الصحيحين عن عائشة «1» وعن ابن مسعود «2» . وكذلك هو في صحيح مسلم «3» عن أبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه بهذا. انتهى.
وقال شمس الدين بن القيم في (زاد المعاد) : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقال: إن قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى إنما هو جبريل.
وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال الإمام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده. وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى، لكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه. وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقّا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئيّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. انتهى.
وقال ابن كثير: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي عز وجل»
، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما
رواه الإمام أحمد «4» أيضا عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني ربي الليلة في أحسن صورة (أحسبه، يعني في النوم) فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1528 وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 287.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1526.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 280.
(3) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 283.
(4) أخرجه في المسند 1/ 368. حديث رقم 3484.(9/68)
وجدت بردها بين ثدييّ (أو قال نحري) فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: نعم! يختصمون في الكفارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟ قال: قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير. وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، أن تقبضني إليك غير مفتون.
قال: «والدرجات بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» .
ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، كقوله:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] ، أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع. لأنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. انتهى.
الثالث- ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبويّ، أعني: عروجه صلى الله عليه وسلم، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السموات السبع، كما ذكر في أحاديث المعراج عن سدرة المنتهى فوق السماوات، ومشاهدة جبريل على صورته.
قال القليوبيّ: لما كان الإسراء مقدما في الوجود على المعراج، لأنه كالوسيلة والبرهان، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه، التصديق بالمعراج وما فيه. وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر، صدره تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته، والرد على منكريه والطاعنين فيه، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه، فقال وَالنَّجْمِ ... إلخ انتهى.
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية، وتحقيق الوحي، بأنه تعليم ملك كريم، مرئيّ للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس، لا لإثبات المعراج.
ثم من الغرائب أيضا هنا، قول بعضهم محاولا سرّ إفراد الإسراء عن المعراج، وذكر كلّ في سورة، ما مثاله: إن الإسراء أنزل أولا وحده، حملا للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه، توصلا للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولا بالإسراء إلى المسجد الأقصى، لأن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفون، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة(9/69)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
عليهم. وكذلك وقع، كما ذكر في الروايات. وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء، ثم ألهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السموات، ورؤية جبريل عليه السلام، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم. انتهى. فكل هذا مما لا سند له، نعم! روى البيهقي وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول، أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب. إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا، إلا أن يقال ليس هذا من مرويات الصحيحين، ولا حجة في الأخبار إلا مرويّهما. وبالجملة، فالمعوّل عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقا، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير، فلا علاقة له بالمعراج، وإنما هي رؤية النبيّ صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم. وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية. لصريح حديث البخاريّ في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة. قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج، بحسب رواية البخاريّ التي هي أصح الروايات بالإجماع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سار أولا إلى بيت المقدس، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية، بل المذكور أنه كان مصاحبا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة، هو غير ما ذكر في الحديث، مما وقع مناما في وقت آخر، وإلا لذكرا معا في سياق واحد، إما في القرآن، وإما في أصح الأحاديث، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعوّل عليها، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض. انتهى- والله أعلم-.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين عبادتهم الأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 20]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قال ابن كثير: هي صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، هم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.(9/70)
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا اللَّاتَ يعنون مؤنثة من لفظه تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا، كما قالوا: عمرو وعمرة.
وقال الزمخشري: هي فعلة من (لوى) لأنهم كانوا يلوون عليها، ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي يطوفون.
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا (اللاتّ) بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلتّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه. وَالْعُزَّى وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى (العزيز) وقال الزمخشريّ: أصلها تأنيث الأعز.
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
روى البخاريّ عن عائشة نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول:
اللّات والعزّى ومناة الثالثة، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
انتهى.
تنبيهات:
الأول- قال القاضي: (مناة) فعلة، من مناه إذا قطعه. فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين. ومنه سميت (منى) لأنه يمنى فيها القرابين، أي ينحر.
وقال الزمخشريّ: وكأنها سميت (مناة) لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها، أي تراق. وقرئ (مناءة) مفعلة من (النوء) ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.
فإن قيل: كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها، معلوم غير محتاج للبيان.
وأجيب: بأنهما صفتان للتأكيد، أو الثَّالِثَةَ للتأكيد، والْأُخْرى بيان لها، لأنها مؤخرة رتبة عندهم، عن اللات والعزى.(9/71)
قال الناصر: (الأخرى) ما يثبت آخرا، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجوديّ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجوديّ، إلى الاستعمال، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصليّ، بخلاف (آخر) و (آخرة) على وزن فاعل وفاعلة، فإن إشعارها بالتأخير الوجوديّ، ثابت لم يغير، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجوديّ، لأن (الأفعل) و (الفعلى) من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية. انتهى.
الثاني- قال ابن كثير: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب. ويهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. فكافت لقريش ولبني كنانة (العزّى) بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
روى النسائي عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالدين الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئا. فرجع خالد. فلما أبصر السدنة وهم حجبتها، أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى! فأتاها خالد. فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها. تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى!(9/72)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فدماها، وجعلا مكانها مسجدا بالطائف.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر، من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان، صخر بن حرب فهدمها. ويقال: عليّ بن أبي طالب. انتهى.
الثالث- قال ابن جرير: اختلف أهل العربية في وجه الوقف على (اللات) و (منات) فكان بعض نحويّي البصرة يقول: إذا سكت قلت اللات، وكذلك مناة، تقول منات. وقال: قال بعضهم: اللاتّ، فجعله من اللتّ الذي يلت. ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء، يقولون: رأيت طلحت. وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء، نحو نعمة ربك، وشجرة. وكان بعض نحويّي الكوفة يقف على (اللات) بالهاء. وكان غيره منهم يقول: الاختيار في كل ما لم يضف، أن يكون بالهاء رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 98] ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ [المؤمنون: 20] ، وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني. وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب، وإن كان للأخرى وجه معروف. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 21 الى 22]
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى قال الزمخشريّ: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، مع وأدهم البنات، فقيل لهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم، وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله، وتسمونهنّ آلهة؟ انتهى.
لطيفة:
قال الشهاب: قد مرّ مرارا الكلام في أَرَأَيْتَ وأنها بمعنى (أخبرني) وفي كيفية دلالتها على ذلك، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه، هل هو بصري؟ فتكون(9/73)
الجملة الاستفهامية بعدها مستأنفة لبيان المستخبر عنه. وهو الذي اختاره الرضيّ.
أو علمية، فتكون في محل المفعول الثاني، فالرابط حينئذ أنها في تأويل: أهي بنات الله؟
قال السمين: وكأنّ أصل التركيب: ألكم الذكر، وله هن، أي: تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة.
وقوله تعالى: تِلْكَ إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من لولد والندّ ما تكرهون لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه.
قال ابن جرير: والعرب تقول (ضزته حقّه) بكسر الضاد، و (ضزته) بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.
تنبيه:
قال السمين: قرأ ابن كثير (ضئزى) بهمزة ساكنة، والباقون بياء مكانها. وقرأ زيد بن علي (ضيزى) بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من (ضازه يضيزه) إذا ضامه وجار عليه، فمعنى (ضيزى) جائرة. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما- أن تكون صفة على (فعلى) بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض.
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل (فعلى) بالكسر؟.
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات (فعلى) بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو حبلى وأنثى وربّى وما أشبهه، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك.
حكى ثعلب: مشية حيكى، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهى وامرأة سعلى.
وهذا لا ينقض على سيبويه لأنه يقول في (حيكى وكيسي) كقوله في (ضيزى) لتصح الياء. وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة.
والوجه الثاني- أن تكون مصدرا كذكرى. قال الكسائيّ: يقال ضاز يضيز ضيزى، كذكر يذكر ذكرى. ويحتمل أن يكون من (ضأزه) بالهمزة كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياء، لكنها لغة التزمت، فقرأوا بها. ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة، نقصه ظلما وجورا، وهو(9/74)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
قريب من الأول. و (ضيزي) في قراءة ابن كثير مصدر وصف به، ولا يكون وصفا أصليّا. لما تقدم عن سيبويه.
فإن قيل: لم لا قيل في (ضئزى) بالكسر والهمز، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء، لما قيل فيها مع الياء؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم (ضؤزى) بضم الضاد مع الواو والهمزة.
