لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
هذا النهي عن الاتخاذ إنما هو فيما يظهره المرء فأما أن يتخذه بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي إنما هو عبارة عن إظهار اللطف للكفار والميل إليهم، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار، واختلف الناس في سبب هذه الآية، فقال ابن عباس: كان كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مباطنتهم فأبى أولئك النفر إلا موالاة اليهود فنزلت الآية في ذلك، وقال قوم: نزلت الآية في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا ويدخل فيها فعل أبي لبابة في إشارته إلى حلقه حين بعثه النبي عليه السلام في استنزال بني قريظة، وأما تعذيب بني المغيرة لعمار فنزل فيما أباح النبي عليه السلام لعمار إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] .
وقوله تعالى: مِنْ دُونِ عبارة عن كون الشيء الذي تضاف إليه دُونِ غائبا متنحيا ليس من الأمر الأول فِي شَيْءٍ، وفي المثل، وأمر دون عبيدة الوذم كأنه من غير أن ينتهي إلى الشيء الذي تضاف إليه، ورتبها الزجاج المضادة للشرف من الشيء الدون وفيما قاله نظر، قوله: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ معناه، في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي عليه السلام من غشنا فليس منا، وفي الكلام حذف مضاف تقديره، فليس من التقرب إلى الله أو التزلف ونحو هذا، وقوله فِي شَيْءٍ هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله «ليس من الله» ثم أباح الله إظهار اتخاذهم بشرط الاتقاء، فأما إبطانه فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال، وقرأ جمهور الناس «تقاة» أصله وقية- على وزن فعلة- بضم الفاء وفتح العين أبدلوا من الواو تاء كتجاة وتكأة فصار تقية ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فجاء تُقاةً قال أبو علي يجوز أن تكون تُقاةً مثل رماة حالا من تَتَّقُوا وهو جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقى وجعل فعيل بمنزلة فاعل، وقرأ ابن عباس والحسن وحميد بن قيس ويعقوب الحضرمي ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو رجاء والجحدري وأبو حيوة «تقية» بفتح التاء وشد الياء على وزن فعيلة وكذلك روى المفضل عن عاصم وأمال الكسائي القاف في تُقاةً في الموضعين، وأمال حمزة في هذه الآية ولم يمل في قوله: حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وفتح سائر القراء القاف إلا أن نافعا كان يقرأها بين الفتح والكسر، وذهب قتادة إلى أن معنى الآية: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً من جهة صلة الرحم أي ملامة، فكأن الآية عنده مبيحة الإحسان إلى القرابة من الكفار، وذهب جمهور المفسرين إلى أن معنى الآية، إلا أن تخافوا منهم خوفا وهذا هو معنى التقية.(1/419)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
واختلف العلماء في التقية ممن تكون؟ وبأي شيء تكون؟ وأي شيء تبيح؟ فأما الذي تكون منه التقية فكل قادر غالب مكره يخاف منه، فيدخل في ذلك الكفار إذا غلبوا وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر، قال مالك رحمه الله: وزوج المرأة قد يكره، وأما بأي شيء تكون التقية ويترتب حكمها فذلك بخوف القتل وبالخوف على الجوارح وبالضرب بالسوط وبسائر التعذيب، فإذا فعل بالإنسان شيء من هذا أو خافه خوفا متمكنا فهو مكره وله حكم التقية، والسجن إكراه والتقييد إكراه والتهديد والوعيد إكراه وعداوة أهل الجاه الجورة تقية، وهذه كلها بحسب حال المكره وبحسب الشيء الذي يكره عليه، فكم من الناس ليس السجن فيهم بإكراه، وكذلك الرجل العظيم يكره بالسجن والضرب غير المتلف ليكفر فهذا لا تتصور تقيته من جهة عظم الشيء الذي طلب منه، ومسائل الإكراه هي من النوع الذي يدخله فقه الحال، وأما أي شيء تبيح فاتفق العلماء على إباحتها للأقوال باللسان من الكفر وما دونه ومن بيع وهبة وطلاق، وإطلاق القول بهذا كله، ومن مداراة ومصانعة، وقال ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلما به. واختلف الناس في الأفعال، فقال جماعة من أهل العلم منهم الحسن ومكحول ومسروق: يفعل المكره كل ما حمل عليه مما حرم الله فعله وينجي نفسه بذلك، وقال مسروق:
فإن لم يفعل حتى مات دخل النار، وقال كثير من أهل العلم منهم سحنون: بل إن لم يفعل حتى مات فهو مأجور وتركه ذلك المباح أفضل من استعماله، وروي أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له، نهيت بن الحارث، أخذته الفرس أسيرا، فعرض عليه شرب الخمر وأكل الخنزير وهدد بالنار، فلم يفعل فقذفوه فيها فبلغ ذلك عمر، فقال: وما كان عليّ نهيت أن يأكل، وقال جمع كثير من العلماء التقية إنما هي مبيحة للأقوال، فأما الأفعال فلا، روي ذلك عن ابن عباس والربيع والضحاك، وروي ذلك عن سحنون وقال الحسن في الرجل يقال له: اسجد لصنم وإلا قتلناك، قال، إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويجعل نيته لله، فإن كان إلى غير القبلة فلا وإن قتلوه، قال ابن حبيب: وهذا قول حسن.
قال القاضي: وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير قبلة، وفي كتاب الله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة، هذه قواعد مسألة التقية، وأما تشعب مسائلها فكثير لا يقتضي الإيجاز جمعه.
وقوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إلى آخر الآية وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة، وقوله: نَفْسَهُ نائبة عن إياه، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات، وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه، فقال ابن عباس والحسن: ويحذركم الله عقابه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)(1/420)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
الضمير في تُخْفُوا هو للمؤمنين الذين نهوا عن اتخاذ الكافرين أولياء، والمعنى أنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم فإن الله يعلم ذلك ويكرهه منكم، وقوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، معناه على التفصيل، وقوله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم والشيء في كلام العرب الموجود.
ويَوْمَ نصب على الظرف، وقد اختلف في العامل فيه، فقال مكي بن أبي طالب، العامل فيه قَدِيرٌ، وقال الطبري: العامل فيه قوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] وقال الزجّاج، وقال أيضا العامل فيه وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] يوم ورجحه وقال مكي: حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره، «اذكر يوم» ، وما بمعنى الذي ومُحْضَراً قال قتادة: معناه موفرا، وهذا تفسير بالمعنى، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر، وقوله تعالى: ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ يحتمل أن تكون ما معطوفة على ما الأولى فهي في موضع نصب وتكون تَوَدُّ في موضع الحال، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره، ويحتمل أن تكون رفعا بالابتداء ويكون الخبر في قوله: تَوَدُّ وما بعده كأنه قال: وعملها السيّء مردود عندها أن بينها وبينه أمدا، وفي قراءة ابن مسعود «من سوء ودت» وكذلك قرأ ابن أبي عبلة، ويجوز على هذه القراءة أن تكون ما شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة «تود» لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف «فهي تود» وفي ذلك ضعف، و «الأمد» الغاية المحدودة من المكان أو الزمان، قال النابغة: [البسيط] سبق الجواد إذا استولى على الأمد فهذه غاية في المكان، وقال الطرماح: [الخفيف]
كلّ حيّ مستكمل عدّة العم ... ر ومود إذا انقضى أمده
فهذه غاية في الزمان، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها، وقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف: 165] لأن قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] والله محذور العقاب.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
اختلف المفسرون فيمن أمر محمدا عليه السلام أن يقول له هذه المقالة، فقال الحسن بن أبي(1/421)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
الحسن وابن جريج: إن قوما قالوا للنبي عليه السلام: يا محمد إنا نحب ربنا، فنزلت هذه الآية في قولهم، جعل الله فيها أتباع محمد علما لحبه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران، أي إن كان قولكم في عيسى وغلوكم في أمره حبا لله، فَاتَّبِعُونِي ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله ويحبهم، ألا ترى أن جميعهم قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ولفظ أحباؤه إنما يعطي أن الله يحبهم لكن يعلم أن مرادهم «ومحبوه» فيحسن أن يقال لهم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وقرأ الزهري «فاتبعوني» بتشديد النون، وقرأ أبو رجاء «يحببكم» بفتح الياء وضم الباء الأولى من «حب» وهي لغة، قال الزجاج: حببت قليلة في اللغة، وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت وعليها استعمل محبوب والمحبة إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد، وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد والله تعالى يريد وقوع الكفر ولا يحبه، ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها ولا بد أن يطيعه وتكون أعماله بحسب إقبال النفس، وقد تمثل بعض العلماء حين رأى الكعبة فأنشد: [الخفيف]
هذه داره وأنت محبّ ... ما بقاء الدّموع في الآماق
ومحبة الله للعبد أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديا مسددا ذا قبول في الأرض، فلطف الله بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته، وبهذا النظر يتفسر لفظ المحبة حيث وقعت من كتاب الله عز وجل، وذكر الزجاج: أن أبا عمرو قرأ «يغفر لكم» بإدغام الراء في اللام وخطأ القراء وغلط من رواها عن أبي عمرو فيما حسبت، وذهب الطبري إلى أن قوله: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ خطاب لنصارى نجران وفي قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وعيد، ويحتمل أن يكون بعد الصدع بالقتال.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 35]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى آلَ عِمْرانَ منها ثم خص امْرَأَتُ عِمْرانَ بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان واصْطَفى معناه: اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدرا، وآدَمَ هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله:
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: 33] وهذا ضعيف، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم، كهود ولوط، وآلَ إِبْراهِيمَ(1/422)
يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام، والآل في اللغة، الأهل والقرابة، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل، فمنه آل فرعون، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو:
[الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه ... عليّ وعبّاس وآل أبي بكر
أراد جميع المؤمنين، و «الآل» في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاما بأن يقدر محمدا عليه السلام من آل إبراهيم، وإن قلنا أراد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل» الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم، وآلَ عِمْرانَ أيضا يحتمل من التأويل ما تقدم في آلَ إِبْراهِيمَ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري، قال مكي: هو عمران بن ماثال، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم، وقال ابن عباس: «اصطفى الله» هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له.
وقوله تعالى: ذُرِّيَّةً نصب على البدل، وقيل على الحال لأن معنى ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ متشابهين في الدين والحال، وهذا أظهر من البدل، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلا، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 41] أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها، وكذلك إن جعلناها من «ذرى» وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل، قال أبو الفتح: الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلا لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] قال الزجّاج: أصلها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، قال أبو الفتح: هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي بكسر الحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج: وقيل أصل ذُرِّيَّةً ذرورة، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت ذُرِّيَّةً.
قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر، أو من ذرى، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق، وفي كوكب دري، في قول من رآه من- درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه.
وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك، «ذرية» بكسر الذال، وقوله(1/423)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
تعالى: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة.
واختلف الناس في العامل في قوله إِذْ قالَتِ فقال أبو عبيدة معمر: إِذْ زائدة، وهذا قول مردود، وقال المبرد والأخفش: العامل فعل مضمر تقديره، اذكر إذ وقال الزجاج: العامل معنى الاصطفاء، التقدير:
واصطفى آل عمران إذ:
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء، وقال الطبري ما معناه: إن العامل في إِذْ قوله سَمِيعٌ وامْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق، وهي أم مريم بنت عمران، ومعنى قوله: نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي جعلت نذرا أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، أي عتيقا من ذلك فهو من لفظ الحرية، ونصبه على الحال، قال مكي: فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره، غلاما محررا، وفي هذا نظر، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس.
قال ابن إسحاق: كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدا فحملت بمريم وهلك عمران، فلما علمت أن في بطنها جنينا جعلته نذيرة لله، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا، وقال مجاهد: مُحَرَّراً معناه خادما للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفا في الذكور خاصة، وكان فرضا على الأبناء التزام ذلك، فقالت ما فِي بَطْنِي ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكرا، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها فَتَقَبَّلْ مِنِّي أي ارض عني في ذلك واجعله فعلا مقبولا مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 36 الى 37]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والوضع الولادة، وأنث الضمير في وَضَعَتْها، حملا على الموجودة ورفعا للفظ ما التي في قولها ما فِي بَطْنِي [آل عمران: 33] وقولها، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبيّن الله ذلك بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ. وقرأ جمهور الناس «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعت» ، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضا مخرج قولها، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى من معنى الخبر إلى معنى(1/424)
التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكرا فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره، وقرأ ابن عباس «وضعت» بكسر التاء على الخطاب من الله لها، وقولها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد، وفي قولها وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى، قال مالك رحمه الله:
ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية، قال ابن حبيب: أحب إلي أن يسمى، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته، ومَرْيَمَ، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه، وباقي الآية إعادة، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال: كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته.
وقوله تعالى: فَتَقَبَّلَها إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت، وقوله بِقَبُولٍ مصدر جاء على غير الصدر، وكذلك قوله نَباتاً بعد أنبت، وقوله وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، عبارة عن حسن النشأة وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق، وقوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن، قال ابن إسحاق: إن زكرياء كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكرياء يحيى وولدت امرأة عمران مريم، وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة، قال مكي: وهو زكريا بن آذن، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم: أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه، وأنهم فعلوا في مريم ذلك، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، وقيل أقلاما بروها من عود كالسهام والقداح، وقيل عصيا لهم، وهذه كلها تقلم، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن، وروي أنهم ألقوه في عين، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته، وروي أن أقلام القوم عامت على الماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزا واقفا كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام، وحكى الطبري عن ابن إسحاق: أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء: إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق.(1/425)
قال أبو محمد: وهذا الاستهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها، والأول المراد منه أخذها، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته، وهكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وكفلها زكرياء مفتوحة الفاء، خفيفة «زكرياء» مرفوعا ممدودا، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وكفلها مشدد الفاء ممدودا منصوبا في جميع القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص، «كَفَّلَها» مشددة الفاء مفتوحة، «زَكَرِيَّا» مقصورا في جميع القرآن، وفي رواية أبي بن كعب، و «أكفلها زكرياء» بفتح الفاء على التعدية بالهمزة، وقرأ مجاهد، «فتقبلها» بسكون اللام على الدعاء «ربّها» بنصب الباء على النداء و «أنبتها» بكسر الباء على الدعاء، و «كفلها» بكسر الفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوبا ممدودا، وروي عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، «وكفلها» بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال: كفل يكفل بضم العين في المضارع، وكفل بكسر العين يكفل بفتحها في المضارع، «زكرياء» اسم أعجمي يمد ويقصر، قال أبو علي: لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصر، قال الزجاج: فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث، قال أبو علي: ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه، ولا يجوز أن تكون منقلبة، ويقال في لغة زكرى منون معرب، قال أبو علي: هاتان ياء نسب ولو كانتا اللتين في زَكَرِيَّا لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب، وحكى أبو حاتم، زكرى بغير صرف وهو غلط عند النحاة، ذكره مكي.
وقوله تعالى: كُلَّما ظرف والعامل فيه وَجَدَ، والْمِحْرابَ المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب، وقال الشاعر:
[وضاح اليمن] [السريع]
ربّة محراب إذا جئتها ... لم ألقها أو أرتقي سلّما
ومثل قول الآخر: [عدي بن زيد] [الخفيف]
كدمى العاج في المحاريب أو كال ... بيض في الرّوض زهره مستنير
وقوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، معناه طعاما تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها، وكانت فيما ذكر الربيع، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها بسلم، وقال ابن عباس: وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه، وقاله ابن جبير ومجاهد، وقال الضحاك ومجاهد أيضا وقتادة: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وقال ابن عباس: كان يجد عندها ثمار الجنة: فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال الحسن: كان يجد عندها رزقا من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه، وقال ابن إسحاق: هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج(1/426)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
أخيرا، وذلك أن جريجا كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق، وقوله أَنَّى معناه كيف ومن أين؟ وقولها: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، دليل على أنه ليس من جلب بشر، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب، قال الزجاج: وهذا من الآية التي قال تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91] وروي أنها لم تلقم ثديا قط، وقولها: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والله تعالى لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما يخرج منها، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 39]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان، وهُنالِكَ باللام أبلغ في الدلالة على البعد، ولا يعرب هُنالِكَ لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى، ومعنى هذه الآية: أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصالحات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، و «الذرية» اسم جنس يقع على واحد فصاعدا كما الولي يقع على اسم جنس كذلك، وقال الطبري: إنما أراد هنا بالذرية واحدا ودليل ذلك طلبه وليا ولم يطلب أولياء، وأنث «الطيبة» حملا على لفظ الذرية كما قال الشاعر: [الوافر]
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
وكما قال الآخر:
فما تزدري من حيّة جبليّة؟ ... سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام، وطَيِّبَةً معناه سليمة في الخلق والدين نقية، وسَمِيعُ في هذه الآية بناء اسم فاعل.
ثم قال تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه(1/427)
يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة، وذكر جمهور المفسرين: أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء، وقال قوم: بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي» ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو: «فنادته» بالتاء «الملائكة» ، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة» بالألف وإمالة الدال، قال أبو علي: من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال كما تقول: هي الجذوع وهي الجمال، ومثله: قالَتِ الْأَعْرابُ [الحجرات: 14] .
قال الفقيه الإمام: ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة، والقراءة بالتاء على قول من يقول:
المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] قال أبو علي: ومن قرأ «فناداه الملائكة» ، فهو كقوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف: 30] .
قال القاضي: وهذا على أن المنادي كثير، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه، وقوله تعالى: فَنادَتْهُ عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخبارا على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل، وقوله تعالى:
وَهُوَ قائِمٌ جملة في موضع الحال، ويُصَلِّي صفة لقائم، والْمِحْرابِ في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد، وقرأ ابن عامر وحمزة: «إن الله» بكسر الألف، قال أبو علي: وهذا على إضمار القول، كأنه قال فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ فقالت وهذا كقوله تعالى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ [القمر: 10] على قراءة من كسر الألف، وقال بعض النحاة: كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ قال أبو علي: المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها، ف «أن» في موضع نصب، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر، وفي قراءة عبد الله «في المحراب، يا زكرياء إن الله» ، قال أبو علي: فقوله «يا زكرياء» في موضع نصب بوقوع النداء عليه، ولا يجوز فتح الألف في «إن» على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير، والآخر المنادى، فإن فتحت «إن» لم يبق لها شيء متعلق به، قال أبو علي: وكلهم قرأ فِي الْمِحْرابِ بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره، وقال غير ابن مجاهد: إنما نميله في الجر فقط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يبشرك» ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق» فإنهما قرآ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ [الشورى: 23] بفتح الياء، وسكون الباء، وضم الشين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، «يبشّرك» بشد الشين المكسورة في كل القرآن، وقرأ حمزة «يبشر» خفيفا بضم الشين(1/428)
مما لم يقع في كل القرآن إلا قوله تعالى، فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] وقرأ الكسائي «يبشر» مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف، ويبشر المؤمنين، وفي «عسق» يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ، قال غير واحد من اللغويين: في هذه اللفظة ثلاث لغات، بشّر بشد الشين، وبشر بتخفيفها، وأبشر يبشر إبشارا، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «يبشرك» بضم الباء وتخفيف الشين المكسورة من- أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن.
و «يحيى» اسم سماه الله به قبل أن يولد، قال أبو علي: هو اسم بالعبرانية صادف «هذا البناء، والمعنى من العربية، قال الزجاج: لا ينصرف لأنه إن كان أعجميا ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل، وقال قتادة: سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان ومُصَدِّقاً نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم، «الكلمة» هنا يراد بها عيسى ابن مريم.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر، وروى ابن عباس: أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك، وفي بعض الروايات، يسجد لما في بطنك قال، فذلك تصديقه.
قال الفقيه أبو محمد: أي أول التصديق، وقال بعض الناس: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع، فكلمة اسم جنس، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة، وقوله تعالى: وَسَيِّداً قال فيه قتادة: اي والله سيد في الحلم والعبادة والورع، وقال مرة: معناه في العلم والعبادة، وقال ابن جبير: وَسَيِّداً أي حليما، وقال مرة: السيد التقي وقال الضحاك: وَسَيِّداً أي تقيا حليما، وقال ابن زيد: السيد الشريف، وقال ابن المسيب: السيد الفقيه العالم، وقال ابن عباس: وَسَيِّداً يقول، تقيا حليما، وقال عكرمة: السيد الذي لا يغلبه الغضب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل، هذا لفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال: بذل الندى، وهذا هو الكرم وكف الأذى، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد، والإنقاذ من الهلكات، وانظر أن النبي عليه السلام قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين، وذكر حديث شفاعته في إطلاق الموقف، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك، وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيدا وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له،(1/429)
وأبو بكر وعمر؟ قال: هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذورا، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيرا من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريرا ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا، ومثال ذلك، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان.
وقوله تعالى: وَحَصُوراً أصل هذه اللفظة الحبس والمنع، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيرا وجهنم حصيرا، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور، قال الأخطل: [البسيط]
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوّار
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر، قال جرير: [الكامل]
ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرّك يا أميم ضنينا
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال: إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد الله وإما أبوه عن النبي عليه السلام، أنه قال: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء، قال: ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا، وقال ابن مسعود «الحصور» العنين، وقال مجاهد وقتادة، «الحصور» الذي لا يأتي النساء، وقال ابن عباس والضحاك: الحصور الذي لا ينزل الماء.
قال القاضي: ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنينا لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه كان يمسك نفسه تقى وجلدا في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا: وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح، إلا بأن الله يسر له شيئا لا تكسب له فيه، وباقي الآية بيّن، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقا وأخاديد.(1/430)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 40]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)
اختلف المفسرون لم قال زكرياء رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ فقال عكرمة والسدي: إنه نودي بهذه البشارة، جاء الشيطان يكدر عليه نعمة ربه فقال هل تدري من ناداك؟ قال: نادتني ملائكة ربي قال بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك قال: فخالطت قلبه وسوسة وشك مكانه، فقال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟
قال الفقيه أبو محمد: وهذا تأويل حسن يليق بزكرياء عليه السلام وقال مكي: وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا قول ضعيف المعنى، وأَنَّى معناها كيف ومن أين، وقوله بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ استعارة كأن الزمان طريق والحوادث تتساوق فيه فإذا التقى حادثان فكأن كل واحد منهما قد بلغ صاحبه وحقيقة البلوغ في الأجرام أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه، وحسن في الآية: بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ من حيث هي عبارة واهن منفعل وبلغت عبارة فاعل مستعل، فتأمله ولا يعترض على هذا بقوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] لأنه قد أفصح بضعف حاله في ذكر العتيّ، والعاقر الإنسان الذي لا يلد، يقال ذلك للمرأة والرجل، قال عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كل مشهد؟
و «عاقر» بناء فاعل وهو على النسب وليس بجار على الفعل، والإشارة بذلك في قوله: كَذلِكَ اللَّهُ، يحتمل أن تكون إلى هذه الغريبة التي بشر بها أي كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله، ففي الكلام حذف مضاف، والكلام تام في قوله: كَذلِكَ اللَّهُ وقوله: يَفْعَلُ ما يَشاءُ شرح الإبهام الذي في ذلك، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكرياء وحال امرأته كأنه قال: ربّ على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام على هذا التأويل في قوله: كَذلِكَ وقوله: اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 41]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)
«الآية» العلامة، وقال الربيع والسدي وغيرهما: إن زكرياء قال: يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها، فعوقب على هذا الشك في أمر الله، بأن منع الكلام(1/431)
ثلاثة أيام مع الناس، وقالت فرقة من المفسرين: لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ [آل عمران: 40] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى.
واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث، وقال الربيع وغيره: عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام، وقال قوم من المفسرين: لم تكن آفة، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري، وذكر نحوه عن محمد بن كعب، ثم استثنى الرمز، وهو استثناء منقطع، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، أنه منقطع، وقرأ جمهور الناس رَمْزاً بفتح الراء وسكون الميم، وقرأ علقمة بن قيس، «رمزا» بضمها، وقرأ الأعمش «رمزا» بفتحها، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز، ومنه قول جوية بن عائد: [الوافر]
وكان تكلّم الأبطال رمزا ... وغمغمة لهم مثل الهدير
وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعا من الرمز في تفسيره هذه الآية، فقال مجاهد: إِلَّا رَمْزاً معناه إلا تحريكا بالشفتين، وقال الضحاك: معناه إلا إشارة باليد والرأس، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير، وقال الحسن: أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه، وقال قتادة: إِلَّا رَمْزاً، معناه إلا إيماء، وقرأ جمهور الناس: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ بنصب الفعل بأن، وقرأ ابن أبي عبلة، «ألا تكلم» برفع الميم، وهذا على أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام: لا صمت يوما إلى الليل قول ظاهر الفساد من جهات، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه، وقال محمد بن كعب القرظي: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال: «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» ، لكنه قال له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً، وقوله تعالى: وَسَبِّحْ معناه قل سبحان الله، وقال قوم معناه: صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس، و «العشي» في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد: ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي، و «العشي» من حين يفيء الفيء، ومنه قول حميد بن ثور:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
و «العشي» اسم مفرد عند بعضهم، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين والْإِبْكارِ مصدر أبكر(1/432)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
الرجل إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس، وتتمادى البكرة شيئا بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة: [الطويل] أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر ومن الثاني قول جرير: [الطويل]
ألا بكرت سلمى فجدّ بكورها ... وشقّ العصا بعد اجتماع أميرها
وقال مجاهد في تفسير الْإِبْكارِ: أول الفجر، والعشي ميل الشمس حتى تغيب.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
قال الطبري: العامل في إِذْ قوله سَمِيعٌ فهو عطف على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35] ، وقال كثير من النحاة: العامل في إِذْ في هذه الآية فعل مضمر تقديره «واذكر» وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه السلام، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام، وقرأ عبد الله بن عمر وابن مسعود، «وإذ قال الملائكة» ، واختلف المفسرون هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده أو جمع من الملائكة؟ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: 39] واصْطَفاكِ مأخوذ من صفا يصفو وزنه- افتعل- وبدلت التاء طاء التناسب الصاد، فالمعنى تخيرك لطاعته وقوله تعالى: وَطَهَّرَكِ معناه من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين قاله مجاهد وغيره، وقال الزجّاج: قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه.
وقوله تعالى: وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ إن جعلنا الْعالَمِينَ عاما فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصا في أمر عيسى عليه السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل، وإن جعلنا الاصطفاء عاما جعلنا قوله تعالى: الْعالَمِينَ مخصوصا في عالم ذلك الزمان، قاله ابن جريج وغيره، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة، خديجة بنت خويلد» وروي عنه أنه قال: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» فذهب الطبري وغيره إلى أن الضمير في قوله- نسائها- يراد به الجنة، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا، أي كل امرأة في زمانها، وقال النبي عليه السلام، «خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه إلى زوج في ذات يده» ، وقال أبو هريرة راوي الحديث: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط، وهذه الزيادة فيها غيب، فلا يتأول أن أبا هريرة رضي الله عنه، قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله(1/433)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
عليه وسلم، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، «خير نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» ، وقد أسند الطبري، أن النبي عليه السلام، قال لفاطمة بنته، «أنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران، البتول» ، وأنه قال، «فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين» .
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها، وجدت مريم فيها متقدمة، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على الْعالَمِينَ عموما أيضا، وقد قال بعض الناس، إن مريم نبية، قال ابن إسحاق، كانت الملائكة تقبل على مريم فتقول، يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ، الآية، فيسمع ذلك زكريا فيقول، إن لمريم لشأنا، فمن مخاطبة الملائكة لها، جعلها هذا القائل نبية، وجمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة.
واقْنُتِي معناه اعبدي وأطيعي، قاله قتادة والحسن، وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال، كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله، ويحتمل أن يكون معناه، أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي وبه قال مجاهد، وابن جريج، والربيع، وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا، قامت حتى ورمت قدماها، وروى الأوزاعي، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها، تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها، وقال سعيد بن جبير، اقْنُتِي لِرَبِّكِ، معناه أخلصي لربك، واختلف المتأولون، لم قدم السجود على الركوع؟ فقال قوم: كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم: الواو لا تعطي رتبة، وإنما المعنى، افعلي هذا وهذا، وقد علم تقديم الركوع، وهذه الآية أكثر إشكالا من قولنا، قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك، فالقول عندي في ذلك، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى: وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له أطل قيامك، ثم أمرت- بعد- بالصلاة في الجماعة، فقيل لها، وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وقصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يرد بالآية السجود والركوع، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 45]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام، والإشارة ب ذلِكَ إلى ما تقدم ذكره من القصص، والأنباء الأخبار،(1/434)
والْغَيْبِ ما غاب عن مدارك الإنسان، ونُوحِيهِ معناه نلقيه في نفسك في خفاء، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء، ثم تختلف أنواعه، فمنه بالملك، ومنه بالإلهام، ومنه بالإشارة، ومنه بالكتاب، كما قال كعب بن زهير: [الطويل]
أتى العجم والآفاق منه قصائد ... بقين بقاء الوحي في الحجر الأصمّ
تقول العرب: أوحى، وتقول وحي، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، ولديهم معناه عندهم ومعهم، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها، وقال ابن إسحاق: إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعا منها لتحمل مؤونتها، ويَخْتَصِمُونَ معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه، وقال عليه السلام: لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قمارا، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث ميت فجوزها الجمهور ومنعها أبو حنيفة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة أعبد، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة، وقوله:
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره، ينظرون، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، والعامل في قوله إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ فعل مضمر تقديره اذكر إذ قالت الملائكة وهكذا يطرد وصف الآية وتتوالى الإعلامات بهذه الغيوب، وقال الزجّاج: العامل فيها يَخْتَصِمُونَ، ويجوز أن يتعلق بقوله:
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ وهذا كله يرده المعنى، لأن الاختصام لم يكن عند قول الملائكة، وقرأ ابن مسعود وعبد الله بن عمر: «إذ قال الملائكة» واختلف المتأولون هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟ وقد تقدم معنى ذلك كله في قوله آنفا، فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: 39] فتأمله، وتقدم ذكر القراءات في قوله يُبَشِّرُكِ.
واختلف المفسرون لم عبر عن عيسى عليه السلام بِكَلِمَةٍ؟ فقال قتادة: جعله «كلمة» إذ هو موجود بكلمة وهي قوله تعالى: لمرادته- كن- وهذا كما تقول في شيء حادث هذا قدر الله أي هو عند قدر الله وكذلك تقول هذا أمر الله، وترجم الطبري فقال: وقال آخرون: بل الكلمة اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء، فمقتضى هذه الترجمة أن الكلمة اسم مرتجل لعيسى ثم أدخل الطبري تحت الترجمة عن ابن عباس أنه قال: «الكلمة» هي عيسى، وقول ابن عباس يحتمل أن يفسر بما قال قتادة وبغير ذلك مما سنذكره الآن وليس فيه شيء مما ادعى الطبري رحمه الله، وقال قوم من أهل العلم: سماه الله «كلمة» من حيث كان تقدم ذكره في توراة موسى وغيرها من كتب الله وأنه سيكون، فهذه كلمة سبقت فيه من الله، فمعنى الآية، أنت يا مريم مبشرة بأنك المخصوصة بولادة الإنسان الذي قد تكلم الله بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة على أنبيائه، واسْمُهُ في هذا الموضع، معناه تسميته، وجاء الضمير مذكرا من أجل المعنى، إذ «الكلمة» عبارة عن ولد.(1/435)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
واختلف الناس في اشتقاق لفظة الْمَسِيحُ فقال قوم، هو من ساح يسيح في الأرض، إذا ذهب ومشى أقطارها فوزنه مفعل، وقال جمهور الناس: هو من- مسح- فوزنه- فعيل، واختلفوا- بعد- في صورة اشتقاقه من- مسح- فقال قوم من العلماء، سمي بذلك من مساحة الأرض لأنه مشاها فكأنه مسحها، وقال آخرون: سمي بذلك لأنه ما مسح بيده على ذي علة إلا برىء، فهو على هذين القولين- فعيل- بمعنى- فاعل- وقال ابن جبير: سمي بذلك لأنه مسح بالبركة، وقال آخرون: سمي بذلك لأنه مسح بدهن القدس فهو على هذين القولين- فعيل- بمعنى مفعول، وكذلك هو في قول من قال: مسحه الله، فطهره من الذنوب، قال إبراهيم النخعي: المسيح الصديق، وقال ابن جبير عن ابن عباس: الْمَسِيحُ الملك، وسمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات، وهذا قول ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
وقوله: عِيسَى يحتمل من الإعراب ثلاثة أوجه، البدل من الْمَسِيحُ، وعطف البيان، وأن يكون خبرا بعد خبر، ومنع بعض النحاة أن يكون خبرا بعد خبر وقال: كان يلزم أن تكون أسماؤه على المعنى أو أسماؤها على اللفظ للكلمة، ويتجه أن يكون عِيسَى خبر ابتداء مضمر، تقديره، هو عيسى ابن مريم، ويدعو إلى هذا كون قوله، ابْنُ مَرْيَمَ صفة ل عِيسَى إذ قد أجمع الناس على كتبه دون ألف، وأما على البدل أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون ابْنُ مَرْيَمَ صفة ل عِيسَى لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص، هذه النزعة لأبي علي، وفي صدر الكلام نظر، ووَجِيهاً، نصب على الحال وهو من الوجه، أي له وجه ومنزلة عند الله والمعنى في الوجيه أنه حيثما أقبل بوجهه، عظم وروعي أمره، وتقول العرب: فلان له وجه في الناس وله جاه، وهذا على قلب في اللفظة، يقولون جاهني يجوهني بكذا أي واجهني به، وجاه عيسى عليه السلام في الدنيا نبوته وذكره، ورفعه في الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، معناه من الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 46 الى 47]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قوله: وَيُكَلِّمُ نائب عن حال تقديرها ومكلما وذلك معطوف على قوله: وَجِيهاً [آل عمران: 45] ، وجاء عطف الفعل المستقبل على اسم الفاعل لما بينهما من المضارعة كما جاز عطف اسم الفاعل على الفعل المستقبل في قوله الشاعر: [الرجز] .
بتّ أعشّيها بعضب باتر ... يفصد في أسوقها وجائر
وقوله: فِي الْمَهْدِ حال من الضمير في يُكَلِّمُ، وكَهْلًا حال معطوفة على قوله: فِي الْمَهْدِ، وقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ، حال معطوفة على قوله، وَيُكَلِّمُ، وهذه الآية إخبار من الله تعالى لمريم بأن ابنها يتكلم في مهده مع الناس آية دالة على براءة أمه مما عسى أن يقذفها به متعسف ظان، والْمَهْدِ موضع اضطجاع الصبي وقت تربيته، وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كَهْلًا،(1/436)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وفائدة ذلك إذ كلام الكهل عرف أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة، هذا قول الربيع وجماعة من المفسرين، وقال ابن زيد: فائدة قوله كَهْلًا الإخبار بنزوله عند قتله الدجال كهلا، وقال جمهور الناس:
الكهل الذي بلغ سن الكهولة، وقال مجاهد: الكهل الحليم، وهذا تفسير الكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب، واختلف الناس في حد الكهولة، فقيل: الكهل ابن أربعين سنة، وقيل: ابن خمس وثلاثين، وقيل، ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثين، وهذا حد أولها. وأما آخرها فاثنتان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة.
وقول مريم: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها، ويَمْسَسْنِي، معناه يطأ ويجامع، والمسيس الجماع، ومريم لم تنف مسيس الأيدي، والإشارة بقوله: كَذلِكِ، يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، يَخْلُقُ من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه، وروي أن عيسى عليه السلام، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك، وقوله تعالى: إِذا قَضى معناه إذا أراد إيجاده، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به، والضمير في لَهُ عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة، قال مكي: وقيل المعنى يقول لأجله، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد، وقرأ جمهور السبعة «فيكون» بالرفع، وقرأ ابن عامر وحده «فيكون» بالنصب، فوجه الرفع العطف على يَقُولُ، أو تقدير فهو يكون، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله: فَيَكُونُ، خطاب للمخبر، فليس كقوله قم فأحسن إليك، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] أنه مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن له جوابا في الحقيقة، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جوابا، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة، وإنما هو قول مجازي كما قال: امتلأ الحوض وقال قطني وغير ذلك، قال: لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون، فهذه نزعة اعتزالية غفر الله له.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 48 الى 49]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
قرأ نافع وعاصم «ويعلمه» بالياء، وذلك عطف على يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران: 45] كذا قال أبو علي: ويحتمل أن يكون في موضع الحال عطفا على وَيُكَلِّمُ [آل عمران: 46] ، وقرأ الباقون، و «نعلمه» بالنون، وهي مثل قراءة الياء في المعنى لكن جاءت بنون العظمة، قال الطبري: قراءة الياء عطف(1/437)
على قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ [آل عمران: 47] ، وقراءة النون عطف على قوله: نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 44] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا الذي قاله خطأ في الوجهين مفسد للمعنى والْكِتابَ هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب، هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين، وقال بعضهم: هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها، وأما الْحِكْمَةَ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء، في الشرعيات، والمواعظ، ونحو ذلك، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بملك، لكنهم يلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه، وقد عبر بعض العلماء عن الْحِكْمَةَ بأنها الإصابة في القول والعمل، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة، والتعليم متمكن فيما كان من الحكمة بوحي أو مأثورا عمن تقدم عيسى من نبي وعالم، وأما ما كان من حكمة عيسى الخاصة به فإنما يقال فيها يعلمه على معنى يهيىء غريزته لها ويقدره ويجعله يتمرن في استخراجها ويجري ذهنه إلى ذلك، والتَّوْراةَ هي المنزلة على موسى عليه السلام، ويروى أن عيسى كان يستظهر التوراة وكان أعمل الناس بما فيها، ويروى أنه لم يحفظها عن ظهر قلب إلا أربعة، موسى ويوشع بن نون وعزيز وعيسى عليهم السلام، وذكر الْإِنْجِيلَ لمريم وهو ينزل- بعد- لأنه كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء وأنه سينزل.
وقوله: وَرَسُولًا حال معطوفة على وَيُعَلِّمُهُ إذ التقدير، ومعلما الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله وَجِيهاً [آل عمران: 45] ، ويحتمل أن يكون التقدير، ويجعله رسولا، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، مبينا حكم التوراة ونادبا إلى العمل بها ومحللا أشياء مما حرم فيها، كالثروب ولحوم الإبل وأشياء من الحيتان والطير، ومن أول القول لمريم إلى قوله إِسْرائِيلَ خطاب لمريم، ومن قوله، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إلى قوله مُسْتَقِيمٌ يحتمل أن يكون خطابا لمريم على معنى يكون من قوله لبني إسرائيل، كيت وكيت، ويكون في آخر الكلام متروك يدل عليه الظاهر تقديره، فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا فقال لهم ما تقدم ذكره فلما أحس ويحتمل أن يكون المتروك مقدرا في صدر الكلام بعد قوله، إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فيكون تقديره، فجاء عيسى كما بشر الله رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم، ويكون قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ليس بخطاب لمريم، والأول أظهر، وقرأ جمهور الناس «أني قد جئتكم» بفتح الألف، تقديره بأني وقرىء في الشاذ، «إني قد جئتكم» ، وجمهور الناس قرؤوا بآية على الإفراد وفي مصحف ابن مسعود «بآيات» وكذلك في قوله بعد هذا وجئتكم بآيات من ربكم واختلف القراء في فتح الألف وكسرها من قوله: أَنِّي أَخْلُقُ، فقرأ نافع وجماعة من العلماء، «إني» بكسر الألف، وقرأ باقي السبعة وجماعة من العلماء، «أني» بفتح الألف، فوجه قراءة نافع، إما القطع والاستئناف وإما أنه فسر الآية بقوله، «إني» كما فسر المثل في قوله كمثل آدم بقوله، خلقه من تراب إلى غير ذلك من الأمثلة ووجه قراءة الباقين البدل من آية، كأنه قال: «وجئتكم بأني أخلق» ، وقيل: هي بدل من أَنِّي الأولى، وهذا كله يتقارب في المعنى وأَخْلُقُ معناه، أقدر وأهيئ بيدي، ومن ذلك قول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] :
[الكامل] :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري
وقوله لَكُمْ تقييد لقوله، أَخْلُقُ لأنه يدل دلالة ما، على أنه لم يرد الإيجاد من العدم، ويصرح(1/438)
بذلك قوله بِإِذْنِ اللَّهِ وحقيقة الخلق في الأجرام، ويستعمل في المعاني، ومنه قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17] ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل مرفّل]
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وجمهور الناس قرأ «كهيئة» على وزن فعلة بفتح الفاء وهو مصدر من قولك، هاء الشيء يهاء هيئا وهيئة، إذا ترتب واستقر على حال ما، وهو الذي تعديه فتقول: هيأت، وقرأ الزهري «كهيّئة الطير» ، بكسر الهاء وياء مفتوحة مشددة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، «كهيئة الطائر فأنفخ فيه فيكون طائرا» على الإفراد في الموضعين، فالأول اسم الجنس والثاني مفرد، أي يكون طائرا من الطيور، وقرأ نافع وحده، «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا» بالإفراد في الأخير، وهكذا قرأ في المائدة الباقون «كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا» بالجمع فيهما، وكذلك في سورة المائدة، ومعاني هذه القراءات بينة، والطَّيْرِ اسم جمع وليس من أبنية الجموع، وإنما البناء في جمع طائر أطيار، وجمع الجمع طيور، وحكاه أبو علي عن أبي الحسن، وقوله فَأَنْفُخُ فِيهِ ذكر الضمير هنا لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيأ، ويحتمل أن يريد فانفخ في المذكور، وأنث الضمير في سورة المائدة في قوله، فَتَنْفُخُ فِيها [المائدة: 110] لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة أو على تأنيث لفظ الجماعة في قوله الطَّيْرِ وكون عيسى عليه السلام خالقا بيده ونافخا بفيه إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله، وأما الإيجاد من العدم وخلق الحياة في ذلك الطين فمن الله تعالى وحده لا شريك له.
وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ، معناه بعلم منه تعالى أني أفعل ذلك وتمكين منه لي، وحقيقة الإذن في الشيء هي العلم بأنه يفعل والتمكين من ذلك، فإن اقترن بذلك قول فذلك أمكن في الإذن وأبلغ، ويخرج من حد الإذن إلى حد الأمر ولكن تجده أبدا في قسم الإباحة، وتأمل قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:
251] ، وقول النبي عليه السلام، وإذنها صماتها، وروي في قصص هذه الآية، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل: أي الطير أشد خلقة وأصعب أن يحكى؟ فيقولون: الخفاش، لأنه طائر لا ريش له، فكان يصنع من الطين خفافيش ثم ينفخ فيها فتطير، وكل ذلك بحضرة الناس ومعاينتهم، فكانوا يقولون:
هذا ساحر.
قوله تعالى: أُبْرِئُ، معناه أزيل المرض يقال برأ المريض وأبرأه غيره، ويقال: برىء المريض أيضا كما يقال في الذنب والدين، واختلف المفسرون في الْأَكْمَهَ فقال مجاهد: الْأَكْمَهَ هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وقال ابن عباس والحسن والسدي: الْأَكْمَهَ الأعمى على الإطلاق، وقال عكرمة: الْأَكْمَهَ الأعمش، وحكى النقاش قولا: أن الْأَكْمَهَ هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن(1/439)
عباس أيضا وقتادة: الْأَكْمَهَ الذي يولد أعمى مضموم العين.
قال القاضي: وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه ومسح يده كل علة، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه، فليس يتخلص من هذه الأقوال في الْأَكْمَهَ إلا القول الأخير، إذ الْأَكْمَهَ في اللغة هو الأعمى، وكمهت العين عميت، ولولا ضبط اللغة لكان القول الذي حكى النقاش حسنا في معنى قيام الحجة به، وَالْأَبْرَصَ معروف، وهو داء لا يبرأ منه إذا تمكن، وروي في إحيائه الموتى، أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه، وروي أنه أحيى سام بن نوح عليه السلام، وروي أن الذي كان يحييه كانت تدوم حياته، وروي أنه كان يعود لموته سريعا، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وإحياء الموتى هي آيته المعجزة المعرضة للتحدي، وهي بالمعنى متحدى بها وإن كان لم ينص على التحدي بها، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان وشغلهم وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص علمت الأطباء أن هذه القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع محمد عليه السلام.
ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء أن جالينوس، كان في زمن عيسى عليه السلام وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه فمات في طريقه ذلك.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُمْ الآية، فقال السدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق ومجاهد وعطاء: كان عيسى من لدن طفولته وهو في الكتّاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم وبما يؤكل من الطعام ويدخر حتى قال بنو إسرائيل لأبنائهم لا تخالطوا هذا الساحر، وكذلك إلى أن نبىء، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى، أكلت البارحة كذا، وادخرت كذا، قال ابن إسحاق:
وكان معلمه يريد أن يعلمه الشيء فيسبقه إليه عيسى فيتعجب معلمه من ذلك ويذكره للناس، وقال قتادة، معنى الآية إنما هو في نزول المائدة عليهم. وذلك أنها لما أنزلت أخذ عليهم عهدا أن يأكلوا ولا يخبىء أحد شيئا ولا يدخره ويحمله إلى بيته فخانوا وجعلوا يخبئون من ثمار الجنة وطعامها الذي كان ينزل على المائدة فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل وعما ادخر في بيته من ذلك وعوقبوا على ذلك، وما في قوله بِما تَأْكُلُونَ يحتمل أن تكون بمعنى الذي وتحتمل المصدرية وكذلك وَما تَدَّخِرُونَ، وقرأ الجمهور، «تدّخرون» بدال مشددة وخاء مكسورة، وهو تفتعلون من ذخرت أصله، «تذخرون» استثقل النطق بالذال والتاء، لتقاربهما في المخرج فأبدلت التاء دالا وأدغمت الذال في الدال، كما صنع في مدكر، ومطلع، بمعنى مضطلع وغير ذلك نحو قول الشاعر: [زهير] [البسيط]
إن الكريم الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فيطّلم
بالطاء غير منقوطة، وقرأ الزهري ومجاهد وأيوب السختياني وأبو السمال «تدخرون» - بدال ساكنة وخاء مفتوحة، وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الإحياء والإبراء والإنباء، وفي مصحف ابن(1/440)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
مسعود «لآيات» على الجمع، وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، توقيف والمعنى، لآيات نافعة هادية إن آمنتم وأبصرتم وإلا فليست بنافعة ولا هادية، فأما كونها آيات فعلى كل حال آمنوا أو كفروا، هذا كله على أن المخاطبة لمن لم يؤمن- بعد- وهو ظاهر حاله مع بني إسرائيل، وإن كان خطابه لمؤمنين، أو كما كانوا مؤمنين بموسى، فمعنى الآية التشبيت وهز النفس كما تقول لإنسان تقيم نفسه إلى شيء: ما أنت يا فلان يلزمك أن تفعل كذا وكذا إن كنت من الرجال.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 50 الى 51]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
قوله: مُصَدِّقاً حال معطوفة على قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ [آل عمران: 49] ، لأن قوله بِآيَةٍ في موضع الحال، وكان عيسى عليه السلام مصدقا للتوراة متبعا عاملا بما فيها، قال وهب بن منبه: كان يسبت ويستقبل بيت المقدس، وقال قتادة في تفسير قوله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى، وقال ابن جريج، أحل لكم لحوم الإبل والشحوم، قال الربيع: وأشياء من السمك، وما لا صيصية له من الطير، وكان في التوراة محرمات تركها شرع عيسى على حالها، فلفظة «البعض» على هذا متمكنة، وقال أبو عبيدة: «البعض» في هذه الآية بمعنى الكل، وخطأه الناس في هذه المقالة وأنشد أبو عبيدة شاهدا على قوله بيت لبيد: [الكامل]
ترّاك أمكنة إذا لم يرضها ... أو يخترم بعض النفوس حمامها
وليست في البيت له حجة لأن لبيدا أراد نفسه فهو تبعيض صحيح، وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى رد أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله تعالى، وقال عكرمة: «حرم عليكم» بفتح الحاء والراء المشددة، وإسناد الفعل إلى الله تعالى أو إلى موسى عليه السلام، وقرأ الجمهور وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ وفي مصحف عبد الله بن مسعود، «وجئتكم بآيات» من ربكم، وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تحذير ودعاء إلى الله تعالى.
وقرأ جمهور الناس إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ بكسر الألف على استئناف الخبر، وقرأه قوم «أن الله ربي وربكم» بفتح الألف قال الطبري: «إن» بدل من «آية» ، في قوله جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون، لأن الله ربي وربكم، أو يكون المعنى، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، وهو لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات، والصراط، الطريق، والمستقيم، الذي لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى:(1/441)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 54]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات، تقديره، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل، فَلَمَّا أَحَسَّ ومعنى أحس، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض يقال أحسست بالشيء وحسيت به، أصله، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء، والْكُفْرَ هو التكذيب به، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله، فحينئذ طلب النصر، والضمير في مِنْهُمُ لبني إسرائيل، وقوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها يقال مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس، والأنصار جمع نصير، كشهيد وأشهاد وغير ذلك، وقيل جمع ناصر، كصاحب وأصحاب وقوله: إِلَى اللَّهِ يحتمل معنيين، أحدهما، من ينصرني في السبيل إلى الله؟ فتكون إِلَى دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها، والمعنى الثاني، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي؟ فيكون بمنزلة قوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 1] فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم، إن- مع- تسد في هذه المعاني مسد «إلى» لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن إِلَى بمعنى مع حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] فقال إِلَى بمعنى مع وهذه عجمة بل إِلَى في هذه الآية، غاية مجردة، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر، والْحَوارِيُّونَ، قوم مر بهم عيسى عليه السلام، فدعاهم إلى نصره، واتباع ملته، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك، واختلف الناس لم قيل لهم الْحَوارِيُّونَ؟ فقال سعيد بن جبير، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها، وقال أبو أرطأة، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وقال قتادة، الحواريون أصفياء الأنبياء، الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك نحوه.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا تقرير حال القوم، وليس بتفسير اللفظة، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام، ابن عمته بهم في قوله: وحواريّ الزبير، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ، إذ هي من الحور، وهو البياض، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري، وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار، الحواريات، لغلبة البياض عليهن، ومنه قول أبي جلدة اليشكري:
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وحكى مكي: أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألوانا شتى من ماء واحد، وقرأ(1/442)
جمهور الناس «الحواريّون» بتشديد الياء، واحدهم- حواريّ- وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي، وقرأ إبراهيم النخعي وأبوبكر الثقفي: «الحواريون» مخففة الياء في جميع القرآن، قال أبو الفتح: العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها، ومتى جاءت في نحو قولهم، العاديون والقاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه، فكان يجب على هذا أن يقال، الحوارون، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالا لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد، إذ التشديد محتمل للضمة، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة وحملها الضمة تذكر الحال المرادة فيها.
وقول الحواريين: وَاشْهَدْ يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه السلام، أي اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى كما تقول: أنا أشهد الله على كذا، إذا عزمت وبالغت في الالتزام، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع: اللهم اشهد، قال الطبري: وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى، لا ما تقولونه أنتم، يا من يدعي له الألوهية.
وقولهم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يريدون الإنجيل وآيات عيسى، والرَّسُولَ عيسى عليه السلام، وقولهم: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ عبارة عن الرغبة في أن يكونوا عنده في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم، ولما كان البشر يقيد ما يحتاج إلى علمه وتحقيقه في ثاني حال بالكتاب، عبروا عن فعل الله بهم ذلك وقال ابن عباس: قولهم مَعَ الشَّاهِدِينَ معناه اجعلنا من أمة محمد عليه السلام في أن نكون ممن يشهد على الناس.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى فقال: وَمَكَرُوا يريد تحيلهم في أخذ عيسى للقتل بزعمهم، ويروى أنهم تحيلوا له، وأذكوا عليه العيون حتى دخل هو والحواريون بيتا فأخذوهم فيه، فهذا مكر بني إسرائيل، وجازاهم الله تعالى بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين ورفع عيسى، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة، فهذه العقوبة هي التي سماها الله مكرا في قوله وَمَكَرَ اللَّهُ وهذا مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب وإن لم تكن في معناه، وعلى هذا فسر جمهور المفسرين الآية، وعلى أن عيسى قال للحواريين: من يصبر فيلقى عليه شبهي فيقتل وله الجنة؟ فقال أحدهم- أنا- فكان ذلك، وروى قوم أن بني إسرائيل دست يهوديا جاسوسا على عيسى حتى صحبه ودلهم عليه ودخل معه البيت فلما أحيط بهم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل اليهودي فأخذ وصلب، فهذا معنى قوله:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وهذه أيضا تسمية عقوبة باسم الذنب، والمكر في اللغة، السعي على الإنسان دون أن يظهر له ذلك، بل أن يبطن الماكر ضد ما يبدي، وقوله وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ معناه في أنه فاعل في حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب، لأنه في الأباطيل يحتاج إلى التحيل، والله سبحانه أشد بطشا وأنفذ إرادة، فهو خير من جهات لا تحصى، لا إله إلا هو، وذكر حصر عيسى عليه السلام، وعدة أصحابه به وأمر الشبه وغير ذلك من أمره سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.(1/443)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 57]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
قال الطبري: العامل في إِذْ قوله تعالى وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] وقال غيره من النحاة:
العامل فعل مضمر تقديره اذكر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الأصوب، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم، و «عيسى» اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية- ايسوع- عدلته العرب إلى «عيسى» ، واختلف المفسرون في هذا التوفي، فقال الربيع: هي وفاة نوم، رفعه الله في منامه، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء: المعنى أني قابضك من الأرض، ومحصنك أني مميتك، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر، فقال وهب بن منبه: توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك، عنده في السماء وفي بعض الكتب، سبع ساعات، وقال الفراء: هي وفاة موت ولكن المعنى، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير، وقال مالك في جامع العتبية: مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ووقع في كتاب مكي عن قوم: أن معنى مُتَوَفِّيكَ متقبل عملك، وهذا ضعيف من جهة اللفظ.
قال القاضي أبو محمد: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة، وقيل أربعين سنة، ثم يميته الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فقول ابن عباس رضي الله عنه: هي وفاة موت لا بد أن يتمم، إما على قول وهب بن منبه، وإما على قول الفراء، وقوله تعالى: وَرافِعُكَ إِلَيَّ عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله إِلَيَّ إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة، وقوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم، تشبيها لذلك كله بالأدناس، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له، وقوله تعالى: وَجاعِلُ اسم فاعل للاستقبال، وحذف تنوينه تخفيفا، وهو متعد إلى مفعولين، لأنه بمعنى مصيّر فأحدهما الَّذِينَ والآخر في قوله: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقال ابن زيد: الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود، والآية(1/444)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكما دنيويا لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى، نص على ذلك قتادة وغيره، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكرا، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله، وقوله تعالى ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الخطاب لعيسى، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له: ثُمَّ إِلَيَّ، أي إلى حكمي وعدلي، يرجع الناس، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها، وإذ هي مرادة في المعنى، وفي قوله تعالى: فَأَحْكُمُ إلى آخر الآية، وعد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين.
وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، إخبار بما يجعل عليه حالهم من أول أمرهم وليس بإخبار عما يفعل بعد يوم القيامة، لأنه قد ذكر الدنيا وهي قبل، وإنما المعنى، فأما الكافرون فالصنع بهم أنهم يعذبون عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالأسر والقتل والجزية والذل، ولم ينله منهم فهو تحت خوفه إذ يعلم أن شرع الإسلام طالب له بذلك، وقد أبرز الوجود هذا، وفي الْآخِرَةِ معناه، بعذاب النار، ثم ذكر قسم الإيمان وقرن به الأعمال الصالحات تنبيها على درجة الكمال ودعاء إليها، وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء على الغيبة، والفعل مسند إلى الله تعالى، وقرأ الباقون وأبوبكر عن عاصم «فنوفيهم» بالنون، وهي نون العظمة، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة فذلك هو بحسب الأعمال، وأما نفس دخول الجنة فبرحمة الله وبفضله، وتقدم نظير قوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ في قوله قبل فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران: 32] .
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 61]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)
ذلِكَ رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء، ونَتْلُوهُ عَلَيْكَ خبر ابتداء وقوله مِنَ الْآياتِ لبيان الجنس، ويجوز أن تكون للتبعيض، ويصح أن يكون نَتْلُوهُ عَلَيْكَ حالا ويكون الخبر في(1/445)
قوله مِنَ الْآياتِ وعلى قول الكوفيين يكون قوله نَتْلُوهُ صلة لذلك، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري:
وهذا تحملين طليق ويكون الخبر في قوله: مِنَ الْآياتِ، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير، وهذا محمولا، ونَتْلُوهُ معناه نسرده، ومِنَ الْآياتِ ظاهره آيات القرآن، ويحتمل أن يريد بقوله مِنَ الْآياتِ من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ، ولست ممن أصحب أهل الكتاب، فالمعنى أنها آيات لنبوتك، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون نَتْلُوهُ حالا، والذِّكْرِ ما ينزل من عند الله، والْحَكِيمِ يجوز أن يتأول بمعنى المحكم، فهو فعيل بمعنى مفعول، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة، فيكون بناء اسم الفاعل، قال ابن عباس، الذِّكْرِ القرآن، والْحَكِيمِ الذي قد كمل في حكمته.
وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم، قالوا سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد، فقال النبي عليه السلام، وما يضر ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقالوا فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية. وقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عبر عنه بعض الناس، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: 35] قالوا: معناه صفة الجنة.
قال الإمام أبو محمد: وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى: «أن المثل» الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها، وفي هذه الآية صحة القياس، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله: كَمَثَلِ اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله عِنْدَ اللَّهِ عبارة عن الحق في نفسه، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم، وقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ تفسير لمثل آدم، الذي ينبغي أن يتصور، والمثل والمثال بمعنى واحد، ولا يجوز أن يكون خَلَقَهُ صلة لآدم ولا حالا منه، قال الزجاج: إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه، مضمنه تفسير المثل، وقوله عز وجل: ثُمَّ قالَ ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قاله له كُنْ وقت كذا، وعلى مذهب أبي علي الفارسي، في أن القول مجازي، مثل وقال قطني، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين، ف ثُمَّ على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين، وقراءة الجمهور «فيكون» ، بالرفع على معنى فهو يكون، وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب، وهي قراءة ضعيفة الوجه، وقد تقدم توجيهها آنفا في مخاطبة مريم.
وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، رفع على الابتداء وخبره فيما يتعلق به، قوله مِنْ رَبِّكَ، أو الحق ذلك، أو ما قلناه لك، ويجوز أن يكون خبر ابتداء، تقديره هذا الحق والْمُمْتَرِينَ هم الشاكون، والمرية(1/446)
الشك، ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره، ولو قيل: فلا تكن ممتريا لكانت هذه الدلالة أقل، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.
وقوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ معناه جادلك ونازعك الحجة، والضمير في قوله: فِيهِ يحتمل أن يعود على عِيسى، ويحتمل أن يعود على الْحَقُّ، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة من أمر عيسى وقوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا الآية، استدعاء المباهلة وتَعالَوْا تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك ونَبْتَهِلْ معناه نلتعن، ويقال عليهم بهلة الله بمعنى اللعنة، والابتهال: الجد في الدعاء بالبهلة.
وروي في قصص هذه الآية: أنها نزلت بسبب محاجة نصارى نجران في عيسى عليه السلام وقولهم هو الله، وكانوا يكثرون الجدال وقد روى عبد الله بن الحارث بن جزء السوائي عن النبي عليه السلام أنه قال: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني لشدة ما كانوا يمارون فلما قرأ النبي عليه السلام الآية دعاهم إلى ذلك، فروى الشعبي وغيره: أنهم وعدوه بالغد أن يلاعنوه فانطلقوا إلى السيد والعاقب فتابعاهم على أن يلاعنوا فانطلقوا إلى رجل آخر منهم عاقل فذكروا له ما صنعوا فذمهم وقال لهم:
إن كان نبيا ثم دعا عليكم هلكتم، وإن كان ملكا فظهر لم يبق عليكم، قالوا فكيف نصنع وقد واعدناه؟
قال: إذا غدوتم فدعاكم إلى ذلك فاستعيذوا بالله من ذلك فعسى أن يعفيكم فلما كان الغد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا حسينا آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، فدعاهم إلى الميعاد، فقالوا: نعوذ بالله فأعادوا التعوذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء، قالوا: لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال: فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفا في رجب وألفا في صفر وطلبوا منه رجلا أمينا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقال عليه السلام: لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران لو تموا على الملاعنة، وروى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم قالوا: دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نفعل فذهبوا إلى العاقب وهو ذو رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: يا معشر النصارى، والله لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لا عن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال إن فعلتم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي عليه السلام، فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نبقى على ديننا وصالحوه على أموال وقالوا له:
ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضى، وروى السدي وغيره أن النبي عليه السلام جاء هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين ودعاهم فأبوا وجزعوا وقال لهم أحبارهم: إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا فصالحوا النبي عليه السلام على ثمانين ألف درهم في العام فما عجزت عنه الدراهم ففي العروض، الحلة بأربعين وعلى أن عليهم ثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة(1/447)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا عارية كل سنة ورسول الله ضامن ذلك حتى يؤديها إليهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا عنوا لاستؤصلوا من جديد الأرض، وقال أيضا: لو فعلوا لاضطرم عليهم الوادي نارا، وروى علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم، أليس عهدكم بالأمس بإخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ فلا تلاعنوا فانتهوا، وفي هذه القصة اختلافات للرواة وعبارات تجري كلها في معنى ما ذكرناه لكنا قصدنا الإيجاز وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة محمد شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وما روي من ذلك خير مما روى الشعبي من تقسيم ذلك الرجل العاقل فيهم أمر محمد بأنه إما نبي وإما ملك لأن هذا نظر دنياوي وما روى الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم، ودعاء النساء والأنبياء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
هذا خبر من الله تعالى جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة ب هذا هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد وغيرهم: والْقَصَصُ معناه الأخبار، تقول: قص يقص، قصا وقصصا، إذا تتبع الأمر يخبر به شيئا بعد شيء، قال قوم: هو مأخوذ من قص الأثر، وقوله لَهُوَ يحتمل أن يكون فصلا ويحتمل أن يكون ابتداء، ومِنْ قوله مِنْ إِلهٍ مؤكدة بعد النفي، وهي التي يتم الكلام دونها لكنها تعطي معنى التأكيد، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وعيد.
واختلف المفسرون من المراد بقوله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا فقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم، وقاله الربيع وابن جريج، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: نزلت الآية في وفد نجران، وقاله السدي، وقال ابن زيد: لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء» ، والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ أَهْلَ الْكِتابِ يعمهم وسواهم من النصارى واليهود، فدعا النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس «إلى كلمة» بفتح الكاف وكسر اللام، وروى أبو(1/448)
السمال: «كلمة» بفتح الكاف وسكون اللام، وروي عنه أنه قرأ «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد، كبد بكسر الكاف وسكون الباء، و «الكلمة» هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله أَلَّا نَعْبُدَ الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد، وقال أبو العالية:
«الكلمة السواء» ، لا إله إلا الله.
قال الفقيه الإمام: وقوله: سَواءٍ نعت للكلمة، قال قتادة والربيع وغيرهما: معناه إلى كلمة عدل، فهذا معنى «السواء» ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم» ، كما فسر قتادة والربيع، وقال بعض المفسرين: معناه إلى كلمة قصد.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا قريب في المعنى من الأول، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها، والذي أقوله في لفظة سَواءٍ انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، ف سَواءٍ على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر: هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه. والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، وعلى هذا الحد جاءت لفظة سَواءٍ في قوله تعالى:
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] على بعض التأويلات، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرا مقاسما لك في عيشك، لكنت قد دعوته إلى السواء، الذي هو استواء الحال على ما فسرته، واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب برحمته.
وقوله أَلَّا نَعْبُدَ يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى، إلى أَلَّا نَعْبُدَ، فذلك على البدل من كَلِمَةٍ ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى، هي أَلَّا نَعْبُدَ وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع نَعْبُدَ إكثار منهم فاختصرته، واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية، وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم، وبهذا فسر عكرمة، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعا، وبهذا فسر ابن جريج، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام، وقوله تعالى: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون.
قوله تعالى:(1/449)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 66]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، فقال ابن عباس: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند النبي عليه السلام فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله الآية، وقال السدي وقتادة: وحكى الطبري عن مجاهد وقتادة أيضا: أنهما قالا نزلت الآية بسبب دعوى اليهود أنه منهم وأنه مات يهوديا، وجعل هذا القول تحت ترجمة مفردة له، والصحيح أن جميع المتأولين إنما نحوا منحى واحدا، وأن الآية في اليهود والنصارى، وألفاظ الآية تعطي ذلك فكيف يدافع أحد الفريقين عن ذلك؟ وهذه الآية مبينة فساد هذه الدعاوى، التي لا تشبه لقيام الدليل القاطع على فسادها، لأنهم ادعوا لإبراهيم الخليل نحلا لم تحدث في الأرض، ولا وجدت إلا بعد موته بمدة طويلة، ولما كان الدليل عقليا قال الله تعالى لهم موبخا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟
واختلف القراء في قوله ها أَنْتُمْ في المد والهمز وتركه، فقرأ ابن كثير، «هأنتم» ، في وزن هعنتم، وقرأ نافع وأبو عمرو «هانتم» استفهاما بلا همز، وقرأ الباقون، «ها أنتم» ، ممدودا مهموزا، ولم يختلفوا في مد هؤُلاءِ وأولاء، فوجه قراءة ابن كثير، أنه أبدل من همزة الاستفهام الهاء، أراد «أأنتم» ، ووجه قراءة نافع وأبي عمرو أحد أمرين، يجوز أن تكون «ها» التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ، ويكون التنبيه داخلا على الجملة، كما دخل على قولهم هلم وكما دخلت- يا- التي للتنبيه في قوله ألا يا اسجدوا، وفي قول الشاعر:
[البسيط]
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم ... أمّ الهنيّد من زند لها واري
وقول الآخر: [البسيط]
يا لعنة الله والأقوام كلّهم ... والصّالحين على سمعان من جار
وخففت الهمزة من «أنتم» ولم تحقق بعد الألف، كما قالوا في هباءة هباة، ويجوز أن تكون الهاء في ها أَنْتُمْ بدلا من همزة الاستفهام، كوجه قراءة ابن كثير، وتكون الألف هي التي تدخل بين الهمزتين، لتفصل بينهما، ووجه قراءة الباقين «ها أنتم» مهموز ممدود يحتمل الوجهين اللذين في قراءة نافع وأبي عمرو، وحققوا الهمزة التي بعد الألف، ولم يخففوها كما خففها أبو عمرو ونافع، ومن لم ير إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين كما يراه أبو عمرو، فينبغي أن تكون «ها» في قوله للتنبيه ولا تكون بدلا من همزة الاستفهام، وأما هؤُلاءِ ففيه لغتان، المد والقصر، وقد جمعهما بيت الأعشى في بعض الروايات:
[الخفيف] .
