُرَابِ عَلَى الْغُرَابِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنِّي عَلَى أَخِي كَنْتُ دُونَ الْغُرَابِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ نَدَمُهُ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، لَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذلك الندم ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ بِسَبَبِ فِعْلَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ سؤالان: الأول: أن قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَيْ مِنْ أَجْلِ مَا مَرَّ مِنْ قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَصَاصَ، وَذَاكَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ وَاقِعَةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ وَبَيْنَ وُجُوبِ الْقَصَاصِ عَلَى بَنِي(11/342)
إِسْرَائِيلَ. الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْقَتْلُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ وَقَعَ بَيْنَ وَلَدَيْ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ لَيْسَ إِشَارَةً إِلَى قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ الْحَرَامِ، مِنْهَا قَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ [المائدة: 30] ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31] فَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ خَسَارَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل في قَلْبِهِ أَنْوَاعُ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْحُزْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَفْعَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ شَرَّعْنَا الْقَصَاصَ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ واللَّه أَعْلَمُ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فالجواب عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَصَاصِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، إلا أن التشديد المذكور هاهنا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي جميع الأديان لأنه تعالى حكم هاهنا بِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ جَارٍ مَجْرَى قَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ منه المبالغة العظيمة فِي شَرْحِ عِقَابِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ الْيَهُودَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ أَقْدَمُوا عَلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ وَنِهَايَةِ بُعْدِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَكَابِرِ أَصْحَابِهِ، كَانَ تَخْصِيصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا لِلْكَلَامِ وَمُؤَكِّدًا لِلْمَقْصُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِحَذْفِ الهمزة وفتح النون لا لقاء حَرَكَتِهَا عَلَيْهَا وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ، فَإِذَا خَفَّفَ كَسَرَ النُّونَ مُلْقِيًا لِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى قَدْ تَكُونُ مُعَلَّلَةً بِالْعِلَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ كَتَبَةَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْمَعَانِي الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا قَالُوا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّه تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ فِيهِمْ مُرِيدًا وُقُوعَهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّ خَلْقَ الْقَبَائِحِ وَإِرَادَتَهَا تَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُرَاعِيًا لِلْمَصَالِحِ. وَذَلِكَ يُبْطِلُ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: الْقَوْلُ بِتَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْمَعْلُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً وَجَبَ تَعْلِيلُهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ فَوُجُودُ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى السَّوِيَّةِ فَأَحَدُهُمَا بِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُسْتَفِيدًا تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَيَكُونُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمِلًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَوَقُّفُ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَاعِي، وَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّسَلْسُلِ فِي الدَّوَاعِي، بَلْ يَجِبُ انْتِهَاؤُهَا إِلَى الدَّاعِيَةِ الْأُولَى الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْعَبْدِ لَا مِنَ الْعَبْدِ بَلْ مِنَ اللَّه، وَثَبَتَ أَنَّ عِنْدَ حُدُوثِ الدَّاعِيَةِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّه، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّه تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ(11/343)
المتشابهات لا من المحكمات، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 17] وَذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّه كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ خَلْقُهُ وَحُكْمُهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ نَفْسٍ وَالتَّقْدِيرُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ بِغَيْرِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَحِلُّ لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْقَصَاصُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وَمِنْهَا الْكُفْرُ مَعَ الْحِرَابِ، وَمِنْهَا الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: 33] فَجَمَعَ تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الخامسة: قوله فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فيه إِشْكَالٌ. وَهُوَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ كَيْفَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَتْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُسَاوِيًا لِلْكُلِّ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ بِسَبَبِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهًا مِنَ الْجَوَابِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ تَشْبِيهَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِمُشَابَهَتِهِمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا: هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ أَعَمُّ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا/ ظَهَرَتْ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَنَقُولُ: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ قَتْلِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَتْلَ كُلِّ الْخَلْقِ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدِ كُلِّ أَحَدٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ مُسْتَعْظَمًا مَهِيبًا فَالْمَقْصُودُ مُشَارَكَتُهُمَا فِي الِاسْتِعْظَامِ، لَا بَيَانُ مُشَارَكَتِهِمَا فِي مِقْدَارِ الِاسْتِعْظَامِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْظَمًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النِّسَاءِ: 93] .
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: هُوَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا مِنْ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَهُ دَفْعًا لَا يُمَكِّنُهُ تَحْصِيلَ مَقْصُودِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَتْلَ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جِدُّهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ فِي مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِثْلَ جِدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَقَدْ رَجَّحَ دَاعِيَةَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ عَلَى دَاعِيَةِ الطَّاعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ حَاصِلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَطَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَقَتَلَهُ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَيْرَاتِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي الشُّرُورِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَقْتُلْ إِنْسَانًا قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ حَسَنَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً الْمُرَادُ مِنْ إِحْيَاءِ النَّفْسِ تَخْلِيصُهَا عَنِ الْمُهْلِكَاتِ: مِثْلِ الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ عَلَى قِيَاسِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ قَتْلِ النُّفُوسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.(11/344)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
وَالْمَعْنَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، وَبَعْدَ مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ الْقَتْلِ لَمُسْرِفُونَ، يَعْنِي فِي الْقَتْلِ لا يبالون بعظمته.
[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى تَغْلِيظَ الْإِثْمِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ قَتْلِ نَفْسٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَتْبَعَهُ بِبَيَانِ أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْقَتْلَ مَا هُوَ، فَإِنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ فَقَالَ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَوَّلِ الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَعَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُمْكِنَةٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَالْمُحَارَبَةُ مَعَ الرُّسُلِ مُمْكِنَةٌ فَلَفْظَةُ الْمُحَارَبَةِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَى اللَّه تَعَالَى كَانَ مَجَازًا، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُحَارَبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه، وَإِذَا نُسِبَتْ إِلَى الرَّسُولِ كَانَتْ حَقِيقَةً، فَلَفْظُ يُحَارِبُونَ فِي قَوْلِهِ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ مَعًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، فَهَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ.
وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَحْمِلُ الْمُحَارَبَةَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَحْكَامَ اللَّه وَأَحْكَامَ رَسُولِهِ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا كَذَا وَكَذَا، وَالثَّانِي: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّه تَعَالَى وَأَوْلِيَاءَ رَسُولِهِ كَذَا وَكَذَا.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَذَا الْوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي فُسَّاقِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ عُرَيْنَةَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ مُظْهَرِينَ لِلْإِسْلَامِ، فَمَرِضَتْ أَبْدَانُهُمْ وَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَيَصِحُّوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَشَرِبُوا وَصَحُّوا قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ وَارْتَدُّوا، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ وَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتُرِكُوا هُنَاكَ حَتَّى مَاتُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخًا لِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَصَارَتْ تِلْكَ السُّنَّةُ مَنْسُوخَةً بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه لَمَّا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ كَانَ النَّاسِخُ لِتِلْكَ السُّنَّةِ سَنَةً أُخْرَى وَنَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ مُطَابِقًا لِلسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدْ عَاهَدَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَأَبُو بَرْزَةَ غَائِبٌ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ غَلَّظَ اللَّه عَلَيْهِمْ عِقَابَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَهُمْ مُسْرِفُونَ فِي الْقَتْلِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ أَتَى مِنْهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَجَزَاؤُهُمْ كَذَا وَكَذَا.(11/345)
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ/ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَطْعَ الْمُرْتَدِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُحَارَبَةِ وَلَا عَلَى إِظْهَارِ الْفَسَادِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَثَانِيهَا: لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي الْمُرْتَدِّ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ وَلَا عَلَى النَّفْيِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي سُقُوطَ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 34] وَالْمُرْتَدُّ يَسْقُطُ حَدُّهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَبَعْدَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمُرْتَدِّينَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الصَّلْبَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَهُوَ مشروع هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَةُ مُخْتَصَّةً بِالْمُرْتَدِّ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ لَكِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُحَارِبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَحْمِي بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَقْصِدُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْوَاحِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ لِأَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِنَّمَا يَمْتَازُ عَنِ السَّارِقِ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ إِذَا حَصَلَتْ فِي الصَّحْرَاءِ كَانُوا قَطَّاعَ الطَّرِيقِ، فَأَمَّا لَوْ حَصَلَتْ فِي نَفْسِ الْبَلْدَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ يَكُونُ أَيْضًا سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ. قَالَ: وَأَرَاهُمْ فِي الْمِصْرِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْظَمَ ذَنْبًا فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّه: إِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ فَعُمُومُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَلَدِ كَانَ لَا مَحَالَةَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذَا النَّصِّ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ هَذَا حَدٌّ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِ الْمِصْرِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فِي الْغَالِبِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ فَصَارَ فِي حُكْمِ السَّارِقِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ لِلْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ أَوْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِمَامَ إِنْ شَاءَ قَتَّلَ وَإِنْ شَاءَ صَلَّبَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَّعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، وَإِنْ شَاءَ نَفَى، أَيَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ شَاءَ فَعَلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في رواية عطاء: كلمة أَوْ هاهنا لَيْسَتْ لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ هِيَ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنَايَاتِ، فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَتْلِ قُتِّلَ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِّلَ/ وَصُلِّبَ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِّعَ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَمَنْ أَخَافَ السُّبُلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ لَوَجَبَ أَنْ يُمَكَّنَ الْإِمَامُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ، وَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ التَّخْيِيرَ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمُحَارِبَ إِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ فَقَدْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ كَالْعَزْمِ عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضْمِرَ فِي كُلِّ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ فِعْلًا عَلَى حِدَةٍ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا، أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ جَمَعُوا بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلِ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من(11/346)
خِلَافٍ إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِنْ أَخَافُوا السُّبُلَ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَصَارَ الْقَتْلُ حَتْمًا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَأَخْذُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ جَمَعَ فِي حَقِّهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الصَّلْبِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَصْلُوبًا فِي مَمَرِّ الطَّرِيقِ يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِهَارِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِغَيْرِهِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخَافَةِ اقْتَصَرَ الشَّرْعُ مِنْهُ عَلَى عُقُوبَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِيَ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَنْ يُقَتِّلَهُمْ فَقَطْ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ قَبْلَ الْقَتْلِ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُصَلِّبَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا بُدَّ مِنَ الصَّلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الصَّلْبِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الصَّلْبِ كَمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلْبِ، فَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُزَجُّ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقْتَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصْلَبُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ إِنْ وَجَدَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا حَتَّى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ فَعَلَ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ رَحِمَهُمَا اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ الْحَبْسُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ دَفْعُ شَرِّهِ/ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَخْرَجْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَاسْتَضَرَّ بِهِ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ تَعْرِيضٌ لَهُ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ نَفْيَهُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا مَكَانَ الْحَبْسِ. قَالُوا: وَالْمَحْبُوسُ قَدْ يُسَمَّى مَنْفِيًّا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَرَى أَحَدًا مِنْ أَحْبَابِهِ، فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَكَانَ كَالْمَنْفِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا حَبَسُوا صَالِحَ بْنَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَلَى تُهْمَةِ الزَّنْدَقَةِ فِي حَبْسٍ ضَيِّقٍ وَطَالَ لُبْثُهُ هناك ذَكَرَ شِعْرًا، مِنْهُ قَوْلُهُ:
خَرَجْنَا عَنِ الدُّنْيَا وعن وصل أهلها ... فلسنا من الأحياء وَلَسْنَا مِنَ الْمَوْتَى
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا النَّفْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا فَكَوْنُهُمْ خَائِفِينَ مِنَ الْإِمَامِ هَارِبِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ. الثَّانِي: الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْوَاقِعَةَ وَيُكْثِرُونَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَيُخِيفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَا قَتَلُوا وَمَا أَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طلبهم أبدا. فيقول الشافعي هاهنا: إِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُهُمْ وَيُعَزِّرُهُمْ وَيَحْبِسُهُمْ، فَالْمُرَادُ بِنَفْيِهِمْ عن الأرض(11/347)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
هُوَ هَذَا الْحَبْسُ لَا غَيْرَ، واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أَيْ فَضِيحَةٌ وَهَوَانٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُمْ قَدْ أَحْبَطَ ثَوَابَهُمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ، وَكَوْنُهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِلذَّمِّ فِي الْحَالِ يَمْنَعُ مِنْ بَقَاءِ اسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ، وَثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْإِحْبَاطِ.
وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدَّ إِنَّمَا يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى جِهَةِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِخْفَافِ/ إِذَا لَمْ تَحْصُلِ التَّوْبَةُ، فَأَمَّا عِنْدَ حُصُولِ التَّوْبَةِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدَّ لَا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِخْفَافِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الِامْتِحَانِ، فَإِذَا جَازَ لَكُمْ أَنْ تَشْتَرِطُوا هَذَا الْحُكْمَ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، فَنَحْنُ أَيْضًا نَشْرُطُ هَذَا الْحُكْمَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْعَفْوِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْكَلَامُ إِلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ دَلَّ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْفُو عَنِ الْفُسَّاقِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: 81] ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: لَمَّا شَرَحَ مَا يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ استثنى عنه ما إِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَضَبْطُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بَعْدَ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ إِنْ قَتَلُوا إِنْسَانًا ثُمَّ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ عَلَى حَقِّهِ فِي الْقَصَاصِ وَالْعَفْوِ، إِلَّا أَنَّهُ يَزُولُ حَتْمُ الْقَتْلِ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُهُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ كل حد للَّه بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ أَظْهَرَ تَوْبَتَهُ،
فَلَمَّا تَمَّمُوا رَجْمَهُ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ» .
أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ كُلَّ مَا يتعلق بحق اللَّه تعالى.
[سورة المائدة (5) : آية 35]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
[في قوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَهُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ هَمُّوا أَنْ يَبْسُطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْحَابِهِ بِالْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَمَنَعَهُمُ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُرَادِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ لِلرَّسُولِ شِدَّةَ عِتِيِّهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَكَمَالَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى إِيذَائِهِمْ، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَعِنْدَ هَذَا رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَقْصُودِ الأول وقال: يَا أَيُّهَا/ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ عَرَفْتُمْ كَمَالَ جَسَارَةِ الْيَهُودِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الطَّاعَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَسَائِلُ لِلْعَبْدِ(11/348)
إِلَى الرَّبِّ، فَكُونُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَكُونُوا مُتَّقِينَ عَنْ مَعَاصِي اللَّه، مُتَوَسِّلِينَ إِلَى اللَّه بِطَاعَاتِ اللَّه.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي النَّظْمِ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: 18] أَيْ نَحْنُ أَبْنَاءُ أَنْبِيَاءِ اللَّه، فَكَانَ افْتِخَارُهُمْ بِأَعْمَالِ آبَائِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ مُفَاخَرَتُكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ لَا بِشَرَفِ آبَائِكُمْ وَأَسْلَافِكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ التَّكْلِيفِ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَثَانِيهِمَا: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ مُقَدَّمًا عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِالذَّاتِ لَا جَرَمَ قَدَّمَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ التَّرْكَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَالْفِعْلُ هُوَ الْإِيقَاعُ وَالتَّحْصِيلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ جَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ سَابِقٌ عَلَى وُجُودِهَا، فَكَانَ التَّرْكُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ جُعِلَتِ الْوَسِيلَةُ مَخْصُوصَةً بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ تَرْكَ الْمَعَاصِي قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟
قُلْنَا: التَّرْكُ إِبْقَاءُ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَذَلِكَ الْعَدَمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا يُمْكِنُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً، بَلْ مَنْ دَعَاهُ دَاعِي الشَّهْوَةِ إِلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، فَهَهُنَا يَحْصُلُ التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ الِامْتِنَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ:
تَرْكُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ ضِدِّهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ التَّرْكَ وَالْفِعْلَ أَمْرَانِ مُعْتَبَرَانِ فِي ظَاهِرِ الْأَفْعَالِ، فَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الْمُحَرَّمَاتُ، وَالَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هُوَ الْوَاجِبَاتُ، وَمُعْتَبَرَانِ أَيْضًا فِي الْأَخْلَاقِ، فَالَّذِي يَجِبُ حُصُولُهُ هُوَ الْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ، وَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ، وَمُعْتَبَرَانِ أَيْضًا فِي الْأَفْكَارِ فَالَّذِي يَجِبُ فِعْلُهُ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَالَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الشُّبُهَاتِ، ومعتبران أيضا في مقام التجلي، فالفعل هن الِاسْتِغْرَاقُ فِي اللَّه تَعَالَى، وَالتَّرْكُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى: وَأَهْلُ الرِّيَاضَةِ يُسَمُّونَ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ بِالتَّحْلِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَبِالْمَحْوِ وَالصَّحْوِ، وَبِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَبِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَفِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ النَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُنَا «لَا إله إلا اللَّه» النفي مقدم فيه إلى الْإِثْبَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَسِيلَةُ فَعِيلَةٌ، مِنْ وَسَلَ إِلَيْهِ إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ. قَالَ لَبِيدٌ الشَّاعِرُ:
أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ ... أَلَا كُلُّ ذِي لُبٍّ إِلَى اللَّه وَاسِلُ
أَيْ مُتَوَسِّلٌ، فَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْمَقْصُودِ. قَالَتِ التَّعْلِيمِيَّةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِمُعَلِّمٍ يُعَلِّمُنَا مَعْرِفَتَهُ، وَمُرْشِدٍ يُرْشِدُنَا إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا، وَالْإِيمَانُ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ وَأَشْرَفِ الْمَقَاصِدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْوَسِيلَةِ.
وَجَوَابُنَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِهِ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَبَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِطَلَبِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَتِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ طَلَبَ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ.(11/349)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي بِقَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَبِفِعْلِ مَا يَنْبَغِي، بِقَوْلِهِ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاقٌّ ثَقِيلٌ عَلَى النَّفْسِ وَالشَّهْوَةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَدْعُو إِلَّا إِلَى الدُّنْيَا وَاللَّذَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، وَالْعَقْلَ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى خدمة اللَّه وطاعته والاعتراض عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ، وَكَانَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ تَضَادٌّ وَتَنَافٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ضَرَبُوا الْمَثَلَ فِي مَظَانَّ تَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ بِالضَّرَّتَيْنِ، وَبِالضِّدَّيْنِ، وَبِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَبِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِانْقِيَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَأَشَدِّهَا ثِقَلًا عَلَى الطَّبْعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَرْدَفَ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ بِقَوْلِهِ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَهَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَسْرَارٍ رُوحَانِيَّةٍ، ونحن نشير هاهنا إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّه تَعَالَى فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّه لَا لِغَرَضٍ سِوَى اللَّه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ.
وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أَيْ فِي سَبِيلِ عُبُودِيَّتِهِ وَطَرِيقِ الْإِخْلَاصِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَخِدْمَتِهِ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَالْفَلَاحُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَلَاصِ عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْفَوْزِ بِالْمَحْبُوبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْشَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَعَاقِدِ جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ، وَمَفَاتِحِ كُلِّ السَّعَادَاتِ أَتْبَعَهُ بِشَرْحِ حَالِ الْكُفَّارِ، وَبِوَصْفِ عَاقِبَةِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَيَاةً وَلَا سَعَادَةً إِلَّا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْأُمُورِ الفظيعة نوعين:
[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ كَلِمَةِ لَوْ خَبَرُ إِنَّ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ وَحَّدَ الرَّاجِعَ فِي قَوْلِهِ لِيَفْتَدُوا بِهِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ السَّابِقَ بَيَانُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلِهِ؟
قُلْنَا: التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَفْتَدُوا بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّمْثِيلُ لِلُزُومِ الْعَذَابِ لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَبَيْتَ» .(11/350)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِرَادَتُهُمُ الْخُرُوجَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ وَطَلَبُوا الْمَخْرَجَ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 2] .
قِيلَ: إِذَا رَفَعَهُمْ لَهَبُ النَّارِ إِلَى فَوْقُ فَهُنَاكَ يَتَمَنَّوْنَ الْخُرُوجَ. وَقِيلَ: يَكَادُونَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ لِقُوَّةِ النَّارِ وَدَفْعِهَا لِلْمُعَذَّبِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وَأَرَادُوهُ بِقُلُوبِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: 107] وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بِضَمِّ الْيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَهْدِيدَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَنْوَاعِ مَا خَوَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْكُفَّارِ بِهِ مَعْنًى واللَّه أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] أي لكم لا لغيركم، فكذا هاهنا.
[سورة المائدة (5) : آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَارَبَةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ السَّرِقَةِ يُوجِبُ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَيْضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعْظِيمَ أَمْرِ الْقَتْلِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 32] ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُبِيحُ الْقَتْلَ وَالْإِيلَامَ، فَذَكَرَ أَوَّلًا: قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَثَانِيًا: أَمْرَ السَّرِقَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَرْفُوعَانِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، أَيْ حُكْمُهُمَا كَذَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النور: 2] وفي قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاءِ: 16] وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالنَّصْبِ، وَمِثْلُهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبُ فِي هَذَا. قَالَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاقْطَعُوا خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفَاءُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَقُومَانِ مَقَامَ «الَّذِي» فَصَارَ التَّقْدِيرُ: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّهُ صَارَ جَزَاءً، وَأَيْضًا النَّصْبُ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا أَرَدْتَ سَارِقًا بِعَيْنِهِ أَوْ سَارِقَةً بِعَيْنِهَا، فَأَمَّا إِذَا أَرَدْتَ تَوْجِيهَ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول هو الذي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.(11/351)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَرَّحَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ شُرِعَ جَزَاءً عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْجَزَاءُ لِعُمُومِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي: أَنَّ السَّرِقَةَ جِنَايَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَرَبْطُ الْعُقُوبَةِ بِالْجِنَايَةِ مُنَاسِبٌ، وَذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتِ الْآيَةُ مُفِيدَةً، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى سَارِقٍ مُعَيَّنٍ صَارَتْ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفِيدَةٍ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ الْمَنْقُولِ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنْ قَالَ لَا أَقُولُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ أَوْلَى، فَنَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا رَدِيءٌ لِأَنَّ تَرْجِيحَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي لَمْ يَقْرَأْ بِهَا إِلَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَجَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَمْرٌ مُنْكَرٌ وَكَلَامٌ مَرْدُودٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَوْ كَانَتْ أَوْلَى لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ (وَاللَّذَيْنِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) بِالنَّصْبِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرَّاءِ أَحَدٌ قَرَأَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا سُقُوطَ هَذَا الْقَوْلِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُوَ الَّذِي نُضْمِرُهُ، وَهُوَ قَوْلُنَا فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحِينَئِذٍ قَدْ تَمَّتْ هذه الجملة بمبتداها وَخَبَرِهَا، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فَإِنْ قَالَ: الْفَاءُ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالسَّرِقَةِ فَاقْطَعُوا يَدَيْهِ فَنَقُولُ:
إِذَا احْتَجْتَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ تَقُولَ: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ تَقْدِيرُهُ: مَنْ سَرَقَ، فَاذْكُرْ هَذَا أَوَّلًا حَتَّى لَا تَحْتَاجَ إِلَى الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّا إِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ السَّرِقَةِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَإِذَا اخْتَرْنَا الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَفَادَتِ الْآيَةُ هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ جَزاءً بِما كَسَبا فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ أَوْلَى. الْخَامِسُ: أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: هُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى، فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ تَقْتَضِي تَقْدِيمَ/ ذِكْرِ كَوْنِهِ سَارِقًا عَلَى ذِكْرِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ الْعِنَايَةِ مَصْرُوفًا إِلَى شَرْحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ السَّارِقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَارِقٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِ الْقَطْعِ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِكَوْنِهِ سَارِقًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ تَقْبِيحِ السَّرِقَةِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ هِيَ الْمُتَعَيَّنَةُ قَطْعًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأُصُولِيِّينَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ عَلَى السَّرِقَةِ، وَمُطْلَقُ السَّرِقَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ السَّرِقَةُ سَرِقَةً لِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْمَالِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَطْعَ الْأَيْدِي، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ الْأَيْدِي الْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا مَعًا فَكَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْيَدَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْأَصَابِعَ فَقَطْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ فُلَانًا بِيَدِهِ فَمَسَّهُ بِأَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، فَالْيَدُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ وَحْدَهَا، وَيَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ، وَيَقَعُ عَلَى الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ وَالسَّاعِدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الْيَدِ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَالتَّعْيِينُ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَانَتْ مُجْمَلَةً، وَرَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا خِطَابٌ مَعَ قَوْمٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّكْلِيفُ وَاقِعًا عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى شخص معين(11/352)
مِنْهُمْ، وَهُوَ إِمَامُ الزَّمَانِ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ كَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْمَذْهَبِ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْآيَةُ لَيْسَتْ مُجْمَلَةً الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ قائما مَقَامَ «الَّذِي» وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا لِلْجَزَاءِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ تَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزاءً بِما كَسَبا وَذَلِكَ الْكَسْبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ السَّرِقَةُ، فَصَارَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ وَمُتَعَلَّقَهُ هُوَ مَاهِيَّةُ السَّرِقَةِ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَعُمَّ الْجَزَاءُ فِيمَا حَصَلَ هَذَا الشَّرْطُ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الْعَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «الْأَيْدِي» عَامَّةٌ فَنَقُولُ: مُقْتَضَاهُ قَطْعُ الْأَيْدِي لَكِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا مَعًا، وَلَا الِابْتِدَاءُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى أَخْرَجْنَاهُ عَنِ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَفْظُ الْيَدِ دَائِرٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْيَدُ اسْمٌ لِهَذَا الْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] فَلَوْلَا دُخُولُ الْعَضُدَيْنِ فِي هَذَا الِاسْمِ وَإِلَّا لَمَا احْتِيجَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ إِلَى الْمَرافِقِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ قَطْعَ الْيَدَيْنِ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَابِعًا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ.
قُلْنَا: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي.