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدرا وصف به، كدعوى، وأن تكون صفة كسكرى وعطشى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 23]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
إِنْ هِيَ أي الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها إِلَّا أَسْماءٌ أي محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية، شيء ما أصلا.
أي ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها.
قال الشهاب: والمراد لا نصيب لها أصلا، ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته. سَمَّيْتُمُوها أي جعلتموها أسماء مع خلوّها عن المسميات أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي بمقتضى أهوائكم. وتقليد التابع للمتبوع ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان يتعلق به إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إلا توهم أن ما هم عليه حق وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي تشتهيه أنفسهم.
قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي الدليل الواضح، والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده.
قال أبو السعود: والجملة حال من فاعل يَتَّبِعُونَ أو اعتراض. وأيّا ما كان، ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن، وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما(9/75)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
من أي شخص كان، قبيح. وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب، أقبح.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ.. إلخ على أن اللغات توقيفية. ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف، لما صح هذا الذم، لكون الكل اصطلاحا منهم.
واستدل بقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقا، أو إبطال القياس.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 24]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد، وتعنته في دفاع اليقين بالظن، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا مهيمن يزعه. فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم، كقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء: 123] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 25]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي فمصير الأمر فيهما له تعالى، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء، كما قال: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إلخ [المؤمنون: 71] ، ولذا أرسل له الرسل، وانزل الكتب، قطعا للمعاذير.
ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 26]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)(9/76)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى هذا توبيخ من الله تعالى لعبدة الأوثان، بإقناطهم عما علّقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه. فإنّى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل.
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 27]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون: هم بنات الله. فالأنثى بمعنى الإناث، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل. وقيل: بمعنى الطائفة الأنثى. وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية. وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة. وقيل:
الملائكة في معنى استغراق المفرد، أي ليسمون كل واحد منهم بنتا، وهي تسمية الأنثى، على وزان (كسانا الأمير حلة) أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس.
قال أبو السعود: وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 28 الى 29]
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29)
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد فائدته، ولا يقوم مقامه، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه، إنما تدرك إدراكا معتدّا به، إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها، لقصر نظرهم على المحسوسات. والمراد من (الإعراض) هجرهم هجرا(9/77)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
جميلا، وترك إيذائهم. وقول الزمخشريّ: أي أعرض عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله ... إلخ- لا يصح. لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة لقوله تعالى: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52] ، وإنما معنى الآية: فاصفح عنهم ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون به عليك، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 30]
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يعني أمر الدنيا منتهى علمهم، لا علم لهم فوقه.
ومن كان هذا أقصى معارفه، فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
و (مبلغ) اسم مكان مجازا، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء- كما حققه الشهاب- والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي: ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلّا بما يقتضيه عمله، وتقديم العلم بمن ضل، لأنهم المقصودون من الخطاب، والسياق فيهم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 31]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيه على سعة ملكه، وعظمة قدرته، وأن ما فيهما من قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة ثم بيّن صفات هؤلاء المحسنين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 32]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)(9/78)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعني ما كبر الوعيد عليه من المناهي وَالْفَواحِشَ يعني ما فحش منها. والعطف إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام إِلَّا اللَّمَمَ أي الصغائر من الذنوب. ومثّله أبو هريرة بالقبلة والغمزة والنظرة- فيما رواه ابن جرير- وأصل معناه: ما قل قدره. ومنه: لمة الشّعر، لأنها دون الوفرة. وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له. والاستثناء منقطع على ما ذكر. أي إلا اللمم بما دون الكبائر والفواحش، فإنه عفو. وقيل: متصل، والمراد مطلق الذنوب. وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا. و (إلا) صفة بمعنى غير- وتفصيله في (العناية) -.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره أن معنى (اللمم) ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا.
وعن ابن عباس أيضا قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود.
قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا
وقال الحسن: (اللمم) أن يقع الوقعة ثم ينتهي. وكل هذا ما يتناوله اللفظ الكريم والأقوى في معناه هو الأول. ولذا استدل بالآية على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] .
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن جرير: أي واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قال ابن جرير: أي أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حيثما يصوركم في الأرحام فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي. والمراد به الثناء تمدحا أو رياء هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي بمن اتقاه فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه وأصلح. وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 49] .
وفي الصحيحين «1» عن أبي بكرة قال: مدح رجل رجلا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 95- باب ما جاء في قول الرجل ويلك، حديث رقم 1293.
وأخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث 65 و 66.(9/79)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! قطعت عنق صاحبك (مرارا) إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا
، أحسبه:
كذا وكذا إن كان يعلم ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31- 32] . وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي قطع العطاء بخلا وشحّا أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. [البقرة: 124] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 38]
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38)
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها. بل كل آثمة، فإن إثمها عليها.
قال القاشانيّ: لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب، وكذلك الذنوب. وكذلك الثواب، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 39]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي: إلا سعيه وكسبه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: إنما عنى بقوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى الذي(9/80)
ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة! يقول: ألم يخبر قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي: وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله، خيرا: كان أو شرّا. انتهى.
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات ردّا على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجا وجهلا. ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ.
الثاني: قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت. واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات. انتهى.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما
الحديث الذي رواه مسلم «1» في صحيحه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»
- فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله، كما جاء في
الحديث «2»
«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه. والصدقة الجارية- كالوقف ونحوه- هي من آثار عمله ووقفه»
، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] . والعلم الذي نشره في الناس، فاقتدى به الناس بعده، هو أيضا من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح «3» : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. انتهى.
__________
(1) أخرجه مسلم في: الوصية، حديث رقم 14.
(2) أخرجه النسائي في: البيوع، 1- باب الحث على الكسب، عن عائشة.
(3) أخرجه مسلم في: العلم، حديث رقم 16.(9/81)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
الثالث- قال الرازيّ: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل. نقول: المشهور أنها لكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه اللام في قوله تعالى لِلْإِنْسانِ فإن اللام لعود المنافع، و (على) لعود المضار. تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له، ويشهد عليه، في المنافع والمضار. وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل، كجموع السلامة تذكّر، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور. وأيضا يدل عليه قوله تعالى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى والْأَوْفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه، أو العفو بالكلية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 40 الى 41]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه، ويعرض عليه، ويكشف له. من (أريت الشيء) أو يرى للخلق وللملائكة. ففيه بشارة للمؤمن، وإفراح له، ونذارة للكافر، وإرهاب له، أو هو من (رأى) المجرد. أي يراه. كقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 105] ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى سعيه جزاء وافرا لا يبخس منه شيئا.
قال الشهاب: أصله يجزي الله الإنسان سعيه، ف (الجزاء) منصوب بنزع الخافض، و (سعيه) هو المفعول الثاني، وهو يتعدى له بنفسه. نحو: جزاك الله خيرا.
وجزاؤه سعيه بمعنى جزائه بمثله. أو هو مجاز. وقيل: المنصوب بنزع الخافض الضمير، والتقدير: بسعيه أو على سعيه- كما في (الكشاف) -.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 49]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي انتهاء الخلق، ورجوعهم لمجازاتهم. والمخاطب وإما عامّ، أي أيها السامع أو العاقل، ففيه وعد ووعيد أو خاص بالنبيّ صلوات الله عليه، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم.(9/82)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية، بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي خلق قوتي الضحك والبكاء، أو أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، أو من شاء من أهل الدنيا، أو أعمّ.
قال الرازيّ: اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بهما سببا، وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد، وهو الله تعالى. وأطال في ذلك وأطاب، رحمه الله تعالى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات من شاء من خلقه، وأحيى من شاء قال ابن جرير وعنى بقوله أَحْيا نفخ الروح في النطفة الميتة، فجعلها حية بتصييره الروح فيها وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الخلق بعد مماتهم في نشاة أخرى لا تعلم، كما قال: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: 61] ، وذلك للحساب والجزاء، المرتب على أعمال الخير والشر، بالمصير إلى الجنة أو النار وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى من شاء بالمال. و (أقناه) أي جعل له قنية، وهو ما يدخره من أشرف أمواله. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهو نجم مضيء خلف الجوزاء، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 56]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى يعني قوم هود. وسميت الْأُولى لتقدمها في الزمان. وَثَمُودَ أي قوم صالح فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أي أشد في كفرهم وَأَطْغى أي أشد طغيانا وعصيانا من الذين أهلكوا بعدهم، لتمردهم على الكفر، وردّ دعوته، في طول مدته بينهم، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أي قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت.