هؤلا ثمّ هؤلاء قد أعطيت ... نعالا محذوّة بنعال
وأما إعراب ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ فابتداء وخبر، وحاجَجْتُمْ في موضع الحال لا يستغنى عنها، وهي(1/450)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
بمنزلة قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ [البقرة: 85] ويحتمل أن يكون هؤُلاءِ بدلا أو صفة ويكون الخبر حاجَجْتُمْ وعلى مذهب الكوفيين حاجَجْتُمْ، صلة لأولاء والخبر في قوله: فَلِمَ تُحَاجُّونَ ومعنى قوله تعالى: فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي على زعمكم، وإنما المعنى فيما تشبه فيه دعواكم، ويكون الدليل العقلي لا يرد عليكم وفسر الطبري هذا الموضع بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم وأنبائهم مما أيقنوه وثبت عندهم صحته.
قال الفقيه الإمام: وذهب عنه رحمه الله أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هنالك على حقيقته، وباقي الآية بين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 67 الى 68]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
أخبر الله تعالى في هذه الآية، عن حقيقة أمر إبراهيم، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة، ثم نفى نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك، وهذا كما تقول: ما أخذت لك مالا بل حفظته، وما كنت سارقا، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ.
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم الخليل عليه السلام هم القوم الذين اتبعوه على ملته الحنيفية.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهنا يدخل كل من اتبع الحنيفية في الفترات وَهذَا النَّبِيُّ محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث بالحنيفية السمحة، والنَّبِيُّ في الإعراب نعت أو عطف بيان، أو بدل، وفي كونه بدلا نظر، وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء على ما يجب دون المحرفين المبدلين، ثم أخبر أن الله تعالى وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة، و «الحنيف» مأخوذ من الحنف، وهو الاستقامة وقيل هو الميل، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف، فالحنيف من الاستقامة معناه المستقيم، ومن الميل معناه المائل عن معوج الأديان إلى طريق الحق، واختلفت عبارة المفسرين عن لفظة الحنيف، حتى قال بعضهم: الحنيف الحاج، وكلها عبارة عن الحنف بإجراء منه كالحج وغيره، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينه، وقال له: إني أريد أن أكون على دينكم، فقال اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال وما الحنيف؟ قال دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا(1/451)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
الله، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى، فقاوله بمثل مقاولة اليهودي، إلا أن النصراني قال:
بنصيبك من لعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم فلم يزل رافعا يديه إلى الله، وقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، وروى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم، ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
أخبر الله تعالى عن طائفة أنها تود وتشتهي أن تضل المسلمين، أي تتلفهم عن دينهم وتجعلهم في ضلال ثم فسر الطائفة بقوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فتحتمل مِنْ أن تكون للتبعيض، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكن الناس إلى قولهم، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وقال الطبري: يُضِلُّونَكُمْ معناه يهلكونكم، واستشهد ببيت جرير.
كنت القذى في موج أخضر مزبد ... قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا
وقول النابغة: [الطويل] فآب مضلّوه بعين جليّة وهذا تفسير غير خاص باللفظة وإنما اطرد له هذا الضلال في الآية وفي البيتين اقترن به هلاك، وأما أن تفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم، قوله تعالى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون، ثم أعلم أنهم لا يشعرون أنهم لا يصلون إلى إضلالكم.
ثم وقفهم تعالى موبخا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: قل لهم يا محمد، لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آية القرآن؟ وأنتم تشهدون أن أمره وصفة محمد الذي هو الآتي به في كتابكم، قال هذا المعنى قتادة وابن جريج والسدي، وتحتمل الآية أن يريد «بالآيات» ما ظهر على يدي محمد عليه السلام من تعجيز العرب والإعلام بالغيوب وتكلم الجماعات وغير ذلك وتَشْهَدُونَ على هذا يكون بمعنى تحضرون وتعاينون، والتأويل الأول أقوى لأنه روي أن أهل الكتاب كانوا قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم يخبرون بصفة النبي الخارج وحاله، فلما ظهر كفروا به حسدا، فإخبارهم المتقدم لظهوره هو الشهادة التي وقفوا عليها، قال مكي: وقيل إن هذه الآيات عني بها قريظة والنضير وبنو قينقاع ونصارى نجران.(1/452)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
وقوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ معناه تخلطون، تقول لبست الأمر بفتح الباء بمعنى خلطته، ومنه قوله تعالى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] وتقول: لبست الثوب بكسر الباء، قال ابن زيد:
الْحَقَّ الذي لبسوه هو التوراة المنزلة، و «الباطل» الذي لبسوه به هو ما كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى التوراة، وقال ابن عباس: الْحَقَّ إسلامهم بكرة، و «الباطل» كفرهم عشية، والآية نزلت في قول عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف. تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وجه النهار، ونكفر آخره، عسى أن نلبس على المسلمين أمرهم، وقال قتادة وابن جريج: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ معناه لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فكأن هذا المعنى لم تبقون على هذه الأديان وتوجدونها؟ فيكون في ذلك لبس على الناس أجمعين، وقال بعض المفسرين: الْحَقَّ الذي لبسوه قولهم: محمد نبي مرسل، و «الباطل» الذي لبسوه به قول أحبارهم: لكن ليس إلينا بل ملة موسى مؤبدة، وقوله تعالى: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يريد شأن محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك قال الربيع وابن جريج وقتادة وغيرهم، وفي قوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توقيف على العناد ظاهر، قال أبو إسحاق الزجّاج: ولو قيل وتكتموا الحق لجاز على قولك، لم تجمعون ذا وذا، على أن تكتموا في موضع نصب على الصرف في قول الكافرين، وبإضمار «أن» ، في قول أصحابنا، قال أبو علي: الصرف هاهنا يقبح، وكذلك إضمار «أن» ، لأن تَكْتُمُونَ، معطوف على موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم: أتأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة قولك أتقوم فأقوم والعطف على الموجب مقرر وليس بمستقيم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي: [الرجز] وألحق بالحجاز فاستريحا وقد قال سيبويه في قولك: أسرت حتى تدخل المدينة؟ لا يجوز إلا النصب في تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب، وإذا قلت: أيهم سار حتى يدخلها؟ رفعت، لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 73]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)
أخبر تعالى في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع، قال الحسن: قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، قال قتادة وأبو مالك والسدي وغيرهم: قال بعض الأحبار:
لنظهر الإيمان لمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك: ما بال هؤلاء كانوا معناه ثم انصرفوا عنا؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر فيشكون، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام.(1/453)
قال الفقيه الإمام أبو محمد: ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على الكتاب القديم، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكرة، فقالوا: يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا، ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا، ثم رجعوا بالعشي، فقالوا: قد نظرنا ولست به وَجْهَ على هذا التأويل منصوب بقوله آمِنُوا والمعنى أظهروا الإيمان في وَجْهَ النَّهارِ، والضمير في قوله آخِرَهُ عائد على النَّهارِ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهم: نزلت الآية، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين، فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم رجعوا آخر النهار، فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة، بعد أن كانوا اتبعوه.
قال الفقيه الإمام: وهذا القول قريب من القول الأول، وقال جماعة من المفسرين: نزلت هذه الآية في أمر القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى الشام، كما كان يصلي، ثم حولت القبلة، فصلى الظهر، وقيل العصر إلى مكة، فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب: آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا بهذه القبلة الأخيرة.
قال الفقيه الإمام: والعامل في قوله وَجْهَ النَّهارِ على هذا التأويل قوله: أُنْزِلَ والضمير في قوله: آخِرَهُ يحتمل أن يعود على النَّهارِ أو يعود على «الذي أنزل» ، ويَرْجِعُونَ في هذا التأويل، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا التأويل، ووَجْهَ النَّهارِ أوله الذي يواجه منه، تشبيها بوجه الإنسان، وكذلك تقول: صدر النهار وغرة العام والشهر، ومنه قول النبي عليه السلام أقتلته في غرة الإسلام؟ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي: [الكامل]
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النّساء حواسرا يندبنه ... قد قمن قبل تبلّج الأسحار
يقول هذا في مالك بن زهير بن جذيمة العبسي وكانوا قد أخذوا بثأره، وكان القتيل عندهم لا يناح عليه ولا يندب إلا بعد أخذ ثأره، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما يدله على أنّا قد أدركنا ثأره، فيكمد لذلك ويغتم، ومن استعارة الوجه قولهم: فعلت كذا على وجه الدهر، أي في القديم.
وذكر الله تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب، أنهم قالوا: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة، واختلف الناس في قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل: الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراض بين الكلامين.
قال القاضي: والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني: أحدها: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذارا أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذرا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون التقدير، أن لا يؤتى فحذفت- لا- لدلالة الكلام، ويحتمل الكلام أن يكون معناه: ولا تصدقوا وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما(1/454)
أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضدا له، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، بمعنى: إلا أن يحاجوكم، كما تقول: أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل، ويحتمل الكلام أن يكون معناه: ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته، إذ قد علمتم صحتها، إلا لليهود الذين هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، صفة لحال محمد فالمعنى، تستروا بإقراركم، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب يحاجوكم بالإقرار عند ربكم، قال أبو علي وتُؤْمِنُوا تعدى بالباء المقدرة في قوله أَنْ يُؤْتى كما تعدى أول الآية في قوله، بِالَّذِي أُنْزِلَ، واللام في قوله، لِمَنْ تَبِعَ، لا يسهل أن تعلق ب تُؤْمِنُوا، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل جارين، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد، وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى، والمعنى: لا تقروا بأن الله يؤتي أحدا مثل ما أوتيتم إلا لمن، فهذا كما تقول: أقررت لزيد بألف فتكون اللام متعلة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] ولا تتعلق على حد المفعول، قال أبو علي: وقد تعدى «آمن» باللام في قوله فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ [يونس: 83] وقوله آمَنْتُمْ لَهُ [طه: 71] [الشعراء: 49] وقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] واحد، إنما دخل في هذا الكلام بسبب النفي الواقع في أوله، قوله: لا تُؤْمِنُوا كما دخلت- من- في قوله ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105] فكما دخلت- من- في صلة أن ينزل، لأنه مفعول النفي اللاحق لأول الكلام، فكذلك دخل أَحَدٌ في صلة- أن- في قوله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ لدخول النفي في أول الكلام.
قال القاضي: وهذا لأن أحدا الذي فيه الشياع، لا يجيء في واجب من الكلام، لأنه لا يفيد معنى، وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى» بالمد على جهة الاستفهام الذي هو تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة، إلا الاعتراض الذي هو: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لا يختلف أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال: فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل أَنْ يُؤْتى على ما قبله من الفعل، لأن الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون- أن- في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون يُحاجُّوكُمْ على هذا معطوفا على أَنْ يُؤْتى قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع- أن- منصوبا، فيكون المعنى: أتشيعون أو أتذكرون أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ؟ ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 76] فعلى كلا الوجهين معنى الآية، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمدا نبي مبعوث، ويكون قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم. قال أبو علي: وأَحَدٌ على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلا أن يقدر أن أحدا الذي في قولك، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى واحد، وجمع ضميره في قوله أَوْ يُحاجُّوكُمْ حملا على المعنى، إذ لأحد المراد بمثل النبوة اتباع، فهو في معنى الكثرة، قال أبو علي: وهذا موضع(1/455)
ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة.
قال القاضي: إلا أن أحدا في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع، وقرأ الأعمش، وشعيب بن أبي حمزة- «إن يؤتى» - بكسر الهمزة بمعنى، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي، ويحتمل أن تكون بمعنى، إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له، فهذا ترتيب التفسير والقراءات على قول من قال: الكلام كله من قول الطائفة.
وقال السدي وغيره: الكلام كله من قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ، إلى آخر الآية هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله لأمته، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى: قل إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وحكي عن بعض النحويين أن المعنى: أن لا يؤتي أحدا، وحذفت- لا- لأن في الكلام دليلا عليها، كما في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، وحكي عن أبي العباس المبرد: لا تحذف لا، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا كراهة «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم» ، أي ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد، وتحمل عليه قراءة الأعمش وابن أبي حمزة- «إن يؤتى» - بكسر الألف، كأنه عليه السلام يخبر أمته أن الله لا يعطي أحدا ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد عليه السلام لكونها وسطا ويكون قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ على هذه المعاني التي ترتبت في قول السدي، تحتمل معنيين أحدهما «أو فليحاجوكم عند ربكم» ، يعني اليهود، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك، والمعنى الثاني: أن يكون قوله، أَوْ يُحاجُّوكُمْ بمعنى التقرير والإزراء باليهود، كأنه قال: أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله وفضلكم به؟ وقوله: هُدَى اللَّهِ على جميع ما تقدم خبران.
وقال قتادة والربيع: الكلام من قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية، هو مما أمر به محمد عليه السلام أن يقوله للطائفة التي قالت وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد، وتقدير الخبر المحذوف أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، حسدتم وكفرتم، ويكون قوله أَوْ يُحاجُّوكُمْ محمولا على المعنى، كأنه قال: أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟
أَوْ يُحاجُّوكُمْ على ما أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد، فيحتمل أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام، وذلك هو الظاهر من لفظ قتادة فإنه قال: يقول لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك، ويحتمل أن يكون قوله: أَنْ يُؤْتى بدلا من قوله هُدَى اللَّهِ ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله أَوْ يُحاجُّوكُمْ بمعنى، أو فليحاجوكم، فإنه يغلبونكم، ويحتمل قوله، أَنْ يُؤْتى خبر- «إن»(1/456)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ويكون قوله هُدَى اللَّهِ بدلا من الهدى، وهذا في المعنى قريب من الذي قبله، وقال ابن جريج: قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى هو من قول محمد صلى الله عليه وسلم لليهود، وتم الكلام في قوله أُوتِيتُمْ وقوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ متصل بقول الطائفة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ومنه، وهذا القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان.
وقرأ ابن مسعود: «أن يحاجوكم» بدل أَوْ، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم مع بعضها، وقوله عِنْدَ رَبِّكُمْ يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في الآخرة، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم، والعلم الذي جعل في العباد، فأضاف ذلك إلى الرب تشريفا، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق، وقرأ الحسن «إن يؤتى» أحد بكسر الهمزة والتاء، على إسناد الفعل إلى أَحَدٌ، والمعنى: أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطابا من محمد عليه السلام لأمته، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحدا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 75]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إلى قوله الْعَظِيمِ، تكذيب لليهود في قولهم: نبوءة موسى مؤبدة، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف، وسائر ما في الآية من لفظة واسِعٌ وغير ذلك قد تقدم نظيره.
ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة، ومقصد الآية ذم الخونة منهم، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله، في استحلالهم أموال العرب، وفي قراءة أبي بن كعب «تيمنه» بتاء وياء في الحرفين وكذلك- تيمنا- في يوسف، قال أبو عمرو الداني: وهي لغة تميم.
قال القاضي: وما أراها إلا لغة قرشية، وهي كسر نون الجماعة كنستعين، وألف المتكلم كقول ابن عمر، لا إخاله، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في «تيمنا» وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب، وقد تقدم القول في «القنطار» في صدر السورة وقرأ جمهور الناس، «يؤده إليك» بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير «الدينار» ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن، نحو نُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115] ونُؤْتِهِ نُوَلِّهِ إلا حرفا حكي عن أبي عمرو أنه كسره، وهو قوله تعالى: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ [النمل: 28] قال أبو إسحاق: وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط(1/457)
عليه، كما غلط عليه في بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط لمثل هذا: أنه يكسر كسرا خفيفا، و «القنطار» في هذه الآية: مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل، وأما «الدينار» فيحتمل أن يكون كذلك، مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة، وقرأ جمهور الناس «دمت» بضم الدال، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان وغيرهم: «دمت ودمتم» ، بكسر الدال في جميع القرآن، قال أبو إسحاق: من قولهم: «دمت» ، تدام، نمت، تنام، وهي لغة، ودام معناه ثبت على حال ما، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشيء ومنه قول ذي الرمة: [البسيط] والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم والدوام، الدوار يأخذ في رأس الإنسان، فيرى الأشياء تدور له، وتدويم الطائر في السماء، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه، وقوله قائِماً يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد: معناه قائما على اقتضاء دينك.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام، فعلى هذا التأويل، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله، أي اجتهاده فيها، وقال السدي وغيره: قائِماً في هذه الآية معناه: قائما على رأسه، على الهيئة المعروفة، وتلك نهاية الحفز، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر، يريد أن يستقبله، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود: نحن لا نؤدي إليكم شيئا حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام وأسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية حامية من ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» .
الإشارة ب ذلِكَ إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه، على أحد التأويلين، والضمير في،(1/458)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
قالُوا، يعني به لفيف بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقولون: نحن أهل الكتاب، والعرب أميون أصحاب أوثان، فأموالهم لناحلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك، و «الأميون» القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور:
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود عليّ طريق
وقوله تعالى: فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] هو من هذا المعنى، وهو كثير في القرآن وكلام العرب، وروي أن رجلا قال لابن عباس: إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال: وتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بأس، فقال ابن عباس: هذا كما قال أهل الكتاب: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم، هذا قول جماعة من المتأولين، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما: أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذبا منها وهي عالمة بكذبها في ذلك قالا: والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 76 الى 77]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم، ليس علينا بقوله بَلى أي عليهم سبيل وحجة وتبعة، ثم أخبر على جهة الشرط أن مَنْ أَوْفى بالعهد وَاتَّقى عقوبة الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله، وتقول العرب:
وفى بالعهد، وأوفى به بمعنى، وأوفى، هي لغة الحجاز وفسر الطبري وغيره، على أن الضمير في قوله، بِعَهْدِهِ عائد على الله تعالى، وقال بعض المفسرين: هو عائد على مَنْ.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان، وقال ابن عباس: اتَّقى في هذه الآية، معناه: اتقى الشرك، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفا للتقوى وحضّا عليها.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته، واختلف المفسرون في سبب نزولها، فقال عكرمة: نزلت في أحبار اليهود، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث: إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي، فنزلت الآية، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلا قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية، فنكل الأشعث عن اليمين، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضا أخرى، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس، وقال الشعبي: نزلت الآية في(1/459)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثا لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها، فنزلت الآية بسببه، وقال سعيد بن المسيب، اليمين الفاجرة من الكبائر، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود: كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر، إذا فجر فيها صاحبها، وقد جعل الله «الأيمان» في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضا، والخلاق: الحظ والنصيب والقدر، وهو مستعمل في المستحبات، وقال الطبري: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ معناه بما يسرهم وقال غيره: نفى تعالى أن يكلمهم جملة لأنه يكلم عباده المؤمنين المتقين، وقال قوم من العلماء: وهي عبارة عن الغضب، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم وَلا يُزَكِّيهِمْ يحتمل معنيين، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها، والآخر ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة وأَلِيمٌ فعيل بمعنى، مفعل، فالمعنى، مؤلم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 78 الى 79]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
الضمير في مِنْهُمْ، عائد على أهل الكتاب، و «الفريق» ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق، إذا فصل وأبان شيئا عن شيء، ويَلْوُونَ معناه: يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: راعنا واسمع غير مسمع ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليّ، وحقيقة الليّ في الثياب والحبال ونحوها، فتلها وإراغتها، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيها بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم، خصم ألوى ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلو كان في ليلى شذى من خصومة ... للوّيت أعناق الخصوم الملاويا
وقال الآخر: [الرجز] ألفيتني ألوي بعيدا مستمر وقرأ جمهور الناس، «يلوون» ، مضارع لوى، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، «يلوّون» بتشديد الواو وفتح اللام، من لوّى، على وزن فعّل بتشديد العين، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية، وقرأ حميد «يلون» بضم اللام وسكون الواو، وهي في الأصل «يلون» مثل قراءة الجماعة، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات، فجاء «يلوون» فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلون» والْكِتابِ في هذا الموضع التوراة، وضمير الفاعل في قوله لِتَحْسَبُوهُ هو(1/460)
للمسلمين وقوله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نفي أن يكون منزلا كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله، وما هو من عند الله، وقد تقدم نظير قوله تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ معناه لأحد من الناس، والبشر اسم جنس يقع للكثير والواحد ولا مفرد له من لفظه، وهذا الكلام لفظه النفي التام كقول أبي بكر رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعلم مبلغها من النفي بقرينة الكلام الذي هي فيه، كقوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 145] وقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النحل: 60] فهذا منتف عقلا، وأما آيتنا هذه فإن النفي على الكمال لأنّا نقطع أن الله تعالى لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، والْكِتابِ في هذه الآية اسم جنس، والْحُكْمَ بمعنى الحكمة، ومنه قول النبي عليه السلام: إن من الشعر لحكما، وثُمَّ في قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولَ معطية تعظيم الذنب في القول، بعد مهلة من هذا الإنعام، وقوله عِباداً هو جمع عبد، ومن جموعه عبيد وعبدى، قال بعض اللغويين، هذه الجموع بمعنى، وقال قوم، العباد لله، والعبيد والعبدى للبشر، وقال قوم: العبدى، إنما تقال في العبيد بني العبيد، وكأنه بناء مبالغة، تقتضي الإغراق في العبودية.
قال القاضي أبو محمد: والذي استقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن وانظر قوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [البقرة: 207] [آل عمران: 30] وعِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض لرحمة الله إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: 118] فنوه بهم، وقال بعض اللغويين: إن نصارى الحيرة وهم عرب لما أطاعوا كسرى ودخلوا تحت أمره سمتهم العرب العباد فلم ينته بهم إلى اسم العبيد، وقال قوم بل هم قوم من العرب من قبائل شتى اجتمعوا وتنصروا وسموا أنفسهم العباد كأنه انتساب إلى عبادة الله، وأما العبيد فيستعمل في تحقير، ومنه قول امرئ القيس: [السريع] .
قولا لدودان عبيد العصى ... ما غرّكم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: وهل أنتم إلا عبيد ومنه قول الله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلّام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] قال الإمام أبو محمد: فهذا النوع من النظر يسلك به سبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ اعبدوني واجعلوني إلها.
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ فقال النقاش وغيره: الإشارة(1/461)
إلى عيسى عليه السلام، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة ومستندة إلى أوامره، وقال ابن عباس والربيع وابن جريج وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى محمد عليه السلام، وسبب نزول الآية، أن أبا رافع القرظي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم، حين اجتمعت الأحبار من يهود والوفد من نصارى نجران: يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت، فنزلت الآية، في ذلك، قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] وإنما معنى الآية، فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأويلهم، وهذا من نوع ليّهم الكتاب بألسنتهم، وقرأ جمهور القراء «ثم يقول» بالنصب، وروى شبل عن ابن كثير ومحبوب عن أبي عمرو «ثم يقول» برفع اللام، وهذا على القطع وإضمار مبتدأ، وقرأ عيسى بن عمر، «عبادا لي» بتحريك الياء مفتوحة.
المعنى وَلكِنْ يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وهو جمع رباني، واختلف النحاة في هذه النسبة، فقال قوم: هو منسوب إلى الرب من حيث هو العالم ما علمه، العامل بطاعته، المعلم للناس ما أمر به، وزيدت الألف والنون مبالغة كما قالوا، لحياني وشعراني في النسبة إلى اللحية والشعر، وقال قوم الرباني منسوب إلى الربان وهو معلم الناس، وعالمهم السائس لأمرهم، مأخوذ من رب يرب إذا أصلح وربى، وزيدت فيه هذه النون كما زيدت في غضبان وعطشان، ثم نسب إليه رباني، واختلف العلماء في صفة من يستحق أن يقال له رباني، فقال أبو رزين: الرباني: الحكيم العالم، وقال مجاهد: الرباني الفقيه، وقال قتادة وغيره:
الرباني العالم الحليم، وقال ابن عباس: هو الحكيم الفقيه، وقال الضحاك: هو الفقيه العالم، وقال ابن زيد: الرباني والي الأمر، يرب الناس أي يصلحهم، فالربانيون الولاة والأحبار والعلماء، وقال مجاهد:
الرباني فوق الحبر لأن الحبر هو العالم والرباني هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم، وفي البخاري: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
قال الفقيه أبو محمد: فجملة ما يقال في الرباني إنه العالم بالرب والشرع المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله بِما كُنْتُمْ معناه: بسبب كونكم عالمين دارسين، فما(1/462)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
مصدرية، ولا يجوز أن تكون موصولة، لأن العائد الذي كان يلزم لم يكن بد أن يتضمنه: كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ، ولا يصح شيء من ذلك لأن «كان» قد استوفت خبرها ظاهرا، وهو تُعَلِّمُونَ وكذلك تُعَلِّمُونَ قد استوفى مفعوله وهو الْكِتابَ ظاهرا، فلم يبق إلا أن ما مصدرية، إذ لا يمكن عائد، وتُعَلِّمُونَ بمعنى تعرفون، فهي متعدية إلى مفعول واحد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «تعلمون» بسكون العين، وتخفيف اللام، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «تعلّمون» مثقلا، بضم التاء وكسر اللام، وهذا على تعدية الفعل بالتضعيف، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، تقديره: تعلمون الناس الكتاب.
قال الفقيه الإمام: والقراءتان متقاربتا المعنى، وقد رجحت قراءة التخفيف بتخفيفهم تَدْرُسُونَ وبأن العلم هو العلة التي توجب للموفق من الناس أن يكون ربانيا، وليس التعليم شرطا في ذلك، ورجحت الأخرى بأن التعليم يتضمن العلم، والعلم لا يتضمن التعليم، فتجيء قراءة التثقيل أبلغ في المدح.
قال الفقيه الإمام: ومن حيث العالم بحال من يعلم، فالتعليم كأنه في ضمن العلم، وقراءة التخفيف عندي أرجح، وقرأ مجاهد والحسن «تعلّمون» بفتح التاء والعين، وشد اللام المفتوحة، وقرأ جمهور الناس، «تدرسون» بضم الراء، من درس إذا أدمن قراءة الكتاب وكرره، وقرأ أبو حيوة «تدرسون» بكسر الراء، وهذا على أنه يقال في مضارع درس، يدرس ويدرس وروي عن أبي حيوة، أنه قرأ «تدرّسون» بضم التاء، وكسر الراء وشدها، بمعنى تدرسون غيركم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 80 الى 81]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: «ولا يأمركم» برفع الراء، وكان أبو عمرو يختلس حركة الراء تخفيفا، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة: «وَلا يَأْمُرَكُمْ» نصبا، ولا خلاف في الراء من قوله: أَيَأْمُرُكُمْ إلا اختلاس أبي عامر، فمن رفع قوله: «ولا يأمركم» ، فهو على القطع، قال سيبويه: المعنى ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره: المعنى ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قراءة ابن مسعود: «ولن يأمركم» ، فهذه قراءة تدل على القطع، وأما قراءة من نصب الراء، فهي عطف على قوله: أَنْ يُؤْتِيَهُ [آل عمران: 79] والمعنى ولا له أن يأمركم، قاله أبو علي وغيره، وقال الطبري: قوله وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب، معطوف على قوله، ثُمَّ يَقُولَ [آل عمران: 79] .
قال الفقيه أبو محمد: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى، والأرباب في هذه الآية وقوله تعالى:
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ تقرير على هذا المعنى الظاهر فساده.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية، المعنى واذكر يا محمد «إذ» ويحتمل أن يكون «أخذ» هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه، ثم جمع اللفظ في حكاية الحال في هذه الآية، والمعنى: أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل، الظاهرة براهينهم والنصرة له، واختلف(1/463)
المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية، فقال مجاهد والربيع: إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب، لا ميثاق النبيين، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» ، قال مجاهد: هكذا هو القرآن، وإثبات «النبيين» خطأ من الكتاب.
قال الفقيه الإمام: وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إنما أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال طاوس:
أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما بعث الله نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية، وقاله السدي: وروي عن طاوس أنه قال: صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم.
وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة: «لما» بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما آتيناكم، إذ أنتم القادة والرؤوس، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و «ما» في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه، و «من» لبيان الجنس، وقوله، ثُمَّ جاءَكُمْ الآية، جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول، فتقديره عند سيبويه:
رسول به مصدق لما معكم، وحذف تخفيفا كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام، كما قال تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] والحذف من الصلات كثير جميل، وأما أبو الحسن الأخفش، فقال قوله تعالى: لِما مَعَكُمْ. هو العائد عنده على الموصول، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] لأن المعنى لا يضيع أجرهم، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] وكذلك ما ضارع هذه الآيات، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر، كما يراه أبو الحسن، واللام في لَتُؤْمِنُنَّ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز.
وقرأ سائر السبعة: «لما» بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين، أحدهما أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ وخبر الابتداء قوله لَتُؤْمِنُنَّ، ولَتُؤْمِنُنَّ متعلق بقسم محذوف، والمعنى والله لتؤمنن، هكذا قال أبو علي الفارسي، وفيه من جهة المعنى نظر، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيدا فتأمل، والعائد الذي في الصلة، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرنا هما في قراءة حمزة، أما أن هذا التأويل يقتضي عائدا من(1/464)
الخبر الذي هو لَتُؤْمِنُنَّ فهو قوله تعالى: بِهِ فالهاء من بِهِ عائدة على «ما» ولا يجوز أن تعود على رَسُولٌ فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما» بفتح اللام، هو أن تكون «ما» للجزاء شرطا، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم وجاءَكُمْ معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب: 60] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ وهذه اللام الداخلة على «أن» لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة، كما قال تعالى: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73] . قال الزجاج: لأن قولك، والله لئن جنتني لأكرمنك، إنما حلف على فعلك، لأن الشرط معلق به، فلذلك دخلت اللام على الشرط، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد.
والضمير في قوله تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ عائد على رَسُولٌ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام، وأما الضمير في قوله وَلَتَنْصُرُنَّهُ فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول، قال أبو علي في الإغفال: وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله لَتُؤْمِنُنَّ عليه، قال سيبويه: سألته، يعني الخليل عن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ فقال: «ما» هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن، حين قلت: لئن فعلت لأفعلن، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي: أراد الخليل بقوله: هي بمنزلة الذي، أنها اسم كما أن الذي اسم ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما فرّ من أن تكون «ما» حرفا كما جاءت حرفا في قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود: 111] وفي قوله وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 35] ، والله المستعان، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل: أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما» ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله: مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه، والخليل، وإنما الخبر في قوله، لَتُؤْمِنُنَّ كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره، وقرأ الحسن: «لمّا آتيناكم» بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق:
أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء، كما تقول لما جئتني أكرمتك.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويظهر أن «لما» هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال، رؤساء الناس وأماثلهم، أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، وذهب ابن جني في «لما» في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما» ، وزيدت «من» في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت، كما يجب في مثل هذا، فجاء لهما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما» ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما» بفتح الميم مخففة، وقد تقدم، وقرأ نافع وحده، «آتيناكم» بالنون، وقرأ الباقون، «آتيناكم» بالتاء، ورَسُولٌ في هذه الآية اسم جنس، وقال كثير من المفسرين: الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود: «مصدقا» بالنصب على الحال.(1/465)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قالَ أَأَقْرَرْتُمْ....
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه، وذلك يحتمل موطن القسم، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه، وَأَخَذْتُمْ في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا وقال الطبري: أَخَذْتُمْ في هذه الآية معناه: قبلتم، و «الإصر» : العهد، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك، وقوله تعالى فَاشْهَدُوا يحتمل معنيين: أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، هذا قول الطبري وجماعة، والمعنى الثاني، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به، وشهادة الله تعالى هذا التأويل، وفي التي في قوله وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم، هذا قول الزجّاج وغيره.
قال القاضي أبو محمد: فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله، فَاشْهَدُوا أمر بالأداء وقرأ أبو عمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة، و «ترجعون» بالتاء مضمومة، وقرأ عاصم، «يبغون» و «يرجعون» بالياء معجمة من تحت فيهما، وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل وتبغون معناه: تطلبون، وأَسْلَمَ في هذه الآية بمعنى: استسلم عند جمهور المفسرين، ومَنْ في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين، واختلفوا في معنى قوله طَوْعاً وَكَرْهاً فقال مجاهد: هذه الآية كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا عموم في لفظ الآية، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل وأَسْلَمَ فيه بمعنى استسلم، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع، وعبارته رحمه الله: كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق، وروي عن مجاهد أنه قال: الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعا ويسجد الكافر وهو كاره، وقال الشعبي: الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره، وذلك هو الذي يسجد كرها.
قال الفقيه الإمام: وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات، وقال الحسن بن(1/466)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
أبي الحسن: معنى الآية: أنه أسلم قوم طوعا، وأسلم قوم خوف السيف، وقال مطر الوراق: أسلمت الملائكة طوعا، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف.
قال الفقيه الإمام: وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان، والآية ظاهرها العموم، ومعناها الخصوص، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعا ولا كرها على هذا الحد، وقال قتادة: الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه.
قال الفقيه الإمام: ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد، والمعنى في هذه الآية، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة، والتوقيف بقوله أَفَغَيْرَ إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار، وقرأ أبو بكر عن عاصم، «أصري» ، بضم الألف وهي لغة.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
المعنى: قل يا محمد أنت وأمتك: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو القرآن وأمر محمد صلى الله عليه وسلم والإنزال على نبي الأمة إنزال عليها، وقدم إسماعيل لسنة، وسائر الآية بين، ثم حكم تعالى في قوله وَمَنْ يَبْتَغِ الآية بأنه لا يقبل من آدمي دينا غير دين الإسلام، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء، وهو الحنيفية السمحة، وقال عكرمة: لما نزلت قال أهل الملل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون، فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل عليه وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
[آل عمران: 97] فحج المسلمون وقعد الكفار، وأسند الطبري عن ابن عباس أنه قال: نزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إلى قوله وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] فأنزل الله بعدها، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ الآية.
قال الفقيه الإمام: فهذه إشارة إلى نسخ، وقوله فِي الْآخِرَةِ متعلق بمقدر، تقديره خاسر في الآخرة لأن الألف واللام في الْخاسِرِينَ في معنى الموصول، وقال بعض المفسرين: إن قوله مَنْ يَبْتَغِ الآية، نزلت في الحارث بن سويد، ولم يذكر ذلك الطبري.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)(1/467)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآيات من قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، كان مسلما ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟
قال: فنزلت كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ الآيات، إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فأرسل إليه قومه فأسلم، وقال مجاهد: حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال له الحارث: إنك والله لما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه، وقال السدي: نسخ الله تعالى، بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قوله أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ.
قال الفقيه أبو محمد: وفي هذه العبارة تجوز كثير، وليس هذا بموضع نسخ، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلا، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا من توبة؟ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن: إن هذه الآيات نزلت في اليهود والنصارى، شهدوا بنعت الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، فلما جاء من العرب حسدوه، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول، وقال النقاش: نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق.
وقال الفقيه القاضي: وكل من ذكر فألفاظ الآية تعممه.
وقوله تعالى: كَيْفَ سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قال عليه السلام: كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها؟ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله تعالى، وقوله تعالى: وَشَهِدُوا عطف على كَفَرُوا بحكم اللفظ، والمعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر، والواو لا ترتب، وقال قوم: معنى قوله بَعْدَ إِيمانِهِمْ بعد أن آمنوا، فقوله وَشَهِدُوا عطف على هذا التقدير، وقوله تعالى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته عليه، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله، فتجيء الآية عامة تامة العموم، و «اللعنة» الإبعاد وعدم الرحمة والعطف، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار، ولعنة الملائكة قول، والنَّاسِ: بنو آدم، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه، أن الجن يدخلون في لفظة الناس، وأنشد على ذلك: [الوافر]
فقلت إلى الطّعام فقال منهم ... أناس يحسد الأنس الطّعاما
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي يظهر، أن لفظة النَّاسِ إذا جاءت مطلقة، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير، فإذا جاءت مقيدة بالجن، فذلك على طريقة الاستعارة، إذ هي(1/468)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
جماعة كجماعة، وكذلك بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] وكذلك نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس، وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 6] قاض بتباين الصنفين، وقوله تعالى: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بعضهم بعضا، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته، وكل من هذه صفته- وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم، لكن على غير تعيين، والضمير في قوله، خالِدِينَ فِيها قال الطبري: يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى اللعنة، وقال قوم من المفسرين: الضمير عائد على اللعنة.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم، فالضمير عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع كما يفهم قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] أنها الأرض، وقد قال بعض الخراسانيين في قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] إن الضمير عائد على النار ويُنْظَرُونَ في هذه الآية، بمعنى يؤخرون، ولا راحة إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم، ولا يجوز أن يكون يُنْظَرُونَ هنا من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى وقوله جل وعز إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التوبة: الرجوع، والإصلاح عام في القول والعمل، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والناس أجمعون» .
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
اختلف المتأولون في كيف يترتب كفر بعد إيمان، ثم زيادة كفر، فقال الحسن وقتادة وغيرهما: الآية في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم ازْدادُوا كُفْراً بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أبو محمد: وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف بالمخاطبين، وقال أبو العالية رفيع: الآية في اليهود، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة، ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك.
قال الإمام أبو محمد: وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم، وقال(1/469)
مجاهد: معنى قوله ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به، فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون، وقال السدي نحوه، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل، سواء كفر بعد إيمان وازداد كفرا، أو كان كافرا من أول أمره، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوبة فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة والغرغرة والمعاينة، فالمعنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عند المعاينة، وقال أبو العالية:
معنى الآية: لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان: نحن نتوب من هذه الأفعال، وهم مقيمون على كفرهم، فأخبر الله تعالى، أنه لا يقبل تلك التوبة.
قال الفقيه الإمام: وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله عليهم بالكفر، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين، وهم الذين أشار إليهم بقوله كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً [آل عمران: 86] فأخبر عنهم أنهم لا تكون لهم توبة فيتصور قبولها، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر:
(على لا حب لا يهتدى بمناره) أي قد جعلهم الله من سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم، فهم لا محالة يموتون على الكفر، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفارا بعقب الآية، فبانت منزلة هؤلاء، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين، أنهم يموتون كفارا، ثم أخبر الناس عن حكم من يموت كافرا والضَّالُّونَ المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال، وقرأ عكرمة: «لن نقبل» بنون العظمة «توبتهم» بنصب التاء.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة، وقرأ عكرمة: «فلن نقبل» بنون العظمة «ملء الأرض» بالنصب، و «الملء» ما شحن به الوعاء، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر، تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ والملء اسم ما ملأت به، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال: «مل» دون همزة، ورويت عن نافع وذَهَباً نصب على التمييز، وقرأ ابن أبي عبلة: «ذهبا لو افتدى» به، دون واو، واختلف الناس في هذه الآية في قوله وَلَوِ افْتَدى فقال الطبري: هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو، كما دخلت في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] لمتروك من الكلام، تقديره وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض.
قال الفقيه الإمام: وفي هذا التمثيل نظر فتأمله، وقال الزجّاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهبا ولو افتدى» أيضا به في الآخرة لم يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا قول حسن، وقال قوم: الواو زائدة وهذا قول مردود، ويحتمل أن(1/470)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، كما تقول: أنا لا أفعل لك كذا بوجه، ولو رغبت إليّ، وباقي الآية وعيد بيّن.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 92 الى 93]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)
ذهب بعض الناس إلى أن يصل معاني هذه الآيات بعضها ببعض، من حيث أخبر تعالى: أنه لا يقبل من الموافي على الكفر مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً [آل عمران: 91] وقد بان أنه يقبل من المؤمن القليل والكثير، فحض على الإنفاق من المحبوب المرغوب فيه، ثم ذكر تقرب إسرائيل عليه السلام، بتحريم ما كان يحب على نفسه، ليدل تعالى على أن جميع التقربات تدخل بالمعنى في جملة الإنفاق من المحبوب، وفسر جمهور المفسرين هذه الآيات، على أنها معان منحازة، نظمتها الفصاحة المعجزة أجمل نظم، وقوله تعالى لَنْ تَنالُوا الآية، خطاب لجميع المؤمنين، وقال السدي وعمرو بن ميمون: الْبِرَّ الجنة.
قال الفقيه الإمام: وهذا تفسير بالمعنى، وإنما الخاص باللفظة أنه ما يفعله البر من أفاعيل الخير، فتحتمل الآية أن يريد: لن تنالوا بر الله تعالى بكم، أي رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا، إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم، وبسبب نزول هذه الآية، تصدق أبو طلحة بحائطه، المسمى بيرحاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ابنه، فكأن زيدا شق عليه فقال له النبي: أما إن الله قد قبل صدقتك، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء وقت فتح مدائن كسرى على يدي سعد بن أبي وقاص فسيقت إليه وأحبها فدعا بها يوما وقال: إن الله يقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فأعتقها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا كله حمل للآية على أن قوله تعالى: مِمَّا تُحِبُّونَ أي من رغائب الأموال التي يضن بها، ويتفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى- الحديث- وذهب قوم من العلماء إلى أن ما يحب من المطعومات على جهة الاشتهاء يدخل في الآية، فكان عبد الله بن عمر، يشتهي أكل السكر بالوز فكان يشتري ذلك ويتصدق به ويتلو الآية.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وإذا تأملت جميع الطاعات، وجدتها إنفاقا مما يحب الإنسان، إما من ماله، وإما من صحته، وإما من دعته وترفهه، وهذه كلها محبوبات، وسأل رجل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد سنام العمل، والصدقة شي عجيب، فقال(1/471)
له الرجل: أراك تركت شيئا وهو أوثقها في نفسي الصيام، فقال أبوذر: قربة وليس هناك، ثم تلا لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الآية، وقوله تعالى وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ شرط وجواب فيه وعد، أي عليم مجاز به وإن قل.
قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلا لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي، وقال: إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه، قال: فذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية: الرد على قوم من اليهود قالوا: إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراما في ملة أبينا إبراهيم، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالا لهم قبل التوراة إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ في خاصته، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم، وإلى هذا تنحو ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالا توافق تراجمه، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى: كل الطعام كان حلا لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه: لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها.
قال الفقيه الإمام: وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ [الأنعام: 146] وقوله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد، وقوله تعالى: حِلًّا معناه: حلالا، وإِسْرائِيلَ هو يعقوب، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل: إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: إن هذا تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس، واختلف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له: إنه جعل امرأته عليه حراما، فقال ابن عباس: إنها ليست عليك بحرام، فقال الأعرابي: ولم؟(1/472)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
والله تعالى يقول في كتابه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما حرم إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال: إن إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته فجعل لله أن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا، قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضا: إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي، وقيل: هو وجع عرق النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له: يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم لحوم الإبل وألبانها، وهو يحبها، تقربا إلى الله بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:
إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال: موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضا العروق، لكن بغضة لها لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر، والله أعلم، وقد روي عن ابن عباس: أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل، وأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى: فإنه أيها اليهود، كما أنزل الله عليّ لا كما تدعون أنتم، قال الزجّاج: وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 94 الى 96]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)
قوله: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
تحتمل الإشارة- بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء: أحدها: أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء غير موضعه، والآخر: أن تكون الإشارة إلى استقرار التحريم في التوراة، لأن معنى الآية: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
، وزاد في المحرمات فهو الظالم، والثالث: أن تكون الإشارة إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئا ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو(1/473)
الظالم، ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، وقوله: دين الله يسر وقوله: بعثت بالحنيفية، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله، وقرأ أبان بن تغلب: «قل صدق» ، بإدغام اللام في الصاد، وكذلك:
قل سيروا، قرأها بإدغام اللام في السين، قال أبو الفتح: علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامهما فيهما، وقرأ جمهور الناس: «وضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول، وقرأ عكرمة، «وضع» بفتح الواو والضاد، فيحتمل أن يريد: وضع الله، فيكون المعنى منقطعا كما هو في قراءة الجمهور، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلا بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره على ما روى عكرمة: أنه لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية، قال اليهود: نحن على الإسلام فقرئت، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] قيل له: أحجهم يا محمد، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعا، ويضعف ما قال الزجّاج: من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود، اللهم إلا أن يكون جدده، وأين مدة سليمان من مدة إبراهيم؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله: إِنَّ أَوَّلَ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: معنى الآية أن أول بيت وضع مباركا وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى، وقال قوم: بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجّاج: من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديدا، قال قتادة: ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان، واختلف الناس في «بكة» ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء: «بكة» هي مكة، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم، على لغة مازن وغيرهم، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله، و «بكة» مزدحم الناس حيث يتباكون، وهو المسجد وما حول البيت، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية: «بكة» موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قال الطبري: ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة، وقال قوم: «بكة» ، ما بين الجبلين ومكة، الحرم كله، ومُبارَكاً نصب على الحال، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال،(1/474)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قوله: وُضِعَ والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله بِبَكَّةَ تقديره:
استقر ببكة مباركا، وفي وصف البيت ب هُدىً مجازية بليغة، لأنه مقوم مصلح، فهو مرشد، وفيه إرشاد، فجاء قوله، وَهُدىً بمعنى وذا هدى، ويحتمل أن يكون هُدىً في هذه الآية، بمعنى الدعاء، أي من حيث دعي العالمون إليه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 97]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
الضمير في قوله: فِيهِ عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه، وقرأ جمهور الناس: «آيات بينات» بالجمع، وقرأ أبي بن كعب وعمرو ابن عباس: «آية بينة» على الإفراد، قال الطبري: يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى، واختلف عبارة المفسرين عن «الآيات البينات» فقال ابن عباس: من الآيات المقام، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا يدل على أن قراءته «آية» بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس، وقال الحسن بن أبي الحسن: «الآيات البينات» مقام إبراهيم، وإن من دخله كان آمنا، وقال مجاهد: المقام الآية، وقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كلام آخر.
قال القاضي أبو محمد: فرفع مَقامُ على قول الحسن ومجاهد على البدل من آياتٌ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه: هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره: منهن مَقامُ إِبْراهِيمَ.
قال القاضي: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر، ومن آياته الحجر الأسود، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام، ومن آياته حجر المقام، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام، وقت رفعه القواعد من البيت، لما طال له البناء فكلما علا الجدار، ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، ثم إن الله تعالى، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، وقال أبو طالب: [الطويل](1/475)
وموطىء إبراهيم في الصّخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
فما حفظ أن أحدا من الناس نازع في هذا القول، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخرا بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعبا، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له، وأنه يعظم ماؤها في الموسم، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار، ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله، اجعل هذا بلدا آمنا، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد، ومن آياته، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله، قال في النوادر وغيرها: سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم.
قال القاضي أبو محمد: هذا والله أعلم، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العراق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال، إلى موضع يقال له أضاة، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية، قال مالك في العتبية: والحديبية في الحرم، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره، أن الطير لا تعلوه، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به، فهو يستشفي بالبيت، وهذا كله عندي ضعيف، والطير تعاين تعلوه، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديما وحديثا، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد، أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانبا منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام، واختلف الناس في مَقامُ إِبْراهِيمَ، فقال الجمهور: هو الحجر المعروف، وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم، وقال قوم: الحرم كله مقام إبراهيم، والضمير في قوله، وَمَنْ دَخَلَهُ عائد على الحرم في قول من قال: مقام إبراهيم هو الحرم، وعائد على البيت في قول الجمهور، إذ لم يتقدم ذكر لغيره، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن، إذ الحرم جزء من البيت، إذ هو بسببه ولحرمته.
واختلف الناس في معنى قوله كانَ آمِناً فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم: هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى رجم، ومن قتل قتل، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل(1/476)
هنالك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية، والإسلام زاد البيت شرفا وتوقيرا، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، فأما من يقتل في الحرم، فإنه يقام عليه الحد في الحرم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع، فليس بآمن، وقال يحيى بن جعدة: معنى الآية ومن دخل البيت كان آمنا من النار، وحكى النقاش عن بعض العباد قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت: يا رب إنك قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت مكلما يكلمني وهو يقول: من النار، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الآية، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع، وقال مالك رحمه الله: الحج كله في كتاب الله، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث، وشروط وجوبه خمسة، البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، واستطاعة السبيل، والحج في اللغة: القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «حج البيت» بكسر الحاء، وقرأ الباقون: «حج البيت» بفتحها، قال سيبويه: حج حجا مثل ذكر ذكرا، قال أبو علي: فحج على هذا مصدر، وقال سيبويه أيضا:
قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد، كما قيل حجة.
قال القاضي: بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له، قال أبو علي: قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسما لهذا المعنى، كما أن غزاة كذلك، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس.
قال القاضي: وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحجة، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل، وقال الزجّاج وغيره، «الحج» : بفتح الحاء المصدر، وبكسرها اسم العمل، وقال الطبري:
هما لغتان الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، مَنْ في موضع خفض بدل من النَّاسِ، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره: هي شرط في موضع رفع بالابتداء، والجواب محذوف تقديره: من استطاع فعليه الحج، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله: وَمَنْ كَفَرَ، وقال بعض البصريين: مَنْ رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حِجُّ الْبَيْتِ ويكون المصدر مضافا إلى المفعول، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير: هي حال الذي يجد زادا وراحلة، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادا وراحلة(1/477)
فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي عليه السلام، فقال: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.
قال القاضي: وضعّف قوم هذا الحديث، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم، وقال بعض البغداديين: هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشيا.
قال القاضي: والذي أقول: إن هذا الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيرا، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب، وقد ذكره الله تعالى في قوله: يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج: 27] وكذلك أيضا معنى الحديث: الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع، فمقصد الحديث: أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر، وإن كان الحج غير واجب عليه، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك، بل إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج، قال ذلك ابن الزبير والضحاك، وقال الحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا، وقال عكرمة:
استطاعة السبيل الصحة، وقال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه، في سماع أشهب من العتبية، وفي كتاب محمد، وقد قيل له: أتقول إن السبيل الزاد والراحلة؟ فقال: لا والله، قد يجد زادا وراحلة ولا يقدر على مسير، وآخر يقدر أن يمشي راجلا، وربّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى.
قال القاضي: وهذا أنبل كلام، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضا، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام، والاستطاعة- متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره، فإذا فرضنا رجلا مستطيعا للسفر ماشيا معتادا لذلك، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال، وكان الشافعي يقول: الاستطاعة على وجهين: بنفسه أولا، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك.
واختلف الناس هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟ على قولين، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه: لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين، فهذا على التراخي، وقال في كتاب ابن المواز: لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا(1/478)
الفريضة، فليخرج وليدعهما، فهذا على الفور، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج: لا تخرج في أيام عدتها، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: فجعله على التراخي.
قال القاضي: وهذا استقراء فيه نظر، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائيا وذاهبا ممن ليست تلك عادته في إقامته، فروى عنه ابن وهب أنه قال: لا بأس بذلك، قيل له فإن مات في الطريق قال: حسابه على الله، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا أرى للذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو، ويسألوا وإني لأكره ذلك، لقول الله سبحانه، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة: 91] قال ابن القاسم: وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بدا، وقال في كتاب محمد وغيره:
قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] وما أسمع للبحر ذكرا.
قال الفقيه القاضي: وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر، وليس تقتضي الآية سقوط البحر، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناس من أمتي عرضوا عليّ ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد: ولا فرق بين الغزو والحج، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشيا فتمشي وتعجز في بعض الطريق: إنها تعود ثانية، قال:
والرجال والنساء في ذلك سواء، فعلى هذا، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لأن حجة الفريضة آكد من النذر، وقال في كتاب محمد: لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه، لأن مشيهن عورة، إلا أن يكون المكان القريب من مكة.
قال القاضي: وهذا ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم، واختلف إذا عدمته، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه:
المحرم من السبيل، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم.
قال القاضي: وهذا وقوف مع لفظ الحديث، وقال مالك: تخرج مع جماعة نساء، وقال الشافعي:
تخرج مع حرة ثقة مسلمة، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل ثقة من المسلمين، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل.
قال القاضي: وهذه الأقوال راعت معنى الحديث، وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها، واضطرب قول الشافعي في ذلك، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة، فقال سفيان الثوري: إذا كان المكس ولو درهما سقط فرض الحج عن الناس، وقال عبد الوهاب: إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير(1/479)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط، وعلى هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان.
والسبيل- تذكر وتؤنث، والأغلب والأفصح التأنيث، قال الله تعالى: تَبْغُونَها عِوَجاً [آل عمران: 99] وقال: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يوسف: 108] ومن التذكير قول كعب بن مالك.
قضى يوم بدر أن تلاقي معشرا ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائز
والضمير في إِلَيْهِ، عائد على البيت، ويحتلم أن يعود على الحج، وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قال ابن عباس: المعنى، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية، فقال له رجل من هذيل: يا رسول الله من تركه كفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضا، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول، وقال ابن زيد: معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت، وقال السدي وجماعة من أهل العلم: معنى الآية: ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج، قال السدي: من كان بهذه الحال فهو كافر.
قال القاضي أبو محمد: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام: من ترك الصلاة فقد كفر وقوله: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا ربّ سواه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم والْكِتابِ التوراة، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون، و «آيات الله» يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ وعيد محض: أي يجازيكم به ويعاقبكم، قال الطبري: هاتان الآيتان قوله، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ وما بعدهما، إلى قوله أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] ، نزلت بسبب رجل من يهود، حاول الإغواء بين الأوس والخزرج، قال ابن إسحاق: حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، قال شاش ابن قيس اليهودي، وكان شيخا قد عسى في الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، والحسد(1/480)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وصلاح ذات بينهم، بعد ما كان بينهم من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال أمد إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله من أيام حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان: وقالوا: قد فعلنا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، يريدون الحرة، فخرجوا إليها، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات، وقال الحسن وقتادة والسدي: إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام، بأن يقولوا لهم، إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.
قال الفقيه الإمام: ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك و «صد» معناه: أعرض عن الشيء وانصرف عنه، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد، تقول: صددت عن كذا، وصددت غيري عنه، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تصدون» بضم التاء وكسر الصاد، وهذا هو الفعل الواقف، نقل بالهمزة فعدي، وسَبِيلِ اللَّهِ في هذه الآية، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته، ومَنْ مفعولة ب تَصُدُّونَ والضمير في تَبْغُونَها عائد على السبيل، ومعنى «تبغون» على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما: تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج، أي الاعوجاج والانفساد، تقول العرب: أبغني كذا بألف موصولة، بمعنى اطلبه لي، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي، قطعوا الألف مفتوحة وقيل: إن تبغون هنا، من البغي الذي هو التعدي، أي تبغون عليها، ويكون، عِوَجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في «تبغون» أي «عوجا» منكم وعدم استقامة، والعوج بكسر العين: ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعوج بفتح العين، ما كان في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك، قال ابن قتيبة: والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها: عوج بكسر العين، ومنه قول الله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ شُهَداءُ، يريد جمع شاهد، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه، وباقي الآية وعيد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)(1/481)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عام في المؤمنين، والإشارة بذلك- وقت نزوله- إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس، و «الفريق» - الجماعة من الناس والمراد بها هنا الأحبار والرؤوس، ويَرُدُّوكُمْ معناه: بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح، ثم وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي يريده بهم اليهود، فقال وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ بهذه الأحوال الموصوفة؟ وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، كما هي في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] والمعنى أجاحدين تكفرون؟
أجاهلين أمستخفين أمرتدين؟ ونحو هذا من التقدير والواو في قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ عاطفة جملة كلام على جملة كلام، ولا يجوز أن تكون كَيْفَ في هذه الآية كما هي في قولك، كيف تفعل كذا، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصلة، لأنه كان يلزم أن يكون كفر المؤمنين مقررا مثبت الوقوع، وتأمل معنى كَيْفَ إذا وليها فعل، ومعناها إذا وليها اسم، وقرأ جمهور الناس «تتلى» بالتاء من فوق، وقرأ الحسن:
«يتلى» بالياء إذا الآيات هي القرآن، وقوله تعالى: وَفِيكُمْ هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه السلام، وهو في أمته إلى يوم القيامة، بأقواله وآثاره، ويَعْتَصِمْ معناه: يتمسك ويستذري، وعصم الشيء إذا منع وحمي، ومنه قوله يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: 43] والعصم الأسباب التي يمتّ بها، ويعتصم من الخيبة في الغرض المطلوب، وقال الأعشى: [المتقارب]
إلى المرء قيس أطيل السّرى ... وآخذ من كلّ حيّ عصم
وتصرف اللفظة كثير جدا، وباقي الآية بيّن، والله المستعان.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر، و «تقاة» مصدر وزنه فعلة، أصله تقية، وقد تقدم قوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة، والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى، واختلف العلماء في قوله: حَقَّ تُقاتِهِ فقالت فرقة: نزلت الآية على عموم لفظها، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وبقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ(1/482)
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[البقرة: 286] قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم، وقالت جماعة من أهل العلم: لا نسخ في شيء من هذا، وهذه الآيات متفقات، فمعنى هذه: اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم، وذلك أن حَقَّ تُقاتِهِ هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد جعل تعالى الدين يسرا، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه: حَقَّ تُقاتِهِ: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكذلك عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
معنى قوله، واتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية، وقال طاوس في معنى قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: يقول تعالى، إن لم تتقوه ولم تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ معناه: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. هكذا هو وجه الأمر في المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز، ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك هاهنا، وإنما المراد: لا تكن هاهنا فتكون رؤيتي لك، ومُسْلِمُونَ في هذه الآية، هو المعنى الجامع التصديق والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس.
وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً معناه تمنعوا وتحصنوا به، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد، وبارتقاء القنن، وبغير ذلك مما هو منعة، ومنه الأعصم في الجبل، ومنه عصمة النكاح، و «الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعتصم به، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم، ونسبة بينهما، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئا بشيء، وتسمى العهود والمواثيق حبالا، ومنه قول الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأدنى إليك حبالها
ومنه قول الآخر: [الكامل] (إني بحبلك واصل حبلي) ومنه قول الله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 112] واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية بِحَبْلِ اللَّهِ، فقال ابن مسعود: «حبل الله» الجماعة، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله: وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده وقال: الجماعة وقرأ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، وقال ابن مسعود في خطبة: عليكم جميعا بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وقال قتادة رحمه الله: «حبل الله» الذي أمر بالاعتصام به هو القرآن، وقال السدي: «حبل الله» كتاب الله، وقاله أيضا ابن مسعود والضحاك، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، وقال أبو العالية: «حبل الله» في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد: «حبل الله» هو الإسلام.(1/483)
قال القاضي أبو محمد: وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال من الضمير في قوله، اعْتَصِمُوا، فالمعنى: كونوا في اعتصامكم مجتمعين. وَلا تَفَرَّقُوا يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية، بل ذلك، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلاف أمتي رحمة، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم.
قوله تعالى:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ....
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم عداوة وحروب، منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن، كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به وأراد الخروج معهم، فقالوا يا رسول الله: إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا أن لا يتم ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا وفعلوا، وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من العام الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيبا، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار محمدا صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه، والوجه الآخر، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها، وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع: [المنسرح]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا(1/484)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
و «الإخوان» جمع أخ، ويجمع إخوة، وهذان أشهر الجمع فيه، على أن سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع، وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخوانا، والأخ في النسب يجمع إخوة: هكذا كثر استعمالهم.
قال القاضي أبو محمد. وفي كتاب الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات: 10] وفيه، أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ [النور: 31] ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب، ويقالان في الدين، و «الشفا» حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى، كقوله شَفا جُرُفٍ [التوبة: 109] وإلى الأسفل كقوله شَفا حُفْرَةٍ، ويثنى شفوان، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقذهم الله بالإسلام، والضمير في مِنْها عائد على النار، أو على «الحفرة» ، والعود على الأقرب أحسن، وقال بعض الناس حكاه الطبري: إن الضمير عائد على «الشفا» ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث، فالآية كقول جرير:
رأت مرّ السنين أخذن منّي ... كما أخذ السّرار من الهلال
إلى غير ذلك من الأمثلة.
قال القاضي: وليس الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة، إلا لو لم تجد معادا للضمير إلا «الشفا» ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها، وقوله، لَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة: «ولتكن» بكسر اللام على الأصل، إذ أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري وغيرهما: أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب الرسول، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي: فعلى هذا القول «من» للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالما، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى: ولتكونوا كلكم أمة يدعون، «ومن» لبيان الجنس قال: ومثله من كتاب الله، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ(1/485)
الْأَوْثانِ
[الحج: 30] ومثله من الشعر قول القائل: [البسيط]
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر
قال القاضي: وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى: مِنَ الْأَوْثانِ ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرا بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
قال القاضي: والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم» ، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء: «المعروف» التوحيد، والْمُنْكَرِ الكفر، والآية نزلت في الجهاد.
قال الفقيه القاضي: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولا بد، الْمُفْلِحُونَ الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم.
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق النصارى، ومجيء الْبَيِّناتُ هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وأسند الفعل دون علامة إلى الْبَيِّناتُ، من حيث نزلت منزلة البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله: عَذابٌ عَظِيمٌ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من(1/486)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
هذا وذلك فسواء، هذا تحرير مذهب أصحابنا الأصوليين رحمهم الله.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
والعامل في قوله يَوْمَ الفعل الذي تتعلق به اللام، في قوله ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] قال الزجاج: تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم.
قال القاضي: وذلك ضعيف من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب، لأنه مصدر قد وصف، «وبياض الوجوه» : عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله، قال الزجّاج- وغيره-: ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام، أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء، وأما «سواد الوجوه» ، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغمم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك تسويدا ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقا وهذه أقبح طلعة، ومن ذلك قول بشار: [البسيط]
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقرأ يحيى بن وثاب، «تبيض وتسود» بكسر التاء، وقرأ الزهري، «تبياض» وجوه، و «تسواد» وجوه بألف، وهي لغة، ولما كان صدر هذه الآية، إخبارا عن حال لا تخص أحدا معينا، بدىء بذكر البياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى، فلما فهم المعنى، وتعين له «الكفار والمؤمنون» ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم، وقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ تقرير وتوبيخ، متعلق بمحذوف، تقديره، فيقال لهم: أكفرتم؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما» ، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه، كقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ [البقرة: 184] المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى: بَعْدَ إِيمانِكُمْ يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيمانا متقدما، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم، فقال أبي بن كعب: الموقفون جميع الكفار، والإيمان الذي قيل لهم بسببه بَعْدَ إِيمانِكُمْ هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم- ألست بربكم؟ قالوا بلى- وقال أكثر المتأولين: إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسن: الآية في المنافقين، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم، فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم، وقال السدي: هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا، وقال أبو أمامة: الآية في الخوارج وقال قتادة: الآية في أهل الردة، ومنه الحديث: ليردن عليّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: فسحقا فسحقا، وفي بعض طرقه: فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، وذكر النحاس قولا: إن الآية في اليهود، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به، فلما جاءهم من غيرهم كفروا، فهذا كفر بعد إيمان، وروي عن مالك أنه قال: الآية في أهل الأهواء.(1/487)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
قال القاضي: إن كان هذا ففي المجلحين منهم القائلين ما هو كفر، وروي حديث: أن الآية في القدرية وقال أبو أمامة: سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها في الحرورية، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد، وما في قوله بِما كُنْتُمْ مصدرية وقوله تعالى: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في النعيم الذي هو موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك هُمْ فِيها تأكيد بجملتين، إذ كان الكلام يقوم دونها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 110]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين، ولما كان فيها ذكر التعذيب، أخبر تعالى: أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك فلا يوجد البتة، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ معناه: بالإخبار الحق، ويحتمل أن يكون المعنى: نَتْلُوها عَلَيْكَ مضمنة الأفاعيل التي هي «حق» في أنفسها، من كرامة قوم، وتعذيب آخرين، وقرأ أبو نهيك: «يتلوها» بالياء، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلما في حكمه، فإذا لا يوجد.
ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر تعالى الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن «الحق» لا يعترض عليه، وذلك في قوله، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية، وقال: ما ولم يقل «من» من حيث هي جمل وأجناس، وذكر الطبري: أن بعض البصريين نظر قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
وما جرى مجراه، وقاله الزجّاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.
قال القاضي أبو محمد: والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم، وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على السامع، وقرأ بعض السبعة، «ترجع الأمور» بفتح التاء على بناء الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك.
واختلف المتأولون في معنى قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فقال عمر بن الخطاب: هذه(1/488)
لأولنا، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد: يريد ومن شاكلهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال القاضي: فهذا كله قول واحد، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة، قيل لهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، فالإشارة بقوله أُمَّةٍ إلى أمة محمد معينة، فإن هؤلاء هم خيرها، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم: معنى الآية، خطاب الأمة بأنهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فلفظ أُمَّةٍ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون السابقون الحديث. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو مسند ظهره إلى الكعبة، نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها قال مجاهد: معنى الآية «كنتم خير الناس» - وقال الحسن: نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: معنى الآية كنتم للناس خير الناس.
قال القاضي أبو محمد: فَأُمُّهُ على هذا التأويل، اسم جنس، قال أبو هريرة: يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام.
قال القاضي: ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه، فهم خير الناس للناس، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية، لكن يعلم هذا من لفظ آخر، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم: أرأف أمتي بأمتي أبوبكر، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبابكر أرأف الناس على الإطلاق، في مؤمن وكافر.