وَالْحَاصِلُ أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، فَصَارَتْ مَخْصُوصَةً بِدَلَائِلَ مُنْفَصِلَةٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَتَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَلَا تُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْقَطْعُ لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ شَرْطَيْنِ: قَدْرُ النِّصَابِ، وَأَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ مِنَ الْحِرْزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَدْرُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فِي سَرِقَةِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْحِرْزُ أَيْضًا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَقَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَتَمَسَّكُوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِعُمُومِ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَتَنَاوَلُ السَّرِقَةَ سَوَاءً كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً وَسَوَاءً سُرِقَتْ مِنَ الْحِرْزِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى التَّخْصِيصِ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَحُجَّةُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَنَحْنُ بِالضَّرُورَةِ نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَقُولُونَ لِمَنْ أَخَذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَةِ الْغَيْرِ، أَوْ تِبْنَةً وَاحِدَةً، أَوْ كِسْرَةً صَغِيرَةً مِنْ خُبْزٍ: إِنَّهُ سَرَقَ مَالَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ كَيْفَمَا كَانَ لَا يُسَمَّى سَرِقَةً، وَأَيْضًا السَّرِقَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُسَارَقَةِ عَيْنِ الْمَالِكِ لَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ أَمْرًا يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الرَّغْبَةِ فِي مَحَلِّ الشُّحِّ وَالضِّنَّةِ حَتَّى يَرْغَبَ السَّارِقُ فِي أَخْذِهِ وَيَتَضَايَقَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ فِي دَفْعِهِ إِلَى الْغَيْرِ وَلِهَذَا الطَّرِيقِ اعْتَبَرْنَا فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ حِرْزِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِي الْحِرْزِ لَا يَحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ إِلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يُسَمَّى أَخْذُهُ سَرِقَةً. وَقَالَ دَاوُدُ: نَحْنُ لَا نُوجِبُ الْقَطْعَ فِي سَرِقَةِ الحبة الواحدة،(11/353)
وَلَا فِي سَرِقَةِ التِّبْنَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَّةُ، وَذَلِكَ لأن مَقَادِيرُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَرُبَّمَا اسْتَحْقَرَ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَرُبَّمَا اسْتَعْظَمَ الْفَقِيرُ طَسُّوجًا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ فَسَّرَ بِالْحَبَّةِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ عَظِيمًا عِنْدَهُ لِغَايَةِ فَقْرِهِ وَشِدَّةِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَقَادِيرُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ وَجَبَ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى أَقَلِّ مَا يُسَمَّى مَالًا، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَسْتَبْعِدَ وَيَقُولَ: كَيْفَ يَجُوزُ قَطْعُ الْيَدِ فِي سَرِقَةِ الطَّسُّوجَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْمُلْحِدَةَ قَدْ جَعَلُوا هَذَا طَعْنًا فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: الْيَدُ لَمَّا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَكَيْفَ تُقْطَعُ لِأَجْلِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ؟ ثُمَّ إِنَّا أَجَبْنَا عَنْ هَذَا الطَّعْنِ بِأَنَّ/ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَطَعَ يَدَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الدَّنَاءَةَ وَالْخَسَاسَةَ فِي سَرِقَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْقَلِيلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبِ تِلْكَ الدَّنَاءَةِ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ مَقْبُولًا مِنَ الْكُلِّ فَلْيَكُنْ أَيْضًا مَقْبُولًا مِنَّا فِي إِيجَابِ الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز تخصيص عموم القرآن هاهنا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه:
يَجِبُ الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ،
وَرُوِيَ فِيهِ قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع إلا فِي رُبْعِ دِينَارٍ»
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ
وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ»
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ رُبْعِ دِينَارٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَطْعَنُ فِي الْخَبَرِ الَّذِي يَرْوِيهِ الْآخَرُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَهَذِهِ الْمُخَصِّصَاتُ صَارَتْ مُتَعَارِضَةً، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى إِلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إِلَّا فِي مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. قَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُطْلَقِ السَّرِقَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: احْذَرْ مِنْ قَطْعِ يَدِكَ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا لَمَا خَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِيهِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَشِدَّةِ احْتِيَاطِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَدَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ مِنَ الْقَدْرِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَهُوَ نِصَابُ السَّرِقَةِ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجِبُ الْقَطْعُ في أقل من عشرة دراهم مَضْرُوبَةٍ، وَيَقُومُ غَيْرُهَا بِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يُوجِبُ الْقَطْعَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَوَافَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِيمَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ، ثُمَّ أُكِّدَ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» .
وَأَمَّا الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه مِنْ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ»
فَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ مَجْهُولٌ، فَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مُجْمَلٍ مَجْهُولِ الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ مُقَدَّرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ التَّخْصِيصُ/ الْحَاصِلُ بِسَبَبِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أَكْثَرَ مِنَ التَّخْصِيصِ الْحَاصِلِ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ» فَكَانَ التَّرْجِيحُ لهذا الجانب.(11/354)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الرَّجُلُ إِذَا سَرَقَ أَوَّلًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَفِي الثَّانِيَةِ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الثَّالِثَةِ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَفِي الرَّابِعَةِ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُقْطَعُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ لِقَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، وَأَيْضًا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى تِلْكَ السَّرِقَةِ، فَالسَّرِقَةُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّرِقَةَ حَصَلَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْقَطْعِ حَاصِلٌ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ هُوَ الْقَطْعُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ الْعِلَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ بِالسَّرِقَةِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ تُوجِبُ قَطْعًا آخَرَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وَلَفْظُ الْأَيْدِي لَفْظُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ قَطْعِ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْأَيْدِي فِي السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ ابْتِدَاءً فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ السَّرِقَةِ الثَّالِثَةِ.
فَإِنْ قَالُوا إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْيَمِينِ لَا فِي مُطْلَقِ الْأَيْدِي، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ جَارِيَةٌ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ.
قُلْنَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا تُبْطِلُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِنَا وَأَيْضًا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، إِذْ لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ لَا يُنْقَلَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ انْفَتَحَ بَابُ طَعْنِ الرَّوَافِضِ وَالْمَلَاحِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَصًّا، وَمَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِيهِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نَسْخِ أَكْثَرِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ وَمَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَكَانَ مُتَوَاتِرًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا قَطَعْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أُغَرِّمُ السَّارِقَ مَا سَرَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ/ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ، فَإِنْ غَرِمَ فَلَا قَطْعَ، وَإِنْ قُطِعَ فَلَا غُرْمَ. وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: يُقْطَعُ بِكُلِّ حَالٍ، وَأَمَّا الْغُرْمُ فَيَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ فَقِيرًا.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُوجِبُ الْقَطْعَ،
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ»
يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ السَّرِقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ، فَلَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْجَمْعَ مُمْتَنِعٌ كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً، وَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ حَدَّ اللَّه لَا يَمْنَعُ حَقَّ الْعِبَادِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ الْجَزَاءُ وَالْقِيمَةُ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ بَاقِيًا وَجَبَ رَدُّهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ إِلَى وَقْتِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ بِالِاتِّفَاقِ، فَعِنْدَ حُصُولِ الْقَطْعِ إِمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمِلْكُ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى وَقْتِ الْقَطْعِ، أَوْ مُسْنَدًا إلى زَمَانِ السَّرِقَةِ، وَالْأَوَّلُ: لَا يَقُولُ بِهِ الْخَصْمُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَدَثَ الْمِلْكُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَطْعِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ سَابِقًا عَلَى(11/355)
ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَهَذَا مُحَالٌ.
حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِكَوْنِ هَذَا الْقَطْعِ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْكَافِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَطْعَ كَافٍ فِي جِنَايَةِ السَّرِقَةِ، وَإِذَا كَانَ كَافِيًا وَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ الْغُرْمُ إِلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ كَوْنِهِ قَائِمًا، واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السَّيِّدُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمَمَالِيكِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا يَمْلِكُ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَمَّا عَمَّ الْكُلَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَوْلَى أَيْضًا، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ وَالْمَوْلَى، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إِمَامًا مُعَيَّنًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهَذَا الْخِطَابِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ، بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ الْجُنَاةِ إِلَّا لِلْإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ تَكْلِيفًا جَازِمًا وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ هَذَا التَّكْلِيفِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْإِمَامِ، وَمَا لَا يَتَأَتَّى الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، فَلَزِمَ الْقَطْعُ بِوُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ حِينَئِذٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ نَكالًا مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْإِهَانَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلِاسْتِخْفَافِ وَالذَّمِّ وَالْإِهَانَةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ على أن عقاب الكبير يُحْبِطُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَا قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ فِي بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالْإِحْبَاطِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: 264] فَلَا نُعِيدُهَا هاهنا.
ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْحَدِّ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَا تَكُونُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ، بَلْ تَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ، لَكِنَّا ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْعَفْوِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى تَعْلِيلِ أَحْكَامِ اللَّه، فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا وَجَبَ مُعَلَّلًا بِالسَّرِقَةِ.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة: 32] .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ جَزاءً بِما كَسَبا قَالَ الزَّجَّاجُ: جَزَاءً نُصِبَ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ فاقطعوهم(11/356)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
لِجَزَاءِ فِعْلِهِمْ، وَكَذَلِكَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ فَإِنْ شِئْتَ كَانَا مَنْصُوبَيْنِ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَاقْطَعُوا وَالتَّقْدِيرُ: جَازُوهُمْ وَنَكِّلُوا بِهِمْ جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه.
أَمَّا قَوْلُهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَالْمَعْنَى: عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ، حَكِيمٌ فِي شَرَائِعِهِ وَتَكَالِيفِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ كُنْتُ أَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ وَمَعِيَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقُلْتُ (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سَهْوًا، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ كَلَامُ اللَّه. قَالَ أَعِدْ، فَأَعَدْتُ: (واللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فَقُلْتُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَقَالَ: الْآنَ أَصَبْتَ، فَقُلْتُ كَيْفَ عَرَفْتَ؟ قَالَ: يَا هَذَا عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَأَمَرَ بِالْقَطْعِ فَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لما أمر بالقطع ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 39]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ فَإِنَّ اللَّه يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَأَصْلَحَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّوْبَةِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَأَصْلَحَ أَيْ يَتُوبُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ وَعَزِيمَةٍ صَحِيحَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ سَائِرِ الْأَغْرَاضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَابَ قَبْلَ الْقَطْعِ تَابَ اللَّه عَلَيْهِ، وَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ:
يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَالْعُقُوبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْحَدُّ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا الْحَدُّ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، وَالتَّمَدُّحُ إِنَّمَا يَكُونُ بِفِعْلِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 40]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ قَطْعَ الْيَدِ وَعِقَابَ الْآخِرَةِ عَلَى السَّارِقِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ إِنْ تَابَ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ، فَيُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ التَّعْذِيبَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ تَقَدُّمِ السَّرِقَةِ عَلَى التَّوْبَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْآيَةُ وَاضِحَةٌ لِلْقَدَرِيَّةِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ، وَقَوْلُهُمْ بِوُجُوبِ الرَّحْمَةِ لِلْمُطِيعِ، وَوُجُوبِ الْعَذَابِ لِلْعَاصِي عَلَى اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ مُفَوَّضَةٌ إِلَى الْمَشِيئَةِ وَالْوُجُوبُ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَأَقُولُ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا قَوْلَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ التَّعْذِيبُ تَارَةً، وَالْمَغْفِرَةُ أُخْرَى، لِأَنَّهُ مَالِكُ الْخَلْقِ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى(11/357)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَالِكُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ: أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: حُسْنُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنَ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ لِأَجْلِ كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْخَلْقِ وَمَالِكًا لَهُمْ، بَلْ لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بَعْضَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ، وَكَانَ قَدْ عَلِمَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ كَوْنَهُمْ مُتَسَارِعِينَ إِلَى الْكُفْرِ لَا جَرَمَ صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَى تَحَمُّلِ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَمَا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الرسول إلا في موضعين: أحدهما: هاهنا، والثاني: قوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْمَائِدَةِ: 67] وَهَذَا الْخِطَابُ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ لا يحزنك بضم الياء، ويسرعون، وَالْمَعْنَى لَا تَهْتَمَّ وَلَا تُبَالِ بِمُسَارَعَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْكُفْرِ وَذَلِكَ بِسَبَبِ احْتِيَالِهِمْ فِي اسْتِخْرَاجِ وُجُوهِ الْكَيْدِ وَالْمَكْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنِّي نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ وَكَافِيكَ شَرَّهُمْ. يُقَالُ: أَسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ وَأَسْرَعَ/ فِيهِ الْفَسَادُ بِمَعْنَى وَقَعَ فِيهِ سَرِيعًا، فَكَذَلِكَ مُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْقَائِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِيهِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ مَتَى وَجَدُوا فِيهِ فُرْصَةً، وَقَوْلُهُ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ آمَنَّا وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وَفِيهِ مسألتان:
المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج هاهنا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثُمَّ يُبْتَدَأُ الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَفَ الْكُلَّ بِكَوْنِهِمْ سَمَّاعِينَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ سَمَّاعُونَ صِفَةُ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ سَمَّاعُونَ.
وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي هُمْ سَمَّاعُونَ.(11/358)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ، وَالسَّمْعُ يُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْقَبُولُ، كَمَا يُقَالُ: لَا تَسْمَعْ مِنْ فُلَانٍ أَيْ لَا تَقْبَلْ مِنْهُ، وَمِنْهُ «سَمِعَ اللَّه لِمَنْ حَمِدَهُ» ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ هُوَ مَا يَقُولُهُ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ فِي دِينِ اللَّه تَعَالَى فِي تَحْرِيفِ التَّوْرَاةِ، وَفِي الطَّعْنِ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ نَفْسُ السَّمَاعِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْكَذِبِ لَامُ كَيْ، أَيْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ لِكَيْ يَكْذِبُوا عَلَيْكَ. وأما قوله سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَعْيُنٌ وَجَوَاسِيسُ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وَلَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَكَ لِيَنْقُلُوا إِلَيْهِمْ أَخْبَارَكَ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَيْ سَمَّاعُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَمْزُجُوا مَا سَمِعُوا مِنْهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، سَمَّاعُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّه لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ عُيُونٌ لِيُبَلِّغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ وَضَعَهُ اللَّه مَوَاضِعَهُ، أَيْ فَرَضَ فُرُوضَهُ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا، وَكَانَ حَدُّ الزِّنَا فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، فَأَرْسَلُوا قَوْمًا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِهِ فِي الزَّانِيَيْنِ إِذَا أُحْصِنَا، / وَقَالُوا: إِنْ أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا وَلَا تَقْبَلُوا، فَلَمَّا سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالرَّجْمِ فَأَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ «ابْنَ صُورِيَا» فَقَالَ الرَّسُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ شَابًّا أَمْرَدَ أَبْيَضَ أَعْوَرَ يَسْكُنُ فَدَكَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ صُورِيَا؟ قَالُوا نَعَمْ وَهُوَ أَعْلَمُ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَرَضُوا بِهِ حَكَمًا، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى وَرَفَعَ فَوْقَكُمُ الطُّورَ وَأَنْجَاكُمْ وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ وَحَلَالَهُ وَحَرَامَهُ هَلْ تَجِدُونَ فِيهِ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ» ؟ قَالَ ابْنُ صُورِيَا: نَعَمْ، فَوَثَبَتْ عَلَيْهِ سَفَلَةُ الْيَهُودِ، فَقَالَ: خِفْتُ إِنْ كَذَّبْتُهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْنَا الْعَذَابُ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّه عَنْ أَشْيَاءَ كَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ عَلَامَاتِهِ، فَقَالَ ابْنُ صُورِيَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الْعَرَبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّانِيَيْنِ فَرُجِمَا عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ.
إِذَا عَرَفْتَ الْقِصَّةَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَيْ وَضَعُوا الْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أَيْ إِنْ أَمَرَكُمْ مُحَمَّدٌ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالرَّجْمِ فَلَا تَقْبَلُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّ الثَّيِّبَ الذِّمِّيَّ يُرْجَمُ. قَالَ: لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِرَجْمِ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا فِي دِينِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفْتَى عَلَى وَفْقِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَاجِبًا، لِقَوْلِهِ فَاتَّبِعُوهُ [الأعراف: 58] وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ إِلَى طِرِّيَانِ النَّاسِخِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي شَرْعِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ هَذَا الْحُكْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قوله(11/359)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: 45] حُكْمُهُ بَاقٍ فِي شَرْعِنَا.
وَلَمَّا شَرَحَ اللَّه تَعَالَى فَضَائِحَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ قَالَ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْفِتْنَةِ مُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَذْكُورًا عَقِيبَ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمُ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تِلْكَ الْكُفْرِيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّه كُفْرَهُ وَضَلَالَتَهُ فَلَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ.
ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى هَذَا فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ إِسْلَامَ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ/ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَآمَنَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الْآيَاتِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الْعَذَابُ، قَالَ تَعَالَى: عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] أي يعذبون، فالمراد هاهنا: أَنَّهُ يُرِيدُ عَذَابَهُ لِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَثَانِيهَا: الْفِتْنَةُ الْفَضِيحَةُ، يَعْنِي وَمَنْ يُرِدِ اللَّه فَضِيحَتَهُ. الثَّالِثُ:
فِتْنَتَهُ: إِضْلَالَهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِضْلَالِ الْحُكْمُ بِضَلَالِهِ وَتَسْمِيَتِهِ ضَالًّا، وَرَابِعُهَا: الْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، يَعْنِي مَنْ يُرِدِ اللَّه اخْتِبَارَهُ فِيمَا يَبْتَلِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتْرُكُهَا وَلَا يَقُومُ بِأَدَائِهَا فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّه ثَوَابًا وَلَا نَفْعًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يَمُدَّ قُلُوبَهُمْ بِالْأَلْطَافِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تِلْكَ الْأَلْطَافِ لِأَنَّهَا لَا تَنْجَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَثَانِيهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَرَجِ وَالْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ وَقْعِهِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ بِسَبَبِ قُبْحِ أَفْعَالِهِ وَسُوءِ أَعْمَالِهِ، وَالْكَلَامُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَخِزْيُ الْمُنَافِقِينَ هَتْكُ سِتْرِهِمْ بِاطِّلَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَذِبِهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخِزْيُ الْيَهُودِ فَضِيحَتُهُمْ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِي كِتْمَانِ نَصِّ اللَّه تَعَالَى فِي إِيجَابِ الرَّجْمِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الخلود في النار.
[سورة المائدة (5) : آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو الكسائي السُّحُتُ بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ مِنْ: سَحَتَهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السَّحَتِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالسِّحْتِ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذكروا في لفظ السحت وجوها: الأول: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ مِنْ سَحَتَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، قال تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] وسميت الرشاء الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا بِالسُّحْتِ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُسْحِتُهُمْ بِعَذَابٍ، أَيْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ مَسْحُوتُ الْبَرَكَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة: 276](11/360)
الثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: إِنَّهُ حَرَامٌ يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَارُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّيْءِ يُسْحِتُ فَضِيلَةَ الْإِنْسَانِ وَيَسْتَأْصِلُهَا، وَالثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ شِدَّةُ الْجُوعِ، يُقَالُ رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يُلْقَى إِلَّا جَائِعًا أَبَدًا، فَالسُّحْتُ حَرَامٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ شِدَّةُ الشَّرَهِ كَشَرَهِ مَنْ كَانَ مَسْحُوتَ الْمَعِدَةِ، وَهَذَا أَيْضًا قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ شَدِيدَ الْجُوعِ شَدِيدَ الشَّرَهِ فَكَأَنَّهُ يَسْتَأْصِلُ كُلَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَيَشْتَهِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ:
السُّحْتُ الرَّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَعَسْبُ الْفَحْلِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَثَمَنُ الْمَيْتَةِ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَالِاسْتِئْجَارُ فِي الْمَعْصِيَةِ: رُوِيَ ذَاكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ، وَأَصْلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَرَامِ الْخَسِيسِ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ بَرَكَةٌ، وَيَكُونُ فِي حُصُولِهِ عَارٌ بِحَيْثُ يُخْفِيهِ صَاحِبُهُ لَا مَحَالَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَخْذَ الرَّشْوَةِ كَذَلِكَ، فَكَانَ سُحْتًا لَا مَحَالَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ كَانَ الْحَاكِمُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا أَتَاهُ مَنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ بِرَشْوَةٍ سَمِعَ كَلَامَهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى خَصْمِهِ، فَكَانَ يَسْمَعُ الْكَذِبَ وَيَأْكُلُ السُّحْتَ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فُقَرَاؤُهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ مَالًا لِيُقِيمُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، فَالْفُقَرَاءُ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَكَاذِيبَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنْهُمْ. الثَّالِثُ: سَمَّاعُونَ لِلْأَكَاذِيبِ الَّتِي كَانُوا يَنْسُبُونَهَا إِلَى التَّوْرَاةِ، أكالون للربا لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا [النساء: 161] .
ثم قال تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِيهِمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: إِنَّهُ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ وَأَنَّ حَدَّهُ هُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ. الثَّانِي: أَنَّهُ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ الْيَهُودِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَكَانَ فِي بَنِي النَّضِيرِ شَرَفٌ وَكَانَتْ دِيَتُهُمْ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قُرَيْظَةَ نِصْفَ دِيَةٍ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ مُخْتَصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ، فَإِنْ شَاءَ حَكَمَ فِيهِمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ عَنْهُمْ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ في كل من جاءه من الْكُفَّارُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَةِ: 49] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي إِمْضَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ صَغَارًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْمُعَاهَدُونَ الَّذِينَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بَلْ يَتَخَيَّرُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصٌ بِالْمُعَاهَدِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ إِلَّا لِطَلَبِ الْأَسْهَلِ وَالْأَخَفِّ، كَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ وَأَبَى الْحُكُومَةَ لَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ إعراضه عنهم وصاروا أعداء له، فبيّن اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ عَدَاوَتُهُمْ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.(11/361)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أَيْ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالِاحْتِيَاطِ كَمَا حَكَمْتَ بالرجم.
[سورة المائدة (5) : آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هذا تعجيب من اللَّه تعالى لنبينه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَحْكِيمِ الْيَهُودِ إِيَّاهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حَدِّ الزَّانِي، ثُمَّ تَرْكِهِمْ قَبُولَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَعَدَلُوا عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حُكْمًا حَقًّا إِلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ بَاطِلًا طَلَبًا لِلرُّخْصَةِ، فَلَا جَرَمَ ظَهَرَ جَهْلُهُمْ وَعِنَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: عُدُولُهُمْ عَنْ حُكْمِ كِتَابِهِمْ، وَالثَّانِي: رُجُوعُهُمْ إِلَى حُكْمِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، وَالثَّالِثُ: إِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِهِ بَعْدَ أَنْ حَكَّمُوهُ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى حَالَ جَهْلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمْ مُغْتَرٌّ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابِ اللَّه وَمِنَ المحافظين على أمر اللَّه، وهاهنا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ مَا مَوْضِعُهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟
الْجَوَابُ: إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ حَالًا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهَا عِنْدَهُمُ وَإِمَّا أَنْ يَرْتَفِعَ خَبَرًا عَنْهَا كَقَوْلِكَ:
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ نَاطِقَةٌ بِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَحَلٌّ وَيَكُونَ الْمَقْصُودُ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ عَنِ التَّحْكِيمِ، كَمَا تَقُولُ: عِنْدَكَ زَيْدٌ يَنْصَحُكَ وَيُشِيرُ عَلَيْكَ بِالصَّوَابِ فَمَا تَصْنَعُ بِغَيْرِهِ؟
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ أَنَّثَ التَّوْرَاةَ؟ وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ وَشَرَائِعَ من قبلنا لا زم عَلَيْنَا مَا لَمْ يُنْسَخْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ حُكْمُ التَّوْرَاةِ كَحُكْمِ الْقُرْآنِ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْحُكْمِ مِنْهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنِ النَّظَرِ فِيهَا. بَلِ الْمُرَادُ هَذَا الْأَمْرُ الْخَاصُّ وَهُوَ الرَّجْمُ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الرُّخْصَةَ بِالتَّحْكِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُحَكِّمُونَكَ وَقَوْلُهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُكْمِ اللَّه الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى التَّحْكِيمِ. وَقَوْلُهُ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَيْ وَمَا هُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْرَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهَا، وَالثَّانِي: مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ: إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْمُسْتَأْنَفِ لَا عَنِ الْمَاضِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ طَلَبُوا الْحُكْمَ مِنْكَ فَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بِكَ وَلَا بِمُعْتَقِدِينَ فِي صِحَّةِ حُكْمِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِيمَانَ لَهُمْ بِشَيْءٍ. وَأَنَّ كُلَّ مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط.
تمّ الجزء الحادي عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثاني عشر، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ من سورة المائدة. أعان اللَّه على إكماله.(11/362)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
الجزء الثاني عشر
[تتمة سورة المائدة]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْيَهُودِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ مُسْلِمِي أَحْبَارِهِمْ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، فَالْهُدَى مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، وَالنُّورُ بَيَانٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ فِيها هُدىً أَيْ بَيَانُ الْحُكْمِ الَّذِي جَاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورٌ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لا زم عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَنْسُوخًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَدًى وَنُورًا. وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ هُدًى وَنُورًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَفُرُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا غَيْرَ مُعْتَبَرِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهُدَى وَالنُّورَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَعًا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَأَيْضًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ دَاخِلَةً فِي الْآيَةِ، لِأَنَّا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي أَنَّ غَيْرَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا أَمْ لَا، لَكِنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا يُرِيدُ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُلُوفًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ حَتَّى يَحُدُّوا حُدُودَهَا وَيَقُومُوا بِفَرَائِضِهَا وَيُحِلُّوا حَلَالَهَا وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.
قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَسْلَمُوا أَيِ انْقَادُوا لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا مُنْقَادِينَ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بالنبيين الذين(12/365)
أَسْلَمُوا هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ بِالرَّجْمِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْلِ: 120] وَقَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النِّسَاءِ: 54] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ حَاصِلًا لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ يَهُودٌ أَوْ نَصَارَى، فَقَالَ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ مَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، بَلْ كَانُوا مُسْلِمِينَ للَّه مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِهِ. الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الَّذِينَ كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَإِظْهَارَ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَالِانْقِيَادَ لِتَكَالِيفِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قُبْحِ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ ادِّعَاءِ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ أَخْذُ الرَّشْوَةِ وَاسْتِتْبَاعُ الْعَوَامِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لِلَّذِينَ هادُوا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيِّينَ إِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ لِلَّذِينِ هَادُوا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَعْنَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الرَّبَّانِيُّونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا الْأَحْبَارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هُوَ «حِبْرٌ» بِكَسْرِ الْحَاءِ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَكَانِ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ صَاحِبَ كُتُبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: حَبْرٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الْحَبْرُ، وَأَمَّا اشْتِقَاقُهُ فَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ»
أَيْ جَمَالُهُ وَبَهَاؤُهُ، وَالْمُحَبِّرُ لِلشَّيْءِ الْمُزَيِّنُ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَكْمَلَ أَقْسَامِ الْفَضِيلَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَنْقَبَةِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ الْعَالِمُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
اشْتِقَاقُهُ مِنَ/ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالتَّوْرَاةِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّبَّانِيِّينَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْأَحْبَارِ، فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ الرَّبَّانِيُّونَ كَالْمُجْتَهِدِينَ، وَالْأَحْبَارُ كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حِفْظُ كِتَابِ اللَّه عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى. الثَّانِي: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُضَيَّعُ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ حِفْظَ كِتَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفَظُوهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَدْرُسُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُضَيِّعُوا أَحْكَامَهُ وَلَا يُهْمِلُوا شَرَائِعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْأَحْبَارِ عَلَى مَعْنَى الْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَحْكُمُونَ بِمَا اسْتُحْفِظُوا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أَيْ هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمِنْ عِنْدِ اللَّه، فَلَا جَرَمَ كَانُوا يُمْضُونَ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَيَحْفَظُونَهَا عَنِ التحريف والتغيير.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ كَانُوا قَائِمِينَ بِإِمْضَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ،(12/366)
خَاطَبَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَ الْقَوْمِ عَلَى التَّحْرِيفِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِخَوْفٍ وَرَهْبَةٍ، أَوْ لِطَمَعٍ وَرَغْبَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنَ الطَّمَعِ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَهُ فَقَالَ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَالْمَعْنَى إِيَّاكُمْ وَأَنْ تُحَرِّفُوا كِتَابِي لِلْخَوْفِ مِنَ النَّاسِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَشْرَافِ، فَتُسْقِطُوا عَنْهُمُ الْحُدُودَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخْرِجُوا الْحِيَلَ فِي سُقُوطِ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، فَلَا تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ النَّاسِ، بَلْ/ كُونُوا خَائِفِينَ مِنِّي وَمِنْ عِقَابِي.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الرَّهْبَةِ أَتْبَعَهُ بِأَمْرِ الرَّغْبَةِ، فَقَالَ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ كَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ تَغْيِيرِ أَحْكَامِي لِأَجْلِ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، فَكَذَلِكَ أَنْهَاكُمْ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَخْذِ الرَّشْوَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَالرَّشْوَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَالرَّشْوَةُ لِكَوْنِهَا سُحْتًا تَكُونُ قَلِيلَةَ الْبَرَكَةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي تَكْتَسِبُونَهُ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُضَيِّعُونَ بِسَبَبِهِ الدِّينَ وَالثَّوَابَ الْمُؤَبَّدَ، وَالسَّعَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لِلْخَوْفِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَلِأَخْذِ الرَّشْوَةِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَمَّا مَنَعَهُمُ اللَّه مِنَ الْأَمْرَيْنِ ونبّه عَلَى مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالسُّقُوطِ كَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا قَاطِعًا فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتْبَعَ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَهْدِيدُ الْيَهُودِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى تَحْرِيفِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا حُكْمَ اللَّه الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَهُمْ كَافِرُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ اسْمَ الْإِيمَانِ لَا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَلَا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْخَوَارِجُ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهَا نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ، وَكُلُّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا.
وَذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْوِبَةً عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ:
الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ كَلَامٌ أُدْخِلَ فِيهِ كَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِي:
قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ/ كُفْرٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ كَمَنْ يَكْفُرُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ لَا عَلَى كُفْرِ الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدِّينِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَيُشْبِهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ(12/367)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: قَوْلُهُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ صِيغَةُ عُمُومٍ، فَقَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، وَهُوَ الْعَمَلُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ فَهُوَ مُوَافِقٌ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِيدًا مَخْصُوصًا بِمَنْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا الْوَعِيدُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه فِي الرَّجْمِ، وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُ الْيَهُودَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي وَاقِعَةِ الرَّجْمِ، فَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ هَذَا الْجَوَابِ، وَالْخَامِسُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَ بِقَلْبِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُضَادُّهُ فَهُوَ حَاكِمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم، واليهود غيروه وبدلوه، وبيّن فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ غَيَّرُوا هَذَا الْحُكْمَ أَيْضًا، فَفَضَّلُوا بَنِي النَّضِيرِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَخَصَّصُوا إِيجَابَ الْقَوْدِ بِبَنِي قُرَيْظَةَ دُونَ بَنِي النَّضِيرِ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ مِنَ الْآيَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ وَالسِّنُّ وَالْجُرُوحُ كُلَّهَا بِالرَّفْعِ، وَفِيهِ/ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: الْعَطْفُ عَلَى مَحَلِّ أَنَّ النَّفْسَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا النَّفْسُ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ مَعْنَى كَتَبْنَا قُلْنَا، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكِتَابَةَ تَقَعُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمَلِ تَقُولُ: كَتَبْتُ (الْحَمْدُ للَّه) وَقَرَأْتُ (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا تَرْتَفِعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ النَّفْسَ مَقْتُولَةٌ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنُ مَفْقُوءَةٌ بِالْعَيْنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة: 62] وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِنَصْبِ الْكُلِّ سِوَى الْجُرُوحَ فَإِنَّهُ بِالرَّفْعِ، فَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَالْأُذُنُ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى النَّفْسِ، ثُمَّ الْجُرُوحَ مبتدأ، وقِصاصٌ خَبَرُهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ عَطْفًا لِبَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ، وَخَبَرُ الْجَمِيعِ قِصَاصٌ، وَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُذُنَ بِسُكُونِ الذَّالِ حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ مُثْقَلَةٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ وَفَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، يُرِيدُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ قَوْدٍ قِيدَ مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّه لَهُ دِيَةً فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ، إِنَّمَا هُوَ الْعَفْوُ أَوِ الْقِصَاصُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَّا الْأَطْرَافُ فَكُلُّ شَخْصَيْنِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْسِ جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَطْرَافِ إِذَا تَمَاثَلَا فِي السَّلَامَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ امْتَنَعَ أيضا في(12/368)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
الْأَطْرَافِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الْأَعْضَاءِ عَمَّمَ الْحُكْمَ فِي كُلِّهَا فَقَالَ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ، مِثْلُ الشَّفَتَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْقَدَمَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ رَضٍّ فِي لَحْمٍ، أَوْ كَسْرٍ فِي عَظْمٍ، أَوْ جِرَاحَةٍ فِي بَطْنٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ فَفِيهِ أَرْشٌ وَحُكُومَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ شَرْعًا فِي التَّوْرَاةِ، فَمَنْ قَالَ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا إِلَّا مَا نُسِخَ بِالتَّفْصِيلِ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ فِي شَرْعِنَا، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِصاصٌ هاهنا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ، أَيْ وَالْجُرُوحُ مُتَقَاصَّةٌ بعضها ببعض ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعَافِي أَوْ إِلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَجْرُوحَ أَوْ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ إِذَا عَفَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ، أَيْ لِلْعَافِي وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ تعالى في آية القصاص الثالث: فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237] / وَيَقْرُبُ مِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ تَصَدَّقَ بِعِرْضِهِ عَلَى النَّاسِ»
وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ»
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا عَفَا عَنِ الْجَانِي صَارَ ذَلِكَ الْعَفْوُ كَفَّارَةً لِلْجَانِي، يَعْنِي لَا يُؤَاخِذُهُ اللَّه تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْعَفْوِ، وَأَمَّا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الَّذِي عَفَا فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ أَوَّلًا:
فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وَثَانِيًا: هُمُ الظَّالِمُونَ وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَعْظَمَ التَّهْدِيدَاتِ أَوَّلًا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الْأَخَفِّ بَعْدَهُ؟
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنْكَارٌ لِنِعْمَةِ الْمَوْلَى وَجُحُودٌ لَهَا فَهُوَ كُفْرٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَقْتَضِي إِبْقَاءَ النَّفْسِ فِي الْعِقَابِ الدَّائِمِ الشَّدِيدِ فَهُوَ ظُلْمٌ عَلَى النَّفْسِ، فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى ذَكَرَ اللَّه مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بالتقصير في حق نفسه.
[سورة المائدة (5) : آية 46]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قَفَيْتُهُ: مِثْلُ عَقَبْتُهُ إِذَا أَتْبَعْتَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: عَقَّبْتُهُ بِفُلَانٍ وَقَفَّيْتُهُ بِهِ، فَتَعَدِّيهِ إِلَى الثَّانِي بِزِيَادَةِ الْبَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ؟
قُلْنَا: هُوَ مَحْذُوفٌ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلى آثارِهِمْ كَالسَّادِّ مَسَدَّهُ، لِأَنَّهُ إِذَا قَفَّى بِهِ عَلَى أَثَرِهِ فَقَدْ قَفَّى بِهِ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ فِي آثارِهِمْ لِلنَّبِيِّينَ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [المائدة: 44] وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، / وَإِنَّمَا يَكُونُ(12/369)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
كَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَمَلُهُ عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ شَرِيعَةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُغَايِرَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 47] فَكَيْفَ طَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ؟
وَالْجَوَابُ: مَعْنَى كَوْنِ عِيسَى مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَأَنَّهُ كَانَ حَقًّا وَاجِبَ الْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ النَّسْخِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كَرَّرَ قَوْلَهُ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ فِيهِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَسِيحَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ، وَفِي الثَّانِي: الْإِنْجِيلُ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْإِنْجِيلَ بِصِفَاتٍ خَمْسَةٍ فَقَالَ: فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَفِيهِ مُبَاحَثَاتٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ: وَثَانِيهَا: لِمَ ذَكَرَ الْهُدَى مَرَّتَيْنِ؟ وَثَالِثُهَا: لِمَ خَصَّصَهُ بِكَوْنِهِ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ؟
وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِنْجِيلَ هَدًى بِمَعْنَى أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْمِثْلِ وَالضِّدِّ، وَعَلَى النُّبُوَّةِ وَعَلَى الْمَعَادِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ هُدًى، وَأَمَّا كَوْنُهُ نُورًا، فَالْمُرَادُ بِهِ كَوْنُهُ بَيَانًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِتَفَاصِيلِ التَّكَالِيفِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مُبَشِّرًا بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَقْدِمِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى مَرَّةً أُخْرَى فَلِأَنَّ اشْتِمَالَهُ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ إِلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ أَشَدُّ وُجُوهِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَعَادَهُ اللَّه تَعَالَى مَرَّةً أُخْرَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِنْجِيلَ يَدُلُّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ هُدًى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْمَسَائِلِ احْتِيَاجًا إِلَى الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيرِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَوْعِظَةً فَلِاشْتِمَالِ الْإِنْجِيلِ عَلَى النَّصَائِحِ وَالْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَلِيغَةِ الْمُتَأَكِّدَةِ وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْإِنْجِيلِ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ عَطْفٌ عَلَى مَاذَا؟
الْجَوَابُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ فِيهِ هُدىً وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ حَالَ كَوْنِهِ هُدًى وَنُورًا وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
[سورة المائدة (5) : آية 47]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَلْيَحْكُمْ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ/ الْمِيمِ، جَعَلَ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةً بقوله وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ [المائدة: 46] لِأَنَّ إِيتَاءَ الْإِنْجِيلِ إِنْزَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم، وأما الباقون فقرءوا بِجَزْمِ اللَّامِ وَالْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَقُلْنَا لِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْجِيلُ، ثُمَّ حَذَفَ الْقَوْلَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَتَبْنا وقَفَّيْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23] أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ قوله وَلْيَحْكُمْ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل.(12/370)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالْحُكْمِ بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، وَالثَّانِي: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ، مِمَّا لَمْ يَصِرْ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ، وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ زَجْرُهُمْ عَنْ تَحْرِيفِ مَا فِي الْإِنْجِيلِ وَتَغْيِيرِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ مِنْ إِخْفَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، فَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ وَلْيَحْكُمْ أَيْ وَلْيُقِرَّ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّه فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، أَعْنِي قَوْلَهُ (الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفَاسِقُونَ) صِفَاتٍ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَيْسَ فِي إِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظٍ مَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي الْمَعْنَى، بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْمُؤْمِنُ، مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْبَرُّ، مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَهُوَ الْمُتَّقِي، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صِفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حَاصِلَةٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَوَّلُ: فِي الْجَاحِدِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ: فِي الْمُقِرِّ التَّارِكِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثُ: في النصارى.
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي القرآن، وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أَيْ كُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ سِوَى الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُهَيْمِنِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ قَدْ هَيْمَنَ الرَّجُلُ يُهَيْمِنُ إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ وَشَاهِدًا عَلَيْهِ حَافِظًا. قَالَ حَسَّانُ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ
وَالثَّانِي: قَالُوا: الْأَصْلُ فِي قَوْلِنَا: آمَنَ يُؤْمِنُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، أَأْمَنَ يُؤَأْمِنُ فَهُوَ مُؤَأْمِنٌ بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْأُولَى هَاءً كَمَا فِي: هَرَقْتُ وَأَرَقْتُ، وَهِيَّاكَ وَإِيَّاكَ، وَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً فَصَارَ مُهَيْمِنًا فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كَانَ الْقُرْآنُ مُهَيْمِنًا عَلَى الْكُتُبِ لِأَنَّهُ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَصِيرُ مَنْسُوخًا أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ التوراة والإنجيل والزبور حق صدق بَاقِيَةً أَبَدًا، فَكَانَتْ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مَعْلُومَةً أبدا.(12/371)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَصُونَهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا قَرَّرْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلِقَوْلِهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: 42] وَالْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي فَاحْكُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْكَ.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلا تَتَّبِعْ يُرِيدُ وَلَا تَنْحَرِفْ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَنْحَرِفْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا أَهْوَاءَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: تَعَالَوْا نَذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَشْرَافُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّ الْيَهُودِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا حُكُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَاقْضِ لَنَا وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَوْلَا جَوَازُ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمَا قَالَ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُ وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ (الشِّرْعَةِ) فِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى شَرَعَ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:
لَفْظُ الشَّرْعِ مَصْدَرُ: شَرَعْتُ الْإِهَابَ، إِذَا شَقَقْتَهُ وَسَلَخْتَهُ. الثَّانِي: شَرَعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالشَّرِيعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُشْرَعَةُ الَّتِي يَشْرَعُهَا النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، فالشريعة فعيلة بمعنى الفعولة، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَشْرَعُوا فِيهَا، وَأَمَّا الْمِنْهَاجُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ: نَهَجْتُ لَكَ الطَّرِيقَ وَأَنْهَجْتُ لُغَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَا يَلْزَمُنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَسُولٍ مُسْتَقِلًّا بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ أُمَّةِ أَحَدِ الرُّسُلِ مُكَلَّفَةً بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَرَدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ التَّبَايُنِ فِي طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّبَايُنِ فِيهَا.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشُّورَى: 13] إِلَى قَوْلِهِ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشُّورَى: 13] وَقَالَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: 90] .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ نَقُولَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْآيَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ(12/372)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
بِأُصُولِ الدِّينِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَصْرُوفٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خِطَابٌ لِلْأُمَمِ الثَّلَاثِ: أُمَّةِ مُوسَى، وَأُمَّةِ عِيسَى، وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بِدَلِيلِ أَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَةِ: 44] ثُمَّ قَالَ وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة: 46] ثم قال وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] .
ثُمَّ قَالَ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَعْنِي شَرَائِعَ مُخْتَلِفَةً: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ/ وَالْمُرَادُ بِهِمَا الدِّينُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَالشِّرْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَكَارِمِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمِنْهَاجِ، فَالشَّرِيعَةُ أَوَّلٌ، وَالطَّرِيقَةُ آخِرٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الشَّرِيعَةُ ابْتِدَاءُ الطَّرِيقَةِ، وَالطَّرِيقَةُ الْمِنْهَاجُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهَذَا تَقْرِيرُ مَا قلناه. واللَّه أعلم بأسرار كلامه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أَيْ جَمَاعَةً مُتَّفِقَةً عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ذَوِي أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَيْ دِينٍ وَاحِدٍ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ، هَلْ تَعْمَلُونَ بِهَا مُنْقَادِينَ للَّه خَاضِعِينَ لِتَكَالِيفِ اللَّه، أَمْ تَتَّبِعُونَ الشبه وتقصرون في العمل.
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْ فَابْتَدِرُوهَا وَسَابِقُوا نَحْوَهَا.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا لَا تَشُكُّونَ مَعَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْفَاصِلِ بَيْنَ مُحِقِّكُمْ وَمُبْطِلِكُمْ، وَمُوَفِّيكُمْ وَمُقَصِّرِكُمْ فِي الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَؤُولُ إِلَى مَا يزول معه الشكوك ويحصل مع الْيَقِينُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءِ بإساءته.
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الأولى: فإن قيل: قوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا؟
قلنا: على الكتاب في قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] كَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أَنِ احْكُمْ/ وَ (أَنْ) وُصِلَتْ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ بِالْحَقِّ [المائدة: 48] أي أنزلنا بِالْحَقِّ وَبِأَنِ احْكُمْ، وَقَوْلُهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُوا وَأَرَادُوا إِيقَاعَهُ فِي تَحْرِيفِ دِينِهِ فَعَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ ذلك.(12/373)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلتَّخْيِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: 42] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أُعِيدَ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ أُمِرَ بِهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّهُمُ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، ثُمَّ احْتَكَمُوا فِي قَتِيلٍ كَانَ فِيهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِهِ يَرُدُّوكَ إِلَى أَهْوَائِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ صُرِفَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فَقَدْ فُتِنَ، وَمِنْهُ قوله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] والفتنة هاهنا فِي كَلَامِهِمُ الَّتِي تُمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَتُلْقِي فِي الْبَاطِلِ
وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا»
قَالَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الطَّرِيقِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ جَائِزَانِ عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَالتَّعَمُّدُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الرَّسُولِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ يَبْتَلِيَهُمْ بِجَزَاءِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّطَكَ عَلَيْهِمْ، وَيُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّه تَعَالَى بَعْضَ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الْقَوْمَ جُوزُوا فِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَكَانَ مُجَازَاتُهُمْ بِالْبَعْضِ كَافِيًا فِي إِهْلَاكِهِمْ وَالتَّدْمِيرِ عَلَيْهِمْ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَرَادَ ذُنُوبَهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لَمُتَمَرِّدُونَ فِي الْكُفْرِ مُعْتَدُونَ فِيهِ، يَعْنِي أَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر.
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ/ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَبْغُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ بِرَفْعِ الْحُكْمِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِيقَاعِ يَبْغُونَ خَبَرًا وَإِسْقَاطِ الْرَّاجِعِ عَنْهُ لِظُهُورِهِ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ أَبِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي يَبْغُونَهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِهِ حُكَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَرَادُوا بِشَهِيَّتِهِمْ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ حَكَمًا كَأُولَئِكَ الْحُكَّامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ دِمَاءٌ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ: بَنُو النَّضِيرِ إِخْوَانُنَا، أَبُونَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَإِنْ قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَّا قَتِيلًا أَعْطَوْنَا سَبْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَإِنْ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَاحِدًا أَخَذُوا مِنَّا مِائَةً وَأَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَأُرُوشُ جِرَاحَاتِنَا عَلَى النصف من أروش جِرَاحَاتِهِمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا(12/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنَّ دَمَ الْقُرَظِيِّ وَفَاءٌ مِنْ دَمِ النَّضِرِيِّ، وَدَمَ النَّضِرِيِّ وَفَاءٌ مِنْ دَمِ الْقُرَظِيِّ، لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ فِي دَمٍ وَلَا عَقْلٍ، وَلَا جِرَاحَةٍ، فَغَضِبَ بَنُو النَّضِيرِ وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِحُكْمِكَ فَإِنَّكَ عَدُوٌّ لَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يَعْنِي حُكْمَهُمُ الْأَوَّلَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى ضُعَفَائِهِمْ أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى أَقْوِيَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذُوهُمْ بِهِ، فَمَنَعَهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ تَعْيِيرًا لِلْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَعِلْمٍ مَعَ أَنَّهُمْ يَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ الْجَهْلِ وَصَرِيحُ الْهَوَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] أَيْ هَذَا الْخِطَابُ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْدَلُ مِنَ اللَّه حُكْمًا، وَلَا أَحْسَنُ مِنْهُ بيانا.
[سورة المائدة (5) : آية 51]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ أَوْلِياءَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
وَرُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَرَّأَ عِنْدَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ/ أُبَيٍّ: لَكِنِّي لَا أَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ لِأَنِّي أَخَافُ الدَّوَائِرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ: أَيْ لَا تَعْتَمِدُوا عَلَى الِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ، وَلَا تَتَوَدَّدُوا إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كَأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، وَهَذَا تَغْلِيظٌ مِنَ اللَّه وَتَشْدِيدٌ فِي وُجُوبِ مُجَانَبَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] .
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عنه: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال: مالك قَاتَلَكَ اللَّه، أَلَا اتَّخَذْتَ حَنِيفًا، أَمَا سَمِعْتَ قول اللَّه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قُلْتُ: لَهُ دِينُهُ وَلِيَ كِتَابَتُهُ، فقال: لا أكرمهم إذا أهانهم اللَّه، ولا أعزهم إذا أذلهم اللَّه، ولا أدنيهم إذا أَبْعَدَهُمُ اللَّه، قُلْتُ: لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْبَصْرَةِ إِلَّا بِهِ، فَقَالَ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ، يَعْنِي هَبْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَا تَصْنَعُ بَعْدَهُ، فَمَا تَعْمَلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَاعْمَلْهُ الْآنَ وَاسْتَغْنِ عنه بغيره.
[سورة المائدة (5) : آية 52]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمُنَافِقُونَ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَقَوْلُهُ يُسارِعُونَ فِيهِمْ أَيْ يُسَارِعُونَ فِي مَوَدَّةِ الْيَهُودِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ ثَرْوَةٍ وَكَانُوا يُعِينُونَهُمْ عَلَى مُهِمَّاتِهِمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ، وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّمَا نُخَالِطُهُمْ لِأَنَّا نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه:
الدَّائِرَةُ مِنْ دَوَائِرَ الدَّهْرِ كَالدَّوْلَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَدُورُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ هِيَ الَّتِي تخشى، كالهزيمة(12/375)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
وَالْحَوَادِثِ الْمُخَوِّفَةِ، فَالدَّوَائِرُ تَدُورُ، وَالدَّوَائِلُ تَدُولُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ نَخْشَى أَنْ لَا يَتِمَّ الْأَمْرُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدُورُ الْأَمْرُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ (عَسَى) مِنَ اللَّه وَاجِبٌ، لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَطْمَعَ فِي خَيْرٍ فَعَلَهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ لِتَعَلُّقِ النَّفْسِ بِهِ وَرَجَائِهَا لَهُ، وَالْمَعْنَى: فَعَسَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لِرَسُولِ اللَّه عَلَى أَعْدَائِهِ وَإِظْهَارِ/ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يَقْطَعُ أَصْلَ الْيَهُودِ أَوْ يُخْرِجُهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ فَيُصْبِحَ الْمُنَافِقُونَ نَادِمِينَ عَلَى مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُكُّونَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ وَيَقُولُونَ: لَا نَظُنُّ أَنَّهُ يَتِمُّ لَهُ أَمْرُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَصِيرَ الدَّوْلَةُ وَالْغَلَبَةُ لِأَعْدَائِهِ. وَقِيلَ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَعْنِي أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِظْهَارِ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ وَقَتْلِهِمْ فَيَنْدَمُوا عَلَى فِعَالِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَ قِسْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَقَوْلُهُ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَتْحِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
قُلْنَا: قَوْلُهُ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ مَعْنَاهُ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ لَا يَكُونُ لِلنَّاسِ فِيهِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، كَبَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ طَرَحَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَأُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَارِبَةٍ وَلَا عَسْكَرٍ ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 53]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ يَقُولُ بِغَيْرِ وَاوِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ الواحدي رحمه اللَّه: وحذف الواو هاهنا كَإِثْبَاتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ ذِكْرًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَ بِقَوْلِهِ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [المائدة: 52] هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ فَلَمَّا حَصَلَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ ذِكْرٌ مِنَ الْأُخْرَى حَسُنَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِ الْوَاوِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ ذِكْرُ مَا تَقَدَّمَ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الْوَاوِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْفِ: 22] فَأَدْخَلَ/ الْوَاوَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ، وَذِكْرَهَا جَائِزٌ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» حَذْفُ الْوَاوِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ جَوَابُ قَائِلٍ يَقُولُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا نَصْبًا عَلَى مَعْنَى: وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ قِرَاءَةُ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَائِدَةُ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ أَنَّهُمْ يتعجبون من حال المنافقين عند ما أَظْهَرُوا الْمَيْلَ إِلَى مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: إِنَّهُمْ يُقْسِمُونَ باللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّهُمْ مَعَنَا وَمِنْ أَنْصَارِنَا، فَالْآنَ كَيْفَ صَارُوا مُوَالِينَ لِأَعْدَائِنَا مُحِبِّينَ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِمْ وَالِاعْتِضَادِ بِهِمْ؟(12/376)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى ذَهَبَ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَبَطَلَ كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُمُ الْآنَ أَظْهَرُوا مُوَالَاةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ بَقِيَتْ عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةُ فِي الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرَاتِهَا وَمَنَافِعِهَا، بَلِ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ فِي الدُّنْيَا والعقاب في الآخرة.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ] فيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ يَرْتَدِدْ بِدَالَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِدَالٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَالْأَوَّلُ: لِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ، وَالثَّانِي: لِلْإِدْغَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِظْهَارُ الدَّالَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِنَ الْمُضَاعَفِ إِذَا سُكِّنَ ظَهَرَ التَّضْعِيفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آلِ عِمْرَانَ: 140] وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ: إِنْ يَمَسَّكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ كَانَ أَهْلُ الرِّدَّةِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِرْقَةً: ثَلَاثٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بَنُو مُدْلِجٍ: وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْحِمَارِ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَكَانَ كَاهِنًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْيَمَنِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهَا، وَأَخْرَجَ عُمَّالَ رَسُولِ اللَّه، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَسَادَاتِ الْيَمَنِ، فَأَهْلَكَهُ اللَّه عَلَى يَدِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّه بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّه مِنَ الْغَدِ وَأُتِيَ خَبَرُهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَبَنُو حَنِيفَةَ قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ، ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّه: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّه إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ، فَأَجَابَهُ الرَّسُولُ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّه إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّه يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فَحَارَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بِجُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُتِلَ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ، أَرَادَ فِي جَاهِلِيَّتِي وَفِي إِسْلَامِي.