أَهْوى أي أهواها على أهلها ودمّرها. فَغَشَّاها ما غَشَّى أي من العذاب السماويّ الذي صب عليها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أي نعمائه. تَتَمارى أي ترتاب وتشكّ وتجادل في أنها ليست من عنده، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال(9/83)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
الرسل، وقهر أعدائهم. هذا أي القرآن نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه، ليس بدعا من الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في الْآزِفَةُ للعهد وقيل: الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.
قال الشهاب: وفيه نظر، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت) .
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لقيامها غير الله مبيّن لوقتها، كقوله:
لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، وكاشِفَةٌ صفة محذوف، أي نفس كاشفة، أو حال كاشفة. أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث ومِنْ دُونِ اللَّهِ بمعنى غير الله، أو إلا الله. وقيل: الكشف بمعنى الإزالة. أي ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت، إلا هو تعالى، من (كشف الغماء) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص ما تقدم، وأنذر بما أخبر تَعْجَبُونَ أي: تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار، كما قال وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من وعيد للعصاة، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به، المحدث عنهم في آية وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:
109] ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون عما فيه من العبر، معرضون عن آياته كبرا.
قال مجاهد: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين، أي: شامخين.
وعن ابن عباس: هو الغناء: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن. يقولون: اسمد لنا: تغنّ لنا. والمآل واحد. وإن اختلفت العبارة عنه. ولا ريب(9/84)
أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين.
قال في (الإكليل) : فيه استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغناء، واللهو واللعب والغفلة. كما فسر بالأربعة قوله: سامِدُونَ وفسره السدّي بالاستكبار.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون من سواه من الأوثان، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فلا تجعلوا له شريكا في عبادته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه.. الحديث.
وتقدم في أول السورة.
وروى الإمام أحمد «1» عن المطّلب بن وداعة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم. فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد معه- ورواه النسائيّ-
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 420.(9/85)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
وتسمى سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وهي مكية. وآيها خمس وخمسون.
قال ابن كثير: ورد في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف وو اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في الأضحى والفطر. وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد، وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة. كما قال: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
قال ابن جرير: وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوّ القيامة، وقرب فناء الدنيا، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة، قبل هجومها عليهم، وهم عنها في غفلة ساهون. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 2]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال ابن جرير: كان ذلك، فيما ذكر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قبل هجرته إلى المدينة. وذلك أن كفار(9/86)
أهل مكة سألوه آية، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوته، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا، وقالوا هذا سحر مستمر، سحرنا محمد. ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس، وغير واحد من التابعين.
وقال القاضي عياض في (الشفا) أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته. وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه، ثم سرد الآثار في ذلك.
وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترة، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم، غير القرآن، لم تتواتر. والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة، والمعجزة إذا عمت أهلك الله من كذّبها، كما جرت به العادة الإلهية. والنبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رحمة، وأمّن الله أمته من عذاب الاستئصال.
ثم قال: وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعض الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس، ولم يخف على أحد. والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله، ولا أغرب من هذا. مع أن الملازمة غير لازمة، لأنه في الليل، وزمان الغفلة. ولا يلزم امتداده. ولا أن يرى إذ ذاك في جميع الآفاق، لاختلاف المطالع. انتهى.
وقد ذكر ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويّ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى: وسينشق القمر، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت. والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه.
ومعنى مُسْتَمِرٌّ دائم مطرد، أو محكم قويّ، من (مررت الحبل) إذا أحكمت فتله. أو مارّ ذاهب لا يبقى، تعليلا لأنفسهم بالأماني الفارغة. أو منفور عنه لشدة مرارته مجازا.
وجملة (وإن يروا) مستأنفة أو حالية.
قال الشهاب: ولو كانت هذه الجملة حالية، والمعنى. أن الساعة اقتربت، وانشق القمر فيها دنا زمانه، وظهرت آثاره، والحال أنهم مصرون على العناد- كان منتظما أتم انتظام، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها، فتأمل. انتهى.
أقول ولي هاهنا كلمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الرمي بالإلحاد لمنكر(9/87)
حديث غير مجمع على تواتره، جناية كبرى، وزلة عظمى. فإن باب التفكير والتضليل، ليس بالأمر القليل. ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه (فيصل التفرقة) ودمغ بحججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة. ولعمر الحق إن هذا مما فرّق الكلمة، ونفرّ حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا، ومحيطة بعد مده منحسرا، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى بل أحرقت، وأهين من يتأثلها، ورمى بالابتداع أو التزندق، كما يمر كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية، وعدت من الشاذ غير المقبول. وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها؟ وهذا، كما لا يخفاك، حيف على قواعد العلم، وغل للأفكار.
نعم! تفلت منهم علم الأصول، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته، وإن كان مما يغمز كثير منها، إلا أنها سارت تلج آذانهم، ويحتج بها عليهم. وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرناه، وأشاروا له في مواضع، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة.
وقال العلامة الفناريّ في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد.
وقال الإمام ابن تيمية الصواب أن من رد الخبر الصحيح، كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا. فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.
وذكر الغزاليّ في (الإحياء) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم. قال: فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحجب الفهم أربعة. إلى أن قال:
وثانيها- أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.
فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه، ويحترز عن مثله. ثم قال:(9/88)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
رابعها- أن يكون قرأ تفسيرا ظاهر، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة. ثم قال:
وسنبين معنى التفسير بالرأي، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول، لما اختلف الناس فيه.
ثم ذكر بعد، عليه الرحمة، أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد وجهين:
أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيسا على خصمه، وكالجاهل المتقحّم يتأول ما شاء هواه.
وثانيهما- أن يتسارع إلى التأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل. انتهى.
ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه. ولا ملام في معترك الأفهام- وبالله التوفيق-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 3]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَكَذَّبُوا أي بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آباءهم وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها. تعريض بأن أمر الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية، هي الظهور والنصرة وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ أي عن القرون الخالية، والحقائق الكونية، مما يستحيل أن يأتي به أميّ غيره صلوات الله عليه ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي بلغت غايتها من(9/89)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
الإحكام والتنزه عن الخلل، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة.
وهو بدل من (ما) أو خبر محذوف، أي هو حكمة بالغة فَما تُغْنِ النُّذُرُ جمع نذير. و (ما) نافية، أو استفهامية. أي: أيّ غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى، فأعرضوا عنه، وكذبوا به. وجوز أن تكون حِكْمَةٌ بالِغَةٌ جملة مستأنفة للتعجب من حالهم، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء. وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير. وعبارته: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه. فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] ، وكذا قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد، كما قال: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي داعي الله إلى موقف القيامة، وهو ملك. أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله كُنْ فَيَكُونُ تمثيل للإبداء، والداعي هو الله تعالى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أي من الذل والصغار يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي قبورهم كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي في الكثرة والتموج والانتشار. الجراد مثل في الكثرة مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين مادّي أعناقهم إليه. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي لشدة أهواله ويَوْمَ يَدْعُ ظرف ل يَقُولُ وقيل: بمضمر، وقيل: ب يَخْرُجُونَ والأول أظهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 9]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما يدل عليه صيغة (افتعل) .
قال الناصر: وليس قوله فَكَذَّبُوا الثاني تكرارا، لأن الأول مطلق، والثاني(9/90)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
مقيد. وهو كقوله في السورة فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره، ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهابا، وهو بمثابة ذكره مرتين. وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولا محذوف، دل عليه ذكر نوح، فكأنه قال: كذبت قوم نوح نوحا ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله عَبْدَنا فوصف نوحا بخصوص العبودية. وأضافه إليه إضافة تشريف. فالتكذيب المخبر عنه ثانيا، أبشع عليهم من المذكور أولا، لتلك اللمحة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 10]
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبني قومي تمردا وعتوّا. فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم.
ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه: بالطوفان الذي هلكوا فيه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 11 الى 16]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي مندفق. وفيه استعارة تمثيلية، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشق لها أديم الخضراء.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدّره الله وقضاه، وهو هلاك قوم نوح وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة. أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها. وهو من بديع الكلام- كما بسطه في (الكشاف) -.