قال القاضي: والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب، وأما قوله، كُنْتُمْ على صيغة المضي، فإنها التي بمعنى الدوام، كما قال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 96- 99- 100- 152، الفرقان: 70، الأحزاب: 5- 50- 59- 73، الفتح: 14] ، إلى غير هذا من الأمثلة، وقال قوم: المعنى كنتم في علم الله، وقيل: في اللوح المحفوظ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديما عنكم وخَيْرَ على هذه الأقوال كلها خبر كان، ويحتمل أن تكون كان التامة، ويكون خَيْرَ أُمَّةٍ نصبا على الحال، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض.
قال القاضي: وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وما بعده، أحوال في موضع نصب، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح، أنهم لو آمنوا لنجّوا أنفسهم من عذاب الله، وجاءت لفظة خَيْرَ في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خَيْرَ من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا، وقوله تعالى:(1/489)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما: «الأذى» هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.
قال القاضي أبو محمد: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفرادا، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحدا عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال: يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله: ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير منقوطة، فيحتمل أنه أراد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين: إما أن يريد الوعيد، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن يريد تقتل ملكا يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود: وهل أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز، حين قال له: لأقتلنك، قال: إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئا فكأن ثمامة أراد: إن تقتلني تقتل حيوانا حقيرا شأنه، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيها لهم، وأخبر الله تعالى في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا تكون حربهم معكم سجالا وخص الْأَدْبارَ بالذكر دون الظهر تخسيسا للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف.
وقوله: ضُرِبَتْ معناه: أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار(1/490)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن: جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق لهم راية أصلا في الأرض، والذِّلَّةُ فعلة من الذل ثُقِفُوا معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال: 57] فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ثقفتموهم [التوبة: 5] واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر:
تدعو ثقيفا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب
وقوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ استثناء منقطع، وهو نظير قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئا، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت إِلَّا بِحَبْلٍ، وقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده إِلَّا بِحَبْلٍ، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج: المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، و «الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، وباؤُ معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و «غضب الله عليهم» ، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، والْمَسْكَنَةُ التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنيا إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و «آيات الله» : يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكنا بوجه ما، وقوله تعالى:
ذلِكَ بِما عَصَوْا حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب ذلِكَ الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى طاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عند ما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 114]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)(1/491)
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في النصارى، ولفظ أَهْلِ الْكِتابِ يعم الجميع، والضمير في لَيْسُوا لمن تقدم ذكره في قوله مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود، وكذلك أيضا ما حكي عن الفراء أن أُمَّةٌ مرتفعة ب سَواءً على أنها فاعلة كأنه قال: لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام محذوفا معادلا تقديره وأمة كافرة، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب:
عصيت إليها القلب إنّي لأمرها ... سميع فما أدري أرشد طلابها؟
المعنى أم غيّ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما الوجه أن الضمير في لَيْسُوا يراد به من تقدم ذكره، وسَواءً خبر ليس، ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مجرور فيه خبر مقدم، وأُمَّةٌ رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، معهم، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله تعالى في ذلك لَيْسُوا سَواءً الآية، وقال مثله قتادة وابن جريج.
قال القاضي أبو محمد: وهو أصح التأويلات، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: معنى الآية:
ليس اليهود وأمة محمد سواء، وقاله السدي.
قال القاضي أبو محمد: فمن حيث تقدم ذكر هذه الأمة في قوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] وذكر أيضا اليهود قال الله لنبيه لَيْسُوا سَواءً والْكِتابِ على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط، والمعنى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم أهل القرآن أمة قائمة، واختلف عبارة المفسرين في قوله قائِمَةٌ فقال مجاهد: معناه عادلة، وقال قتادة والربيع وابن عباس: معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية، وقال السدي: القائمة القانتة المطيعة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله، ويحتمل أن يراد ب قائِمَةٌ وصف حال التالين في آناءَ اللَّيْلِ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً(1/492)
[آل عمران: 75] ويَتْلُونَ معناه: يسردون، وآياتِ اللَّهِ في هذه الآية هي كتبه، و «الآناء» :
الساعات واحدها «إني» بكسر الهمزة وسكون النون، ويقال فيه «أني» بفتح الهمزة، ويقال «إنى» بكسر الهمزة وفتح النون والقصر، ويقال فيه «أنى» بفتح الهمزة ويقال «إنو» بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي: [البسيط]
حلو ومرّ كعطف القدح مرّته ... في كلّ إني قضاه الليل ينتعل
وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة، إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة آناءَ اللَّيْلِ بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء، وحينئذ كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه، وأما عبارة المفسرين في آناءَ اللَّيْلِ، فقال الربيع وقتادة وغيرهما: آناءَ اللَّيْلِ ساعات الليل، وقال عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول آناءَ اللَّيْلِ ساعات الليل، وقال السدي: آناءَ اللَّيْلِ جوف الليل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق، أما ان جوف الليل جزء من الآناء، وقال ابن مسعود: نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فقال: أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة، فأنزل الله تعالى: لَيْسُوا سَواءً الآية، فالمراد بقوله: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ صلاة العشاء، وروى سفيان الثوري عن منصور أنه قال: بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعا، فهي على هذا جملة في موضع الحال، كأنه قال:
يتلون آيات الله آناء الليل مصلين، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول، أخبر عنهم أنهم أيضا أهل سجود.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة، وأيضا فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول، ويثبت فيها على هذا الثاني ف هُمْ يَسْجُدُونَ على هذا نعت عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل.
ويُؤْمِنُونَ معناه: يصدقون، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء، وقوله تعالى: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وصف بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم وإغاثة مكروب وجبر مهيض وعبادة الله أجابوا، ومنه فعل مالك رضي الله عنه في ركعتي المسجد، وقال: دعوتني إلى خير فأجبت إليه، ومما يدخل في ضمن قوله تعالى: وَيُسارِعُونَ فِي(1/493)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
الْخَيْراتِ
أن يكون المرء مغتنما للخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك، وغناك قبل فقرك، فيكون متى أراد أن يصنع خيرا بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضا مسارعة في الخيرات، وذكر بعض الناس قال: دخلت مع بعض الصالحين في مركب فقلت له: ما تقول أصلحك الله في الصوم في السفر؟ فقال لي: إنها المبادرة يا ابن أخي، قال المحدث: فجاءني والله بجواب ليس من أجوبة الفقهاء، ثم وصف الله تعالى من تحصلت له هذه الصفات، بأنه من جملة الصالحين، ومِنَ يحسن أن تكون للتبعيض، ويحسن أن تكون لبيان الجنس.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 115 الى 117]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «تفعلوا وتكفروه» بالتاء على مخاطبة هذه الأمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء فيهما، على مشابهة ما تقدم من «يتلون ويؤمنون» وما بعدهما، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين، وتكفروه معناه: يعطى دونكم فلا تثابون عليه، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد شكرها، فإن لم يفعل فقد كفرها، ومنه قول الشاعر: [عنترة] : [الكامل] :
(والكفر مخبثة لنفس المنعم) وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وعد ووعيد.
ثم عقب تعالى ذكر هذا الصنف الصالح بذكر حال الكفار، ليبين الفرق، وخص الله تعالى «الأموال والأولاد» بالذكر لوجوه. منها أنها زينة الحياة الدنيا، وعظم ما تجري إليه الآمال، ومنها أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها، ومنها أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني وقوله تعالى: أصحابه إضافة تخصيص ما، تقتضي ثبوت ذلك لهم ودوامه.
وقوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
الآية، معناه: المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثورا، وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه يحٍ فِيها صِرٌّ
محرق فأهلكته، فوقع(1/494)
التشبيه بين شيئين وشيئين، ذكر الله عز وجل أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول، وترك ذكر الآخر، ودل المذكور أن على المتروكين، وهذه غاية البلاغة والإيجاز، ومثل ذلك قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: 171] ، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، «تنفقون» بالتاء على معنى قل لهم يا محمد، وثَلُ
رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله مَثَلِ
، وا
بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن نْفِقُونَ
يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك عندهم قربة، وقال السدي: نْفِقُونَ
معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن الآية في منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون، وذهب بعض المفسرين إلى أن نْفِقُونَ
يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه، أي هي «كالريح التي فيها صر» ، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه، كما تبطل الريح الزرع، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق، و «الصر» البرد الشديد، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال ابن عباس وجمهور المفسرين: «الصر» البرد، وتسميه العرب الضريب، وذهب الزجّاج وغيره:
إلى أن اللفظة من التصويت، من قولهم صر الشيء، ومنه الريح الصرصر، قال الزجاج: فالصر صوت النار التي في الريح.
قال القاضي: «الصر» هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحوا مما تحرق النار، و «الحرث» شامل للزرع والثمار، لأن الجميع مما يصدر عن إثارة الأرض، وهي حقيقة الحرث، ومنه الحديث لا زكاة إلا في عين أو حرث أو ماشية، وقال عز وجل: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح، وإن كان الحرث لمن لم يظلم نفسه؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين بأنه ظلم بمعاصي الله، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته، إذ عقوبته أوخى وأخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى، كما روي في جوف العير وغيره، وأيضا فمن أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله: إن كل حرث تحرقه ريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي: إلى أن قوله تعالى:
ْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
معناه زرعوا في غير أوان الزراعة.
قال أبو محمد: وينبغي أن يقال في هذا: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل، ويخص هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكنا، وهذا المنزع يشبهه من جهة ما قول امرئ القيس: [المتقارب]
وسالفة كسحوق اللّيا ... ن أضرم فيها الغويّ السعر
فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا ينبغي أن تحرق، فتطفىء النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب وتسود، فيجيء الشبه حسنا، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به، والضمير في لَمَهُمُ
للكفار الذين تقدم ضميرهم في نْفِقُونَ(1/495)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا ليرد عليهم، ولا ليبين ظلمهم وأيضا فقوله: لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
، يدل على فعل الحال في حاضرين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله: مِنْ دُونِكُمْ
يعني من دون المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله، وقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم، تقول: ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير:
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم ... فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا
أي لم يقصروا، والخبل والخبال: الفساد، وقال ابن عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال أيضا ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: نزلت في المنافقين: نهى الله المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا فسره الحسن بن أبي الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم (محمدا) .
قال القاضي: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل لعمر:
إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين، وما في قوله، ما عَنِتُّمْ مصدرية، فالمعنى: وَدُّوا عنتكم، و «العنت» : المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ [النساء: 35] معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي: معناه «ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى «ودوا» أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه(1/496)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همسا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، وقوله: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء» بتذكير الفعل، لما كانت الْبَغْضاءُ بمعنى البغض، ثم قال تعالى للمؤمنين، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تحذيرا وتنبيها، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفا: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: 66] والضمير في تُحِبُّونَهُمْ لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم، وقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب: [الطويل] (يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل) ومنه قول الآخر [الفرزدق] :
وقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع، وقوله وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم: آمَنَّا معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم آمَنَّا، «عض الأنامل من الغيظ» ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله(1/497)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الإباضية.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة، قال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:
وننمي في ارومتنا ونفقأ عين من حسدا وينظر إلى هذا المعنى في قوله، مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج: 15] ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ و «ذات الصدور» : ما تنطوي عليه، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ومنه قولهم: الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات» : لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر: [البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى إزالتها ... إلّا عداوة من عاداك من حسد
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، وأوجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «لا يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير(1/498)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة، وحكى الكسائي: ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب الله لا ضَيْرَ [الشعراء: 50] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها ... مطبّعة من يأتها لا يضيرها
يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير:
وقال أناس لا يضيرك نأيها ... بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «لا يضرّكم» بضم الضاد والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر يضر، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت الراء للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فأما الكسر فلا أعرفها قراءة، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه، ويجوز أيضا أن يكون إعراب قوله، «لا يضركم» ، رفعا إما على تقدير، فليس يضركم، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله] : [الرجز]
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
المراد أنك تصرع، وقرأ أبي بن كعب: «لا يضرركم» براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها قوله تعالى في الآية إِنْ تَمْسَسْكُمْ ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و «الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق: 16] إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وعيد، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما تعملون» بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد، فالعامل في إِذْ فعل مضمر تقديره واذكر، وقال الحسن: هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين» الذي كان في غزوة الأحزاب.
قال القاضي أبو محمد: وخالفه الناس، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد، وفيها نزلت هذه(1/499)
الآيات كلها، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدبر وينتظر أمر الله تعالى، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلما في ذباب سيفه، وأنه يدخل يده في درع حصينة، وأنه تأولها المدينة، وقال لهم، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن انصرفوا مضوا خائبين، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فو الله ما حاربنا قط عدوا في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه، قالوا: يا رسول الله أقم إن شئت، فإنّا لا نريد أن نكرهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس، وسار حتى قرب من عسكر المشركين هناك وبات تلك الليلة، وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول وقال: أطاعهم وعصاني، فلما كان في صبيحة يوم السبت، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين، فنهض وهو في ألف رجل، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة رجل من الناس، من منافق ومتبع، وقالوا: نظن أنكم لا تلقون قتالا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، فتصافّ الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير، وكانوا خمسين رجلا، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين، وأسند هو إلى الجبل، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح جبل، فلما رأى الرماة ذلك قالوا: الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم: لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم: اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين، قال مكي: قال مالك رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل(1/500)
وتحاوز الناس، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية، وأمر «أحد» بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال، مستوعب في كتب السير، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة، وحكى عنه الطبري، أن نزول أبي سفيان بأحد كان
في الثالث من شوال، وذلك كله ضعيف، وقال النقاش: وقعة «أحد» في الحادي عشر من شوال، وذلك خطأ، قال الطبري وغيره: فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ.
قال القاضي: ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار، وقال غير الطبري: بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة، هو غدوه، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال، وقيل ذلك في ليلته، وسماه «غدوا» إذ كان قد اعتزم التدبير، والشروع في الأمر من وقت الغدو.
قال القاضي أبو محمد: ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال، حسبما وردت بذلك أحاديث، فيجيء لفظ الغدو متمكنا، وقيل إن «الغدو» المذكور هو «غدوة» يوم السبت إلى القتال، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقا للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس وتُبَوِّئُ معناه: تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول: تبوأت مكان كذا، إذا حللته حلولا متمكنا تثبت فيه، ومنه قوله تعالى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل مرفل]
كم صاحب لي صالح ... بوّأته بيديّ لحدا
ومنه قول الأعشى: [الطويل]
وما بوّأ الرّحمن بيتك منزلا ... بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرم
وقوله تعالى: مَقاعِدَ جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة قولك مواقف، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا، والمبارزة والسرعان يجولون، وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره.
وإِذْ الثانية بدل من الأولى، وهَمَّتْ معناه أرادت ولم تفعل، والفشل في هذا الموضع هو الجبن الذي كاد يلحق بني سلمة وبني حارثة و «الفشل» في البدن هو الإعياء والتبليح، و «الفشل» في الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم، وقال جابر بن عبد الله: ما وددنا أنها لم تنزل، لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر في ضمنه التغبيط للمؤمنين بمثل ما فعله بنو حارثة وبنو سلمة من المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عبد الله بن مسعود، «تبوىء للمؤمنين» بلام الجر، وقرأ «والله وليهم» على معنى الطائفتين لا على اللفظ.(1/501)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه، ذكر بأمر «بدر» الذي كان ثمرة التوكل على الله والثقة به، فمن قال من المفسرين إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ. كان في غزوة بدر، فيجيء التذكير بأمر «بدر» وبأمر الملائكة وقتالهم فيه مع المؤمنين، محرضا على الجد والتوكل على الله، ومن قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية، إنما كان في غزوة أحد، كان قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ إلى تَشْكُرُونَ اعتراضا بين الكلام جميلا، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام، وكانت «بدر» يوم سبعة عشر من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، و «بدر» ماء هنالك سمي به الموضع، وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدرا فبه سمي، قال الواقدي: فذكرت هذا لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا:
بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع؟ قال وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار، قال الواقدي: فهذا المعروف عندنا، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ معناه قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا، وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف، وأَذِلَّةٌ جمع ذليل، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند التأمل ذلتهم، وأنهم مغلوبون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وهذه الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطأ، كذب كعب، وكقوله كذب أبو محمد، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض الأقوال، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى، ورجاهم بالإنعام الذي يوجب الشكر، ويحتمل أن يكون المعنى: اتقوا الله عسى أن يكون تقواكم شكرا على النعمة في نصره ببدر.
وقوله تعالى: إِذْ تَقُولُ العامل في إِذْ فعل مضمر، ويحتمل أن يكون العامل نَصَرَكُمُ وهذا على قول الجمهور: إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر قال الشعبي والحسن بن أبي الحسن وغيرهما إن هذا كان ببدر، قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر بن حسل المحاربي محارب فهر، قد جاء في مدد للمشركين، فغم ذلك المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين عن أمر الله تعالى، هذه المقالة فصبر المؤمنون واتقوا، وهزم المشركون وبلغت الهزيمة كرزا ومن معه فانصرفوا ولم يأتوا من فورهم، ولم يمدّ المؤمنون بالملائكة، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله(1/502)
عليه وسلم مددا، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة.
قال القاضي: وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة، لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى، ومنه حديث الغفاري وابن عمه اللذين سمعا من الصحابة، أقدم حيزوم فانكشف قناع قلب أحدهما فمات مكانه، وتماسك الآخر، وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر، وكانوا يكونون في سائر الأيام عددا ومددا لا يضربون، ومن ذلك قول أبي سفيان بن الحارث لأبي لهب: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون، وعلى ذلك فو الله ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، ومن ذلك أن أبا اليسر كعب بن عمرو الأنصاري أحد بني سلمة أسر يوم بدر العباس بن عبد المطلب وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا طويلا جسيما فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أعانك عليه ملك كريم، الحديث بطوله، وقد قال بعض الصحابة: كنت يوم بدر أتبع رجلا من المشركين لأضربه بسيفي فلما دنوت منه وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعلمت أن ملكا قتله، وقال قتادة ابن دعامة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف من الملائكة، قال الطبري: وقال آخرون: إن الله وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدهم في حروبهم كلها إن صبروا واتقوا، فلم يفعلوا ذلك إلا في يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة، ثم أدخل تحت هذه الترجمة عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: حاصرنا قريظة مدة فلم يفتح علينا فرجعنا، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا بغسل يريد أن يغسل رأسه، إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال: وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بخرقة ولم يغسله، ونادى فينا فقمنا كالين متعبين، حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله بالملائكة بثلاثة آلاف، وفتح لنا فتحا يسيرا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل، وقال عكرمة: كان الوعد يوم بدر، فلم يصبروا يوم أحد ولا اتقوا، فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا، وقال الضحاك: كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، وقال ابن زيد: قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهم ينتظرون المشركين:
يا رسول الله أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية وإنما أمدهم يوم بدر بألف قال ابن زيد: فلم يصبروا، وقوله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة، ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة كافية، بادر المتكلم إلى الجواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال: بَلى وهي جواب المقررين، وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] وفي مصحف أبي بن كعب، «ألا يكفيكم» وقد مضى القول في قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة: 15] وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «بثلاثة آلاف» ، يقف على الهاء، وكذلك «بخمسة آلاف» ، ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال للأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا(1/503)
للعرب في مواضع، فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون: أكلت لحما، شاة، يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف، قالا: يريدون قال: ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها من مواضع الروية والتثبت، ومن ذلك في الشعر قول الشاعر: [عنترة] : [الرجز] :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة يريد ينبع فمطل ومنه قول الآخر: [الرجز]
أقول إذ جرت على الكلكال ... يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد على الكلكل، فمطل ومنه قول الآخر: [لابن هرمة] : [الوافر]
فأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح، قال أبو الفتح: فإذا جاز ان يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه إذ هما في الحقيقة اثنان، وقرأ ابن عامر وحده: «منزّلين» بفتح النون والزاي مشددة، وقرأ الباقون: منزلين بسكون النون وفتح الزاي مخففة، وقرأ ابن أبي عبلة: «منزّلين» بفتح النون وكسر الزاي مشددة، معناها: ينزلون النصر، وحكى النحاس قراءة ولم ينسبها: «منزلين» بسكون النون وكسر الزاي خفيفة، وفسرها بأنهم ينزلون النصر.
وبَلى - جواب للنفي الذي في أَلَنْ وقد تقدم معناه، ثم ذكر تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر، والتقى. و «الفور» : النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء ونحوه، ومنه قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ [هود: 40] فالمعنى ويأتوكم في نهضتكم هذه، قال ابن عباس: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا: معناه من سفرهم هذا، قال الحسن والسدي: معناه، من وجههم هذا، وقاله قتادة، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني: من غضبهم هذا.
قال القاضي: وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور» لغضب ولطمع ولرغبة في أجر، ومنه الفور في الحج والوضوء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم: «مسوّمين» ، بكسر الواو، وقرأ الباقون:
«مسوّمين» بفتح الواو، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه: معلمين بعلامات، قال أبو زيد الأنصاري: «السومة» العلامة تكون على الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف، وروي أن الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض، حكاه المهدوي عن الزجّاج، إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام، وقاله ابن إسحاق، وقال مجاهد: كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن، وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق، وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير: نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا الزبير: وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء فاعتم الزبير بها، ومن قرأ: «مسوّمين» بكسر الواو، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم، أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم، ورجح الطبري وغيره هذه القراءة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر: سوّموا فإن الملائكة قد سوّمت، فهم على(1/504)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
هذا مسومون، وقال كثير من أهل التفسير: إن معنى «مسوّمين» بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم: أي أعطوها سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة، ومنه سائمة الماشية، لأنها تركت وسومها من الرعي، وذكر المهدوي هذا المعنى في «مسوّمين» بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم.
قال القاضي: وهذا قلق: وقد قاله ابن فورك أيضا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 129]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الضمير في جَعَلَهُ اللَّهُ عائد على الإنزال والإمداد، و «البشرى» مصدر واللام في وَلِتَطْمَئِنَّ متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم، وإلا فالكثرة لا تغني شيئا إلا أن ينصر الله، وقوله: وَمَا النَّصْرُ يريد للمؤمنين، وكذلك أيضا هي الإدالة للكفار من عند الله.
واللام في قوله: لِيَقْطَعَ متعلقة بقوله وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وعلى هذا لا يكون قطع الطرف مختصا بيوم، اللهم إلا أن تكون الألف واللام في «النصر» للعهد، وقيل: العامل فيه «ولقد نصركم» حكاه ابن فورك وهو قلق، لأن قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ لا يترتب عليه، وقد يحتمل أن تكون اللام في قوله لِيَقْطَعَ متعلقة ب جَعَلَهُ، فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر، على ما قال الحسن وابن إسحاق وغيرهم، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السدي، وقتل من المشركين ببدر سبعون، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلا، وقال السدي: قتل منهم ثمانية عشر والأول أصح، و «الطرف» الفريق، ومتى قتل المسلمون كفارا في حرب فقد قطعوا طَرَفاً، لأنه الذي وليهم من الكفار فكأن جميع الكفار رقعة وهؤلاء المقتولون طرف منها أي حاشية، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً بمنزلة ليقطع دابرا وقوله:
أَوْ يَكْبِتَهُمْ معناه: أو يخزيهم، والكبت الصرع لليدين، وقال النقاش وغيره: التاء بدل من دال كبته أصله كبده أي فعل به يؤذي كبده، وإذا نصر الله على أمة كافرة فلا بد من أحد هذين الوجهين، إما أن يقتل منهم أو يخيبوا، فذلك نوع من الهزم.
وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ توقيف على أن الأمر كله لله، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه، تحيز عن الملحمة، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول: لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن(1/505)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
مالك، وفي بعض الطرق، وكيف يفلح؟ وفي بعضها أن سالما مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول: كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟
فنزلت الآية، بسبب هذه المقالة.
قال القاضي: وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم، فروي أنه دعا عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم، وروى ابن عمر وغيره: أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية باللعنة، إلى غير هذا من معناه، فقيل له بسبب ذلك، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك، قال الطبري وغيره من المفسرين: قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على يَكْبِتَهُمْ.
قال القاضي: فقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض أثناء الكلام، وقوله: أَوْ يَتُوبَ معناه:
فيسلمون، وقوله: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ معناه: في الآخرة بأن يوافوا على الكفر، قال الطبري وغيره: ويحتمل أن يكون قوله أَوْ يَتُوبَ بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك: لا أفارقك أو تقضيني حقي، وكما تقول: لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان، وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ليس باعتراض على هذا التأويل، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب الله عليهم فيسلموا، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا، أو بنار في الآخرة أو بهما، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر، وعلى هذا التأويل فليس في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ردع كما هو في التأويل الأول، وذلك التأويل الأول أقوى، وقرأ أبي بن كعب، «أو يتوب أو يعذب» برفع الباء فيهما، المعنى: أو هو يتوب، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار.
ثم أكد معنى قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه، ثم رجا في آخر ذلك تأنيسا للنفوس وجلبا لها إلى طاعته، وذلك كله في قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وما في قوله ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إشارة إلى جملة العالم فلذلك حسنت ما، وما ذكر في هذه الآية من أن هذه الآية ناسخة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين كلام ضعيف كله، وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد» ، ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا، والربا الزيادة،(1/506)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة، وقوله أَضْعافاً نصب في موضع الحال، ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ وقوله:
مُضاعَفَةً إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام، كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة، وقد حرم الله جميع أنواع الربا، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور، وأيضا فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه.
والنَّارَ في قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ هي اسم الجنس، ويحتمل أن تكون للعهد، ثم ذكر أنها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، أي إنهم هم المقصود والمراد الأول، وقد يدخلها سواهم من العصاة، فشنع أمر النار بذكر الكفر، وحسن للمؤمن أن يحذرها ويبعد بطاعة الله عنها وهذا كما قال في الجنة: أعدت للمتقين، أي هم المقصود، وإن كان يدخلها غيرهم من صبي ومجنون ونحوه ممن لا يكلف ولا يوصف بتقوى، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية، وحكى الماوردي وغيره، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار الكفرة، إذ النار سبع طبقات، العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار والدرك الأسفل للمنافقين، قالوا: فأكلة الربا إنما يعذبون يوم القيامة بنار الكفرة لا بنار العصاة، وبذلك توعدوا، فالألف واللام على هذا في قوله وَاتَّقُوا النَّارَ إنما هي للعهد.
ثم أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، والطاعة هي موافقة الأمر الجاري عند المأمور مع مراد الأمر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني، وقال محمد بن إسحاق إن هذه الآية من قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر وزوال الرماة عن مراكزهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 134]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قرأ نافع وابن عامر: «سارعوا» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، قال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو، وأمال الكسائي الألف من قوله سارِعُوا ومن قوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [المؤمنون: 61] ونُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [المؤمنون: 56] في كل ذلك، قال أبو علي: والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها، والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [المائدة: 48] وقوله إِلى مَغْفِرَةٍ معناه: سارعوا(1/507)
بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها، ويدخلكم جنة، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ، معناه: إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام.
قال الفقيه القاضي: هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة، وقوله تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تقديره: كعرض السماوات والأرض، وهذا كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] أي كخلق نفس واحدة وبعثها، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح، ومنه قول الشاعر: [ذو الخرق الطهوي] : [الوافر] :
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق
ومنه قول الآخر:
كأنّ غديرهم بجنوب سلي ... نعام فاق في بلد قفار
التقدير صوت عناق وغدير نعام.
وأما معنى قوله تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما يبسط الثوب، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول الجمهور، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة عن السماء حيث شاء الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي عليه السلام: ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض، فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله، وروى يعلى بن أبي مرة قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخا كبيرا قد فند فقال قدمت على النبي عليه السلام، بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن يساره فقلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب هرقل: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟ وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجلان من اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما: تقولون جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أين تكون النار؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون الليل؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار؟ فقال اليهودي: إنه لمثلها في التوراة فقال له صاحبه: لم أخبرته؟ دعه إنه بكل موقن.
قال القاضي أبو محمد: فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد، من أن قدرة الله تتسع لهذا كله،(1/508)
وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه، ومن ذلك قول العرب بلاد عريضة، وفلاة عريضة، وقال قوم:
قوله تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ معناه: كعرض السماوات والأرض، كما هي طباقا، لا بأن تقرن كبسط الثياب، فالجنة في السماء، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين إلى السابعة، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول، وقال قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسنت العبارة عنها بعرضها السماوات والأرض، كما تقول لرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من الحيوان: هذا جبل، ولم تقصد الآية تحديد العرض.
قال القاضي أبو محمد: وجلب مكي هذا القول غير ملخص، وأدخل حجة عليه قول العرب: أرض عريضة وليس قولهم، أرض عريضة، مثل قوله: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إلا في دلالة ذكر العرض على الطول فقط، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفارين يوم أحد: لقد ذهبتم فيها عريضة، وقال ابن فورك: الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن قال: إن الجنة لم تخلق بعد، وكذلك النار، وهو قول ضعيف، وجمهور العلماء على أنهما قد خلقتا، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في قوله، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وأُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] وغير ذلك، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء وغيره، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت، وأما من يقول: يزاد فيهما فلا ترد عليه الأحاديث، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر، وأُعِدَّتْ معناه: يسرت وانتظروا بها.
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
، معناه: في العسر واليسر.
قال القاضي: إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس، ومع العسر الكراهية وضر النفس، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له، والكظام: السير الذي يشد به فم الزق والقربة، وكظم البعير جرته: إذا ردها في جوفه، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه، كظم، حكاه الزجّاج، فقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي: [الكامل]
فأفضن بعد كظومهنّ بجرّة ... من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
والْغَيْظَ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس الْغَيْظَ بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك، بل الْغَيْظَ فعل النفس لا يظهر على الجوارح، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه تعالى غيظ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس، ومنه قول عليه السلام: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، ومنه قول النبي عليه السلام: ما من جرعة يتجرعها(1/509)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث يتجه حقه، وقال أبو العالية: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، يريد المماليك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة، فهم مذنبون كثيرا، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسر به، وذكر تعالى بعد ذلك أنه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام، فقال: ما الإيمان؟ ثم قال ما الإسلام؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات، ثم قال له: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، الحديث.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون، وروي في سبب هاتين الآيتين: أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له، وقوله وَالَّذِينَ عطف جملة ناس على جملة أخرى، وليس الَّذِينَ بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، و «الفاحشة» هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه، التقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وهو لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنا، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها: زنى القوم ورب الكعبة، وقال إبراهيم النخعي: الفاحشة من الظلم، والظلم من الفاحشة وقال قوم: الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر، وذَكَرُوا اللَّهَ معناه: بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله صهيبا لو لم يخف الله لم يعصه، و «استغفروا» معناه: طلبوا الغفران، واللام معناها: لأجل «ذنوبهم» ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، اعتراضا موقفا للنفس، داعيا إلى الله، مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم اللَّهَ مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب، حملا على المعنى، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله، وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا الإصرار معناه: اعتزام الدوام على الأمر، وترك الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير: أي الربط عليها، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي: «علم الله أنها مني صرى» .(1/510)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
يريد: عزيمة. فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام: لا توبة مع إصرار، وقال أيضا: ما أصر من استغفر، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار، فقال قتادة: هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله. وقال الحسن: إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب، وقال مجاهد:
لَمْ يُصِرُّوا معناه: لم يمضوا وقال السدي: «الإصرار» هو ترك الاستغفار، والسكوت عنه مع الذنب، وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال السدي: معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق: معناه، وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون: معناه، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل:
المعنى، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار.
ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره، وقوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بمنزلة قوله: ونعم الأجر، لأن نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه الآية بمنزلة قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف: 177] لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو علي: ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا «بساء» ولا يضمر شيء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 140]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
الخطاب بقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين» وقديما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش: الخطاب ب قَدْ خَلَتْ للكفار.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: وذلك قلق، وخَلَتْ معناه: مضت وسلفت، قال الزجّاج: التقدير أهل سنن، و «السنن» : الطرائق من السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك، وسنة الإنسان: الشيء الذي يعمله ويواليه، ومن ذلك قول خلد الهذلي، لأبي ذؤيب:
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها ... فأوّل راض سنّة من يسيرها
وقال سليمان بن قتة:
وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تأسّوا فسنّوا للكرام التأسّيا
وقال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم ... ولكلّ قوم سنّة وإمامها(1/511)
وقال ابن زيد: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ معناه: أمثال.
قال الفقيه الإمام: هذا تفسير لا يخص اللفظة، وقال تعالى: فَسِيرُوا وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك ينتقل خبره، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل، وقوله: فَانْظُروا، هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.
وقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ قال الحسن: الإشارة إلى القرآن، وقال قتادة في تفسير الآية: هو هذا القرآن جعله الله بيانا للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة، وقال بمثله ابن جريج والربيع.
قال القاضي: كونه بيانا للناس ظاهر، وهو في ذاته أيضا هدى منصوب وموعظة، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن يضاف إليه القرآن، وتحسن إضافته إلى «المتقين» الذين فيهم نفع وإياهم هدى، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة: الإشارة ب هذا إلى قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ الآية، قال ابن إسحاق: المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه، قال الشعبي: المعنى، هذا بيان للناس من العمى.
ثم نهى عز وجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد، والحزن على من فقد، وعلى مذمة الهزيمة، وآنسهم بأنهم الْأَعْلَوْنَ أصحاب العاقبة، والوهن: الضعف، واللين والبلى، ومنه: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] ومنه قول زهير: [البسيط] فأصبح الحبل منها وأهنأ خلقا ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقا، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«المؤمن هين لين، والمؤمنون هينون لينون» ومنه قول الشاعر: [المنخل الهذلي] : [المتقارب] .
لعمرك ما إن أبو مالك ... بواه ولا بضعيف قواه
إذا سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه
وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة: ولا تقعد على ضمد إلّا لمثلك أو من أنت سابقه وفيه يجري قول العرب: إذا لم تغلب اخلب، على من تأوله من المخلب، أي حارب ولو بالأظافر، وهذا هو فعل عبد الله بن طارق وهو من أصحاب عاصم بن عدي حين نزع يده من القرآن وقاتل حتى قتل، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح في يوم بئر معونة، ومن رآه من معنى الخلب والخلابة الذي هو الخديعة والمكر، فهو رأي دهاة العرب، وليس برأي جمهورها، ومنه فعل عمرو بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه، والأمثلة في ذلك كثيرة، وأيضا فليس المكر والخديعة بذل محض، ولذلك رآه بعضهم، وأما قولهم إذا عز أخوك فهن، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى: لن(1/512)
وأضعف ضعف المطواع، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب، وأما الشرع فقد قال النبي عليه السلام: لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق، وليس من الهوان، قال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح، وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعلو كلمة الإسلام.
هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ، وقاله ابن إسحاق: وروي عن ابن عباس وابن جريج: إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام:
اللهم لا يعلوننا، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيه، فأنزل الله تعالى عليه، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها، ويحتمل أن يتعلق بقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فيكون الشرط على بابه دون تجوز، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه.
ثم قال تعالى، تسلية للمؤمنين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ والأسوة مسلاة للبشر، ومنه قول الخنساء: [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النّفس عنه بالتأسّي
والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله، و «القرح» : القتل والجراح، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم، والمعنى: إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص: «قرح» بفتح القاف، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «قرح» بضم القاف، وكلهم سكن الراء، قال أبو علي: هما لغتان كالضّعف والضّعف والكره والكره، والفتح أولى، لأنها لغة أهل الحجاز والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل.
قال القاضي أبو محمد: هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام: وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق، وعلى هذا لا يقال: هذه أولى من جهة نزول القرآن بها، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول، قال أبو الحسن الأخفش: «القرح» و «القرح» مصدران بمعنى واحد، ومن قال القرح بالفتح الجراحات بأعيانها، والقرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية، لأن هذا مما لا يعلم بقياس، وقال بهذا التفسير الطبري، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم» بالتاء من فوق، «قروح» بالجمع، «فقد(1/513)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
مس القوم قرح مثله» ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني «قرح» بفتح القاف والراء، قال أبو الفتح: هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد. هذا مذهب البصريين، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثرا معتمدا، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول: نحوه بفتح الحاء، يريد نحوه، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو وكعصاة وفتاة، وسمعت غيره يقول: أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني: ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق، والحمد لله.
أخبر تعالى على جهة التسلية أن الْأَيَّامُ على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر، أي: فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار، وقال تعالى: نُداوِلُها فهي مفاعلة من جهة واحدة، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين، فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك، و «الدّولة» بضم الدال المصدر، و «الدّولة» بفتح الدال الفعلة الواحدة من ذلك، فلذلك يقال في دولة فلان لأنها مرة في الدهر، وسمع بعض العرب الأقحاح قارئا يقرأ هذه الآية، فقال: إنما هو، «وتلك الأيام نداولها بين العرب» ، فقيل له: إنما هو «بين الناس» فقال: إنا لله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة، وقوله تعالى:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا دخلت الواو لتؤذن أن اللام متعلقة بمقدر في آخر الكلام، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا، فعل ذلك، وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ معناه: ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلا أنهم يؤمنون، وليساوق علمه إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأول، وعلمه تعالى لا يطرأ عليه التغيير ونحو هذا: أن يضرب حاكم أحدا ثم يبين سبب الضرب ويقول: فعلت هذا التبيين لأضرب مستحقا، معناه: ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه، وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، معناه: أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهيد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
ثم أخبر تعالى: أن إدالته الكفار على المؤمنين إنما هي لِيُمَحِّصَ المؤمنين، وأن إدالة المؤمنين على الكفار إنما هي لمحق الكفار، هذا مقتضى ألفاظ الآية، وقد قال ابن عباس وغيره: جعل الله الدولة لرسوله يوم بدر، وعليه يوم أحد وذهب كثير من أهل العلم إلى العبارة عن إدالة المؤمنين بالنصر، وعن إدالة الكفار بالإدالة، وروي في ذلك عن النبي عليه السلام حديث: إنهم يدالون كما تنصرون، و «التمحيص» :
التنقية. قال الخليل: التمحيص من العيب يقال: محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زئبره وامّلس هكذا ساق الزجّاج اللفظة «الحبل» ورواها النقاش محص الجمل: إذا زال عنه وبره وامّلس، وقال حنيف الحناتم، وقد ورد ماء يقال له طويلع: إنك لمحص الرشاء، بعيد المستقى، مطل على الأعداء، فالمعنى: إنه لبعده يلمس حبله بالطين الحر ومد الأيدي، فمعنى الآية: أن الله يمحص المؤمنين إذا أدال(1/514)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
عليهم، بأنه ينقي المتشهدين من ذنوبهم، وينقي الأحياء من منافقهم إذ يميزهم، وأنه يَمْحَقَ الْكافِرِينَ إذا نصر عليهم أي ينقصهم والمحق: الذهاب شيئا شيئا، ومنه محاق القمر.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
أَمْ هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام، وحَسِبْتُمْ معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم واحد، وقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ نفي مؤكد وهو معادل لقول القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل: كان كذا، فمعادله لم يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه: وقرأ جمهور الناس: بكسر الميم للالتقاء في قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي: «ولما يعلم» بفتح الميم اتباعا لفتحة اللام، وقرأ الجمهور «ويعلم» على النصب بإضمار- أن- عند البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قرأ: «ويعلم» بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد: «ويعلم» بكسر الميم جزما معطوفا على قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد- وحضر القتال لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم، وقرأ الجمهور: «من قبل أن تلقوه» ، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه والأولى في المعنى سواء من حيث- لقي- معناه يتضمن أنه من اثنين وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ مجاهد «من قبل» بضم اللام وترك الإضافة، وجعل أَنْ تَلْقَوْهُ بدلا من الْمَوْتَ، وقوله تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب يوم بدر: رأيت البلايا، تحمل المنايا، وكما قال الحارث بن هشام: [الكامل]
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد(1/515)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن فهيرة:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه يريد لما اشتد به المرض، وقرأ طلحة بن مصرف «فلقد رأيتموه» ، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ يحتمل ثلاثة معان: أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر أن يكون المعنى وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد عليه السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله عليه، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا: المعنى: وأنتم تنظرون إلى محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟
والاضطراب بحسب ذلك، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا، ثم قال على جهة التوبيخ والعتب: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال: وأنتم حسباء أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء، قال ابن فورك: المعنى وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما تقدم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 145]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، وخَلَتْ معناه مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض. وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل» دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر الرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجيء تنكير «الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم، وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وقوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] إلى غير ذلك من الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في الكلام، وقوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ الآية، دخلت ألف الاستفهام على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار، وقال كثير من(1/516)
المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟ فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في قوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ [البقرة: 170، المائدة: 104] ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
قال الفقيه أبو محمد: فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، قال ابن إسحاق معنى وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي من أطاعه وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره: أنه قال في تفسير هذه الآية: «الشاكرون» : الثابتون على دينهم، أبو بكر وأصحابه وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا من المواطن التي ظهر فيها شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه.
ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك: وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، والعبارة بقوله: وَما كانَ قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهيا كما(1/517)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية: اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله: كِتاباً نصب على التمييز ومُؤَجَّلًا صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: 4] ونحو هذا من الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، وقرأ جمهور الناس «نؤته ونؤته وسنجزي» . كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن فورك: في قول الله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 146]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ الآية، وفي كَأَيِّنْ أربع لغات: «كأين» على وزن كعين بفتح العين، و «كأين» ، على وزن كاعن و «كأين» على وزن كعين بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين، وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن، فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
وكائن رددنا عنكم من مدجّج ... يجيء أمام القوم يردي مقنّعا
وقال جرير: [الطويل]
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
وقال آخر: [زهير] : [الطويل] :
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم
وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولا قول الشاعر: [الوافر]
كأيّن في المعاشر من أناس ... أخوهم فوقهم وهم كرام(1/518)
وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي» كما دخلت على «ذا» في قولك لفلان كذا وكذا، وكما دخلت على «أن» في قولك كأن زيدا أسد، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا، وفي كَأَيِّنْ، وصرفت العرب كَأَيِّنْ في معنى «كم» التي هي للتكثير، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت، وهذا كما لعب في قولهم:
لعمري حتى قالوا: وعملي، وكما قالوا: أطيب وأيطب، وكما قالوا: طبيخ في بطيخ، فعوملت الكاف «وأي» معاملة ما هو شيء واحد، فأما اعتلال لغة من قال: «كأين» على وزن فاعل، فإنهم أخذوا الأصل الذي هو «كاين» فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها، فجاء «كيا» على وزن كيع، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفا، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا: ميت وهين ولين، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي» تخفيفا ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما ... عليّ من الغيث استهلت مواطره؟
فجاء «كيا» على وزن كيع، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفا مراعاة للفتحة التي قبلها، كما قالوا: في يوجل يأجل، وكما أبدلوا الياء ألفا في «طاى» وكما أبدلت في آية عند سيبويه، إذ أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين، فجاء «كاء» ثم كتب هذا التنوين نونا في المصحف، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف، فكما يقولون: مررت بزيد فكذلك يقولون كأي، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون، وكذلك روى سورة بن المبارك عن الكسائي، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف، قال أبو علي: ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف، لكان قولا، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة، فأجازوا الإمالة في ألف «لا» كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال، فيوقف على «كأين» بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف من «لا» إذا لم يحذف فعلها.
قال الفقيه أبو محمد: وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن كثير وحده، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين» ، وذهب يونس بن حبيب في «كأين» إلى أنه فاعل من الكون، وقوله مردود، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب، وأما اللغة التي هي «كأين» على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين» بالتعليل المتقدم، فلما جاء «كيا» على وزن كيعن، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفا كما تقدم في التعليل الأول، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين» على وزن كعين، وحسن هذا من وجهين: أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضا، حكاها عنه أبو عمرو الداني، وقرأها الحسن بن أبي الحسن، إلا أنه سهل الهمزة ياء، فقرأ كي في جميع القرآن، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء» الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفا، وهذا كما قالوا: أم والله، يريدون: أما، وكما قالوا على لسان الضب [المجتث] :
لا أشتهي أن أردّا ... إلّا عرادا عردّا
وصليانا بردا ... وعنكثا ملتبّدا(1/519)
أرادوا: عاردا وبادرا، فحذفوا تخفيفا، وهذا كثير في كلامهم، وَكَأَيِّنْ في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء، وهي بمنزلة «كم» وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «قتل» ، بضم القاف وكسر التاء مخففة، وقرأ الباقون «قاتل معه» بألف بين القاف والتاء، وقرأ قتادة «قتل» بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير، وقوله تعالى: «قتل» قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري:
إنه مستند إلى ضمير نَبِيٍّ، والمعنى عندهم أن النبي قتل، قال ابن عباس في قوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] النبي يقتل، فكيف لا يخان، وإذا كان هذا ف رِبِّيُّونَ مرتفع بالظرف بلا خلاف، وقوله: مَعَهُ رِبِّيُّونَ على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل نَبِيٍّ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي أسند إليه «قتل» فإن جعلته صفة أضمرت للمبتدأ الذي هو كَأَيِّنْ خبرا تقديره في آخر الكلام: مضى أو ذهب أو فقد: فَما وَهَنُوا وإن جعلت مَعَهُ رِبِّيُّونَ حالا من الضمير فخبر المبتدأ في قوله: «قتل» وإذا جعلته صفة فالضمير في مَعَهُ عائد على «النبي» ، وإذا جعلته حالا فالضمير في مَعَهُ عائد على الضمير ذي الحال، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال ف «معه ربيون» متعلق في الأصل بمحذوف، وليس متعلقا «بقتل» ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه: إن «قتل» إنما هو مستند إلى قوله: رِبِّيُّونَ وهم المقتولون قال الحسن وسعيد بن جبير: لم يقتل نبي في حرب قط.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول يتعلق قوله: مَعَهُ ب قتل- وهذه الجملة- قتل معه ربيون، هي الابتداء ويتصور في قراءة من قرأ «قاتل» جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل» ، وأما قراءة قتادة «قتل» فقال أبو الفتح: لا يحسن أن يسند الفعل إلا إلى الربيين، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد، فإن قيل: يستند إلى نبي مراعاة لمعنى «كم» فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله مِنْ نَبِيٍّ ودل الضمير المفرد في مَعَهُ على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد، فخرج الكلام على معنى «كم» قال أبو الفتح: وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة: إن «قتل» - بتخفيف التاء أو «قاتل» إنما يستند إلى الربيين، ورجح الطبري استناد «قتل» إلى «النبي» بدلالة نازلة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد- فضرب المثل بنبي قتل.
قال القاضي أبو محمد: وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي» فإنما يجيء معنى الآية: تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط، وترجيح الطبري حسن، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران: 144] وحجة من قرأ «قاتل» أنها أعم في المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي.
قال الفقيه أبو محمد: ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة «قتل» إسناده إلى نبي، وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من «ربيون» وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب:
«ربيون» بضم الراء، وروى قتادة عن ابن عباس «ربيون» بفتح الراء، قال ابن جني: الفتح في الراء لغة تميم وكلها لغات، واختلف الناس في معنى رِبِّيُّونَ فقال ابن مسعود: الربيون الألوف من الناس والجمع الكثير، وقال ابن عباس: رِبِّيُّونَ جموع كثير، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود وابن(1/520)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
عباس: إنهم الألوف، قال بعض المفسرين: هم عشرة آلاف فصاعدا، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما: هم الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الربة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة، قاله يونس بن حبيب، وقال: إن قوله تعالى: قتل معه ربيون منسوبون إليها، قال قطرب:
جماعة العلماء على قول يونس، وقال الزجّاج: يقال: إن الربة عشرة آلاف، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما أنهم قالوا: رِبِّيُّونَ معناه علماء، وقال الحسن: فقهاء علماء، قال أيضا:
علماء صبر، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب، إما لأنهم مطيعون له، أو من حيث هم علماء بما شرع، ويقوي هذا القول في قراءة من قرأ «ربيون» بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها فيجيء على تغيير النسب، كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي بكسر الحاء، وإلى البصرة، بصري بكسر الباء، وفي هذا نظر، وقال ابن زيد: «الربانيون» : الولاة، والربيون الرعية الأتباع للولاة.
قال الفقيه أبو محمد: كأن هذا من حيث هم مربوبون، وقال النقاش: اشتقاق ربي من ربا الشيء يربو إذا كثر، فسمي بذلك الكثير العلم.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال مكي: ربي بكسر الراء منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه اتباعا للكسرة والياء اللتين بعد الراء، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل: دهري بضم الدال في النسب إلى الدهر، وقرأ جمهور الناس «فما وهنوا» بفتح الهاء، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهنوا» بكسر الهاء، وهما لغتان بمعنى، يقال: وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضا «وهنوا» بإسكان الهاء، وهذا الوهن في قوله آنفا وَلا تَهِنُوا [آل عمران: 139] والضمير في قوله: فَما وَهَنُوا عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل إلى نبي، ومن أسنده إلى الربيين قال في هذا الضمير إنه يعود على من بقي منهم، إذ المعنى يفهم نفسه، وقوله تعالى: وَما ضَعُفُوا معناه لم يتكسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبي عن ضعفهم، وقوله تعالى: وَمَا اسْتَكانُوا ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف، وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا، نقلت حركة الواو إلى الكاف، وقلبت ألفا، كما فعلوا في قولك: استعانوا واستقاموا، والمعنى: أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريبا من ذلك، كما تقول: ما فعلت كذا ولا كدت، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد، وما كدت أن أفعل، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 147 الى 148]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
هذه الآية في ذكر الربيين، أي هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد، من قول من قال: نأخذ أمانا من أبي سفيان ومن قول من قال: نرجع إلى ديننا الأول، ومن قول من فر، فلا شك أن قوله(1/521)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
مناسب لفعله ولو بعض المناسبة، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال، وقرأ السبعة وجمهور الناس «قولهم» بالنصب، ويكون الاسم فيما بعد إِلَّا وقرأ جماعة من القراء «قولهم» بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد إِلَّا وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ذكره المهدوي، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى: ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب، وكذلك فسر ابن عباس وغيره، وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة، وقولهم: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار، فيكون المعنى: اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك، وتثبيت القدم على هذا: استعارة، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب، قال ابن فورك: في هذا الدعاء رد على القدرية، لقولهم: إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله.
وثَوابَ الدُّنْيا في هذه الآية: الظهور على عدوهم، قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما، وقال ابن جريج: الظفر والغنيمة، وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير، قال النقاش: ليس إلا الظفر والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة.
قال الفقيه الإمام: وهذا اعتراض صحيح، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الجنة بلا خلاف، وعبر بلفظة «حسن» زيادة في الترغيب وباقي الآية بين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
الإشارة بقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا إلى المنافقين الذين جنبوا المسلمين وقالوا في أمر- أحد- لو كان محمد نبيا لم يهزم، والذين قالوا: قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، إلى نحو هذه الأقوال، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى يوم القيامة، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم.
وبَلِ ترك للكلام الأول ودخول في غيره، وقرأ جمهور الناس «بل الله مولاكم» على الابتداء والخبر، وهذا تثبيت، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بل الله» بالنصب على معنى: بل أطيعوا الله.
وقوله تعالى: سَنُلْقِي استعارة، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في الأجرام، وهذا مثل قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] ونحوه قول الفرزدق: [الطويل](1/522)
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النّابح العاوي أشدّ رجام
وقرأ جمهور الناس «سنلقي» بنون العظمة، وقرأ أيوب السختياني «سيلقي» بالياء على معنى هو، وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين حيث وقع، وقرأ الباقون «الرعب» بسكون العين، وهذا كقولهم:
عنق وعنق وكلاهما حسن فصيح، وسبب هذه الآية: أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال: انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى المدينة، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسر وسر المسلمون، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد، فبلغ حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش: أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم؟ ارجع بنا إليهم حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره، إلا أن خزاعة كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك، ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما عزمت عليه قريش من الانصراف، اشتد ذلك عليهم، فسخر الله ذلك الرجل معبد بن أبي معبد، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار، وذلك أنه لما سمع الخبر، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء، وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، قال: ويلك ما تقول؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه شعرا قال وما قلت؟ قال قلت: [البسيط]
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة ... لمّا سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر، فوقع الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة كل كافر، ويجري معها قول النبي عليه السلام: نصرت بالرعب مسيرة شهر، ويظهر أن هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام، قال بعض أهل العلم: إنه لما أمر الله المؤمن بالصبر، ووعده النصر، وأخبره أن الرعب ملقى في قلوب الكفار، نقص الرعب من كل كافر جزءا مع زيادة شجاعة المؤمن، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين، وقوله تعالى: بِما أَشْرَكُوا هذه باء السبب، والمعنى: أن المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة، فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه، و «السلطان» : الحجة والبرهان، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة،(1/523)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
و «المأوى» : مفعل من أويت إلى المكان إذا دخلته وسكنت فيه، و «المثوى» ، مفعل من: ثويت، والتقدير:
وبئس مثوى الظالمين هي.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه من الفصاحة: منها وعظ الجميع وزجره، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى- إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر المشركين، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن أبي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا فهذا معنى قوله تعالى: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحس: القتل الذريع، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلا، وحس البرد النبات وقال رؤبة:
[الرجز]
إذا تشكّوا سنّة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا
قال بعض الناس: هو مأخوذ من الحاسة، والمعنى في حس: أفسد الحواس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، و «الإذن» : التمكين مع العلم بالممكن منه، وقوله تعالى:
حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ يحتمل أن تكون حَتَّى غاية مجردة، كأنه قال: إلى أن فشلتم، ويقوي هذا أن إِذا بمعنى «إذ» لأن الأمر قد كان تقضى، وإنما هي حكاية حال، فتستغني إِذا على هذا النظر عن جواب، والأظهر الأقوى أن إِذا على بابها تحتاج إلى الجواب، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل، واختلف النحاة في جواب إِذا فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله تَنازَعْتُمْ، والواو زائدة، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال: الجواب قوله: صَرَفَكُمْ وثُمَّ زائدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه والخليل وفرسان الصناعة، إن الجواب محذوف مقدر، يدل عليه المعنى، تقديره: انهزمتم ونحوه، و «الفشل» - استشعار العجز وترك الجد، وهذا مما فعله يومئذ قوم، و «التنازع» هو الذي وقع بين الرماة، فقال بعضهم: الغنيمة(1/524)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
الغنيمة، الحق بنا بالمسلمين، وقال بعضهم: بل نثبت كما أمرنا وَعَصَيْتُمْ عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يعني من هزم القوم، قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، وقوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وقوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالا للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين، وقوله تعالى: لِيَبْتَلِيَكُمْ معناه: لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص، وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا تحذير، والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة: ولقد أبقى عليكم، ويحتمل أن يكون إخبارا بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن: قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فضيعوه، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
العامل في إِذْ قوله: عَفا [آل عمران: 152] وقرأ جمهور الناس بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه: ذهب في الأرض، وفي قراءة أبي بن كعب، «إذ تصعدون في الوادي» .
قال القاضي أبو محمد: والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء الأرض، فأصعد معناه:
دخل في الصعيد، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك، والعرب تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد أبو عبيدة لحادي الإبل: [الرجز]
قد كنت تبكين على الإصعاد ... فالآن صرّحت وصاح الحادي(1/525)
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تصعدون» بفتح التاء والعين، من صعد إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى أكثر، وقوله تعالى:
وَلا تَلْوُونَ مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد:
وهل يرد المنهزم شيء؟
وهذا أشد من قول امرئ القيس: [الطويل] أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء «ولا تلؤون» بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم «ولا تلون» بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تلوون» بضم التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس «على أحد» بضم الألف والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: إليّ عباد الله، والناس يفرون. وفي قوله تعالى: فِي أُخْراكُمْ مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ معناه: جازاكم على صنيعكم، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة مقام الثواب، وهذا كقوله: [الوافر] تحيّة بينهم ضرب وجيع وكقول الآخر: [الفرزدق] : [الطويل]
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة، واختلف الناس في معنى قوله تعالى:
غَمًّا بِغَمٍّ فقال قوم: المعنى «أثابكم غما» بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين، بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال القاضي أبو محمد: فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم: «أثابكم غما بغم» ، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد: فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين: المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم، وهذه باء الجر المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد: الغم الأول أن سمعوا: ألا إن محمدا قد قتل، والثاني، القتل(1/526)
والجراح الواقعة فيهم، وقال الربيع وقتادة أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضا وغيرهما: بل الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى إليه رجل بسهم ليرميه، فقال:
أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر، وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا، وأهمهم أمر أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت الروايات في هذه القصة من هزيمة- أحد- اختلافا كثيرا، وذلك أن الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك: أول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية، وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ معناه: من الغنيمة وما أَصابَكُمْ معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال القاضي أبو محمد: واللام من قوله: لِكَيْلا متعلقة بأثابكم، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ توعد.
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة إليه:
اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر أنهم جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو طلحة: لقد نمت في ذلك اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا، وقال الزبير بن العوام، لقد رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال ابن مسعود: نعسنا يوم- أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وقرأ جمهور الناس «أمنة» بفتح الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمنة» بسكون الميم، وهما بمعنى الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: نُعاساً بدل، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملا على لفظ النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي «تغشى» بالتاء حملا على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير المبدل منه، والواو في قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ هي واو(1/527)
الحال كما تقول: جئت وزيد قائم، قاله سيبويه وغيره قال الزجّاج: وجائز أن يكون خبر قوله وَطائِفَةٌ قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع وابن إسحاق وغيرهم: إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن، والمعنى:
أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف القتل وذهاب الأموال، تقول العرب:
أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين: أن اللفظة من قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال القاضي أبو محمد: أهمتهم أنفسهم المكاشفة. ونبذ الدين، وهذا قول من قال: قد قتل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو هذا من الأقوال.
قوله تعالى:
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ...
قوله تعالى: غَيْرَ الْحَقِّ معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب، وقوله: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الفتح: 26] وتَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33] ، وكما تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول: قتل بنو الخزرج فقال: «وهل لنا من الأمر من شيء» ؟ يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكأن كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ جمهور القراء «كلّه» - بالنصب على تأكيد الأمر، لأن «كله» بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلّه لله» برفع كل على الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة «كل» ، وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يحتمل أن يكون إخبارا عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على(1/528)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
قال القاضي أبو محمد: وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدرا، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل، وقرأ جمهور الناس «في بيوتكم» بضم الباء، وقرأ بعض القراء وهي بعض طرق السبعة «في بيوتكم» ، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس «لبرز» بفتح الراء والباء على معنى:
صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة «لبرّز» بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس:
«عليهم القتل» أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن والزهري: «عليهم القتال» وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ الآية، اللام في قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ متعلقة بفعل متأخر تقديره وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء أزلا، و «ذات الصدور» ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فقال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المراد بها جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.
قال القاضي أبو محمد: يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن تحرفا لقتال، وأسند الطبري رحمه الله قال: خطب عمر رضي الله عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، قال: لما كان يوم- أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى، والناس يقولون قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها، قال قتادة: هذه الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه الزلة، قال ابن فورك: لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة(1/529)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
عشر رجلا، أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الأنصار أبو طلحة وغيره وقال السدي وغيره: إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليهم صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.
قال القاضي: جعل الفرار إلى الجبل تحيزا إلى فئة، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا، منهم رافع بن المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن إسحاق: فر عثمان بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زرقيان، حتى بلغوا الجعلب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة، قال ابن زيد: فلا أدري هل عفا عن هذه الطائفة خاصة؟ أم على المؤمنين جميعا؟ و «استزل» - معناه طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه، وقوله تعالى:
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ظاهره عند جمهور المفسرين: أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما اكتسبوه أيضا هم من الفرار، وذهب الزجّاج وغيره: إلى أن المعنى، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها، قال المهدوي: بما اكتسبوا من حب الغنيمة والحرص على الحياة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في قوله: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إلى هذه العبرة، أي كان للشيطان في هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه، ثم أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل العراقي، وقال ابن جريج: معنى الآية، عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين، وهو نحو منه، وقوله تعالى:
لِإِخْوانِهِمْ هي أخوة نسب، لأن قتلى- أحد- كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقيل: بل قالها جميع المنافقين، ودخلت إِذا في هذه الآية وهي حرف استقبال، من حيث(1/530)
«الذين» اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان، ويطرد النهي للمؤمنين فيها، فوضعت إِذا لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] إلى نحوها من الآيات وكما قالت:
وفينا نبي يعلم ما في غد كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع، فمن ذلك قول الشاعر:
وإنّي لآتيكم تشكّر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
ومنه قول الربيع:
أصبحت لا أملك السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
و «الضرب في الأرض» : الإبعاد في السير، ومنه ضرب الدهر ضربانه: إذا بعدت المدة، وضرب الأرض: هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في» وقال السدي وغيره: في هذه الآية، الضرب في الأرض: السير في التجارة، وقال ابن إسحاق وغيره: بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله، والضرب في الأرض يعم القولين، وغُزًّى: جمع غاز، وزنه- فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول، وينشد بيت رؤبة: [الرجز]
فالآن قد نهنهني تنهنهي ... وقول حلم ليس بالمسفّه
(وقول، الاده فلاده) يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبدا، وهو مثل معناه: إن لم تكن كذا فلا تكن كذا، وقد روي، وقولهم إلا ده فلا ده، قال سيبويه وغيره: لا يدخل غُزًّى الجر ولا الرفع، وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري: «غزى» مخففة الزاي، ووجهه إما أن يريد غزاة، فحذف الهاء إخلادا إلى لغة من يقول «غزّى» بالتشديد، وهذ الحرف كثير في كلامهم، قول الشاعر يمدح الكسائيّ: [الطويل]
أبى الذّمّ أخلاق الكسائيّ وانتمى ... به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
يريد الأبوة جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوة جمع ابن وقد قالوا: ابن وبنو، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفا للزاي من «غزى» ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 28] في قول من قال: إنه تخفيف، وقد قيل: إنه مصدر جرى على غير المصدر، وقرأ الحسن «وما قتّلوا» مشددة التاء، وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ قال مجاهد: معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم.
قال القاضي: فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم، جعل الله ذلك حسرة، لأن الذي يتيقن(1/531)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
أن كل موت وقتل فبأجل سابق، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت، يتحسر ويتلهف، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون، وهو أظهر ما في الآية، وقال قوم: الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم، وقال قوم: الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا، فتأمله «والحسرة» : التلهف على الشيء والغم به، ثم أخبر تعالى خبرا جزما أنه الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ بقضاء حتم، لا كما يعتقد هؤلاء، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي:
«والله بما يعلمون» بالياء، فهذا وعيد للمنافقين، وقرأ الباقون «تعلمون» بالتاء على مخاطبة المؤمنين، فهذا توكيد للنهي في قوله لا تَكُونُوا ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 159]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
اللام في قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في قوله: لَمَغْفِرَةٌ هي المتلقية للقسم، والتقدير: والله لمغفرة، وترتب الموت قبل القتل في قوله ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: 156] مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب، وقدم القتل في قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لأنه ابتداء إخبار، فقدم الأشرف الأهم، والمعنى: أو متم في سبيل الله، فوقع أجركم على الله، ثم قدم الموت في قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وآية تزهيد في الدنيا والحياة، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «متم» بكسر الميم و «متنا» و «مت» بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بضم الميم في جميع القرآن، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين «أو متم ولئن متم» فقط، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن، قال أبو علي: ضم الميم هو الأشهر والأقيس، مت تموت مثل: قلت تقول وطفت تطوف، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيرا، وليس كما شذ قياسا واستعمالا كشذوذ اليجدع ونحوه، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا:
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر ... وما مر من عمري ذكرت وما فضل
وقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ رفع بالابتداء وَرَحْمَةٌ، عطف على المغفرة وخَيْرٌ خبر الابتداء، والمعنى: المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير، فجاء لفظ المغفرة غير معرف(1/532)
إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن، وتحتمل الآية أن يكون قوله لَمَغْفِرَةٌ إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير: لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر، وقوله خَيْرٌ صفة لخبر الابتداء، وقرأ جمهور الناس «تجمعون» بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص «يجمعون» بالياء، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم.
ثم ذكر تعالى الحشر إليه، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى.
وقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، معناه: فبرحمة من الله «وما» قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها، وهذه بمنزلة قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: 155] قال الزجاج: الباء بإجماع من النحويين صلة وفيها معنى التأكيد، ومعنى الآية: التقريع لجميع من أخل يوم- أحد- بمركزه، أي كانوا يستحقون الملام منك، وأن لا تلين لهم، ولكن رحم الله جميعكم، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، وتفرقوا عنك، والفظ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، وقال الجواري لعمر بن الخطاب: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله الحديث، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين، والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا ومنه قول الشاعر: [البسيط]
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ ... وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر: [البسيط]
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
والانفضاض: افتراق الجموع ومنه فض الخاتم.
قوله تعالى:
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ....
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما(1/533)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقال عليه السلام: المستشار مؤتمن، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن بن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر:
أشيروا عليّ أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم سعد بن عبادة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة- أحد- يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبينة على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلا على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمت» - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزما منه، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى:
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] ونحو قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رميا، إذ كان ذلك متصلا برمي محمد عليه السلام بالحصباء. وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد: وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيدها وتوكل.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها، و «الخذل» : هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك، وأصله من خذل الظباء، وبهذا قيل لها: خاذل إذ تركتها أمها، وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة، وقوله تعالى: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ تقدير جوابه: لا من- والضمير في بَعْدِهِ يحتمل العودة على المكتوبة، ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله إِنْ يَخْذُلْكُمْ.