وَبَنُو أَسَدٍ قَوْمُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ: ادَّعَى النُّبُوَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّه خَالِدًا، فَانْهَزَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
وَسَبْعٌ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ: فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ، وَبَنُو سُلَيْمٍ قَوْمُ الْفُجَاءَةَ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وَبَنُو يَرْبُوعٍ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَبَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ قَوْمُ سَجَاحَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الَّتِي ادَّعَتِ النُّبُوَّةَ وَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ الكذاب، وكندة وقوم الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَبَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِالْبَحْرَيْنِ قَوْمُ الْحَطْمِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَفَى اللَّه أَمْرَهُمْ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ: غَسَّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ جَبَلَةَ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ عُمَرَ، وَكَانَ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ جَارًّا رِدَاءَهُ، فَوَطِئَ رَجُلٌ طَرَفَ رِدَائِهِ فَغَضِبَ فَلَطَمَهُ، فَتَظَلَّمَ إِلَى عُمَرَ فَقَضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا أَشْتَرِيهَا بِأَلْفٍ، فَأَبَى الرَّجُلُ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ(12/377)
فِي الْفِدَاءِ إِلَى أَنْ بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافٍ، فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا الْقَصَاصَ، فَاسْتَنْظَرَ عُمَرَ فَأَنْظَرَهُ عُمَرُ فَهَرَبَ إِلَى الرُّومِ وَارْتَدَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَتَوَلَّ مِنْكُمُ الْكُفَّارَ فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَأْتِي بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ يَنْصُرُونَ هَذَا الدِّينَ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: عَلِمَ اللَّه أَنَّ قَوْمًا يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ الْمُخْبَرُ عَلَى وَفْقِهِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وقتادة والضحاك وابن جريح: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَاتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَاشْتَهَرَ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الرَّسُولَ وَأَعَانُوهُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ: هُمْ قَوْمُ هَذَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الْفُرْسُ لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ/ عَلَى عَاتِقِ سَلْمَانَ وَقَالَ: هَذَا وَذَوُوهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» .
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: «لَأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ» ،
وَهَذَا هُوَ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَ الْأَوْلَى جَعْلُ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا فِي حَقِّهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَاتٌ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، وَتَقْرِيرُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامَتِهِ كُلَّهُمْ كَفَرُوا وَصَارُوا مُرْتَدِّينَ، لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا النَّصَّ الْجَلِيَّ عَلَى إمامة علي عليه السلام فَنَقُولُ: «لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَاءَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْمٍ يُحَارِبُهُمْ وَيَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ لِلْعُمُومِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ اللَّه يَأْتِي بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيَرُدُّهُمْ وَيُبْطِلُ شَوْكَتَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الَّذِينَ نصبوا أبا بكر للخلافة لَوَجَبَ بِحُكْمِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُهُمْ وَيُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ بِالضِّدِّ فَإِنَّ الرَّوَافِضَ هُمُ الْمَقْهُورُونَ الْمَمْنُوعُونَ عَنْ إِظْهَارِ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ أَبَدًا مُنْذُ كَانُوا عَلِمْنَا فَسَادَ مَقَالَتِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّا نَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمُحَارَبَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى مُحَارَبَةَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى مَا شَرَحْنَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ مُحَارَبَةُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ(12/378)
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ وَهَذَا لِلِاسْتِقْبَالِ لَا لِلْحَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذَا الْخِطَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: هذا لا زم عَلَيْكُمْ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ قَاتَلَ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي الْحَالِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّه بِقَوْمٍ قَادِرِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِنْ هَذَا الْحِرَابِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مُسْتَقِلًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ/ بِالْحِرَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَزَالَ السُّؤَالُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ قِتَالٌ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَكَيْفَ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ كَانَ قِتَالُهُ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ مُرْتَدًّا.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ الْمُرْتَدِّ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ تَارِكًا لِلشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْقَوْمُ الَّذِينَ نَازَعُوا عَلِيًّا مَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنَّمَا يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُسَمِّهِمْ أَلْبَتَّةَ بِالْمُرْتَدِّينَ، فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضُ لَعَنَهُمُ اللَّه بُهْتٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى عَلِيٍّ أَيْضًا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْإِمَامَةِ كَانَ مُرْتَدًّا لَزِمَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَفِي قَوْمِهِ أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بِحُكْمِ ظَاهِرِ الْآيَةِ أَنْ يَأْتِيَ اللَّه بِقَوْمٍ يَقْهَرُونَهُمْ وَيَرُدُّونَهُمْ إِلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ عَلِمْنَا أَنَّ مُنَازَعَةَ عَلِيٍّ فِي الْإِمَامَةِ لَا تَكُونُ رِدَّةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ رِدَّةً لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَلِيٍّ، لِأَنَّهَا نَازِلَةٌ فِيمَنْ يُحَارِبُ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا نَازِلَةٌ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ أَوْ فِي أَهْلِ فَارِسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ مُحَارَبَةٌ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْمُحَارَبَةُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا رَعِيَّةً وَأَتْبَاعًا وَأَذْنَابًا، وَكَانَ الرَّئِيسُ الْمُطَاعُ الْآمِرُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَنْ كَانَ أَصْلًا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَرَئِيسًا مُطَاعًا فِيهَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْأَتْبَاعِ وَالْأَذْنَابِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَبِي بَكْرٍ: هُوَ أَنَّا نَقُولُ: هَبْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ قَدْ حَارَبَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَكِنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ كَانَتْ أَعْلَى حَالًا وَأَكْثَرَ مَوْقِعًا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ مَعَ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَتِ الْأَعْرَابُ وَتَمَرَّدُوا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي قَهَرَ مُسَيْلِمَةَ وَطُلَيْحَةَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ الطَّوَائِفَ السَّبْعَةَ الْمُرْتَدِّينَ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ مَانِعِيِ الزَّكَاةِ، وَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَعَظُمَتْ شَوْكَتُهُ وَانْبَسَطَتْ دَوْلَتُهُ. أَمَّا لَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدِ انْبَسَطَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَصَارَ مُلُوكُ الدُّنْيَا مَقْهُورِينَ، وَصَارَ الْإِسْلَامُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُحَارَبَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَعْظَمُ تَأْثِيرًا فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتِهِ مِنْ مُحَارَبَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ قَوْمٍ يَسْعَوْنَ فِي تَقْوِيَةِ الدِّينِ وَنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّا نَدَّعِي دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ(12/379)
بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَصْفٌ لِأَبِي بَكْرٍ، وَمَنْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي إِمَامَتِهِ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وَهُوَ صفة أبي بكر أيضا الدليل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا
رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ»
فَكَانَ مَوْصُوفًا بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَبِالشِّدَّةِ مَعَ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَكَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ كَيْفَ كَانَ يَذُبُّ عَنِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَيْفَ كَانَ يُلَازِمُهُ وَيَخْدِمُهُ، وَمَا كَانَ يُبَالِي بِأَحَدٍ مِنْ جَبَابِرَةِ الْكُفَّارِ وَشَيَاطِينِهِمْ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ أَعْنِي وَقْتَ خِلَافَتِهِ كَيْفَ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ، وَأَصَرَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَارَبَةِ مَعَ مَانِعِيِ الزَّكَاةِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى قِتَالِ الْقَوْمِ وَحْدَهُ، حَتَّى جَاءَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَمَنَعُوهُ مِنَ الذَّهَابِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ بَعْثُ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِمُ انْهَزَمُوا وَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ مَبْدَأً لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ قَوْلُهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فَهَذَا مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّ حَظَّ أَبِي بَكْرٍ فِيهِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُجَاهَدَةَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ، وَهُنَاكَ الْإِسْلَامُ كَانَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَالْكُفْرُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ، وَكَانَ يُجَاهِدُ الْكُفَّارَ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ، وَيَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّه بِغَايَةِ وُسْعِهِ، وَأَمَّا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شَرَعَ فِي الْجِهَادِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْإِسْلَامُ قَوِيًّا وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ مُجْتَمِعَةً، فَثَبَتَ أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ جِهَادِ عَلِيٍّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ، فَكَانَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ [الْحَدِيدِ: 10] وَالثَّانِي: أَنَّ جِهَادَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي وَقْتِ ضَعْفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِهَادَ عَلِيٍّ كَانَ فِي وَقْتِ الْقُوَّةِ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَهَذَا لَائِقٌ بِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِقَوْلِهِ تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النُّورِ: 22] وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِأَبِي بَكْرٍ أَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بَاطِلَةً لَمَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لَائِقَةً بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَمَّا شَرَعَ فِي الْإِمَامَةِ زَالَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَبَطَلَتْ.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَأَثْبَتَ كَوْنَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَالَ إِتْيَانِ اللَّه بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ اللَّه لَهُ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَالَ مُحَارَبَتِهِ مَعَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ حَالُ إِمَامَتِهِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ، أَمَّا قَوْلُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّه: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يوم خيبر: «لأعطيين الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ»
وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعَمَلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعِلْمِ، وَأَيْضًا أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ الصِّفَةِ(12/380)
لِعَلِيٍّ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ كَوْنُهُ كَرَّارًا غَيْرَ فَرَّارٍ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَهُ، فَكَفَى هَذَا فِي الْعَمَلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَأَمَّا انْتِفَاءُ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِمُحَارَبَةِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَبْ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ مَا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ حُصُولِهَا فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَمَسُّكٌ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ الْمَنْقُولِ بِالْآحَادِ، وَلِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ أَبِي بَكْرٍ مُحِبًّا للَّه وَلِرَسُولِهِ. وَكَوْنِ اللَّه مُحِبًّا لَهُ وَرَاضِيًا عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَلَسَوْفَ يَرْضى [اللَّيْلِ: 21]
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَيَتَجَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً»
وَقَالَ: «مَا صَبَّ اللَّه شَيْئًا فِي صَدْرِي إِلَّا وَصَبَّهُ فِي صَدْرِ أَبِي بَكْرٍ»
وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِي عَلِيٍّ، فَجَوَابُنَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْبَحْثِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْمَحَبَّةِ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الْبَقَرَةِ: 165] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَفِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه أَحَبَّهُمْ وَإِلَّا لَمَا وَفَّقَهُمْ حَتَّى صَارُوا مُحِبِّينَ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ/ بَيْنَهُمْ [الْفَتْحِ: 29] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَذِلَّةٌ جَمْعُ ذَلِيلٍ، وَأَمَّا ذَلُولٌ فَجَمْعُهُ ذُلُلٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَذِلَّةً هُوَ أَنَّهُمْ مُهَانُونَ، بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِمْ بِالرِّفْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ ذَلِيلًا عِنْدَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ أَلْبَتَّةَ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، بَلْ لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا هاهنا، فَقَوْلُهُ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أَيْ يُظْهِرُونَ الْغِلْظَةَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: يُعَازُونَهُمْ أَيْ يُغَالِبُونَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَّهُ يُعِزُّهُ إِذَا غَلَبَهُ، كَأَنَّهُمْ مُشَدِّدُونَ عَلَيْهِمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ: أَذِلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ.
قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضَمِّنَ الذُّلَّ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: رَاحِمِينَ عَلَيْهِمْ مُشْفِقِينَ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ كَلِمَةَ عَلَى حَتَّى يَدُلَّ عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ وَفَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، فَيُفِيدَ أَنَّ كَوْنَهُمْ أَذِلَّةً لَيْسَ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ ذَلِيلِينِ فِي أَنْفُسِهِمْ، بَلْ ذَاكَ التَّذَلُّلُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَضُمُّوا إِلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ فَضِيلَةَ التَّوَاضُعِ. وَقُرِئَ (أَذِلَّةً وَأَعِزَّةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ لِنُصْرَةِ دِينِ اللَّه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ الْكُفَّارَ وَيَخَافُونَ لَوْمَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّه بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، وَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ صِلَابٌ فِي(12/381)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
نُصْرَةِ الدِّينِ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمَةِ اللَّائِمِينَ، وَاللَّوْمَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ اللَّوْمِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهَا وَفِي اللائم مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئا قَطُّ مِنْ لَوْمِ أَحَدٍ مِنَ اللَّائِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فَقَوْلُهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الْقَوْمِ بِالْمَحَبَّةِ وَالذِّلَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَانْتِفَاءِ خَوْفِ اللَّوْمَةِ الْوَاحِدَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أن كل ذلك بفضله إحسانه، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ طَاعَاتِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَ اللَّفْظَ عَلَى فِعْلِ الْأَلْطَافِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ فِعْلَ.
الْأَلْطَافِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَلَا بُدَّ فِي التَّخْصِيصِ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فَالْوَاسِعُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، وَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ سَيَجِيءُ بِأَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ وَصِفَتُهُمْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَامِلُ الْقُدْرَةِ فَلَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْمَوْعُودِ، كَامِلُ الْعِلْمِ فَيَمْتَنِعُ دخول الخلف في أخباره ومواعيده.
[سورة المائدة (5) : آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)
وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمُوَالَاةِ مَنْ يَجِبُ مُوَالَاتُهُ وَقَالَ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيِ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ لَمَّا تَبَرَّأَ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالَ: أَنَا بَرِيءٌ إِلَى اللَّه مِنْ حِلْفِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَأَتَوَلَّى اللَّه وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّ قَوْمَنَا قَدْ هَجَرُونَا وَأَقْسَمُوا أَنْ لَا يُجَالِسُونَا، وَلَا نَسْتَطِيعُ مُجَالَسَةَ أَصْحَابِكَ لِبُعْدِ الْمَنَازِلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ: رَضِينَا باللَّه وَرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَ،
فَعَلَى هَذَا: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التَّوْبَةِ: 71] وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صِفَةٌ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُدَاوِمِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: فِي صِفَةِ صَلَاتِهِمْ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] وقال: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النِّسَاءِ: 142] وَقَالَ فِي صِفَةِ زَكَاتِهِمْ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الْأَحْزَابِ: 19] وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهُمْ راكِعُونَ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّكُوعِ الْخُضُوعُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَهُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِجَمِيعِ أَوَامِرِ اللَّه وَنَوَاهِيهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مِنْ شَأْنِهِمْ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَخُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَةِ: 43] وَالثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْهُمْ مَنْ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْفَقِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَعْدُ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ رَاكِعًا، فَلَمَّا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى عِكْرِمَةُ أن هذه(12/382)
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَالثَّانِي:
رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام.
وروي أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَنَا رَأَيْتُ عَلِيًّا تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ عَلَى مُحْتَاجٍ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَحْنُ نَتَوَلَّاهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَسَأَلَ سَائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ، فَرَفَعَ السَّائِلُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَعْطَانِي أَحَدٌ شَيْئًا، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَاكِعًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ الْيُمْنَى وَكَانَ فِيهَا خَاتَمٌ، فَأَقْبَلَ السَّائِلُ حَتَّى أَخَذَ الْخَاتَمَ بِمَرْأَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ أَخِي مُوسَى سَأَلَكَ» فَقَالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إِلَى قَوْلِهِ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 25- 32] فَأَنْزَلْتَ قُرْآنًا نَاطِقًا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً [الْقَصَصِ: 35] اللَّهُمَّ وَأَنَا مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَصَفِيُّكَ فَاشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي عَلِيًّا اشْدُدْ بِهِ ظهري. قال أبو ذر: فو اللَّه مَا أَتَمَّ رَسُولُ اللَّه هَذِهِ الْكَلِمَةَ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَى آخِرِهَا،
فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَامٌ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَلِيَّ فِي اللُّغَةِ قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُحِبِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمُتَصَرِّفِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا»
فَنَقُولُ: هاهنا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْوَلِيُّ جَاءَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّه مُرَادَهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، فَوَجَبَ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ فِي الْأُمَّةِ. الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: الْوَلِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بمعنى الناصر، فوجب أن يكون بمعنى التصرف، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّاصِرِ، لِأَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ فِي كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بِكَلِمَةِ إِنَّما وَكَلِمَةُ إِنَّما لِلْحَصْرِ، كَقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النِّسَاءِ: 171] والولاية بمعنى النصرة عامة لقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وهذا يوجب القطع بأن الولاية الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَتْ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعْنًى/ سِوَى هَذَيْنِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِنَّمَا الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَةِ الْفُلَانِيَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَصَرِّفُونَ فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِمَامِ إِلَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مُتَصَرِّفًا فِي كُلِّ الْأُمَّةِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ فِيهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِمَامَ الْأُمَّةِ.
أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِمَامَةَ شَخْصٍ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ عَلِيٌّ، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ شَخْصٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ هُوَ عَلِيٌّ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. الثَّانِي: تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ، وَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ:
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِأَنَّهَا لَوْ نَزَلَتْ فِي حَقِّهِ لَدَلَّتْ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هذه(12/383)
الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ راكِعُونَ لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَالصَّلَاةُ مُشْتَمِلَةُ عَلَى الرُّكُوعِ، فَكَانَتْ إِعَادَةُ ذِكْرِ الرُّكُوعِ تَكْرَارًا، فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَالًا أَيْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ حَالَ الرُّكُوعِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي حَقِّ عَلِيٍّ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مَخْصُوصَةً بِهِ وَدَالَّةً عَلَى إِمَامَتِهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَهَذَا حَاصِلُ اسْتِدْلَالِ الْقَوْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ لَفْظِ الْوَلِيِّ عَلَى النَّاصِرِ وَعَلَى الْمُتَصَرِّفِ مَعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ مَعًا.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَنَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْوَلِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّاصِرَ وَالْمُحِبَّ، وَنَحْنُ نُقِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ حَمْلَ لَفْظِ الْوَلِيِّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُتَصَرِّفِ. ثُمَّ نُجِيبُ عَمَّا قَالُوهُ فَنَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى النَّاصِرِ أَوْلَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّائِقَ بِمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا بَعْدَهَا لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا مَا قَبْلَ هذه الآية فلأنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَئِمَّةً مُتَصَرِّفِينَ فِي أَرْوَاحِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ لِأَنَّ بُطْلَانَ هَذَا كَالْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَحْبَابًا وَأَنْصَارًا، وَلَا تُخَالِطُوهُمْ وَلَا تُعَاضِدُوهُمْ، ثُمَّ لَمَّا بَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الْمَوْصُوفُونَ، والظاهر أن الولاية المأمور بها هاهنا هِيَ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِيمَا قَبْلُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَلَايَةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِيمَا قَبْلُ هِيَ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَتِ/ الْوَلَايَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هِيَ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَأَمَّا مَا بَعْدَ هَذِهِ الآية فهي قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْمَائِدَةِ: 57] فَأَعَادَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا هِيَ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَايَةُ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ التَّعَصُّبَ وَتَأَمَّلَ فِي مُقَدِّمَةِ الْآيَةِ وَفِي مُؤَخَّرِهَا قَطَعَ بِأَنَّ الْوَلِيَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى النَّاصِرِ وَالْمُحِبِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِلْقَاءَ كَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ فِيمَا بَيْنَ كَلَامَيْنِ مَسُوقَيْنِ لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَالسُّقُوطِ، وَيَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ وَالْإِمَامَةِ لَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ مَوْصُوفِينَ بِالْوَلَايَةِ حَالَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّه وَجْهَهُ مَا كَانَ نَافِذَ التَّصَرُّفِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مَوْصُوفِينَ بِالْوَلَايَةِ فِي الْحَالِ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ كَانَتِ الْوَلَايَةُ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْوَلَايَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمُوَالَاةِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُوَالَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ حَاصِلَةً فِي الْحَالِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مُتَوَارِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَمَّا كَانَتِ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ غَيْرَ حَاصِلَةٍ فِي الْحَالِ امْتَنَعَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ قَوْلُهُ(12/384)
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وَحَمْلُ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ وَإِنْ جَازَ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالْأَصْلَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا بِالْبُرْهَانِ الْبَيِّنِ أن الآية المتقدمة وهي قوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ عَلِيٍّ بَعْدَ الرَّسُولِ لَزِمَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَعْرَفَ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى إِمَامَتِهِ لَاحْتُجَّ بِهَا فِي مَحْفِلٍ مِنَ الْمَحَافِلِ، وَلَيْسَ للقوم أن يقولوا: إنه/ تركه للتقية فإنهم يَنْقُلُونَ عَنْهُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ يَوْمَ الشُّورَى بِخَبَرِ الْغَدِيرِ، وَخَبَرِ الْمُبَاهَلَةِ، وَجَمِيعِ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ أَلْبَتَّةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ إِمَامَتِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِسُقُوطِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمُ اللَّه.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: هَبْ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، لَكُنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّهَا عِنْدَ نُزُولِهَا مَا دَلَّتْ عَلَى حُصُولِ الْإِمَامَةِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ عَلِيًّا مَا كَانَ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمَّةِ حَالَ حَيَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا سَيَصِيرُ إِمَامًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَتَى قَالُوا ذَلِكَ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ وَنَحْمِلُهُ عَلَى إِمَامَتِهِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَإِنْ قَالُوا: الْأُمَّةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَالْقَوْلُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْهُ فَنَقُولُ: وَمَنِ الَّذِي أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ مَا كَانَ أَحَدٌ فِي الْأُمَّةِ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، فَإِنَّ مِنَ الْمُحْتَمَلِ، بَلْ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُ مُنْذُ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، فَإِنَّ السَّائِلَ يُورِدُ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ هَذَا السُّؤَالَ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَهَذَا السُّؤَالِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأُمَّةِ، وَهُمْ كَانُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِيهِمْ هُوَ اللَّه وَرَسُولُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تعالى هذا الكلام تطييبا لقلوب الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَحْبَابِ وَالْأَنْصَارِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّه وَرَسُولُهُ نَاصِرًا لَهُ وَمُعِينًا لَهُ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى طَلَبِ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْوَلَايَةُ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْوَلِيِّ مَذْكُورٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، فلما أريد به هاهنا مَعْنَى النُّصْرَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَفْهُومَيْهِ مَعًا.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54] فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالنُّصْرَةِ كَانَ قَوْلُهُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ وقوله يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة: 54] يُفِيدُ فَائِدَةَ قَوْلِهِ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ/ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ [الْمَائِدَةِ: 55] فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُطَابِقَةً لِمَا قَبْلَهَا مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَاهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أن الولاية(12/385)
الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ لَا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ، وَالْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ عَامَّةٌ، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ عَامَّةٍ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يُونُسَ: 24] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهَا أَمْثَالٌ أُخْرَى سِوَى هَذَا الْمَثَلِ، وَقَالَ إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [مُحَمَّدٍ: 36] وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ قَدْ يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا. الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَمَ الْمُؤْمِنِينَ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ جَعَلَهُمْ مُوَلِّيًا عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَالثَّانِي: الْأَوْلِيَاءُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فإذا فسرنا الولاية هاهنا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ أَنْصَارًا لِلْقِسْمِ الثَّانِي. وَنُصْرَةُ الْقِسْمِ الثَّانِي غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي هُمُ الْمَنْصُورُونَ أَنْ يَكُونُوا نَاصِرِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ نُصْرَةَ أَحَدِ قِسْمَيِ الْأُمَّةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِكُلِّ الْأُمَّةِ، بَلْ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْوَلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصَّةً أَنْ لَا تَكُونَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لَا بُدَّ مِنَ التَّأَمُّلِ فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ عَلِيٍّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ الْمُسْلِمَ أَنْ لَا يَتَّخِذَ الْحَبِيبَ وَالنَّاصِرَ إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ في الركوع حال كونه فِي الرُّكُوعِ، وَذَلِكَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَنَقُولُ: هَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ لَا لِلْمَنْدُوبِ بدليل قوله تعالى وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] فَلَوْ أَنَّهُ أَدَّى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي الرُّكُوعِ لَكَانَ قَدْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعْصِيَةٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَمْلُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَآتُوا الزَّكاةَ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ زَكَاةً فَهُوَ وَاجِبٌ.