(ودسر) جمع دسار بكسر الدال، أو دسر كسقف وسقف وهي أضلاعها، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منا. كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته.(9/91)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي كفر به، وهو الله تعالى، أو نوح وما جاء به، فهو من (الكفر) ضد الإيمان. أو هو نوح عليه السلام لأنه نعمة كفروها، فهو متعد بنفسه، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية، ونسب الكفران تخييلا أو حقيقة. وَلَقَدْ تَرَكْناها أي قصة نوح آيَةً أي جعلناها عبرة يعتبر بها فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي معتبر ومتعظ. وأصله (مذتكر) . فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي عذابي لهؤلاء الكفرة، قوم نوح، وإنذاراتي بما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي سهلناه للادّكار والاتعاظ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي فيعتبر بما فيه، ويثوب إلى رشده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ عادٌ أي نبيّهم هودا عليه السلام، بمثل ما كذّبت به قوم نوح فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديد الهبوب، لها صرير، أو باردة، فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي شر وشؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم، أو شديد المرارة لعظم بلائه، تَنْزِعُ النَّاسَ أي تقلعهم عن أماكنهم. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي أصول نخل منقلع من مغارسه. وأصل (مّنقعر) ما أخرج من القعر فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرّره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوّهم. أي فكيف كان عذابي لقومه. وإنذاري لهم على لسانه؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)(9/92)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه السلام. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي جنون، أو عناء. فهو اسم مفرد. وقيل:
جمع سعير، كأنهم عكسوا عليه، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له.
قال الزمخشريّ قالوا: أَبَشَراً إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة. وقالوا مِنَّا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا واحِداً إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا، أو أرادوا واحدا من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم. ويدل عليه قولهم أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا يعنون: الوحي والنبوة. أي وفينا من هو أحق بها على زعمهم، لكونه أعز مالا ونفرا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي متكبر، حمله كبره على استتباعنا له.
سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي المتكبر عن الحق، البطر له إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ أي آية وحجة لصالح على قومه امتحانا لهم وابتلاء فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها وَاصْطَبِرْ أي على دعوتهم وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ أي الذي يردونه لشرب مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي مقسوم بينهم، لها شرب يوم، ولهم شرب يوم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي يحضره صاحبه في نوبته و (الشرب) النصيب من الماء.
ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فتناول الناقة بيده فَعَقَرَ أي فعقرها وقتلها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس المتكسّر، الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، اسم مكان. أي كهشيم الحظيرة، أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا، كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه، وحسن نباته.
قال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك.
وعن سفيان: الهشيم، إذا ضربت الحظيرة بالعصا، تهشم ذاك الورق فيسقط،(9/93)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس، هشيما وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أي ملكا يرميهم بالحصباء والحجارة. أو ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر. أو (الباء) للملابسة، أو المصاحبة. وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل، فنجوا مما أصاب قومهم. ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته، وقد أصابها ما أصابهم. وخرج نبيّ الله لوط عليه السلام وبنات له، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منها، وهو علة ل (نجينا) كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي فأطاع ربه، وانتهى إلى أمره ونهيه. و (الشكر) صرف العبد جميع ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا أي أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي بإنذاراته، تكذيبا له وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه، فأبوا عليه، وجاءوا ليدخلوا عليه، فأعمى الله أبصارهم، فلم يروهم، كما قال فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي يدوم بهم إلى النار. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ... إلخ؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك، والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات، لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير كقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] ، عند كل نعمة عدها في سورة(9/94)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
(الرحمن) . وقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] ، عند كل آية أوردها في سورة (والمرسلات) . وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون، وجمعها للتعظيم، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ أي عاقبناهم عقوبة شديد لا يغالب مُقْتَدِرٍ أي عظيم القدرة لا يعجزه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 44]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي براءة من عقابه تعالى، وأمان منه، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي ممتنع لا يرام. أو منتصر ممن أراد حربنا، وتفريق كلمتنا. أو متناصر، ينصر بعضنا بعضا. فالافتعال. بمعنى التفاعل، كالاختصام بمعنى التخاصم. وإفراد مُنْتَصِرٌ مراعاة للفظ جَمِيعٌ لخفة الإفراد، ولرعاية الفاصلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 45 الى 46]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني جمع كفار قريش وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي يولّون أدبارهم المؤمنين بالله، عند انهزامهم. وإفراد الدُّبُرَ لإرادة الجنس، أو رعاية الفواصل، ومشاكلة قرائنه. وقد وقع ذلك يوم بدر. وهو من دلائل النبوّة، لأن الآية مكية، ففيها إخبار عن الغيب، وهو من معجزات القرآن. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ قال ابن جرير: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي أعظم داهية، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه. وأمرّ مذاقا، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.(9/95)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 48]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ أي عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ أي نيران في الآخرة.
وقال القاشانيّ: أي في ضلال عن طريق الحق، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم. وسُعُرٍ أي جنون ووله، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم، وحيرتها في الباطل.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يجرّون عليها. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي حرّها وألمها. والاستعارة في المس تحقيقية. أو في سَقَرَ مكنية، وفي (المسّ) تخييلية. أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم. واستعارة الذوق مشهورة، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة. وسَقَرَ من أسماء جهنم- أعاذنا الله منها-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبّباتها. ومنه خلق دار العذاب، لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى. وهذه الآية كآية وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] وآية، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 1- 3] ، أي قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتا لعظمته تعالى، وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده، ويرهب بأسه، ويتّقى بطشه، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَما أَمْرُنا أي الذي به الإيجاد إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي كلمة واحدة يكون بها كل شيء، بمقتضى استعداده، كلمح بالبصر في السرعة.(9/96)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
قال القاشاني: إِلَّا واحِدَةٌ أي تعلّق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن، على وجه معلوم، ثابت في لوح القدرة، المسمّى في الشرع ب كن، فيجب وجوده في ذلك الزمان، على ذلك الوجه دفعة. انتهى.
وقيل: معنى الآية، معنى قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة.
قال الشهاب: أصل معنى (الأشياع) جمع شيعة، وهم من يتقوّى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد، أريد به ما ذكر، إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متّعظ بذلك ينزجر به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي الكتب التي أحصتها الحفظة عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الأعمال مُسْتَطَرٌ أي مسطور لا يمحى ولا ينسى، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] ، وقوله سبحانه وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 13- 14] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا عائشة! إيّاك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا. «1»
__________
(1) أخرجه في المسند 6/ 70.(9/97)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قال ابن كثير: ورواه النسائيّ وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا، من وجه آخر. ثم قال سعيد: فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره، فأتاه آت في منامه، فقال له: يا سليمان!
لا تحقرنّ من الذّنوب صغيرا ... إنّ الصغير غدا يعود كبيرا
إنّ الصغير، ولو تقادم عهده، ... عند الإله مسطّر تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة، لا تكن ... صعب القياد وشمّرن تشميرا
إنّ المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فأسأل هدايتك الإله، فتتّئد ... فكفى بربّك هاديا ونصيرا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله بطاعته، وأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي أنهار. واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل.
وقرئ بسكون الهاء، وضم النون، وقرئ بضمهما. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ قال ابن جرير:
أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم.
وقال الزمخشريّ: في مكان مرضىّ. قال شراحه: فالصدق مجاز مرسل في لازمه، أو استعارة. وقيل: المراد صدق المبشّر به، وهو الله ورسوله. أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل، فالإضافة لأدنى ملابسة.
عِنْدَ مَلِيكٍ بمعنى ملك. قال الشهاب: وليس إشباعا، بل هي صيغة مبالغة.
كالمقتدر مُقْتَدِرٍ قال القاشانيّ: أي يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.
وقال الشهاب: في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة، بحيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، مما يجل عن البيان، وتكلّ دونه الأذهان.(9/98)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
قال المهايميّ: سميت به لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم.
وهي مكية، على قول ابن عباس. وآيها ثمان وسبعون.
وقد روى الإمام أحمد أن أول مفصل ابن مسعود، كان الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي بصّر به ما فيه رضاه، وما فيه سخطه، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه، وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه، وينجى من أليم عقابه.
قال القاضي: لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدّرها ب الرَّحْمنُ وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوحي، وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها، مصدق لنفسه، ومصداق لها.