قوله تعالى:(1/534)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
تقدم القول في صيغة: وما كان لكذا أن يكون كذا، في قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء، وقرأ باقي السبعة «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء، واللفظة: بمعنى الخيانة في خفاء، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح، قال أبو عمرو: تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالا: إذا خان، ولم يؤد الأمانة، ومنه قول النمر بن تولب: [الطويل]
جزى الله عنّي جمرة ابنة نوفل ... جزاء مغلّ بالأمانة كاذب
وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، قال أبو علي: وتقول من الغل الذي هو الضغن: غل يغل بكسر الغين، ويقولون في الغلول من الغنيمة: غل يغل بضم الغين، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف: 38] ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: 76] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة: 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] ولا يكاد يجيء: ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به، وفي هذا الاحتجاج نظر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغل» بضم الغين، فقيل له: إن ابن مسعود قرأ «يغل» بفتح الغين، فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالا على هذه القراءة- التي هي بفتح الياء وضم الغين، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: قيل: كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا، وقيل كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا، قال النقاش: ويقال: إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة أيها الناس، إنما نخشى أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: خشيتم أن نغل؟ ونزلت هذه الآية، وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله تعالى عليه عتابا، وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي يقسم لبعض ويترك بعضا، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاما بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم، وردا على الأعراب الذين صاحوا به: اقسم علينا غنائمنا يا محمد، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه، ونحا إليه الزجّاج، وقال ابن إسحاق: الآية إنما نزلت إعلاما بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.(1/535)
قال القاضي: وكأن الآية على هذا في قصة- أحد- لما نزل عليه: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه، وبالجملة فهو تأويل ضعيف، وكان يجب أن يكون «يغل» بضم الياء وكسر الغين، لأنه من الإغلال في الأمانة، وأما قراءة من قرأ «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين، فمعناها عند جمهور من أهل العلم: أن ليس لأحد أن يغله: أي يخونه في الغنيمة، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من التوقير، وقال بعض الناس: معنى «أن يغل» أن يوجد غالا، كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وقال أبو علي الفارسي: معنى «يغل» بضم الياء وفتح الغين يقال له: غللت وينسب إلى ذلك، كما تقول أسقيته، إذا قلت: سقاك الله كما قال ذو الرمة:
[الطويل]
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام، ونحوه في الكلام: أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا آكل سمنا حتى يحيا الناس من أول ما يحيون: أي يدخلون في الحيا وقوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته، فيجحدها ويمسكها، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء، وفرس له حمحمة، وروى نحو هذا الحديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، الحديث بطوله، وروى نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أدوا الخياط والمخيط، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراك أو شراكان من نار، وقال في مدعم، إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه نارا.
قال القاضي: وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الحارد: [الكامل]
أسميّ ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللّواء لنا بها في المجمع
وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وقد تقدم القول في نظير، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] .
وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ الآية، توقيف على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين،(1/536)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
والرضوان: مصدر، وقرأه عاصم- فيما روي عنه- بضم الراء- وقرأ جميعهم بكسرها، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعمش، أنه قرأها- بكسر الراء وضم الضاد، وهذا كله بمعنى واحد مصدر من الرضى، والمعنى، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله، ففي الكلام حذف مضاف، وباءَ بِسَخَطٍ- معناه: مضى متحملا له، والسخط: صفة فعل، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة، وقال الضحاك: إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله الرضوان، وإلى أن من غل وعصى فله السخط، وقال غيره: هي مشيرة إلى أن من استشهد- بأحد- فله الرضوان، وإلى المنافقين الراجعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهم السخط، وباقي الآية بيّن.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ من المراد بذلك؟ فقال ابن إسحاق وغيره:
المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضا، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: إن المراد بقوله هُمْ إنما هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات» والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة» بالإفراد، وباقي الآية وعيد ووعد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 165]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
اللام في لَقَدْ لام القسم، ومَنَّ في هذه الآية معناه: تطول وتفضل، وقد يقال: منّ بمعنى:
كدر معروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة.
وقوله تعالى: مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه في الجنس واللسان والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم، وكونه جارا وربيا يوجب التصديق والطمأنينة، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسب قومه، وكذلك الرسل، قال النقاش: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم، والآيات في هذه الآية، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن يراد بها العلامات، والأول أظهر، وَيُزَكِّيهِمْ معناه: يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي، قال بعض المفسرين:
معناه يأخذ منهم الزكاة، وهذا ضعيف، والْكِتابَ: القرآن، وَالْحِكْمَةَ، السنة المتعلمة من لسانه عليه السلام، ثم ذكر حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين- وقيل: لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني فبنيت.(1/537)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطأ في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار، وعرفهم أن ذلك لسبب أنفسهم، والواو في قوله: أَوَلَمَّا عطف جملة على جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي: قصد- أحد- وقتل سبعين منهم، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين فقال قتادة والربيع: وابن عباس وجمهور المتأولين: ذلك في يوم بدر، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين، وأسروا سبعين، وقال الزجّاج: أحد المثلين: هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم- أحد- فهو قتل بقتل، ولا مدخل للأسرى في هذه الآية، هذا معنى كلامه، لأن أسارى بدر أسروا ثم فدوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين، وأَنَّى- معناها: كيف ومن أين؟ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، واختلف الناس كيف هو من عند أنفسهم ولأي سبب؟
فقال الجمهور من المفسرين: لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة، وقالت طائفة: قوله تعالى:
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر، وذلك أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسارى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء، على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسارى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد- سبعون رجلا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
الخطاب بقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ للمؤمنين، والْجَمْعانِ هما عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وعسكر قريش يوم- أحد- ودخلت الفاء في قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ رابطة مشددة، وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء، وكذلك ترتيب هذه الآية، فالمعنى إنما هو، وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم، والإذن: التمكين من الشيء مع العلم به، وقوله تعالى:
وَلِيَعْلَمَ معناه: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين، أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال واللام في قوله: لِيَعْلَمَ متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام، والإشارة بقوله: نافَقُوا وقيل لهم هي إلى(1/538)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم- أحد- وذلك أنه كان من رأي عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه، قال عبد الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، فانخذل بنحو ثلث الناس، فمشى في أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله فقال لهم:
اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، أو نحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستشهد، واختلف الناس في معنى قوله:
أَوِ ادْفَعُوا فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون الأنصاري: معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: أَوِ ادْفَعُوا، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم- أحد- لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين والقتال في سبيل الله، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله: أَقْرَبُ مأخوذ من القرب ضد البعد، وسدت- اللام- في قوله: لِلْكُفْرِ، ولِلْإِيمانِ- مسد إلى، وحكى النقاش: أن قوله أَقْرَبُ مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب، واللام متمكنة على هذا القول، وقوله: بِأَفْواهِهِمْ تأكيد، مثل يطير بجناحيه، وقوله: ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يريد ما يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أي من الكفر وعداوة الدين وفي الكلام توعد لهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 168 الى 170]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
الَّذِينَ بدل من «الذين» المتقدم، و «إخوانهم» المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة،(1/539)
وقوله تعالى: لِإِخْوانِهِمْ معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم، ويحتمل أن يكون قوله:
لِإِخْوانِهِمْ للأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في أَطاعُونا هو للمقتولين، وقوله: وَقَعَدُوا جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام، وقوله: لَوْ أَطاعُونا يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ما قتّلوا» بشد التاء، وهذا هو القول بالأجلين، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا الآية، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة: [الرجز]
صادف درء السّيل درءا يدفعه ... والعبء لا تعرفه أو ترفعه
ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون: إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم، فادفعوه إن كان قولكم صدقا، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله.
وقرأ جمهور القراء: «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأ حميد بن قيس، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر: ولا يحسبن أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى: ولا يحسب الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن: «الذين قتّلوا» ، بشد التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ: «الذين قاتلوا» بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله: بَلْ أَحْياءٌ مقدمة لقوله: يُرْزَقُونَ إذ لا يرزق إلا حي، وهذا كما تقول لمن ذم رجلا: بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس: «بل أحياء» بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة، «بل أحياء» بالنصب، قال الزجّاج: ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الأغفال: ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.
قال القاضي: فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلا غير المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عِنْدَ تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
قال القاضي رحمه الله: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها أنهم يرزقون، وقال عليه السلام:
إنما نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها، وأيضا فإنها لا ترزق، وتعلق معناه: تصيب العلقة من الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة(1/540)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
العلقة، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: إنه الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى، فيقول تعالى: قد سبق أنكم لا تردون، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: ألا أبشرك يا جابر؟ قال جابر: قلت بلى يا رسول الله، قال: إن أباك حيث أصيب- بأحد- أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى، وقال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا- بأحد- فنزلت هذه الآية وقال محمد بن قيس بن مخرمة في حديث: إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى:
أنا رسولكم، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني وقوله تعالى: فَرِحِينَ نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور، و «الفضل» في هذه الآية: التنعيم المذكور.
يَسْتَبْشِرُونَ معناه: يسرون ويفرحون، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم: إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك: إلى أن الإشارة في قوله: بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا إلى جميع المؤمنين، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، وَيَسْتَبْشِرُونَ للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ، وأَلَّا مفعول من أجله، التقدير، بأن لا خوف، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 172]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ ثم بين تعالى بقوله: وَفَضْلٍ فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم: «وإن الله» - بكسر الألف من «أن» ، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء: «وأن الله» - بفتح الألف، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به، المعنى، بنعمة وبأن الله، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف، وقرأ عبد الله «وفضل والله لا يضيع» .(1/541)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا يحتمل أن تكون الَّذِينَ صفة للمؤمنين على قراءة من كسر الألف من «إن» ، والأظهر أن الَّذِينَ ابتداء وخبره في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، وقال: لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم، وروي أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف، فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها غزوة.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 174]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
الَّذِينَ صفة للمحسنين المذكورين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين حملهم أبو سفيان ذلك، وقد ذكرته قبل، ف النَّاسُ الأول ركب عبد القيس والنَّاسُ الثاني عسكر قريش، وقوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً، أي ثبوتا واستعدادا، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال، وأطلق العلماء عبارة: أن الإيمان يزيد وينقص، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال: يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات، وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور الأنقص بالإضافة إلى الأعلم، وذهب قوم من العلماء: إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد، فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان، وهذا كما يقال في الكسوة، إنها زيادة في الإيمان، وذهب أبو المعالي في الإرشاد: إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو(1/542)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
بثبوت المعتقد وتعاوره دائبا، قال: وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، يصحبه حينا ويفارقه حينا في الفترة، فذلك الآخر أكثر إيمانا، فهذه هي الزيادة والنقص وفي هذا القول نظر، وقوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم، وأخبر بذلك أيضا أعرابي، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا.
وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه، وباقي الآية بين قد مضت نظائره، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية، وأنها غزوة- أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال:
إن هذه الآية من قوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إلى قوله: فَضْلٍ عَظِيمٍ إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في- أحد- إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي عليه السلام: قولوا نعم: فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا عدوا ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيدا وربحوا في تجارتهم، فذلك قوله تعالى: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أي فضل في تلك التجارة، والصواب ما قاله الجمهور: إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد، وما قال ابن قتيبة وغيره:
من أن لفظة النَّاسُ على رجل واحد من هذه الآية، فقول ضعيف.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 175 الى 177]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)
مقتضى إِنَّما في اللغة الحصر، هذا منزع المتكلم بها من العرب، ثم إذا نظر مقتضاها- عقلا- وهذا هو نظر الأصوليين- فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر، وهي في هذه الآية حاصرة، والإشارة ب ذلِكُمُ إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد، وذلِكُمُ في الإعراب ابتداء، والشَّيْطانِ مبتدأ آخر، ويُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء(1/543)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
الأول، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون الشَّيْطانُ خبر ذلِكُمُ لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة، ويُخَوِّفُ فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك إذا قلت: خوفت زيدا، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئا حقه أن يخاف، وقرأ جمهور الناس يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فقال قوم المعنى: يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف المفعول الأول وقال قوم: المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه، فإذا لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه، إذ لستم بأوليائه، والمعنى: يخوفهم كفار قريش، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» والضمير في قوله فَلا تَخافُوهُمْ لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره، من الصبر والجلد، ثم قرر بقوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا.
وقرأ نافع وحده «يحزنك» بضم الياء من أحزن، وكذلك قرأ في جميع القرآن، إلا في سورة الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] فإنه فتح الياء، وقرأ الباقون «يحزنك» بفتح الياء من قولك حزنت الرجل، قال سيبويه: يقال حزن الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة، وحزنته وفتنته، إذا جعلت فيه وعنده حزنا وفتنة، كما تقول: دهنت وكحلت، إذا جعلت دهنا وكحلا، وأحزنته وأفتنته إذا جعلته حزينا وفاتنا، كما تقول: أدخلته وأسمعته، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك، وقرأ الحر النحوي «يسرعون» في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده، ولذلك قالوا كل مجر بالخلاء يسر، وسلّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً خبر في ضمنه وعيد لهم أي: إنما يضرون أنفسهم، والحظ إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير، ألا ترى قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] .
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أطلق عليهم الشراء من حيث كانوا متمكنين من قبول هذا وهذا فجاء أخذهم للواحد وتركهم للآخر كأنه ترك لما قد أخذ وحصل، إذ كانوا ممكنين منه، ولمالك رحمه الله متعلق بهذه الآية في مسألة شراء ما تختلف آحاد جنسه مما لا يجوز التفاضل فيه، في أن منع الشراء على أن يختار المبتاع، وباقي الآية وعيد كالمتقدم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 178 الى 179]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)(1/544)
نُمْلِي معناه: نمهل ونمد في العمر، والملاوة: المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول:
ملاك الله النعمة أي منحكها عمرا طويلا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «يحسبن» بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن.
بالتاء من فوق الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في- السين- فإنه فتحها، وقرأ حمزة «تحسبن» بالتاء من فوق وفتح السين، وقرأ عاصم والكسائي، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين، قوله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا في هذه الآية وبعدها وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فأما من قرأ «ولا يحسبن» بالياء من أسفل فإن الَّذِينَ فاعل وقوله أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ بفتح الألف من «أنما» ساد مسد مفعولي حسب، وذلك أن «حسب» وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه، قال أبو علي: وكسر «إن» في قول من قرأ «يحسبن» بالياء لا ينبغي، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى وفي غير السبع، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء، ويدخلان على الابتداء والخبر، أعني- اللام- وإن فعلق عن «إنما» عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك: حسبت لزيد قائم، فيعلق الفعل عن العمل لفظا، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام» ففي موضع مفعولي «حسب» ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، ففي نُمْلِي عائد مستكن، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن» بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان، قال أبو علي: وينبغي أن تكون الألف من «إنما» مكسورة في هذه القراءة، وتكون «إن» وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن، ولا يجوز فتح الألف من «إنما» لأنها تكون المفعول الثاني، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى، والإملاء لا يكون إياهم، قال مكي في مشكله: ما عملت أحدا قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما» وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن» بالتاء و «أنما» بفتح الألف، وظاهر كلامه أنها تنصب خيرا، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالا قول الشاعر: [الطويل] (فما كان قيس هلكه هلك واحد) بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، فكذلك يكون أَنَّما نُمْلِي بدلا من الَّذِينَ كَفَرُوا كقوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] وقوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [الأنفال: 7] ويكون «خيرا» المفعول الثاني قال أبو علي: لم يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة «خير» بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش: إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب، إذ الكلام يدل عليه.(1/545)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
قال القاضي: والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية: الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدراج، ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: 198] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين معناه: التخسيس لهم، فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوما ما.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلا أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكنهم ميز بعضهم من بعض، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال، وقال قتادة والسدي: الخطاب للكفار، والمعنى: حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة، وقال السدي وغيره: قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم: لا بد من التمييز وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافرا ولكن هذا رسول مجتبى فآمنوا به. فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول، فقولهم في تأويل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أنه في أمر «أحد» أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون عن هذا. وأيضا فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم وتسمية لهم، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن، وحتى- في قوله: حَتَّى يَمِيزَ غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه: الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «حتى يميز» - بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء، وكذلك «ليميز» ، وقرأ حمزة والكسائي: «حتى يميّز» و «ليميز الله» بضم الياء والتشديد، قال يعقوب بن السكيت: مزت وميزت، لغتان بمعنى واحد، قال أبو علي: وليس ميزت بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن «ألقيت» ليس بمنقول من لقي، إنما هو بمعنى أسقطت، والغيب هنا: ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس، قال الزجّاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت هذه الآية، ويَجْتَبِي- معناه: يختار ويصطفي، وهي من جبيت الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 181]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)
لّقد سمع الله(1/546)
قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء القراءات في قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ كالتي تقدمت آنفا في قوله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سواء، وقال السدي وجماعة من المتأولين: الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك، قالوا: ومعنى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يطوقه. والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة. وقال ابن عباس: الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير، وقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به، فهو من الطاقة كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة: 184] وليس من التطويق، وقال إبراهيم النخعي: سَيُطَوَّقُونَ سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره، وقال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة، وهذا يضرب مع قوله: إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ رفع في قراءة من قرأ «يحسبن» بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيرا» ، والمفعول الثاني خيرا، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين، ودل قوله: يَبْخَلُونَ على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر: [الوافر]
إذ نهي السّفيه جرى إليه ... وخالف، والسّفيه إلى خلاف
فالمعنى جرى إلى السفه، وأما من قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم، قال الزّجاج: وهي مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون» بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران: 179] .
وقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآية، قال ابن عباس: نزلت بسبب فنحاص اليهودي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى بيت المدراس ليدعوهم فوجد فيه جماعة من اليهود قد اجتمعوا على فنحاص- وهو حبرهم- فقال أبو بكر له: يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة وإنه إلينا لفقير وإنّا عنه لأغنياء، ولو كان غنيا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، في كلام طويل غضب أبو بكر منه، فرفع يده فلطم وجه فنحاص وسبه وهمّ بقتله، ثم منعه من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تحدث شيئا حتى تنصرف إليّ، ثم(1/547)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
ذهب فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا فعل أبي بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله: إنه قال قولا عظيما فلم أملك نفسي أن صنعت ما صنعت، فنزلت الآية في ذلك وقال قتادة: نزلت الآية في حيي بن أخطب، وذلك أنه لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245] قال: يستقرضنا ربنا؟ إنما يستقرض الفقير الغني، وقال الحسن بن أبي الحسن ومعمر وقتادة أيضا وغيرهم: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:
245] ، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، ولا محالة أن هذا قول صدر أولا عن فنحاص وحيي وأشباههما من الأحبار ثم تقاولها اليهود، وهو قول يغلط به الأتباع ومن لا علم عنده بمقاصد الكلام، وهذا تحريف اليهود التأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم وقوله تعالى: قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا دال على أنهم جماعه.
قرأ حمزة وحده «سيكتب» بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول و «قتلهم» برفع اللام عطفا على المفعول الذي لم يسم فاعله، و «يقول» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بنون الجمع، فإما أنها نون العظمة، وإما هي للملائكة وما على هذه القراءة مفعولة بها، و «قتلهم» بنصب اللام عطفا على ما وَنَقُولُ بالنون على نحو سَنَكْتُبُ والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض، قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله بن مسعود «ويقال ذوقوا» وقال أبو معاذ النحوي في حرف ابن مسعود: «سنكتب ما يقولون ويقال لهم ذوقوا» وقرأ طلحة بن مصرف «سنكتب ما يقولون» وحكى أبو عمرو عنه أيضا أنه قرأ «ستكتب» بتاء مرفوعة ما قالُوا، بمعنى: ستكتب مقالتهم، وهذه الآية وعيد لهم، أي سيحصى عليهم قولهم، والكتب فيما قال كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها، وتلك الصحف المكتوبة هي التي توزن وفيها يخلق الله الثقل والخفة بحسب العمل المكتوب فيها، وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن الإحصاء وعدم الإهمال، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية الضبط والتقييد، فمعنى الآية: أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم، ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه، ثم يقال لجميعهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم، والذوق مع العذاب مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جدا، والْحَرِيقِ معناه: المحرق فعيل بمعنى مفعل وقيل: الْحَرِيقِ طبقة من طبقات جهنم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 182 الى 183]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن(1/548)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
يكون خطابا لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى: أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير: وبأن الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وجمع «عبدا» في هذه الآية على عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم.
وقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا صفة راجعة إلى قوله: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وقال الزجاج: الَّذِينَ صفة للعبيد، وهذا مفسد للمعنى والرصف، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك، وعَهِدَ معناه: أمر والعهد: أخص من الأمر، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتعدى «آمن» في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك، «وقربان» مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن، وكان أمر القربان حكما قديما في الأنبياء، ألا ترى أن ابني آدم قربا قربانا، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله، قرب قربانا شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجعله في مكان للهواء وانتظر به ساعة، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء، فهذه علامة القبول، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل، وكانت هذه النار أيضا تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث وروي عن عيسى بن عمر، أنه كان يقرأ «بقربان» بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين، وقد حكى سيبويه: السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الإتباع.
قوله تعالى:
قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ ...
هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم، أي: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ بالآيات الباهرة البينة، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك، والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب كل مقترح، ولم يجب الله مقترحا إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله، كقوم صالح وغيرهم، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى، وقال: بل أدعوهم وأعالجهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي: فلا يعظم عليك ذلك، وقرأ ابن عامر: و «بالزبر» بإعادة باء الجر، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه، لأن الواو شركت الزبر في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء، وإعادتها أيضا متجهة لأجل التأكيد، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام، وروي أيضا عن ابن عامر إعادة الباء في قوله: «وبالكتاب المنير» والزُّبُرِ: الكتاب المكتوب يقال: زبرت الكتاب إذا كتبته، وزبرته إذا قرأته، والشاهد لأنه الكتاب قول امرئ القيس: [الطويل](1/549)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخطّ زبور في عسيب يماني؟
وقال الزجّاج: زبرت كتبت، وذبرت بالذال: قرأت، و «المنير» : وزنه مفعل من النور أي سطع نوره.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
والمعنى: كل نفس مخلوقة حية، والذوق هنا: استعارة وَإِنَّما حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن المعنى: أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب، وزُحْزِحَ معناه: أبعد، والمكان الزحزح: البعيد، وفاز معناه: نجا من خطره وخوفه، والْغُرُورِ، الخدع والترجية بالباطل، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين، قال عبد الرحمن بن سابط: مَتاعُ الْغُرُورِ كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن، قال الطبري: ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره.
قال القاضي: والْغُرُورِ في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في المثل: غش ولا تغتر، أي لا تجتز بما لا يكفيك، وقال عكرمة: مَتاعُ الْغُرُورِ، القوارير أي لا بد لها من الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من عكرمة، وقرأ عبد الله بن عمر «الغرور» بفتح الغين، وقرأ أبو حيوة والأعمش: ذائِقَةُ بالتنوين الْمَوْتِ بالنصب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ثم تلا هذه الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 187]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك قول فنحاص: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة(1/550)
إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره: نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و «الأذى» : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و «العزم» : إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزما إلا على مقطع المشيخين من فتاك العرب كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر الحوادث جانبا
وقال النقاش: العزم والحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين.
قال القاضي: وهذا خطأ، والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، و «العزم» :
قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ [آل عمران: 159] فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم. والعامل في إِذْ فعل مقدر تقديره اذكر، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج: الآية في اليهود خاصة، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه، قال مسلم البطين: سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له: نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه» فيجيء قوله فَنَبَذُوهُ عائدا على الناس الذين بين الأنبياء لهم، وقال قوم من المفسرين: الآية في اليهود والنصارى، وقال جمهور من العلماء: الآية عامة في كل من علمه الله علما، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وقد قال أبو هريرة: إني لأحدثكم حديثا، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [البقرة: 174] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: «ليبيننه للناس ولا يكتمونه» ، بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما، وكلا القراءتين متجه، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه» دون النون الثقيلة، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم، قاله سيبويه، و «النبذ» : الطرح، وقوله تعالى: وَراءَ ظُهُورِهِمْ، استعارة لما يبالغ في اطراحه، ومنه وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود: 92] ، ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعبى عليّ جوابها
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوني كقدح الراكب. أراد عليه السلام، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم، وهو موضع القدح ومنه قول حسان: [الطويل] (كما نيط خلف الراكب القدح الفرد)(1/551)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه، لأن الراكب يحتاجه، ومحله من محلات الراكب جليل، والثمن القليل: هو مكسب الدنيا. وباقي الآية بين.
قال أبو محمد: والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 الى 190]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة: الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا: كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن يقال لهم: إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم، وقالت جماعة كثيرة من المفسرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة فقال ابن عباس رضي الله عنه: أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته، وقال ابن عباس أيضا والضحاك والسدي: أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم، وقال مجاهد: فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا بل الحق أبلج، وقال سعيد بن جبير: الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوءة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم، وقراءة سعيد بن جبير: «أوتوا» بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال. وقال ابن عباس أيضا: إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته، وقال قتادة: إن الآية في يهود خيبر، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة، وقالوا: نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك، فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك، وقال الزجّاج: نزلت الآية في قوم من اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا، فقالوا لمن لقوا من المسلمين: إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا(1/552)
للمسلمين وتمادوا على كفرهم، فنزلت الآية فيهم وقرأ جمهور الناس: «أتوا» بمعنى فعلوا، كما تقول أتيت أمر كذا، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي: «آتوا» بالمد، بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء.
قال أبو محمد: وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت، وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي، «أوتوا» بمعنى أعطوا، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير، لا يحسبن الذين يفرحون «فلا يحسبنهم» بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في يحسبنهم، قال أبو علي: الَّذِينَ رفع بأنه فاعل «يحسب» ، ولم تقع «يحسبن» على شيء، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر: [الطويل]
وما خلت أبقى بيننا من مودة ... عراض المذاكي المسنفات القلائصا
وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله: «فلا تحسبنهم» بدلا من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير، وقوله بِمَفازَةٍ فاستغني بذلك عن تعدية الأول إليها كما استغني في قول الشاعر: [الطويل]
بأيّ كتاب أو بأيّة سنّة ... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب؟
فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر، والفاء في قوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ زائدة، ولذلك حسن البدل، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه، وقوله على هذه القراءة «فلا يحسبنهم» ، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه، نحو ظننتني أخاه، ورأيتني الليلة عند الكعبة، ووجدتني رجعت من الإصغاء، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت «أن» وأخواتها، فكما تقول: إني ذاهب، فكذلك تقول: ظننتني ذاهبا، ولو قلت: أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن، كما يحسن: أظنني فاعلا، قرأ نافع وابن عامر: «لا يحسبن الذين» بالياء من تحت وفتح الباء، وكسر نافع السين، وفتحها ابن عامر «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق، وفتح الباء، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله «لا يحسبن الذين» محذوفان لدلالة ما ذكر بعده، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير، إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما، وقرأ حمزة «لا تحسبن» بالتاء من فوق وكسر السين «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء ف الَّذِينَ على هذه القراءة مفعول أول «لتحسبن» ، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه، كما قيل آنفا في المفعولين، وحسن تكرار الفعل في قوله «فلا تحسبنهم» لطول الكلام، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب، وقرأ الضحاك بن مزاحم «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء، و «المفازة» : مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال:
أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت «مفازة» لأن من قطعها فاز، وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا، قال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا.(1/553)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى وملكه فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية، قال بعض المفسرين: الآية رد على الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] وقوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قال القاضي ابن الطيب وغيره: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص لأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحالات هو الموجود في مقتضى كلام العرب.
ثم دل على مواضع النظر والعبرة، حيث يقع الاستدلال على الصانع بوجود السماوات والأرضين والمخلوقات دال على العلم، ومحال أن يكون موجود عالم مريد غير حي، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم الصفات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ هو تعاقبهما، إذ جعلهما الله خلفة، ويدخل تحت لفظة الاختلاف كونهما يقصر هذا ويطول الآخر وبالعكس، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام، و «الآيات» :
العلامات والْأَلْبابِ في هذه الآية: هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 الى 192]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)
الَّذِينَ في موضع خفض صفة لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران: 190] ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله، وأن يحصر القلب اللسان، وذلك من أعظم وجوه العبادات، والأحاديث في ذلك كثيرة، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى جنوبهم، قال بعضهم وهي كقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء: 103] ، هذا تأويل من تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك بمعنى فرغتم منها، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائما، فإن لم يستطيع فقاعدا، ظاهر المدونة متربعا، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير، هذا مذهب المدونة، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، ثم على الأيسر، وفي كتاب ابن المواز، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره، وإلا فعلى الأيسر، وحسن عطف قوله وَعَلى جُنُوبِهِمْ، على قوله: قِياماً وَقُعُوداً لأنه في معنى مضطجعين، ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى(1/554)
عظيمة، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته، والعبر التي بث: [المتقارب]
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره، وهذا هو قصد الآية: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس، لأنه تعالى ليس كمثله شيء، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي مخاوف الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عبادة كتفكر، وقال الحسن بن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته، وقال ابن عباس وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة، وقال سري السقطي: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضا لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر، فقال له ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: 71] ، ففكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
قال القاضي: فهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوسطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد الأقدام بمصر، فصليت العشاء فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دنوت منه سمعته ينشد: [المنسرح]
منسحق الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط ... كذاك من كان عارفا ذاكرا
يبيت في ليله أخا فكر ... فهو مدى اللّيل نائم ساهر
قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه، وقوله تعالى: رَبَّنا معناه يقولون ربنا على النداء، ما خلقت هذا باطلا، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم: سُبْحانَكَ: أي تنزيها لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم: فَقِنا عَذابَ النَّارِ إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون.
وقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء، خزي الرجل يخزى خزيا إذا(1/555)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره: كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزيا.
قال القاضي: أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ هو من قول الداعين، وبذلك يتسق وصف الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 193 الى 194]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون: رَبَّنا قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون: «ربنا ربنا» حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت يُنادِي بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان» ، وقوله: أَنْ آمِنُوا «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، والْأَبْرارِ جمع بر، أصله برر على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل: هو جمع بار كصاحب وأصحاب، والمعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم.
وقوله: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ معناه: على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش «رسلك» بسكون السين، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه: اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل: معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره: معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا، وقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، إشارة إلى قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود.
قوله تعالى:(1/556)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
«استجاب» استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله: أَنِّي يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني» ، وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من الله تعالى: أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله: مِنْ ذَكَرٍ تبيين لجنس العامل، وقال قوم: مِنْ زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضا إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] و «هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة، وقوله تعالى: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده: [الطويل] (وردني ... إلى الله من طردت كل مطرد) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت طردتني كل مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير: [البسيط]
في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء ولا ميل معازيل
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: «وقاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير: «وقاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي: «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه: إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل(1/557)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ [آل عمران: 146] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: و «قتلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف، و «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار: «وقتلوا» بفتح القاف «وقاتلوا» ، وقرأ طلحة بن مصرف: «وقتّلوا» بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبة الواو، وإما أنه قاتل من بقي، واللام في قوله: لَأُكَفِّرَنَّ لام القسم وثَواباً مصدر مؤكد مثل قوله: صُنْعَ اللَّهِ [النمل: 88] وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] وباقي الآية بين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 198]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
نزلت لا يَغُرَّنَّكَ في هذه الآية، منزلة: لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به، لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم، فيجيء هذا جنوحا إلى حالهم ونوعا من الاغترار فلذلك حسنت لا يَغُرَّنَّكَ ونظيره قول عمر لحفصة: لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى: لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد أمته وللكفار في ذلك حظ، أي لا يغرنكم تقلبهم، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: «لا يغرنك» بسكون النون خفيفة، وكذلك «لا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم» - وشبهه، و «التقلب» : التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الأعمال، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك المتاع، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «لكنّ الذين» ، بشد النون، وعلى أن الَّذِينَ في موضع نصب اسما ل «لكنّ» ، ونُزُلًا: معناه تكرمة، ونصبه على المصدر المؤكد، وقرأ الحسن: «نزلا» ساكنة الزاي، وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يحتمل أن يريد: خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له، أما الكافر فلئلا يزداد إثما، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار.
قال أبو محمد: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فقال القاضي ابن الطيب: هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله وصحته جنة بالإضافة إلى جهنم، وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه، فهو فيها كالمعنت المنكل، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته، والدنيا جنة الكافر، لأنها موضع ثوابه على ما(1/558)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
عسى أن يعمل من خير، وليس ينتظر في الآخرة ثوابا، فهذه جنته، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 199 الى 200]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
اختلف المتأولون فيمن عنى بهذه الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وقتادة وغيرهم: نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة، وذلك أنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فكبر أربعا، وفي بعض الحديث: أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن، فكان يراه من موضعه بالمدينة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فنزلت هذه الآية، وكان أصحمة النجاشي نصرانيا، وأصحمة تفسيره بالعربية عطية، قاله سفيان بن عيينة وغيره، وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك: فإنه لم يصل القبلة فنزلت وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] وقال قوم: نزلت في عبد الله بن سلام، وقال ابن زيد ومجاهد: نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب، وخاشِعِينَ حال من الضمير في يُؤْمِنُ، ورد خاشِعِينَ على المعنى في «من» لأنه جمع لا على لفظ «من» لأنه إفراد، وقوله تعالى: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قيل معناه: سريع إتيان بيوم القيامة، وهو يوم الحساب، فالحساب إذا سريع إذ كل آت قريب، وقال قوم: سَرِيعُ الْحِسابِ أي إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر كما يحتاج البشر.
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل معناه: مصابرة وعد الله في النصر، قاله محمد بن كعب القرظي: أي لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتظار الفرج بالصبر عبادة، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله وَرابِطُوا فقال جمهور الأمة معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما(1/559)
يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 8] ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة، جعل الله بعدها فرجا، ولن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا الآية، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط، والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله: ليس الشديد بالصرعة، كقوله: ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء: هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله ابن المواز ورواه، فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، وقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ترجّ في حق البشر.(1/560)
فهرس الجزء الأول من المحرر الوجيز(1/561)
فهرس المحتويات مقدمة المحرر الوجيز 3 الترجمة 26 مصنفاته 28 صور المخطوط 30 مقدمة 33 باب ما ورد عن النبي وعن الصحابة، وعن نبهاء العلماء في فضل القرآن المجيد 36 باب في فضل تفسير القرآن 40 باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن 41 باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه 43 باب ذكر جمع القرآن 49 باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق 51 نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن 52 باب في الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله تعالى 54 باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية 56 باب القول في الاستعاذة 58 القول في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم 60 تفسير سورة الفاتحة الآيات: 1- 7 65 القول في آمين 79 تفسير سورة البقرة الآية: 1 81 الآية: 2 83 الآية: 3 84 الآيتان: 4، 5 85 الآيتان: 6، 7 86 الآيتان: 8، 9 89 الآيات: 10- 12 92 الآيتان: 13، 14 94 الآيتان: 15، 16 97 الآيتان: 17، 18 98 الآيتان: 19، 20 101 الآيتان: 21، 22 104 الآيتان: 23، 24 106 الآية: 25 108 الآية: 26 110 الآية: 27- 29 112 الآية: 30- 32 116 الآيتان: 33، 34 122 الآيتان: 35، 36 126 الآيات: 37- 39 130 الآيات: 40- 41 132 الآيات: 42- 46 135 الآيات: 47- 49 138 الآيات: 50- 53 141 الآيتان: 54، 55 145 الآيات: 56- 58 148 الآيتان: 59، 60 151 الآية: 61 152(1/563)
الآيات: 62- 64 156 الآيات: 65- 67 159 الآيات: 68- 70 162 الآيات: 71- 73 163 الآيتان: 74، 75 165 الآيات: 76- 78 168 الآيات: 79- 82 170 الآيتان: 83، 84 171 الآية: 85 174 الآيات: 86- 88 176 الآيات: 89- 91 177 الآيات: 92- 95 180 الآيات: 96- 99 182 الآيات: 100- 102 184 الآيات: 102- 104 188 الآيتان: 105، 106 190 الآيات: 107- 109 194 الآيات: 110- 112 197 الآيات: 113- 115 198 الآيات: 116- 118 201 الآيات: 119- 121 203 الآيات: 122- 124 205 الآيتان: 125، 126 207 الآيات: 127- 129 210 الآيات: 130- 132 212 الآيات: 133- 135 213 الآيات: 136- 138 215 الآيات: 139- 141 216 الآيتان: 142، 143 217 الآيتان: 144، 145 221 الآيات: 146- 149 223 الآيتان: 150، 151 225 الآيات: 152- 157 226 الآيات: 158- 160 228 الآيات: 161- 164 231 الآيات: 165- 167 234 الآيات: 168- 171 236 الآيات: 172- 174 239 الآيات: 175- 177 241 الآيات: 178- 180 244 الآيات: 181- 184 248 الآيتان: 185، 186 253 الآية: 187 256 الآيات: 188- 190 260 الآيات: 191- 194 262 الآيتان: 195، 196 264 الآيات: 196- 198 269 الآيات: 199- 203 275 الآيات: 204- 208 278 الآيات: 209- 212 283 الآيتان: 213، 214 285 الآيات: 215- 217 288 الآيات: 217- 220 290 الآيتان: 220، 221 295 الآيات: 222- 224 297 الآيات: 225- 227 301 الآية: 228 304 الآية: 229 306 الآيتان: 230، 231 308 الآيتان: 231، 232 309 الآية: 233 310، 312 الآية: 234 313، 314 الآية: 235 315، 317 الآية: 236 318 الآية: 237 320 الآية: 238 322 الآية: 239 324 الآية: 240 325(1/564)
الآيتان: 241، 242 326 الآية: 243 327 الآيتان: 244، 245 328 الآية: 246 330، 331 الآية: 247 331 الآيتان: 247، 248 332 الآية: 248 333 الآية: 249 334، 335 الآيتان: 250، 251 336 الآيتان: 251، 252 337 الآية: 253 338، 339 الآية: 254 339 الآية: 255 340، 341 الآية: 256 342 الآية: 257 344 الآية: 258 345 الآية: 259 347، 349 الآية: 260 352 الآيتان: 261، 262 355 الآيتان: 263، 264 357 الآية: 265 358 الآية: 266 360 الآية: 267 361 الآيتان: 268، 269 363 الآيتان: 270، 271 365 الآية: 272 367 الآية: 273 368 الآيتان: 274، 275 370 الآيتان: 276، 277 373 الآيتان: 278، 279 374 الآيتان: 280، 281 376 الآية: 282 378، 379، 382، 383 الآية: 283 385 الآية: 284 389 الآية: 285 391 الآية: 286 392 تفسير سورة آل عمران الآيات: 1- 4 396 الآيات: 5- 7 399 الآية: 7 402 الآيتان: 8، 9 404 الآيتان: 10- 11 405 الآيتان: 12، 13 406 الآية: 14 408 الآية: 15 410 الآيتان: 16، 17 411 الآية: 18 412 الآية: 19 413 الآية: 20 413 الآيتان: 21، 22 414 الآيات: 23- 25 415 الآيتان: 26، 27 416 الآية: 28 419 الآيتان: 29، 30 420 الآيتان: 31، 32 421 الآيات: 33- 35 422 الآيتان: 36، 37 424 الآيتان: 38، 39 427 الآية: 40 431 الآية: 41 431 الآيتان: 42، 43 433 الآيتان: 44، 45 434 الآيتان: 46، 47 436 الآيتان: 48، 49 437 الآية: 49 439 الآيتان: 50، 51 441 الآيات: 52- 54 442(1/565)
الآيات: 55- 57 444 الآيات: 58- 61 445 الآيات: 62- 64 448 الآيتان: 65، 66 449 الآيتان: 67، 68 451 الآيات: 69- 71 452 الآيتان: 72، 73 453 الآيات: 73- 75 457 الآيات: 75- 77 458 الآيتان: 78، 79 460 الآيات: 79- 81 462 الآيات: 81- 83 466 الآيتان: 84، 85 467 الآيات: 86- 89 467 الآيتان: 90، 91 469 الآيتان: 92، 93 471 الآيات: 94- 96 473 الآية: 97 475 الآيتان: 98، 99 480 الآيتان: 100، 101 481 الآيتان: 102، 103 482 الآية: 103 484 الآيتان: 104، 105 485 الآيتان: 106، 107 487 الآيات: 108- 110 488 الآيتان: 111، 112 490 الآيتان: 113، 114 492 الآيات: 115- 117 494 الآية: 118 496 الآية: 119 497 الآية: 120 498 الآيتان: 121، 122 499 الآيات: 123- 125 502 الآيات: 126- 129 505 الآيات: 130- 132 506 2 لآيتان: 133، 134 507 الآيتان: 135، 136 510 الآيات: 137- 140 511 الآيتان: 141، 142 514 الآيتان: 142، 143 515 الآيتان: 144، 145 516 الآيتان: 145، 146 518 الآيتان: 147، 148 521 الآيات: 149- 151 522 الآية: 152 524 الآيتان: 153، 154 525 الآية: 154 528 الآية: 155 529 الآية: 156 530 الآيات: 157- 159 532 الآيتان: 159، 160 533 الآيات: 161- 163 534 الآيتان: 164، 165 537 الآيتان: 166، 167 538 الآيات: 168- 170 539 الآيات: 170- 172 541 الآيتان: 173، 174 542 الآيات: 175- 177 543 الآيتان: 178، 179 545 الآيتان: 180، 181 546 الآيات: 181- 183 548 الآيتان: 183، 184 549 الآية: 185 550 الآيتان: 186، 187 550 الآيات: 188- 190 552 الآيتان: 191، 192 554 الآيتان: 193، 194 556 الآية: 195 556 الآيات: 196- 198 558 الآيتان: 199- 200 559(1/566)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[المجلد الثاني]
سورة النّساء
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
هذه السورة مدنية، إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح، في عثمان بن طلحة وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] قال النقاش: وقيل نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة.
قال القاضي أبو محمد: وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع إنما هو مكي فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام، وقال النحاس: هذه السورة مكية.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة، وفي البخاري: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] ذكرها في تفسير سورة- براءة- من رواية البراء بن عازب، وفي البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني قد بنى بها.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
«يا» حرف نداء، و «أي» منادى مفرد- و «ها» تنبيه، والنَّاسُ- نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش، «والرب» : المالك، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد، وقال: واحِدَةٍ على تأنيث لفظ النفس، وهذا كقول الشاعر:
[الوافر]
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
وقرأ ابن أبي عبلة- «من نفس واحد» - بغير هاء، وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، والخلق في الآية: بمعنى الاختراع، ويعني بقوله:(2/3)
زَوْجَها حواء، والزوج في كلام العرب: امرأة الرجل، ويقال زوجة، ومنه بيت أبي فراس: [الطويل]
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
وقوله مِنْها، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة: إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه فخلق منه حواء، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها» وكسرها طلاقها. وقال بعضهم: معنى مِنْها من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها من ضلعه، ونفسها من جنس نفسه، وبَثَّ معناه: نشر، كقوله تعالى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] أي المنتشر، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين. والَّذِي في موضع نصب على النعت- وتَسائَلُونَ معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم:
أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه: تَسائَلُونَ بِهِ حقوقكم وتجعلونه مقطعا لها وأصله:
«تتساءلون» ، فأبدلت التاء الثانية سينا وأدغمت في السين، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو، بخلاف عنه، وقرأ الباقون- «تساءلون» - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة، قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا: طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس: قال العجاج: [الرجز]
لو عرضت لأيبليّ قسّ ... أشعث في هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطّسّ وقال ابن مسعود- «تسألون» - خفيفة بغير ألف، والْأَرْحامَ نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة، وعليها فسر ابن عباس وغيره، وقرأ عبد الله بن يزيد- والأرحام- بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء- «والأرحام» - بالخفض عطفا على الضمير، والمعنى عندهم: أنها يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض، قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز: مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر، كما قال: [البسيط]
فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيّام من عجب
وكما قال: [الطويل]
نعلّق في مثل السّواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف(2/4)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
واستهلها بعض النحويين، قال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
قال القاضي أبو محمد: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريرا للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وقالت طائفة: إنما خفض- «والأرحام» - على جهة القسم من الله على ما اختص به لا إله إلا هو من القسم بمخلوقاته، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده، وإن كان المعنى يخرجه- وكانَ في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط، بل المعنى: كان وهو يكون، والرقيب: بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة، وفي قوله عَلَيْكُمْ ضرب من الوعيد، ولم يقل «لكم» للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب، لأنه يرتقب ذلك. ومنه قول أبي دؤاد: [مجزوء الكامل] كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم نواهد قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
الْيَتامى: جمع يتيم ويتيمة، واليتم في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ» وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر، وحكى اليتم في الإنسان من جهة الأم، وقال ابن زيد: هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا وتأخذوا الكل ظلما حراما خبيثا، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا، وقالت طائفة: هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام، والمعنى: إذا بلغوا وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى وهم قد بلغوا، استصحابا للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم، وَلا تَتَبَدَّلُوا قيل: المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف من ماله، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسندي والضحاك، وقيل: المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثا، وتدعوا أموالكم طيبا، وقيل: معناه لا تتعجلوا أكل «الخبيث» من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، قاله مجاهد وأبو صالح، و «الخبيث» و «الطيب» : إنما هو هنا(2/5)
بالتحليل والتحريم، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ- «ولا تبدلوا» - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة، وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم» ، كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين، والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه، وروي عن مجاهد أنه قال: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة، وقال ابن فورك عن الحسن: إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة، وقالت طائفة من المتأخرين إِلى بمعنى مع، وهذا غير جيد، وروي عن مجاهد أن معنى الآية: ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تقريب للمعنى، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر، وقال الحذاق:
إِلى هي على بابها وهي تتضمن الإضافة، التقدير: «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل» ، كما قال تعالى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52، الصف: 14] أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في إِنَّهُ عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر، والحوب الإثم، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، تقول: حاب الرجل يحوب حوبا وحابا وحوبا إذا أثم، قال أمية بن الأسكر: [الوافر]
وإنّ مهاجرين تكنّفاه ... غداتئذ لقد خطئا وخابا
وقرأ الحسن: «حوبا» بفتح الحاء، وهي لغة بني تميم، وقيل: هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج، فإن هذه الأربعة بخلاف تفعل كله، لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه، ويلحق بهذه الأربعة تفكهون، في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65] أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، بدليل قوله بعد ذلك إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة: 66 و 67] أي يقولون ذلك، وقوله: كَبِيراً نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قال أبو عبيدة: خِفْتُمْ هنا بمعنى أيقنتم، واستشهد بقول الشاعر: [دريد بن الصمة] : [الطويل]
فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج
وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا، وتُقْسِطُوا معناه تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، وقرأ ابن وثاب والنخعي، - «ألا تقسطوا» بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة- لا- كأنه قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أن تجوروا، واختلف في تأويل الآية، فقالت عائشة رضي الله عنها:
نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي(2/6)
يكايسن في حقوقهن وقاله ربيعة، وقال عكرمة: نزلت في قريش، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فتزوج منه، فقيل لهم: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، كانوا يتزوجون العشر وأكثر، فنزلت الآية في ذلك، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى» ، فكذلك فتحرجوا في النساء، «وانكحوا» على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه، وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى، وانكحوا على ما حد لكم، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير: ما طابَ، معناه ما حل.
قال القاضي أبو محمد: لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن أبي عبلة، «من طاب» على ذكر من يعقل، وحكى بعض الناس أن ما في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المنزع ضعف وقال ما ولم يقل- من- لأنه لم يرد تعيين من يعقل، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل، فكأنه قال: «فانكحوا الطيب» ، وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه، قال عليه السلام: من استطاع منكم الباءة فليتزوج. ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طابَ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي. وقال غيره: هي معدولة في اللفظ وفي المعنى، وأيضا فإنها معدولة وجمع، وأيضا فإنها معدولة مؤنثة، قال الطبري: هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام، وخطأ الزجاج هذا القول، وهي معدولة عن اثنين، وثلاثة، وأربعة، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود، وأنشد الزجاج لشاعر [ساعدة بن جؤيّة] : [الطويل]
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب تبغّي الناس مثنى وموحد
فإنما معناه اثنين اثنين، وواحد واحدا، وكذلك قولك: جاء الرجال مثنى وثلاث، فإنما معناه:
اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع» ساقطة الألف، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر: على لسان الضب: [المجتث]
لا أشتهي أن أردّا ... إلا عرادا عردّا
وعنكثا ملتبدّا ... وصليانا بردا
يريد باردا. وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال الضحاك وغيره:
المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين، ويتوجه على قول من قال: إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته، أن يكون المعنى: ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم، أو تسرّوا منها، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره: فانكحوا واحدة. وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن: «فواحدة» بالرفع على الابتداء، وتقدير الخبر: فواحدة كافية، أو ما أشبهه، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد(2/7)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
به الإماء، والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها، ألا ترى أنها المنفقة، كما قال عليه السلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الأليّة يمينا، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها.
أَدْنى معناه: أقرب، وهو من الدنو، وموضع- أن- من الإعراب نصب بإسقاط الخافض، والناصب أريحية الفعل الذي في أَدْنى، التقدير: ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا، وتَعُولُوا معناه: تميلوا، قاله ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم، يقال: عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
بميزان قسط لا يخسّ شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل
يريد غير مائل، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم: إني لست بميزان لا أعول، ويروى بيت أبي طالب: «له شاهد من نفسه غير عائل» وعال يعيل، معناه: افتقر فصار عالة، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقدح في هذا الزجاج وغيره، بأن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 4 الى 5]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
وقوله: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: إن الخطاب في هذه الآية للأزواج، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم، وقال أبو صالح: الخطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور.
قال القاضي أبو محمد: والآية تتناول هذه الفرق الثلاث، وقرأ جمهور الناس والسبعة «صدقاتهن» بفتح الصاد وضم الدال، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صدقاتهن» بضم الصاد والدال، وقرأ قتادة وغيره «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن» بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا كله صدقة وصدقة. ونِحْلَةً: معناه: نحلة(2/8)
منكم لهن أي عطية، وقيل التقدير: من الله عز وجل لهن، وذلك لأن الله جعل الصداق على الرجال ولم يجعل على النساء شيئا، وقيل نِحْلَةً معناه: شرعة، مأخوذ من النحل تقول: فلان ينتحل دين كذا، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء، ويتجه مع سواه، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها، تقديره- انحلوهن نحلة، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك، وعلى أنها شريعة هي أيضا من الله وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن، والضمير في مِنْهُ راجع على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره، أو على الإيتاء، وقال حضرمي: سبب الآية أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات، ونَفْساً نصب على التمييز، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل، وإجازة غيره في الكلام. ومنه قول الشاعر [المخبل السعدي] : [الطويل] وما كان نفسا بالفراق تطيب و «من» - تتضمن الجنس هاهنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقفت «من» على التبعيض لما جاز ذلك، وقرىء «هنيا مريا» دون همز، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري. قال الطبري: ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة، وكذلك المريء، قال اللغويون: يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني على وزن أفعل. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» فإنما اعتلت الواو من موزورات اتباعا للفظ مأجورات، فكذلك مرأني اتباعا لهنأني، ودخل رجل على علقمة- وهو يأكل شيئا مما وهبته امرأته من مهرها- فقال له: كل من الهنيء المريء، قال سيبويه هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك «هنيئا مريئا» .
وقوله وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ الآية، اختلف المتأولون في المراد ب السُّفَهاءَ، فقال ابن مسعود والسدي والضحاك والحسن وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته، وقال سعيد بن جبير: نزلت في المحجورين «السفهاء» وقال مجاهد: نزلت في النساء خاصة، وروي عن عبد الله بن عمر أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الآية، وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع، فإن العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات، وقوله: أَمْوالَكُمُ يريد أموال المخاطبين، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة، وقال سعيد بن جبير: يريد أموال «السفهاء» ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال، أي هي لهم إذا احتاجوا، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم، وتصونكم وتعظم أقداركم، ومن مثل هذا وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وما جرى مجراه، وقرأ(2/9)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
الحسن بن أبي الحسن والنخعي «اللاتي» والأموال: جمع لما لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة، وقيما جمع قيمة كديمة وديم، وخطأ ذلك أبو علي وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد، وكما قالت بنو ضبة: طويل وطيال، ونحو هذا، وقوما وقواما وقياما، معناها: ثباتا في صلاح الحال، ودواما في ذلك، وقرأ نافع وابن عامر قيما بغير ألف، وروي أن أبا عمرو فتح القاف من قوله: قواما، وقياما- كان أصله قواما، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب، ذكرها ابن مجاهد ولم ينسبها، وهي قراءة أبي عمرو والحسن، وقرأ الباقون قِياماً وقرأت طائفة «قواما» ، وقوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: معناه: فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر، وقيل: في المحجورين من أموالهم، ومَعْرُوفاً قيل: معناه: ادعوا لهم: بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل: معناه عدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ومعنى اللفظ كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
هذه مخاطبة للجميع، والمعنى: يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء، والابتلاء: الاختبار، وبَلَغُوا النِّكاحَ، معناه: بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه، ومعناه: جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم، وآنَسْتُمْ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم، كما قال الشاعر: [الخفيف]
آنست نبأة وأفزعها القنّاص ... عصرا وقد دنا الإمساء
وقرأ ابن مسعود- «حستم» - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي: «رشدا» بفتح الراء والشين والمعنى واحد، ومالك رحمه الله يرى الشرطين:
البلوغ، والرشد المختبر، وحينئذ يدفع المال، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت، إلى غير ذلك من الأمثلة، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة، ولكنها تجوز قبل الحنث.
قال القاضي أبو محمد: والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه، فقال: إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك، لأن التوقيف بالبلوغ جاء «بإذا» والمشروط جاء «بإن» التي هي قاعدة حروف الشرط، وإِذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر، وقال: فعلوا ذلك(2/10)
مضطرين، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر، ولا تقول: إن احمر البسر، وقال الحسن وقتادة: الرشد في العقل والدين، وقال ابن عباس: بل في العقل وتدبير المال لا غير، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا، والرواية الأخرى: أنه في العقل والدين مروية عن مالك، وقالت فرقة:
دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك، وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرى المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت، وقوله: وَلا تَأْكُلُوها الآية، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، والإسراف: الإفراط في الفعل، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق، ومنه قول الشاعر [جرير] : [البسيط] ما في عطائهم منّ ولا سرف أي لا يخطئون مواضع العطاء. وَبِداراً: معناه مبادرة كبرهم، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، قاله ابن عباس وغيره. وأَنْ يَكْبَرُوا نصب ببدارا، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ الآية، يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف: إذا أمسك، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف، واختلف العلماء في حد المعروف، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية: إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر، ولا يتسلف أكثر من حاجته، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة والسدي وعطاء: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف، قال الحسن: هي طعمة من الله له، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلا بأطراف الأصابع، ولا يكتسي منه بوجه، وقال إبراهيم النخعي ومكحول: يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الكتان والحلل، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي: إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه، وقالت فرقة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وقال الحسن بن حي: إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وقال ابن عباس والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المراد اليتامى في الحالين، أي: من كان منهم غنيا فليعف بماله، ومن كان فقيرا فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد، وقوله: فَإِذا دَفَعْتُمْ الآية. أمر من الله بالتحرز والحزم، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها، إذا كان حبسها أولا معروفا، وقالت فرقة:
الإشهاد هاهنا فرض وقالت فرقة: هو ندب إلى الحزم، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع(2/11)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر، واللفظ يعم هذا وسواه، والحسيب هنا المحسب، أي هو كاف من الشهود، هكذا قال الطبري، والأظهر حَسِيباً معناه: حاسبا أعمالكم ومجازيا بها، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 9]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
سمى الله عز وجل الأب والدا لأن الولد منه ومن الوالدة، كما قال الشاعر: [الرجز] بحيث يعتش الغراب البائض لأن البيض من الأنثى والذكر، قال قتادة وعكرمة وابن زيد: وسبب هذه الآية، أن العرب كان منها من لا يورث النساء ويقول: لا يرث إلا من طاعن بالرمح وقاتل بالسيف فنزلت هذه الآية، قال عكرمة: سببها خبر أم كحلة، مات زوجها وهو أوس بن سويد وترك لها بنتا فذهب عم بنيها إلى أن لا ترث فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العم: هي يا رسول الله لا تقاتل ولا تحمل كلا ويكسب عليها ولا تكسب، واسم العم ثعلبة فيما ذكره. ونَصِيباً مَفْرُوضاً، نصب على الحال، كذا قال مكي، وإنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال، تقديره: فرضا، ولذلك جاز نصبه، كما تقول: لك عليّ كذا وكذا حقا واجبا، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكان حقه الرفع.
وقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية، اختلف المتأولون فيمن خوطب بهذه الآية على قولين: أحدهما أنها مخاطبة للوارثين، والمعنى: إذا حضر قسمتكم لمال موروثكم هذه الأصناف الثلاثة، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ، ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك وابن عباس فيما حكى عنه المهدوي: نسخ ذلك بآية المواريث. وكانت هذه قسمة قبل المواريث، فأعطى الله بعد ذلك كل ذي حق حقه، وجعلت الوصية للذين يحزنون ولا يرثون، وقال ابن عباس والشعبي ومجاهد وابن جبير: ذلك محكم لم ينسخ، وقال ابن جبير: وقد ضيع الناس هذه الآية، قال الحسن: ولكن الناس شحوا، وامتثل ذلك جماعة من التابعين، عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري، واختلف القائلون بأحكامها، فقالت فرقة: ذلك على جهة الفرض والوجوب أن يعطى الورثة لهذه الأصناف ما تفه وطابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق، وما خف كالتابوت، وما تعذر قسمه، وقال ابن جبير والحسن: ذلك على جهة الندب، فمن تركه فلا حرج عليه، واختلف في هذا القول إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقال(2/12)
سعيد بن جبير وغيره: هذا على وجه المعروف فقط، يقوله ولي الوارث دون عطاء ينفذ، وقالت فرقة: بل يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى، والقول الثاني فيمن خوطب بها: إن الخطاب للمحتضرين الذين يقسمون أموالهم بالوصية، فالمعنى: إذا حضركم الموت أيها المؤمنون، وقسمتم أموالكم بالوصية، وحضركم من لا يرث من ذي القرابة واليتامى فارزقوهم منه، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد قال: كانوا يقولون للوصي: فلان يقسم ماله، ومعنى «حضر» : شهد، إلا أن الصفة بالضعف واليتم والمسكنة تقضي أن ذلك هو علة الرزق، فحيث وجدت رزقوا وإن لم يحضروا القسمة، وأُولُوا: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولا يكون إلا مضافا للإبهام الذي فيه، وربما كان واحده من غير لفظة: ذو، واليتم: الانفراد واليتيم: الفرد، وكذلك سمي من فقد أباه يتيما لانفراده، ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية، أن يصنع لهم طعام يأكلونه، وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، والضمير في قوله: فَارْزُقُوهُمْ وفي قوله: لَهُمْ عائد على الأصناف الثلاثة، وغير ذلك من تفريق عود الضميرين كما ذهب إليه الطبري تحكم- والقول المعروف: كل ما يؤنس به من دعاء أو عدة أو غير ذلك.
وقوله وَلْيَخْشَ جزم بلام الأمر، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه، قياسا على حروف الجر، إلا في ضرورة شعر، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري: بكسر لامات الأمر في هذه الآية، وقد تقدم الكلام على لفظ ذُرِّيَّةً في سورة آل عمران، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى. والتخويف بالعاقبة في الدنيا، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة: «ضعفاء» بالمد وضم الضاد، وروي عن ابن محيصن «ضعفا» بضم الضاد والعين وتنوين الفاء، وأمال حمزة ضِعافاً وأمال- خافُوا، والداعي إلى إمالة خافُوا الكسرة التي في الماضي في قولك: خفت، ليدل عليها، وخافُوا جواب لَوْ، تقديره: لو تركوا لخافوا، ويجوز حذف اللام في جواب- لو- تقول- لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، واختلف من المراد بهذه الآية؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد: المراد من حضر ميتا حين يوصي فيقول له: قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك، فكأن الآية تقول لهم: كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة. وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس ذلك، وهو أن يقول للمحتضر: أمسك على ورثتك وأبق لولدك، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى، وكل من يستحق أن يوصي له، فقيل لهم: كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك فسدوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضرهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد، وللآخر القول الثاني، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن(2/13)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعى إنما هو الضعف، فيجب أن يمال معه، وقال ابن عباس أيضا: المراد بالآية ولاة الأيتام، فالمعنى: أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك، وقالت فرقة: بل المراد جميع الناس، فالمعنى: أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان، فقلت له: يا أبا بسر ودي أن لا يكون لي ولد، فقال لي: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا هذه الآية. «والسديد» معناه: المصيب للحق، ومنه قول الشاعر:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
معناه، لما وافق الأغراض التي يرمي إليها.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
قال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار، ويأكلون أموالهم، وقال أكثر الناس: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصيا، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلا لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق، من التهافت بسبب البطن، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار، وظُلْماً معناه: ما جاوز المعروف مع فقر الوصي، وقال بعض الناس: المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل: يَأْكُلُونَ النار، وقالت طائفة: بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار، وفي ذلك أحاديث، منها حديث أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به، قال، رأيت أقواما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، تخرج من أسافلهم، قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وقرأ جمهور الناس «وسيصلون» على إسناد الفعل إليهم، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم، وقرأ أبو حيوة، وَسَيَصْلَوْنَ على بناء الفعل للمفعول بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام على التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة «وسيصلون» بضم الياء واللام، وهي ضعيفة، والأول أصوب، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى [الليل: 16](2/14)
وفي قوله: صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 163] والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها، علم الله ... وإني بحرّها اليوم صال
والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون، «والسعير» : الجمر المشتعل، وهذه آية من آيات الوعيد، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، وتلخيص الكلام في المسألة: أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، هذا عرفهما إذا أطلقا، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيدا به، كما قال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ، الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: 72] فقالت المعتزلة: آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر، وقال بعضهم: وبالصغائر، وقالت المرجئة: آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق، كان من كان من عاص أو طائع، وقلنا أهل السنة والجماعة: آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد، إذ الشرك أيضا يغفر للتائب، وهذا قاطع بحكم قوله لِمَنْ يَشاءُ بأن ثم مغفورا له وغير مغفور، واستقام المذهب السني.
وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ يتضمن الفرض والوجوب، كما تتضمنه لفظة أمر- كيف تصرفت، وأما صيغة الأمر من غير اللفظة ففيها الخلاف الذي سيأتي موضعه إن شاء الله، ونحو هذه الآية قوله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام: 151] وقيل: نزلت هذه الآية بسبب بنات سعد بن الربيع وقال السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، قال جابر بن عبد الله، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآيات تبيينا أن لكل أنثى وصغير حظه، وروي عن ابن عباس: أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات، ومِثْلُ مرتفع بالابتداء أو بالصفة، تقديره حظ مثل حظ، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «في أولادكم أن للذكر» وقوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً الآية الأولاد لفظ يجمع الذكران والإناث، فلما أراد بهذه الآية أن يخص الإناث بذكر حكمهن أنث الفعل للمعنى، ولو اتبع لفظ الأولاد لقال كانوا، واسم- كان- مضمر، وقال بعض نحويي البصرة: تقديره وإن كن المتروكات «نساء» ، وقوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ معناه: «اثنتين» فما فوقهما، تقتضي ذلك قوة الكلام، وأما الوقوف مع اللفظ فيسقط معه النص على الاثنتين، ويثبت الثلثان لهما بالإجماع الذي مرت عليه الأمصار والأعصار، ولم يحفظ فيه خلاف، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس: أنه يرى لهما النصف. ويثبت أيضا ذلك لهما بالقياس على الأختين المنصوص عليهما، ويثبت ذلك لهما بالحديث الذي ذكره الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/15)
قضى للابنتين بالثلثين، ومن قال: فَوْقَ زائدة واحتج بقوله تعالى: فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: 12] هو الفصيح، وليست فَوْقَ زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة «اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال: وقد احتج لأخذهما الثلثين بغير هذا، وكله معارض، قال إسماعيل القاضي: إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها الثلث إذا انفرد، فأحرى أن تأخذ ذلك مع أختها قال غيره: وكما كان حكم الاثنين فما فوقهما من الإخوة للأم واحدا، فكذلك البنات، وقال النحاس: لغة أهل الحجاز وبني أسد، الثلث والربع إلى العشر، وقد قرأ الحسن ذلك كله بإسكان الأوسط، وقرأه الأعرج، ومذهب الزجاج: أنها لغة واحدة، وأن سكون العين تخفيف، وإذا أخذ بنات الصلب الثلثين، فلا شيء بعد ذلك لبنات الابن، إلا أن يكون معهن أخ لهن، أو ابن أخ، فيرد عليهن، وعبد الله بن مسعود لا يرى لهن شيئا، وإن كان الأخ أو ابن الأخ، ويرى المال كله للذكر وحده دونهن.