الثاني: وهو أَنَّ اللَّائِقَ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّه حَالَ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْغَيْرِ وَلِفَهْمِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً/ وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: 191] وَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي الْفِكْرِ كَيْفَ يَتَفَرَّغُ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْغَيْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ دَفْعَ الْخَاتَمِ فِي الصَّلَاةِ لِلْفَقِيرِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أن لا يفعل ذلك. الرابع: أن الْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فَقِيرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا أَعْطَى ثَلَاثَةَ أَقْرَاصٍ نزل فيه سورة هَلْ أَتى [الإنسان: 1] وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ الْمَذْكُورَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ عَلَى إِعْطَاءِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاصٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَكِنَّهُ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ إِلَّا إِذَا تَمَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ لَا النَّاصِرُ وَالْمُحِبُّ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.(12/386)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى السَّائِلِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَوَى إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمْ؟
وَالْجَوَابُ: أَصْلُ الْكَلَامِ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه، فَجُعِلَتِ الْوَلَايَةُ للَّه عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ، ثُمَّ نُظِمَ فِي سَلْكِ إِثْبَاتِهَا لَهُ إِثْبَاتُهَا لِرَسُولِ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ أَصْلٌ وَتَبَعٌ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: إِنَّمَا مَوْلَاكُمُ اللَّه.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا مَحَلُّهُ؟
الْجَوَابُ: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَيَكُونُ مُنَافِقًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْلَاصَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِكَوْنِهِ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ، أَيْ فِي حال الخضوع والخشوع والإخبات للَّه تعالى.
[سورة المائدة (5) : آية 56]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
فيه مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِزْبُ فِي اللُّغَةِ أَصْحَابُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ لِأَمْرِ حِزْبِهِمْ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ. قَالَ الْحَسَنُ: جُنْدُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: أَوْلِيَاءُ اللَّه وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شِيعَةُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْصَارُ اللَّه. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حِزْبُ اللَّه الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِ وَيُطِيعُونَهُ فَيَنْصُرُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْعَائِدُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّقْدِيرٌ فَهُوَ غَالِبٌ لِكَوْنِهِ من جند اللَّه وأنصاره.
[سورة المائدة (5) : آية 57]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ هاهنا النَّهْيَ الْعَامَّ عَنْ مُوَالَاةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ الْكُفَّارِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بِتَقْدِيرِ: وَلَا الْكُفَّارَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: كَانَ رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أَظْهَرَا الْإِيمَانَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي امْتِيَازَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَقَوْلُهُ لَمْ(12/387)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
[الْبَيِّنَةِ: 1] صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِمْ كُفَّارًا، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ وَأَغْلَظُ، فَنَحْنُ لِهَذَا السَّبَبِ نُخَصِّصُهُمْ بِاسْمِ الْكُفْرِ. واللَّه أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَعْنَى تَلَاعُبِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ إِظْهَارُهُمْ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقَلْبِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَةِ: 14] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَسُخْرِيَةً فَلَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَحْبَابًا، فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة.
[سورة المائدة (5) : آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
لَمَّا حَكَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ المسلمين هزوا ولعبا ذكر هاهنا بَعْضَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ هَذَا الدِّينِ هُزُوًا وَلَعِبًا فَقَالَ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ اتَّخَذُوها لِلصَّلَاةِ أَوِ الْمُنَادَاةِ.
قِيلَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه يَقُولُ:
أُحْرِقَ الْكَاذِبُ، فَدَخَلَتْ خَادِمَتُهُ بِنَارٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَتَطَايَرَتْ مِنْهَا شَرَارَةٌ فِي الْبَيْتِ فَاحْتَرَقَ الْبَيْتُ وَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ.
وَقِيلَ: كَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي لِلصَّلَاةِ وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: قَامُوا لَا قَامُوا، صَلَّوْا لَا صَلَّوْا عَلَى طريق الاستهزاء، فنزلت الآية.
وقيل: كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.
وَقِيلَ: قَالُوا يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ أَبْدَعْتَ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ فِيمَا مَضَى، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَقَدْ خَالَفْتَ فِيمَا أَحْدَثْتَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ الْعِيرِ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْأَذَانِ بِنَصِّ الْكِتَابِ لَا بِالْمَنَامِ وَحْدَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ هُزُواً وَلَعِباً أَمْرَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي أَتَيْنَا بِهَا اسْتِهْزَاءٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَسُخْرِيَةٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَنَّا لَسْنَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَمَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا قَالُوا إِنَّهَا لَعِبٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ عَقْلٌ كَامِلٌ لَعَلِمُوا أَنَّ تَعْظِيمَ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ وَخِدْمَتَهُ مَقْرُونَةٌ بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ لَا يَكُونُ هُزُوًا وَلَعِبًا، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَأَشْرَفُ أَفْعَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَشْرَفُ الْحَرَكَاتِ الصلاة، وأنفع السكنات الصيام.
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
[في قوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ] اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَ الْإِسْلَامِ هُزُوًا وَلَعِبًا قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي تَنْقِمُونَ مِنْ هَذَا الدِّينِ، وَمَا الَّذِي تَجِدُونَ فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ اتِّخَاذَهُ هُزُوًا وَلَعِبًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:(12/388)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ هَلْ تَنْقِمُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَالْفَصِيحُ كَسْرُهَا. يُقَالُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا إِذَا أَنْكَرْتَهُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا: هَلْ تَعِيبُونَ هَلْ تُنْكِرُونَ، هَلْ تَكْرَهُونَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ الْعِقَابُ نِقْمَةً لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَا يُنْكَرُ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَرَاهَةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا سُخْطٌ مِنَ الْكَارِهِ تُسَمَّى نِقْمَةً، لِأَنَّهَا تَتْبَعُهَا النِّقْمَةُ الَّتِي هِيَ الْعَذَابُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَفْظُ النِّقْمَةِ مَوْضُوعٌ أَوَّلًا لِلْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْعَذَابُ نِقْمَةً لِكَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَفْظُ النِّقْمَةِ مَوْضُوعٌ لِلْعَذَابِ، ثُمَّ سَمِّيَ الْمُنْكَرُ وَالْمَكْرُوهُ نِقْمَةً لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ الْعَذَابُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ: لِمَ اتَّخَذْتُمْ هَذَا الدِّينَ هُزُوًا وَلَعِبًا، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: هَلْ تَجِدُونَ فِي هَذَا الدِّينِ إِلَّا الْإِيمَانَ باللَّه وَالْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ! يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُنْقَمُ، أَمَّا الْإِيمَانُ باللَّه فَهُوَ رَأْسُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَبِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إِلَى تَصْدِيقِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فِي ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ هُوَ الْمُعْجِزُ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَنَّ الْمُعْجِزَ حَصَلَ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ رَسُولًا، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْبَعْضِ وَإِنْكَارُ الْبَعْضِ فَذَلِكَ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ، وَمَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ هُوَ الدين الحق والطريق المستقيم، فلم تنقموه عَلَيْنَا!
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: أُومِنُ باللَّه وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَى قَوْلِهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: واللَّه مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ أَنْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ إِنَّ بِالْكَسْرِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَنْقِمُ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَوْنِ أَكْثَرِ الْيَهُودِ فَاسِقِينَ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِالْفِسْقِ، فَيَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَبِّعُوهُمْ عَلَى فِسْقِهِمْ، فَكَانَ الْمَعْنَى: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا. وَمَا فَسَقْنَا مِثْلَكُمْ، الثَّانِي:
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَنْقِمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَمُ ذَكَرَ فِي مُقَابِلِهِ/ فِسْقَهُمْ، وَهُوَ مِمَّا يُنْقَمُ، وَمِثْلُ هَذَا حَسَنٌ فِي الِازْدِوَاجِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: هَلْ تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي عَفِيفٌ وَأَنَّكَ فَاجِرٌ، وَأَنِّي غَنِيٌّ وَأَنْتَ فَقِيرٌ، فَيَحْسُنُ ذَلِكَ لِإِتْمَامِ الْمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى (مَعَ) أَيْ وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ باللَّه مَعَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، فَإِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَاكْتَسَبَ الثَّانِي شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ كَانَ اكْتِسَابُهُ لِلصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ مَعَ كَوْنِ خَصْمِهِ مُكْتَسِبًا لِلصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي وُقُوعِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ فِي قَلْبِ الْخَصْمِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ وَاعْتِقَادُ أَنَّكُمْ فَاسِقُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا بِأَنْ آمَنَّا باللَّه وَبِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، يَعْنِي بِسَبَبِ فِسْقِكُمْ نَقَمْتُمُ الْإِيمَانَ عَلَيْنَا. السَّادِسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَمَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا الْإِيمَانَ لِقِلَّةِ إِنْصَافِكُمْ، وَلِأَجْلِ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون.(12/389)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْيَهُودُ كُلُّهُمْ فُسَّاقٌ وَكُفَّارٌ، فَلِمَ خَصَّ الْأَكْثَرَ بِوَصْفِ الْفِسْقِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَكُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى الْمُلُوكِ، فَأَنْتُمْ فِي دِينِكُمْ فُسَّاقٌ لَا عُدُولٌ، فَإِنَّ الْكَافِرَ وَالْمُبْتَدِعَ قَدْ يَكُونُ عَدْلَ دِينِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقَ دِينِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّهُمْ مَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ خُصَّ أَكْثَرُهُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَالثَّانِي: ذُكِرَ أَكْثَرُهُمْ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ داخل في ذلك
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
[في قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ إلى قوله تعالى وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ] فيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مِنْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُنْقِمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَا يُقَالُ الْمَلْعُونُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ الدِّينِ، بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ شَرٌّ مِمَّنْ لَهُ ذَلِكَ الدِّينُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَوْصُوفِينَ بِذَلِكَ الدِّينِ مَحْكُومًا عَلَيْهِمْ بِالشَّرِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا: إِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى حَسَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حَكَمُوا بِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ الدِّينِ شَرٌّ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّه وَغَضَبَهُ وَمَسْخَ الصُّوَرِ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَثُوبَةً نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَوَزْنُهَا مَفُعْلَةٌ كَقَوْلِكَ: مَقُولَةٌ وَمَجُوزَةٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ جَاءَتْ مَصَادِرُ عَلَى مَفْعُولٍ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَيْسُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَثُوبَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِحْسَانِ، فَكَيْفَ جَاءَتْ فِي الْإِسَاءَةِ؟
قُلْنَا: هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (مَنْ) فِي قَوْلِهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: 72] كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ النَّارُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنْ (شَرٍّ) وَالْمَعْنَى أُنَبِّئُكُمْ بِمَنْ لَعَنَهُ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنْوَاعًا: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَعَنَهُمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: عَنَى بِالْقِرَدَةِ أَصْحَابَ السَّبْتِ، وَبِالْخَنَازِيرِ كُفَّارَ مَائِدَةِ عِيسَى. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الْمَسْخَيْنِ كَانَا فِي أَصْحَابِ السَّبْتِ لِأَنَّ شُبَّانَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً، وَمَشَايِخَهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أَنْوَاعًا من القراآت: أَحَدُهَا: قَرَأَ أُبَيٌّ: وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ، وَثَانِيهَا: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَنْ عَبَدُوا، وَثَالِثُهَا: وَعَابِدُ الطَّاغُوتِ عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ،(12/390)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وَرَابِعُهَا: وَعَابِدِي، وَخَامِسُهَا: وَعَبَّادُ، وَسَادِسُهَا: وَعَبْدَ، وَسَابِعُهَا: وَعَبَّدَ، بِوَزْنِ حَطَّمَ، وَثَامِنُهَا: وَعَبِيدُ، وَتَاسِعُهَا: وَعُبُدُ بضمتين جميع عَبِيدٍ، وَعَاشِرُهَا: وَعَبَدَةُ بِوَزْنِ كَفَرَةٍ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ: وَعَبَدُ، وَأَصْلُهُ عَبَدَةٌ، فَحُذِفَتِ التَّاءُ لِلْإِضَافَةِ، أَوْ هُوَ كَخَدَمٍ فِي جَمْعِ خَادِمٍ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ: عَبَدَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ: عِبَادُ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ:
وَأَعْبُدُ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الرَّاجِعُ، بِمَعْنَى وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ، وَالسَّادِسَ عَشَرَ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتُ، بِمَعْنَى صَارَ الطَّاغُوتُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى، كَقَوْلِكَ: أَمَرَ إِذَا صَارَ أَمِيرًا، وَالسَّابِعَ عَشَرَ: قَرَأَ حَمْزَةُ: عَبُدَ الطَّاغُوتِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَنَصْبِ الدَّالِ وَجَرِّ الطَّاغُوتِ، / وَعَابُوا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى حَمْزَةَ وَلَحَّنُوهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْنٍ وَلَا خَطَأٍ، وَذَكَرُوا فِيهَا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْعَبُدُ إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْبَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَذُرٌ وَفَطُنٌ لِلْبَلِيغِ فِي الْحَذَرِ وَالْفِطْنَةِ، فَتَأْوِيلُ عَبُدَ الطَّاغُوتِ أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ. الثاني: أَنَّ الْعَبْدَ، وَالْعَبُدَ لُغَتَانِ كَقَوْلِهِمْ: سَبْعٌ وَسَبُعٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبُدَ جَمْعُهُ عِبَادٌ، وَالْعِبَادُ جَمْعُهُ عُبُدٌ، كَثِمَارٍ وَثُمُرٍ. ثُمَّ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ فَأُبْدِلَتِ الْأُولَى بِالْفَتْحَةِ. الرَّابِعُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَعْبُدُ الطَّاغُوتَ، فَيَكُونُ مِثْلَ فَلَسَ وَأَفْلَسَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ. الْخَامِسُ: يحتمل أنه أراد: وعبدة الطاغوت، كما قريء، ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ وَضَمَّ الْبَاءَ لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِالْفِعْلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قَالَ الفرّاء: تأويله وجعل منهم القردة من عَبَدَ الطَّاغُوتَ، فَعَلَى هَذَا: الْمَوْصُولُ مَحْذُوفٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّه. قَالُوا: لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَجَعَلَ اللَّه مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ مَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِمْ تِلْكَ الْعِبَادَةَ، إِذْ لَوْ كَانَ جَعْلُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ لَكَانَ اللَّه تَعَالَى مَا جَعَلَهُمْ عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ، بَلْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَوَصَفَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19] وَالْكَلَامُ فِيهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قِيلَ: الطَّاغُوتُ الْعِجْلُ، وَقِيلَ: الطَّاغُوتُ الْأَحْبَارُ، وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّه فَقَدْ عَبَدَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أَيْ أُولَئِكَ الْمَلْعُونُونَ الْمَمْسُوخُونَ شَرٌّ مَكَانًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي لَفْظِ الْمَكَانِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لِأَنَّ مَكَانَهُمْ سَقَرُ، وَلَا مَكَانَ أَشَدُّ شَرًّا مِنْهُ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ أُضِيفَ الشَّرُّ فِي اللَّفْظِ إِلَى الْمَكَانِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَهْلِهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ وَالدِّينِ الْحَقِّ. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عبر الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَقَالُوا: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ والخنازير، فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم.
[سورة المائدة (5) : آية 61]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)(12/391)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
[في قوله تعالى وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] فيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ نِفَاقًا، فَأَخْبَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِشَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ مَجْلِسِكَ كَمَا دَخَلُوا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ دَلَائِلِكَ وَتَقْرِيرَاتِكَ وَنَصَائِحِكَ وَتَذْكِيرَاتِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ ... خَرَجُوا بِهِ يُفِيدُ بَقَاءَ الْكُفْرِ مَعَهُمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَغْيِيرٍ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وَخَرَجَ بِهِ، أَيْ بَقِيَ ثَوْبُهُ حَالَ الْخُرُوجِ كَمَا كَانَ حَالَ الدُّخُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ عِنْدَ الدُّخُولِ كَلِمَةَ «قَدْ» فَقَالَ وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَذَكَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ كَلِمَةَ هُمْ فَقَالَ: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ قَالُوا: الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «قَدْ» تَقْرِيبُ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «هُمْ» التَّأْكِيدُ فِي إِضَافَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ، أَيْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ جُلُوسِهِمْ مَعَكَ مَا يُوجِبُ كُفْرًا، فَتَكُونَ أَنْتَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُمْ فِي الْكُفْرِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْكُفْرَ إِلَيْهِمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّه.
وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِيمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَكْرِ بِالْمُسْلِمِينَ والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 62]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62)
الْمُسَارَعَةُ فِي الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ. قِيلَ: الْإِثْمُ الْكَذِبُ، وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَالْعُدْوَانُ مَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا أَكْلُ السُّحْتِ فَهُوَ أَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ السُّحْتِ، وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ أَنَّ كُلَّهُمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فَيَتْرُكُ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ فِي الْخَيْرِ. قَالَ تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آلِ عِمْرَانَ: 114] وَقَالَ تَعَالَى: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: 56] فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَفْظَ الْعَجَلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ كَأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيهِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الْإِثْمِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُ الْعُدْوَانَ وَأَكْلَ السُّحْتِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:(12/392)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
[سورة المائدة (5) : آية 63]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
مَعْنَى لَوْلا هاهنا التحضيض وَالتَّوْبِيخُ، وَهُوَ بِمَعْنَى هَلَّا، وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ قَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ الْحَسَنُ: الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ، وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى اسْتَبْعَدَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ مَا نَهَوْا سَفَلَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ مُرْتَكِبِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ ذَمَّ تَارِكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُقْدِمِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ السُّحْتِ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة: 62] وَقَالَ فِي الْعُلَمَاءِ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ وَالصُّنْعُ أَقْوَى مِنَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ/ إِنَّمَا يُسَمَّى صِنَاعَةً إِذَا صَارَ مُسْتَقِرًّا رَاسِخًا مُتَمَكِّنًا، فَجَعَلَ جُرْمَ الْعَامِلِينَ ذَنْبًا غَيْرَ رَاسِخٍ، وَذَنْبَ التَّارِكِينَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ذَنْبًا رَاسِخًا، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَرَضُ الرُّوحِ، وَعِلَاجُهُ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ وَبِأَحْكَامِهِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْعِلْمُ وَمَا زَالَتِ الْمَعْصِيَةُ كَانَ مِثْلَ الْمَرَضِ الَّذِي شَرِبَ صَاحِبُهُ الدَّوَاءَ فَمَا زَالَ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَرَضَ صَعْبٌ شَدِيدٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ، فَكَذَلِكَ الْعَالِمُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ أَشَدُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفَ عِنْدِي مِنْهَا واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا.
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَنَرَى الْيَهُودَ مُطْبِقِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّا لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَلَا نَعْتَقِدُهُ أَلْبَتَّةَ، وَأَيْضًا الْمَذْهَبُ الَّذِي يُحْكَى عَنِ الْعُقَلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا (اللَّه) اسْمٌ لِمَوْجُودٍ قَدِيمٍ، وَقَادِرٍ عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَغْلُولَةً وَقُدْرَتُهُ مُقَيَّدَةً وَقَاصِرَةً، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ حِفْظُ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرُهُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ الْإِشْكَالُ الشَّدِيدُ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْحِيحِ هَذَا النَّقْلِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ: عِنْدَنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَالُوا هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَةِ: 245] قَالُوا: لَوِ احْتَاجَ إِلَى الْقَرْضِ لَكَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا، فَلَمَّا حَكَمُوا بِأَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَسْتَقْرِضُ شَيْئًا مِنْ عِبَادِهِ فَقِيرٌ مَغْلُولُ الْيَدَيْنِ، لَا جَرَمَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ الثَّانِي: لَعَلَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ قَالُوا عَلَى/ سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ(12/393)
مَغْلُولُ الْيَدِ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ هَذَا الْكَلَامَ الثَّالِثُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْيَهُودُ كَانُوا أَكْثَرَ النَّاسِ مَالًا وَثَرْوَةً، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا وَكَذَّبُوا بِهِ ضَيَّقَ اللَّه عَلَيْهِمُ الْمَعِيشَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّه مَغْلُولَةٌ، أَيْ مَقْبُوضَةٌ عَنِ الْعَطَاءِ عَلَى جِهَةِ الصِّفَةِ بِالْبُخْلِ، وَالْجَاهِلُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. الرَّابِعُ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْفَلْسَفَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مُوجِبٌ لِذَاتِهِ، وَأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ عَنْهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَسُنَنٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلَيْهَا تَقَعُ، فَعَبَّرُوا عَنْ عَدَمِ الِاقْتِدَارِ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ بِغِلِّ الْيَدِ. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ هُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ: إِنَّ اللَّه لَا يُعَذِّبُنَا إِلَّا بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا الْعِجْلَ فِيهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى غَيْرَ مُعَذِّبٍ لَهُمْ إِلَّا فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاسْتَوْجَبُوا اللَّعْنَ بِسَبَبِ فَسَادِ الْعِبَارَةِ وَعَدَمِ رِعَايَةِ الْأَدَبِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ صَحِيحَةٌ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَلُّ الْيَدِ وَبَسْطُهَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ عَنِ الْبُخْلِ وَالْجُودِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ لَا سِيَّمَا لِدَفْعِ الْمَالِ وَلِإِنْفَاقِهِ، فَأَطْلَقُوا اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَأَسْنَدُوا الْجُودَ وَالْبُخْلَ إِلَى الْيَدِ وَالْبَنَانِ وَالْكَفِّ وَالْأَنَامِلِ. فَقِيلَ لِلْجَوَادِ: فَيَّاضُ الْكَفِّ مَبْسُوطُ الْيَدِ، وَبَسِطُ الْبَنَانِ تَرِهُ الْأَنَامِلِ. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: كَزُّ الْأَصَابِعِ مَقْبُوضُ الْكَفِّ جَعْدُ الْأَنَامِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبُخْلُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَيْضًا الْبُخْلُ لِتَصِحَّ الْمُطَابَقَةُ، وَالْبُخْلُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي نَهَى اللَّه تَعَالَى عَنْهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟
قُلْنَا: قَوْلُهُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُكْنَةِ مِنَ الْبَذْلِ وَالْإِعْطَاءِ، ثُمَّ إِنَّ عَدَمَ الْمُكْنَةِ مِنَ الْإِعْطَاءِ تَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْبُخْلِ وَتَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْفَقْرِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ الْعَجْزِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْمُكْنَةِ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْبُخْلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُعَلِّمُنَا أَنْ نَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الدُّعَاءِ كَمَا عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] وَكَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [الْبَقَرَةِ: 10] وَعَلَى أَبِي لَهَبٍ فِي قَوْلِهِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [الْمَسَدِ: 1] الثَّانِي: أَنَّهُ إِخْبَارٌ. قَالَ الْحَسَنُ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَيْ شُدَّتْ إِلَى/ أَعْنَاقِهِمْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا الْغُلُّ إِنَّمَا حُكِمَ بِهِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَغُلَّتْ أَيْدِيهِمْ.
قُلْنَا: حُذِفَ الْعَطْفُ وَإِنْ كَانَ مُضْمَرًا إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ كَانَ قَوْلُهُ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كَالْكَلَامِ الْمُبْتَدَأِ بِهِ، وَكَوْنُ الْكَلَامِ مُبْتَدَأً بِهِ يَزِيدُهُ قُوَّةً وَوَثَاقَةً لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَقُوَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِتَقْرِيرِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حَذْفِ فَاءِ التَّعْقِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ(12/394)
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً
[الْبَقَرَةِ: 67] وَلَمْ يَقُلْ: فَقَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلُعِنُوا بِما قالُوا قَالَ الْحَسَنُ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَإِنَّ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ، فَتَارَةً الْمَذْكُورُ هُوَ الْيَدُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْعَدَدِ. قَالَ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: 10] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ للَّه تَعَالَى: مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ الْمَلْعُونِ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَفْسِيرِ يَدِ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَتِ الْمُجَسِّمَةُ: إِنَّهَا عُضْوٌ جُسْمَانِيٌّ كَمَا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: 195] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَحَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لِأَجْلِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ للَّه هَذِهِ الْأَعْضَاءُ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَهُ قَالُوا وَأَيْضًا اسْمُ الْيَدِ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْعُضْوِ، فَحَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ تَرْكٌ لِلُّغَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْقَوْلِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُمَا مُحْدَثَانِ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُتَنَاهٍ فِي الْمِقْدَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْمِقْدَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَابِلًا لِلتَّرْكِيبِ وَالِانْحِلَالِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ افْتَقَرَ إِلَى مَا يُرَكِّبُهُ وَيُؤَلِّفُهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ تَعَالَى جِسْمًا، فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ عضوا جسمانيا.
وأما جُمْهُورُ الْمُوَحِّدِينَ فَلَهُمْ فِي لَفْظِ الْيَدِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ لَمَّا دَلَّ/ عَلَى إِثْبَاتِ الْيَدِ للَّه تَعَالَى آمَنَّا بِهِ، وَالْعَقْلُ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ يَدُ اللَّه عِبَارَةً عَنْ جِسْمٍ مَخْصُوصٍ وَعُضْوٍ مُرَكَّبٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْيَدَ مَا هِيَ وَمَا حَقِيقَتُهَا فَقَدْ فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ.
وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَقَالُوا: الْيَدُ تُذْكَرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْجَارِحَةُ وهو معلوم، وثانيها: النعمة، تقول: لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أَشْكُرُهُ عَلَيْهَا، وَثَالِثُهَا: الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: 45] فَسَّرُوهُ بِذَوِي الْقُوَى وَالْعُقُولِ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَدَ لَكَ بِهَذَا، وَالْمَعْنَى سَلْبُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَرَابِعُهَا:
الْمِلْكُ، يُقَالُ: هَذِهِ الضَّيْعَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ، أَيْ فِي مِلْكِهِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: 237] أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَخَامِسُهَا: شِدَّةُ الْعِنَايَةِ وَالِاخْتِصَاصِ. قَالَ تَعَالَى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وَالْمُرَادُ تَخْصِيصُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَيُقَالُ: يَدِي لَكَ رَهْنٌ بِالْوَفَاءِ إِذَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْيَدُ فِي حَقِّ اللَّه يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَعَانِي فكلها حاصلة.(12/395)
وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّه زَعَمَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ أَنَّ الْيَدَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ سِوَى الْقُدْرَةِ مِنْ شَأْنِهَا التَّكْوِينُ عَلَى سبيل الاصطفاء وقال: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوعَ خَلْقِ آدَمَ بِيَدَيْهِ عِلَّةً لِكَرَامَةِ آدَمَ وَاصْطِفَائِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلِاصْطِفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى وَرَاءَ الْقُدْرَةِ يَقَعُ بِهَا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَعَنِ النِّعْمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ فَسَّرْتُمُ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ فَهَذَا مُشْكَلٌ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ تَارَةً، وَبِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي أُخْرَى، وَإِنْ فَسَّرْتُمُوهَا بِالنِّعْمَةِ فَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَنِعَمُ اللَّه غَيْرُ مَحْدُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: 34] [النحل: 18] .