ثم أتبعه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ إيماء بأن خلق البشر، وما تميز به عن سائر الحيوان من البيان- وهو التعبير عما في الضمير، وإفهام الغير- لما أدركه لتلقى الوحي،(9/99)
وتعرف الحق، وتعلم الشرع. أي فإذا كان خلقهم إنما هو في الحقيقة لذلك، اقتضى اتصاله بالقرآن، وتنزيله الذي هو منبعه، وأساس بنيانه.
قال الزمخشريّ: وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ وهذا- كما قال الشهاب- مصحح. والمرجح الإشارة إلى أن كلّا منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر. ففيه إيماء إلى تقصيرهم في أدائه.
ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها، ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة.
وقال الأصفهانيّ في (الذريعة) : لما كان للنطق أشرق ما خص به الإنسان، فإن صورته المعقولة التي بها باين سائر الحيوان. قال عز وجل خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ ولم يقل (وعلمه) إذ جعل قوله عَلَّمَهُ تفسيرا لقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ تنبيها أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لكانت الإنسانية مرقفعة، ولذلك قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وقيل:
المرء مخبوء تحت لسانه.
قال الشاعر:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدّم
أي إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد، لم يبق إلا صورة اللحم والدم. فإذا كان الإنسان هو اللسان فلا شك أن من كان أكثر منه حظّا كان أكثر منه إنسانية. والصمت من حيث ما هو صمت مذموم، فذلك من صفات الجمادات، فضلا عن الحيوانات. وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتا بلا تركيب. ومن مدح الصمت، فاعتبارا بمن يسيء في الكلام، فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا. فإذا ما اعتبرا بأنفسهما، فمحال أن يقال في الصمت فضل، فضلا أن يخاير بينه وبين النطق. وسئل حكيم عن فضلهما فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر عن فضلهما فقال: الصمت عن الخنا، أفضل من الكلام بالخطا. وعنه أخذ الشاعر:
الصّمت أليق بالفتى ... من منطق في غير حينه
انتهى. وقد جوّز- كما حكاه الشهاب- أن يكون الرَّحْمنُ خبر محذوف، أي الله الرحمن، وما بعده مستأنف لتعديد نعمه. ثم قال: وعَلَّمَ من التعليم، ومفعوله مقدر. أي علّم الإنسان، لا جبريل أو محمدا عليهما الصلاة والسلام. وليس (من العلامة من غير تقدير) كما قيل. أي جعله علامة وآية لمن اعتبر- لبعده.(9/100)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 5 الى 7]
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما، به تتسق أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب. وَالنَّجْمُ أي النبات الذي ينجم، أي يطلع من الأرض ولا ساق له. وَالشَّجَرُ أي الذي له ساق يَسْجُدانِ أي ينقادان لله فيما يريد بهما طبعا، انقياد الساجد من المكلفين طوعا. فهو استعارة مصرّحة تبعيّة. شبّه جريهما على مقتضى طبيعته، بانقياد الساجد لخالقه والجملة- إن كانت خبرا عن الرحمن لعطفها على الخبر- فالرابط محذوف لوضوحه، أي بحسبانه ويسجدان له. أو مستأنفة، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر. وإدخال العاطف بينهما، لما أن الشمس والقمر سماويّان، والنجم والشجر أرضيّان، فبينهما مناسبة بالتقابل، وبانقياد الكل لإرادته. وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة. وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي العدل بين خلقه في الأرض.
قال القاشاني: أي خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن، فإن العدالة هيئة نفسانية، لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية. ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن، لما وجد، ولم يبق. ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل، واستتبّ كمال النفس والبدن به، بحيث لولاه لفسد- أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها، لشدّة العناية به، وفرط الاهتمام بأمره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 8 الى 9]
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد. و (أن) مصدرية على تقدير الجارّ. أي لئلا تطغوا فيه، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول، لأنه بالوحي، وإعلام الرسل. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي الاستقامة في الطريقة، وملازمة حدّ الفضيلة، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور، وكل القوى. وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ قال القاشانيّ: أي بالتفريط عن حدّ الفضيلة.
قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق، ونصبه للحق.
انتهى.(9/101)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
وممن فسّر الْمِيزانَ في الآية بالعدل، مجاهد، وتبعه ابن جرير، وكذا ابن كثير، ونظر لذلك بآية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما. ومنه قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه. وعليه، فوجه اتصال قوله وَوَضَعَ الْمِيزانَ بما قبله، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت، ويعرف به المقدار، ويسوّى به الحقوق والمواجب- كذا ارتآه القاضي- والله أعلم وفي الحقيقة، الثاني من أفراد الأول، وأخذ اللفظ عامّا أولى وأفيد.
ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ: الْمِيزانَ ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى. فالأول: هو الآلة. والثاني: بمعنى المصدر. والثالث:
للمفعول. قال: وهو كالقرآن، ذكر بمعنى المصدر في قوله تعالى: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
[القيامة: 18] ، وبمعنى المقروء في قوله إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة: 17] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] ، فكأنه آلة ومحل له، وفي قوله تعالى: آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] . ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب. والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 10 الى 13]
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي مهّدها للخلق فِيها فاكِهَةٌ أي صنوف مما يتفكّه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أي أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بسرا، ثم رطبا. ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وإنما أفردها بالذكر، لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك. فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار، فلذا ذكر النخل باسمه، وذكر الفاكهة دون أشجارها، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها. وَالْحَبُّ(9/102)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
ذُو الْعَصْفِ
أي وفيها الحبّ. وهو حبّ البرّ والشعير ونحوهما ذُو الْعَصْفِ أي الورق اليابس كالتبن. وَالرَّيْحانُ أي الورق الأخضر. تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتيه. هذا على (قراءة) (الريحان) بالجرّ. وقرئ بالرفع، وهو الزرع الأخضر مطلقا، سمي به تشبيها له بما فيه الروح، لأن حياته النباتية في نضرة خضرته.
قال ابن عباس: الريحان خضر الزرع.
وقال القرطبيّ: الريحان، إما فيعلان، من (روح) ، فقلبت الواو ياء، وأدغم ثم خفف، أو فعلان، قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفرق بينه وبين الروحان، وهو ما له روح. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال أبو السعود: الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: لِلْأَنامِ [الرحمن: 10] ، وسينطق به قوله تعالى: أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] . والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما. والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ.
ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى، كفرهم بها، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن، وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه من الله تعالى، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها. والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر، شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، أي فإذا كان الأمر كما فصل، فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيّكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلّا منهما ناطق بالحق، شاهد بالصدق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 16]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين. و (الصلصال) الطين اليابس الذي له صلصلة. و (الفخار) الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. فلا تنافي بين الآية(9/103)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
الناطقة بأحدها، وبين ما نطق به بأحد الآخرين. وَخَلَقَ الْجَانَّ أي الجن، أو أبا الجن، مِنْ مارِجٍ أي لهب صاف مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النّعم. ومما أظهره لكما بالقرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 17 الى 18]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أي مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 21]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما، من (مرج فلان دابته) إذا خلّاها وتركها.
والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح، والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجر من قدرة الله تعالى وبديع صنعه لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية.
قال الشهاب: يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر، قد يجرى فيه فراسخ، ولا يتلاشى ويضمحل، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه، كما نشاهده.
وقيل: المراد بحري فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وبينهما برزخ من الأرض، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما- وهو مروي عن قتادة والحسن- قال الشهاب: لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ... [الفرقان: 53] الآية. والقرآن يفسر بعضه بعضا.
واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره، أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء. فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء. انتهى.
وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية. والأصل في الآي التشابه.(9/104)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
زاد ابن كثير: أن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا، وحجرا محجورا.
فالأولى هو الأول. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما في البحرين وخلقهما من الفوائد، وقد أشار إلى بعضهما بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 23]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي كبار الدر وصغاره. أو (المرجان) الخرز الأحمر المعروف. وإنما قيل مِنْهُمَا مع أنه يخرج من أحدهما، وهو الملح، لأنه لامتزاجهما يكون خارجا منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر: وهذا هو الصواب. ومثله لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وإنما أريد إحدى القريتين. وكما يقال: هو من أهل مصر، وإنما هو من محلة منها. انتهى.
قال الشهاب: ولا يخفى أن هذا، وإن اشتهر، خلاف الظاهر. فإما أن يكون ضمير مِنْهُمَا لبحري فارس والروم، أو يقال معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة. انتهى.
والخطب سهل.
ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس، لتحلّيهم بهما، كما تشير له آية وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] ، قال سبحانه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 24 الى 25]
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن، جمع جارية الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ قرئ بكسر الشين، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر. و (الأعلام) جمع علم، وهو الجبل الطويل. ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري.(9/105)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
قال القاضي: أي من خلق موادها، والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: من على ظهر الأرض هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته الكريمة ذُو الْجَلالِ أي العظمة والعلوّ والكبرياء وَالْإِكْرامِ أي التفضل العام، وهذه الآية كآية كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] .
ولما كان فناء الخلق سببا لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل، وينقلب الأول بالثواب، ويبوء الآخر بالعقاب، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين- قال سبحانه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ من الفوائد، بقوله: فيه فوائد:
منها- الحث على العبادة، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة.
ومنها- المنع من الوثوق بما يكون للمرء. فلا يقول- إذا كان في نعمة- إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله، معتمدا على ماله وملكه.
ومنها- الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب، والضر زائل.
ومنها: ترك اتخاذ الغير معبودا، والزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك، وترك التقرب إلى الله تعالى. فإن أمرهم إلى الزوال قريب.
ومنها- حسن التوحيد، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 30]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يدعونه ويرغبون إليه، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي، وغناه المطلق. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي كل وقت يحدث أمورا، ويجدّد أحوالا.(9/106)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
قال مجاهد: يعطي سائلا، ويفك عانيا، ويجيب داعيا، ويشفي سقيما.
وروى ابن جرير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية. فقيل: يا رسول الله! وما ذاك الشأن قال: يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع أقواما، ويضع آخرين.
وقال القاشاني: المراد يسأله كلّ شيء، فغاب العقلاء، وأتى بلفظ مَنْ أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه، فله كل وقت في كل خلق شأن، بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده. فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل، ولوث العقائد الفاسدة، والخبائث، للشرور والمكاره، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال: يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. انتهى.
وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره- كابن كثير والقاضي- رآها خاصة بمن يعقل، عامة بلسان الحال أو المقال. والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم، وهو ما ذكرناه أولا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آنا فآنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 32]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغا وفروغا. وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه. وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرغ لك، أي أقصدك.
وقال الزجّاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشيء. والإقبال عليه، كما هنا. وهو تهديد ووعيد. تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي قد زال شغلي به. وتقول: سأفرغ لفلان، أي سأجعله قصدي. فهو على سبيل التمثيل. شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة، من الأخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن- بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل، شرع في آخر. وجازت الاستعارة التصريحية أيضا. وقد ألم به صاحب (المفتاح) حيث قال: الفراغ الخلاص عن(9/107)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
المهام. والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعارا للأخذ في الجزاء وحده.
لطيفة:
ترسم أَيُّهَ بغير ألف. وأما في النطق فقرأ أبو عمرو والكسائي (أيها) بالألف في الوقف، ووقف الباقون على الرسم (أيه) بتسكين الهاء، وفي الوصل قرأ ابن عامر (أيه) برفع الهاء، والباقون بنصبها.
و (الثقلان) تثنية (ثقل) بفتحتين، فعل بمعنى مفعل، لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى مفعول، لأنهما أثقلا بالتكاليف. وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب.
والخطاب في (لكم) قيل للمجرمين، لكن يأباه قوله: أَيُّهَ الثَّقَلانِ نعم! المقصود بالتهديد هم. ولا مانع من تهديد الجميع- كما أفاده الشهاب- ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضا، لأن المعنى: سنفرغ لحسابكم، فنثيب أهل الطاعة، ونعاقب العصاة، وهو جليّ. ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من ثوابه أهل طاعته، وعقابه أهل معصيته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 34]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم، أي بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم فَانْفُذُوا أي فجوزوا واخرجوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وغلبة، وأنّي لكم ذلك ونحوه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [العنكبوت: 22] ، ويقال: معنى الآية: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله تعالى. والأول أظهر، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مجاز للعباد، عقبه بقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... إلخ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه، إذا أراده. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من التسوية بين جميعكم، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم.
وقال القاضي: أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة.(9/108)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 35 الى 36]
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي من لهب مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم فَلا تَنْتَصِرانِ أي تمتنعان وتنقذان منه. يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.
وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، وعبارته:
هذا في مقام الحشر، والملائكة محدقة بالخلائق، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي بأمر الله يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 10- 12] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس: 27] ، ولهذا قال تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.
ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك، الإمام ابن القيّم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه (طريق الهجرتين) في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ما مثاله:
وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربا ولا منفذا كما قال تعالى: وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32- 33] ، قال مجاهد: فارّين غير معجزين. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها [الحاقة: 17] ، وقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.. [الرحمن: 33] الآية. وهذا القول أظهر- والله أعلم- فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين، يقال لهم: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات(9/109)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها سَنَفْرُغُ لَكُمْ ... الآية، وهذا في الآخرة، وبعدها فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ.. [الرحمن: 37] الآية، وهذا في الآخرة، وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس. والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله:
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.
وقال تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
[الأنعام: 130] ، وقال: يُرْسَلُ عَلَيْكُما، ولم يقل: يرسل عليكم، لإرادة الصنفين، أي لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معا. وهذا، وإن كان مرادا بقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ [الرحمن: 33] ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن. أي من استطاع منكم. وحسّن الخطاب بالتثنية في قوله: عَلَيْكُما أمر آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما- والله أعلم- انتهى كلام ابن القيم.
وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال القاضي: فإن التهديد لطف، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار، من عداد الآلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 38]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفطرت فاختل نظامها العلوي فَكانَتْ وَرْدَةً أي كلون الورد الأحمر كَالدِّهانِ أي كالدهن الذي هو الزيت، كما قال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] ، وهو دردي الزيت، يعني في لونه الكدر وذوبانه، لصيرورتها إلى الفناء والزوال. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي مما يحله بكم بعد ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 40]
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)(9/110)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي لا يفتح له باب المعذرة، كقوله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] ، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار. فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب. وأخذ كثير السؤال على حقيقته، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه.
قال القاشاني: وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] ، ونظائره، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم، وقد يكون بعده.
وكذا قال ابن كثير: إن هذه الآية كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35- 36] ، فهذا حال. وثمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93] ، وفي الآية تأويل آخر. قال مجاهد: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يعرفون بسيماهم.
وقال الإمام ابن القيّم في (طريق الهجرتين) اختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ، ويسألون بعد إطالة الوقوف، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم، ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل المنفيّ سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها، وإنما يحاسبهم عليها. انتهى.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 41 الى 45]
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أي بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة. وقيل:
بسواد الوجوه، وزرقة العيون فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ أي فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم، فتسحبهم إلى جهنم، وتقذفهم فيها. والباء للآلة، كأخذت(9/111)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
بالخطام، أو للتعدية. و (الناصية) مقدم الرأس. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال ابن جرير: أي من تعريفه ملائكته، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم، حتى خصوا بالإذلال والإهانة، المجرمين دون غيرهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ أي ماء حار آنٍ أي انتهى حره، واشتد غليانه. وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى. ومنه قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] ، يعني إدراكه وبلوغه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من عقوبته أهل الكفر به، وتكريمه أهل الإيمان به.
ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 59]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي قيامه عند ربه للحساب، فأطاعه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. فإضافته للرب لأنه عنده، فهو كقول العرب: ناقة رقود الحلب، أي رقود عند الحلب، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى. أو هو كناية عن خوف الرب وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ، لأن من حصل له الخوف من مكان أحد، يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه منه بالطريق الأولى. وهذا كما يقول المترسلون: المقام العالي، والمجلس السامي جَنَّتانِ أي جنة لمن أطاع من الإنس، وجنة لمن أطاع من الجن. أو هو كناية عن مضاعفة الثواب، وإيثار التثنية للفاصلة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي بإثابته المحسن ما وصف ذَواتا أَفْنانٍ أي أنواع من الأشجار والثمار. جمع (فن) بمعنى النوع، أو أغصان لينة، جمع (فنن) وهو ما دقّ ولان من الغصن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ(9/112)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ
وهو ما غلظ من الديباج.
نبه على شرف الظهارة، بشرف البطانة، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قال ابن مسعود: هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟! وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ أي وثمرهما المجنيّ داني القطوف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي منكسرات الجفن، خافضات النظر، غير متطلعات لما بعد، ولا ناظرات لغير زوجها. أو معناه: إن طرف النظر لا يتجاوزها، كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأنّ عليه من حدق نطاقا
فالمراد: قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن. أو المعنى: شديدات بياض الطرف، كما يقال: أحور الطرف وحوراؤه، من قولهم: ثوب مقصور وحوّاري.
وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ أي لم يمسهن. وأصله خروج الدم، ولذلك يقال للحيض (طمث) ثم أطلق على جماع الأبكار، لما فيه من خروج الدم. ثم عمّ كل جماع. وقد يقال:
إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكرا كلما جومعت. ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أي في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه، أدبا وحياء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 60 الى 78]
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(9/113)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أي في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ أي في الثواب، وهو الجنة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما أي دون تينك الجنتين المنوّه بهما جَنَّتانِ أي بستانان آخران. إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ أي خضراوان من الري، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوّارتان بالماء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وإنما أفردهما بالذكر بيانا لفضلهما، كأنهما، لما لهما من المزية، جنسان آخران فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ جمع (خيّرة) بالتشديد، إلا أنه خفف. وقد قرئ على الأصل. أي فاضلات الأخلاق. وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده حِسانٌ أي حسان الوجوه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الحور: جمع (حوراء) وهي البيضاء النقية. ومعنى مَقْصُوراتٌ قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ. وفيه المعاني المتقدمة أيضا. والْخِيامِ قال ابن جرير: يعني بها البيوت. وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياما، ثم أنشد له. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين. أو تكرير لما سبق، للتنويه بهذا الوصف، وكونه في مقدمة المشتهيات، وطليعة الملذات: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ أي سرر أو مساند أو وسائد خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ أي طنافس وبسط حِسانٌ أي جياد. والصفة كاشفة، ولذا قال ابن جبير: (العبقري) عتاق الزرابي، أي جيادها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي ذي العظمة والكبرياء، والتفضل بالآلاء و (الاسم) هنا كناية عن الذات العليّة، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها، كآية تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان: 61] ، وآية تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] ، ونحوهما. وسر إيثار الاسم التنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة. فما عرف الله إلا الله. هذا هو التحقيق.
وقيل: لفظ (اسم) مقحم، كقوله:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما
وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته. وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله:(9/114)
لا حجة فيما احتجوا به. أما قول الله عزّ وجلّ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فحقّ. ومعنى تَبارَكَ تفاعل من البركة، والبركة واجبة لاسم الله عزّ وجلّ الذي هو كلمة مؤلّفة من حروف الهجاء. ونحن نتبرّك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرّمه، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى، وله الإكرام من الله تعالى ومنا، حينما كان من قرطاس، أو في شيء منقوش فيه، أو مذكور بالألسنة. ومن لم يجلّ اسم الله عزّ وجلّ كذلك ولا أكرمه، فهو كافر بلا شكّ. فالآية على ظاهرها دون تأويل، فبطل تعلقهم بها. انتهى كلامه رحمه الله.
فائدة:
فيما قاله الأئمة في سر تكرير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال السيوطيّ في (الإتقان) في بحث التكرير:
قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة، وإن كان مفيدا للتأكيد معنى. ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكدة.
ثم قال: وجعل منه قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنها، وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة، فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة، لأن التأكيد لا يزيد عليها- قاله ابن عبد السلام وغيره- انتهى.
وفي (عروس الأفراح) : فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ كل أريد به غير ما أريد به الآخر.
قلت: إذا قلنا: العبرة بعموم اللفظ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر، ولكن كرر ليكون نصّا فيما يليه، ظاهرا في غيره.
فإن قلت: يلزم التأكيد؟
قلت: والأمر كذلك، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة، فلا يمتنع.
انتهى.
وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه (الإشارة إلى الإيجاز) وأما قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها(9/115)
من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة، وهكذا إلى آخر السورة.
فإن قيل: كيف يكون قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ نعمة، وقوله: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ نعمة، وكذلك قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ وقوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ وقوله: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ.
قلنا: هذه كلها نعم جسام، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان، والانقياد والإذعان. فإن من حذر من طريق الردى، وبين ما فيها من الأذى، وحث على طريق السلامة، الموصلة إلى المثوبة والكرامة، كان منعما غاية الإنعام، ومحسنا غاية الإحسان. ومثل ذلك قوله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام. وأما قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ، فإنه تذكير بالموت والفناء، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء. انتهى.
وقال البغوي: كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها. ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه، ليفهمهم النعم ويقررهم بها. كقول الرجل لمن أحسن إليه، وتابع إليه بالأيادي، وهو ينكرها ويكفرها: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك، أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب انتهى.
وقال السيد مرتضى في (الدرر والغرر) : التكرار في سورة الرحمن، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدّدة، فكلما ذكر نعمة أنعم بها، وبّخ على التكذيب، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير، لاختلاف ما يقرر به، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاه من الدّبور(9/116)
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبّأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثّغور
على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تلاتل الأمر الكبير
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جار المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط، وهو من لطائف العرب، فاعرفه.
وقال شيخ الإسلام في (متشابه القرآن) : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها، لأن من جملة الآلاء، رفع البلاء، وتأخير العقاب.
وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما، بعدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين، أخذا من قوله: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة. انتهى.
اللهم زدنا اطّلاعا على لطائف قرآنك الكريم، وغوصا على لآلئ فرقانك العظيم.(9/117)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
سميت بها لأنها مملوءة بوقائع القيامة، التي هي الواقعة العظمى، لوقوعها في أشد الأحوال- قاله المهايمي-.
وهي مكية. وآيها ست وتسعون.
وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! قد شبت! قال شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت- رواه الترمذي «1»
وقال:
حسن غريب.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم.
وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة الواقعة، 6- حدثنا أبو كريب. حدثنا معاوية بن هشام. [.....](9/118)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي نزلت وجاءت. والْواقِعَةُ علم بالغلبة على القيامة، أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بد من وقوعها، واختيار (إذا) مع صيغة المضي، للدلالة على ما ذكر لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي كذب أو تكذيب. وقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة، والعافية. واللام للاختصاص. أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي تكذب على الله، أو تكذب في نفيها. واللام للتوقيت.
قال الشهاب: والْواقِعَةُ السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا. خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض الأشقياء إلى الدركات، وترفع السعداء إلى الدرجات. وقيل، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية، لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوما وترفع آخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 6]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت زلزالا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتّتت، أو سيقت وأذهبت، كقوله وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي متفرقا. قال قتادة: الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر. وقال غيره: هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 12]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)(9/119)
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق (الميمنة) و (المشأمة) اللتين هما الجهتان المعروفتان، على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس- أصله من تيمّن العرب باليمين، وتشاؤمهم بالشمال، كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو منى باليمين، وللوضيع: هو منى بالشمال، تجوّزا به، أو كناية به عما ذكر.
وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم، فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم. وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر، تعجّبا منه.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة، بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه.
فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين، وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين؟
فنقول: التعظيم المؤدي بقوله: السَّابِقُونَ أبلغ من قرينه. وذلك أن مؤدي هذا أن أمر السابقين، وعظمة شأنه، ما لا يكاد يخفى. وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف، وبين الإخبار عنه بقوله: الْمُقَرَّبُونَ معرفا بالألف واللام العهدية؟ وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فإنه مصدر بقوله: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ- أفاده الناصر-.
والسَّابِقُونَ الثاني إما خبر، أي الذين عرفت حالهم، واشتهرت أوصافهم على حدّ (وشعري شعري) ، أو تأكيد، والخبر قوله:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أي الذين يقرّبهم الله منه بإعلاء منازلهم فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.(9/120)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي الذين جاءوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغير، وتبرّجت الدنيا لخطّابها، ونسي معها سر البعثة، وحكمة الدعوة. فما أقلّ الماشين على قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابه! لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء، لقلّتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 26]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي مصفوفة، أو مشبكة بالدرّ والياقوت أو الذهب.
و (الوضن) التشبيك والنسج. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي بوجوههم، متساوين في الرتب، لا حجاب بينهم أصلا. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون على سنّ واحدة لا يموتون. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ أي حال الشرب. و (الكوب) إناء لا عروة ولا خرطوم له. و (الإبريق) إناء له ذلك. وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية.