قوله تعالى:
قرأ السبعة سوى نافع «واحدة» بالنصب على خبر كان، وقرأ نافع واحدة بالرفع على أن كان بمعنى وقع وحصر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «النّصف» بضم النون، وكذلك قرأه علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في جميع القرآن، وقوله: وَلَدٌ يريد ذكرا أو أنثى، واحدا أو جماعة للصلب أو ولد ولد ذكر، فإن ذلك كيف وقع يجعل فرض الأب السدس، وإن أخذ النصف في ميراثه فإنما يأخذه بالتعصيب، وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ الآية، المعنى: فإن لم يكن له ولد، ولا ولد ولد ذكر، ذكرا كان أو أنثى، وقوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ تقتضي قوة الكلام أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره، فعلى هذا يكون قوله وَوَرِثَهُ حكما لهما بالمال فإذا ذكر وحدّ بعد ذلك نصيب أحدهما أخذ النصيب الآخر، كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول لأحدهما، أنت يا فلان لك منه الثلث، فقد حددت للآخر منه الثلثين، بنص كلامك، وعلى أن فريضتهما خلت من الولد وغيره يجيء قول أكثر الناس: إن للأم مع الانفراد الثلث من المال كله، فإن كان معهما زوج كان «للأم السدس» ، وهو الثلث بالإضافة إلى الأب، وعلى أن الفريضة خلت من الولد فقط يجيء قول شريح وابن عباس: إن الفريضة إذا خلت من الولد أخذت «الأم الثلث» من المال كله مع الزوج، وكان ما بقي للأب ويجيء على هذا، قوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ. منفردين أو مع غيرهم. وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة، وهي لغة حكاها سيبويه، وكذلك كسر الهمزة من قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: 32] وفي أُمِّها [القصص: 59] وفي أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران: 7، الرعد: 39، الزخرف: 4] وهذا كله إذا وصلا اتباعا للكسرة أو الياء التي قبل الهمزة، وقرأ الباقون كل هذا بضم الهمزة، وكسر همزة الميم من «أمهاتكم» اتباعا لكسر الهمزة، ومتى لم(2/16)
يكن وصل وياء أو كسرة فالضم باتفاق، وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحطون الأم إلى السدس ولا يأخذونه، أشقاء كانوا أو للأب أو للأم، وقال من لا يعد قوله إلا في الشذوذ: إنهم يحطون ويأخذون ما يحطون لأنفسهم مع الأب، روي عن ابن عباس، وروي عنه خلافه مثل قول «السدس» الذي يحجبون «الأم» عنه، قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم، لأنه يمونهم، ويلي نكاحهم، والنفقة عليهم، هذا في الأغلب، ومجمعون على أن أخوين فصاعدا يحجبون الأم عنه، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس، أن الأخوين في حكم الواحد، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان، لأن التثنية جمع شيء إلى مثله، فالمعنى يقتضي أنها جمع، وذكر المفسرون أن العرب قد تأتي بلفظ الجمع وهي تريد التثنية، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] وكقوله في آية الخصم إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا [ص: 21، 22] وكقوله: وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: 130] واحتجوا بهذا كله في أن الإخوة يدخل تحته الأخوان.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآيات كلها لا حجة فيها عندي على هذه الآية، لأنه قد تبين في كل آية منها بالنص أن المراد اثنان، فساغ التجوز بأن يؤتى بلفظ الجمع بعد ذلك، إذ معك في الأولى- يحكمان- وفي الثانية- إن هذا أخي، وأيضا فالحكم قد يضاف إلى الحاكم والخصوم، وقد يتسور مع الخصم غيرهما فهم جماعة، وأما «النهار» في الآية الثالثة فالألف واللام فيه للجنس فإنما أراد طرفي كل يوم وأما إذا ورد لفظ الجمع ولم يقترن به ما يبين المراد فإنما يحمل على الجمع، ولا يحمل على التثنية، لأن اللفظ مالك للمعنى وللبنية حق، وذكر بعض من احتج لقول عبد الله بن عباس: أن بناء التثنية يدل على الجنس والعدد، كبناء الإفراد وبناء الجمع يدل على الجنس ولا يدل على العدد فلا يصح أن يدخل هذا على هذا، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي- «يوصي» - بإسناد الفعل إلى الموروث، إذ قد تقدم له ذكر، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، «يوصى» بفتح الصاد ببنية الفعل للمفعول الذي لم يسّم فاعله، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، «يوصّى» بفتح الصاد وتشديدها، وكل هذا في الموضعين، وقرأ حفص عن عاصم في الأولى بالفتح، وفي الثانية بالكسر، وهذه الآية إنما قصد بها تقديم هذين الفعلين على الميراث، ولم يقصد بها ترتيبهما في أنفسهما، ولذلك تقدمت الوصية في اللفظ، والدين مقدم على الوصية بإجماع، والذي أقول في هذا: إنه قدم الوصية إذ هي أقل لزوما من الدين، اهتماما بها وندبا إليها، كما قال تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: 49] وأيضا قدمها من جهة أنها مضمنها الوصية التي هي كاللازم يكون لكل ميت، إذ قد حض الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه، وأنه قد يكون ولا يكون، فبدأ بذكر الذي لا بد منه، ثم عطف بالذي قد يقع أحيانا، ويقوي هذا كون العطف ب أَوْ، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو، وقدمت الوصية أيضا إذ هي حظ مساكين وضعاف وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة، وهو صاحب حق له فيه، كما قال عليه السلام إن لصاحب الحق مقالا وأجمع العلماء على أن ليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث، واستحب كثير منهم أن لا يبلغ الثلث، وأن يغض الناس إلى الربع.(2/17)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ رفع الابتداء، والخبر مضمر تقديره: هم المقسوم عليهم، وهم المعطون، وهذا عرض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة، ولا تَدْرُونَ عامل في الجملة بالمعنى ومعلق عن العمل في اللفظ بحسب المعمول فيه، إذ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ونَفْعاً، قال مجاهد والسدي وابن سيرين: معناه في الدنيا، أي إذا اضطر إلى إنفاقهم للحاجة، نحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار، وقال ابن عباس والحسن، في الآخرة، أي بشفاعة الفاضل للمفضول، وقال ابن زيد: فيهما، واللفظ يقتضي ذلك، وفَرِيضَةً نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى يُوصِيكُمُ يفرض عليكم، وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، وذلك ضعيف، والعامل يُوصِيكُمُ، وكانَ هي الناقصة، قال سيبويه لما رأوا علما وحكمة قيل لهم: إن الله لم يزل هكذا وصيغة- كان- لا تعطي إلا المضي، ومن المعنى بعد يعلم أن الله تعالى كان كذلك، وهو ويكون، لا من لفظ الآية، وقال قوم:
كانَ بمعنى وجد ووقع، وعَلِيماً، حال، وفي هذا ضعف، ومن قال: كانَ زائدة فقوله خطأ.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية. الخطاب للرجال، والولد هاهنا بنو الصلب وبنو ذكورهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا، واحدا فما زاد هذا بإجماع من العلماء.
قوله تعالى:
والولد في هذه الآية كما تقدم في الآية التي قبلها، والثمن للزوجة أو للزوجات هن فيه مشتركات بإجماع، ويلحق العول فرض الزوج والزوجة، كما يلحق سائر الفرائض المسماة، إلا عند ابن عباس، فإنه قال: يعطيان فرضهما بغير عول، والكلالة: مأخوذة من تكلل النسب: أي أحاط، لأن الرجل إذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه، وبقي أن يرثه من يتكلله نسبه، أي يحيط به من نواحيه كالإكليل، وكالنبات إذا أحاط بالشيء، ومنه: روض مكلل بالزهر، والإكليل منزل القمر يحيط به فيه كواكب، ومن الكلالة قول الشاعر: [المتقارب](2/18)
فإنّ أبا المرء أحمص له ... ومولى الكلالة لا يغضب
فالأب والابن هما عمودا النسب، وسائر القرابة يكللون، وقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وسليم بن عبيد وقتادة والحكم وابن زيد والزهري وأبو إسحاق السبيعي:
«الكلالة» خلو الميت عن الولد والوالد، وهذا هو الصحيح، وقالت طائفة: هي خلو الميت من الولد فقط، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعن عمر، ثم رجعا عنه، وروي عن ابن عباس، وذلك مستقرا من قوله في الإخوة مع الوالدين: إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونها.
قال القاضي أبو محمد: هكذا حكى الطبري. ويلزم على قول ابن عباس إذ ورثهم بأن الفريضة «كلالة» أن يعطيهم الثلث بالنص، وقالت طائفة منهم الحكم بن عتيبة: «الكلالة» الخلو من الوالد، وهذان القولان ضعيفان، لأن من بقي والده أو ولده، فهو موروث بجزم نسب لا بتكلل، وأجمعت الآن الأمة على أن الإخوة لا يرثون مع ابن ولا مع أب، وعلى هذا مضت الأمصار والأعصار، وقرأ جمهور الناس- «يورث» بفتح الراء، وقرأ الأعمش وأبو رجاء- «يورّث» - بكسر الراء وتشديدها، قال أبو الفتح بن جني: قرأ الحسن «يورث» من أورث، وعيسى «يورّث» بشد الراء من ورث، والمفعولان على كلتا القراءتين محذوفان، التقدير: يورث وارثه ماله كلالة، ونصب كَلالَةً على الحال، واختلفوا في «الكلالة» فيما وقعت عليه في هذه الآية، فقال عمر وابن عباس: «الكلالة» الميت الموروث إذا لم يكن له أب، ونصبها على خبر كان، وقال ابن زيد: «الكلالة» الوارثة بجملتها، الميت والأحياء كلهم «كلالة» ، ونصبها على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره وراثة «كلالة» ، ويصح على هذا أن تكون كانَ تامة بمعنى وقع، ويصح أن تكون ناقصة وخبرها يُورَثُ وقال عطاء: «الكلالة» المال، ونصب على المفعول الثاني.
قال القاضي أبو محمد: والاشتقاق في معنى الكلالة يفسد تسمية المال بها، وقالت طائفة: الكلالة الورثة، وهذا يستقيم على قراءة «يورث» بكسر الراء، فينصب كَلالَةً على المفعول، واحتج هؤلاء بحديث جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنما يرثني «كلالة» أفأوصي بمالي كله؟ وحكى بعضهم: أن تكون «الكلالة» الورثة، ونصبها على خبر كانَ، وذلك بحذف مضاف، تقديره ذا كلالة، ويستقيم سائر التأويلات على كسر الراء، وقوله أَوِ امْرَأَةٌ عطف على الرجل، وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الآية، الضمير في له عائد على الرجل، واكتفى بإعادته عليه دون المرأة، إذ المعنى فيهما واحد، والحكم قد ضبطه العطف الأول، وأصل أُخْتٌ: أخوة، كما أصل بنت: بنية، فضم أول أخت إذ المحذوف منها واو، وكسر أول بنت إذ المحذوف ياء، وهذا الحذف والتعليل على غير قياس، وأجمع العلماء على أن الإخوة في هذه الآية الإخوة لأم، لأن حكمهم منصوص في هذه الآية على صفة، وحكم سائر الإخوة مخالف له، وهو الذي في كلالة آخر السورة، وقرأ سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت لأمه» والأنثى والذكر في هذه النازلة سواء، وشركتهم في الثلث متساوية وإن كثروا، هذا إجماع، فإن ماتت امرأة وتركت زوجا وأما وإخوة أشقاء، فللزوج النصف، وللأم السدس وما بقي فللإخوة، فإن كانوا لأم فقط، فلهم الثلث، فإن تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأم وإخوة لأب وأم، فهذه الحمارية، قال قوم: فيها للإخوة للأم الثلث، ولا شيء للإخوة الأشقاء، كما لو مات رجل وخلف أخوين لأم، وخلف مائة أخ لأب(2/19)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وأم، فإنه يعطى الأخوان الثلث، والمائة الثلثين، فيفضلون بالثلث عليهم، وقال قوم: الأم واحدة وهب أباهم كان حمارا، وأشركوا بينهم في الثلث وسموها أيضا المشتركة.
قال القاضي أبو محمد: ولا تستقيم هذه المسألة ان لو كان الميت رجلا، لأنه يبقى للأشقاء، ومتى بقي لهم شيء فليس لهم إلا ما بقي، والثلث للإخوة للأم.
غَيْرَ مُضَارٍّ نصب على الحال، والعامل يُوصى، ووَصِيَّةٍ نصب على المصدر في موضع الحال، والعامل يُوصِيكُمُ وقيل: هو نصب على الخروج من قوله: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أو من قوله فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ويصح أن يعمل مُضَارٍّ في وَصِيَّةٍ، والمعنى: أن يقع الضرر بها وبسببها، فأوقع عليها تجوزا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «غير مضار وصية» بالإضافة، كما تقول:
شجاع حرب، ومدره حرب، وبضة المتجرد، في قول طرفة بن العبد، والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى، وقال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ضارّ في وصية ألقاه الله تعالى في واد في جهنم.
قال القاضي أبو محمد: ووجوه المضارّة كثيرة لا تنحصر، وكلها ممنوعة: يقر بحق ليس عليه، ويوصي بأكثر من ثلثه، أو لوارثه، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، وغير ذلك، ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارّة ما دام في الثلث، فإن ضارّ الورثة في ثلثه مضى ذلك، وفي المذهب قوله: إن المضارة ترد وإن كانت في الثلث، إذا علمت بإقرار أو قرينة ويؤيد هذا قوله تعالى:
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة: 182] .
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الآية تِلْكَ إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث، والحد: الحجز المانع لأمر ما أن يدخل على غيره أو يدخل عليه غيره، ومن هذا قولهم للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه إحداد المرأة وهو امتناعها عن الزينة، هذا هو الحد في هذه الآية، وقوله: مِنْ تَحْتِهَا يريد من تحت بنائها، وأشجارها الذي من أجله سميت جنة، لأن أنهار الجنة إنما هي على وجه أرضها في غير أخاديد، وحكى الطبري: أن الحدود عند السدي هنا شروط الله، وعند ابن عباس: طاعة الله، وعند بعضهم: سنة الله، وعند بعضهم: فرائض الله، وهذا كله معنى واحد وعبارة مختلفة، وخالِدِينَ قال الزجاج: هي حالة(2/20)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
على التقدير، أي مقدرين خالِدِينَ فِيها، وجمع خالِدِينَ على معنى مَنْ بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ مَنْ، وعكس هذا لا يجوز.
وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة، وقرأ الباقون، يدخله بالياء فيهما جميعا، وهذه آيتا وعد ووعيد، وتقدم الإيجاز في ذلك، ورجّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة، وقد كلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن وغيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
قوله وَاللَّاتِي: اسم جمع التي، وتجمع أيضا على «اللواتي» ، ويقال: اللائي بالياء، والْفاحِشَةَ في هذا الموضع: الزنا، وكل معصية فاحشة، لكن الألف واللام هنا للعهد، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة» ببناء الجر وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب، ولا يلحقها هذا الحكم، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء، تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقال قوم: ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وكانت هذه أول عقوبات الزناة- الإمساك في البيوت، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد: حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب، وقالت فرقة: بل كان الأذى هو الأول، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وسَبِيلًا معناه مخرجا بأمر من أوامر الشرع، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين، أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الوحي، ثم أقلع عنه ووجهه محمر، فقال: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
وَالَّذانِ- تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات. قال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا إذ قد أمن من اللبس في اللذان، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين، وقرأ ابن كثير «اللذانّ» بشد النون، وتلك عوض من الياء المحذوفة، وكذلك قرأ هذان، وفذانك، وهاتين، بالتشديد في جميعها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك، وشدد أبو عمرو، «فذانك» وحدها ولم يشدد غيرها، وَالَّذانِ رفع بالابتداء، وقيل على معنى: فيما يتلى(2/21)
عليكم «اللذان» ، واختلف في الأذى، فقال عبادة والسدي: هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة: هو السبّ والجفاء دون تعيير، وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه، قال مجاهد وغيره:
الآية الأولى في النساء عامة لهن، محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى مِنْ نِسائِكُمْ وقوله في الثانية مِنْكُمْ، وقال السدي وقتادة وغير هما: الآية الأولى في النساء المحصنات، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا القول تام، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقد رجحه الطبري، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم» وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، إلا من قال: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفا، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد، ثم ورد بالخبر المتواتر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد، فمن قال: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب، وهذا الذي عليه الأئمة: أن السنة المتواترة تنسخ القرآن، إذ هما جميعا وحي من الله، ويوجبان جميعا العلم والعمل، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن، قال: إنما يكون حكم القرآن موقفا، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخيل لا يستقيم، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ، ولا يرد ذلك نظر، ولا ينخرم منه أصل، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها: إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه، في قوله تعالى: الشيخ والشيخة- إذا زنيا- فارجموهما البتة، وهذا نص في الرجم، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث بكماله في مسلم وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له: فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، ثم أمر أنيسا برجم المرأة إن هي اعترفت، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن، وأجمعت الأمة على رفع لفظة، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها، وقال: أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية: فقوا ولا(2/22)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول: الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه، وإذا لم يستقل فليس بناسخ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها، بل تنبني مع الجلد وتجتمع، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله: لا تجلدوا الثيب، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد، واختلف في نفيه، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة: لا نفي اليوم، وقالت جماعة: ينفى وقيل: نفيه سجنه، ولا تنفى المرأة ولا العبد، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء، وقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُما كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه، فأمر الله تعالى المؤمنين، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا» وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأن تركهم إنما هو إعراض، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] وليس الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة، ويحسب الجهالة في الآية الأخرى، والله تعالى تواب، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
إِنَّمَا حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: 171] وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله: إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة، وهي في عرف الشرع:
الرجوع من شر إلى خير، وحد التوبة: الندم على فارط فعل، من حيث هو معصية الله عز وجل، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف، وإلا فثم إصرار لا توبة معه، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور: 31] على الوجوب، وتصح التوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب،(2/23)
وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره، وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ فيه حذف مضاف تقديره: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سكت قليلا، ثم قال: يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يدخلهم الجنة، فهذا كله إنما معناه: ما حقهم على فضل الله ورحمته، والعقيدة: أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا، فمن ذلك تخليد الكفار في النار، ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: 82] والسُّوءَ في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي، وقوله تعالى: بِجَهالَةٍ معناه: بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا: «الجهالة» هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها «جهالة» .
قال القاضي أبو محمد: يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد: 36، الحديد: 20] وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: فكأن «الجهالة» اسم للحياة الدنيا، وهذا عندي ضعيف، وقيل بِجَهالَةٍ، أي لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضا ضعيف، ذكره ابن فورك ورد عليه، واختلف المتأولون في قوله تعالى:
مِنْ قَرِيبٍ فقال ابن عباس والسدي: معنى ذلك قبل المرض والموت، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم: معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، وروى أبو قلابة، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر،(2/24)
قال: وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح.
قال القاضي أبو محمد: فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حددوا آخر وقتها، وقال إبراهيم النخعي: كان يقال: التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله.
قال القاضي أبو محمد: لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك، وقوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ إنما معناه: «من قريب» إلى وقت الذنب، ومدة الحياة كلها قريب، والمبادر في الصحة أفضل، والحق لأمله من العمل الصالح، والبعد كل البعد الموت، ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل] وأين مكان البعد إلّا مكانيا وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيما فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك.
ثم نفى بقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس، وحضور الموت هو غاية قربه، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين، وقال الربيع: الآية الأولى قوله:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ هي في المؤمنين، والآية الثانية قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة.
قال القاضي أبو محمد: وطعن بعض الناس في هذا القول بأن خبر، والأخبار لا تنسخ. وهذا غير لازم، لأن الآية لفظها الخبر، ومعناه تقرير حكم شرعي، فهي نحو قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ونحو قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [سورة الأنفال: 65] وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب، فنحتاج أن نقول، إن قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: 48، 116] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائبا من لم يتب إلا مع حضور الموت، فالعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره، وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا، لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين، فإن كان كافرا فهو يخلد، وإن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوي الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلا منه ولا يعذبه.
وأعلم الله تعالى أيضا أن الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة، وقوله تعالى:(2/25)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط، فالعذاب عذاب خلود، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء، عذاب ولا خلود معه، وأَعْتَدْنا معناه: يسرناه وأحضرناه، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فقال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج، فنزلت الآية في ذلك، قال أبو إمامة بن سهل بن حنيف:
لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، ذكر النقاش: أن اسم ولد أبي قيس محصن.
قال القاضي أبو محمد: كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية، خلف على امرأة أبيه بعد موته، فولدت من أبي عمرو مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز، قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت، وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها، وقال السدي: كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه، فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها.
قال القاضي أبو محمد: والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك، إذ قد أذهبه الله بقوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ ومعنى الآية على هذا القول: لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تجعلوا النساء كالمال، يورثن عن الرجال الموتى، كما يورث المال، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى، وقال بعض المتأولين: معنى الآية: لا يَحِلُّ لَكُمْ عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي، وروي نحو هذا عن ابن عباس وغيره، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن، إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثها، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير: «كرها» بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف، وقرأ(2/26)
حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء والتوبة بفتح الكاف، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها، والكره والكره لغتان كالضعف والضعف، والفقر والفقر، قاله أبو علي، وقال الفراء: هو بضم الكاف المشقة وبفتحها إكراه غير، وقاله ابن قتيبة، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية، فقال ابن عباس وغيره: هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة، وقال نحوه الحسن وعكرمة.
قال القاضي أبو محمد: ويجيء في قوله: آتَيْتُمُوهُنَّ خلط أي ما آتاها الرجال قبل، فهي كقوله:
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وغير ذلك وقال ابن عباس أيضا: هي في الأزواج، في الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه، فذلك لا يحل له، وقال مثله قتادة، وقال ابن البيلماني: الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية، والثاني في العضل، هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضرارا للفدية، وقال ابن مسعود: معنى الآية: لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ في الإسلام، وقال نحو هذا القول السدي والضحاك، وقال السدي: هذه الآية خطاب للأولياء، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقلق، إلا أن يكون العضل من ولي وارث، فهو يؤمل موتها، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب؟، وقال ابن زيد: هذا العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في قريش بمكة، إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل، ففي هذا نزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول: إن العضل في اللغة الحبس في شدة ومضرة، والمنع من الفرج في ذلك فمن ذلك قولهم: أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع البيضة، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ، ومنه داء عضال. ومشى عرف الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج، وهو في اللغة أعم من هذا حسبما ذكرت، يقع من ولي ومن زوج، وأقوى ما في هذه الأقوال المتقدمة، أن المراد الأزواج، ودليل ذلك قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله، وكذلك قوله: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إلى آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته، وإن حان ذلك يحتمل أن يكون أمرا منقطعا من الأول يخص به الأزواج. وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في نازلة عاضلا، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها ولم يلتفت، إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولا واحدا، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أحدهما أنه كسائر الأولياء: يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر إنه لا يعرض له، ويحتمل قوله:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أن يكون جزما، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويحتمل أن يكون تَعْضُلُوهُنَّ نصبا عطفا على تَرِثُوا فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل، وقرأ ابن مسعود: «ولا أن تعضلوهن» . فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحل بالنص، وعلى تأويل الجزم(2/27)
هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية، واحتمال النصب أقوى، واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن، وقال عطاء الخراساني: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود، وهذا قول ضعيف، وقال ابن عباس رحمه الله: «الفاحشة» في هذه الآية البغض والنشوز، وقاله الضحاك وغيره، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو مذهب مالك، إلا أني لا أحفظ له نصا في معنى «الفاحشة» في هذه الآية، وقال قوم: «الفاحشة» البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز، ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ وقال مالك وأصحابه وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
قال القاضي أبو محمد: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال، وقرأ ابن مسعود: «إلا أن يفحشن وعاشروهن» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام، وكذلك ذكر أبو عمرو عن ابن عباس وعكرمة وأبيّ بن كعب، وفي هذا نظر، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «مبينّة» و «آيات مبيّنات» بفتح الياء فيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم: «مبيّنة» ، و «مبيّنات» - بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع وأبو عمرو: «مبيّنة» بالكسر، و «مبيّنات» بالفتح- وقرأ ابن عباس: «بفاحشة مبينة» بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة، يقال: بين الشيء وأبان: إذا ظهر، وبان الشيء وبينته، وقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أمر للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج، والعشرة المخالطة والممازجة، ومنه قول طرفة: [الرمل]
فلئن شطّت نواها مرّة ... لعلى عهد حبيب معتشر
جعل- الحبيب- جمعا كالخليط والفريق، يقال: عاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا، وأرى اللفظة من أعشار الجزور، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: فاستمتع بها وفيها عوج، ثم أدب تعالى عباده بقوله: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ إلى آخر الآية، قال السدي: الخير الكثير في المرأة الولد، وقال نحوه ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة شيء لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، فيحسن الصبر، إذ عاقبته إلى خير، إذا أريد به وجه الله.(2/28)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته، واختلف العلماء، إذا كان الزوجان يريدان الفراق، وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالك رحمه الله: للزوج أن يأخذ منها إذا سببت الفراق، ولا يراعى تسبيبه هو، وقالت جماعة من العلماء:
لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك، وقال بعض الناس: يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن الله تعالى قد مثل بقنطار، ولا يمثل تعالى إلا بمباح، وخطب عمر بن الخطاب فقال: ألا لا تغالوا بمهور نسائكم، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة، يقول:
تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت، كيف هذا؟ والله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً قال: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، ويروى أنه قال: امرأة أصابت ورجل أخطأ، والله المستعان، وترك الإنكار، وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله عليه السلام، من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة، فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص، وقد قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد- وقد جاء يستعينه في مهره- فسأله عن المهر، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل، الحديث- فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يلزم، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وذلك مكروه باتفاق، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف «إحداهن» ، وهي لغة تحذف على جهة التخفيف. ومنه قول الشاعر: [الطويل] ونسمع من تحت العجاج لها زملا وقول الآخر: [الكامل] إن لم أقاتل فالبسوني برقعا وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران، وقرأ أبو السمال «منه شيئا» بفتح الياء والتنوين، وهي قراءة أبي جعفر، والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: محيرا لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه.(2/29)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
ثم وعظ تعالى عباده مذكرا لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته، وَكَيْفَ في موضع نصب على الحال وأَفْضى معناه: باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر: [الطويل]
بلى وثأى أفضى إلى كلّ كثبة ... بدا سيرها من ظاهر بعد باطن
وفي مثل الناس، فوضى فضا، أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضا وتقول أفضت الحال إلى كذا أي صارت إليه، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم: هو قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح، وقول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحوه، فهذه التي بها تستحل الفروج، وقال عكرمة والربيع: الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله، وقال قوم:
الميثاق الغليظ الولد، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية، أن بكر بن عبد الله المزني قال: لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير، وإن كانت هي المريدة للطلاق، ومنها أن ابن زيد قال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 229] .
قال القاضي أبو محمد: وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ، وكلها ينبني بعضها مع بعض.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية: والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع، وسبب الآية: أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت امرأة أبيه قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زيان، خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت عند أبيه زيان بن سيار، إلى كثير من هذا، وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة، تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك(2/30)
النضر بن شميل في كتاب المثالب، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية في ذلك، واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية، فقالت فرقة: قوله: ما نَكَحَ يراد به النساء. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم، وقوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف، ف ما على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل، وقالت فرقة: قوله: ما نَكَحَ يراد به فعل الآباء، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة، وقوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة، ويجوزه الشرع أن لو ابتدئ نكاحه في الإسلام على سنته، وقيل: معنى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي فهو معفو عنكم.
قال القاضي أبو محمد: وما على هذا مصدرية، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب» .
قال القاضي أبو محمد: وكذلك حكاه أبو عمرو الداني، وقال ابن زيد: معنى الآية: النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، «إلا ما قد سلف» من الآباء في الجاهلية من الزنا، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا، قال ابن زيد: فزاد في هذه الآية المقت، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية: كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام وكانَ في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل، وقال المبرد: هي زائدة، وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوبا، والمقت: البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، فسمى تعالى هذا النكاح مَقْتاً إذ هو ذا مقت يلحق فاعله، وقال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي، وقوله: وَساءَ سَبِيلًا أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه، إذ عاقبته إلى عذاب الله.
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية، حكم حرم الله به سبعا من النسب، وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المأثورة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس أنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار: مثل ذلك، وجعل السابعة قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 24] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ويسميه أهل العلم- المبهم- أي لا باب فيه، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن، والعمة أخت الأب، والخالة أخت الأم، كذلك فيهما العموم والإبهام، وكذلك عمة الأب وخالته، وعمة الأم وخالتها، وكذلك عمة العمة، وأما خالة العمة فينظر، فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة، لأنها أخت الجدة، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها، تحل للرجال، ويجمع بينها وبين النساء،(2/31)
وكذلك عمة الخالة ينظر، فإن كانت الخالة أخت أم لأب، فعمتها حرام، لأنها أخت جد، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها، وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام، سواء كانت الأخوة شقيقة. أو لأب أو لأم، وقرأ أبو حيوة «من الرّضاعة» بكسر الراء، والرضاع يحرم ما يحرم النسب، والمرضعة أم، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة، وفحل اللبن أب، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة، وقرأ ابن مسعود «اللاي» بكسر الياء، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي» بالإفراد، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ فقال جمهور أهل العلم: هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل، فبالعقد على الابنة حرمت الأم، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها؟ قال: نعم، هي بمنزلة الربيبة.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن قوله تعالى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ شرط في هذه، وفي الربيبة، وروي نحوه عن ابن عباس، وروي عنه كقول الجمهور، وروي عن زيد بن ثابت، أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل، وقال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال: أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ مبهمة، وإنما الشرط في الربائب، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» ؟ فقال لا تترأ، قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تترأ؟ قال كأنه قال، لا لا، ويرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، ومعناه: إذا اختلفا في العامل، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل.
قوله تعالى:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ....
الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته. وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله تعالى: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ذكر الأغلب في هذه الأمور، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر، لأنها في حكم أنها في الحجر، إلا ما روي عن علي أنه قال: تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم، إذا كانت بعيدة عنه، ويقال: حجر بكسر الحاء وفتحها، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب، واختلف العلماء في معنى قوله: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء، فإن ابنتها له حلال، وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح(2/32)
وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء، والحلائل:
جمع حليلة، وهي الزوجة، لأنها تحل مع الرجل حيث حل، فهي فعلية بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم: إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقوله: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم، قال عطاء ابن أبي رباح: يتحدث- والله أعلم- أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون: قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وقوله تعالى:
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، وأما بملك يمين، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا، وروي نحو هذا عن ابن عباس، ذكره ابن المنذر، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وبنتها، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا، واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها، قال ابن المنذر: وفيها قول ثان لقتادة، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.
قال القاضي أبو محمد: ومذهب مالك رحمه الله، إذا كان أختان عند رجل يملك، فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى، ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء، وذلك مكروه إلا في الحيض، لأنه أمر غالب كثير، وفي الباب بعينه قول آخر: إن النكاح لا ينعقد، وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ(2/33)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[النساء: 24] وذلك لأن الحديث من المتواتر، وكذلك قوله عليه السلام، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، قيل أيضا إنه ناسخ، وقوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره، والإسلام يجبّه.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
قوله عز وجل: وَالْمُحْصَناتُ عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم:
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا ومنه قول أبي حية:
رمتني وستر الله بيني وبينها فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو(2/34)
سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضا: معنى الْمُحْصَناتُ ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها، وقال ابن مسعود: إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: الْمُحْصَناتُ في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: الْمُحْصَناتُ العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ: هن الحرائر، ويكون إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: وَالْمُحْصَناتُ إلى قوله: حَكِيماً.
قال القاضي أبو محمد: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ، فإنه قال: هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد، وقرأ أبو حيوة(2/35)
ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فقال السدي: المعنى وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم، على وجه النكاح، وقال نحوه عبيدة السلماني، وقال عطاء وغيره: المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة، فهن حلال لكم تزويجهن، وقال قتادة: المعنى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ من الإماء.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله كِتابَ اللَّهِ إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهن وراء أولئك بهذا الوجه، وأَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ، لفظ يجمع التزوج والشراء وأَنْ في موضع نصب، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء، ومُحْصِنِينَ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك غَيْرَ مُسافِحِينَ، أي غير زناة، والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر، واختلف المفسرون في معنى قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله، ولفظة فَمَا تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم: أن الآية في نكاح المتعة، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل، وروى الحكم بن عتيبة، أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام، وقال ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] وقالت عائشة: نسخها قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق، والعدة، والميراث، وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال القاضي أبو محمد: وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف، وفَرِيضَةً نصب على المصدر في موضع الحال، واختلف المفسرون في معنى قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة(2/36)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ، وباقي الآية بين قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك بن أنس في المدونة، الطول هنا السعة في المال، وقال ربيعة وإبراهيم النخعي: الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، ثم يكون قوله تعالى: لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ على هذا التأويل بيانا في صفة عدم الجلد، وعلى التأويل الآخر يكون تزوج الأمة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال وخوف العنت، فلا يصح إلا باجتماعهما، وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد.
ان الحر لا يتزوج الأمة على حال إلا ألا يجد سعة في المال لمهر حرة، وأن يخشى العنت مع ذلك، وقال مالك في كتاب محمد: إذا وجد المهر ولكنه لا يقدر على النفقة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة، وقال أصبغ: ذلك جائز، إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه، وقال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للحر أن ينكح أمة، ولا يقر إن وقع، إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى، وقاله أصبغ، قال: وقد كان ابن القاسم يذكر أنه سمع مالكا يقول: نكاح الأمة حلال في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وهو في المدونة، وقال سحنون في غيرها: ذلك في قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور: 32] . وقاله ابن مزين.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية ما يلزم منه تحليل الأمة لحر دون الشرطين، وقال مالك في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت، وقال في كتاب محمد: ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو ظاهر القرآن، وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقاله أبو حنيفة: فمقتضى هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح أمة، وإن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له، وطَوْلًا- يصح في إعرابه أن يكون مفعولا بالاستطاعة، وأَنْ يَنْكِحَ في موضع نصب بدل من قوله طَوْلًا أو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح، وفي هذا نظر، ويصح أن يكون طَوْلًا نصبا على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأَنْ يَنْكِحَ على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر، تقول: طال الرجل طولا بفتح الطاء إذا تفضل ووجد واتسع عرفه، وطَوْلًا بضم الطاء في ضد القصر والْمُحْصَناتِ في هذا الموضع الحرائر، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء، وقالت فرقة: معناه العفائف وهو ضعيف لأن الإماء يقعن تحته،(2/37)
وقد تقدم الذكر للقراءة في الْمُحْصَناتِ، والْمُؤْمِناتِ صفة، فأما من يقول في الرجل يجد طولا لحرة كتابية لا لمؤمنة: إنه يمتنع عن نكاح الإماء، فهي صفة غير مشترطة، وإنما جاءت لأنها مقصد النكاح، إذ الأمة مؤمنة، وهذا هو المذهب المالكي، نص عليه ابن الماجشون في الواضحة ومن قال في الرجل لا يجد طولا إلا الكتابية: إنه يتزوج الأمة إن شاء، فصفة الْمُؤْمِناتِ عنده في الآية مشترطة في إباحة نكاح الإماء، والمسألة مختلف فيها حسبما ذكرناه، وما في قوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يصح أن تكون مصدرية، تقديره: فمن ملك أيمانكم ويصح أن يراد بها النوع المملوك، فهي واقعة عليه، والفتاة- وإن كانت واقعة في اللغة على الشابة أية كانت، فعرفها في الإماء، وفتى- كذلك، وهذه المخاطبات بالكاف والميم عامة، أي: منكم الناكحون ومنكم المالكون، لأن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغة كثير، والْمُؤْمِناتِ في هذا الموضع صفة مشترطة عند مالك وجمهور أصحابه، لأنهم يقولون: لا يجوز زواج أمة غير مسلمة بوجه، وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الأمة الكتابية جائز، وقوله الْمُؤْمِناتِ على جهة الوجه الفاضل، واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله الْمُؤْمِناتِ في الحرائر من نكاح الكتابيات الحرائر، فكذلك لا يمنع قوله الْمُؤْمِناتِ في الإماء من نكاح الكتابيات الإماء، وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية.
قال القاضي أبو محمد: فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه: أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها، فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله، وإنما هذا لئلا يستريب متحير بإيمان بعض الإماء، كالقريبة عهد بالسباء، أو كالخرساء وما أشبهه. وفي اللفظ أيضا تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض من الحرائر، أي: فلا تعجبوا بمعنى الحرية، وقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قالت طائفة: هو رفع على الابتداء والخبر، والمقصد بهذا الكلام أي إنكم أيها الناس سواء بنو الحرائر وبنو الإماء، أكركم عند الله أتقاكم، فهذه توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها، أعلموا مع ذلك أن ذلك التهجين لا معنى له، وقال الطبري: هو رفع بفعل تقديره: فلينكح مما ملكت «أيمانكم بعضكم من بعض» فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير. وهذا قول ضعيف.
قوله: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ معناه: بولاية أربابهن المالكين، وقوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن، قاله ابن زيد وغيره، وبِالْمَعْرُوفِ معناه: بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. قال سحنون في(2/38)
غير المدونة: كيف هذا؟ وهو لا يبوئه معها بيتا. وقال بعض الفقهاء: معنى ما في المدونة: أنه بشرط التبوئة، فعلى هذا لا يكون قول سحنون خلافا ومُحْصَناتٍ وما بعده حال، فالظاهر أنه بمعنى عفيفات إذ غير ذلك من وجوه الإحصان بعيد إلا مسلمات فإنه يقرب، والعامل في الحال فَانْكِحُوهُنَّ ويحتمل أن يكون فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ كلاما تاما، ثم استأنف «وآتوهن أجورهن مزوجات غير مسافحات» ، فيكون العامل وَآتُوهُنَّ، ويكون معنى الإحصان: التزويج، و «المسافحات» من الزواني: المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا، «ومتخذات الأخدان» : هن المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا ويزنين خفية، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية، قاله ابن عباس وعامر الشعبي والضحاك وغيرهم، وأيضا فهو تقسيم عقلي لا يعطي الوجود إلا أن تكون الزانية إما لا ترديد لامس وإما أن تختص من تقتصر عليه، وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ الآية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «أحصن» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي على بناء الفعل للفاعل، واختلف عن عاصم، فوجه الكلام أن تكون القراءة الأولى بالتزوج، والثانية بالإسلام أو غيره مما هو من فعلهن، ولكن يدخل كل معنى منهما على الآخر، واختلف المتأولون فيما هو الإحصان هنا، فقال الجمهور: هو الإسلام، فإذا زنت الأمة المسلمة حدت نصف حد الحرة- وإسلامها هو إحصانها الذي في الآية، وقالت فرقة: إحصانها الذي في الآية هو التزويج لحر، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وقالت فرقة:
الإحصان- في الآية التزوج، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة بالسنة، وهي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري، أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري:
فالمتزوجة محدودة بالقرآن والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث والسؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا من القرآن أن معنى أُحْصِنَّ تزوجن، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يقتضي تقرير المعنى ومن أراد أن يضعف قول من قال: إنه الإسلام بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت وتقررت فذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كن على هذه الحالة المتقدمة من الإيمان فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ، وذلك سائغ صحيح، والفاحشة هنا: الزنى بقرينة إلزام الحد، والْمُحْصَناتِ في هذه الآية الحرائر، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل، والرجم لا يتنصف، فلم يرد في الآية بإجماع، ثم اختلف، فقال ابن عباس والجمهور: على الأمة نصف المائة لا غير ذلك، وقال الطبري وجماعة من التابعين: على الأمة نصف المائة ونصف المدة، وهي نفي ستة أشهر، والإشارة بذلك إلى نكاح الأمة، والْعَنَتَ في اللغة: المشقة، وقالت طائفة: المقصد به هاهنا الزنا، قاله مجاهد: وقال ابن عباس: ما ازلحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قريبا، قال: والْعَنَتَ الزنا، وقاله عطية العوفي والضحاك، وقالت طائفة: الإثم، وقالت طائفة: الحد.
قال القاضي أبو محمد: والآية تحتمل ذلك كله، وكل ما يعنت عاجلا وآجلا. وقوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني عن نكاح- الإماء- قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي وابن عباس رضي الله عنهما، وهذا ندب إلى الترك، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن، وهذه الجملة ابتداء وخبر تقديره: وصبركم خير لكم وَاللَّهُ غَفُورٌ، أي لمن فعل وتزوج.(2/39)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
اختلف النحاة في اللام من قوله: لِيُبَيِّنَ فمذهب سيبويه رحمه الله: أن التقدير «لأن يبين» والمفعول مضمر، تقديره: يريد الله هذا، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن» لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون: اللام نفسها بمنزلة «أن» وهو ضعيف، ونظير هذه اللام قول الشاعر: [الطويل] أريد لأنسى ذكرها وقال بعض النحاة: التقدير إرادتي لأنسى. وَيَهْدِيَكُمْ بمعنى: يرشدكم، لا يتوجه غير ذلك، بقرينة السنن، وال سُنَنَ: الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهيا وأمرا، كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة، والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له، وحسن عَلِيمٌ هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح وحَكِيمٌ أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد:
ذلك على العموم في هؤلاء، وفي كل متبع شهوة، ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور «ميلا» بسكون الياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «ميلا» بفتح الياء.
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس، وقال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.(2/40)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قال القاضي أبو محمد: ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده، وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب والْإِنْسانُ رفع على ما لم يسم فاعله، وضَعِيفاً حال، وقرأ ابن عباس ومجاهد «وخلق الإنسان» على بناء الفعل للفاعل وضَعِيفاً حال أيضا على هذه القراءة، ويصح أن يكون خُلِقَ بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله ضَعِيفاً مفعولا ثانيا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: «تجارة» بالرفع على تمام «كان» وأنها بمعنى: وقع، وقرأت فرقة، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي: «تجارة» بالنصب على نقصان «كان» ، وهو اختيار أبي عبيد.
قال القاضي أبو محمد: وهما قولان قويان، إلا أن تمام «كان» يترجح عند بعض، لأنها صلة «لأن» فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن، وأَنْ في موضع نصب، ومن نصب «تجارة» جعل اسم كان مضمرا، تقديره الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قول الشاعر:
[الطويل] إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أي: إذا كان اليوم يوما، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع. فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة، والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثال ذلك: أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لباد» لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه، وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله. وعَنْ تَراضٍ معناه عن رضا، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين. واختلف أهل العلم في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا، فينجزم حينئذ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما(2/41)
لم يتفرقا إلا بيع الخيار» ، وهو حديث ابن عمر وأبي برزة، ورأيهما- وهما الراويان- أنه افتراق الأبدان.
قال القاضي أبو محمد: والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان، لأنه من صفات الجواهر، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار، وقالا في الحديث المتقدم: إنه التفرق بالقول، واحتج بعضهم بقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النبأ: 130] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق، قال من احتج للشافعي: بل هي فرقة بالأبدان، بدليل تثنية الضمير، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق، قال الشافعي: ولو كان معنى قوله: يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله: البيعان بالخيار، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد، فجاء الإخبار لا طائل فيه، قال من احتجّ لمالك: إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد، فجاء قوله: البيعان بالخيار توطئة لذلك، وإن كانت التوطئة معلومة، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام: «لا يسم الرجل على سوم أخيه، ولا يبع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار ربها حل الصفقة الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد، ألا ترى أنه عليه السلام قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة لا يسم، ولم يقل: لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييرا بإجماع من الأمة، قال من يحتج لمالك رحمه الله: قوله عليه السلام: لا يسم ولا يبع، هي درجة واحدة كلها قبل العقد، وقال: لا يبع تجوزا في لا يسم، إذ ماله إلى البيع، فهي جميعا بمنزلة قوله: لا يخطب، والعقد جازم فيهما جميعا.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكيين: المتساومان بالخيار ما لم يعقدا، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما، فإنه لا يبطل الخيار فيه، ومعناه عند الشافعيين: المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قرأ الحسن «ولا تقتّلوا» على التكثير، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك، فقال عطاء: ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي، وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ وقال الطبري: ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً(2/42)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
[النساء: 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها، إلا قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً والعدوان: تجاوز الحد، ونُصْلِيهِ معناه: نمسه حرها، كما تعرض الشاة المصلية، أي نحرقه بها، وقرأ الأعمش والنخعي، «نصليه» بفتح النون، وقراءة الجمهور بضم النون على نقل صلى بالهمز، وقراءة هذين على لغة من يقول: صليته نارا، بمعنى أصليته، وحكى الزجّاج أنها قد قرئت «نصلّيه» بفتح الصاد وشد اللام المكسورة ويسير ذلك على الله عز وجل، لأن حجته بالغة، وحكمه لا معقب له.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
تَجْتَنِبُوا معناه: تدعون جانبا، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير» وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر» و «يدخلكم» على علامة الغائب، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم» بزيادة «من» وقرأ السبعة سوى نافع «مدخلا» بضم الميم، وقرأ نافع: «مدخلا» بالفتح وقد رواه أيضا أبو بكر عن عاصم هاهنا وفي الحج، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في مُدْخَلَ ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] أنهما بضم الميم، قال أبو علي: «مدخلا» بالفتح يحتمل أن يكون مصدرا، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر، التقدير: ويدخلكم فتدخلون مدخلا، ويحتمل أن يكون مكانا، فيعمل فيه الفعل الظاهر، وكذلك يحتمل «مدخلا» بضم الميم للوجهين، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف، تقديره: ويدخلكم الجنة، واختلف أهل العلم في «الكبائر» ، فقال علي بن أبي طالب: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وذكر كقول علي، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [محمد: 25] ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات، الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقال عبد الله بن عمر: هي تسع «الإشراك بالله، والقتل، والفرار، والقذف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق» قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي: هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي إِنْ تَجْتَنِبُوا وقال عبد الله بن مسعود: هي أربع أيضا الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي أيضا عن ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط، واليأس، والأمن المتقدمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره: «الكبائر» كل ما(2/43)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك، وقالت فرقة من الأصوليين: هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال، وقال رجل لابن عباس: أخبرني عن الكبائر السبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب، وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبير، فهنا يدخل الزنا، وشرب الخمر، والزور، والغيبة، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها، بل ذكر بعضها مثالا، وعلى هذا القول أئمة الكلام: القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما: قالوا: وإنما قيل: صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي، بالجميع واحد، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم، عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله. واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث، وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء، والمشيئة ثابتة، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها: قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] وكَرِيماً يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب، كما تقول: ثوب كريم، وكريم المحتد، وهذه آية رجاء، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا، قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا الآية، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48 و 116] ، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
[النساء: 110] وقوله أيضا: يُضاعِفْها [النساء: 40] وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 152] .
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء، كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله، فهذا نهي عن كل تمنّ لخلاف حكم شرعي، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، إذ هذا هو الحسد بعينه، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال(2/44)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنّ زوال حاله، وهذا في نعم الدنيا، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل» وفي غير موضع، ولقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية قال قتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف، ولفظة الاكتساب ترد عليه ردا بينا، ولكنه يتركب على قول النساء: ليتنا ساوينا الرجال في الميراث، فكأنه قيل بسببهن: لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه، وقالت فرقة:
معناه من الأجر والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به، لاختيار ترونه أنتم، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيبا من الأجر والفضل، بحسب اكتسابه فيما شرع له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول هو الواضح البيّن الأعم، وقالت فرقة: معناه: لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كقول الذي قبله، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا» بالهمز وسكون السين، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا» ألقيا حركة الهمزة على السين، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] فإنهم أجمعوا على الهمز فيه، قال سعيد بن جبير، وليث بن أبي سليم: هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وقوله: وَسْئَلُوا يقتضي مفعولا ثانيا، فهو عند بعض النحويين في قوله:
مِنْ فَضْلِهِ التقدير واسألوا الله فضله، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من» في الواجب، والمفعول عنده مضمر، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيرا أو حظا من فضله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الأصح، ويحسن عندي أن يقدر المفعول- أمانيكم، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير، وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً معناه: أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام، فلا تعارضوا بثمن ولا غيره، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء، والآية لا تناقض ذلك، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 33 الى 34]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)(2/45)
«كل» إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر، فهي بمثابة قبل وبعد، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل، على حد قبل وبعد، فالمقدر هنا على قول فرقة، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء» يعني التركة، والمولى في كلام العرب: لفظة يشترك فيها القريب القرابة، والصديق، والحليف، والمعتق، والمعتق، والوارث، والعبد، فيما حكى ابن سيده، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد» ، وعلى تأويل، «ولكل شيء» وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم: أن «الموالي» العصبة والورثة، قال ابن ابن زيد: لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها، وذلك في قول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ [الأحزاب: 5] .
قال القاضي أبو محمد: وقد سمي قوم من العجم ببني العم، ومِمَّا متعلقة «بشيء» ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد» بفعل مضمر تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من» ب مَوالِيَ، وقوله: وَالَّذِينَ رفع بالابتداء والخبر في قوله: فَآتُوهُمْ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «عاقدت» على المفاعلة أي إيمان هؤلاء عاقدت أولئك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقدت» بتخفيف القاف على حذف مفعول، تقديره: عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم، وقرأ حمزة في رواية علي ابن كبشة عنه، «عقّدت» مشددة القاف، واختلف المتأولون في من المراد ب الَّذِينَ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم: هم الأحلاف، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية، ثم نسخه بآية الأنفال وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وقال ابن عباس أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم.
قال القاضي أبو محمد: وورد لابن عباس: أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فنزلت الآية في ذلك ناسخة، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة، أو من المال على جهة الندب في الوصية، وقال سعيد بن المسيب: هم الأبناء الذين كانوا يتبنون، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث، وقال ابن عباس أيضا: هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث، وروي عن الحسن: أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له.(2/46)
قال القاضي أبو محمد: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان، وشَهِيداً معناه: أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة.
وقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ الآية، قوام فعال: بناء مبالغة، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما» في قوله: بِما فَضَّلَ اللَّهُ مصدرية، ولذلك استغنت عن العائد، وكذلك بِما أَنْفَقُوا والفضيلة: هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه، والإنفاق: هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات، وقيل: سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تلطمه كما لطمها، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال: أردت شيئا وما أراد الله خير، وفي طريق آخر أردت شيئا وأراد الله غيره، وقيل: إن في هذا الحكم المردود نزلت وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم، أي: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة. والصلاح في قوله فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدين، و «والقانتات» معناه: مطيعات، والقنوت الطاعة، ومعناه لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، وغير ذلك، وقال الزجّاج: إنها الصلاة، وهذا هنا بعيد ولِلْغَيْبِ معناه: كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ» وهذا بناء يختص بالمؤنث، وقال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا، وبِما حَفِظَ اللَّهُ الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الله» بالنصب على إعمال حَفِظَ فأما قراءة الرفع «فما» مصدرية تقديره: يحفظ الله، ويصح أن تكون بمعنى «الذي» ويكون العائد الذي في حَفِظَ ضمير نصب ويكون المعنى أما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وأما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإرادته وبقدره، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله، فالأولى أن تكون «ما» بمعنى «الذي» وفي حَفِظَ ضمير مرفوع، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظ الله في أوامره حين امتثلنها، وقيل: يصح أن تكون «ما» مصدرية، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر، كما قال [الأعشى] : [المتقارب] فإنّ الحوادث أودى بها يريد أودين، والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلنه، وقال ابن جني: الكلام على حذف مضاف تقديره: بما حفظ دين الله وأمر الله، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن» .(2/47)
وَاللَّاتِي في موضع رفع بالابتداء والخبر فَعِظُوهُنَّ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن، كقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة: 38] على قراءة من قرأها بالنصب، قال سيبويه: النصب القياس، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم، وحكي عن سيبويه: أن تقدير الآية عنده: وفيما يتلى عليكم اللاتي. قالت فرقة معنى تَخافُونَ تعلمون وتتيقنون، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن:
ولا تدفنّني بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وقالت فرقة: الخوف هاهنا على بابه في التوقع، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف، «والنشوز» : أن تتعرج المرأة وترتفع في خلقها، وتستعلي على زوجها، وهو من نشز الأرض، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى: [الطويل]
تجلّلها شيخ عشاء فأصبحت ... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشصا
وفَعِظُوهُنَّ معناه: ذكروهن أمر الله، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع» ، وهو واحد يدل على الجمع، واختلف المتأولون في قوله: اهْجُرُوهُنَّ فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن، وجعلوا فِي للوعاء على بابها دون حذف، قال ابن عباس: يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، وقال مجاهد: جنبوا مضاجعتهن، فيتقدر على هذا القول حذف تقديره:
واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير: هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره: واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها، وقال ابن عباس أيضا:
معناه وقولوا لهن هجرا من القول، أي إغلاظا، حتى يراجعن المضاجع، وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد، وقال الطبري: معناه اربطوهن بالهجار، كما يربط البعير به، وهو حبل يشد به البعير، فهي في معنى اضربوهن ونحوها، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال، وفي كلامه في هذا الموضع نظر، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح» وقال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال بالشراك ونحوه، وروي عن ابن شهاب أنه قال: لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تجاوز، قال غيره: إلا في النفس والجراح، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وتَبْغُوا معناه تطلبوا وسَبِيلًا أي إلى الأذى، وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن بغير واجب بعد تقدير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعمل أحد على امرأته، فالله بالمرصاد، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد» .(2/48)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا، لأنها إما طائعة، وإما ناشزة، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية، وإما من يحتاج إلى الحكمين، واختلف المتأولون أيضا في الخوف هاهنا حسب ما تقدم، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف، و «الشقاق» : مصدر شاق يشاق، وأجري «البين» مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر، واختلف من المأمور ب «البعثة» ، فقيل: الحاكم، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين، وتعاضدت عنده الحجج، واقترنت الشبه، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة، وقيل: المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين، وهذا في مذهب مالك، والأول لربيعة وغيره، واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فقال الطبري: قالت فرقة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: ينظر الحكمان فى الإصلاح، وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما، وقالت فرقة: ينظر الحكمان في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك، وأنه وكل الحكمين على الفرقة، وأنها للإمام، وذلك وهم من أبي إسحاق، واختلف المتأولون في من المراد بقوله:
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً فقال مجاهد وغيره: المراد الحكمان، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما، وقالت فرقة: المراد الزوجان، والأول أظهر، وكذلك الضمير في بَيْنِهِما، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزوجين، والاتصاف ب «عليم خبير» يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
«الواو» لعطف جملة الكلام على جملة غيرها، والعبادة: التذلل بالطاعة، ومنه طريق معبد، وبعير معبد، إذا كانا معلمين، وإِحْساناً نصب على المصدر، والعامل فعل مضمر تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون(2/49)
والإنفاق إذا احتاجا واجب، وسائر ذلك من وجوه البر والإلطاف وحسن القول، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أباك، ثم الأقرب فالأقرب، وفي رواية: ثم أدناك أدناك، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان» بالرفع، و «ذو القربى» : هو القريب النسب من قبل الأب والأم، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها، وَالْيَتامى: جمع يتيم، وهو فاقد الأب قبل البلوغ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة، وَالْمَساكِينِ: المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة، وجاهروا بالسؤال، واختلف في معنى الْجارِ ذِي الْقُرْبى وفي معنى الْجُنُبِ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم: الجار ذو القربى هو الجار القريب النسب، وَالْجارِ الْجُنُبِ هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه، وقال نوف الشامي: الجار ذو القربى هو الجار المسلم، وَالْجارِ الْجُنُبِ هو الجار اليهودي أو النصراني، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر، وقالت فرقة: الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك، وكأن هذا القول منتزع من الحديث، قالت عائشة، يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا، واختلف الناس في حد الجيرة، فقال الأوزاعي: أربعون دارا من كل ناحية جيرة، وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جاره، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوج كما قال الأعشى: [الطويل] أيا جارتي بيني وبعد ذلك الجيرة الخلط، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
سائل مجاور جرم هل جنيت لها ... حربا تفرّق بين الجيرة الخلط
وحكى الطبري عن ميمون بن مهران: أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب، وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى» بنصب الجار، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في الْجارِ الْجُنُبِ: إنها زوجة الرجل وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجنب» بفتح الجيم وسكون النون، والْجُنُبِ في هذه الآية معناه. البعيد، والجنابة البعد، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى: [الطويل]
أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
ومنه قول الآخر، وهو علقمة بن عبدة: [الطويل]
فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الشيء جانبا، وسئل أعرابي عن الْجارِ الْجُنُبِ، فقال: هو الذي(2/50)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه، قال أبو علي: جنب صفة كناقة أجد، ومشية سجح، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب، وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك: الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي: الصاحب بالجنب الزوجة، وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة فقطع قضيبين، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج، فقال له الرجل: كنت يا رسول الله أحق بهذا، فقال له: يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار، وقال المفسرون طرّا: ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي عليه السلام: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي: ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه
أن ينسب إليه، وذكر الطبري أن مجاهدا فسره بأنه المار عليك في سفره، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول واحد، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد العبيد الأرقاء، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزا والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها، ويغني عن ذلك اشتهارها، ومعنى لا يُحِبُّ في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر، يقال خال الرجل يخول خولا إذا تكبر وأعجب بنفسه، وأنشد الطبري: [المتقارب]
فإن كنت سيّدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
قال القاضي أبو محمد: ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا، وقال أبو رجاء الهروي: لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا، والفخر عد المناقب تطاولا بذلك.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 39]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)(2/51)
قالت فرقة الَّذِينَ في موضع نصب بدل من مِنْ، في قوله مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء: 36] ومعناه على هذا: «يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس» يعني إخوانهم، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، يعني: من الرزق والمال، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، والآية إذا في المؤمنين، فالمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين، وأما الكافرون فإنه أعد لهم عَذاباً مُهِيناً، ففضل توعد المؤمنين من توعد الكافرين، بأن جعل الأول عدم المحبة، والثاني عَذاباً مُهِيناً، وقالت فرقة: الَّذِينَ- في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره بعد قوله مِنْ فَضْلِهِ معذبون أو مجازون أو نحوه، وقال الزجّاج: الخبر في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] وفي هذا تكلف ما، والآية على هذا كله في كفار، وقد روي: أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه السلام، وبما عندهم من العلم في ذلك، وأمروا الناس بالبخل على جهتين، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم: اجحدوا أمر محمد، وابخلوا به، وبأن قالوا للأنصار: لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتخرون عليهم؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس، وحقيقة «البخل» : منع ما في اليد، والشح: هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس، «وكتمان الفضل» هو على هذا: كتمان العلم، والتوعد بالعذاب المهين لهم، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن «بالبخل» بضم الباء والخاء، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد «بالبخل» بفتح الباء والخاء، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة: بفتح الباء وسكون الخاء، وهي كلها لغات، وَأَعْتَدْنا معناه: يسرنا وأعددنا وأحضرنا، والعتيد: الحاضر، والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية- قال الطبري: الَّذِينَ في موضع خفض عطف على الكافرين، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفا على الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على تأويل: من رآه مقطوعا ورأى الخبر محذوفا، وقال: إنها نزلت في اليهود، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر، وتقديره: بعد اليوم الآخر معذبون، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في اليهود، قال الطبري: وهذا ضعيف، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليسوا كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذا إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان، من حيث لا ينفعهم، وقال الجمهور: نزلت في المنافقين، وهذا هو الصحيح، وإنفاقهم: هو ما كانوا يعطون من زكاة، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، «رياء» ودفعا عن أنفسهم، لا إيمانا بالله، ولا حبا في دينه وَرِئاءَ نصب على الحال من الضمير في يُنْفِقُونَ والعامل يُنْفِقُونَ، ويكون قوله: وَلا يُؤْمِنُونَ في الصلة، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة، وحكى المهدوي: أن الحال تصح أن تكون من الَّذِينَ فعلى هذا يكون وَلا يُؤْمِنُونَ مقطوعا ليس من الصلة،(2/52)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
والأول أصح، وما حكى المهدوي ضعيف، ويحتمل أن يكون وَلا يُؤْمِنُونَ في موضع الحال، أي: غير مؤمنين، فتكون الواو واو الحال. و «القرين» : فعيل بمعنى فاعل، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد، والإنسان كله يقارنه الشيطان، لكن الموفق عاص له، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان، وقيل للحبل الذي يشدان به: قرن، قال الشاعر: [البسيط]
كمدخل رأسه لم يدنه أحد ... بين القرينين حتّى لزّه القرن
فالمعنى: ومن يكن الشيطان له مصاحبا وملازما، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته، وقَرِيناً نصب على التمييز، والفاعل ل «ساء» مضمر، تقديره ساء القرين قرينا، على حد بئس، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] وذلك مردود، لأن بَدَلًا حال، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ «ما» رفع بالابتداء، و «ذا» صلة، وعَلَيْهِمْ خبر الابتداء، التقدير:
وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون «ما» اسما بانفرادها، و «ذا» بمعنى «الذي» ابتداء وخبر، وجواب «لو» في قوله: ماذا فهو جواب مقدم.
قال القاضي أبو محمد: وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له، وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقا وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً إخبار يتضمن وعيدا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
مِثْقالَ مفعال من الثقل، و «الذرة» : الصغيرة الحمراء من النمل، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى، تقول العرب: أفعى جارية، وهي أشدها، وقال امرؤ القيس:
[الطويل]
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا
فالمحول الذي أتى عليه حول. وقال حسان: [الخفيف]
لو يدبّ الحوليّ من ولد ألذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء» ، وهي عبارة فاسدة، وروي عن ابن عباس:
«الذرة» رأس النملة، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة» ومِثْقالَ مفعول ثان ل يَظْلِمُ، والأول مضمر التقدير، أن الله لا يظلم أحدا مثقال ويَظْلِمُ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وإنما عدي هنا(2/53)
إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين، كأنه قال: إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب، ويصح أن يكون نصب مِثْقالَ على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي، فيجيء على هذا نعتا لمصدر محذوف، التقدير: إن الله لا يظلم ظلما مثقال ذرة، كما تقول: إن الأمير لا يظلم قليلا ولا كثيرا، أي لا يظلم ظلما قليلا ولا كثيرا، فعلى هذا وقف يَظْلِمُ على مفعول واحد، وقال قتادة عن نفسه، ورواه عن بعض العلماء، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا جميعا، وحذفت النون من «تكن» لكثرة الاستعمال، وشبهها خفة بحروف المد واللين، وقرأ جمهور السبعة «حسنة» بالنصب على نقصان «كان» واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة، وقرأ نافع وابن كثير «حسنة» بالرفع على تمام «كان» التقدير: وإن تقع حسنة أو توجد حسنة، ويُضاعِفْها جواب الشرط، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها» مشددة العين بغير ألف، قال أبو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان، وقرأ الحسن «يضعفها» بسكون الضاد وتخفيف العين، ومضاعفة الشيء في كلام العرب: زيادة مثله إليه، فإذا قلت: ضعفت، فقد أتيت ببنية التكثير، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز: أن «ضاعفت» يقتضي مرارا كثيرة، وضعفت يقتضي مرتين، وقال مثله الطبري ومنه نقل، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرئ به في قوله فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] فإنه قرئ «يضاعفه ويضعفه» وما قرئ به في قوله تعالى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] فإنها قرئ «يضعف لها العذاب ضعفين» وقال بعض المتأولين: هذه الآية خص بها المهاجرون، لأن الله أعلم في كتابه: أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار، وأعلم في هذه:
أنها مضاعفة مرارا كثيرة جدا حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين، حسبما روى عبد الله بن عمر: أنها لما نزلت مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] في الناس كافة، قال رجل: فما للمهاجرين؟ فقال ما هو أعظم من هذا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية فخصوا بهذا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة، ولا يقع تضاد في الخبر، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع المؤمنين، وروي في ذلك أحاديث، وهي: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادي هذا فلان بن فلان، فمن كان له عنده حق فليقم قال: فيحب الإنسان أن لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف، ولا يبقى له إلا وزن الذرة، فيقول الله تعالى:
أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره، والآية تعم المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد، وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم، ولَدُنْهُ معناه من عنده، قال سيبويه:
ولدن: هي لابتداء الغاية، فهي تناسب أحد مواضع من، ولذلك التأما ودخلت مِنْ عليها، والأجر العظيم: الجنة، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد، والله إذا منّ بتفضله بلغ بعبده الغاية.(2/54)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و «كيف» في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية: ترى حالهم، أو يكونون، أو نحوه، وقال مكي في الهداية:
جِئْنا عامل في «كيف» ، وذلك خطأ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي، كسؤال اللوح المحفوظ، ثم إسرافيل ثم جبريل، ثم الأنبياء، فليست هذه آيته، وإنما آيته لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ويَوْمَئِذٍ ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم» في هذا الموضع على الظرف، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة، و «الود» إنما هو في ذلك اليوم، وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى» بتشديد السين والواو على إدغام التاء الثانية من تتسوى، وقرأ حمزة والكسائي «تسّوّى» بتخفيف السين وتشديد الواو، على حذف التاء الثانية المذكورة، وهما بمعنى واحد، واختلف فيه، فقالت فرقة: تنشق الأرض فيحصلون فيها ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كآبائهم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر، وما جرى مجراه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تسوى» على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين، قال أبو علي: إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى» حسنة، قالت طائفة: معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس، وقال فيه: إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر،(2/55)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
وقالت طائفة: مثل القول الأول، إلا أنها قالت: إنما استأنف الكلام بقوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ليخبر عن أن الكتم لا ينفع، وإن كتموا، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم، فمعنى ذلك:
وليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم.
قال القاضي أبو محمد: الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه، وقالت طائفة: الكلام كله متصل، ومعناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ويودون أن لا يكتموا الله حديثا، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقالت طائفة: هي مواطن وفرق، وقالت طائفة: معنى الآية: يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضا، كما تقول: وددت أن أعزم كذا، ولا يكون كذا على جهة الفداء، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض، والرَّسُولَ في هذه الآية: للجنس، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: «وعصوا الرسول» بكسر الواو من عَصَوُا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر: أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف، فحضرت الصلاة، فتقدمهم علي بن أبي طالب، فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] فخلط فيها، بأن قال:
«أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد» ، فنزلت الآية، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر، إلا الضحاك، فإنه قال: إنما المراد سكر النوم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والخطاب لجميع الأمة الصالحين، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، على ما ذهب إليه بعض الناس، وقرأت فرقة سُكارى جمع سكران، وقرأت فرقة «سكرى» بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش: «سكرى» بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى، وقرأ النخعي «سكرى» بفتح السين. قال أبو الفتح: هو تكسير سكران على سكارى، كما قالوا: روبى نياما وكقولهم:(2/56)
هلكى وميدى في جمع هالك ومائد، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى، وأما «سكرى» بضم السين فصفة لواحدة، كحبلى. والسكر انسداد الفهم، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه، وقالت طائفة: الصَّلاةَ هنا العبادة المعروفة، حسب السبب في نزول الآية، وقالت طائفة: الصَّلاةَ هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.
قال القاضي أبو محمد: وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل، ويظهر من قوله: حَتَّى تَعْلَمُوا أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره: إن السكران لا يلزمه طلاقه، فأسقط عنه أحكام القول، لهذا ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت؟ فمعناه: أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار.