وَالْجَوَابُ: إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْقَوْمَ جَعَلُوا قَوْلَهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ كِنَايَةً عَنِ الْبُخْلِ، فَأُجِيبُوا عَلَى وَفْقِ كَلَامِهِمْ، فَقِيلَ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْبُخْلِ، بَلْ هُوَ جَوَادٌ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. فَإِنَّ مَنْ أَعْطَى بِيَدِهِ أَعْطَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالنِّعْمَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نِسْبَةٌ بِحَسَبِ الْجِنْسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ أَنْوَاعٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ نِعْمَةُ الدِّينِ وَنِعْمَةُ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةُ الظَّاهِرِ وَنِعْمَةُ الْبَاطِنِ، أَوْ نِعْمَةُ النَّفْعِ وَنِعْمَةُ/ الدَّفْعِ، أَوْ نِعْمَةُ الشِّدَّةِ وَنِعْمَةُ الرَّخَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْبَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ (لَبَّيْكَ) مَعْنَاهُ إِقَامَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ، وَكَذَلِكَ (سَعْدَيْكَ) مَعْنَاهُ مُسَاعَدَةٌ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَاعَتَيْنِ وَلَا مُسَاعَدَتَيْنِ. فَكَذَلِكَ الْآيَةُ: الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ النِّعْمَةَ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ لَيْسَتْ كَمَا ادُّعِيَ مِنْ أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أَيْ يَرْزُقُ وَيَخْلُقُ كَيْفَ يَشَاءُ، إِنْ شَاءَ قَتَّرَ، وَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ. وَقَالَ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: 27] وَقَالَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْدِ: 26] وَقَالَ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آلِ عِمْرَانَ: 26] .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى إِعْطَاءُ الثَّوَابِ لِلْمُطِيعِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْعَاصِيَ الْجَنَّةَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُ، فَهَذَا الْمَنْعُ وَالْحَجْرُ وَالْقَيْدُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِلِّ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ كَمَا قَالَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: 17] فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، يَعْنِي ازْدَادُوا عِنْدَ نُزُولِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنَ الْقُرْآنِ(12/396)
وَالْحُجَجِ شِدَّةً فِي الْكُفْرِ وَغُلُوًّا فِي الْإِنْكَارِ، كَمَا يُقَالُ: مَا زَادَتْكَ مَوْعِظَتِي إِلَّا شَرًّا. وَقِيلَ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ زِيَادَةٌ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ عِنْدَ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ كُفْرًا وَضَلَالًا، فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مُعَلَّلَةً بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ لِلْعِبَادِ لَامْتَنَعَ عَلَيْهِ إِنْزَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَهَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرَاعِي مَصَالِحَ الْعِبَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: 125] .
فَإِنْ قَالُوا: عَلِمَ اللَّه تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَنْزَلَهَا أَوْ لَمْ يُنْزِلْهَا فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُهَا.
قُلْنَا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِازْدِيَادُ لِأَجْلِ إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وهذا يقتضي أن/ تكون إضافة ازدياد اكفر إِلَى إِنْزَالِ تِلْكَ الْآيَاتِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّتِهَا لِأَجْلِ الْحَسَدِ وَلِأَجْلِ حُبِّ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ وَالْمَالِ وَالسِّيَادَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى كَمَا حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدِّينِ، فَكَذَلِكَ حَرَمَهُمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَقَالَتِهِ، يُبَالِغُ فِي نُصْرَتِهِ وَيَطْعَنُ فِي كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ وَتَرْوِيجًا لِمَذْهَبِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْخُصُومَةِ الشَّدِيدَةِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ وَطَوَائِفِهِمْ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضًا، وَيَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي قَوْلِهِ وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمْ في قوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى [المائدة: 51] وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وُقُوعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فِرَقِ الْيَهُودِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ جَبْرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ قَدَرِيَّةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُوَحِّدَةٌ، وَبَعْضَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ فِرَقِ النَّصَارَى: كَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِتَمَامِهِ بَيْنَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟
قُلْنَا: هَذِهِ الْبِدَعُ إِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَمَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمْ يَكُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلًا، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَصْحَابِهِ جَعْلُ ذَلِكَ عَيْبًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ.
وَهَذَا شَرْحُ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ المحن عن الْيَهُودِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا هَمُّوا بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ رَجَعُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ مَقْهُورِينَ مَلْعُونِينَ كَمَا قال تَعَالَى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آلِ عِمْرَانَ: 112] قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلْدَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَيْ لَيْسَ يَحْصُلُ فِي أَمْرِهِمْ قُوَّةٌ مِنَ الْعِزَّةِ وَالْمَنَعَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ(12/397)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْدَعُوا ضَعِيفًا، وَيَسْتَخْرِجُوا نَوْعًا مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُخْتَنْصَرَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّاعِيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ممقوت عند اللَّه تعالى ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 65]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ وَفِي تَهْجِينِ طَرِيقَتِهِمْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَوَجَدُوا سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا سَعَادَاتُ الْآخِرَةِ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعُ الْعِقَابِ، وَالثَّانِي: إِيصَالُ الثَّوَابِ، أَمَّا رَفْعُ الْعِقَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَمَّا إِيصَالُ الثَّوَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْإِيمَانُ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِعْطَاءِ الْحَسَنَاتِ، فَلِمَ ضَمَّ إِلَيْهِ شَرْطَ التَّقْوَى؟
قُلْنَا: الْمُرَادُ كَوْنُهُ آتِيًا بِالْإِيمَانِ لِغَرَضِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْعَاجِلَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 66]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
[في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَفَازُوا بِسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَفَازُوا بِسَعَادَاتِ الدُّنْيَا وَوَجَدُوا طَيِّبَاتِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَفِي إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا:
أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْوَفَاءِ بِعُهُودِ اللَّه فيها، ومن الإقرار باشتمالها على الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهَا: إِقَامَةُ التَّوْرَاةِ إِقَامَةُ أَحْكَامِهَا وَحُدُودِهَا كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ الصَّلَاةَ إِذَا قَامَ بِحُقُوقِهَا، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يُوفِ بِشَرَائِطِهَا: إِنَّهُ أَقَامَهَا. وَثَالِثُهَا: أَقَامُوهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ لِئَلَّا يَزِلُّوا فِي شَيْءٍ مِنْ حُدُودِهَا، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا حَسَنَةٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُتُبُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ:
مِثْلُ كِتَابِ شَعْيَاءَ وَمِثْلُ كِتَابِ حَيْقُوقَ، وَكِتَابِ دَانْيَالَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ وَالشِّدَّةُ، وَبَلَغُوا إِلَى حَيْثُ قَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ فاللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا ذَلِكَ الكفر لا نقلب الْأَمْرُ وَحَصَلَ الْخِصْبُ وَالسَّعَةُ، وَفِي قَوْلِهِ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي شَرْحِ السَّعَةِ وَالْخِصْبِ، لَا أَنَّ هُنَاكَ فَوْقًا وَتَحْتًا، وَالْمَعْنَى لَأَكَلُوا أَكْلًا مُتَّصِلًا(12/398)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
كَثِيرًا، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ فِي الْخَيْرِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ، تُرِيدُ تَكَاثُفَ الْخَيْرِ وَكَثْرَتَهُ عِنْدَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ فَوْقُ نُزُولُ الْقَطْرِ، وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ حُصُولُ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: 96] الثَّالِثُ: الْأَكْلُ مِنْ فَوْقُ كَثْرَةُ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَمِنْ تَحْتِ الْأَرْجُلِ الزُّرُوعُ الْمُغَلَّةُ، وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنْ يَرْزُقَهُمُ الْجِنَانَ الْيَانِعَةَ الثِّمَارِ، فَيَجْتَنُونَ مَا تَهَدَّلَ مِنْ رؤوس الشَّجَرِ، وَيَلْتَقِطُونَ مَا تَسَاقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَالْخَامِسُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى مَا جَرَى عَلَى الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ مِنْ قَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ عَنْ أَوْطَانِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ مَعْنَى الِاقْتِصَادِ فِي اللُّغَةِ الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَأَصْلُهُ الْقَصْدُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ مَطْلُوبَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ وَلَا اضْطِرَابٍ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَوْضِعَ مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَحَيِّرًا، تَارَةً يَذْهَبُ يَمِينًا وَأُخْرَى يَسَارًا، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ الِاقْتِصَادُ عِبَارَةً عَنِ الْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَرَضِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَصِدَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّجَاشِيِّ مِنَ النَّصَارَى، فَهُمْ عَلَى الْقَصْدِ مِنْ دِينِهِمْ، وَعَلَى الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْهُ، وَلَمْ يَمِيلُوا إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهَا الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ عُدُولًا فِي دِينِهِمْ، وَلَا يَكُونُ فِيهِمْ عِنَادٌ شَدِيدٌ وَلَا غِلْظَةٌ كَامِلَةٌ، كَمَا قَالَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آلِ عِمْرَانَ: 75] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا أَسْوَأَ عَمَلَهُمْ، وَالْمُرَادُ: مِنْهُمُ الْأَجْلَافُ الْمَذْمُومُونَ الْمُبْغَضُونَ الَّذِينَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمُ الدَّلِيلُ وَلَا/ يَنْجَعُ فيهم القول.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَى قِلَّةِ الْمُقْتَصِدِينَ وَكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ وَلَا يَخْشَى مَكْرُوهَهُمْ فَقَالَ بَلِّغْ أَيْ وَاصْبِرْ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَفَضَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، فَإِنَّ اللَّه يَعْصِمُكَ مِنْ كَيْدِهِمْ وَيَصُونُكَ مِنْ مَكْرِهِمْ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّه بَعَثَنِي بِرِسَالَتِهِ فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ يُكَذِّبُونِي وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقُرَيْشٌ يُخَوِّفُونِي، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ زَالَ الْخَوْفُ بِالْكُلِّيَّةِ»
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أَيَّامَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ يُجَاهِرُ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ وَيُخْفِي بَعْضَهُ إِشْفَاقًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَسَرُّعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَامَ وأيده بالمؤمنين قال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
أَيْ لَا تُرَاقِبَنَّ أَحَدًا، وَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ رِسالاتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْأَنْعَامِ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ [الْأَنْعَامِ: 124] على الجمع، وفي الأعراف بِرِسالاتِي [الْأَعْرَافِ: 144] عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الضِّدِّ، فَفِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَفِي الْأَعْرَافِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ ابْنُ(12/399)
عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ كُلُّهُ عَلَى الْجَمْعِ.
حُجَّةُ مَنْ جَمَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُبْعَثُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ الرِّسَالَاتِ وَأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ رِسَالَةٌ، فَحَسُنَ لَفْظُ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَنْ أَفْرَدَ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ رِسَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: 14] فَوَقَعَ الِاسْمُ الواحد على الجمع، وكذا هاهنا لَفْظُ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
أَجَابَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّكَ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِدًا مِنْهَا كُنْتَ كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئًا مِنْهَا، / وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ لَكَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مِقْدَارَ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ مِثْلُ مِقْدَارِ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ، فَسَقَطَ هَذَا الْجَوَابُ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَمَعْنَاهُ أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ مَتَى قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ مِنْ هَذَا الوجه، فكذا هاهنا: فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ التَّبْلِيغِ بِتَهْدِيدٍ أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي عَيْبِ الْيَهُودِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَالنَّبِيُّ سَكَتَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، وهو قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الْأَحْزَابِ: 28] فَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِنَّ خَوْفًا مِنَ اخْتِيَارِهِنَّ الدُّنْيَا فَنَزَلَتْ. الرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّه، واللَّه تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وَلَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّه شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ قَوْلَهُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الْأَحْزَابِ: 37] الْخَامِسُ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ، فَكَانَ يُمْسِكُ أَحْيَانًا عَنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْجِهَادِ.
السَّادِسُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 108] سَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ فنزلت هذه الْآيَةُ وَقَالَ بَلِّغْ يَعْنِي مَعَايِبَ آلِهَتِهِمْ وَلَا تُخْفِهَا عَنْهُمْ، واللَّه يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ. السَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا بَيَّنَ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاسِكَ (هَلْ بَلَّغْتُ) قَالُوا نَعَمْ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ»
الثَّامِنُ:
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ «اللَّه» فَرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ
وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ. التَّاسِعُ: كَانَ يَهَابُ قُرَيْشًا وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأَزَالَ اللَّه عن قلبه(12/400)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
تِلْكَ الْهَيْبَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. الْعَاشِرُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي فَضْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» فَلَقِيَهُ عُمَرُ/ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ:
هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى آمَنَهُ مِنْ مَكْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَمَرَهُ بِإِظْهَارِ التَّبْلِيغِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ مِنْهُ بِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِكَثِيرٍ وَمَا بَعْدَهَا بِكَثِيرٍ لَمَّا كَانَ كَلَامًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى امْتَنَعَ إِلْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ يَعْصِمُهُ مِنَ الْقَتْلِ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، فَمَا أَشَدَّ تَكْلِيفَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! وَثَانِيهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ هاهنا الْكُفَّارُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُمَكِّنُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرُسُهُ سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةِ أَدَمٍ وَقَالَ: «انْصَرِفُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه من الناس» .
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ سَوَاءٌ طَابَ لِلسَّامِعِ أَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِأَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ مما يشق عليهم جدا فقال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَسْتُمْ/ عَلى شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ وَلَا فِي أَيْدِيكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتَ تَحْقِيرَهُ وَتَصْغِيرَ شَأْنِهِ.
وَقَوْلُهُ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً.
وَهَذَا مَذْكُورٌ فِيمَا قَبْلُ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ زِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: لَا تَتَأَسَّفْ بِسَبَبِ نُزُولِ اللَّعْنِ وَالْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِذَلِكَ،
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تُقِرُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ حَقٌّ مِنَ اللَّه تَعَالَى؟ قَالَ بَلَى، قَالُوا: فَإِنَّا مُؤْمِنُونَ بِهَا وَلَا نؤمن بغيرها، فنزلت هذه الآية.(12/401)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وبقي هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: وَالصَّابِئِينَ، وَهَكَذَا قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي عِلَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ ارْتَفَعَ الصَّابِئُونَ بِالِابْتِدَاءِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، فَحُذِفَ خَبَرُهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي عَدَمِ عَطْفِهِمْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ هُوَ أَنَّ الصَّابِئِينَ أَشَدُّ الْفِرَقِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَلَالًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ إِنْ آمَنُوا بالعمل الصالح قبل اللَّه توبتهم وأزال ذَنْبَهُمْ، حَتَّى الصَّابِئُونَ فَإِنَّهُمْ إِنْ آمَنُوا كَانُوا أَيْضًا كَذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أن كلمة (إن) ضعيفة في العمل هاهنا، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّ) إِنَّمَا تَعْمَلُ لِكَوْنِهَا مُشَابِهَةً لِلْفِعْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ/ الْحَرْفِ ضَعِيفَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَعْمَلُ لَكِنْ إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ فَقَطْ، أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّهُ بَقِيَ مَرْفُوعًا بِكَوْنِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ تَأْثِيرٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ بِالدَّلِيلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [الْبَقَرَةِ: 6] الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ، أَمَّا الْأَسْمَاءُ الَّتِي لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ فَلَا يَظْهَرُ أثر هذا الحرف فيها، والأمر هاهنا كذلك، لأن الاسم هاهنا هُوَ قَوْلُهُ الَّذِينَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا يَظْهَرُ فِيهَا أَثَرُ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْإِعْرَابِ، فَالَّذِي يَعْطِفُ عَلَيْهِ يُجَوِّزُ النَّصْبَ عَلَى إِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ، وَالرَّفْعَ عَلَى إِسْقَاطِ عَمَلِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرٌو قَائِمَانِ لِأَنَّ زَيْدًا ظَهَرَ فِيهِ أَثَرُ الْإِعْرَابِ، لَكِنْ إِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ وَإِخْوَتُكَ يُكْرِمُونَنَا، وَإِنَّ هَذَا نَفْسُهُ شُجَاعٌ، وَإِنَّ قَطَامِ وَهِنْدٌ عِنْدَنَا، وَالسَّبَبُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) كَانَتْ فِي الْأَصْلِ ضَعِيفَةَ الْعَمَلِ، وَإِذَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهَا أَثَرٌ فِي اسْمِهَا صَارَتْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، فَجَازَ الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ قَبْلَ دُخُولِ هَذَا الْحَرْفِ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُبْتَدَأً، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ حَسَنٌ وَأَوْلَى مِنْ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ يَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَ اللَّه عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصِّحَّةُ عِنْدَ تَفْكِيكِ هَذَا النَّظْمِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: لَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ «إِنَّ» مِنَ الْعَوَامِلِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَكَوْنُ الْمُبْتَدَأِ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرِ خَبَرًا وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ حَالَ دُخُولِ هَذَا الْحَرْفِ وَقَبْلَهُ، وَكَوْنُهُ مُبْتَدَأً يَقْتَضِي الرَّفْعَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْطُوفُ عَلَى اسْمِ «إِنَّ» يَجُوزُ انْتِصَابُهُ بِنَاءً عَلَى إِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ، وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ أَيْضًا لِكَوْنِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْتَدَأً مُحْدَثًا عَنْهُ وَمُخْبَرًا عَنْهُ.
طَعَنَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ ارْتِفَاعُهُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ (إِنَّ وَاسْمِهَا) بعد ذكر(12/402)
الخبر، تقول: إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَعَمْرًا وَعَمْرٌو بِالنَّصْبِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالرَّفْعِ عَلَى مَوْضِعِ (إِنَّ) وَاسْمِهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّا لَوْ رَفَعْنَاهُ عَلَى مَحَلِّ (إِنَّ وَاسْمِهَا) لَكَانَ الْعَامِلُ فِي خَبَرِهِمَا هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْعَامِلُ فِي خَبَرِهِمَا هُوَ الِابْتِدَاءُ، لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ في الْخَبَرُ الْمُتَأَخِّرُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِحَرْفِ (إِنَّ) وَبِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ فَيَجْتَمِعُ عَلَى الْمَرْفُوعِ الْوَاحِدِ رَافِعَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّحْوِيُّونَ: رَافِعَةً وَنَاصِبَةً لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ لِذَوَاتِهَا أَوْ لِأَعْيَانِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا مُعَرِّفَاتٌ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ، وَاجْتِمَاعُ الْمُعَرِّفَاتِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّه تَعَالَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي ضَعْفِ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّ) مُؤَثِّرَةٌ فِي نَصْبِ الِاسْمِ وَرَفْعِ الْخَبَرِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْحَرْفِ فِي رَفْعِ الْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ إِذَا عُطِفَ بَعْضُهَا عَلَى الْبَعْضِ فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنِ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْرِيفِ حَالِهِ وَبَيَانِ صِفَتِهِ، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الشَّيْءِ وَصِفَتُهُ عَيْنَ حَالِ الْآخَرِ وَصِفَتِهِ، لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِالذَّوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ مُتَعَدِّدٌ، وَهُوَ لَا مَحَالَةَ مَوْجُودٌ بِحَسَبِ التَّقْدِيرِ وَالنِّيَّةِ، وَإِذَا حَصَلَ التَّعَدُّدُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ كَوْنُ الْبَعْضِ مُرْتَفِعًا بِالْحَرْفِ وَالْبَعْضِ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْزَمِ اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْنِ عَلَى مَرْفُوعٍ وَاحِدٍ. وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّمَ أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَخَبَرِهِ جَازَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْطُوفَ إِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِيهِ لِأَنَّا نُضْمِرُ لَهُ خَبَرًا، وَحَكَمْنَا بِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمُضْمَرَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ قُبِلَ ذِكْرُ الْخَبَرِ إِذَا عَطَفْنَا اسْمًا عَلَى اسْمٍ حَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِإِضْمَارِ الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ مَا ذُكِرَ مِنَ الِالْتِزَامِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مَا لَمْ يُؤْمِنُوا، بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِأَحَدٍ فَضِيلَةٌ وَلَا مَنْقَبَةٌ إِلَّا إِذَا آمَنَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ قُوَّتَانِ: الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ، وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، أَمَّا كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فَلَيْسَ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ، وَأَمَّا كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَلَيْسَ إِلَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْخَيْرَ، وَأَعْظَمُ الْمَعَارِفِ شَرَفًا مَعْرِفَةُ أَشْرَفِ الْمَوْجُودَاتِ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَلَا جَرَمَ كَانَ أَفْضَلُ الْمَعَارِفِ هُوَ الْإِيمَانَ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، وَأَفْضَلُ الْخَيْرَاتِ فِي الْأَعْمَالِ أَمْرَانِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُشْعِرَةِ بِتَعْظِيمِ الْمَعْبُودِ، وَالسَّعْيُ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَى الْخَلْقِ/ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه»
ثُمَّ بَيَّنَ تعالى(12/403)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى بِهَذَا الْإِيمَانِ وَبِهَذَا الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَرِدُ الْقِيَامَةَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا حَزَنٍ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا أَنَّ الْخَوْفَ يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بِسَبَبِ مَا فَاتَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا أُمُورًا أَعْظَمَ وَأَشْرَفَ وَأَطْيَبَ مِمَّا كَانَتْ لَهُمْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْزَنُ بِسَبَبِ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ خُلُوُّ الْمُكَلَّفِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعْصُومًا عَنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَكُونُ آتِيًا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا إِذَا كَانَ تَارِكًا لِجَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ حَصَلَ خَوْفٌ فَذَلِكَ عَارِضٌ قَلِيلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْخَوْفِ وَعَدَمَ الْحَزَنِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْمَشْرُوطُ بِشَيْءٍ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَلَزِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْعَفْوِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ اللَّه يَعْفُو عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ حَاصِلًا قَبْلَ إِظْهَارِ الْعَفْوِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَفِي هَذَا التَّكْرِيرِ فَائِدَتَانِ، الْأُولَى: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ وَعْدِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْحَزَنِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَقْسَامٌ، وَأَشْرَفُهَا الْإِيمَانُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي الْإِعَادَةِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَشْرَفُ أَقْسَامِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكُلُّهَا صَالِحَةٌ لِهَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الرَّاجِعُ إِلَى اسْمِ (إِنَّ) مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، واللَّه أعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ عُتُوِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَشِدَّةِ تَمَرُّدِهِمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّه، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا افْتَتَحَ اللَّه بِهِ السُّورَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] فَقَالَ لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يَعْنِي خَلَقْنَا الدَّلَائِلَ وَخَلَقْنَا الْعَقْلَ الْهَادِي إِلَى كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا بِتَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَقَعَتْ صِفَةً لِقَوْلِهِ رُسُلًا وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ، أَيْ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا يُضَادُّ شَهَوَاتِهِمْ مِنْ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ.
وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِهَذَا الشَّرْطِ،(12/404)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ نَاصَبُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ نَاصَبُوهُ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ. وَقَوْلُهُ: الرَّسُولُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ. فَنَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الرُّسُلِ، فَلَا جَرَمَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ ذُكِرَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ مَاضِيًا، وَالْآخَرُ مُضَارِعًا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمْ كَيْفَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ عِيسَى وَمُوسَى فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَكَيْفَ كَانُوا يَتَمَرَّدُونَ عَلَى أَوَامِرِهِ وَتَكَالِيفِهِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السلام إنما توفى في التيه على قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِشُؤْمِ تَمَرُّدِهِمْ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي مُقَاتَلَةِ الْجَبَّارِينَ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ فَهُوَ مَا اتَّفَقَ لَهُمْ فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا قَدْ قَصَدُوا أَيْضًا قَتْلَ عِيسَى وَإِنْ كَانَ اللَّه مَنَعَهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذِكْرُ التَّكْذِيبِ بِلَفْظِ الْمَاضِي هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَدْوَارٌ كَثِيرَةٌ، وَذِكْرُ الْقَتْلِ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَرِيبًا فَكَانَ كَالْحَاضِرِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
وَالْجَوَابُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ التَّقْدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ، فَالتَّكْذِيبُ وَالْقَتْلُ وَإِنْ كَانَا مُنْكَرَيْنِ إِلَّا أَنَّ تَكْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة.
[سورة المائدة (5) : آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو أَنْ لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ بِرَفْعِ نُونِ (تَكُونُ) وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ لِهَذَا تَقْرِيرًا حَسَنًا فَقَالَ: الْأَفْعَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ نَحْوَ:
الْعِلْمُ وَالتَّيَقُّنُ وَالتَّبَيُّنُ، فَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ بعده (أن) الثقيلة ولم يَقَعُ بَعْدَهُ (أَنْ) الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّقِيلَةَ تَدُلُّ عَلَى ثَبَاتِ الشَّيْءِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ وَالثَّبَاتِ وَ (أَنَّ) الثَّقِيلَةُ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى حَصَلَتْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ وَمُجَانَسَةٌ، وَمِثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النُّورِ:
25] أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَةِ: 104] أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [الْعَلَقِ: 14] وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، نَحْوَ: أَطْمَعُ وَأَخَافُ وَأَرْجُو، فَهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ إِلَّا الْخَفِيفَةُ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الْأَنْفَالِ: 26] فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما [الْكَهْفِ: 80] .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: فِعْلٌ يَحْذُو مَرَّةً إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ وَمَرَّةً أُخْرَى إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ نَحْوَ: حَسِبَ وَأَخَوَاتِهَا، فَتَارَةً تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَطْمَعُ وَأَرْجُو فِيمَا لَا يَكُونُ ثَابِتًا وَمُسْتَقِرًّا، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِيمَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا.(12/405)
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْحُسْبَانِ هاهنا بِحَيْثُ يُفِيدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِقْرَارَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَقَعُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْعَذَابِ، وَيُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ بِحَيْثُ لَا يُفِيدُ هَذَا الثَّبَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ وَيَقْتُلُونَ بِسَبَبِ حِفْظِ الْجَاهِ وَالتَّبَعِ، فَكَانُوا بِقُلُوبِهِمْ عَارِفِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا جَرَمَ ظَهَرَ الْوَجْهُ فِي صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، فَمَنْ رَفَعَ قَوْلَهُ أَنْ لَا تَكُونُ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَكُونُ، ثُمَّ خُفِّفَتِ الْمُشَدَّدَةُ وَجُعِلَتْ (لَا) عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ، فَلَوْ قُلْتَ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُولُ، بِالرَّفْعِ لَمْ يَحْسُنْ حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الضَّمِيرِ: نَحْوَ السِّينِ وَسَوْفَ وَقَدْ، كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَوَجْهُ النَّصْبِ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ قَدْ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ وَأَوْقَعَ بَعْدَهُ الْخَفِيفَةَ/ قَوْلُهُ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [الْعَنْكَبُوتِ: 4] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
[الْجَاثِيَةِ:
21] الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2] وَمِثْلُ قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [الزُّخْرُفِ: 80] أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ [المؤمنون: 55] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ [القيامة: 3] فَهَذِهِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَهَا (لَنْ) وَمِثْلُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الظَّنِّ قَوْلُهُ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ [الْقِيَامَةِ: 25] إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما [الْبَقَرَةِ: 230] وَمِنَ الرَّفْعِ قَوْلُهُ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الْجِنِّ: 5] وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الجن: 7] فإن هاهنا الْخَفِيفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ كَقَوْلِهِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] لِأَنَّ (أَنِ) النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ لَنْ، لِأَنَّ (لَنْ) تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَ (أَنِ) النَّاصِبَةَ تُفِيدُ عَدَمَ الثَّبَاتِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ بَابَ حَسِبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَفْعُولَيْنِ، إِلَّا أن قوله أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ جُمْلَةٌ قَامَتْ مَقَامَ مَفْعُولَيْ حَسِبَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَحَسِبُوا الْفِتْنَةَ غَيْرَ نَازِلَةٍ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي (الْفِتْنَةِ) وُجُوهًا، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةَ، ثُمَّ عَذَابُ الدُّنْيَا أَقْسَامٌ: مِنْهَا الْقَحْطُ، وَمِنْهَا الْوَبَاءُ، وَمِنْهَا الْقَتْلُ، وَمِنْهَا الْعَدَاوَةُ، وَمِنْهَا الْبَغْضَاءُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا الْإِدْبَارُ وَالنُّحُوسَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْفِتْنَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حُسْبَانَهُمْ أَنْ لَا تَقَعَ فِتْنَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّسْخَ مُمْتَنِعٌ عَلَى شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ رَسُولٍ جَاءَ بِشَرْعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَكْذِيبُهُ وَقَتْلُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْذِيبِ وَالْقَتْلِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ:
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّه وَأَحِبَّاؤُهُ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُبُوَّةَ أَسْلَافِهِمْ وَآبَائِهِمْ تَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَالتَّكْذِيبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه مسائل:(12/406)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ عَمَاهُمْ وَصَمَمَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ.
واختلف المفسرون في المراد بهاتين المرتين عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ عَمُوا وَصَمُّوا فِي زَمَانِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، ثُمَّ تَابَ اللَّه عَلَى بَعْضِهِمْ حَيْثُ وُفِّقَ بَعْضُهُمْ لِلْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ وَرِسَالَتَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا أَنَّ/ جَمْعًا مِنْهُمْ آمَنُوا بِهِ: مِثْلَ عَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. الثَّانِي: عَمُوا وَصَمُّوا حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثُمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالتَّعَنُّتِ، وَهُوَ طَلَبُهُمْ رُؤْيَةَ اللَّه جَهْرَةً وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ: الثَّالِثُ: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الْإِسْرَاءِ: 4- 6] فَهَذَا فِي مَعْنَى فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ قَالَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الْإِسْرَاءِ: 7] فَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا إِنَّمَا كَانَ بِرَسُولٍ أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِثْلَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا فَآمَنُوا بِهِ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَتْ فَتْرَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا مَرَّةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قريء. عُمُوا وَصُمُّوا بِالضَّمِّ عَلَى تَقْدِيرِ: عَمَاهُمُ اللَّه وَصَمَّهُمُ اللَّه، أَيْ رَمَاهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ، كَمَا تَقُولُ: نَزَكْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِالنَّزْكِ، وَهُوَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَرَكِبْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ «أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ» وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وَالْإِبْدَالُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السَّجْدَةِ: 7] وَقَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: 97] وَهَذَا الإبدال هاهنا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَمُوا وَصَمُّوا لَأَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّهُمْ صَارُوا كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لِلْأَكْثَرِ لَا لِلْكُلِّ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْعَمَى وَالصَّمَمِ الْجَهْلُ وَالْكُفْرُ، فَنَقُولُ: إِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْجَهْلِ هُوَ اللَّه تعالى أو العبد، والأول: يبطل قوله الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْتَارُ الْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لِنَفْسِهِ.
فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ عِلْمٌ.
قُلْنَا: حَاصِلُ هَذَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَارُوا هَذَا الْجَهْلَ لِسَبْقِ جَهْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنَّ الْجَهَالَاتِ لَا تَتَسَلْسَلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ انْتِهَائِهَا إِلَى الْجَهْلِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ الْعَبْدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أَيْ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ.(12/407)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى الْكَلَامَ مَعَ اليهود شرع هاهنا فِي الْكَلَامِ مَعَ النَّصَارَى فَحَكَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِلَهًا، وَلَعَلَّ مَعْنَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى حَلَّ فِي ذَاتِ عِيسَى وَاتَّحَدَ بِذَاتِ عِيسَى، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ عِقَابَ الْفُسَّاقِ لَا يَكُونُ مُخَلَّدًا، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ هُوَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَ مَأْوَاهُمُ النَّارَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعٌ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَلَوْ كَانَ حَالُ الْفُسَّاقِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ على شركهم بهذا الوعيد فائدة.
[سورة المائدة (5) : آية 73]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ثَلاثَةٍ كُسِرَتْ بِالْإِضَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهَا لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَاحِدُ ثَلَاثَةٍ. أَمَّا إِذَا قُلْتَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ فَهَهُنَا يَجُوزُ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي صَيَّرَ الثَّلَاثَةَ أَرْبَعَةً بِكَوْنِهِ فِيهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّصَارَى ثالِثُ ثَلاثَةٍ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّه وَمَرْيَمَ وَعِيسَى آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَسِيحِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: 116] فَقَوْلُهُ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أَيْ أَحَدُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ ذِكْرُ الْآلِهَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَلَا يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ ثَالِثَ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا واللَّه ثَالِثُهُمَا بِالْعِلْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: 7] .
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ حَكَوْا عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ أَبٌ، وَابْنٌ،(12/408)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْقُرْصَ وَالشُّعَاعَ وَالْحَرَارَةَ، وَعَنُوا بِالْأَبِ الذَّاتَ، وَبِالِابْنِ الْكَلِمَةَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ، وَأَثْبَتُوا الذَّاتَ وَالْكَلِمَةَ وَالْحَيَاةَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّه اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسَى اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ، وَاخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِاللَّبَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَبَ إِلَهٌ، وَالِابْنَ إِلَهٌ، وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَالْكُلَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ وَاحِدًا، وَالْوَاحِدَ، لَا يَكُونُ ثَلَاثَةً، وَلَا يُرَى فِي الدُّنْيَا مَقَالَةٌ أَشَدُّ فَسَادًا وَأَظْهَرُ بُطْلَانًا مِنْ مَقَالَةِ النَّصَارَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فِي (مِنْ) قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا إِلَهٌ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُفِيدُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا فِي الْوُجُودِ مِنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ:
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية. ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 74]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَمْرٌ فِي لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَةِ: 91] فِي آية تحريم الخمر.
[سورة المائدة (5) : آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ جَاءَ بِآيَاتٍ مِنَ اللَّه كَمَا أَتَوْا بِأَمْثَالِهَا، فَإِنْ كَانَ اللَّه أَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَا الْمَوْتَى عَلَى يَدِهِ فَقَدْ أَحْيَا الْعَصَا وَجَعَلَهَا حَيَّةً تَسْعَى وَفَلَقَ الْبَحْرَ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ فَقَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ وَفِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا صَدَّقَتْ بِآيَاتِ رَبِّهَا وَبِكُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ وَلَدُهَا. قَالَ تَعَالَى فِي صِفَتِهَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التَّحْرِيمِ: 12] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مَرْيَمَ: 17] فَلَمَّا كَلَّمَهَا جِبْرِيلُ وَصَدَّقَتْهُ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الصِّدِّيقَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهَا صِدِّيقَةً غَايَةُ بُعْدِهَا عَنِ الْمَعَاصِي وَشِدَّةُ جِدِّهَا وَاجْتِهَادِهَا فِي إِقَامَةِ مَرَاسِمِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ الْكَامِلَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ يُسَمَّى صِدِّيقًا قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النِّسَاءِ: 69] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ فَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَخْلُوقًا لَا إِلَهًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ إِلَى الطَّعَامِ أَشَدَّ الْحَاجَةِ، وَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ فَإِنَّهُ لَا بدّ(12/409)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
وَأَنْ يُحْدِثَ، وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَكَلَ أَحْدَثَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَلَا يُحْدِثُونَ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَكْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِلَهٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِنَا إِلَى جَعْلِهِ كِنَايَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، فَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ عَنْ نفسه بغير الطعام والشراب، فلما لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِلْعَالَمِينَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفَسَادُ قَوْلِ النَّصَارَى أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إِلَى دَلِيلٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِفْكًا إِذَا صَرَفَهُ، وَالْإِفْكُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْءِ مَأْفُوكٌ عَنْهُ، وَقَدْ/ أَفَكَتِ الْأَرْضُ إِذَا صُرِفَ عَنْهَا الْمَطَرُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أَنَّى يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنْ تَأَمُّلِ الْحَقِّ، وَالْإِنْسَانُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْرِفَ نَفْسَهُ عَنِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عن ذلك. ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
وَهَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا مِنَ الْحُجَّةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَادُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ بِالسُّوءِ، فَمَا قَدَرَ عَلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَكَانَ أَنْصَارُهُ وَصَحَابَتُهُ يُحِبُّونَهُ فَمَا قَدَرَ عَلَى إِيصَالِ نَفْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا إِلَيْهِمْ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّانِي: أَنَّ مَذْهَبَ النَّصَارَى أَنَّ الْيَهُودَ صَلَبُوهُ وَمَزَّقُوا أَضْلَاعَهُ، وَلَمَّا عَطِشَ وَطَلَبَ الْمَاءَ مِنْهُمْ صَبُّوا الْخَلَّ فِي مَنْخِرَيْهِ، وَمَنْ كَانَ فِي الضَّعْفِ هَكَذَا كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا. الثَّالِثُ: أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ عِيسَى كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَعْبُدُ شَيْئًا، إِنَّمَا الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ الْإِلَهَ، وَلَمَّا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُهُ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ عَلِمْنَا أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهَا لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَى الْعِبَادِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَبْدًا كَسَائِرِ الْعَبِيدِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الدَّلِيلِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لِأَبِيهِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: 42] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّهْدِيدُ يَعْنِي سَمِيعٌ بِكُفْرِهِمْ عليم بضمائرهم.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ أَوَّلًا: عَلَى أَبَاطِيلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ ثَانِيًا: عَلَى أَبَاطِيلِ النَّصَارَى وَأَقَامَ الدَّلِيلَ الْقَاهِرَ عَلَى بُطْلَانِهَا وَفَسَادِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَاطَبَ مَجْمُوعَ الْفَرِيقَيْنِ بِهَذَا الْخِطَابِ فقال يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي(12/410)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ
وَالْغُلُوُّ نَقِيضُ التَّقْصِيرِ. وَمَعْنَاهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَدِينَ اللَّه بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ. وَقَوْلُهُ غَيْرَ الْحَقِّ صِفَةُ الْمَصْدَرِ، أَيْ/ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الْحَقِّ، أَيْ غُلُوًّا بَاطِلًا، لِأَنَّ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ نَوْعَانِ: غُلُوُّ حَقٍّ، وَهُوَ أَنْ يُبَالَغَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَأْكِيدِهِ، وَغُلُوُّ بَاطِلٍ وَهُوَ أَنْ يُتَكَلَّفَ فِي تَقْرِيرِ الشُّبَهِ وَإِخْفَاءِ الدَّلَائِلِ، وَذَلِكَ الْغُلُوُّ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ لَعَنَهُمُ اللَّه نَسَبُوهُ إِلَى الزِّنَا. وَإِلَى أَنَّهُ كَذَّابٌ، وَالنَّصَارَى ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: الأهواء هاهنا الْمَذَاهِبُ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ دُونَ الْحُجَّةِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا ذَكَرَ اللَّه لَفْظَ الْهَوَى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَمَّهُ. قَالَ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: 16] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: 3] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: 23] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
لَمْ نَجِدِ الْهَوَى يُوضَعُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشَّرِّ. لَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَهْوَى الْخَيْرَ، إِنَّمَا يُقَالُ: يُرِيدُ الْخَيْرَ وَيُحِبُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَوَى إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّه. وَقِيلَ: سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، وَأَنْشَدَ فِي ذَمِّ الْهَوَى:
إِنَّ الْهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإِذَا هَوَيْتَ فقد لقيت هوانا
وقال رجل لا بن عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ هَوَايَ عَلَى هَوَاكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ هَوًى ضَلَالَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِثَلَاثِ دَرَجَاتٍ فِي الضَّلَالِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُضِلِّينَ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ حَتَّى إِنَّهُمُ الْآنَ ضَالُّونَ كَمَا كَانُوا، وَلَا نجد حالة أقرب إلى البعد مِنَ اللَّه وَالْقُرْبِ مِنْ عِقَابِ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ. نَعُوذُ باللَّه مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ:
أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، ثُمَّ ضَلُّوا بِسَبَبِ اعْتِقَادِهِمْ فِي ذَلِكَ الْإِضْلَالِ أَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى الْحَقِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّلَالِ الْأَوَّلِ الضَّلَالَ عَنِ الدِّينِ، وَبِالضَّلَالِ الثَّانِي الضَّلَالَ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَاطَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِهَذَا الْخِطَابِ وَصَفَ أسلافهم فقال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي أَصْحَابَ السَّبْتِ، وَأَصْحَابَ الْمَائِدَةِ. أَمَّا أَصْحَابُ السَّبْتِ فَهُوَ أَنَّ قَوْمَ دَاوُدَ، وَهُمْ أَهْلُ «أَيْلَةَ» لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ بِأَخْذِ الْحِيتَانِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَالَ دَاوُدُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَاجْعَلْهُمْ آيَةً فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْمَائِدَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا مِنَ الْمَائِدَةِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ، وَكَانُوا/ خَمْسَةَ آلَافِ رَجُلٍ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَنَّا مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى(12/411)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَعَنَا مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَعْصُونَ وَيُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ العصيان.
[سورة المائدة (5) : آية 79]
كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ الْمَعْصِيَةَ وَالِاعْتِدَاءَ بِقَوْلِهِ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ وَلِلتَّنَاهِي هاهنا مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنَ النَّهْيِ، أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
رَوَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِي التَّنَاهِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ. يُقَالُ: انْتَهَى عَنِ الْأَمْرِ، وَتَنَاهَى عَنْهُ إِذَا كَفَّ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ اللَّامُ فِي لَبِئْسَ لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُقْسِمُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَعَاصِي وَالْعُدْوَانُ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَفْعُولًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِمَ ذَمَّهُمْ عَلَيْهِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ الثَّانِي: لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ أَرَادُوا فِعْلَهُ وَأَحْضَرُوا آلَاتِهِ وَأَدَوَاتِهِ. الثَّالِثُ: لَا يَتَنَاهَوْنَ عن الإصرار على منكر فعلوه.
[سورة المائدة (5) : آية 80]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَسْلَافَهُمْ بِمَا تَقَدَّمَ وَصَفَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ وَعَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ حِينَ اسْتَجَاشُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرسول صلى اللَّه عليه وسلم، وذكرنا ذلك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النِّسَاءِ: 51] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ بِئْسَ مَا قَدَّمُوا مِنَ الْعَمَلِ لِمَعَادِهِمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ مَحَلُّ أَنْ رفع كما تَقُولُ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَرَفْعُهُ كَرَفْعِ زَيْدٍ، وَفِي زَيْدٍ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَيَكُونُ (بِئْسَ) وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ خَبَرَهُ، وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ لَمَّا قال: بئس رجلا قتل: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: زَيْدٌ، أَيْ هُوَ زَيْدٌ.
[سورة المائدة (5) : آية 81]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)(12/412)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يؤمنون باللَّه والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التَّوْرَاةِ كَمَا يَدَّعُونَ مَا اتَّخَذُوا الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ مُتَأَكِّدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِيرَ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ مُرَادُهُمُ الرِّيَاسَةُ وَالْجَاهُ فَيَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِالْفِسْقِ فَقَالَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:
وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلُّونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ باللَّه وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اتَّخَذَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ ما يدفعه.
[سورة المائدة (5) : آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا ذَكَرَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الآية أن اليهود في غاية العداوة مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرَنَاءَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي شدة العداوة، بل نبّه على أنهم أشد في العداوة مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَمْرِي إِنَّهُمْ كَذَلِكَ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَلَا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّا بِقَتْلِهِ»
وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ النَّصَارَى أَلْيَنُ عَرِيكَةً من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.
وهاهنا مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهِ النَّجَاشِيُّ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ النَّصَارَى مَعَ ظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ:
مَذْهَبُ الْيَهُودِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي الدِّينِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الْقَتْلِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَبِغَصْبِ الْمَالِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالْحِيلَةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ مَذْهَبُهُمْ ذَاكَ بَلِ الْإِيذَاءُ فِي دِينِهِمْ حَرَامٌ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّفَاوُتِ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ بَيَانِ هَذَا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أَمْرِ الْيَهُودِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَسَمًا إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عداوة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ شَرَحْتُ لَكَ أَنَّ هَذَا التَّمَرُّدَ وَالْمَعْصِيَةَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ، فَفَرِّغْ خَاطِرَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ هَذَا التَّفَاوُتِ فَقَالَ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: عِلَّةُ هَذَا التَّفَاوُتِ أَنَّ الْيَهُودَ مَخْصُوصُونَ بِالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى الدُّنْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(12/413)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْبَقَرَةِ: 96] فَقَرَنَهُمْ فِي الْحِرْصِ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَالْحِرْصُ مَعْدِنُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا طَرَحَ دِينَهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَأَقْدَمَ عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ وَمُنْكَرٍ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، فَلَا جَرَمَ تَشْتَدُّ عَدَاوَتُهُ مَعَ كُلِّ مَنْ نَالَ مَالًا أَوْ جَاهًا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُعْرِضُونَ عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ وَلَا يُؤْذِيهِمْ وَلَا يُخَاصِمُهُمْ، بَلْ يَكُونُ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ سَهْلَ الِانْقِيَادِ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.
وهاهنا دَقِيقَةٌ نَافِعَةٌ فِي طَلَبِ الدِّينِ وَهُوَ أَنَّ كُفْرَ النَّصَارَى أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ لِأَنَّ النَّصَارَى يُنَازِعُونَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي النُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودُ لَا يُنَازِعُونَ إِلَّا فِي النُّبُوَّاتِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَغْلَظُ، ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مَعَ غِلْظِ كُفْرِهِمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخِرَةِ شَرَّفَهُمُ اللَّه بِقَوْلِهِ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَأَمَّا الْيَهُودُ مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَخَفُّ فِي جَنْبِ كُفْرِ النَّصَارَى طَرَدَهُمْ وَخَصَّهُمُ اللَّه بِمَزِيدِ اللَّعْنِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ اسْمٌ لِرَئِيسِ النَّصَارَى، وَالْجَمْعُ الْقِسِّيسُونَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: صَنَعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ وَأَدْخَلَتْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَكَانَ اسْمُهُ قِسِّيسًا، فَمَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ قِسِّيسٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ، وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ الْوِفَاقُ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ فَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ وَفَارِسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّهْبَانُ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ رَهَابِينُ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْمَخَافَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الْحَدِيدِ: 27]
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» .
قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَمْدُوحًا فِي مُقَابَلَةِ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ فِي الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ كَوْنُهُ مَمْدُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
[سورة المائدة (5) : آية 83]
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضَّمِيرُ فِي/ قَوْلِهِ سَمِعُوا يَرْجِعُ إِلَى الْقِسِّيسِينَ والرهبان الذين آمنوا منهم وما أُنْزِلَ يَعْنِي الْقُرْآنَ إِلَى الرَّسُولِ يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النجاشي وأصحابه، وذلك لأن جعفر الطَّيَّارَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ تَبِنَةً مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ: واللَّه مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَ اللَّه فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ هَذَا، وَمَا زَالُوا يَبْكُونَ حَتَّى فَرَغَ جَعْفَرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتَّى تَفِيضَ لِأَنَّ الْفَيْضَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْإِنَاءُ وَغَيْرُهُ حَتَّى يَطَلُعَ مَا فِيهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المراد(12/414)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْبُكَاءِ فَجُعِلَتْ أَعْيُنُهُمْ كَأَنَّهَا تَفِيضُ بِأَنْفُسِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أَيْ مِمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ (مِنْ) وَبَيْنَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ.
قُلْنَا: الْأُولَى: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ فَيْضَ الدَّمْعِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَكَانَ مِنْ أَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَالثَّانِيَةُ: لِلتَّبْعِيضِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ عَرَفُوا بَعْضَ الْحَقِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَأَبْكَاهُمُ اللَّه، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا كُلَّهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا أَيْ بِمَا سَمِعْنَا وَشَهِدْنَا أَنَّهُ حَقٌّ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وَالثَّانِي: أَيْ مَعَ كُلِّ مَنْ شَهِدَ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَمُؤْمِنِي عِبَادِكَ بِأَنَّكَ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ. وأما قوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 84]
وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَحَلُّ لَا نُؤْمِنُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِكَ قَائِمًا، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَنَطْمَعُ وَاوُ الْحَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ.
قُلْنَا: الْعَامِلُ فِي الْأُولَى مَا فِي اللَّامِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَلَ لَنَا حَالَ كَوْنِنَا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِي مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ وَلَكِنْ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ الْأُولَى، لِأَنَّكَ لَوْ أَزَلْتَهَا وَقُلْتَ: وَمَا لَنَا وَنَطْمَعُ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَنَطْمَعُ حَالًا مِنْ لَا نُؤْمِنُ عَلَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّه وَيَطْمَعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَصْحَبُوا الصَّالِحِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى/ قَوْلِهِ لَا نُؤْمِنُ عَلَى مَعْنَى: وَمَا لَنَا نَجْمَعُ بَيْنَ التَّثْلِيثِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَيُدْخِلُنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ جَنَّتَهُ وَدَارَ رِضْوَانِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [الْحَجِّ: 59] إِلَّا أَنَّهُ حَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 85 الى 86]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوَابَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ لا يفيد الثواب.
وأجابوا عنه من وجهين: الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم(12/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان. الثاني: رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قوله بِما قالُوا يريد بما سألوا، يعني قولهم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاسِقَ لَا يَبْقَى مُخَلَّدًا فِي النَّارِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا الْإِحْسَانُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 83] وَمِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ، وَهَذَا الْإِقْرَارَ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، وَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا الْإِقْرَارُ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، فَأَمَّا أَنْ يُنْقَلَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ يُقَالَ: يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهِ ثُمَّ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فَقَوْلُهُ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَا غَيْرُهُمْ، وَالْمُصَاحِبُ لِلشَّيْءِ هُوَ الْمُلَازِمُ لَهُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَهَذَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا الدَّوَامِ بِالْكُفَّارِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ الْفَاسِقِ.