قال القاضي أبو محمد: وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم، ويحكم عليه حكم العالم، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين، وأما أحكام الجنايات، فهي كلها لازمة للسكران وَأَنْتُمْ سُكارى ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال، وحكي عن ابن فورك أنه قال: معنى الآية النهي عن السكر، أي لا يكن منكم سكر، فيقع قرب الصلاة، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأبا، والظاهر أن الأمر ليس كذلك، وقد روي: أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون أثر الصبح وأثر العتمة، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون، وقوله: وَلا جُنُباً عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان، هذا قول جمهور الأمة، وروي عن بعض الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وهو من الجنابة، وهي: البعد، كأنه جانب الطهر أو من الجنب، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنبا، وقرأت فرقة «جنبا» بإسكان النون، و «عابري سبيل» هو من العبور أي: الخطور والجواز، ومنه: عبر السفينة النهر، ومنه: ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة أي تعبرها بسرعة السير. قال الشاعر: وهي امرأة: [الكامل]
عيرانة سرح اليدين شملّة ... عبر الهواجر كالهزفّ الخاضب
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل هو المسافر، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم: عابر السبيل الخاطر في المسجد، وهو المقصود في الآية، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى، وروى بعضهم: أن سبب الآية: أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد، فنزلت الآية في ذلك، ثم نزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخر الآية، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين أقام على التماس العقد، هكذا قال الجمهور، وقال النخعي: نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، ذكر النقاش: أن ذلك(2/57)
نزل بعبد الرحمن بن عوف، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به، وهذا يتيمم بإجماع، إلا ما روي عن عطاء: أنه يتطهر وإن مات، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة، والذي يخاف بطء برء، فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول، وإما خوف ما ذكرناه. وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم، وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور، والمحصوب، والعلل المخوفة عليها من الماء، والمسافر في هذه الآية: هو الغائب عن الحضر، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء، وقال الشافعي في كتاب الأشراف: وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير، وهذا ضعيف.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قالت فرقة: لا يتيمم في سفر معصية، وهذا أيضا ضعيف، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه، وإما خوف على الرحل بسبب طلبه، وإما خوف سباع أو إذاية عليه، واختلف في وقت إيقاعه التيمم، فقال الشافعي: في أول الوقت، وقال أبو حنيفة وغيره: في آخر الوقت، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت، والجاهل بأمره جملة، وقال إسحق بن راهويه: لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله، وقالت طائفة: يخرج من طلبه الغلوتين ونحوهما، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال، وقال الشافعي: يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وأصل الْغائِطِ ما انخفض من الأرض، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه، وقرأ قتادة والزهري «من الغيط» ساكنة الياء من غير ألف، قال ابن جني: هو محذوف من فيعل، عين هذه الكلمة واو، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى، واختلف الناس في حصرها، وأنبل ما اعتقد في ذلك: أن أنواع الأحداث ثلاثة، ما خرج من السبيلين معتاد، وما أذهب العقل، واللمس، هذا على مذهب مالك، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد، ولا يراعى المخرج ولا غيره، ولا يعد اللمس فيها. وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، والإجماع من الأحداث على تسعة، أربعة من الذكر، وهي البول والمني والودي والمذي، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض، واثنان من الدبر، وهما الريح والغائط، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعا، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم لامَسْتُمُ وقرأ حمزة والكسائي «لمستم» وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، إذ في جميع ذلك لمس، واختلف أهل العلم في موقعها هنا. فمالك رحمه الله يقول: اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، لأن اللمس نقض وضوءه، وقالت طائفة: هي هنا مخصصة للمس اليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء، ولا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن(2/58)
مسعود وغيرهما، وقال أبو حنيفة: هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع، فالجنب يتيمم، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث، ولا هو ناقض لوضوء، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه، ومالك رحمه الله يرى: أن اللمس ينقض إذا كان للذة، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة، ولا إذا كان لابنة أو لأم، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة النِّساءَ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، واختلف فيه، فقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا قول ضعيف، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج، وقالت طائفة: يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا، وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة، ونحو هذا، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله، وقيل لأشهب: أيشتري القربة بعشرة دراهم؟ فقال ما أرى ذلك على الناس.
قال القاضي أبو محمد: وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه، ويترتب أيضا عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط، وهذا هو الذي يقال فيه: إنه لم يجد ماء ولا ترابا، كما ترجم البخاري، ففيه أربعة أقوال، فقال مالك وابن نافع: لا يصلي ولا يعيد، وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد، وقال أشهب: يصلي ولا يعيد، وقال أصبغ: لا يصلي ويقضي، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة: إنه يتيمم ولا يعيد، وقال: إنه يعيد، وفي الواضحة وغيرها عنه: أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس. وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة، فقيل: يعيد، وقيل: لا يعيد، ومعنى قوله فَتَيَمَّمُوا في اللغة: اقصدوا، ومنه قول امرئ القيس [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي
ومنه قول أعشى بني ثعلبة: [المتقارب]
تيمّمت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن
ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، قاله الخليل وغيره، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنّه بالضّحى ترمي الصّعيد به ... دبّابة في عظام الرّأس خرطوم
واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب، فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة، وجعلت «الطيب» بمعنى الطاهر، وهذا مذهب مالك، وقالت طائفة منهم: «الطيب» بمعنى الحلال، وهذا في هذا الموضع قلق، وقال الشافعي وطائفة: «الطيب» بمعنى المنبت، كما قال جل ذكره وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ [الأعراف: 58] فيجيء الصعيد على هذا التراب، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه، فمكان الإجماع: أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب، ومكان الإجماع في المنع: أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف،(2/59)
أو الفضة والياقوت والزمرد، أو الأطعمة، كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات- واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع، وهو مذهب الشافعي، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد، ومنعا، وأجيز المعدني ومنع الجامد، والثلج في المدونة جوازه، ولمالك في غيرها منعه، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان:
أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ بحت من جهات، وأما التراب المنقول في طبق وغيره، فجمهور المذهب جواز التيمم به، وفي المذهب المنع، وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان، الإجازة والمنع، وفي التيمم على الجدار الخلاف، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك، فالجمهور على منع التيمم على العود، وفي مختصر الوقار: أنه جائز، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد» اختلافا: أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية، وأن «الصعيد» التراب، وأنه وجه الأرض.
وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين، وبه قال الجمهور، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين، وقاله بعض أهل العلم: قياسا على تنكيس الوضوء، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب، ويتتبعه كما يصنع بالماء، وأن لا يقصد ترك شيء منه، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين، وما بين الأصابع في اليدين، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة. ومذهب مالك في المدونة: أن التيمم بضربتين، وقال ابن الجهم: التيمم واحدة، وقال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة أجزاه، وقال غيره في المذهب: يعيد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبدا، وقال مالك في المدونة: يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى، ثم يمر كذلك إلى المرفق، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن، حتى يصل إلى الكوع. ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة، قال ابن حبيب: يمر بعد ذلك كفيه، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف، قال اللخمي: في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيرا، وقالت طائفة: يبدأ بالشمال كما في المدونة، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ، مشى على الكف، ثم كذلك باليمنى في اليسرى، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعا، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره، وقالت طائفة: يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة، وقال مالك في المدونة: يمسح يديه إلى المرفقين، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبدا، قال غيرهما: في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر، وهو قول الشعبي، وقال ابن شهاب: يمسح إلى الآباط، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم: إنك لمباركة، نزلت فيه رخصة، فضربنا ضربة لوجوهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط، وفي مصنف أبي داود عن الأعمش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسح إلى(2/60)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
أنصاف ذراعيه، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت، وما حكي الداودي من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق، وعمم جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع، إذ هو حكم شرعي وتطهير، كما هذا تطهير، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين، يجب ولا يجب.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
الرؤية في قوله أَلَمْ تَرَ من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، وقال قوم: معناه «ألم تعلم» وقال آخرون: «ألم تخبر» ، وهذا كله يتقارب، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر، والمراد ب الَّذِينَ: اليهود، قاله قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي، وأُوتُوا أعطوا، و «النصيب» الحظ، والْكِتابِ: التوراة والإنجيل، وإنما جعل المعطى نصيبا في حق كل واحد منفرد، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه، ويَشْتَرُونَ عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان، فكأنه أخذ وإعطاء، هذا قول جماعة، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، معناه أن تكفروا، وقرأ النخعي، «وتريدون أن تضلوا» ، بالتاء منقوطة من فوق في تريدون.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وما بعدها، تقتضي توبيخا للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود، في سؤال عن دين، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك، وهذا بيّن في ألفاظها، فمن ذلك، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم، وتحسبوهم غير أعداء، والله أعلم بهم، وقوله:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ خبر في ضمنه التحذير منهم، وبالله، في قوله: وَكَفى بِاللَّهِ في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر، أي اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك، وَلِيًّا فعيلا، ونَصِيراً كذلك، من الولاية والنصر.
وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال بعض المتأولين مِنَ راجعة على الَّذِينَ الأولى، فهي على هذا متعلقة ب تَرَ، وقالت طائفة، هي متعلقة ب نَصِيراً والمعنى ينصركم من الذين هادوا، فعلى(2/61)
هذين التأويلين لا يوقف في قوله: نَصِيراً وقالت فرقة: هي لابتداء الكلام، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون، هذا مذهب أبي علي، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الوافر]
كأنك من جمال أبي أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشنّ
وقال الفراء وغيره: تقديره من، ومثله قول ذي الرمة: [الطويل]
فظلّوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يثني دمعة العين باليد
فعلى هذا التأويل يوقف في قوله: نَصِيراً وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، وهادُوا مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول، ذكر هذه كلها الخليل، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة، و «تحريف الكلم» على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور، وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: كلام النبي محمد عليه السلام، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل، وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام بالألف، ومن جعل «من» متعلقة «بنصيرا» جعل «يحرفون» في موضع الحال، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون» صفة، وقوله تعالى عنهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه، ومُسْمَعٍ لا يتصرف إلا من أسمع، وغَيْرَ مُسْمَعٍ يتخرج فيه معنيان: أحدهما غير مأمور وغير صاغر، كأنه قال: غير أن تسمع مأمورا بذلك، والآخر على جهة الدعاء، أي لا سمعت، كما تقول: امض غير مصيب، وغير ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع، أرادت في الباطن الدعاء عليه، وأرت ظاهرا أنها تريد تعظيمه، قال نحوه ابن عباس وغيره، وكذلك راعِنا كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه معنى المراعاة، فهذا معنى «ليّ اللسان» ، فقال الزجّاج: كانوا يريدون: اجعل سمعك لكلامنا مرعى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ومن قال: غَيْرَ مُسْمَعٍ غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد، ولَيًّا أصله لويا، قلبت الواو ياء وأدغمت. وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي توهينا له وإظهارا للاستخفاف به قال القاضي أبو محمد: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ الآية، المعنى: لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، واختلف المتأولون في قوله، وَانْظُرْنا فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما: معناه انتظرنا، بمعنى: أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، وهذا كما قال الحطيئة:
وقد نظرتكم إيناء صادرة ... للخمس طال بها مسحي وتنّاسي(2/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
وقالت فرقة: انظر- معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف] :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما تنظر الأراك الظّباء
وَأَقْوَمَ معناه: أعدل وأصوب، «واللعنة» : الإبعاد، فمعناه: أبعدهم من المهدي، وقَلِيلًا:
نعت، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنبت كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، وإذا قدرت الكلام نفرا قليلا، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
هذا خطاب لليهود والنصارى، ولِما مَعَكُمْ معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، و «الطامس» : الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط]
من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: «طمس الوجوه» هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها. وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: «طمس الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته. فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حبث أتوا أولا، وأَصْحابَ السَّبْتِ: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما(2/63)
تقدم، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج:
إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15- 16] ، وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] فلا بد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فصل مجمع عليه، وقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم ردا لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله لِمَنْ يَشاءُ رادا عليهم، موجبا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: «من يشاء» هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذا التائب من الشرك يغفر له.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: لِمَنْ يَشاءُ معناه:
يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له. فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله لِمَنْ يَشاءُ وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به.(2/64)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قال القاضي أبو محمد: وذلك وإن كان مما قد قيل- فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم، لأن الشرك مغفور أيضا لمن شاء الله أن يؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة، قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: 93] والآية مخرجة عنهم لوجوه، منها: أن الأصح في تأويل قوله تعالى مُتَعَمِّداً ما قال ابن عباس: إنه أراد مستحلا، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر، ويدل على ما قال ابن عباس: إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبدا» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
وهل يعمن إلّا سعيد مخلّد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] قال بعض أصحاب النبي عليه السلام: والشرك يا رسول الله، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحا، وهو الاختلاق للعصبية.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم» ، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] وقال الضحاك والسدي: ذلك قولهم: لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر ليلا، وما فعلناه ليلا غفر نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم.
قال المؤلف: وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس: ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا، وقال عبد الله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم.
قال القاضي أبو محمد: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي(2/65)
المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، والضمير في يُزَكُّونَ عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية، وقرأت طائفة «ولا تظلمون» بالتاء على الخطاب، «والفتيل» : هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم: «الفتيل» : الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي:
هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه، ونصبه على مفعول ثان ب يُظْلَمُونَ.
وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن، وكَيْفَ يصح أن يكون في موضع نصب ب يَفْتَرُونَ، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يَفْتَرُونَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك وإِثْماً نصب على التمييز.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ الآية، ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فقال عكرمة وغيره: هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: بِالْجِبْتِ هنا: حيي بن أخطب وَالطَّاغُوتِ: كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما، وقال ابن عباس: بِالْجِبْتِ. الأصنام، وَالطَّاغُوتِ. القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: بِالْجِبْتِ السحر، وَالطَّاغُوتِ: الشيطان، وقاله مجاهد والشعبي، وقال زيد بن أسلم: بِالْجِبْتِ: الساحر، وَالطَّاغُوتِ:
الشيطان، وقال سعيد بن جبير ورفيع: بِالْجِبْتِ: الساحر، والطَّاغُوتِ: الكاهن، وقال قتادة: بِالْجِبْتِ:
الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وقال سعيد بن جبير أيضا: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان، وقال ابن سيرين: بِالْجِبْتِ: الكاهن، وَالطَّاغُوتِ: الساحر، وقال مجاهد في كتاب الطبري: بِالْجِبْتِ: كعب ابن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية: فمجموع هذا يقتضي أن بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ هو كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى، وكذلك قال مالك رحمه الله: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت: هو من لغة الحبشة، وقال قطرب: بِالْجِبْتِ أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما الطَّاغُوتِ فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية سببها، أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف(2/66)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
حين ورد مكة: أنت سيدنا وسيد قومك، إنّا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا آباءنا يعبدون، وهذا الصنبور المنبتر من قومه قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه وأقوم دينا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس: وحكى السدي: أن أبا سفيان خاطب كعبا بهذه المقالة، فالضمير في يَقُولُونَ عائد على كعب على ما تقدم- أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين، و «الذين كفروا» في هذه الآية هم قريش، والإشارة ب هؤُلاءِ إليهم، وأَهْدى: وزنه أفعل وهو للتفضيل، والَّذِينَ آمَنُوا: هم النبي عليه السلام وأمته، وسَبِيلًا نصب على التمييز، وقالت فرقة: بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات، والمشار إليه بقوله أُولئِكَ هم المراد من بني إسرائيل، فمن قال: كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظا ومعنى، ومن قال: هو كعب أو حيي، فعبر عنه بلفظ الجمع، لأنه كان متبوعا، وكان قوله مقترنا بقول جماعة.
ولَعَنَهُمُ معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة، فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
عرف أَمْ أن تعطف بعد استفهام متقدم، كقولك: أقام زيد أم عمرو، فإذا وردت ولم يتقدمها استفهام، فمذهب سيبويه: أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول والقطع منه، وهي مضمنة مع ذلك معنى الاستفهام، فهي بمعنى «بل» مع ألف الاستفهام، كقول العرب: إنها لإبل أم شاء، فالتقدير عند سيبويه، أنها لإبل بل أهي شاء. وكذلك هذا الموضع، تقديره: بل ألهم نصيب من الملك؟ وقد حكي عن بعض النحويين، أن أَمْ يستفهم بها ابتداء دون تقدم استفهام، حكاه ابن قتيبة في المشكل، وهذا غير مشهور للعرب، وقال بعض المفسرين: أَمْ بمعنى بل، ولم يذكروا الألف اللازمة، فأوجبوا على هذا حصول الملك للمذكورين في الآية، والتزموا ذلك وفسروا عليه، فالمعنى عندهم: بل هم ملوك أهل دنيا وعتو وتنعم، لا يبغون غيره، فهم بخلاء به، حريصون على أن لا يكون ظهور لسواهم.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق، أنه استفهام على معنى الإنكار، أي ألهم ملك؟ فإذا لو كان لبخلوا، وقرأ ابن مسعود، «فإذا لا يؤتوا» بغير نون على إعمال «إذا» ، والمصحف على إلغائها، والوجهان جائزان، وإن كانت صدرا من أجل دخول الفاء عليها، والنقير، أعرف ما فيه أنها النكتة التي في ظهر النواة من التمرة، ومن هنالك تنبت، وهو قول الجمهور، وقالت فرقة:(2/67)
هي النقطة التي في بطن النواة، وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقر الإنسان بأصبعه، وهذا كله يجمعه أنه كناية عن الغاية في الحقارة والقلة على مجاز العرب واستعارتها، و «إذا» في هذه الآية ملغاة لدخول فاء العطف عليها، ويجوز إعمالها، والإلغاء أفصح، وذلك أنها إذا تقدمت أعملت قولا واحدا، وإذا توسطت ألغيت قولا واحدا، فإذا دخل عليها وهي متقدمة فاء أو واو جاز إعمالها والإلغاء أفصح وهي لغة القرآن، وتكتب «إذا» بالنون وبالألف، فالنون هو الأصل، كعن ومن، وجاز كتبها بالألف لصحة الوقوف عليها فأشبهت نون التنوين، ولا يصح الوقوف على «عن ومن» .
وقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية، أَمْ هذه على بابها، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا، بل ألهم قد تقدمها، واختلف المتأولون في المراد ب النَّاسَ في هذا الموضع، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك، هو النبي عليه السلام، والفضل النبوة فقط، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك؟ وقال ابن عباس والسدي أيضا: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل ما أبيح له من النساء فقط، وسبب الآية عندهم، أن اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الذي يقول: إنه بعث بالتواضع، وإنه لا يملأ بطنه طعاما، ليس همه إلا في النساء، ونحو هذا، فنزلت الآية، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم؟ صلى الله عليه وسلم يعني سليمان وداود عليهما السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما، في أمر النساء، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة، ونحو هذا من الأخبار الواردة في ذلك، فالملك في هذا القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولا بالذكر، وقال قتادة:
النَّاسَ في هذا الموضع: العرب، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه السلام منها، «والفضل» على هذا التأويل: هو محمد عليه السلام، فالمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم- وهم أسلافهم- أنبياء وكتبا، كالتوراة والزبور، وَحِكْمَةٍ وهي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب، وروي عن ابن عباس أنه قال: «نحن الناس» يريد قريشا، ومُلْكاً عَظِيماً: أي ملك سليمان، قاله ابن عباس: وقال مجاهد: الملك العظيم في الآية هو النبوة، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة: هو التأييد بالملائكة.
قال القاضي أبو محمد: والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم، وقوله تعالى:
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية، اختلف المتأولون في عود الضمير من بِهِ فقال الجمهور: هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] فأعلم الله أن منهم من آمن كما أمر، فلذلك ارتفع الوعيد بالطمس ولم يقع، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة بقوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً وقالت فرقة: الضمير عائد على إبراهيم عليه السلام، وحكى مكي في ذلك قصصا ليست بالثابتة، وقالت فرقة: هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي عليه السلام، أو العرب على ما تقدم.
قال القاضي أبو محمد: قرأت فرقة: «صد» عنه بضم الصاد على بناء الفعل للمفعول، وسَعِيراً معناه: احتراقا وتلهبا، والسعير: شدة توقد النار، فهذا كناية عن شدة العذاب والعقوبة.(2/68)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر، والقراءة المشهورة نُصْلِيهِمْ بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها، وهو معنى صليت بتشديد اللام، وقرأ حميد «نصليهم» بفتح النون من صليت، ومعناه شويت، ومنه الحديث، أتي رسول الله بشاة مصلية، أي مشوية، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهم» بضم الهاء، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود، فقالت فرقة: تبدل عليهم جلود غيرها، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب، وقالت فرقة: «تبديل الجلود» هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا، تأكله النار ويعيده الله دأبا لتجدد العذاب، وإنما سماه «تبديلا» ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد، كما تقول: بدل من خاتمي هذا خاتما وهي فضته بعينها، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات، وقال ابن عمر، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا بيضاء كالقراطيس، وقال الحسن بن أبي الحسن، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة، وقالت فرقة: الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران، سماها جلودا للزومها فصارت كالجلود، وهي تبدل دأبا عافانا الله من عذابه برحمته، حكاه الطبري، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله، ولا يفعل شيئا إلا بحكمة وإصابة، لا إله إلا هو تبارك وتعالى.
ولما ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وقرأ ابن وثاب والنخعي، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك وقد تقدم القول في معنى مِنْ تَحْتِهَا في سورة البقرة ومُطَهَّرَةٌ معناه: من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا وظَلِيلًا معناه: عند بعضهم يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا، فأكده بقوله ظَلِيلًا لذلك، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» .
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)(2/69)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب، وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة.
قال القاضي أبو محمد: فهو للنبي عليه السلام وأمرائه، ثم يتناول من بعدهم، وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه.
فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام: خذه بأمانة الله.
قال القاضي أبو محمد: واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر، زيادة ونقصانا، إلا أنه المعنى بعينه، وقال ابن عباس: الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لموسر ولا معسر أن يمسك الأمانة، ونِعِمَّا أصله نعم ما، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر اتباعا للنون، و «ما» المردفة على «نعم» إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما» في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه، وكقول الشاعر: [الطويل]
وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللّسان من الفم
ونحوه، وفي هذا هي بمنزلة «ربما» وهي لها مخالفة في المعنى، لأن «ربما» معناها: التقليل، و «مما» معناها التكثير، ومع أن «ما» موطئة فهي بمعنى «الذي» وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به.
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء على قول الجمهور: أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر. وعن عبد الله ومجاهد وجماعة: أولو الأمر: أهل القرآن والعلم، فالأمر على هذا التأويل أشار(2/70)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الإشارة هنا ب أُولِي الْأَمْرِ إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة، وفي هذا التخصيص بعد، وحكى بعض من قال: إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر، وأميرها خالد بن الوليد، فقصدوا قوما من العرب، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل. وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد، فدخل إلى عمار فقال: يا أبا اليقظان، إن قومي قد فروا، وإني قد أسلمت، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت، وإلا فررت، فقال له عمار: هو ينفعك، فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله، فجاء عمار فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسب عمارا، فإنه من سب عمارا سبه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، فغضب عمار، فقام فذهب، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا، فأنزل الله عز وجل قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وطاعة الرسول هي اتباع سنته، قاله عطاء وغيره، وقال ابن زيد: معنى الآية وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
قال القاضي أبو محمد: يريد «وسنته» بعد موته، المعنى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها، والرد إلى الله: هو النظر في كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه السلام، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي، وهو الصحيح، وقال قوم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم، فهذا هو الرد، وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بعض وعيد، لأن فيه جزاء المسيء العاتي، وخاطبهم ب إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ وهم قد كانوا آمنوا، على جهة التقرير، ليتأكد الإلزام، وتَأْوِيلًا معناه: مآلا على قول جماعة، وقال مجاهد: أحسن جزاء، قال قتادة والسدي وابن زيد: المعنى أحسن عاقبة، وقالت فرقة:
المعنى أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأولا منكم إذا انفردتم بتأولكم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 61]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
تقول العرب: زعم فلان كذا، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية(2/71)
درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنونا، يقال: «زعم» بفتح الزاي وهو المصدر، «وزعم» بضمها وهو الاسم وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل زعموا» وقد قال الأعشى: [المتقارب]
ونبّئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن
فقال الممدوح: وما هو إلا الزعم وحرمه، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى رتب «زعم» أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر، و «أن» معمولة ل يَزْعُمُونَ.
وقال عامر الشعبي وغيره: نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلا من اليهود، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهنا كان بالمدينة فرضياه، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما، «فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» على محمد هم المنافقون، «والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» من قبله هم اليهود، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، والطَّاغُوتِ هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين، وقال ابن عباس: الطَّاغُوتِ هنا هو كعب بن الأشرف، وهو الذي تراضيا به، فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار، وكعب منهم، وذكر النقاش: أن كعبا هذا أصله من طيىء وتهود، وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية، وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن، فنزلت الآية فيهم، وحكى الزجّاج: أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقضى في أمره، فخرج وقال لخصمه: لا أرضى بحكمه، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما، فقال المنافق: لا أرضى، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا، فقال لهما: اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج، فضرب المنافق حتى برد، وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية.
ويُضِلَّهُمْ معناه: يتلفهم، وجاء ضَلالًا على غير المصدر، تقديره: «فيضلون ضلالا» ، وبَعِيداً عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه.
وقرأ الجمهور «تعالوا» بفتح اللام، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة «تعالوا» بضمة، قال أبو الفتح:
وجهها أن لام الفعل من «تعاليت» حذفت تخفيفا، وضمت اللام التي هي عين الفعل، وذلك لوقوع واو(2/72)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا، وهي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه، سيقت من العلو تحسينا للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، ونحوه، ورَأَيْتَ هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين ف يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال، وإذا كانت رؤية قلب ف يَصُدُّونَ نصب على المفعول الثاني، وصُدُوداً مصدر عند بعض النحاة من صد، وليس عند الخليل بمصدر منه، والمصدر عنده «صدا» وإنما ذلك لأن فعولا إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية. كجلس جلوسا، وقعد قعودا و «صد» فعل متعد بنفسه مرة كما قال: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل: 24- العنكبوت: 38] ، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً وغيره، فمصدره: صد، وصُدُوداً اسم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 62 الى 64]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه، دون مر الحكم وتقصي الحق، وقالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: فَكَيْفَ بهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه إِلَّا إِحْساناً وحقا، نحا إليه الزجّاج، وموضع «كيف» نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعا، تقديره: فكيف صنيعهم.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و «أعرض عنهم» يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله يَحْلِفُونَ وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: وَعِظْهُمْ يمنع من ذلك، وَعِظْهُمْ معناه بالتخويف من عذاب الله، وغيره من المواعظ، والقول البليغ اختلف فيه، فقيل:
هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ، متعلق بقوله: مُصِيبَةٌ وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف.(2/73)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، ولِيُطاعَ، نصب بلام كي، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله بِإِذْنِ ب أَرْسَلْنا، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقها ب «يطاع» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، وتَوَّاباً: معناه راجعا بعباده.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 65 الى 68]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
قال الطبري: قوله: فَلا رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي، وإظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، وشَجَرَ معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، ويُحَكِّمُوكَ نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة، ويَجِدُوا عطف عليه، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حَرَجاً، شكا، وقوله: تَسْلِيماً مصدر مؤكد، منبىء على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: «وعجت عجيجا من جدام المطارف» .(2/74)
وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء، فنزلت الآية، واختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
وكَتَبْنا معناه فرضنا، واقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من أَنِ وكسرها جائز، وكذلك الواو من أَوِ اخْرُجُوا وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، وقَلِيلٌ رفع على البدل من الضمير في فَعَلُوهُ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا» ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير مِنْهُمْ لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتَثْبِيتاً معناه: يقينا وتصديقا ونحو هذا، أي يثبتهم الله، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، و «الصراط المستقيم» : الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.(2/75)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 5] ، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، وحكى مكي عن عبد الله هذا، أنه لما مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمي، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء، و «الصدّيق» فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة. وروي عن النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، والشهداء المقتولون في سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذين فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم. وسموا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، الشُّهَداءِ في هذه الآية يعم أنواع الشهداء، ورَفِيقاً موحد في معنى الجمع، كما قال:
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] ونصبه على التمييز، وقيل على الحال، والأول أصوب، وقرأ أبو السمال، «وحسن» بسكون السين، وذلك مثل شجر بينهم.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ رد على تقدير معترض يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه، والإشارة ب ذلِكَ إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم، وأيضا فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار والمنازل متباينة، ثم قال وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً وفيها معنى أن يقول، فسلموا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله، لتدل على الأمر الذي في قوله:
وَكَفى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)(2/76)
هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه السلام، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية الشرع، وخُذُوا حِذْرَكُمْ، معناه: احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره، وانْفِرُوا معناه: اخرجوا مجدين مصممين، يقال: نفر الرجل ينفر بكسر الفاء نفيرا، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا، وثُباتٍ معناه: جماعات متفرقات، فهي كناية عن السرايا وجَمِيعاً، معناه: الجيش الكثيف مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس وغيره، والثبة:
حكي أنها فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة بفتح العين، أصلها ثبوة، وقيل: ثبية، حذفت لامها بعد أن تحركت وانقلبت ألفا حذفا غير مقبس، ولذلك جمعت ثبون، بالواو والنون عوضا من المحذوف وكسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها، لأن بابها أن تجمع بالتاء أبدا، فيقال: ثُباتٍ، وتصغر ثبية أصلها ثبيوة، وأما ثبة الحوض وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه، فالمحذوف منها العين، وأصلها ثوبة وتصغيرها ثوبية، وهي من ثاب يثوب، وكذلك قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
فلمّا جلاها بالأيام تحيّزت ... ثبات عليها ذلّها واكتئابها
انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل، لأن أصل ثبة ثبوة، تحركت بالواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، فساقها أبو ذؤيب في هذه الحال.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ إِنَّ إيجاب، والخطاب لجماعة المؤمنين، والمراد ب «من» المنافقون، وعبر عنهم ب مِنْكُمْ إذ هم في عداد المؤمنين، ومنتحلون دعوتهم، واللام الداخلة على «من» لام التأكيد، دخلت على اسم إِنَّ لما كان الخبر متقدما في المجرور، وذلك مهيع في كلامهم، كقولك: إن في الدار لزيدا، واللام الداخلة على لَيُبَطِّئَنَّ لام قسم عند الجمهور، تقديره وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ والله لَيُبَطِّئَنَّ وقيل: هي لام تأكيد، ولَيُبَطِّئَنَّ معناه: يبطىء غيره أي يثبطه ويحمله على التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ مجاهد «ليبطئن» بالتخفيف في الطاء، ومُصِيبَةٌ يعني من قتل واستشهاد، وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، أو على أن الموت كله مصيبة كما شاءه الله تعالى، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة لحسن مآلها، وشَهِيداً معناه مشاهدا فالمعنى: أن المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة وذلك يدل على أن تخلفه إنما هو فزع من القتال ونكول عن الجهاد.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ الآية، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة، وقال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً، متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذرا واضحا، وأمرا لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله ورسوله، ثم يتمنى عند ما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ(2/77)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
التفاتة بليغة، واعتراضا بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة، وقرأ الحسن لَيَقُولَنَّ بضم اللام على معنى «من» وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة. ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين وكَأَنْ مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وإنما تجيء بعدها الجمل، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص «تكن» بتاء، وقرأ غيرهما «يكن» بياء، وذلك حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل، وقوله: فَأَفُوزَ نصب بالفاء في جواب التمني، وقرأ الحسن ويزيد النحوي فَأَفُوزَ بالرفع على القطع والاستئناف، التقدير: فأنا أفوز. قال روح: لم يجعل ل «ليت» جوابا. وقال الزجّاج: إن قوله: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة مؤخر. وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 75]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين الذين وصفهم بالجهاد في سبيل الله، ويَشْرُونَ معناه: يبيعون في هذا الموضع، وإن جاء في مواضع: يشترون، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون» ثم وصف الله ثواب المقاتل في سبيل الله، فذكر غايتي حالتيه، واكتفى بالغايتين عما بينهما، وذلك أن غاية المغلوب في القتال أن يقتل، وغاية الذي يقتل ويغنم أن يتصف بأنه غالب على الإطلاق، «والأجر العظيم» : الجنة، وقالت فرقة، «فليقاتل» بسكون لام الأمر، وقرأت فرقة «فليقاتل» بكسرها، وقرأ محارب بن دثار «فيقتل أو يغلب» على بناء الفعلين للفاعل، وقرأ الجمهور نُؤْتِيهِ بالنون، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه» بالياء.
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ اللام متعلقة بما يتعلق بالمستفهم عنه من معنى الفعل، تقديره وأي شيء موجود أو كائن أو نحو ذلك لكم، ولا تُقاتِلُونَ في موضع نصب على الحال، تقديره تاركين أو مضيعين. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم الله تعالى، أي وفي سبيل المستضعفين، وقيل:
عطف على «السبيل» ، أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم، ويعني ب الْمُسْتَضْعَفِينَ من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم لا يستطيعون خروجا، ولا يطيب لهم على الأذى إقامة، وفي هؤلاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم أنج سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج(2/78)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
المستضعفين من المؤمنين» . والْوِلْدانِ بابه أن يكون جمع وليد، وقد يكون جمع ولد كورل وورلان، فهي على الوجهين عبارة عن الصبيان، والقرية هاهنا مكة بإجماع من المتأولين.
قال القاضي أبو محمد: والآية تتناول المؤمنين والأسرى وحواضر الشرك إلى يوم القيامة، ووحد الظالم لأنه موضع اتخاذ الفعل، ألا ترى أن الفعل إنما تقديره الذي ظلم أهلها، ولما لم يكن للمستضعفين حيلة إلا الدعاء، دعوا في الاستنقاذ وفيما يواليهم من معونة الله تعالى وما ينصرهم على أولئك الظلمة من فتح الله تبارك وتعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 76 الى 77]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم، والطَّاغُوتِ كل ما عبد واتبع من دون الله، وتدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك على أن المراد ب الطَّاغُوتِ هنا الشيطان، وإعلامه تعالى بضعف كَيْدَ الشَّيْطانِ تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده، ودخلت كان دالة على لزوم الصفة.
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ؟ فقال ابن عباس وغيره: كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، وقال قوم:
كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضا: إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أمسكوا عن القتال، والفريق: الطائفة من الناس، كأنه فارق غيره. وقوله:(2/79)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن: قوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ترجيح لا قطع، وقوله: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قالت فرقة: أَوْ بمعنى الواو، وفرقة: هي بمعنى «بل» ، وفرقة: هي للتخيير، وفرقة: على بابها في الشك في حق المخاطب، وفرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب.
قال القاضي أبو محمد: وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الآية: 74] أن الموضعين سواء، وقولهم، لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، «والأجل القريب» يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
قُلْ يا محمد لهؤلاء: مَتاعُ الدُّنْيا، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده قَلِيلٌ، لأنه فان زائل وَالْآخِرَةُ التي هي نعيم مؤبد خَيْرٌ لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
المعنى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ جزاء وجوابه. وهكذا قراءة الجمهور، وقرأ طلحة بن سليمان «يدرككم» بضم الكافين ورفع الفعل، قال أبو الفتح: ذلك على تقدير دخول الفاء كأنه قال: فيدرككم الموت، وهي قراءة ضعيفة، وهذا إخبار من الله يتضمن تحقير الدنيا، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل، واختلف المتأولون في قوله: فِي بُرُوجٍ فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، قال قتادة: المعنى في قصور محصنة، وقاله ابن جريج والجمهور، وقال السدي: هي بروج في السماء الدنيا مبنية، وحكى مكي هذا القول عن مالك، وأنه قال: ألا ترى إلى قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، معناه في قصور من حديد.(2/80)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يعطيه اللفظ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها، وبرج معناه ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة، ومُشَيَّدَةٍ قال الزجّاج وغيره: معناه مرفوعة مطولة، لأن شاد الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه، وقالت طائفة: مُشَيَّدَةٍ معناه: محسنة بالشيد، وذلك عندهم أن «شاد الرجل» معناه: جصص بالشيد، وشيد معناه: كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة، كما تقول: كسرت العود مرة، وكسرته في مواضع منه كثيرة مرارا، وخرقت الثوب وخرقته، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة، فعلى هذا يصح أن تقول: شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا أردت المبالغة، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة، ومن هذا المعنى قول الشاعر [عدي بن زياد العبادي] : [الخفيف]
شاده مرمرا وجلّله كل ... سا فللطير في ذراه وكور
والهاء والميم في قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ رد على الذين قيل لهم، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه السلام تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، ومعنى الآية، وإن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا أنه ببركة اتباعك والإيمان بك، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك، قالوا: هذه بسببك، لسوء تدبيرك، كذا قال ابن زيد، وقيل لشؤمك علينا. قاله الزجّاج وغيره، وقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إعلام من الله تعالى، أن الخير والشر، والحسنة والسيئة خلق له ومن عنده، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه، فالمعنى: قل يا محمد لهؤلاء: ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا من عند غيري، بل هو كله من عند الله، قال قتادة: النعم والمصائب من عند الله، قال ابن زيد، النصر والهزيمة، قال ابن عباس: السيئة والحسنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله شيء واحد، ثم وبخهم بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق، والفقه في اللغة الفهم، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين وأموره، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الأحكامية، والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة، لأنك إذا استفهمت عن علة أمر ما، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمنا لطيفا بليغا، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله فَما ووقف الباقون على اللام في قوله: فَما لِ، اتباعا للخط، ومنعه قوم جملة، لأنه حرف جر فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 81]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)(2/81)
قالت فرقة: ما شرطية، ودخلت مِنْ بعدها لأن الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله مِنْ، وقالت فرقة ما بمعنى الذي، ومِنْ لبيان الجنس، لأن المصيب للإنسان أشياء كثيرة: حسنة وسيئة، ورخاء وشدة، وغير ذلك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره داخل في المعنى، وقيل:
الخطاب للمرء على الجملة، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم، القطع واستئناف الإخبار من الله تعالى، بأن الحسنة منه وبفضله، والسيئة من الإنسان بإذنابه، وهي من الله بالخلق والاختراع، وفي مصحف ابن مسعود، «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي عليه السلام معناها، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب، فإنما هي عقوبة ذنوبه. ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] جزع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألست تمرض؟ ألست تسقم؟ ألست تغتم؟
وقال أيضا عليه السلام: «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . ففي هذا بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان، وقالت طائفة: معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] على تقدير حذف يقولون، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، ويجيء القطع على هذا القول من قوله: وَأَرْسَلْناكَ، وقالت طائفة: بل القطع في الآية من أولها، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله وبفضله، وتقدير ما بعده وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، على جهة الإنكار والتقرير، فعلى هذه المقالة ألف الاستفهام محذوقة من الكلام، وحكى هذا القول المهدوي، ورَسُولًا نصب على الحال، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله تعالى، وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ثم تلاه بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً توعد للكفرة، وتهديد تقتضيه قوة الكلام، لأن المعنى شهيدا على من كذبه.
والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بيانا من الله وتبليغا، فإنما هي أوامر الله ونواهيه، وقالت فرقة:
سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبني فقد أحب الله» ، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا: هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه السلام، وتبيينا لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى، وتَوَلَّى معناه أعرض، وأصل تَوَلَّى في المعنى أن يتعدى بحرف، فنقول تولى فلان عن الإيمان، وتولى إلى الإيمان، لأن اللفظة تتضمن إقبالا وإدبارا، لكن الاستعمال غلب عليها في كلام العرب على الإعراض والإدبار، حتى استغني فيها عن ذكر الحرف الذي يتضمنه، وحَفِيظاً يحتمل معنيين، أي ليحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه، أو ليحفظ مساوئهم وذنوبهم ويحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي الإعراض عن من تولى والترك له، وهي قبل نزول القتال وإنما كانت توطئة ورفقا من الله تعالى حتى يستحكم أمر الإسلام.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ الآية نزلت في المنافقين باتفاق من المفسرين، المعنى يقولون لك(2/82)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
يا محمد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك اجتمعوا ليلا وقالوا غير ما أظهروا لك. وبَيَّتَ معناه فعل ليلا، فإما أخذ من بات، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي الأسرار التي يخاف شياعها، ومن ذلك قول الشاعر [الأسود بن يعفر] : [المتقارب]
أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
ومنه قول النمر بن تولب:
هبّت لتعذلني بليل اسمعي ... سفها تبيتك للملامة فاهجعي
المعنى وتقول لي: اسمع، وزيدت الياء إشباعا لتصريع القافية واتباعا للياء، كقول امرئ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي وقوله بأمثل، وقرأ جمهور القراء بَيَّتَ بتحريك التاء، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في الطاء، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد» وقوله: تَقُولُ يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد، ويحتمل، تقول هي لك، ويَكْتُبُ معناه على وجهين، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى يقع الجزاء، وإما يكتبه في كتابه إليك، أي ينزله في القرآن ويعلم بها، قال هذا القول الزجّاج، والأمر بالإعراض إنما هو عن معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم. قال الضحاك: معنى «أعرض عنهم» لا تخبر بأسمائهم، وهذا أيضا قبل نزول القتال على ما تقدم. ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر، و «الوكيل» القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، وليس ما غلب الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب، وهي لفظة رفيعة وضعها الاستعمال العامي، كالعريف والنقيب وغيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
المعنى: هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في صدر نبوتك، ألا يرجعون إلى النصفة. وينظرون موضع الحجة ويتدبرون كلام الله تعالى؟ فتظهر لهم براهينه، وتلوح أدلته، «والتدبر» :
النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله يقتضيه قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وهذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف تعالى بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه، إذ هو كلام المحيط بكل شيء علما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه، وذهب الزجّاج: إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به(2/83)
مما يبيتون اختلافا، أي: فإذ تخبرهم به على حد ما يقع، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب، هذا معنى قوله، وقد بينه ابن فورك والمهدوي.
وقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ الآية، قال جمهور المفسرين: الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه، والمعنى: أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم، وأَذاعُوا بِهِ معناه: أفشوه، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحيانا، تقول أذعت كذا وأذعت به. ومنه قول أبي الأسود: [الطويل]
أذاعوا به في النّاس حتّى كأنّه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
وقالت فرقة: الآية نازلة في المنافقين، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها، ويذيعونها مع من أذاعها، وهم غير متثبتين في صحتها، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: يا بن الخطاب عليك بعيبتك، قال: فدخلت على حفصة فقلت: يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك، ولولا أنا لطلقك، فجعلت تبكي، قال: فخرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له، ورباح مولاه جالس على أسكفة الغرفة، فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليّ وسكت، فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته، فنظر ثم أشار إليّ بيده: أن ادخل، فدخلت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه، وإذا ليس في غرفته.
وهذا التأويل جار مع قول عمر، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسئولون المستنبطون، فأخبروا بعلمهم، وقرأ أبو السمال، «لعلمه» بسكون اللام وذلك مثل «شجر بينهم» ، والضمير في رَدُّوهُ عائد على الأمر، وفي ومِنْهُمْ يحتمل أن يعود على الرَّسُولِ وأُولِي الْأَمْرِ، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها، أي لعلمه البحثة من الناس، وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الآية، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين، والمعنى: ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة- لكنتم على كفركم، وذلك هو اتباع الشيطان. وحكى الزجاج: لولا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله إِلَّا قَلِيلًا مم هو؟ فقال ابن عباس وابن زيد: ذلك مستثنى من قوله: «أذاعوا به إلا قليلا» ، ورجحه الطبري، وقال قتادة: ذلك مستثنى من قوله: «يستنبطونه إلا قليلا» ، وقالت فرقة:(2/84)
ذلك مستثنى من قوله: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا، على سرد الكلام دون تقدير تقديم، ثم اختلفت هذه الفرقة، فقال الضحاك: إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك، ولا عنت له شبهة ارتياب، فذلك هو القليل، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان إلا قبضة من شعير وقبضة من قرظ، وإذا أفيقان معلقان، فبكيت، فقال رسول الله عليه السلام: ما يبكيك يا بن الخطاب؟ فقلت يا رسول الله:
أنت صفوة الله من خلقه ورسوله، وليس لك من الدنيا إلا هذا، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار، فقال أهاهنا أنت يا عمر؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ فقلت: بلى، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم، فقلت يا رسول الله: إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك، فقال: لا، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس؟
قال: افعل إن شئت، قال: فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله في هذه القصة وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ الآية وأنا الذي استنبطته.
وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ الآية، المعنى: لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمور من قبل الرسول. أو أُولِي الْأَمْرِ وهم الأمراء، قاله السدي وابن زيد، وقيل: أهل العلم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما، والمعنى يقتضيهما معا لَعَلِمَهُ طلابه من أُولِي الْأَمْرِ والبحثة عنه وهم مستنبطوه، كما يستنبط الماء وهو النبط أي الماء المستخرج من الأرض. ومنه قول الشاعر:
قريب ثراه ما ينال عدوّه ... له نبطا آبي الهوان قطوب
يعني بالنبط الماء المستنبط.
وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا. هذا خطاب للمؤمنين باتفاق من المتأولين. والمعنى: لولا هداية الله لكم وإرشاده لبقيتم على كفركم، وهو اتباع الشيطان. وقال الضحاك: هدى الكل منهم للإيمان فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية لهم لضلّوا واتبعوا الشيطان.
قال القاضي أبو محمد: هذا معنى قول الضحاك، ويجيء الفضل معينا، أي رسالة محمد والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على الإطلاق، وقال قوم: المخاطب بقوله لَاتَّبَعْتُمُ جميع المؤمنين، وقوله: إِلَّا قَلِيلًا إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، كورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهما، وقال قوم: الاستثناء إنما هو من الاتباع، أي لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ كلكم إِلَّا قَلِيلًا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، وقال قوم: قوله: إِلَّا قَلِيلًا عبارة عن العدم، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم، وهذا الأخير قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن قد ذكره الطبري.
قوله تعالى:(2/85)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 86]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي» ، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله فَقاتِلْ بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض، أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم، وعَسَى إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره: إنها واجبة، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة، ثم قوى بعد ذلك، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله، وأنه أقدر على الكفرة، وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا لهم، التنكيل: الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم.
وقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الآية. أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع، وهو الزوج في العدد، لأن الشافع ثان لوتر المذنب، والشفيع ثان لوتر المشتري، واختلف في هذه الآية المتأولون، فقال الطبري: المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، أو من يشفع وتر الكفر بالمعونة على الإسلام، ودله على هذا التأويل ما تقدم من أمر القتال، وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل، وقال الحسن وغيره: «الشفاعة الحسنة» هي في البر والطاعة، والسيئة هي في المعاصي، وهذا كله قريب بعضه من بعض، «والكفل» النصيب، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر، وفي كتاب الله تعالى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] ومُقِيتاً معناه قديرا، ومنه قول الشاعر، وهو الزبير بن عبد المطلب: [الوافر]
وذي ضغن كففت النّفس عنه ... وكنت على إذايته مقيتا
أي قديرا، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد، بحفيظ وشهيد، وعبد الله بن كثير، بأنه الواصب القيم بالأمور، وهذا كله يتقارب، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت» على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، وذهب مقاتل بن حيان، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام «من يقيت» من أقات وقد حكى الكسائي «أقات» يقيت، فأما قول الشاعر [السموأل بن عادياء] : [الخفيف](2/86)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
ليت شعري وأشعرنّ إذا ما ... قرّبوها مطويّة ودعيت
أإلى الفضل أم عليّ؟ إذا حو ... سبت، إنّي على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى موقوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول.
وقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ الآية. التحية وزنها تفعلة من حيي، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل، وروي عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس، وفيه ضعف، لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة، أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك رحمه الله إن صح ذلك عنه والله أعلم، واختلف المتأولون، فقالت فرقة: التحية أن يقول الرجل: سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول: عليك السلام ورحمة الله، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله، قال الراد عليك السلام ورحمة الله وبركاته، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقد انتهى ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها، فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية، فالمعنى عند أهل هذه القالة إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا بأحسن. وإن انتهى فردوا، وقالت فرقة: إنما معنى الآية تخيير الراد، فإذا قال البادئ: السلام عليك، فللراد أن يقول، وعليك السلام فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول، وعليك السلام ورحمة الله، وهذا هو التحية بأحسن منها، وقال ابن عباس وغيره: المراد بالآية، إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فإن كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: وعليكم، وروي عن ابن عمرو وابن عباس وغيرهما، انتهى السلام إلى البركة، وجمهور أهل العلم على أن لا يبدأ أهل الكتاب بسلام، فإن سلم أحد ساهيا أو جاهلا فينبغي أن يستقيله سلامه، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم، والأول أصوب، لأن به يتصور إذ لا لهم، وقال ابن عباس: كل من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا، وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك، كما في الحديث، وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة، لأنه حق من الحقوق، قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، وحَسِيباً معناه:
حفيظا، وهو فعيل من الحساب، وحسنت هاهنا هذه الصفة، إذ معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 88]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً [النساء: 86] تلاه مقويا له الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية، والإعلام بالحشر، والبعث من(2/87)
القبور، للثواب، والعقاب، إعلاما بقسم، والمقسم به تقديره وهو: أو وحقه، أو وعظمته، لَيَجْمَعَنَّكُمْ والجمع هنا بمعنى الحشر، فلذلك حسنت بعده إِلى، أي: إليه السوق والحشر، والْقِيامَةِ: أصلها القيام، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة ولا رَيْبَ فِيهِ تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر، ومعناه: لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر، تقديره:
لا أحد أصدق من الله تعالى، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف والرجاء أو سوء السجية، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه، وللأمر المخبر عنه في وجوده، وحَدِيثاً نصب على التمييز.
وقوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية. الخطاب للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام، والمقصد منه التوبيخ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب الْمُنافِقِينَ؟ فقال ابن عباس: هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة، وأقاموا بين أظهر الكفار، ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم: إنكم لا تخافون أصحاب محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم، فقالت طائفة: نخرج إلى أعداء الله المنافقين، وقالت طائفة: بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وقال مجاهد: بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة، فأظهروا الإسلام، ثم قالوا: لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى حَتَّى يُهاجِرُوا [النساء: 89] ، وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عبد الله بن أبيّ وأصحابه، لأن أصحاب النبي عليه السلام اختلفوا فيهم، وقال السدي: بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا، وقالوا: إنّا اجتويناها، وقال ابن زيد: إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك، لأن الصحابة اختلفوا فيهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، حسبما وقع في البخاري، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله، وكل من قال في هذه الآية: إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله: حَتَّى يُهاجِرُوا [النساء: 89] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه، وترك الخلاف والنفاق، كما قال عليه السلام، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وفِئَتَيْنِ معناه فرقتين، ونصبهما على الحال كما تقول: ما لك قائما، هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل، والتقدير ما لكم كنتم فِئَتَيْنِ، أو صرتم، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة، كما نقول ما لك الشاتم لزيد، وخطأ هذا القول الزجّاج، لأن المعرفة لا تكون حالا، وأَرْكَسَهُمْ معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم، «والركس» الرجيع، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [البسيط](2/88)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
فأركسوا في حميم النّار إنّهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا
وحكى النضر بن شميل والكسائي، «ركس وأركس» بمعنى واحد، أي رجعهم، ومن قال من المتأولين: أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر، وبِما كَسَبُوا معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم، وقوله:
أَتُرِيدُونَ استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون: بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله لضلالة وحتمها عليه، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89)
الضمير في وَدُّوا عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية المصائب بكم، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا، فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم، ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر، وقوله: فَلا تَتَّخِذُوا الآية. هذا نهي عن موالاتهم حتى يهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن الإيمان، وفِي سَبِيلِ اللَّهِ معناه في طريق مرضاة الله، لأن سبل الله كثيرة، وهي طاعاته كلها، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان فخذوهم، وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسرقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه، قال عكرمة والسدي وابن زيد: ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة،(2/89)
وقال أبو عبيدة وغيره: يَصِلُونَ في هذا الموضع معناه، ينتسبون، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
إذا اتّصلت قالت: أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا غير صحيح، قال الطبري: قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل، فإن قيل: إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشا إلا بعد نسخ هذه الآية، قيل: التواريخ تقضي بخلاف ذلك، لأن الناسخ لهذه الآية هي سورة براءة، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش، وقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ عطف على يَصِلُونَ، ويحتمل أن يكون على قوله: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والمعنى في العطفين مختلف وهذا أيضا حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال قومه، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه، وهذه نسخت أيضا بما في براءة. وحَصِرَتْ: ضاقت وحرجت، ومنه الحصر في القول، وهو: ضيق الكلام على المتكلم، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري: وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط أَوْ جاؤُكُمْ، وحَصِرَتْ عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف، كقولك جاء زيد ركب الفرس، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبرا آخر عن زيد، لم تحتج إلى تقدير قد، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد، قال الزجاج:
حَصِرَتْ خبر بعد خبر، وقال المبرد: حَصِرَتْ دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين: لا يصح هنا الدعاء، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم، ذلك فاسد.
قال المؤلف: وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم، أي هم أقل وأحقر، ويستغنى عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا عليّ ولا معي أيضا، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه، واللام في قوله:
لَسَلَّطَهُمْ جواب لَوْ، وفي قوله: فَلَقاتَلُوكُمْ لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول: لو شاء الله لقاتلوكم، والمعنى تقرير المؤمنين على مقدار النقمة وصرفها، أي لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم، فإذ قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها، وقرأت طائفة «فلقتلوكم» . وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد التاء، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل، والسَّلَمَ هنا الصلح، قاله الربيع، ومنه قول الطرماح بن حكيم:
وذاك أن تميما غادرت سلما ... للأسد كل حصان رعثة الكبد(2/90)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وقال الربيع: السَّلَمَ هاهنا الصلح، وكذا قرأته عامة القراء، وقرأ الجحدري «السلم» بسكون اللام، وقرأ الحسن «السّلم» بكسر السين وسكون اللام، فمعنى جملة هذه الآية، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا من دخل منهم في عداد من بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم، لأنه لو شاء لسلط هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم فَلَقاتَلُوكُمْ، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] منسوخ بما في سورة براءة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا: نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل:
كانت أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل بين النبي عليه السلام والكفار الأخبار، وقيل: نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه السلام رياء، يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون، ففضح الله تعالى هؤلاء، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم، وقوله:
إِلَى الْفِتْنَةِ معناه إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل: ربي الخنفساء، وربي العود، وربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى أُرْكِسُوا رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ عبد الله بن مسعود، «ركسوا» بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف، والخلاف في السَّلَمَ حسبما تقدم، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال. وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين» ، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا،(2/91)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
وثَقِفْتُمُوهُمْ مأخوذ من الثقاف، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان الحجة، قال عكرمة:
حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
قال جمهور المفسرين: معنى هذه الآية: وما كان في إذن الله وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير لكن الخطأ قد يقع.
وهذا كقول الشاعر [الهذلي] : [البسيط]
أمسى سقام خلاء لا أنيس به ... إلّا السّباع وإلّا الرّيح بالغرف
قال القاضي أبو محمد: سقام اسم واد، والغرف شجر يدبغ بلحائه، وكما قال جرير: [الطويل]
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلّا ريط برد مرحّل
وفي هذا الشاهد نظر، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر كانَ بمعنى استقر ووجد، كأنه قال، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع، وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا، إعظاما للعمد والقصد مع خطر الكلام به البتة، وقرأ الزهري «خطا» مقصورا غير مهموز، وقرأ الحسن والأعمش مهموزا ممدودا، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة، وذلك أنه كان يعذبه بمكة، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجرا فلقيه عياش بالحرة، فظنه على كفره فقتله، ثم جاء فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم فحرر» ، وقال ابن زيد:
نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنما وهو يتشهد فقتله وساق غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية وقيل: نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد، وقيل غير هذا، والله أعلم، وقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً الآية. بيّن الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ، وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى، يربطها عدم القصد، قال ابن عباس(2/92)
والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم: «الرقبة المؤمنة» هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان، ولا يجزىء في ذلك الصغير، وقال عطاء بن أبي رباح: يجزىء الصغير المولود بين المسلمين، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس: يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه، قال مالك:
ومن صلى وصام أحب إليّ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت، فإن كان النقصان يسيرا تتفق له معه المعيشة والتحرف، كالعرج ونحوه ففيه قولان، ومُسَلَّمَةٌ معناه مؤداة مدفوعة، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية، وإِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يريد أولياء القتيل، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا» وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا» بالتاء على المخاطبة للحاضر، وقرأ نبيح العتري «تصدقوا» بالتاء وتخفيف الصاد، و «الدية» مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم، وعند آخرين على الناس كلهم، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت، واختلف في المائة من الإبل، فقال علي بن أبي طالب: هي مربعة، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وقال عبد الله بن مسعود: مخمسة، عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب، وعمر بن الخطاب وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة. ومن الغنم ألفي شاة، ومن الحلل مائة حلة، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف أبي داود، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل، فمضى القول على ذلك، وأما الذهب فهي ألف دينار، قررها عمر ومشى الناس عليها، وأما الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفا، وبه قال مالك، وجماعة تقول: عشرة آلاف درهم. وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ الآية. المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم وعكرمة وغيرهم، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا، قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية فيه، واحتجوا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 72] وقالت فرقة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه، كفارته التحرير ولا دية فيه، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقائل المقالة الأولى يقول: إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة، وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم(2/93)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن» وقال ابن عباس والشعبي وإبراهيم أيضا. المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير، واختلف على هذا في دية المعاهد، فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال مالك وأصحابه: ديته على نصف دية المسلم، وقال الشافعي وأبو ثور: ديته على ثلث دية المسلم، وقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين» متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر، وقال مكي عن الشعبي: «صيام الشهرين» يجزىء عن الدية والعتق لمن لم يجدها، وهذا القول وهم، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل، والطبري حكى القول عن مسروق، وتَوْبَةً نصب على المصدر ومعناه رجوعا بكم إلى التيسير والتسهيل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
«المتعمد» في لغة العرب القاصد إلى الشيء، واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة ونحوه، وقالت فرقة: «المتعمد» كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور وهو الأصح، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد، ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا يقول به في شيء، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمدا وخطأ لا غير، والقتل بالسم عنده عمد، وإن قال ما أردت إلا سكره، وقوله: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
تقديره عند أهل السنة، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره، وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48- 116] وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت الشديدة بعد الهينة، يريد نزلت وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بعد وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتما على كل قاتل يقتل مؤمنا، ويرونه عموما ماضيا لوجهه، مخصصا للعموم في قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] كأنه قال: إلا من قتل عمدا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأهل الحق يقولون لهم: هذا العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين، إحداهما ما أنتم معنا مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقر بالقتل عمدا ويأتي السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا متركبا على الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت، أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له، وهذا نقض(2/94)
للعموم، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم، بل لفظ مشترك يقع كثيرا للخصوص، كقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفرة بوجه، وكقول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] : [الطويل]
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم النّاس يظلم
وهذا إنما معناه الخصوص، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم، فهذه جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب، وما احتجوا به من قول زيد بن ثابت فليس كما ذكروه، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت بعد سورة الفرقان، ومراده باللينة قوله تعالى: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان: 68] ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه قال: أنزلت الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بعد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48- 116] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص، فالوجه أن هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن، أما على ما روي أنها نزلت في شأن مقيس بن حبابة، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من الأنصار، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع إلى مكة مرتدا، وجعل ينشد: [الطويل]
قتلت به فهرا وحمّلت عقله ... سراة بني النّجّار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أوّل راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أؤمنه في حل ولا في حرم» ، وأمر بقتله يوم فتح مكة، وهو متعلق بالكعبة، وأما أن يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال مُتَعَمِّداً معناه مستحلا لقتله. فهذا يؤول أيضا إلى الكفر، وفي المؤمن الذي قد سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل، فجزاؤه أن جازاه، ويكون قوله خالِداً إذا كانت في المؤمن بمعنى باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك، ويدل على هذا سقوط قوله «أبدا» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في ذكر الكفار.
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل، فجماعة على أن لا تقبل توبته، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وكان ابن عباس يقول: الشرك والقتل مبهمان، من مات عليهما خلد، وكان يقول:
هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان، إذ الفرقان مكية والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ والتخويف أحيانا، فيطلقون: لا تقبل توبة القاتل، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل قال له: توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال له: لا توبة للقاتل، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلا سأله أللقاتل توبة؟ فقال له: لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم، فلما مضى السائل قال له أصحابه: ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن للقاتل التوبة، فقال لهم: إني رأيته مغضبا وأظنه يريد أن يقتل، فقاموا فطلبوه وسألوا عنه، فإذا هو كذلك. وذكر هبة الله في كتاب الناسخ والمنسوخ له: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48- 116] وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا: هي محكمة.(2/95)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفيما قاله هبة الله نظر، لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ، وإنما ركب كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل. والله أعلم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في» ، وتقول: ضربت الأرض دون «في» إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قول- النبي عليه السلام: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك» ، وسبب هذه الآية: أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلا له جمل ومتيع، وقيل غنيمة، فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه، واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر- وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما: أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط، والحديث بكماله في المصنف لأبي داود، وفي السير وفي الاستيعاب، وقالت فرقة: القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني، وقالت فرقة: القاتل أبو قتادة، وقالت فرقة: القاتل غالب الليثي، والمقتول مرداس، وقالت فرقة: القاتل هو أبو الدرداء، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة.
وقرأ جمهور السبعة فَتَبَيَّنُوا وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا» بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات، وقال قوم: «تبينوا» أبلغ وأشد من «تثبتوا» ، لأن المتثبت قد لا يتبين، وقال أبو عبيد: هما متقاربان.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له، بل يقتضي محاولة اليقين، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين، فهما سواء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه، «السّلم» بتشديد السين وفتحه وفتح اللام، ومعناه: الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم، وقرأ بقية السبعة «السلام» يريد سلم ذلك المقتول على السرية، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال: فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا، وروي في بعض طرق عاصم «السّلم» بكسر السين وشده وسكون اللام وهو الصلح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب، وقرأ الجحدري «السّلم» بفتح السين وسكون اللام، والعرض: هو المتيع والجمل، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمنا» بفتح الميم، أي لسنا نؤمنك في نفسك، وقوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا.(2/96)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
واختلف المتأولون في قوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فقال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد: كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه تعالى، لأن المعنى إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، فاحفظوا نفوسكم، وجنبوا الزلل الموبق بكم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
في قوله: لا يَسْتَوِي إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والْقاعِدُونَ عبارة عن المتخلفين، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، «غير أولي الضرر» برفع الراء من غير، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «غير» بالنصب، واختلف عن عاصم، فروي عنه الرفع والنصب، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غير» بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، كما هي عنده صفة في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: 7] بجر غير صفة، ومثله قول لبيد: [الرمل]
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنّما يجزى الفتى غير الجمل
قال المؤلف: كذا ذكره أبو علي، ويروى ليس الجمل، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين، قال أبو الحسن: ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة، قال الزجّاج: يجوز أيضا في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء، كأنه قال: «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر» فإنهم يساوون المجاهدين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مردود، لأن أُولِي الضَّرَرِ لا يساوون المجاهدين، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، قال: ويجوز في قراءة نصب(2/97)
الراء أن يكون على الحال، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين، وروي من غير طريق أن الآية نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها، فقال: يا رسول الله هل من رخصة؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال الفلتان بن عاصم كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك في وجهه، فلما فرغ قال للكاتب: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ إلى آخر الآية. قال: فقام الأعمى، فقال: يا رسول الله ما ذنبنا؟ قال: فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى: إنه ينزل عليه. قال: فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائما مكانه يقول: أتوب إلى رسول الله حتى فرغ رسول الله، فقال الكاتب: اكتب غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. قاله ابن عباس وغيره. وقوله تعالى: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هي الغاية في كمال الجهاد. ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر. قال بعض العلماء: هم أعظم أجرا من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال: إن الغنى أفضل من الفقر وإن متعلقه بها لبين.
وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة» ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالا ما قطعنا واديا ولا سلكنا جبلا ولا طريقا إلا وهم معنا حبسهم العذر» قال ابن جريج. والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو على القاعدين من غير أهل العذر، والْحُسْنى الجنة، وهي التي وعدها المؤمنون، وكذلك قال السدي وغيره.
وقال ابن محيريز: «الدرجات» هي درجات في الجنة، سبعون، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وقال بهذا القول الطبري ورجحه، وقال ابن زيد: «الدرجات» في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة، فهي قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 120] الآيات فذكر فيها الموطئ الغائظ للكفار، والنيل من العدو، والنفقة الصغيرة والكبيرة، وقطع الأودية والمسافات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس. ونصب دَرَجاتٍ إما على البدل من الأجر، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيدا للأجر، كما تقول: لك عليّ ألف درهم عرفا، كأنك قلت أعرفها عرفا.
قوله تعالى:(2/98)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
المراد بهذه الآية إلى قوله مَصِيراً جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما، كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية. قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، أن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10] الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك، أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر، وهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، قال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر، وكان من المطعمين في نفير بدر، قال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، فقال له العباس: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال «يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم» ، ثم تلا عليه هذه الآية أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قال السدي: فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وفي هذا الذي قاله السدي نظر، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على(2/99)
تكفيرهم بالمعاصي، وأما العباس فقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله أنه أسلم قبل بدر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله، فإنما أخرج كرها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق- رحمه الله- وذكر أنه إنما أسلم مأسورا حين ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أمر المال الذي ترك عند أم الفضل، وذكر أنه أسلم في عام خيبر، وكان يكتب إلى رسول الله بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا.
قال القاضي أبو محمد: لكن عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسر على ظاهر أمره.