[سورة المائدة (5) : آية 87]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا اسْتَقْصَى فِي الْمُنَاظَرَةِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَادَ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْهَا.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِحِلِّ المطاعم والمشارب واللذات فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الطَّيِّبَاتُ اللَّذِيذَاتُ الَّتِي تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، وَتَمِيلُ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَبَالَغَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، فَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ الطَّيِّبَةَ وَالْمُشَارِبَ اللَّذِيذَةَ، وَأَنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَأَنْ لَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَيَخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فقالوا لَهُمْ «إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا فَإِنِّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ وَجْهُ النَّظْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ النَّصَارَى بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، وَعَادَتُهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَلَمَّا مَدَحَهُمْ أَوْهَمَ ذَلِكَ الْمَدْحُ تَرْغِيبَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ إِزَالَةً لِذَلِكَ الْوَهْمِ، لِيُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْقُلُوبِ، فَإِذَا تَوَسَّعَ الْإِنْسَانُ فِي اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ اشْتَدَّ مَيْلُهُ إِلَيْهَا وَعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَدْوَمَ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ أَقْوَى وَأَعْظَمَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْمَيْلُ قُوَّةً وَرَغْبَةً ازْدَادَ حِرْصُهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَاسْتِغْرَاقُهُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ عَنِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّه وَفِي طَاعَتِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَعْرَضَ عَنْ(12/416)
لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا، فَكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ أَتَمَّ وَأَدْوَمَ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ أَضْعَفَ وَالرَّغْبَةُ أَقَلَّ، وَحِينَئِذٍ تَتَفَرَّغُ النَّفْسُ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي خِدْمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي نَهْيِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ؟
وَالْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ الْمُفْرِطَةَ وَالِاحْتِرَازَ التَّامَّ عَنِ الطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ مِمَّا يُوقِعُ الضَّعْفَ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ الَّتِي هِيَ الْقَلْبُ وَالدِّمَاغُ، وَإِذَا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اختلف الْفِكْرَةُ وَتَشَوَّشَ الْعَقْلُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْمَلَ السَّعَادَاتِ وَأَعْظَمَ الْقُرُبَاتِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ/ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّدِيدَةُ مِمَّا يُوقِعُ الْخَلَلَ فِي ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ لَا جَرَمَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ اشْتِغَالَ النَّفْسِ بِطَلَبِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ يَمْنَعُهَا عَنِ الِاسْتِكْمَالِ بِالسَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنْ فِي حَقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ، أَمَّا النُّفُوسُ الْمُسْتَعْلِيَةُ الْكَامِلَةُ فَإِنَّهَا لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ مَانِعًا لَهَا مِنَ الِاسْتِكْمَالِ بِالسَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ النُّفُوسَ قَدْ تَكُونُ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ مَتَى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشتغال بهم آخَرَ، وَكُلَّمَا كَانَتِ النَّفْسُ أَقْوَى كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ أَكْمَلَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الْخَالِصَةُ دَلِيلًا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوَفَاءِ بِالْجِهَتَيْنِ وَالِاسْتِكْمَالِ فِي النَّاسِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةَ، كَانَ غَرَضُهُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ رِيَاضَتَهُ وَمُجَاهَدَتَهُ أَتَمُّ مِنْ رِيَاضَةِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، لِأَنَّ صَرْفَ حِصَّةِ النَّفْسِ إِلَى جَانِبِ الطَّاعَةِ أَشَقُّ وَأَشَدُّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ حِصَّةِ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ الْكَمَالُ فِي هَذَا أَتَمَّ. الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ التَّامَّةَ تُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ. وَأَمَّا تَرْكَ الرَّهْبَانِيَّةِ مَعَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَاتِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ عِمَارَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ أَكْمَلَ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْوَجْهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ السورة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ الْمُحَلَّلِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، وَقَدْ حكى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانُوا يُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَغَيْرَهُمَا، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّه ولا يحللوا مَا أَحَلَّ اللَّه وَلَا يُحَلِّلُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّه تعالى حتى يدخلوا تحت قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّه تَعَالَى لَكُمْ، وَثَانِيهَا: لَا تُظْهِرُوا بِاللِّسَانِ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّه لَكُمْ، وَثَالِثُهَا: لَا تَجْتَنِبُوا عَنْهَا اجْتِنَابًا شَبِيهَ الِاجْتِنَابِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَرَابِعُهَا: لَا تُحَرِّمُوا عَلَى غَيْرِكُمْ بِالْفَتْوَى، وَخَامِسُهَا: لَا تَلْتَزِمُوا تَحْرِيمَهَا بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيمِ: 1] وَسَادِسُهَا: أَنْ يَخْلِطَ الْمَغْصُوبَ بِالْمَمْلُوكِ خَلْطًا لَا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ، وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ الْكُلُّ، فَذَلِكَ الْخَلْطُ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا خُلِطَ النَّجِسُ بِالطَّاهِرِ، وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِكُلِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى/ جَعَلَ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ اعْتِدَاءً وَظُلْمًا فَنَهَى عَنِ الِاعْتِدَاءِ لِيَدْخُلَ تَحْتَهُ النَّهْيُ عَنْ تَحْرِيمِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا أباح(12/417)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
الطَّيِّبَاتِ حَرَّمَ الْإِسْرَافَ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْتَدُوا ونظيره قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الْأَعْرَافِ: 31] الثَّالِثُ: يَعْنِي لِمَا أَحَلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ فَاكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُحَلَّلَاتِ وَلَا تتعدوها إلى ما حرّم عليكم.
ثم قال تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 88]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَكُلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ، وَظَاهِرُهَا لِلْوُجُوبِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْلِيلُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِهِ فِي أَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَقَالُوا: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْأَكْلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ خُصَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ حَلالًا طَيِّباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَكْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَأْكُولِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُوا حَلَالًا طَيِّبًا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي: كُلُوا مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فإنه حجة المعتزلة عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ دَالَّةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي أَكْلِ كُلِّ مَا رَزَقَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا يَأْذَنُ اللَّه تَعَالَى فِي أَكْلِ الْحَلَالِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ رِزْقًا كَانَ حَلَالًا، وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَإِنَّهُ حُجَّةٌ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ إِذْنَ الْأَكْلِ بِالرِّزْقِ الَّذِي يَكُونُ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَوْلَا أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ تَعَالَى: كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ، ولكن قال كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَكَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اقْتَصِرُوا فِي الْأَكْلِ عَلَى الْبَعْضِ وَاصْرِفُوا الْبَقِيَّةَ إِلَى الصَّدَقَاتِ وَالْخَيْرَاتِ لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْكِ الْإِسْرَافِ كَمَا قال: وَلا تُسْرِفُوا [الأنعام: 141] [الْأَعْرَافِ: 31] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَكَفَّلْ بِرِزْقِهِ لَمَا قَالَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَإِذَا تَكَفَّلَ اللَّه بِرِزْقِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي الطَّلَبِ وَأَنْ يُعَوِّلَ عَلَى وَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا فَاتَّقُوا اللَّه وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»
أَمَّا قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلتَّوْصِيَةِ/ بِمَا أَمَرَ بِهِ، زَادَهُ تَوْكِيدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يُوجِبُ التَّقْوَى فِي الِانْتِهَاءِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ وَعَمَّا نَهَى عنه.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْوَاعًا مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: أَيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ؟ فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ(12/418)
حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ وَالْمَلَابِسَ وَاخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَهَاهُمُ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّه فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيماننا أنزل اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أن يَمِينَ اللَّغْوِ مَا هُوَ قَدْ سَبَقَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ عَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ عَقَدَ فُلَانٌ الْيَمِينَ وَالْعَهْدَ وَالْحَبْلَ عَقْدًا إِذَا وَكَّدَهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَقَّدَ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا وَكَّدَ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا عَاقَدَ بِالْأَلِفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، يُقَالُ: عَقَدَ زَيْدٌ يَمِينَهُ، وَعَقَدُوا أَيْمَانَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ زَيَّفَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: التَّشْدِيدُ لِلتَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ تُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْيَمِينِ الواحدة لأنها لم تكرر.
وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: عَقَدَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. الثَّانِي: هَبْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّكْرِيرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ [يُوسُفَ: 23] إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَعْقِدَهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ أَمَّا لَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُعَقِّدًا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْأَلِفِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ مِثْلُ عَافَاهُ اللَّه وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مَا) مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِعَقْدِكُمْ أَوْ بِتَعْقِيدِكُمْ أَوْ بِمُعَاقَدَتِكُمُ الْأَيْمَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ إِذَا حَنَثْتُمْ، فَحَذَفَ وَقْتَ الْمُؤَاخَذَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَوْ بِنَكْثِ مَا عَقَّدْتُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا في سورة البقرة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا جَمِيعًا فَالْوَاجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الصَّوْمُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا جَمِيعًا، وَمَتَى أَتَى بِأَيِّ وَاحِدٍ شَاءَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ فَذَاكَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: الْوَاحِدُ لَا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ(12/419)
يُقَالَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا بِعَيْنِهِ. وَهَذَا مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُجُودِ لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يُرَادُ بِهِ التَّكْلِيفُ، الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ:
الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاجِبًا بِعَيْنِهِ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه نَصِيبُ كُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ، وَهُوَ ثُلُثَا مَنٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ/ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَاجِبُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَصَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْحِنْطَةِ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِطْعَامِ إِلَّا قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَهَذَا الْوَسَطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ، أَوْ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الْعُرْفِ فَثُلُثَا مَنٍ مِنَ الْحِنْطَةِ إِذَا جُعِلَ دَقِيقًا أَوْ جُعِلَ خُبْزًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَرِيبًا مِنَ الْمَنِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي قُوتِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ لَهُ مِقْدَارٌ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا
رُوِيَ فِي خَبَرِ الْمُفْطِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مِقْدَارٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَجِدُ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعِمْ هَذَا،
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ بِرُبْعِ الصَّاعِ، وَهُوَ مُدٌّ، وَلَا يُلْزَمُ كَفَّارَةَ الْحَلِفِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ مُطْلَقَةً عَنِ التَّقْدِيرِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ، فَكَانَ قَدْرُهَا مُعْتَبَرًا بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَقْدِيرُهَا بِالصَّاعِ لَا بِالْمُدِّ.
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْدَلُ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه هُوَ أَدْنَى مَا يَكْفِي، فَأَمَّا الْأَعْدَلُ فَيَكُونُ بِإِدَامٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّه:
مُدٌّ مَعَهُ إِدَامُهُ، وَالْإِدَامُ يَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ مُدٍّ آخَرَ أَوْ يَزِيدُ فِي الْأَغْلَبِ.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ فِي الْقَدْرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ قَلِيلَ الْأَكْلِ جِدًّا يَكْفِيهِ الرَّغِيفُ الْوَاحِدُ، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرَ الْأَكْلِ فَلَا يَكْفِيهِ الْمَنَوَانِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَكْفِيهِ مِنَ الْخُبْزِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْمَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّوَسُّطَ في القيمة لا يكون غالبا كَالسُّكَّرِ، وَلَا يَكُونُ خَسِيسَ الثَّمَنِ كَالنُّخَالَةِ وَالذُّرَةِ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْحِنْطَةُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْخُبْزُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَوْسَطَ فِي الطِّيبِ وَاللَّذَاذَةِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَنَقُولُ:
يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِدَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي قَدْرِ الطَّعَامِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، وَالْبَاقِي مَشْكُوكٌ فِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبْنَا الْيَقِينَ وطرحنا الشك واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْوَاجِبُ تَمْلِيكُ الطَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا غَدَّى أَوْ عَشَّى عَشَرَةَ مساكين جاز.(12/420)
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، إِمَّا الْإِطْعَامُ، أَوِ الْكِسْوَةُ، أَوِ الْإِعْتَاقُ، ثُمَّ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكِسْوَةِ التَّمْلِيكُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي الْإِطْعَامِ هُوَ التَّمْلِيكَ.
حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الإطعام، والتغذية وَالتَّعْشِيَةُ هُمَا إِطْعَامٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الْإِنْسَانِ: 8] وَقَالَ: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
وَإِطْعَامُ الْأَهْلِ يَكُونُ بِالتَّمْكِينِ لَا بِالتَّمْلِيكِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ إِذَا كَانَ يُقَدِّمُ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ أَكْلِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِطْعَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِيًا.
أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْمُدُّ أَوِ الأزيد، والتغذية وَالتَّعْشِيَةُ قَدْ تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا بِالْيَقِينِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّه: لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا طَعَامُ عَشَرَةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ جَازَ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْبَابِ عَلَى التَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الاعتماد فيه عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِسْوَةُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا اللِّبَاسُ، وَهُوَ كُلُّ مَا يُكْتَسَى بِهِ، فَأَمَّا الَّتِي تُجْزِي فِي الْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ إِزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ سَرَاوِيلُ أَوْ عِمَامَةٌ أَوْ مِقْنَعَةٌ ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْمُرَادُ بِالرَّقَبَةِ الْجُمْلَةُ، وَقِيلَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْأَسِيرَ فِي الْعَرَبِ كَانَ يُجْمَعُ يَدَاهُ إِلَى رَقَبَتِهِ بِحَبْلٍ، فَإِذَا أُطْلِقَ حُلَّ ذَلِكَ الْحَبْلُ فَسُمِّيَ الْإِطْلَاقُ مِنَ الرَّقَبَةِ فَكَّ الرَّقَبَةِ، ثُمَّ جَرَى ذَلِكَ عَلَى الْعِتْقِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ جَمِيعَ الرَّقَبَاتِ تُجْزِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الرَّقَبَةُ الْمُجْزِيَةُ فِي الْكَفَّارَةِ كُلُّ رَقَبَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ عَيْبٍ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَلَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْكَافِرَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَلَا إِعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ، وَلَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي آيَةِ الظِّهَارِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَيُّ فَائِدَةٍ لِتَقْدِيمِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْعِتْقِ مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ أَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ.
قُلْنَا لَهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى التَّخْيِيرِ لَا عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى التَّرْتِيبِ لَوَجَبَتِ الْبُدَاءَةُ بِالْأَغْلَظِ، وَثَانِيهَا: قُدِّمَ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ/ لِكَوْنِ الطَّعَامِ أَعَمَّ وُجُودًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي التَّخْفِيفَ وَالتَّسْهِيلَ فِي التَّكَالِيفِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِطْعَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْحُرَّ الْفَقِيرَ قَدْ لَا يَجِدُ الطَّعَامَ، وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيهِ الطَّعَامَ فَيَقَعُ فِي الضُّرِّ، أَمَّا الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ إِطْعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ وَمِنَ الْفَضْلِ مَا يُطْعِمُ(12/421)
عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ هَذَا الْقَدْرُ جَازَ لَهُ الصِّيَامُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَجُعِلَ مَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَادِمًا.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ الصِّيَامِ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فعند عدم وِجْدَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّوْمُ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ وِجْدَانِ قُوتِ نَفْسِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي حَقِّ النَّفْسِ وَحَقِّ الْغَيْرِ كَانَ تَقْدِيمُ حَقِّ النَّفْسِ وَاجِبًا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْآيَةُ مَعْمُولًا بِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِنْ شَاءَ مُتَتَابِعَةً وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقَةً.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ التَّتَابُعُ.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْآتِي بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى التَّفَرُّقِ آتٍ بِصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.
حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، مَا رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: فَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَقِرَاءَتُهُمَا لَا تَخْتَلِفُ عَنْ رِوَايَتِهِمَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَنُقِلَتْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، إِذْ لَوْ جَوَّزْنَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ لَا يُنْقَلَ عَلَى التَّوَاتُرِ لَزِمَ طَعْنُ الرَّوَافِضِ وَالْمَلَاحِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ مَرْدُودَةٌ، فَلَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ حُجَّةً. وَأَيْضًا نُقِلَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ) مَعَ أَنَّ التَّتَابُعَ هُنَاكَ مَا كَانَ شَرْطًا، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَأَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَاتٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهَمَ فَالدِّرْهَمَ أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ قَالَ بَلَى، قَالَ/ فاللَّه أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَأَنْ يَصْفَحَ» .
قُلْنَا: فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ، وَتَعْلِيلَهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الصِّيَامَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ هَاهُنَا أَيْضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ عَيَّنَ إِحْدَى الثَّلَاثَتَيْنِ لِإِحْدَى الْيَمِينَيْنِ أَوْ لَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ قَوْلَهُ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حلفتم وخنثتم لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَلِفِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذِكْرَ الْحِنْثِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، كَمَا قَالَ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَةِ: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ.
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ جَائِزٌ فَقَالَ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ كَفَّارَةٌ لِلْيَمِينِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ، فَإِذَا أَدَّاهَا بَعْدَ الْحَلِفِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَقَدْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ عَنْ ذَلِكَ الْيَمِينِ،(12/422)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. قَالَ: وَقَوْلُهُ إِذا حَلَفْتُمْ فِيهِ دَقِيقَةٌ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْيَمِينِ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ قَلِّلُوا الْأَيْمَانَ وَلَا تُكْثِرُوا مِنْهَا قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ برت
فدل قوله (وإن سبقت منه الألية) على أن قوله (حافظ ليمينه) وصف منه له بأنه لا يحلف. الثاني:
واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التكفير، واللفظ محتمل للوجهين، إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصا
بقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثم ليكفر عن يمينه» .
ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمعنى ظاهر، والكلام في لفظ لعلّ تقدم مرارا.
[سورة المائدة (5) : آية 90]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً [المائدة:
87، 88] ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الْمُسْتَطَابَةِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمَا غَيْرُ دَاخِلَيْنِ فِي الْمُحَلَّلَاتِ، بَلْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [المائدة: 3] فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
وَفِي اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْخَمْرِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا لِأَنَّهَا خَامَرَتِ الْعَقْلَ، أَيْ خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ، وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: تُرِكَتْ فَاخْتَمَرَتْ، أَيْ تَغَيَّرَ رِيحُهَا، وَالْمَيْسِرُ هُوَ قِمَارُهُمْ فِي الْجَزُورِ، وَالْأَنْصَابُ هِيَ آلِهَتُهُمُ الَّتِي نَصَبُوهَا يَعْبُدُونَهَا، وَالْأَزْلَامُ سِهَامٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ بِوَصْفَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ رِجْسٌ وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا اسْتُقْذِرَ مِنْ عَمَلٍ. يُقَالُ: رَجُسَ الرَّجُلُ رِجْسًا ورجس إِذَا عَمِلَ عَمَلًا قَبِيحًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّجْسِ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ شِدَّةُ الصَّوْتِ. يُقَالُ: سَحَابٌ رَجَّاسٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الصَّوْتِ بِالرَّعْدِ فَكَانَ الرَّجْسُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يَكُونُ قَوِيَّ الدَّرَجَةِ كَامِلَ الرُّتْبَةِ فِي الْقُبْحِ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: قَوْلُهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وَهَذَا أَيْضًا مُكَمِّلٌ لِكَوْنِهِ رِجْسًا لِأَنَّ الشَّيْطَانَ نَجَسٌ خَبِيثٌ لِأَنَّهُ كَافِرٌ وَالْكَافِرُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: 28] وَالْخَبِيثُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى الْخَبِيثِ لِقَوْلِهِ(12/423)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النُّورِ: 26] وَأَيْضًا كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْإِضَافَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَمَالِ قُبْحِهِ. قَالَ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْقَصَصِ: 15] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَ فَاجْتَنِبُوهُ أَيْ كُونُوا جَانِبًا مِنْهُ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى مَاذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الرِّجْسِ، وَالرِّجْسٌ وَاقِعٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ/ بِالِاجْتِنَابِ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ.
الثَّانِي: أَنَّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّمَا شَأْنُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَوْ تَعَاطِيهِمَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ فِيهَا نَوْعَيْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ: فَالْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بالدنيا وهو قوله:
[سورة المائدة (5) : آية 91]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
وَاعْلَمْ أَنَّا نَشْرَحُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَوَّلًا فِي الْخَمْرِ ثُمَّ فِي الْمَيْسِرِ:
أَمَّا الْخَمْرُ فَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُهَا مَعَ جَمَاعَةٍ وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الشُّرْبِ أَنْ يَسْتَأْنِسَ بِرُفَقَائِهِ وَيَفْرَحَ بِمُحَادَثَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ، فَكَانَ غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَنْقَلِبُ إِلَى الضِّدِّ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَإِذَا زَالَ الْعَقْلُ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ الْعَقْلِ، وَعِنْدَ اسْتِيلَائِهِمَا تَحْصُلُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ، وَتِلْكَ الْمُنَازَعَةُ رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْمُشَافَهَةِ بِالْفُحْشِ، وَذَلِكَ يُورِثُ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَالشَّيْطَانُ يُسَوِّلُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الشُّرْبِ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَبِالْآخِرَةِ انْقَلَبَ الْأَمْرُ وَحَصَلَتْ نِهَايَةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ بِإِزَاءِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي الْقِمَارِ مَرَّةً دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّجَاجِ فِيهِ عَنْ رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ لَا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَى أَنْ يُقَامِرَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْقَى فَقِيرًا مِسْكِينًا وَيَصِيرُ مِنْ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا غَالِبِينَ لَهُ فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ سَبَبَانِ عَظِيمَانِ فِي إِثَارَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ تُفْضِي إِلَى أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ مِنَ الْهَرْجِ وَالْمَرْجِ وَالْفِتَنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَمَعَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مَعَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ ثُمَّ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة: 90] وَالْمَقْصُودُ نَهْيُهُمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْقُبْحِ وَالْمَفْسَدَةِ، / فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِنَّمَا ضَمَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ إِلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَأْكِيدًا لِقُبْحِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، لَا جَرَمَ أَفْرَدَهُمَا فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالذِّكْرِ.(12/424)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: الْمَفَاسِدُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فنقول: أما أن شرب الخمر يمنع عن ذِكْرَ اللَّه فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخُمُورِ يُورِثُ الطَّرَبَ وَاللَّذَّةَ الْجُسْمَانِيَّةَ، وَالنَّفْسُ إِذَا اسْتَغْرَقَتْ فِي اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ غَفَلَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى، وَأَمَّا أَنَّ الْمَيْسِرَ مَانِعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ غَالِبًا صَارَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي لَذَّةِ الْغَلَبَةِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِمَّا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ هِيَ هَذِهِ الْمَعَانِي، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَا كَانَ حَاصِلًا وَهَذَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ:
قُلْنَا: هَذَا هُوَ أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى اشْتِمَالَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فِي الدِّينِ.
قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النِّسَاءِ: 43] قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ اسْتِفْهَامًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ النَّهْيُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَأَظْهَرَ قُبْحَهَا لِلْمُخَاطَبِ، فَلَمَّا اسْتَفْهَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ تَرْكِهَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُخَاطَبُ إِلَّا عَلَى الإقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قَدْ ظَهَرَ مِنْ قُبْحِهِ مَا قَدْ ظَهَرَ فَصَارَ قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ جَارِيًا مَجْرَى تَنْصِيصِ اللَّه تَعَالَى عَلَى وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ مَقْرُونًا بِإِقْرَارِ الْمُكَلَّفِ بِوُجُوبِ الِانْتِهَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ وجوه: أحدها: تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِلْحَصْرِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا رِجْسَ وَلَا شَيْءَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وثانيها: أَنَّهُ تَعَالَى قَرَنَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ»
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلَاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلَاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خَيْبَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ شَرَحَ أَنْوَاعَ الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَهِيَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ الْخَلْقِ/ وَحُصُولُ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْتَهَى بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ؟ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تُوعَظُوا بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ. وَسَابِعُهَا: أنه تعالى قال بعد ذلك.
[سورة المائدة (5) : آية 92]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَأَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِهِمَا بِالِاجْتِنَابِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَقَوْلُهُ وَاحْذَرُوا أي احذروا عن مخالفتها فِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ.
وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ:(12/425)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَأَعْرَضَ فِيهِ عَنْ حُكْمِ اللَّه، وَبَيَانِهِ، يَعْنِي أَنَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَالْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمْ وَالرَّسُولُ قَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عِقَابِ مَنْ خَالَفَ هَذَا التَّكْلِيفَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَذَاكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ الِاعْتِسَافَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلُهُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: 91] قَالَ بَعْدَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَرَتَّبَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ مُشْتَمِلَةً عَلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي السُّكْرِ وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ عِلَّةَ قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هِيَ كَوْنُ الْخَمْرِ مُؤَثِّرًا فِي الْإِسْكَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَبَقِيَ مُصِرًّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِعِنَادِهِ عِلَاجٌ، واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: إِنَّ إِخْوَانَنَا كَانُوا قَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا فَكَيْفَ حَالُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْمَعْنَى: لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَرِبُوهَا حَالَ مَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشَابِهَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ أَنَّكُمْ حِينَ اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدِ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ بِأَمْرِي فَلَا أُضِيعُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آلِ عِمْرَانَ: 195] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ اللُّغَةِ خِلَافُ الشَّرَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطُّعْمُ خِلَافَ الشُّرْبِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَشْرُوبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أَيْ شَرِبُوا الْخَمْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطُّعْمِ رَاجِعًا إِلَى التَّلَذُّذِ بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: تَطَعَّمْ تَطْعَمْ أَيْ ذُقْ حَتَّى تَشْتَهِيَ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ رَاجِعًا إِلَى الذَّوْقِ صَلُحَ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ مَعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أنها محرمة عند ما تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 143] وَلَكِنَّهُ(12/426)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَلَا شَكَّ أَنَّ إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ كلمة إِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي فَجَوَابُهُ مَا
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّه حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَاتِ،
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ مَرَّتَيْنِ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حُصُولَ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الأول: عَمَلُ الِاتِّقَاءِ، وَالثَّانِي: دَوَامُ الِاتِّقَاءِ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ: اتِّقَاءُ ظُلْمِ الْعِبَادِ مَعَ ضَمِّ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ اتِّقَاءُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي: اتِّقَاءُ الخمر والميسر وما في هذه الآية. الثالث: اتِّقَاءُ مَا يَحْدُثُ تَحْرِيمُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَصَمِّ، الْقَوْلُ الثَّالِثُ: اتِّقَاءُ الْكُفْرِ ثُمَّ الْكَبَائِرِ ثُمَّ الصَّغَائِرِ، الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: التَّقْوَى الْأُولَى عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّقَاءِ مِنَ الْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النَّسْخِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ النَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ سَمَاعِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبَاحَةً أَنْ يَتَّقُوا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّقْوَى الثَّانِيَةُ الْإِتْيَانُ بِالْعَمَلِ الْمُطَابِقِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّقْوَى الثَّالِثَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى التَّقْوَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثُمَّ يُضَمُّ إِلَى هَذِهِ التَّقْوَى الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ شَرَطَ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَطْعُومَاتِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَعَ أَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ التَّنَاوُلِ، بَلْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ وَفِي تَرْكِ التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ الْمُبَاحِ فَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا لِلِاشْتِرَاطِ بَلْ لِبَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَحَمْدًا لِأَحْوَالِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَكَ: هَلْ عَلَى زَيْدٍ فِيمَا فَعَلَ جُنَاحٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ مُبَاحٌ فَتَقُولُ: لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ فِي الْمُبَاحِ إِذَا اتَّقَى الْمَحَارِمَ وَكَانَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا تُرِيدُ أَنَّ زَيْدًا إِنْ بَقِيَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا فَعَلَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْإِحْسَانَ شَرْطًا فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ بَيَّنَ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِحْسَانِ لَيْسَ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ فَقَطْ، بَلْ وَفِي أَنْ يُحِبَّهُ اللَّه، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ أَشْرَفُ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَحَبَّةِ اللَّه تَعَالَى لِعِبَادِهِ.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)(12/427)