وقوله تعالى: تَوَفَّاهُمُ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الْمَلائِكَةُ غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين ويكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية. وقرأ إبراهيم «توفاهم» بضم التاء، قال أبو الفتح: كأنه يدفعون إلى الملائكة ويحتسبون عليهم. و «توفاهم» بفتح التاء معناه: تقبض أرواحهم، وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى: تحشرهم إلى النار وظالِمِي أَنْفُسِهِمْ نصب على الحال أي ظالميها بترك الهجرة، قال الزجّاج: حذفت النون من «ظالمين» تخفيفا، كقوله تعالى: بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:
95] ، وقول الملائكة فِيمَ كُنْتُمْ؟ تقرير وتوبيخ، وقول هؤلاء كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذار غير صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم بقولهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً والأرض في قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة، وأَرْضُ اللَّهِ هي الأرض بالإطلاق. والمراد فتهاجروا فيها إلى موضع الأمن، وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء. وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، ولاحتمال ردته، وتوعدهم الله تعالى بأن مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ.
ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام وغيرهما، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين، هي من النساء وأنا من الولدان، والحيلة: لفظ عام لأسباب أنواع التخلص، و «السبيل» : سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل.
ثم رجّى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم، وعَسَى من الله واجبة. أما أنها دالة على ثقل الأمر المعفو عنه، قال الحسن: عَسَى من الله واجبة، قال غيره: هي بمنزلة الوعد، إذ ليس يخبر ب عَسَى عن شك ولا توقع، وهذا يرجع إلى الوجوب، قال آخرون: هي على معتقد البشر، أي ظنكم بمن هذه حاله ترجّي عفو الله عنه.
والمراغم: المتحول والمذهب، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم، ومنه قول النابغة الجعدي: [المتقارب](2/100)
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم والمذهب
وقول الآخر: [المتقارب]
إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب
وقال مجاهد: «المراغم» المتزحزح عما يكره. وقال ابن زيد: «المراغم» المهاجر، وقال السدي:
«المراغم» المبتغى للمعيشة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا كله تفسير بالمعنى، فأما الخاص باللفظة، فإن «المراغم» موضع المراغمة، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. وكذلك الطود الذي ذكر النابغة، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب. وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مرغما» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف. قال أبو الفتح: هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم، والجماعة على «مراغم» ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم: السَّعَةِ هنا هي السعة في الرزق، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد.
قال القاضي رحمه الله: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [حطان بن المعلّى] .
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض
ومنه قول الآخر: [الوافر]
وكنت إذا خليل رام قطعي ... وجدت وراي منفسحا عريضا
وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:
الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق، وقوله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية: حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه، أما أنه لا يقال: إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة، ولكن يقال:
وقع له بذلك أجر عظيم، وروي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل: من خزاعة من بني ليث، وقيل: من جندع، لما سمع قول الله عز وجل الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قال:
إني لذو مال وعبيد- وكان مريضا- فقال: أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه، واختلف في اسمه، فحكى الطبري عن ابن جبير: أنه ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، وحكي عن السدي: أنه ضمرة بن جندب، وحكي عن عكرمة: أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جبير أيضا: أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى أبو عمر بن عبد البر: أنه ضمرة بن العيص، وحكى المهدوي: أنه ضمرة بن نعيم، وقيل: ضمرة بن خزاعة، وقرأت(2/101)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
الجماعة «ثم يدركه الموت» بالجزم عطفا على يَخْرُجْ وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركه» برفع الكاف- قال أبو الفتح: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول الأعشى: [البسيط]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [رويشد بن كثير الطائي] : [البسيط]
إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيتكم ... فما عليّ بذنب عندكم فوت
المعنى: ثم أنتم تأتيني. وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر: [الوافر]
ألم يأتيك والأنباء تنمى
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركه» بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى: [الطويل]
لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
أراد: فأن يعصم- قال أبو الفتح: وهذا ليس بالسهل وإنما بابه الشعر لا القرآن، وأنشد ابن زيد:
[الوافر]
سأترك منزلي لبني تميم ... والحق بالحجاز فأستريحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازيا فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على «الأجر» ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي- وجب- لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة. فشبه لازم المعاني بذلك.
وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
ضَرَبْتُمْ معناه: سافرتم. فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة، وهي من حيث تؤتى الجمعة، وهذا قول ضعيف، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه: تقصر الصلاة في أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا.(2/102)
وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالا، وروي هذا القول عن مالك، وروي عنه أيضا: تقصر الصلاة في يوم وليلة، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى، وروي عن ابن عباس وابن عمر: أن الصلاة تقصر في مسيرة اليوم التام، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلا، قال: يقصر، وعن ابن القاسم في العتبية: أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه، وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا، وقال ابن عبد الحكم: في الوقت، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: من سافر مسيرة ثلاث قصر، قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام، وروي عن أنس بن مالك: أنه قصر في خمسة عشر ميلا، قال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام، وبه نأخذ.
واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس، واختلف الناس فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح، كالتجارة ونحوها، وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد، وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك. وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب، قال ابن القاسم في المدونة: ولم يحد لنا مالك في القرب حدا، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال وإلى ذلك في الرجوع، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى، وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل، وهو شاذ، وقد ثبت أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وليس بينهما ثلث يوم، ويظهر من قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أن القصر مباح أو مخير فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك: أن المسافر مخير، وقاله الأبهري، وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في المبسوط: القصر سنة. وهذا هو جمهور المذهب، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي: القصر فرض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب: أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى، ويؤيد هذا قول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: أَنْ تَقْصُرُوا فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنّا نضرب(2/103)
في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه السلام، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، فهلا شددتم عليهم، فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخر صلاة الخوف، وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب، إن الله تعالى يقول إِنْ خِفْتُمْ وقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ، قال الطبري: وهذا كله قول حسن، إلا أن قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها، فليس يترتب من لفظ الآية، إلا أن القصر مشروط بالخوف، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا» - بسقوط إِنْ خِفْتُمْ وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون؟ وقال عطاء: كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص، وأتم عثمان بن عفان، ولكن
علل ذلك بعلل غير هذه، وكذلك علل إتمام عائشة أيضا بغير هذا وقال آخرون: القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، وقصرها أن تصير ركعة، قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن يخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة، ركعة، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك، وروى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا، وقال مجاهد عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وروى جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وقال آخرون: هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبيرتين إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] ورجح الطبري هذا القول، وقال: إنه يعادله قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي بحدودها وهيئتها الكاملة، وقرأ الجمهور «تقصروا» بفتح التاء وضم الصاد، وروى الضبي عن أصحابه «تقصروا» بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تقصّروا» بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها. ويَفْتِنَكُمُ معناه: يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم، ونحو(2/104)
هذا قول صاحب الحائط: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت، وعدو وصف يجري على الواحد والجماعة، و «مبين» مفعل من أبان، المعنى: قد جلحوا في عدواتكم وراموكم كل مرام.
وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية قال جمهور الأمة: الآية خطاب للنبي عليه السلام، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية: الآية خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه السلام لا عوض منها، وغيره من الأمراء منه العوض، فيصلي الناس بإمامين، طائفة بعد طائفة، ولا يحتاج إلى غير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر إذا نزل الخوف، وقال قوم: لا صلاة خوف في حضر، وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون، وقال الطبري: فَأَقَمْتَ لَهُمُ معناه: حدودها وهيئتها، ولم تقصر على ما أبيح قبل في حال المسايفة، وقوله فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، أمر بالانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا وتوقع حملته، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وخصفة، وفي بعض الروايات: أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان، والعدو: خيل قريش، عليها خالد بن الوليد، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا؟ فقيل الطائفة المصلية، وقيل: بل الحارسة.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يتناول الكل، ولكن سلاح المصلين ما خف، واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، فروى يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل هذا الحديث بعينه، إلا أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلّى بالطائفة الأخيرة ركعة، سلم، ثم قضت هي بعد سلامه، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه الله في صلاة الخوف، كان أولا يميل إلى رواية يزيد بن رومان، ثم رجع إلى رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر، وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه: أن النبي عليه السلام صلّى صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته، قال: فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقال المشركون: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، فقالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات، وأخبره خبرهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف العسكر خلفه صفين، ثم كبر فكبروا جميعا، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي فسجد الصف الذي يليه، فلما رفع سجد الآخرون، ثم سلم فسلموا جميعا، ثم(2/105)
انصرفوا، قال عبد الرزاق بن همام في مصنفه: وروى الثوري عن هشام مثل هذا، إلا أنه قال: ينكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخرون فيسجدون في مصاف الأولين، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين، وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف، وروى عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه السلام ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه الله، ومشى على الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام، فكذلك لا يبني، ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما، وحكى اللخمي عنه: أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو، وقضت الأخرى. وهذه سنة رويت عن ابن مسعود، ورجح ابن عبد البر القول بما روي عن ابن عمر، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل ما روي عن ابن عمر سواء، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه السلام في الخوف: أنه صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة، وذكر ابن عبد البر وغيره عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين، فكانت لرسول الله أربع، ولكل رجل ركعتان، وبهذه كان يفتي الحسن بن أبي الحسن، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة، وقال أصحاب الرأي: إذا كانت صلاة المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة، وطائفة بإزاء العدو، فيصلي بالتي معه ركعتين، ثم يصيرون إلى إزاء العدو، وتأتي الأخرى فيدخلون مع الإمام، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وحده، ثم يقومون إلى إزاء العدو، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة، فيقضون ركعة وسجدتين وحدانا ويسلمون، ثم يجيئون إلى إزاء العدو، وتنصرف الطائفة الأخرى إلى مقام الصلاة، فيقضون ركعتين بقراءة وحدانا ويسلمون، وكملت صلاتهم.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا طرد قول أصحاب الرأي في سائر الصلوات، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة:
نعم، قال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عام غزوة نجد: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله وكبروا جميعا الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجد فسجدوا(2/106)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول الله وسلموا جميعا. وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي يوسف وابن علية أحد عشر قولا منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية للأمراء.
الضمير في سَجَدُوا للطائفة المصلية والمعنى: فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى: فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة، والضمير في قوله: فَلْيَكُونُوا يحتمل أن يكون للذين سجدوا ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلتقم» بكسر اللام، وقرأ الجمهور وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ بالتاء، وقرأ أبو حيوة «وليأت» بالياء، وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة، لئلا ينال العدو أمله. وأسلحة جمع سلاح، وفي قوله تعالى:
مَيْلَةً واحِدَةً بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية، وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الآية ترخيص، قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، على حد ما أمروا عند(2/107)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان، وذهب قوم إلى أن قَضَيْتُمُ بمعنى فعلتم، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات: المرض، وغيره، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال: يصلي قاعدا فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يطق فعلى الأيسر، فإن لم يطق فعلى الظهر، ومذهب مالك في المدونة التخيير، لأنه قال: فعلى جنبه أو على ظهره، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال: يبتدىء بالظهر ثم بالجنب، قال ابن حبيب: وهو وهم، قال اللخمي: وليس بوهم، بل هو أحكم في استقبال القبلة، وقال سحنون: يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره، فإن لم يقدر فعلى ظهره، و «الطمأنينة» في الآية: سكون النفس من الخوف، وقال بعض المتأولين: المعنى:
فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعا، وقوله تعالى: كِتاباً مَوْقُوتاً معناه: منجما في أوقات، هذا ظاهر اللفظ، وروي عن ابن عباس: أن المعنى فرضا مفروضا، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة.
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ يبين أن القضاء المشار إليه قبل، إنما هو قضاء صلاة الخوف، وتَهِنُوا معناه تلينوا وتضعفوا، حبل واهن أي ضعيف، ومنه: وَهَنَ الْعَظْمُ [مريم: 4] ، وابْتِغاءِ الْقَوْمِ: طلبهم، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الألف، وقرأ يحيى بن وثاب ومنصور بن المعتمر «تيلمون» في الثلاثة وهي لغة، وهذا تشجيع لنفوس المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ومن نحو هذا المعنى قول الشاعر [الشداخ بن يعمر الكناني] : [المنسرح]
القوم أمثالكم لهم شعر ... في الرّأس لا ينشرون إن قتلوا
ثم تأكد التشجيع بقوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وهذا برهان بيّن، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين، وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 107]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ معناه:
على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر غيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتصل فيه، فمنه قوله:
أفكلما قال الرجال قصيدة ... نحلت وقالوا: ابن الأبيرق قالها(2/108)
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من دومك الشام فجعله في مشربة له، وفي المشربة درعان له وسيفان، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا بن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: «ونحن نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فو الله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي: يا بن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة، فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، قال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال: فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي فقال: ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات. فالخائنون بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت: أسير وأصحابه.
قال القاضي أبو محمد: وقال قتادة وغير واحد من المتأولين: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة، وقال السدي: القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعا فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو البريء المشار إليه، وقال عكرمة: سرق طعمة بن أبيرق درعا من مشربة ورمى بسرقتها رجلا من اليهود يقال له: زيد بن السمين.
قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وطعيمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت:
اخرج عنا، أهديت إليّ شعر حسان، فروي: أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله، وروي: أنه اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه.
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين.(2/109)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب.
وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
رفق وإبقاء، فإن الخوان: هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم: هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة. واختيان الأنفس: هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 108 الى 110]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
الضمير في يَسْتَخْفُونَ
للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم، واندرج في طي هذا العموم، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم، ومعنى وَهُوَ مَعَهُمْ
بالإحاطة والعلم والقدرة، ويُبَيِّتُونَ
يدبرون ليلا، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا، إذ الليل مظنة الاستتار والاختفاء، قال الطبري: وزعم بعض الطائيين: أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي: [المتقارب]
وبيّت قولي عند الملي ... ك قاتلك الله عبدا كنودا
وقال أبو زيد يُبَيِّتُونَ
معناه: يؤلفون، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي: يستسرون في تدبيرهم بالجدرات.
وقوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب هؤُلاءِ
، وهي إشارة إلى حاضرين، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران، «والمجادلة» : المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه، إذ الجدل الفتل، وقوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وعيد محض، أي إن(2/110)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع.
ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح بقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
الآية. منحى من عمل السوء، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى: يَجِدِ اللَّهَ
استعارة، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين، كانوا كالواجدين لمطلوب، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله، وقال عبد الله بن مسعود يوما في مجلسه: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئا من ثيابه قرضه بالمقراضين، فقال رجل من القوم: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا، فقال عبد الله: ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهورا، وقال وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة، وفضل الله مرجو وهو المستعان.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 111 الى 113]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
تقدم القول في معنى «الكسب» ، «والإثم» الحكم اللاحق عن المعصية، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها، وقوله: فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي إياها يردي وبها يحل المكروه.
وقوله تعالى: خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى كرر لاختلاف اللفظ، وقال الطبري: إنما فرق بين «الخطيئة والإثم» أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها عام، ويندرج تحت ذلك العموم وتوبيخه أهل النازلة المذكورة، «وبريء» النازلة قيل: هو لبيد بن سهل، وقيل: هو زيد بن السمين اليهودي، وقيل: أبو مليل الأنصاري، وقوله تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ
تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات، وبُهْتاناً
معناه: كذبا على البريء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره سماعه فقد اغتبته، فإن قلت ما ليس فيه فقد بهته، فرمي البريء بهت له ونفس الخطيئة والإثم إثم مبين، ومعصية هذا الرامي معصيتان.(2/111)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
ثم وقف الله تعالى نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى: لَهَمَّتْ
معناه: لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت، وإنما المعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجميع، فيبقى الضلال في حيزهم، ثم ضمن وعد الله تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئا» ، وقرر عليه نعمه لديه، من إنزال الْكِتابَ
المتلو، وَالْحِكْمَةَ
التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها، وقريحة يعمل عنها، وينظر بين الناس بها، لا ينطق عن الهوى، وبهذين علمه ما لم يكن يعلم، وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 116]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
الضمير في نَجْواهُمْ عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، والنجوى:
المسارّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل، كأنه قال: لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه، كأنه قال: لا خير في كثير من تناجيهم، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف، كأنه قال: إلا نجوى من، قال بعض المفسرين: النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سرا أو جهرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: انفراد الجماعة من الاستسرار، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه، و «المعروف» : لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خصّا بالذكر اهتماما بهما، إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم» على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى. وابْتِغاءَ نصب على المصدر، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بالنون وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء والقراءتان حسنتان.
وقوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ الآية، لفظ عام نزل بسبب طعمة بن أبيرق، لأنه ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة، وقوله ما تَوَلَّى وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في تولي الطاغوت، وقرأ ابن أبي عبلة «يوله» و «يصله» بالياء فيهما.(2/112)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
ثم أوجب تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية وما يتصل بها من المعتقد والبعد في صفة الضلال، مقتض بعد الرجوع إلى المحجة البيضاء وتعذره وإن بقي غير مستحيل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 118]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
الضمير في يَدْعُونَ عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] إِنْ نافية بمعنى «ما» ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي: يعبدون ويتخذون آلهة، وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم، واختلف في معنى «الإناث» ، فقال أبو مالك والسدي وغيرهما: ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة، فاللات والعزى ومناة ونائلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: ويرد على هذا أنها كانت تسمي بأسماء مذكرة كثيرة، وقال الضحاك وغيره: المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم هذا على جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: المراد: الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله: إِلَّا إِناثاً عبارة عن الجمادات، وقيل:
إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول: أنثى بني فلان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على اختلافه يقضي بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى التذكير، وقيل معنى إِناثاً أوثانا، وفي مصحف عائشة «إن يدعون من دونه إلا أوثانا» وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا أنثا» يريد وثنا، فأبدل الهمزة واوا، وهو جمع جمع على ما حكى بعض الناس، كأنه جمع وثنا على وثان، كجمل وجمال، ثم جمع وثانا على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، لأن فعالا في جمع فعل إنما هو للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع التقليل، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد، قال أبو عمرو: وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن جندب وعطاء، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وثنا» بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس، وقرأ ابن عباس أيضا «وثنا» بضم الواو والثاء، وقرأت فرقة «إلا وثنا» ، وقرأت فرقة «إلا أثنا» بسكون الثاء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم «إلا أنثا» بتقديم النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك، وحكى الطبري: أنه جمع إناث كثمار وثمر، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني، قال: وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة والحسن، واختلف في المعنى ب «الشيطان» ، فقالت فرقة: هو الشيطان المقترن بكل صنم، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى، لأن الواحد يدل على الجنس، وقال الجمهور: المراد إبليس وهذا هو الصواب، لأن سائر المقالة به تليق،(2/113)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
ومَرِيداً معناه عاتيا صليبا في غوايته، وهو فعيل من مرد: إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر والغواية.
وأصل اللعن: الإبعاد، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، ويحتمل أن يكون لَعَنَهُ صفة الشيطان، ويحتمل أن يكون خبرا عنه، والمعنى يتقارب على الوجهين، وقوله تعالى: وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ الآية، التقدير: وقال الشيطان، والمعنى، لأستخلصنهم لغوايتي: ولأخصنهم بإضلالي وهم الكفرة والعصاة، والمفروض معناه في هذا الموضع المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجبا أن أتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 119 الى 122]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ معناه أصرفهم عن طريق الهدى، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لأسولن لهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله، ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله: تغن، فإن لم يحسن قال له تمن» ، واللامات كلها للقسم، «والبتك» : القطع. وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكما، بسبب آلهتهم وبغير ذلك، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وَلَآمُرَنَّهُمْ بغير ألف، وقرأ أبيّ «وأضلهم وأمنيهم وأمرهم» واختلف في معنى «تغيير خلق الله» ، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم:
أراد: يغيرون دين الله، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] أي لدين الله، والتبديل يقع موضعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه، وقالت فرقة: «تغيير خلق الله» هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وقال ابن عباس أيضا وأنس وعكرمة وأبو صالح:
من تغيير خلق الله الإخصاء، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله، فهي عندهم أشياء ممنوعة، ورخص في إخصاء البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة، إما السمن أو غيره، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل، وقال ابن مسعود والحسن: هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن، فمن ذلك الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشومات والمتنمصات والمتفلجات(2/114)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
المغيرات خلق الله» . ومنه قوله عليه السلام، «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ، وملاك تفسير هذه الآية: أن كل تغيير ضار فهو في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره، حذره تبارك وتعالى عباده، بأن شرط لمن يتخذه وليا جزاء الخسران، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله.
وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ: يعدهم بأباطيله من المال والجاه، وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك لكل أحد ما يليق بحاله. ويمنيهم كذلك، ثم ابتدأ تعالى الخبر عن حقيقة ذلك بقوله: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
ثم أخبر تعالى بمصير المتخذين الشيطان وليا وتوعدهم بأن مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، ولا يدافعونها بحيلة، ولا يعدلون عنها. ولا ينحرفون ولا يتروغون، و «المحيص» مفعول من حاص إذا راغ ونفر، ومنه قول الشاعر [جعفر بن علبة الحارثي] : [الطويل]
ولم أدر إن حصنا من الموت حيصة ... كم العمر باق والمدى متطاول
ومنه الحديث، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، يقال حاص الرجل من كذا، وجاض بالجيم والضاد المنقوطة إذا راغ بنفور، ولغة القرآن الحاء والصاد غير منقوطة.
ولما أخبر تعالى عن الكفار الذين يتخذون الشيطان وليا، وأعلم بغرور وعد الشيطان لهم، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى جهنم، فاقتضى ذلك كله التحذير، أعقب ذلك- عز وجل- بالترغيب في ذكره حالة المؤمنين، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى النعيم المقيم، وأعلم بصحة وعده تعالى لهم، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا والقيل والقول واحد، ونصبه على التمييز، وقرأت فرقة «سندخلهم» بالنون وقرأت فرقة «سيدخلهم» بالياء، ووَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر. وحَقًّا مصدر أيضا مؤكد لما قبله.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 125]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
اسم لَيْسَ مضمر، و «الأماني» : جمع أمنوية، وزنها أفعولة، وهي: ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه، وتجمع على أفاعيل، فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي قراءة الجمهور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج، «ليس بأمانيكم» ساكنة الياء، وكذلك في الثانية، قال الفراء: هذا جمع على أفاعل، كما يقال قراقير وقراقر إلى(2/115)
غير ذلك. واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية؟ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي وغيرهم: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: ديننا أقدم من دينكم وأفضل، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أفضل منكم، وقال المؤمنون: كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم النبيين، أو نحو هذا من المحاورة، فنزلت الآية، وقال مجاهد وابن زيد: بل الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا: لن نبعث ولا نعذب، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا عذاب، وقالت اليهود نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، إلى نحو هذا من الأقوال، كقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] ، وغيره، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ثم ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وجاء هذا اللفظ عاما في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان المذكوران، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر، فقال الحسن بن أبي الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ وهل يجازى إلا الكفور [سبأ: 17] قال: والآية يعني بها الكفار، ولا يعني بها أهل الصلاة، وقال: والله ما جازى الله أحدا بالخير والشر إلا عذبه، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين، وقال ابن زيد: في قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك يعني المشركين، وقال الضحاك مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: فهذا تخصيص للفظ الآية، ورأى هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده الله تكفير سيئاته، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً معناه، من يك مشركا والسوء هنا الشرك فهو تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى، لأن أولئك خصصوا لفظ مَنْ، وهذان خصصا لفظ السوء، وقال جمهور الناس: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله، فأما مجازاة الكافر فالنار، لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية، فقال: يا أبا بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء؟. فهذا بذلك، وقال عطاء بن أبي رباح: لما نزلت هذه الآية، قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها، وقال أبيّ بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها، فقال له أبيّ: ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل خدش ولا غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فالعقيدة في هذا: أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالبا، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة، يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء، وقرأ الجمهور «ولا يجد» بالجزم عطفا على يُجْزَ، وروى ابن بكار عن ابن عامر: «ولا يجد» بالرفع على القطع، وقوله مِنْ دُونِ لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة، ويفسرها بعض المفسرين بغير، وهو تفسير لا يطرد.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ دخلت مَنْ للتبعيض إذ، الصَّالِحاتِ على(2/116)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
الكمال مما لا يطيقه البشر، ففي هذا رفق بالعباد، لكن في هذا البعض الفرائض وما أمكن من المندوب إليه، ثم قيد الأمر بالإيمان إذ لا ينفع عمل دونه، وحكى الطبري عن قوم: أن مَنْ زائدة، وضعفه كما هو ضعيف، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يدخلون الجنة» بفتح الياء وضم الخاء، وكذلك حيث جاء من القرآن، وروي مثل هذا عن عاصم، وقرأ أبو عمرو في هذه الآية وفي مريم والملائكة وفي المؤمن «يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ بفتح الياء من سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] و «النقير» النكتة التي في ظهر نواة التمرة ومنه تنبت، وروي عن عاصم «النقير» ما تنقره بأصبعك، وهذا كله مثال للحقير اليسير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهنا كمل الرد على أهل الأماني والإخبار بحقيقة الأمر.
ثم أخبر تعالى إخبارا موقفا على أنه لا أحسن دينا ممن أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص مقصده وتوجهه. وأحسن في أعماله، واتبع الحنيفية التي هي مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، إمام العالم وقدوة أهل الأديان، ثم لما ذكر الله تعالى إبراهيم بأنه الذي يجب اتباعه، شرفه بذكر الخلة، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم سماه الله خليلا، إذ كان خلوصه وعبادته واجتهاده على الغاية التي يجري إليها المحب المبالغ، وكان لطف الله به ورحمته ونصرته له بحسب ذلك، وذهب قوم إلى أن إبراهيم سمي خليلا من الخلة بفتح الخاء، أي لأنه أنزل خلته وفاقته بالله تعالى، وقال قوم: سمي خليلا لأنه فيما روي في الحديث جاء من عند خليل كان له بمصر وقد حرمه الميرة التي قصد لها، فلما قرب من منزله ملأ غرارتيه رملا ليتأنس بذلك صبيته، فلما دخل منزله نام كلالا وهما، فقامت امرأته وفتحت الغرارة، فوجدت أحسن ما يكون من الحواري، فعجنت منه، فلما انتبه قال: ما هذا؟ قالت من الدقيق الذي سقت من عند خليلك المصري فقال: بل هو من عند خليلي الله تعالى، فسمي بذلك خليلا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله-: وفي هذا ضعف، ولا تقتضي هذه القصة أن يسمى بذلك اسما غالبا، وإنما هو شيء شرفه الله به كما شرف محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد صح في كتاب مسلم وغيره: أن الله اتخذه خليلا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 126 الى 127]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
ذكر- عز وجل- سعة ملكه وإحاطته بكل شيء عقب ذكر الدين وتبيين الجادة منه، ترغيبا في طاعة الله والانقطاع إليه.
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ الآية، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن(2/117)
في المواريث وغير ذلك، فأمر الله نبيه أن يقول لهم اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
وقوله تعالى وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ يحتمل ما أن تكون في موضع خفض عطفا على الضمير في قوله فِيهِنَّ، أي: «ويفتيكم فيما يتلى عليكم» ، قاله محمد بن أبي موسى، وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض، ويحتمل أن تكون ما في موضع رفع عطفا على اسم الله عز وجل، أي و «يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب» ، يعني القرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] . قالت عائشة: نزلت هذه الآية أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء فنزلت:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ وقوله تعالى فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ معناه: النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة الفقيرة أبدا، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر، وإلحاقها بأقرانها، وقرأ أبو عبد الله المدني- «في ييامى النساء» بياءين، قال أبو الفتح: والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء، كما قلبت في قولهم: باهلة بن يعصر، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله: [الكامل] .
أبنيّ إن أباك غيّر لونه ... كرّ الليالي واختلاف الأعصر
وكما قلبت الياء همزة في قولهم: قطع الله أده، يريدون يده، وأيامى: جمع أيم أصله: أيايم، قلبت اللام موضع العين، فجاء أيامى، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء، قال أبو الفتح: ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرها، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجها حسنا، وقوله تعالى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة، قال له:
أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع، وإذا قيل له: هي دميمة فقيرة، قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك، وقوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يَتامَى النِّساءِ، والذي تلي في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ هو قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] ، وذلك: أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا يقولون: إنما يرث المال من يحمي الحوزة، ويرد الغنيمة، ويقاتل عن الحريم، ففرض الله لكل أحد حقه، وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف أيضا على ما تقدم، والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم، والقسط العدل، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل، بيّن.(2/118)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 129]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضررا يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتزيد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض، وهو مع وقوعها مباح أيضا، و «النشوز» : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة، و «الإعراض» : أخف من النشوز، وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر على الاثرة، فهذا كله مباح، واختلف المفسرون في سبب الآية، فقال ابن عباس وجماعة معه: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل فنزلت وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم: نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى، فلما بقي من العدة يسير قال لها: إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني وأصبر، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر، فقال: إنما هي واحدة، فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة، وإلا طلقتك، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ الآية، وقال مجاهد: نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصّالحا» بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها، وأصلها يتصالحا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد دون ألف، وقرأ عبيدة السلماني «يصالحا» بضم الياء من المفاعلة، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يصلحا» بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا، قال أبو الفتح: أبدل الطاء صادا ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا» ، وقرأ الأعمش «إن اصالحا» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود، وقوله صُلْحاً ليس الصلح مصدرا على واحد من هذه الأفعال التي قرىء بها، فالذي يحتمل أن يكون اسما كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت، فمن قرأ «يصلحا» كان تعديه إلى الصلح كتعديه إلى الأسماء، كما تقول: أصلحت ثوبا، ومن قرأ(2/119)
«يصالحا» من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرمة:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت ... بها الوشي قرّات الرياح وخورها
ويجوز أن يكون الصلح مصدرا حذفت زوائده، كما قال: «وإن تهلك فذلك كان قدري» أي تقديري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على ان قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد، وقوله تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة. وقوله تعالى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا حسن، والشُّحَّ: الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلا؟ قال نعم» . وأما الشُّحَّ ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وقوله شُحَّ نَفْسِهِ فقد أثبت أن لكل نفس شحا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحدا بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل، وقوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن وَتَتَّقُوا معناه: تتقوا الله في وصيته بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم» .
وقوله تعالى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ الآية. معناه: العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني ميله بقلبه، وكان عمر ابن الخطاب يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل. وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن، ثم نهى عن «الميل كل الميل» ، وهو أن يفعل فعلا يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله، فهذا هو كُلَّ الْمَيْلِ، وإن كان في أمر حقير، فكأن الكلام فَلا تَمِيلُوا النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل،(2/120)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
وقوله تعالى فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا هي أيم ولا ذات زوج، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل: أرض من المركب بالتعليق، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة: زوجي العشنق، إن انطلق أطلق، وإن أسكت أعلق، وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة» وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة» ثم قال تعالى وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لما لا تملكونه متجاوزا عنه، وقال الطبري: معنى الآية، غفورا لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في التي قبل وَإِنْ تُحْسِنُوا وفي هذه وَإِنْ تُصْلِحُوا لأن الأول في مندوب إليه، وهذه في لازم، لأن الرجل له هنالك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه، وفي هذه ليس له أن يصلح، بل يلزمه العدل فيما يملك.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 130 الى 133]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
الضمير في قوله يَتَفَرَّقا للزوجين اللذين تقدم ذكرهما، أي إن شح كل واحد منهما فلم يتصالحا لكنهما تفرقا بطلاق فإن الله تعالى يغني كل واحد منهما عن صاحبه بفضله ولطائف صنعه، في المال والعشرة، والسعة وجود المرادات والتمكن منها، وذهب بعض الفقهاء المالكيين إلى أن التفرق في هذه الآية هو بالقول، إذ الطلاق قول، واحتج بهذه على قول النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» إذ مذهب مالك في الحديث أنه التفرق بالقول لا بالبدن.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذه الآية، لأن إخبارها إنما هو من افتراقهما بالأبدان، وتراخي المدة بزوال العصمة، و «الإغناء» إنما يقع في ثاني حال، ولو كانت الفرقة في الآية الطلاق لما كان للمرأة فيها نصيب يوجب ظهور ضميرها في الفعل، وهذه نبذة من المعارضة في المسألة، و «الواسع» معناه: الذي عنده خزائن كل شيء.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين، ثم جاء بعد ذلك قوله وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيها على استغنائه عن(2/121)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
العباد، ومقدمة للخبر بكونه غنيا حميدا، ثم جاء بعد ذلك قوله وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مقدمة للوعيد، فهذه وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة. وقوله تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ لفظ عام لكل من أوتي كتابا، فإن وصية الله تعالى عباده بالتقوى لم تزل منذ أوجدهم، و «الوكيل» : القائم بالأمور المنفذ فيها ما رآه.
وقوله تعالى: أَيُّهَا النَّاسُ مخاطبة للحاضرين من العرب، وتوقيف للسامعين لتحضر أذهانهم.
وقوله بِآخَرِينَ يريد من نوعكم، وروي عن أبي هريرة أنه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على كتف سلمان الفارسي وقال: هم قوم هذا، وتحتمل ألفاظ الآية أن تكون وعيدا لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم، كما قد روي: أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم، وقدرة الله تعالى على ما ذكر تقضي بها العقول ببدائها، وقال الطبري هذا الوعيد والتوبيخ هو للقوم الذين شفعوا في طعمة بن أبيرق وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا تأويل بعيد واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة أو العالم الحاضر.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 134 الى 135]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس هو كما ظن، بل عند الله تعالى ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة العذاب، والله تعالى «سميع» للأقوال، «بصير» بالأعمال والنيات.
ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله كُونُوا قَوَّامِينَ الآية، وهذا بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام.
بِالْقِسْطِ وهو العدل، وقوله شُهَداءَ نصب على خبر بعد خبر، والحال فيه ضعيفة في المعنى، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط، قوله لِلَّهِ المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته، وقوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ متعلق ب شُهَداءَ، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق، ويحتمل أن يكون قوله شُهَداءَ لِلَّهِ معناه بالوحدانية، ويتعلق قوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ب قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، والتأويل الأول أبين، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر، وقيامه بالقسط عليها كذلك، ثم ذكر الْوالِدَيْنِ لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى(2/122)
ب الْأَقْرَبِينَ إذ هم مظنة المودة والتعصب، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما معناه: إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه، ولا يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك، فلذلك ثنى الضمير في قوله بِهِما، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم» على الجمع، وقال الطبري:
ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين، غنى الغني وفقر الفقير، أي: وهو أنظر فيهما، وقد حد حدودا وجعل لكل ذي حق حقه، وقال قوم أَوِ بمعنى الواو، وفي هذا ضعف.
وذكر السدي: أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، اختصم إليه غني وفقير، فكان في ضلع الفقير علما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«فأقضي له على نحو ما أسمع» ، أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف، بأن يقيد له المقالات ويشد على عضده، ويقول له: قل حجتك مدلا، وينبهه تنبيها لا يفت في عضد الآخر، ولا يكون تعليم خصام، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره.
وذكر الطبري: أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق، وقيام من قام في أمره بغير القسط، وقوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى نهي بيّن، واتباع الهوى مرد مهلك، وقوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل هنا بمعنى العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط، كأنه قال: انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا، فإن جعلت العامل تَتَّبِعُوا فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا، وقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قال ابن عباس: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، فالليّ على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل، وقال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم: هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها، فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله، وقرأ جمهور الناس «تلووا» بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلو» بضم اللام وواو واحدة، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع ساكنين، ويحتمل أن تكون «تلوا» من قولك ولي الرجل الأمر، فيكون في الطرف الآخر من تُعْرِضُوا كأنه قال تعالى للشهود(2/123)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
وغيرهم: وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه، فالولاية والإعراض طرفان، والليّ والإعراض في طريق واحد، وباقي الآية وعيد.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 137]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
اختلف الناس فيمن خوطب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ فقالت فرقة: الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى من أهل الكتابين، أي: يا من قد آمن بنبي من الأنبياء، آمن بمحمد عليه السلام، ورجح الطبري هذا القول، وقيل: الخطاب للمؤمنين على معنى: ليكن إيمانكم هكذا على الكمال والتوفية بالله تعالى وبمحمد عليه السلام وبالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام، وقيل:
الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، ليكن إيمانكم حقيقة على هذه الصورة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر، «نزّل» بضم النون وكسر الزاي المشددة على ما لم يسم فاعله، وكذلك قرؤوا «والكتاب الذي أنزل من قبل» بضم الهمزة وكسر الزاي على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون «نزل وأنزل» بفتح النون والزاي وبفتح الهمزة في «أنزل» على إسناد الفعلين إلى الله تعالى، وروي عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو، وَالْكِتابِ المذكور أولا هو القرآن، والمذكور ثانيا هو اسم جنس لكل ما نزل من الكتاب، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ إلى آخر الآية وعيد وخبر، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر.
واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية: الآية في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجح الطبري هذا القول، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران: 72] وقال مجاهد وابن زيد: الآية في المنافقين، فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.
قال القاضي: وهذا هو القول المترجح، وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف، تدفعه ألفاظ الآية، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان، ثم يزداد كفرا بالموافاة، واليهود والنصارى لم يترتب في واحد منهم إلا إيمان واحد وكفر واحد، وإنما يتخيل فيهم الإيمان والكفر مع تلفيق الطوائف(2/124)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
التي لم تتلاحق في زمان واحد، وليس هذا مقصد الآية، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقين، لأن الرجل الواحد منهم يؤمن ثم يكفر، ثم يوافي على الكفر وتأمل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم، ولذلك ترددوا وليست هذه العبارة مثل أن يقول:
لا يغفر الله لهم، بل هي أشد، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه حاله وإهلاكه، وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل نفوذ الحتم عليه، وأن يكون من هؤلاء، وكل من كفر كفرا واحدا ووافى عليه فقد قال الله تعالى: إنه لا يغفر له، ولم يقل «لم يكن الله ليغفر له» فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى، كأن قوله لَمْ يَكُنِ اللَّهُ حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 140]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين، كما ترجح آنفا، وجاءت البشارة هنا مصرحا بقيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه، ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب.
ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين، وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والْعِزَّةَ أصلها:
الشدة والقوة، ومنه الأرض العزاز أي: الصلبة، ومنه عَزَّنِي [ص: 23] أي: غلبني بشدته، واستعز المرض إذا قوي، إلى غير هذا من تصاريف اللفظة.
وقوله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله تعالى، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الإنعام: 68] ، إلى نحو هذا من الآيات، وقرأ جمهور الناس «نزّل عليكم» بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري: وقرأ بعض الكوفيين «نزّل» بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل الله، وقرأ أبو حيوة وحميد «نزل» بفتح النون والزاي خفيفة، وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل» بألف على بناء الفعل للمفعول، والْكِتابِ في هذا الموضع القرآن، وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالسوا، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم فحمل(2/125)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
عليه الأدب، وقرأ هذه الآية إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، وهذا المعنى كقول الشاعر: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 141 الى 143]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
الَّذِينَ صفة للمنافقين، ويَتَرَبَّصُونَ معناه: ينتظرون دور الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال المنافقين، ونَسْتَحْوِذْ معناه: نغلب على أمركم، ونحطكم ونحسم أمركم، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر: [الرجز] يحوذهن وله حوذي أي يغلبهن على أمرهن، ويغلب الثيران عليهن، ويروى يحوزهن بالزاي، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن:
إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها ... وأوردها على عوج طوال
أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها. وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] معناه:
غلب عليهم، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه، بل استعملت على الأصل، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين» وقرأ ابن أبي عبلة «ونمنعكم» بفتح العين على الصرف، ثم سلى وأنس المؤمنين بما وعدهم به في قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي وبينهم وينصفكم من جميعهم، وبقوله وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وقال يسيع الحضرمي: كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك: يوم القيامة يكون الحكم، وبهذا قال جميع أهل التأويل.(2/126)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
و «السبيل» : الحجة والغلبة، ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى، إذ يظنونهم غير أولياء، ففي الكلام حذف مضاف، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم، وإن كانت نياتهم لم تقتضه، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي منزل الخداع بهم، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم، وفي الآخرة عذاب جهنم، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين: إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن أو منافق، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق، ونهض المؤمنون بذاك، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم» وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعهم» بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة، وتلك حال كل من يعمل العمل كارها غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كسالى» بفتح الكاف، وقرأ جمهور الناس «يرءّون» بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من يُراؤُنَ
لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين، قال الحسن: قل لأنه كان لغير الله، فهذا وجه، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر، ومُذَبْذَبِينَ معناه: مضطربين لا يثبتون على حال، والتذبذب: الاضطراب بخجل أو خوف أو إسراع في مشي ونحوه، ومنه قول النابغة:
ترى كل ملك دونها يتذبذب
ومنه قول الآخر: [البعيث بن حريث] :
خيال لأمّ السّلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب
بكسر الذال الثانية، قال أبو الفتح: أي المهتز القلق الذي لا يثبت، ولا يتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين» ، فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان، وأشار إليه وإن لم يتقدم ذكره، لظهور تضمن الكلام له، كما جاء حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] وقرأ جمهور الناس «مذبذبين» بفتح الذال الأولى والثانية، وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد، «مذبذبين» بكسر الذال الثانية، وقرأ أبي بن كعب «متذبذبين» بالتاء وكسر الذال الثانية، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «مذبذبين» بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة. وقوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا معناه سبيل هدى وإرشاد.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)(2/127)
خطابه تعالى للمؤمنين، يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، ففي اللفظ رفق بهم، وهم المراد بقوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً لأن التوقيف إنما هو لمن ألم بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا قط بشيء من ذلك، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه، و «السلطان» : الحجة، وهي لفظة تؤنث وتذكر، والتذكير أشهر، وهي لغة القرآن حيث وقع، والسلطان إذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف، والتقدير: ذو السلطان أي ذو الحجة على الناس، إذ هو مدبرهم، والناظر في منافعهم، ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من نار جهنم، وهي ادراك بعضها فوق بعض سبعة طبقة على طبقة، أعلاها هي جهنم وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا، فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر هم في أسفل طبقة من النار، لأنهم أسوأ غوائل من الكفار وأشد تمكنا من أذى المسلمين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «في الدرك» مفتوحة الراء، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «في الدرك» بسكون الراء، واختلف عن عاصم فروي عنه الفتح والسكون، وهما لغتان، قال أبو علي: كالشمع والشمع ونحوه، وروي عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم قالوا: المنافقون في الدرك الأسفل من النار في توابيت من النار تقفل عليهم، و «النصير» : بناء مبالغة من النصر، ثم استثنى عز وجل التائبين من المنافقين، ومن شروط التائب أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله منعته وملجأه، ويخلص دينه لله تعالى، وإلا فليس بتائب، وقال حذيفة بن اليمان بحضرة عبد الله بن مسعود: والله ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين، فقال له عبد الله بن مسعود: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة وتنحى، فلما تفرقوا مر به علقمة فدعاه وقال: أما إن صاحبكم يعلم الذي قلت، ثم تلا إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا الآية، وأخبر تعالى أنهم مع المؤمنين في رحمة الله وفي منازل الجنة، ثم وعد المؤمنين «الأجر العظيم» ، وحذفت الياء من يُؤْتِ في المصحف تخفيفا قال الزجّاج: لسكونها وسكون اللام في اللَّهُ كما حذفت من قوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: 41] وكذلك سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وأمثال هذا كثير، و «الأجر العظيم» : التخليد في الجنة، ثم قال تعالى للمنافقين، ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ الآية، أي: أي منفعة له في ذلك أو حاجة؟ والشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه، ثم وعد الله تعالى بقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً، أي يتقبل أقل شيء من العمل وينميه، فذلك شكر منه لعباده، والشكور من البهائم الذي يأكل قليلا ويظهر به بدنه، والعرب(2/128)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
تقول في مثل أشكر من بروقة، لأنها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر، وفي قوله عَلِيماً تحذير وندب إلى الإخلاص.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 151]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد، فتكون الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك، والْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك، أما أنه يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه. والْجَهْرَ: كشف الشيء، ومنه الجهرة في قول الله تعالى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 53] ومنه قولهم: جهرت البير، إذا حفرت حتى أخرجت ماءها، واختلف القراء في قوله تعالى إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق وزيد بن أسلم والضحاك بن مزاحم وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ومسلم بن يسار وغيرهم «إلا من ظلم» بفتح الظاء واللام، واختلف المتأولون على القراءة بضم الظاء، فقالت فرقة: المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول «إلا من ظلم» فلا يكره له الجهر به، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك، فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعنّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد من ظلمي، وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو أحسن له، وقال مجاهد وغيره: هو في الضيف المحول رحله، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من القول، فقد رخص له أن يقول فيه: وفي هذا نزلت الآية، ومقتضاها ذكر الظلم وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها، وقال ابن عباس والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول.
قال القاضي رحمه الله: فهذه الأقوال على أربع مراتب:
قول الحسن دعاء في المدافعة، وتلك أقل منازل السوء من القول.
وقول ابن عباس الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء.
وقول مجاهد، ذكر الظلامة والظلم.
وقول السدي الانتصار بما يوازي الظلامة.
وقال ابن المستنير: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفرا أو نحوه،(2/129)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
فذلك مباح، والآية في الإكراه، واختلف المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام، فقال ابن زيد: المعنى «إلا من ظلم» في قول أو في فعل، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه، قال: وذلك أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار، كان ذلك جهرا بالسوء من القول. ثم قال لهم بعد ذلك ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: 147] الآية، على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين: «ولا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم» في إقامته على النفاق، فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل؟
ونحو هذا من الأقوال، وقال قوم معنى الكلام: «ولا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول» ، ثم استثنى استثناء منقطعا، تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب مِنَ يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر، و «سميع عليم» : صفتان لائقتان بالجهر بالسوء وبالظلم أيضا، فإنه يعلمه ويجازي عليه، ولما ذكر تعالى عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء الخير وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه بقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعدا خفيا تقتضيه البلاغة ورغب في العفو إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إلى آخر الآية. نزل في اليهود والنصارى، لأنهم في كفرهم بمحمد عليه السلام كأنهم قد كفروا بجميع الرسل. وكفرهم بالرسل كفر بالله، وفرقوا بين الله ورسله في أنهم قالوا: نحن نؤمن بالله ولا نؤمن بفلان وفلان من الأنبياء، وقولهم نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ قيل: معناه من الأنبياء، وقيل: هو تصديق بعضهم لمحمد في أنه نبي، لكن ليس إلى بني إسرائيل، ونحو هذا من تفريقاتهم التي كانت تعنتا وروغانا. وقوله بَيْنَ ذلِكَ أي بين الإيمان والإسلام والكفر الصريح المجلح، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الكافرون حقا، لئلا يظن أحد أن ذلك القدر الذي عندهم من الإيمان ينفعهم، وباقي الآية وعيد.
[سورة النساء (4) : الآيات 152 الى 153]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
لما ذكر الله تعالى أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقا، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا. وهم المؤمنون بمحمد عليه السلام ليصرح بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك، فبين الفرق بين المنزلتين، وقرأ بعض السبعة «سوف يؤتيهم» بالياء أي يؤتيهم الله، وقرأ الأكثر «سوف نؤتيهم» بالنون، منهم ابن كثير ونافع وأبو عمرو، واختلف المتأولون في كيفية سؤال أهل الكتاب لمحمد عليه السلام أن ينزل عليهم كتابا من السماء، فقال السدي: قالت اليهود: يا محمد إن كنت صادقا فجىء بكتاب من(2/130)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
السماء كما جاء موسى بكتاب، وقال محمد بن كعب القرظي: قد جاء موسى بألواح فيها التوراة فجيء أنت بألواح فيها كتابك، وقال قتادة: بل سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود، يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد، وقال ابن جريج: قالت اليهود: يا محمد لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فقول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أبي أمية المخزومي القرشي، ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ على جهة التسلية لمحمد عليه السلام، وعرض الأسوة، وفي الكلام متروك يدل عليه المذكور، تقديره: فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، وقرأ جمهور الناس «أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة، وجمهور الناس «أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة، وجمهور المتأولين على أن جَهْرَةً معمول ل أَرِنَا، أي: حتى نراه جهارا أي عيانا رؤية منكشفة بينة، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى أن جَهْرَةً معمول لقالوا، أي قالوا جهرة منهم وتصريحا أَرِنَا اللَّهَ.
قال القاضي أبو محمد: وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالا عقلا، لكنه محال من جهة الشرع، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر، وهي جائزة عقلا دون تحديد ولا تكييف ولا تحيز، كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات كذاك هو مرئي لا كالمرئيات، هذه حجة أهل السنة وقولهم، ولقد حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة: مثال العلم بالله حلق لحا المعتزلة في إنكارهم الرؤية، والجملة التي قالت أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً هي التي مضت مع موسى لحضور المناجاة، وقد تقدم قصصها في سورة البقرة، وقرأ جمهور الناس «فأخذتهم الصاعقة» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي «الصعقة» والمعنى يتقارب، إذ ذلك كله عبارة عن الوقع الشديد من الصوت يصيب الإنسان بشدته وهو له خمود وركود حواس، وبِظُلْمِهِمْ هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقوله تعالى: قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي للمناجاة، فلم يكن الذين صعقوا ممن اتخذوا العجل، لكن الذين اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات في أمر إجازة البحر وأمر العصا وغرق فرعون وغير ذلك، وقوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يعني بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم وقع العفو عن الباقين منهم، و «السلطان» الحجة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 154 الى 156]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
الطُّورَ الجبل اسم جنس، هذا قول، وقيل الطُّورَ: كل جبل غير منبت، وبالشام جبل قد(2/131)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
عرف بالطور ولزمه الاسم وهو طور سيناء، وليس بالمرفوع على بني إسرائيل، لأن رفع الجبل كان فيما يلي فحص التيه من جهة ديار مصر، وهم ناهضون مع موسى عليه السلام، وقد تقدم في سورة البقرة قصص رفع الطور، وقوله بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم أن يعطوه في أخذ الكتاب بقوة والعمل بما فيه، وقوله تعالى: وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً هو باب بيت المقدس المعروف بباب حطة، أمروا أن يتواضعوا شكرا لله تعالى على الفتح الذي منحهم في تلك البلاد، وأن يدخلوا باب المدينة سجّدا. وهذا نوع من سجدة الشكر التي قد فعلها كثير من العلماء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مالك بن أنس رحمه الله لا يراها. وقوله تعالى وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي على الحيتان وفي سائر الأعمال، وهؤلاء كانوا بأيلة من ساحل البحر فأمروا بالسكون عن كل شغل في يوم السبت فلم يفعلوا، بل اصطادوا وتصرفوا، وقد تقدم قصص ذلك، وأخذ الله تعالى منهم «الميثاق الغليظ» هو على لسان موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء، أي بأنهم يأخذون التوراة بقوة، ويعملون بجميع ما فيها، ويوصلونه إلى أبنائهم ويؤدون الأمانة فيه.
وقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ الآية، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه، والإيمان الذي تضمنه ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله كفرهم بآيات الله، وقولهم: حبة في شعرة وحنطة في شعيرة، ونحو ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة، وهي قتل الأنبياء، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ» منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم. وقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ أي هي في حجب وغلف، فهي لا تفهم، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم، وقرأ نافع «تعدّوا» بسكون العين وشد الدال المضمومة، وروى عنه ورش «تعدّوا» بفتح العين وشد الدال المضمومة، وقرأ الباقون «لا تعدوا» ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة، وقرأ الأعمش والحسن «لا تعتدوا» وقوله تعالى: فَبِما ما زائدة مؤكدة، التقدير فبنقضهم، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم، متروك مع ذهن السامع، تقديره لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم.
ثم قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ أي في أمر عيسى عليه السلام، وقولهم على مريم بهتانا، يعني رميهم إياها بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد، وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر و «البهتان» : مصدر من قولك بهته إذا قابله بأمر مبهت يحار معه الذهن وهو رمي بباطل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 159]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)(2/132)
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فهذه الطائفة التي قالت إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وقوله عز وجل: رَسُولَ اللَّهِ إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول، كما أن قريشا في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافا شديدا أنا أختصر عيونه، إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل تطلبه، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى، فروي أن أحد الحواريين رشي عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه فأحيط به، ثم ندم ذلك الحواري وخنق نفسه، وروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل فما زال ينقر عليه حتى دل على مكانه، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل فروي: أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي ثمانية عشر وحصروا ليلا فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة، ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك الرجل، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب، وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه: أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس: أنا، وألقي عليه شبه عيسى، ويروى أن شبه عيسى عليه السلام ألقي على الجماعة كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة، فأخذوا واحدا ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الروايات التي ذكرتها، فصلب ذلك الشخص، وروي: أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر، فصلب ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير ولم تثبت له صفة، وحينئذ دنا الناس منه ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب، فهذا أيضا يدل على أنه فرقهم وهو في البيت، أو على أن الشبه ألقي على الكل، وروي أن هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما المعنى وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي شبه عليهم الملك الممخرق، ليستديم ملكه، وذلك أنه لما نقص واحد من(2/133)
الجماعة وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش بصلبه وفرق الناس عنه. وقال: هذا عيسى قد صلب وانحل أمره، وقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اختلاف المحلولين لأخذه، لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد وتحدث برفع عيسى اضطربوا واختلفوا، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف، لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة ولا يقين أيهم هو.
قال القاضي- رحمه الله: الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب، وأما هل هو عيسى أم لا؟ فليس من علم الحواس، فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى، ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به، ثم استثنى اتباع الظن وهو استثناء متصل، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد أنهما من معتقدات النفس، وقد يقول الظان على طريق التجوز: علمي في هذا الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه. وقوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً اختلف المتأولون في عود الضمير من قَتَلُوهُ فقالت فرقة: هو عائد على الظن كما تقول: قتلت هذا الأمر علما، فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقينا، هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة، وقال قوم: الضمير عائد على عيسى، أخبر أنهم لم يقتلوه يقينا، فيصح لهم الإصفاق ويثبت نقل كافتهم، ومضمن الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقينا ولا شكا، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكا فيه، وقال قوم من أهل اللسان: الكلام تام في قوله وَما قَتَلُوهُ ويَقِيناً مصدر مؤكد للنفي في قوله وَما قَتَلُوهُ المعنى يخبركم يقينا، أو يقص عليكم يقينا، أو أيقنوا بذلك يقينا، وقوله تعالى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يعني إلى سمائه وكرامته، وعيسى عليه السلام حي في السماء الثانية على ما تضمن حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ذكره البخاري في حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل الدجال، وليملأ الأرض عدلا، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما يموت البشر.
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف المتأولون في معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم: الضمير في مَوْتِهِ راجع إلى عيسى، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر، وترجع الأديان كلها واحدا، وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما: الضمير في بِهِ لعيسى وفي مَوْتِهِ للكتابي الذي تضمنه قوله وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد، قالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله، ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت، فهو إيمان لا ينفعه، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة، وقال هذا القول عكرمة والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضا، وقال عكرمة أيضا: الضمير في بِهِ لمحمد عليه السلام، وقَبْلَ مَوْتِهِ للكتابي، قال: وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت، وفي مصحف أبي بن كعب «قبل موتهم» ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي، وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل الكتاب» بتشديد «إن» . والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه السلام في جل الأقوال، ولمحمد عليه السلام في قول عكرمة.(2/134)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ عطف على قوله فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: 155] كأنه قال فبنقضهم لعناهم وأوجبنا عذابهم، فبظلم منهم حرمنا عليهم المطاعم، وجعل الله تعالى هذه العقوبة الدنيوية إزاء ظلم بني إسرائيل في تعنتهم وسائر أخلاقهم الدميمة، و «الطيبات» هنا: هي الشحوم وبعض الذبائح والطير والحوت وغير ذلك، وقرأ ابن عباس «طيبات كانت أحلت لهم» وقوله تعالى وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً يحتمل أن يريد صدهم في ذاتهم، ويحتمل أن يريد صدهم غيرهم، وإلى هذا ذهب الطبري، وقال: هو جحدهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم صدوا بذلك جمعا عظيما من الناس عن سبيل الله وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا: هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل ونحو ذلك مما هو مفسدة، وقد نهوا عنه فشرعوه لأنفسهم واستمروا عليه من ذلك، ومن كراء العين ونحوه، وأكل أموال الناس بالباطل: هو الرشى، ثم استثنى الله تعالى من بني إسرائيل «الراسخين» في علم التوراة الذين قد تحققوا أمر محمد عليه السلام وعلاماته، وهم: عبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهما، وَالْمُؤْمِنُونَ: عطف على الراسخين، و «ما أنزل» إلى محمد هو القرآن، والذي أنزل من قبله: هو التوراة والإنجيل، واختلف الناس في معنى قوله وَالْمُقِيمِينَ وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وتأخر، فقال أبان بن عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنها: ذلك من خطأ كاتب المصحف، وروي أنها في مصحف أبيّ بن كعب «والمقيمون» وقد روي أنها فيه وَالْمُقِيمِينَ كما هي في مصحف عثمان. قال الفراء: وفي مصحف ابن مسعود «والمقيمون» وكذلك روى عصمة عن الأعمش، وكذلك قرأ سعيد بن جبير، وكذا قرأ عمرو بن عبيد والجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار، وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو، وقال آخرون: ليس ذلك من خطأ الكاتب ولا خطأ في المصحف، وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب بأعني، والرفع بعد ذلك بهم، وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة، وحكي عن سيبويه: أنه قطع على المدح، وخبر لكِنِ يُؤْمِنُونَ لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى، وهذا كقول خرنق بنت هفان:
[الكامل]
لا يبعدن قومي الّذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر
قال القاضي أبو محمد: وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل، وفي هذا نظر، وقال قوم: قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ ليس بعطف على قوله(2/135)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
وَالْمُؤْمِنُونَ ولكن على ما في قوله وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمعنى ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم الملائكة، وقال بعضهم: بل من تقدم من الأنبياء، قالوا: ثم رجع بقوله وَالْمُؤْتُونَ فعطف على قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وقال قوم وَالْمُقِيمِينَ عطف على ما أُنْزِلَ، والمراد بهم المؤمنون بمحمد، أي يؤمن الراسخون بهم وبما هم عليه، ويكون قوله الْمُؤْتُونَ أي وهم المؤتون، وقال قوم وَالْمُقِيمِينَ عطف على الضمير في منهم، وقال آخرون: بل على الكاف في قوله مِنْ قَبْلِكَ ويعني الأنبياء، وقرأت فرقة «سنؤتيهم» بالنون، وقرأت فرقة «سيؤتيهم» بالياء.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 164]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
روي عن عبد الله بن عباس: أن سبب هذه الآية أن سكينا الحبر وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى، ولا أوحى إليه، فنزلت هذه الآية تكذيبا لقولهما. وقال محمد بن كعب القرظي: لما أنزل الله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النساء:
153] إلى آخر الآيات، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام، وذلك هو المراد بقوله كَما أَوْحَيْنا أي بملك ينزل من عند الله، ونُوحٍ أول الرسل في الأرض إلى أمة كافرة، وصرف نوح مع العجمة والتعريف لخفته، وإِبْراهِيمَ عليه السلام هو الخليل، وَإِسْماعِيلَ
ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين، وهو أبو العرب، وَإِسْحاقَ ابنه الأصغر وَيَعْقُوبَ هو ولد إسحاق وهو إسرائيل، وَالْأَسْباطِ: بنو يعقوب، يوسف وإخوته، وَعِيسى هو المسيح، وَأَيُّوبَ هو المبتلى الصابر، وَيُونُسَ هو ابن متى، وروى ابن جماز عن نافع: يونس بكسر النون، وقرأ ابن وثاب والنخعي- بفتحها، وهي كلها لغات، وَهارُونَ هو ابن عمران، وَسُلَيْمانَ هو النبي الملك، وداوُدَ: أبوه، وقرأ جمهور الناس «زبورا» بفتح الزاي، وهو اسم كتاب داود تخصيصا، وكل كتاب في اللغة فهو زبور من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته، وقرأ حمزة وحده «زبورا» بضم الزاي، قال أبو علي: يحتمل أن يكون جمع زبر، أوقع على المزبور اسم الزبر، كما قالوا ضرب الأمير. ونسج اليمن. وكأن سمي المكتوب كتابا، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة، كما قالوا: ظريف وظروف وكروان وكروان وورشان وورشان، ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل التصغير. وقد اطرد هذا المعنى في(2/136)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، وحارث وحريث، وثابت وثبيت، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في الاستعمال.
وقوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ الآية، نصب رُسُلًا على المعنى، لأن المعنى إنا أرسلناك كما أرسلنا نوحا، ويحتمل أن ينصب رُسُلًا بفعل مضمر تقديره أرسلنا رسلا، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي، وفي حرف أبي بن كعب «ورسل» في الموضعين بالرفع على تقديرهم رسل، وقَصَصْناهُمْ معناه ذكرنا أسماءهم وأخبارهم، وقوله تعالى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ يقتضي كثرة الأنبياء دون تحديد بعدد، وقد قال تعالى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وقال تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 38] وما يذكر من عدد الأنبياء فغير صحيح، الله أعلم بعدتهم، صلى الله عليهم، وقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً إخبار بخاصة موسى، وأن الله تعالى شرفه بكلامه ثم أكد تعالى الفعل بالمصدر، وذلك منبىء في الأغلب عن تحقيق الفعل ووقوعه، وأنه خارج عن وجوه المجاز والاستعارة، لا يجوز أن تقول العرب: امتلأ الحوض وقال:
قطني قولا، فإنما تؤكد بالمصادر الحقائق. ومما شذ قول هند بنت النعمان بن بشير:
وعجت عجيجا من جذام المطارف.
وكلام الله للنبي موسى عليه السلام دون تكييف ولا تحديد ولا تجويز حدوث ولا حروف ولا أصوات، والذي عليه الراسخون في العلم: أن الكلام هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى أو جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات فكذلك كلامه لا كالكلام، وما روي عن كعب الأحبار وعن محمد بن كعب القرظي ونحوهما:
من أن الذي سمع موسى كان كأشد ما يسمع من الصواعق، وفي رواية أخرى كالرعد الساكن فذلك كله غير مرضي عند الأصوليين، وقرأ جمهور الأمة «وكلم الله موسى» بالرفع في اسم الله، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وكلم الله» بالنصب على أن موسى هو المكلم، وهي قراءة ضعيفة من جهة الاشتهار، لكنها مخرجة من عدة تأويلات.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 165 الى 169]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
رُسُلًا بدل من الأول قبل. ومُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ حالان أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع،(2/137)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
وينذرون بالنار من كفر وعصى، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إليّ الرسول لآمنت، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة منه تعالى.
وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية، سببها قول اليهود ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:
91] وقال بعضهم لمحمد عليه السلام: ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والجراح الحكمي «لكنّ الله يشهد» بشد النون ونصب المكتوبة على اسم «لكن» وقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم، والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله، ومذهب المعتزلة في هذه الآية أنه أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن، كما هو في قول الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، معناه: من علم الله الذي بث في عباده، وقرأ الجمهور «أنزل» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الحسن «أنزل» بضم الهمزة على بنائه للمفعول، وقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ تقوية لأمر محمد عليه السلام ورد على اليهود، قال قتادة: شهود والله غير متهمة، وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تقديره: وكفى الله شهيدا، لكن دخلت الباء لتدل على أن المراد بالله.
ثم أخبر تعالى عن الكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله أنهم قد بعدوا عن الحق وضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لا يقرب رجوعهم عنه ولا تخلصهم معه، وقرأ عكرمة وابن هرمز «وصدوا» بضم الصاد.
ثم أخبر تعالى عن الكافرين الظالمين في أن وضعوا الشيء في غير موضعه، وهو الكفر بالله، والله تعالى يستوجب منهم غير ذلك لنعمه الظاهرة والباطنة أنهم بحيث لم يكن ليغفر لهم، وهذه العبارة أقوى من الإخبار المجرد أنه لا يغفر، ومثال ذلك أنك إذا قلت: أنا لا أبيع هذا الشيء فهم منك الاغتباط به، فإذا قلت: أنا ما كنت لأبيع هذا الشيء، فالاغتباط منك أكثر، هذا هو المفهوم من هذه العبارة، وقوله تعالى:
وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ هذه هداية الطرق وليست بالإرشاد على الإطلاق. وباقي الآية بيّن يتضمن تحقير أمر الكفار، وأنهم لا يباليهم الله بالة كما ورد في الحديث، يذهب الصالحون الأول فالأول، حتى تبقى حثالة كحثالة التمر لا يباليهم الله بالة، المعنى: إذ هم كفار في آخر الزمان وعليهم تقوم الساعة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 171]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
المخاطبة بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ مخاطبة لجميع الناس، والسورة مدنية، فهذا مما خوطب به جميع(2/138)
الناس بعد الهجرة، لأن الآية دعاء إلى الشرع، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت «يا أيها الذين آمنوا» والرَّسُولُ في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم، وبِالْحَقِّ في شرعه، وقوله تعالى:
خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل مضمر تقديره، إيتوا خيرا لكم، أو حوزوا خيرا لكم، وقوله فَآمِنُوا وقوله انْتَهُوا بعد ذلك، أمر بترك الشيء والدخول في غيره، فلذلك حسنت صفة التفضيل التي هي خير، هذا مذهب سيبويه في نصب خير، ونظيره من الشعر قول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك ... أو الربى بينهما أسهلا
أي يأت أسهل، وقال أبو عبيدة التقدير يكن الإيمان خيرا والانتهاء خيرا، فنصبه على خبر كان، وقال الفراء: التقدير فآمنوا إيمانا خيرا لكم، فنصبه على النعت لمصدر محذوف ثم قال تعالى وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهذا خبر بالاستغناء، وأن ضرر الكفر إنما هو نازل بهم، ولله تعالى العلم والحكمة.
ثم خاطب تعالى أهل الكتاب من النصارى بأن يدعوا «الغلو» ، وهو تجاوز الحد، ومنه غلاء السعر، ومنه غلوة السهم، وقوله تعالى: فِي دِينِكُمْ إنما معناه، في الدين الذي أنتم مطلوبون به، فكأنه اسم جنس، وأضافه إليهم بيانا أنهم مأخوذون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق، وأن يوحدوا ولا «يقولوا على الله إلا الحق» ، وإذا سلكوا ما أمروا به، فذلك سائقهم إلى الإسلام، ثم بين تعالى أمر المسيح وأنه رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أي مكون عن كلمته التي هي «كن» وقوله أَلْقاها عبارة عن إيجاد هذا الحادث في مريم، وقال الطبري وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها يريد جملة مخلوقاته، ف «من» لابتداء الغاية إذا حقق النظر فيها، وقال البشارة التي بعث الملك بها إليها، وقوله تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ أي من الله وقال الطبري وَرُوحٌ مِنْهُ أي نفخة منه، إذ هي من جبريل بأمره، وأنشد قول ذي الرمة:
فقلت له اضممها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا
يصف سقط النار، وقال أبيّ بن كعب: روح عيسى من أرواح الله التي خلقها واستنطقها بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] فبعثه الله إلى مريم فدخل فيها، ثم أمرهم بالإيمان بالله ورسله، أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام، وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ المعنى:
الله ثالث ثلاثة، فحذف الابتداء والمضاف، كذا قدر أبو علي، ويحتمل أن يكون المقدر: المعبود ثلاثة، أو الإله ثلاثة، أو الآلهة ثلاثة، أو الأقانيم ثلاثة، وكيف ما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير، وقد تقدم القول في معنى انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ.(2/139)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
إِنَّمَا في هذه الآية حاصرة، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة إِنَّما تقتضي الحصر، ولكنها تصلح للحصر وللمبالغة في الصفة وإن لم يكن حصر، نحو: إنما الشجاع عنترة وغير ذلك. وسُبْحانَهُ: معناه تنزيها له وتعظيما عن أن يكون له ولد كما تزعمون أنتم أيها النصارى في أمر عيسى، إذ نقلتم أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن يكون له ولد» بكسر الألف من «أن» وهي نافية بمعنى ما يكون له ولد، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية: إخبار يستغرق عبودية عيسى وغير ذلك من الأمور.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
ثم برأ تعالى جهة المسيح عليه السلام من أقوالهم، وخلصه للذي يليق به فقال نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ
الآية، والاستنكاف: إباية بأنفة، وقوله تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان، أي ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين، لا يستنكفون عن ذلك فكيف سواهم، وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء، ثم أخبر تعالى عمن يستنكف أي يأنف عن عبادة الله ويستكبر، بأنه سيناله الحشر يوم القيامة والرد إلى الله، وقوله سَيَحْشُرُهُمْ
عبارة وعيد، وقرأ جمهور الناس «فسيحشرهم» بالياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فسنحشرهم» بنون الجماعة، «فنوفيهم» ، «ونزيدهم» ، «فنعذبهم» ، كلها بالنون، قال أبو الفتح: وقرأ مسلمة «فسيحشرهم» «فيعذبهم» بسكون الراء والباء على التخفيف.
وبين الله تعالى أمر المحشورين، فأخبر عن المؤمنين العاملين بالصالحات، أنه «يوفيهم أجورهم» حتى لا يبخس أحد قليلا ولا كثيرا، وأنه يزيدهم من فضله، وتحتمل هذه الزيادة أن تكون المخبر عنها في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، ويحتمل أن يكون التضعيف الذي هو غير مصرد محسوب، وهو المشار إليه في قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] .
قوله تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا....
هذا وعيد للمستنكفين الذين يدعون عبادة الله أنفة وتكبرا، وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه، كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بمحمد عليه السلام، وكفعل أبي(2/140)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
جهل وغيره، وإلا فإذا فرضت أحدا من البشر عرف الله تعالى، فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه، والعناد المجوز إنما يسوق إليه الاستكبار عن البشر، ومع تقارب المنازل في ظن المتكبر.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ الآية إشارة إلى محمد رسول الله، و «البرهان» : الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، والمعنى: قد جاءكم مقترنا بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يعني القرآن فيه بيان لكل شيء، وهو الواعظ الزاجر، الناهي الآمر.
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله، المعتصمين به، والضمير في بِهِ يحتمل أن يعود على الله تعالى، ويحتمل أن يعود على القرآن الذي تضمنه قوله تعالى: نُوراً مُبِيناً و «الاعتصام» به التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به، فهو يعصم كما تعصم المعاقل، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم» ، و «الرحمة» و «الفضل» : الجنة وتنعيمها، وَيَهْدِيهِمْ، معناه: إلى الفضل، وهذه هداية طريق الجنان، كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 5] لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه، وصِراطاً نصب بإضمار فعل يدل عليه يَهْدِيهِمْ، تقديره فيعرفهم، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول الثاني، إذ يَهْدِيهِمْ في معنى يعرفهم، ويحتمل أن ينتصب على ظرفية «ما» ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في إِلَيْهِ وقيل: من فضل، والصراط: الطريق وقد تقدم تفسيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
تقدم القول في تفسير الْكَلالَةِ في صدر السورة، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل، وبقي فيها من يتكلل، أي: يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلا فقال: ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر: ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليّ من الدنيا: الجد والكلالة، والخلافة، وأبواب من الربا، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتابا فمكث يستخير الله فيه ويقول. اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلما طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال: ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال: لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليّ من جزية قصور الشام. وقال طارق بن شهاب: أخذ عمر بن الخطاب كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا، فقال عمر: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه،(2/141)
وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال: إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال: تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن، وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال: ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة.
قال القاضي أبو محمد: فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12] إلى آخر الآية.
قال القاضي رحمه الله: هذا هو الظاهر، لأن البراء بن عازب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وقال كثير من الصحابة: هي من آخر ما نزل، وقال جابر بن عبد الله: نزلت بسببي، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله:
كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي والد ولا ولد؟ فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكفيك منها آية الصيف، بيان فيه كفاية وجلاء، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم: الْكَلالَةِ الميت نفسه، وقال آخرون الْكَلالَةِ المال، إلى غير ذلك من الخلاف، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختا، فلها النصف فرضا مسمى بهذه الآية، فإن ترك الميت بنتا وأختا، فللبنت النصف، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته: ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال، أنزلها الله في أولي الأرحام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ» . وقوله تعالى أَنْ تَضِلُّوا معناه: كراهية أن تضلوا، وحذر أن تضلوا فالتقدير. لئلا تضلوا، ومنه قول القطامي في صفة ناقة: [الوافر] .
رأينا ما يرى البصراء منها ... فآلينا عليها أن تباعا
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي.(2/142)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع. وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: يا عليّ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع. ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: 2] الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قال علقمة: كل ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال:
وفى وأوفى بمعنى واحد، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود.
وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به(2/143)
المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام. قال الطبري: وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم الله، قال نعم يا نبي الله، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة. وقال ابن عباس رضي الله عنه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ معناه بما أحل الله وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، قاله مجاهد وغيره.
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.
قال القاضي أبو محمد: وقد تنحصر إلى أقل من خمس، وقال ابن جريج قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فكتب الآيات منها إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [المائدة: 4] .
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في «الأنعام» من السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك، واختلف في معنى بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فقال السدي والربيع وقتادة والضحاك: هي «الأنعام» كلها.
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة، وقال ابن عباس: هذه الأجنة من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، قال الطبري: وقال قوم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن(2/144)
حد «الأنعام» فصار له نظر ما، ف بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الراعي من ذوات الأربع وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع، وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها.
واتفقت الآية وقول النبي عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام» ، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم، وليل بهيم، وبهمة، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ استثناء ما تلي في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: 3] . وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إِلَّا عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب غَيْرَ على الحال من الكاف والميم في قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في يُتْلى لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل بَهِيمَةُ على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.
قال القاضي أبو محمد: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي ملبّ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب «حرم» بسكون الراء. قال أبو الحسن هذه لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحوه، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود وتحليل بهيمة الأنعام واستثناء ما تلي بعد واستثناء حال الإحرام فيما يصاد وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد..
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود الله(2/145)
في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حده وطاعته فهي بمعنى معالم الله، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي شَعائِرَ اللَّهِ حرم الله، وقال ابن عباس شَعائِرَ اللَّهِ مناسك الحج. وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وقال ابن عباس أيضا شَعائِرَ اللَّهِ ما حد تحريمه في الإحرام. وقال عطاء بن أبي رباح، شَعائِرَ اللَّهِ جميع ما أمر به أو نهى عنه، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم. وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية، وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه. وتزيل فيه السلاح، وتنزع الأسنة من الرماح، وتسميه منصل الأسنة وتسميه الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفرا فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله علم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته..
قال القاضي أبو محمد: والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصا بقريش ثم فشا في مضر، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا ... إذا حبست مضرجها الدماء
قال أبو عبيدة أراد رجبا لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر..
قال القاضي أبو محمد: فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، وقال عكرمة: المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها، وقولنا فيها «أول» تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم.
وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه، واختلف الناس في الْقَلائِدَ فحكى الطبري عن ابن عباس أن الْقَلائِدَ هي الْهَدْيَ المقلد وأن الْهَدْيَ إنما يسمى هديا ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي» الذي يقلد والمقلد منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن الْهَدْيَ إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال الْهَدْيَ جملة ثم ذكر(2/146)
المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، وقال جمهور الناس: الْهَدْيَ عام في أنواع ما أهدي قربة والْقَلائِدَ ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره: بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني.
وقال مجاهد وعطاء: بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره، وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال: أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره.
فخرج فقال النبي عليه السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر» ، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول:
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين خفاق القدم
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجا وساق هديا فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه.
وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فنزلت هذه الآية، قال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه، وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون، فقال المسلمون يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال القاضي أبو محمد: فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورضوانا» بضم الراء.(2/147)
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
قوله تعالى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: فَاصْطادُوا صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد تجيء للندب كقوله:
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: 77] وقد تجيء للإباحة كقوله فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: 17] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا، وقد تجيء للوعيد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وقد تجيء للتعجيز كقوله كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: 50] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحق لكم كما أن لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: 62] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي] :
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
معناه كاسب قوت ناهض، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم، وقرأ ابن مسعود وغيره(2/148)
«يجرمنكم» بضم الياء والمعنى أيضا لا يكسبنكم وأما قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شنآن» متحركة النون، وقرأ ابن عامر «شنآن» ساكنة النون، واختلف عن عاصم ونافع، يقال شنئت الرجل شنأ بفتح الشين وشنآنا بفتح النون وشنآنا بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته، قال سيبويه: كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت كما عدي الرفث ب «إلى» من حيث كان بمعنى الإفضاء.
قال القاضي أبو محمد: فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي ... وفقأت عين الأشوس الأبيان
بفتح الباء وأما من قرأ «شنآن» بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدرا وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه ليانا، وقول الأحوص:
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا إنما هو تخفيف من «شنآن» الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي، قال أبو علي: من زعم أن فعلان إذا أسكنت علينه لم يك مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا فقد حكي: رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول، ومما جاء وصفا على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.
قال القاضي أبو محمد: ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما(2/149)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
صددنا فنزلت الآية، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم» بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه إن وقع مثل ذلك في المستقبل. وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم» وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير.
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال قوم: هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا بشدة العقاب وروي أن هذه الآية نزلت نهيا عن الطلب بذحول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، قاله مجاهد. وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل..
قوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : الآيات 3 الى 4]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة: 1] والْمَيْتَةُ كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس «الميتة» بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج:
هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان: الميت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
قال القاضي أبو محمد: والبيت يحتمل أن يتأول شاهدا عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى: وَالدَّمُ معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم وعلى تحليل الطحال ونحوه وكانت الجاهلية تستبيح الدم ومنه قولهم لم يحرم من فصد له والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مقتض لشحمه بإجماع، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلدا كان أو عظما، وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذا صاح عند الولادة، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
وقوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ معناه التي تموت خنقا وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة(2/150)
وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس وَالْمَوْقُوذَةُ التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق:
شغارة تغذ الفصيل برجلها ... فطارة لقوادم الأبكار
وقال ابن عباس الْمَوْقُوذَةُ التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.
قال القاضي أبو محمد: ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك: كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس الْمَوْقُوذَةُ إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.
قال القاضي أبو محمد: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ» ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، وَالنَّطِيحَةُ فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم النَّطِيحَةُ بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرا يريد أم مؤنثا، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك: النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم..
قال القاضي أبو محمد: وكل ما مات ضغطا فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة» ، وقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد. وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره.
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع» ، واختلف العلماء في قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاستثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة ان قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.(2/151)
قال القاضي أبو محمد: فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من غير هذه فكلوه، وفي هذا عندي نظر، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات، وقال الطبري: إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب، قال ابن سيده: والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها فمن حجة المخالف ان قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسب ما كانت هي عليه.
قوله تعالى:
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ...
قوله: وَما ذُبِحَ عطف على المحرمات المذكورات، والنُّصُبِ جمع واحده نصاب، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعا قطعا ليأكل الناس، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: النُّصُبِ حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. وقال ابن عباس:
ويهلون عليها، قال ابن جريج: النُّصُبِ ليس بأصنام الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب.
قال القاضي أبو محمد: وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة.. فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الحج: 37] ونزلت وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.(2/152)
قال القاضي أبو محمد: المعنى والنية فيها تعظيم النصب، قال مجاهد: وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها، قال ابن زيد: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أهل به لغير الله شيء واحد.
قال رضي الله عنه: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النّصب» بفتح النون وسكون الصاد، وقال على الصنم، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النّصب» بضم النون وسكون الصاد، وقرأ عيسى بن عمر «على النّصب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور، وقوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر بِالْأَزْلامِ وهي سهام واحدها زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل، في أحدها العقل في أمور الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام بِالْأَزْلامِ، والفسق الخروج من مكان محتو جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية نزلت في إثر(2/153)
حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج، ويحتمل قوله تعالى: الْيَوْمَ أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك. ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان يَئِسَ الكفار من دينكم وقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس» بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ تحتمل الإشارة ب الْيَوْمَ ما قد ذكرناه، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك. وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة. وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صدقت، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي: آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر أية آية هي فقال له: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.
قال القاضي أبو محمد: ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود: فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد: وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال: نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم(2/154)
الاثنين، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قبلنا، وقوله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب.
وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تحل الميتة؟ فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا.
قال القاضي أبو محمد: فهذا مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد في الطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالا كثيرا وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة، و «المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم، ويستعمل ذلك كثيرا في الجوع والغرث، ومنه قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن، وقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173] وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف» ، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من مُتَجانِفٍ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا، ومقاربة ميل، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات.
وسبب نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلبا فلم يدخل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟(2/155)
قال القاضي أبو محمد: وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب، وحكاه أيضا عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفا عليهما وظاهر الآية أن سائلا سأل عما أحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع فإنما يجاوب مادّا أطناب التعليم لأمته، والطَّيِّباتُ الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغى مستلذا كان أم لا، وقال الشافعي: الطَّيِّباتُ الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.
وقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال: جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال: وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم: إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: 4] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى(2/156)
فينشلي، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل، وقال عطاء:
ليس شرب الدم بأكل. وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذا وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم. وأما الطير فقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري.
قال القاضي أبو محمد: لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاء فقد حصل منه التعليم، قال ابن المنذر: وكان النعمان لا يحد في ذلك عددا، وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلما وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلما قالوا: وذلك مثل شفرته، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى، وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس، وقال أبو ثور فيها قولين: أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز، وقرأ جمهور الناس «وما علمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «علّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها، والْجَوارِحِ الكواسر على ما تقدم، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا الْجَوارِحِ مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه، وقال بعض المفسرين: المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بمحرر.
قوله عز وجل:
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ....(2/157)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان ف «من» للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في تُعَلِّمُونَهُنَّ مراعاة للفظ الْجَوارِحِ إذ هو جمع جارحة، وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئا.
ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفا لم تؤكل وإن تركها عامدا لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم: أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر، وقال قوم: إن صلى مع ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علما فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب الْحِسابِ المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في الطَّيِّباتُ وقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ابتداء وخبر، وحِلٌّ معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول: إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور: وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك. وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله، واختلف(2/158)
العلماء في لفظة أُوتُوا فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل والنصارى الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.
قال القاضي أبو محمد: فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء: الإسلام والعفة والنكاح والحرية، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وقالت جماعة من أهل العلم: «المحصنات» في هذه الآية العفائف، منهم مجاهد أيضا والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي، وقال الشعبي: إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة، وقال أبو ميسرة: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن.
قال القاضي أبو محمد: ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها. وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال: من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه، والأجور في هذه الآية المهور، وانتزع أهل العلم لفظة آتَيْتُمُوهُنَّ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى، ومُحْصِنِينَ معناه متزوجين على السنة، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح، والمسافح المزاني، والسفاح الزنى، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها أن يقع الإيمان بها، وباقي الآية بين.(2/159)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء، لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق. وفيها كان هبوب الريح فيما روي، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون: 8] القصة بطولها، وفيها وقع حديث الإفك. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة إِذا قُمْتُمْ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله إِذا قُمْتُمْ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية، وروي نحوه عن عكرمة، وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءا فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات، وقال: إنما رغبت في هذا، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وقال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم.(2/160)
قال القاضي أبو محمد: والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الملامسة الصغرى فَاغْسِلُوا فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله:
فَاطَّهَّرُوا ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين، ثم ذكر بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ليذكر الجنب العادم للماء كما ذكر الواجد، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم.
وقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، والوجه ما راجه الناظر وقابله، وحدّه في الطول منابت الشعر فوق الجبهة إلى آخر الذقن، وعبر بعض الناس إلى تحت الذقن، واختلف في ذي اللحية فقيل: حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن، وقيل بل حده فيها آخر الشعر، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري، واختلف في حده عرضا فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل: من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل: من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل: يغسل ذلك البياض استحبابا، واختلف في الأذنين فقيل هما من الرأس، وقال الزهري من الوجه، وقيل هما عضو قائم بنفسه ليسا من الوجه ولا من الرأس، وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد:
الاستنشاق شطر الوضوء، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه:
من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة، وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وقوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة، وحد الله تعالى موضع الغسل منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ يقال في واحدها مرفق ومرفق، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل، ومثل أبو(2/161)
العباس المبرد في ذلك بأن تقول: اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] .
قال القاضي أبو محمد: وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إِلَى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد، وروي عنه أنهما داخلان.
وقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر، وقالت فرقة: يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول بالعموم، واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل: هو فرض، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة: الواجب من مسح الرأس عمومه، ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه، وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي: وروي عن مالك أنه أن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع، وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ.
قال القاضي أبو محمد: وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه. وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط، وقال أصحاب الرأي: إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم: يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء.
قال القاضي أبو محمد: ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون(2/162)
ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثا أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثا، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة، والباء في قوله بِرُؤُسِكُمْ مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كأن المعنى أوجدوا مسحا برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثارا وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلكم» خفضا وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصبا، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض، وروى عنه حفص النصب، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلكم» بالرفع المعنى فاغسلوها، ورويت عن نافع، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته، «ويل للأعقاب من النار» ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين، واختلفوا، فقالت فرقة منهم، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا» بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ قال وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما، وروي أيضا عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.
وقال الشعبي: نزل جبريل بالمسح ثم قال: ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا وروي عن أبي جعفر أنه قال: امسح على رأسك وقدميك، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلكم» بكسر اللام، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح، وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين» هو الغسل، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً [ص: 33] أنه الضرب، ويقال: مسح علاوته إذا ضربه، قال أبو علي: فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما ب إِلَى كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه فكان الوضوء مغسولين حد أحدهما وممسوحين حد أحدهما، وقال الطبري رحمه الله إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم(2/163)
يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلا ماسحا، قال: ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار. وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء. وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بضم اللام، والكلام في قوله إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدم في قوله إِلَى الْمَرافِقِ. واختلف اللغويون في الْكَعْبَيْنِ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق. وقال قوم الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام. قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفا في أن الْكَعْبَيْنِ هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي إِلَى الْمَرافِقِ أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه فقال الأبهري الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزىء، واختلف في العامد فقيل: يجزىء ويرتب في المستقبل، وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزىء لأنه عابث.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً الجنب مأخوذ من الجنب لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل وَالْجارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] ، ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون الْجارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] هو البعيد الجوار ويكون مقابلا للصاحب بالجنب و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقال جمهور الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إذ الملامسة هنا الجماع، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه، هذا هو مشهور المذهب، وروى محمد بن مروان الظاهري وغيره عن مالك أنه يجزىء في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء دون تدلك، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وقراءة من قرأ «من الغيط» .
وقوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلا مراعاة(2/164)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم، وتعدية أراد وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال، المعنى إرادتي لأنسى، ومن ذلك قول قيس بن سعد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة من وإن لم يكن النفي واقعا على الفعل الواقع على الحرج، ولهذا نظائر، والحرج الضيق، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم «دين الله يسر» وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة» . وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا ولذلك قال أسيد: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الآية، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حق البشر، وقرأ سعيد بن المسيب «يطهركم» بسكون الطاء وتخفيف الهاء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 8]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
الخطاب بقوله: وَاذْكُرُوا إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ونِعْمَةَ اللَّهِ اسم جنس يجمع الإسلام وجمع الكلمة وعزة الحياة وغنى المال وحسن المآل، هذه كلها نعم هذه الملة، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعات العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين. وقال مجاهد: الميثاق المذكور هو المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالقيام دأبا متكررا بالقسط وهو العدل، وقد تقدم نظير هذا في سورة النساء وتقدم في صدر هذه السورة نظير قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: 2] وباقي الآية بيّن متكرر والله المعين.(2/165)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 11]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم، ووَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، وكذلك هو في هذه الآية، فالمفعول الثاني مقدر يفسره ويدل عليه قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار ليبين الفرق.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والنعمة هي العاملة في إذ وهي نعمة مخصوصة، وهم الرجل بالشيء إذا أراد فعله، ومنه قول الشاعر:
هل ينفعنك اليوم أن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
ومنه قول الآخر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
واختلف الناس في سبب هذه الآية وما النازلة التي وقع فيها الهم ببسط اليد والكف من الله تعالى؟
فقال الجمهور: إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل آخر معه، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهدا من النبي صلى الله عليه وسلم وانصرفا، فسألهما عمرو ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع الدية فذهب يوما إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي. فكلمهم فقالوا: نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاما وننظر في معونتك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراما منه اليوم، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك، وفي الخبر زوائد لا تخص الآية وقد ذكره ابن إسحاق وغيره، وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل ونقضهم المواثيق، وقالت جماعة من العلماء: سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وذلك أنه نزل بواد كثير العضاه، فتفرق الناس في الظلال وتركت للنبي صلى الله عليه وسلم شجرة ظليلة، فعلق سيفه بها ونام فجاء رجل(2/166)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
من محارب فاخترط السيف فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم والسيف صلت في يده، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أتخافني؟ فقال لا، فقال له ومن يمنعك مني، فقال: الله، فشام السيف في غمده وجلس، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم عن أبيه أنه أسلم، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق الشجرة حتى مات، فنزلت الآية بسبب ذلك، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث بالغين منقوطة، وحكى بعض الناس أن اسمه دعثور بن الحارث وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم في طعام، فأشعره الله بذلك، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به من أن قوما من اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام.
قال القاضي أبو محمد: فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة، وقال قتادة: سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر، فأشعره الله تعالى بذلك ونزلت صلاة الخوف، فذلك كف أيديهم عن المسلمين، وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ليغتاله ويقتله.
فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره.
قال القاضي أبو محمد: والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية والحديث بكماله في سيرة ابن هشام، وذكر قوم من المفسرين وأشار إليه الزجاج أن الآية نزلت في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة: 3] فكأنه تعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال، وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس(2/167)
كلهم على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر: إنه كان لنقابا، فالنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء، وقال الربيع والسدي وغيرهما إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعا فجعلهم في حجزته.
قال القاضي أبو محمد: في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، وأسند الطبري عن ابن عباس قال: النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا: اقدروا قدر قوة قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائيل ونكولهم، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً أي ملكا وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في مَعَكُمْ لبني إسرائيل جميعا ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع: بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أرجح ومَعَكُمْ معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله لَئِنْ هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحيانا ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك، وإقامة الصلاة توفية شروطها والزَّكاةَ هنا شيء من المال كان مفروضا فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفا للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسلي» ساكنة السين في كل القرآن. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر:
وكم من ماجد لهم كريم ... ومن ليث يعزر في الندى
وقرأ عاصم الجحدري «وعزرتموهم» خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح «وتعزوه» بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة وسَواءَ السَّبِيلِ وسطه ومنه سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان.(2/168)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى:
[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
يحتمل أن تكون «ما» زائدة والتقدير «فبنقضهم» ويحتمل أن تكون اسما نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل، وقد تقدم في النساء نظير هذا ولَعَنَّاهُمْ معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية» بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية» دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: 74] والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسية فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية» ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد:
لها صواهل في صم السلام كما ... صاح القسيات في أيدي الصياريف
ومنه قول الآخر:
فما زوداني غير سحق عمامة ... وخمس مئي منها قسي وزائف
قال أبو علي: هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب، واختلف العلماء في معنى قوله:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة: بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين. وقرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام» بالألف، وقرأ أبو رجاء. «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام، وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وغائلة وأمور فاسدة، واختلف الناس في معنى خائِنَةٍ في هذا الموضع فقالت فرقة خائِنَةٍ مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] فالمعنى على خيانة، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر:(2/169)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
وقرأ الأعمش: «على خيانة منهم» ، ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال، وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية وباقي الآية وعد على الإحسان.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 14 الى 15]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
مِنَ متعلقة ب أَخَذْنا التقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله وَمِنَ معطوفا على قوله خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] ، ويكون قوله أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ابتداء خبر عنهم. والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه، وقوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في بَيْنَهُمُ يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله: رَسُولُنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدلالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القراءة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك. ومِنَ الْكِتابِ يعني من التوراة وقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ معناه ويترك كثيرا لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في يَعْفُوَ هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.(2/170)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله عز وجل: نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يحتمل أن يريد محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 16 الى 17]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «به الله» بضم الهاء حيث وقع مثله، واتَّبَعَ رِضْوانَهُ معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في «رضوان» بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن «سبل» ساكنة الباء. والسَّلامِ في هذه الآية يحتمل أن يكون اسما من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدرا كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار. وقوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، والظُّلُماتِ الكفر، والنُّورِ الإيمان، وقوله تعالى: بِإِذْنِهِ أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظا من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ الْمَسِيحُ في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعا كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء يَفْعَلُ ما يَشاءُ [آل عمران: 40] وفي قصة مريم يَخْلُقُ ما يَشاءُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود.(2/171)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 18 الى 19]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع الْيَهُودُ وَالنَّصارى يقولون عن جميعهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة. وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك. وقالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله: رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة» ، وقال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة
معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاما. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي(2/172)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة. وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء، قاله ابن عباس، وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مفعول من أجله، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 22]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليتحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة. وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير، ونِعْمَتَ اللَّهِ هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عيسى عليه السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها، والمعنى الآخر: أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحرارا تملكون ولا تملكون، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره. وقال قتادة إنما قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التملك فقط. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك، وقوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف، وقال جمهور المفسرين الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال مجاهد، المن والسلوى والحجر والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك، قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من(2/173)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعاد العود سيفا، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه، والْمُقَدَّسَةَ معناه المطهرة، وقال مجاهد: المباركة.
قال القاضي أبو محمد: والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه. واختلف الناس في تعيينها، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، وقال ابن زيد: هي أريحا وقاله السدي وابن عباس أيضا، وقال قوم: هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن، قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال القاضي أبو محمد: وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين، وقوله: «التي كتاب الله لكم» معناه التي «كتب الله» في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها، ولكن فتنتكم في دخولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصا وتجربة، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار، وذلك الرجوع القهقهرى، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه، والخاسر:
الذي قد نقص حظه.
ثم ذكر عز وجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث «موسى» الاثني عشر نقيبا مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال ال جَبَّارِينَ حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء، ولم يف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا: كوننا عبيدا للقبط أسهل من قتال هؤلاء، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلا على أنفسهم ويصير بهتم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا «موسى» أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 23 الى 26]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يخافون» بضم الياء. وقرأ الجمهور «يخافون» بفتح الياء،(2/174)
وقال أكثر المفسرين: الرجلان يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا، ويقال فيه كلاب، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا، وهو صهر «موسى» على أخته، قال الطبري: اسم زوجته مريم بنت عمران، ومعنى يَخافُونَ أي الله، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان والثبوت مع خوفهما، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود: «قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما» . وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان، أحدها ما روي من أن الرجلين كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، فكانا من القوم الذين يخافون لكن أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم. فهم «يخافون» بهذا الوجه.
والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره، فيكون ذلك مدحا لهم على نحو المدح في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: 3] وقوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفة للرجلين، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله: فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ظن منهما ورجاء وقياس أي إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا» . وقولهما: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر.
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى: وقالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذه عبارة تقتضي كفرا، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقولهم فَقاتِلا يقطع بهذا التأويل، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى» وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا اذهب أنت وكبيرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيرا لموسى وتابعا له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون» .
لكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وجميع هذا وهم، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة، وغلط النقاش في قائل المقالة، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس(2/175)
وقال لهم: أشيروا عليّ أيها الناس، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.
قال القاضي أبو محمد: وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال: اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم، وقال داعيا عليهم:
رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني هارون، وقوله: وَأَخِي يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في أَمْلِكُ تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على نَفْسِي، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما، وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم: المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه: «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أَرْبَعِينَ سَنَةً وتركهم خلالها يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن «موسى» عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة» . وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن «موسى» عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهدا بحجر الماس(2/176)
فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج، وضربه «موسى» فمات، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسرا على النيل سنة.
قال القاضي أبو محمد: والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في أَرْبَعِينَ يحتمل أن يكون مُحَرَّمَةٌ، أي حرمت عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً ويَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل مُحَرَّمَةٌ، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل يَتِيهُونَ مضمرا يدل عليه يَتِيهُونَ المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبدا، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات.
قال القاضي أبو محمد: والخطاب على هذا التأويل أصعب موقفا وأحضر يأسا. وروي أن من كان قد جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأن من كان دون العشرين عاشوا.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، قال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة» . فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه فلا تحزن يقال أسي: الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسىّ وتجمل
ومنه قول متمم بن نويرة:
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابن عباس ندم «موسى» على دعائه على قومه وحزن عليهم، فقال له الله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب الْفاسِقِينَ معاصروه، أي هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك، فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.(2/177)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 29]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
اتْلُ معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في عَلَيْهِمْ ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده والنبأ الخبر. و «ابنا آدم» هما في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «ابنا آدم» ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا. وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل، قال سعيد بن جبير وغيره: فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه، قال سائقو هذا القصص، فحسد قابيل هابيل وقال له: أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد «آدم» . وروي أن «آدم» سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصيا على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود: أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أخت جميلة، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره «آدم» فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل، فحينئذ قال له لَأَقْتُلَنَّكَ وقول هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لا حب الحق. وإِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من(2/178)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا، وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.
واختلف الناس لم قال هابيل: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ؟ فقال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفا وأن لا يمتنع من أريد قتله.. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الأظهر. ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة، وتبوء معناه تمضي متحملا. وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ قيل معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك، وقيل المعنى: بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل، وقيل المعنى: بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه، فكأن هابيل أراد: أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي، وقيل المعنى: بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي «تبوء بإثمك» في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه، وقوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قراءة الجمهور فَطَوَّعَتْ والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس، فرد؟ هـ هذه(2/179)
النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى واقعه صاحب هذه النفس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد «فطاوعت» والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل، وكأن النفس تأبى لذلك ويصعب عليها، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائما في غنمه فشدخ رأسه بحجر، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما، ثم ان آدم صلى الله عليه وسلم بقي مائة عام لم يتبسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم: ما بياك؟ قال أضحكك. ويروى أن آدم عليه السلام قال حينئذ:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين، وروي عن مجاهد أنه قال علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
قال القاضي أبو محمد: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك أنه أول من سن القتل» وقوله:
فَأَصْبَحَ عبارة عن جميع أوقاته أقيم بعض الزمن مقام كله، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط، ومنه قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح البيت، ومنه قول سعد بن أبي وقاص، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه.
وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام. وقيل سنة واحدة، وقيل بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه فلم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وروي أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت، وروي أن الله تعالى «إنما بعث غرابا» واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل، وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول، ويَبْحَثُ(2/180)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره، ومن هذا سميت سورة براءة البحوث لأنها فتشت عن المنافقين ومن ذلك قول الشاعر:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوني كان فيهم مباحث
وفي مثل: لا تكن كالباحث عن الشفرة، والضمير في قوله: سَوْأَةَ أَخِيهِ يحتمل أن يعود على قابيل ويراد بالأخ هابيل، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ويراد بالأخ الغراب الميت، والأول أشهر في التأويل، والسوأة العورة، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، ولأن سترها أوكد، ويحتمل أن يراد «بالسوأة» هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه بل الغض حق للقاتل وهو الذي أتى «بالسوأة» ، وقرأ الجمهور «فأواري» بنصب الياء.
وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان «فأواري» بسكون الياء، وهي لغة لتوالي الحركات، ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور، فقال يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ الآية واحتقر نفسه ولذلك ندم، وقرأ الجمهور «يا ويلتى» والأصل «يا ويلتي» لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك فيقولون «يا ويلتى» ويا غلاما ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول يا ويلتاه. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يا ويلتى» ونداء الويلة هو على معنى احضري فهذا أوانك، وهذا هو الباب في قوله يا حَسْرَةً [يس: 30] وفي قوله: يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان، وقرأ الجمهور «أعجزت» بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن والفياض وطلحة بن سليمان «أعجزت» بكسر الجيم، وهي لغة، ثم إن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفعه الندم، واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر» .
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
جمهور الناس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ متعلق بقوله كَتَبْنا أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31] أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال أجل الأمر أجلا وأجلا إذا جناه وجره، ومنه قول خوات:
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله(2/181)
ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ذلك بوصل الألف وكسر النون قبلها، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا كم إبلك بكسر الميم ووصل الألف. ومن ابراهيم بكسر النون وكَتَبْنا معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص الله تعالى: بَنِي إِسْرائِيلَ بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظورا لوجهين، أحدهما فيما روي أن بَنِي إِسْرائِيلَ أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلما، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم، وقوله تعالى: بِغَيْرِ نَفْسٍ معناه بغير أن تقتل نفسا فتستحق القتل، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. وهنا يندرج المحارب، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة، وقرأ الحسن «أو فسادا في الأرض» بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فسادا أو أحدث فسادا، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه، وقوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا تعطيه الألفاظ، وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا. ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحياها أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعا. وقال عبد الله بن عباس أيضا، المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ.
وقال ابن عباس أيضا وغيره المعنى من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا إذ يصلى النار بذلك ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعا» ، وقال مجاهد الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، يقول لو «قتل الناس جميعا» لم يزد على ذلك. ومن لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه، وقال ابن زيد المعنى أي من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعا» . قال ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله، وقاله الحسن أيضا أي هو العفو بعد القدرة، وقال مجاهد ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعا.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات. إحداها القود فإنه واحد، والثانية الوعيد، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار، وتلك غاية العذاب، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك، والثالثة انتهاك الحرمة، فإن نفسا واحدة، في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم(2/182)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله، فقد استويا في الحنث، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ وإلا فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى.
وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود، أنا أحيي، سمى الترك إحياء، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل» أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
اقتضى المعنى في هذه الآية كون إِنَّما حاصرة الحصر التام، واختلف الناس في سبب هذه الآية، فروي عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن تكون نازلة بني قريظة حين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة والحسن: نزلت الآية في المشركين.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ضعف، لأن توبة المشرك نافعة بعد القدرة عليه وعلى كل حال، وقال أنس بن مالك وجرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهم: إن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ثم إنهم مرضوا واستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا في لقاح الصدقة، وقال اشربوا من ألبانها وأبوالها.
فخرجوا فيها فلما صحوا قتلوا الرعاء واستاقوا الإبل فجاء الصريخ فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر فنودي في الناس يا خيل الله اركبي، فركب رسول الله على أثرهم فأخذوا، وقال جرير بن عبد الله فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى إذا أدركناهم، وقد أشرفوا على بلادهم فجئنا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال جميع الرواة فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، ويروى وسمل، وتركهم في جانب الحرة يستسقون فلا يسقون، وفي حديث جرير، فكانوا يقولون الماء ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار، وفي بعض الروايات عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، قال أبو قلابة، هؤلاء كفروا وقتلوا وأخذوا الأموال وحاربوا الله ورسوله، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم أن هذه الآية نسخت فعل النبي(2/183)
صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ووقفت الأمر على هذه الحدود، وقال بعضهم وجعلها الله عتابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سمل الأعين، وحكي عن جماعة من أهل العلم أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل لأن ذلك وقع في المرتدين.
قال القاضي أبو محمد: لا سيما وفي بعض الطرق أنهم سملوا أعين الرعاة قالوا، وهذه الآية هي في المحارب المؤمن، وحكى الطبري عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك فنزلت الآية ناهية عن ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف تخالفه الروايات المتظاهرة، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام، واختلفوا فيمن هو الذي يستحق اسم الحرابة، فقال مالك بن أنس رحمه الله، المحارب عندنا من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة، وقال بهذا القول جماعة من أهل العلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل العلم، لا يكون المحارب إلا القاطع على الناس في خارج الأمصار، فأما في المصر فلا.
قال القاضي أبو محمد: يريدون أن القاطع في المصر يلزمه حد ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك. والحرابة رتب أدناها إخافة الطريق فقط لكنها توجب صفة الحرابة، ثم بعد ذلك أن يأخذ المال مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يقتل مع الإخافة ثم بعد ذلك أن يجمع ذلك كله، فقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: في أي رتبة كان المحارب من هذه الرتب فالإمام مخير فيه في أن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات، واستحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقوبات.
قال القاضي أبو محمد: لا سيما إن كانت زلة ولم يكن صاحب شرور معروفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله، وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن وأبو مجلز وقتادة وغيرهم من العلماء بل لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن أخاف الطرق فقط فعقوبته النفي، ومن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته القطع من خلاف. ومن قتل دون أخذ مال فعقوبته القتل، ومن جمع الكل قتل وصلب، وحجة هذا القول أن الحرابة لا تخرج عن الإيمان ودم المؤمن حرام إلا بإحدى ثلاث: ارتداد أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس، فالمحارب إذا لم يقتل فلا سبيل إلى قتله، وقد روي عن ابن عباس والحسن أيضا وسعيد بن المسيب وغيرهم مثل قول مالك: إن الإمام مخير، ومن حجة هذا القول أن ما كان في القرآن «أو. أو» ، فإنه للتخيير، كقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196] وكآية كفارة اليمين وآية جزاء الصيد.
قال القاضي أبو محمد: ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانا، وذكر الطبري عن أنس بن مالك أنه قال سأل رسول الله جبريل عليهما السلام عن الحكم في المحارب، فقال: من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ، ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله، ومن جمع ذلك فاصلبه.(2/184)
قال القاضي أبو محمد: وبقي النفي للمخيف فقط، وقوله تعالى: يُحارِبُونَ اللَّهَ تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد الله، ففي الكلام حذف مضاف، وقوله تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً تبيين للحرابة أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة، وقرأ الجمهور «يقتّلوا، يصلّبوا، تقطّع» بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل يُذَبِّحُونَ وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع» بالتخفيف في الأفعال الثلاثة، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي: هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ الله ويخرج من دار الإسلام، وروي عن ابن عباس أنه قال: نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكا قال: لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك، وقال سعيد بن جبير: النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز: النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد، وقال الشافعي: ينفيه من عمله، وقال أبو الزناد: كان النفي قديما إلى دهلك وباضع وهما من أقصى اليمن، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة: النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الْأَرْضِ في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا، وهذا هو صريح مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح وقوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه(2/185)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
وأخبر بسقوط حقوق الله عنه بقوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واختلف الناس في معنى الآية فقال قتادة والزهري في كتاب الاشراف: ذلك لأهل الشرك.
قال القاضي أبو محمد: من حيث رأيا الوعيد بعد العقاب، وهذا ضعيف، والعلماء على أن الآية في المؤمنين وأن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه فقد سقط عنه حكم الحرابة ولا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين، فإن طلبه أحد بدم نظر فيه وأقاد منه إذا كان الطالب وليا، وكذلك يتبع بما وجد عنده من مال الغير وبقيمة ما استهلك من الأموال، هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر، وقال قوم من الصحابة والتابعين: إنه لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده بعينه، وأما ما استهلك فلا يطلب به، وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم كتابا منشورا، وحكى الطبري عن عروة بن الزبير أنه قال: لا تقبل توبة المحارب، ولو قبلت لاجترؤوا وكان فساد كثير ولكن لو فر إلى العدو ثم جاء تائبا لم أر عليه عقوبة.
قال القاضي أبو محمد: لا أدري هل أراد ارتد أم لا، وقال الأوزاعي نحوه إلا أنه قال: إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام أو بقي عليه ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه قبلت توبته.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح من هذا كله مذهب الفقهاء الذي قررته آنفا أن حكم الحرابة يسقط ويبقى كسائر المسلمين، واختلف إذا كان المال أقل مما يقطع فيه السارق، فقال مالك: ذلك كالكثير، وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة، وعادة البشر إذا رأى وسمع أمر ممتحن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع، فجاء الوعظ في هذه الحال، ابْتَغُوا معناه اطلبوا، والْوَسِيلَةَ القربة وسبب النجاح في المراد، ومن ذلك قول عنترة لامرأته:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وأما الوسيلة المطلوبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضا من هذا، لأن الدعاء له بالوسيلة(2/186)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل
أنشده الطبري، وقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ خص الجهاد بالذكر لوجهين، أحدهما نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام، وقد دخل بالمعنى في قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ولكن خصه تشريفا، والوجه الآخر أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو معدلها من حاله وسنه وقوته وشره نفسه، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى.
واللام في قوله: لِيَفْتَدُوا لام كي، وقرأ جمهور الناس «تقبل» بضم التاء والقاف على ما لم يسم فاعله، وقرأ يزيد بن قطيب «تقبل» بفتحها على معنى ما قبل الله.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ إخبار عن أنهم يتمنون هذا في قلوبهم، وفي غير ما آية أنهم ينطقون عن هذه الإرادة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا فارت بهم النار قربوا من حاشيتها فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون به وذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد تأول قوم هذه الإرادة أنها بمعنى يكادون على هذا القصص الذي حكى الحسن، وهذا لا ينبغي أن يتأول إلا فيما لا تتأتى منه الإرادة الحقيقة كقوله تعالى:
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] وأما في إرادة بني آدم فلا إلا على تجوز كثير، وقرأ جمهور الناس «يخرجوا» بفتح الياء وضم الراء وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «يخرجوا» بضم الياء وفتح الراء، وأخبر تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما «يخرجون من النار» وقد قال الله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال له ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها، هذه الآية في الكفار.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قرأ جمهور القراء «والسارق والسارقة» بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارق والسارقة» بالنصب، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: 2] وفي قول الله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء: 16] هو على معنى فيما فرض عليكم. والفاء في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا ردت المستقل غير مستقل، لأن قوله فيما فرض عليكم السارق جملة حقها وظاهرها الاستقلال، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله: فَاقْطَعُوا فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين، اختار(2/187)
أن يكون «والسارق والسارقة» رفعا بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيدا فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده، قال الزجاج وهذا القول هو المختار.
قال القاضي أبو محمد: أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» ، وقال الخفاف: وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسّرّق والسّرّقة» هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق» بغير ألف وافقت في الخط هذه، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن، منها الإخراج من حرز، ومنها القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه، فلفظ السَّارِقُ في الآية عموم معناه الخصوص، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
القطع في ربع دينار فصاعدا وقال مالك رحمه الله: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر، وقال إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: إن كانت قيمة السلعة ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فيها قل الصرف أو كثر، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها، روي هذا عن عمر، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة، ومنه قول أنس بن مالك: قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خمسة دراهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري: لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: تقطع اليد في درهمين فما فوقه، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية. وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج، وروي عن الحسن أيضا أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياسا على المحارب، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها، وقوله تعالى:(2/188)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولا فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد، فكأنه قال اقطعوا أيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين. قال الزجاج عن بعض النحويين، إنما جعلت تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعا كقوله: صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك. قال أبو إسحاق: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه. فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين.
قال القاضي أبو محمد: كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة.
واختلف العلماء في ترتيب القطع، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عزر وحبس، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل: تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس. وروي عن عطاء بن أبي رباح: لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تمسك بظاهر الآية، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد. ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم. وقوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا نصبه على المصدر، وقال الزجاج مفعول من أجله. وكذلك: نَكالًا مِنَ اللَّهِ والنكال العذاب، والنكل القيد، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الإعراب حكاية.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 41]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تابَ من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله وَأَصْلَحَ أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه، وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.(2/189)
قال القاضي أبو محمد: وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة، وقال الشافعي: إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب.
وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة والإخبار بهذا التعذيب لقوم والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل، والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم ف لا يَحْزُنْكَ ما يقع منهم خلال بقائهم، وقرأ بعض القراء «يحزنك» بفتح الياء وضم الزاي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي وحزنته بفتحها وقرأ بعض القراء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي لأن من العرب من يقول أحزنت الرجل بمعنى حزنته وجعلته ذا حزن، وقرأ الناس يسارعون. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» دون ألف ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره وإقامة حججه والسعي في إطفاء الإسلام به واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية وفيمن المراد بقوله بِأَفْواهِهِمْ وفي سبب نزول الآية فأما سببها فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عباس وجماعة أنهم قالوا: نزلت هذه الآية بسبب الرجم.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أن يهوديا زنى بيهودية وكان في التوراة رجم الزناة، وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك وردوه جلدا وتحميم وجوه، لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم وأقاموه على صغارهم في القدر فاستقبحوا ذلك وأحدثوا حكما سووا فيه بين الشريف والمشروف، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زنى رجل من اليهود بامرأة فروي أن ذلك كان بالمدينة. وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز. وبعثوا إلى يهود المدينة وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النازلة وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم فيشتد أمرهم بذلك. فلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس فجمع الأحبار هنالك وسألهم عما في التوراة فقالوا إنا لا نجد فيها الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فيها الرجم فانشروها فنشرت ووضع أحدهم يده على آية الرجم. فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالرجم وأنفذه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ وروايات كثيرة، منها أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه يهودي ويهودية زنيا وقد جلدا وحمما. فقال هكذا شرعكم يا معشر يهود؟ فقالوا نعم، فقال لا، ثم مشى إلى بيت المدارس وفضحهم وحكم في ذينك بالرجم، وقال:
لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه. وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة، وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة استفتوا محمدا فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم، قاله الشعبي وغيره، وقال قتادة بن دعامة وغيره سبب الآية وذكر اليهود أن بني(2/190)
النضير كانوا غزوا بني قريظة فكان النضري إذا قتله قرظي قتل به وإذا قتل نضري قرظيا أعطي الدية، وقيل كانت دية القرظي على نصف دية النضري، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة طلبت قريظة الاستواء إذ هم أبناء عم يرجعان إلى جد، وطلبت الحكومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت النضير بعضها لبعض إن حكم بما كنا عليه فخذوه وإلا فاحذروا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة، وقد وقع في بعض الطرق في حديث أبي هريرة أنه قال في قصة الرجم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدراسهم وقمنا معه وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر في آخر سنة ست من الهجرة، وقد كانت النضير أجليت وقريظة وقريش قتلت، واليهود بالمدينة لا شيء، فكيف كان لهم بيت مدارس في ذلك الوقت أو إن كان لهم بيت على حال ذلة فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج مع ظهور دينه إلى محاجتهم تلك المحاجة؟ وظاهر حديث بيت المدارس أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم ما الأمر؟ وعلى من نزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة، وقال الشعبي وغيره: نزلت الآية في قوم من اليهود أرادوا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رجل منهم قتل آخر فكلفوا السؤال رجلا من المسلمين وقالوا: إن أفتى بالدية قبلنا قوله وإن أفتى بالقتل لم نقبل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما تقدم عن قتادة في أمر قتل النضير وقريظة، وقال عبد الله بن كثير ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون.
وقوله بعد ذلك سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يراد به اليهود، وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال. فيحتمل أن يكون المعنى يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ويكون قوله: سَمَّاعُونَ خبر ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحزنك المسارعون في الكفر(2/191)
من اليهود ووصفهم بأنهم قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ إلزاما منه ذلك لهم من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوها وجحدوا ما فيها من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما كفر بهم، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 42] ، ويجيء على هذا التأويل قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا كأنه قال ومنهم لكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها. وقرأ جمهور الناس «سماعون» ، وقرأ الضحاك «سماعين» ، ووجهها عندي نصب على الذم على ترتيب من يقول لا يحزنك المسارعون من هؤلاء «سماعين» ، وأما المعنى في قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ فيحتمل أن يكون صفة للمنافقين ولبني إسرائيل لأن جميعهم يسمع الكذب بعضهم من بعض ويقبلونه، ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة، وإذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك المسموع، وقوله تعالى:
لِلْكَذِبِ يحتمل أن يريد سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويحتمل أن يريد «سماعون منك أقوالك» من أجل أن يكونوا عليك وينقلوا حديثك ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذبا، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «للكذب» بكسر الكاف وسكون الذل، وقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يحتمل أن يريد يسمعون منهم، وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك، وقيل يهود خيبر، وقيل أهل الزانيين، وقيل أهل الخصام في القتل والدية، وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بأنهم لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ بمعنى جواسيس مسترقين للكلام لينقلوه لقوم آخرين، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة، وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عز وجل، فقالوا نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
قوله عز وجل:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ....
قرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ بعض الناس «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة، وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس، وقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة، والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا، وقيل: هي إلى قبول الدية في أمر القتل، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية،(2/192)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تتبع نفسك أمرهم، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم» وأن يكونوا مدنسين بالكفر، ثم قرر تعالى لهم «الخزي في الدنيا» . والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 44]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل وقوله تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و «السحت» كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السّحت» بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] ومن الرباعي قول الفرزدق:
إلا مسحتا أو مجلف
والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيدا في قوله عز وجل لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] وكما سمي المرهون رهنا، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد: فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام «من جمع مالا من تهاوش أذهبه الله في نهابير» ، وقال مكي سمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلا، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتا لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث أصلا للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب: مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذلك الكفر،(2/193)
وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل، وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم، وقال عكرمة والحسن: هذا التخيير منسوخ بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ [المائدة: 49] وقال ابن عباس ومجاهد: نسخ من المائدة آيتان، قوله تعالى: وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة: 2] نسختها آية السيف وقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49] .
قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينفر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوى محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار، قاله ابن القاسم في العتبية، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟
وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟
ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.
قوله عز وجل:
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ....(2/194)
أمن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من ضررهم إذ أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين لَنْ يَضُرُّوكُمْ [آل عمران: 111] ثم قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار، ومنه قوله: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] أنه يراد به اليهود.
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى» :
الإرشاد في المعتقد والشرائع، و «النور» : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية وأَسْلَمُوا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا متعلق ب يَحْكُمُ أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى:
الرَّبَّانِيُّونَ عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم(2/195)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبرا ولا ربانيا. وقوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى:
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] والحمد لله. وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فقالت جماعة: المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي: نزلت الْكافِرُونَ في المسلمين والظَّالِمُونَ في اليهود والْفاسِقُونَ في النصارى.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم بهذا التخصيص وجها إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وقال إبراهيم النخعي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
«الكتب» في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في عَلَيْهِمْ لبني إسرائيل وفي فِيها للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بنصب النفس على اسم أَنَّ وعطف ما بعد ذلك منصوبا على النَّفْسَ. ويرفعون «والجروح قصاص» على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. وقِصاصٌ خبر أَنَّ. وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروح» . وقرأ الكسائي «أن النفس بالنفس» نصبا ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب «والعين» جعل عطف الواو مشركا في عمل «أن» ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع «والعين» فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في(2/196)
عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ قلنا لهم النفس بالنفس، ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
[الصافات: 45] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله وَالْعَيْنَ على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: 148] .
قال القاضي أبو محمد: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب لا في قوله: وَلا آباؤُنا فكانت لا عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال أبو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن لا ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع «والجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ: «وأن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح» .
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله:
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.(2/197)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. و «القصاص» مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل، وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: لَهُ عليه أيضا، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة، وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم. وقال به أيضا قتادة والحسن، والمعنى الثاني أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل، والضمير في لَهُ يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في لَهُ يعود عليه أيضا، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهدا قال إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن تَصَدَّقَ على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوما تأولوا الآية أن المعنى وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له» .
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 48]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قَفَّيْنا تشبيه كأن مجيء عيسى كان في قفاء مجيء النبيين وذهابهم، والضمير في آثارِهِمْ(2/198)
للنبيين المذكورين في قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة: 44] ومُصَدِّقاً حال مؤكده.
والتَّوْراةِ بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع، والْإِنْجِيلَ اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و «الهدى» الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و «النور» ما فيه مما يستضاء به. ومُصَدِّقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره: مُصَدِّقاً معطوف على الأول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس «وهدى وموعظة» بالنصب. وذلك عطف على مُصَدِّقاً، وقرأ الضحاك «وهدى وموعظة» بالرفع وذلك متجه. وخص «المتقين» بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ أبيّ بن كعب «وأن ليحكم» بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة «وليحكم» بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن، وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل أن يريد مضمنا الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحا لعباده، وقوله: مِنَ الْكِتابِ يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن» . فقال ابن عباس: مُهَيْمِناً شاهدا. وقال أيضا مؤتمنا. وقال ابن زيد:
معناه مصدقا، وقال الحسن بن أبي الحسن أمينا، وحكى الزجاج رقيبا ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين، و «مهيمن» بناء اسم فاعل، قال أبو عبيدة: ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف.
وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق، وبيقر أيضا لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها(2/199)
الصبيان، وقال مجاهد قوله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وغلط الطبري رحمه الله في هذه اللفظة على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمنا» بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمنا» عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله:
مُصَدِّقاً وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم وعَلَيْهِ في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله: «مهيمن» أصله «مويمن» بني من أمين، أبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته، قال الزجاج: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن» مؤتمن، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلبا فقال: إن ما قال ابن قتيبة رديء، وقال هذا باطل، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب، انتهى كلام ثعلب.
قال القاضي أبو محمد: ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائما عليه أمينا، ويحتمل أن يكون مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً حالين من الكاف في إِلَيْكَ. ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي.
قوله عز وجل:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ....
قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ، وإن المعنى فإن اخترت أن تحكم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة، وحسن هنا دخول عن في قوله: عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك. واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين: المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجا» أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددا من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] فهذا عند العلماء في(2/200)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
المعتقدات فقط، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيها لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيرا فمن ذلك قول الشاعر:
وفي الشرائع من جلان مقتنص ... بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب
أراد في الطرق إلى المياه، ومنه الشارع وهي سكك المدن، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب، والمنهاج أيضا الطريق، ومنه قول الشاعر:
من يك في شك فهذا نهج ... ماء رواء وطريق نهج
أراد واضحا والمنهاج بناء مبالغة في ذلك، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً معناه سبيلا وسنة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد، والقراء على «شرعة» بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شرعة» بفتح الشين، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً والمعنى فالبدار البدار، وقوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 49 الى 50]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
وَأَنِ احْكُمْ معطوف على الْكِتابَ في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] ، وقال مكي: هو معطوف على «الحق» في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [المائدة: 48] ، والوجهان حسنان، ويقرأ(2/201)
بضم النون من «أن احكم» مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه، وقد يجيء أحيانا مقيدا بما فيه خير، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر: فهوى رسول الله رأي أبي بكر، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك؟ قال: حق وافق هوى، والهوى مقصور ووزنه فعل، ويجمع على أهواء، والهواء ممدود ويجمع على أهوية، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه» أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مرارا احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك، وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله لَفاسِقُونَ، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان:
نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة، وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيرهم ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
واختلف القراء في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكم» برفع الميم، قال ابن مجاهد: وهي خطأ، قال أبو الفتح: ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه.
وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع
برفع كلّ.
قال القاضي أبو محمد: وهكذا الرواية، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب، ولو نصب «كل» لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح، التقدير يبغونه ولم أصنعه، وإنما يحذف الضمير كثيرا من الصلة كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] ، وكما تقول مررت بالذي أكرمت، ويحذف أقل من ذلك من الصفة، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم، ويتجه بيته بوجهين: أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ والثاني أن في البيت عوضا من الهاء المحذوفة، وذلك حرف(2/202)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكم» بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولا عوض من الضمير، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغون خبرا بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، ونظيره قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النساء: 46] تقديره قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ومثله قول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقرأ سليمان بن مهران «أفحكم» بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها، وله نظائر.
قال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ، وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة «يبغون» بالياء من تحت، ويَبْغُونَ معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً تقرير أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: لِقَوْمٍ من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 52]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا ورهنه درعه، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم: سببها أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفا لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درعه، وقال: يا محمد أحسن في مواليّ، فقال له رسول الله:(2/203)
أرسل الدرع من يدك، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وهبتهم لك، ونزلت الآية في ذلك، وقال السدي: سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصما ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب، فنزلت الآية في ذلك، وقال عكرمة: سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ.
قال القاضي أبو محمد: وكل هذه الأقوال محتمل، وأوقات هذه النوازل مختلفة، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أربابا بعضهم» ، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فقال من دخل في دين قوم فهو منهم، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه.
وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب، وقراءة جمهور الناس «ترى» بالتاء من فوق، فإن جعلت رؤية عين ف يُسارِعُونَ حال وفيها الفائدة المقصودة، وإن جعلت رؤية قلب ف يُسارِعُونَ في موضع المفعول الثاني، ويقولون حال، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى» بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي والَّذِينَ مفعول، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن» إيجازا يُسارِعُونَ فِيهِمْ معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم، وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبيّ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير، والآية تعطي ذلك، ودائِرَةٌ معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل، ومنه قول الله تعالى: دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98، الفتح: 6] ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التوبة: 98] ومنه قول الشاعر:
والدهر بالإنسان دواريّ(2/204)
وقول الآخر:
ويعلم أن النائبات تدور
وقول الآخر:
يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا
ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار» .
قال القاضي أبو محمد: وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله، وإنما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض، وقوله تبارك وتعالى: فَعَسَى اللَّهُ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ووعد لهم، و «عسى» من الله واجبة، واختلف المتأولون في معنى بِالْفَتْحِ في هذه الآية فقال قتادة: يعني به القضاء في هذه النوازل، والفتاح القاضي، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك ويقريظة والنضير، وقال السدي يعني به فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلا إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد، وقوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال السدي المراد ضرب الجزية.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحابه ويسببه جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب، وقوله تعالى: فَيُصْبِحُوا معناه يكونون كذلك طول دهرهم، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح
إلى غير هذا من الأمثلة، والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعداد اليهود للثورة عليه يوما ما، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين» .
قوله عز وجل.(2/205)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[سورة المائدة (5) : الآيات 53 الى 54]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام.
وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو. وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين. وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق. وقرأ أبو عمرو وحده «ويقول» بإثبات الواو وبنصب اللام. قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو النصب والرفع في اللام. فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي. لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو. إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها. إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو. كما أن قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو، وعلى هذا قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 39 الأعراف: 36 يونس: 27] ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسنا.
قال القاضي أبو محمد: ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] فحذف الواو من قوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كحذفها من هذه الآية، وإلحاقها في قوله ثامِنُهُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [المائدة:
53] الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [المائدة: 52] وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الآية، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل، وتوجه عطف وَيَقُولُ مطرد على ثلاثة أوجه، أحدها على المعنى، وذلك أن قوله فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى: وَيَقُولُ على يَأْتِيَ اعتمادا على المعنى، وإلا فلا(2/206)
يجوز أن يقال عسى الله أن يقول المؤمنون. وهكذا قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] لما كان المعنى «أخرني إلى أجل قريب» أصدق وحمل أَكُنْ على الجزم الذي يقتضيه المعنى في قوله فَأَصَّدَّقَ، والوجه الثاني أن يكون قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] بدلا من اسم الله عز وجل كما أبدل من الضمير في قوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] ثم يعطف وَيَقُولُ على أن يأتي لأنه حينئذ كأنك قلت عسى أن يأتي، والوجه الثالث أن يعطف قوله وَيَقُولُ على فَيُصْبِحُوا [المائدة: 52] إذ هو فعل منصوب بالفاء في جواب التمني، إذ قوله عسى الله تمن وترج في حق البشر، وفي هذا الوجه نظر وكذلك عندي في منعهم جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الله تعالى يصيرهم يقولون بنصره وإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم، ويحتمل قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أن يكون إخبارا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلا، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه، وقرأ جمهور الناس «حبطت بكسر الباء وقرأ أبو واقد والجراح «حبطت» بفتح الباء وهي لغة.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول ابن جريج وغيره.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض، وقال شريح بن عبيد: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكنهم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضا: الإشارة إلى أهل اليمن، وقاله شهر بن حوشب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله عندي قول واحد، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار.(2/207)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قال القاضي أبو محمد: وهذا على أن يكون قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم. لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد» بإدغام الدال في الدال، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد» بترك الإدغام، وهذه لغة الحجاز، مكة وما جاورها، والإدغام لغة تميم، وقوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين، وهذا كقوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] . وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين» ، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين» ، وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم، وقوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها. وواسِعٌ معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 57]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
الخطاب بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية للقوم الذين قيل لهم لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة:
51] ، وإِنَّما في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة بجميع شروطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو، وقوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ جملة معطوفة على جملة، ومعناه وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة، كما قال وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن عليا بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي: هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن عليا بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا فقال له هل أعطاك أحد شيئا فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس.(2/208)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال مجاهد: نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله وَهُمْ واوا الحال، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، ومَنْ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة: وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هُزُواً وَلَعِباً والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب الْكُفَّارَ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «والكفار» نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي: حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] ، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو لا تَتَّخِذُوا، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا» ، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر، وقد قال تعالى:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي حق مؤمنين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 58 الى 60]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)(2/209)
قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ الآية إنحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض، قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارى بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله، قال حرق الله الكاذب، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها، فكأنها لم توجد.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ومعناه هل تعدون علينا ذنبا أو نقيصة، يقال «نقم» بفتح القاف ينقم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال «نقم» بكسر القاف ينقم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ، إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج: 8] ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقرأ الجمهور «أنزل» بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك «أنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما، وقوله تعالى: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله: أَنْ آمَنَّا فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ معطوف على ما، كأنه قال إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وبكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقة هو مما ينقمونه، وذكر تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس: «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن(2/210)
بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذا عن نظائره، ومثله قول العرب: الفاكهة مقودة إلى الأذى، بسكون القاف وفتح الواو، والقياس مثابة ومقادة، وأما مثوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة، والمعنى في القراءتين مرجعا عند الله أي في الحشر يوم القيامة، تقول العرب: ثاب يثوب إذا رجع، منه قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله شَرٌّ وأَضَلُّ صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب شَرٌّ وأَضَلُّ على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير» ، واللعنة الإبعاد عن الخير، وقوله تعالى: وَجَعَلَ هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوما إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت: الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أو معمول ل جَعَلَ وفي هذا يقول أبو علي: إن جَعَلَ بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن «عبدا» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر: [أوس بن حجر] .(2/211)
أبني لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت» ، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفا ومثله قول الراجز:
قام ولاها فسقوها صرخدا أراد ولاتها فحذف تخفيفا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبدا الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ماض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر:
وما كل مغبون ولو سلف صفقة فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعنوا بما قالوا» بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضا «وعابد الطاغوت» على وزن فاعل، والدال مرفوعة، قال أبو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.
قال القاضي أبو محمد: فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة «وعابد الطاغوت» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافا إلى غير الله، وأنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل ... أشابات يخالون العبادا
قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله.(2/212)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قال القاضي أبو محمد: وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعابد الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عن عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معلقات بالفناء
وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره والطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، وسَواءِ السَّبِيلِ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 64]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)(2/213)
الضمير في جاؤُكُمْ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: وَهُمْ تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر.
وقوله تعالى لنبيه: وَتَرى يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني يُسارِعُونَ، وعلى الاحتمال الأول يُسارِعُونَ حال، وفِي الْإِثْمِ معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم وَالْعُدْوانِ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، والسُّحْتَ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في لَبِئْسَ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري: كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن: الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقوله في الرباني شاذ بعيد. والْأَحْبارُ واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدبر المصلح، وقوله تعالى: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ظاهر أن الْإِثْمَ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ إلى قوله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(2/214)
مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ وفي قوله: بِيَدَيَّ [ص: 75] وعَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يَداهُ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه على الجملة(2/215)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى:
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة ... وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، قال أبو عمرو الداني: وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان» ، يقال يد بسطة أي مطلقة، وروي عنه «بسطان» ، وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك، طغوا وكفروا، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.
وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ معطوف على قوله وَقالَتِ الْيَهُودُ فهي قصص يعطف بعضها على بعض، والْعَداوَةَ أخص من الْبَغْضاءَ لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى: وَيَسْعَوْنَ معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ: إن السعي في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى» ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 68]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)(2/216)