ثم أشار إلى أنها لذّة كلها، لا ألم معها ولا خمار لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار، كخمور الدنيا، والصداع: وجع الرأس. وقرئ بالتشديد من التفعل. أي لا يتفرقون. وَلا يُنْزِفُونَ بكسر الزاي وفتحها. أي لا تذهب عقولهم بسكرها وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون ويرتضون. وأصله أخذ الخيار والخير.
قال ابن كثير: وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها، ثم استشهد له
بحديث عكراش لما أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بثريد، وأقبل عكراش يخبط بيده(9/121)
في جوانبه فقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده وقال: يا عكراش! كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد. ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب، فجعل عكراش يأكل من بين يديه، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال: يا عكراش! كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد- رواه الترمذي «1»
واستغربه- وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتمنون وَحُورٌ عِينٌ أي وأزواج بيض واسعة الأعين. عطف على وِلْدانٌ أو مبتدأ محذوف الخبر. أي وفيها. أو ولهم حور.
وقرئ بالجرّ عطف على بِأَكْوابٍ قال الشهاب: وحينئذ إما أن يقال: يَطُوفُ بمعنى ينعمون مجازا أو كناية. على حدّ قوله:
وزجّجن الحواجب والعيونا
أو يبقى على حقيقته وظاهره، وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضا، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهن عليهم. وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري. قيل: والفصل يأباه ويضعفه. وأما عطفه على جَنَّاتِ بتقدير مضاف أي هم في جنات، ومصاحبة حور- فقال أبو حيّان: هو فهم أعجمي، فيه بعد وتفكيك للكلام المرتبط، وهو ظاهر. ومن عصّبه فقد تعصّب.
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي صفاؤهنّ كصفاء، الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل الْمَكْنُونِ الذي صين في كنّ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الصالحات. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي هذيانا وكلاما غير مفيد، باطلا من القول. وَلا تَأْثِيماً أي ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قال القاشاني: أي قولا هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص، مبرّأ عن الفضول والزوائد. أو قولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائض، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته، لكون كلامهم كله معارف وحقائق، وتحايا ولطائف، على اختلاف وجهي الإعراب، أي من كون سَلاماً بدلا من قِيلًا أو مفعوله. والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته، لأن المراد: سلاما بعد سلاما، كقرأت النحو بابا بابا، فيدلّ على تكرّره وكثرته.
__________
(1) أخرجه في: الأطعمة، 41- باب ما جاء في التسمية في الطعام.(9/122)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أي: أي شيء هم! أي هم شرفاء، عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك له. أو موقر بالثمار وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد: كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي ممتد منبسط لا يتقلّص وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب دائم الجريان وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ أي لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية، وَلا مَمْنُوعَةٍ أي لا تمنع عن طالبها. والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا، فإنها تنقطع أحيانا، كفاكهة الصيف في الشتاء، وتمتنع أحيانا لعزتها أو جدبها وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي مرتفعة في منازلها، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة.
وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها. وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي بديعا فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، كما يكنى عنهن باللباس. فالضمير المذكور على طريق الاستخدام، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء، بعد إرادة معناها المعروف منها. وقيل:
على طريق الحقيقة. أي مرفوعة على الأرائك. كآية هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس: 56] ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي لم يطمثن. عُرُباً جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها. المحبوبة لتبعلها أَتْراباً أي على سن واحدة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق ب (أنشأنا) أو (جعلنا) أو صفة ل أَبْكاراً أو خبر لمحذوف، مثل هن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة.
والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين، كما بينا أولا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 48]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)(9/123)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ أيّ حر نار ينفذ في المسامّ وَحَمِيمٍ أي ماء متناهي الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي من دخان أسود، طبق أهويتهم المردية، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة، بالصفات المظلمة، والهيئات السود الرديئة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح، ونفع من يأوي إليه بالراحة، بل له إيذاء وإيلام وضرّ، بإيصال التعب واللهب والكرب إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ أي منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية، والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة، والتبعات المهلكة. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي الذنب العظيم، من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة، التي استحقوا بها العذاب المخلد، والعقاب المؤبد. وفسره (السبكي) بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] ، قال الشهاب: وهو تفسير حسن، لأن الحنث، وإن فسر بالذنب مطلقا أو الذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 56]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي معين عنده تعالى، وهو يوم القيامة ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ أي الجاهلون المصرّون على جهالاتهم، والجاحدون للبعث. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ وهو من أخبث شجر البادية في المرارة، وبشاعة المنظر. ونتن الريح فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي من(9/124)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
ثمراتها الوبيئة البشعة المحرقة فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الذي انتهى حره وغليانه. قال الزمخشري: وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكّره على اللفظ في قوله (منها) و (عليه) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ريّ معه، لشدة الشغف والكلب بها وهذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي جزاؤهم في الآخرة.
وفيه مبالغة بديعة، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلا إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، فلما جعل هذا، مع أنه أمر مهول، كالنزل، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه. وجعله نزلا. مع أنه ما يكرم به النازل، متهكما، كما في قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي معشر قريش، والمكذبين بالبعث، فأوجدناكم بشرا، ولم تكونوا شيئا فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي بالخلق. وهم، وإن كانوا مقرين به لقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] و [الزمر: 38] ، إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار، لأنه إذا لم يقترن بالطاعة، والأعمال الصالحة، لا يعد تصديقا. أو المعنى: فلولا تصدقون بالبعث، فإن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الرحم من النطف. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي بجعله بشرا سويّا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي بإفاضة الصورة الإنسانية عليه نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي كتبنا على كل نفس ذوقه. أي: ومن كان سبيله ذلك، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوّف به من بعده. والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة، فلا يغترون بالإمهال، بدليل ما قدره عليهم من الموت. وفي قوله تعالى: بَيْنَكُمُ زيادة تنبيه، كأنه بين ظهرانيهم، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي بعد مهلككم، فنجيء بآخرين من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟.(9/125)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قال الشهاب: والظاهر أن قوله: وَنُنْشِئَكُمْ
المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة، كما توهم. وهذا كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء: 133] ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة، وهي البداءة. قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة، وأنها أهون عليه
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 67]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي ما تحرثون الأرض لأجله، وهو الحب. و (الحرث) :
شق الأرض للزراعة، وإثارتها، وإلقاء البذر فيها. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي المنبتون وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول: بل أنت يا ربّ! لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي أيبسناه قبل استوائه واستحصاده. وأصل (الحطام) ما تحطم وتفتت لشدة يبسه فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ أي تعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته. أو تندمون على اجتهادكم فيه الذي ضاع وخسر. أو (تفكهون) على ما أصبتم لأجله من المعاصي، فتتحدثون فيه.
و (التفكه) التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل بالحديث، لأنه ذو شجون.
وقوله تعالى: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ مقول قول مقدّر، هو حال. أي قائلين، أو يقولون: إنا لمغرمون. أي ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا. من (الغرام) بمعنى الهلاك قال:
إن يعذّب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي حرمنا رزقنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 68 الى 70]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ يعني العذاب الصالح للشرب أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ(9/126)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
الْمُزْنِ
أي السحاب المعبر عنه بالسماء في غير ما آية أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ أي لكم إلى قرار الأرض، ومسلكوه ينابيع فيها لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً أي ملحا لا يصلح لشراب ولا زرع فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي نعمة الله عليكم في جعله عذبا فراتا، لشربكم وزرعكم، وصلاح معايشكم ومنافعكم.
لطيفة:
قال الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) في النوع الحادي عشر من المقالة الثانية، في بحث ورود لام التوكيد في الكلام، وأنها لا تجيء إلا لضرب من المبالغة، في سر مجيء اللام في قوله تعالى: لَجَعَلْناهُ حُطاماً دون قوله: جَعَلْناهُ أُجاجاً ما مثاله:
أدخلت اللام في آية المطعوم، دون آية المشروب. وإنما جاءت كذلك، لأن جعل الماء العذب ملحا. أسهل إمكانا في العرب والعادة. والموجود من الماء الملح، أكثر من الماء العذب. وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أحالتها إلى الملوحة. فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا، إلى زيادة تأكيد.
فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق. وأم المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد، فلذلك قرن بلام التأكيد، زيادة في تحقيق أمره، وتقرير إيجاده. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 71 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحون. أي تستخرجونها من الزند، وهو العود الذي تقدح منه أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي بل نحن جعلناها مودعة في موضع. وللعرب شجريان: أحدهما المرخ، والأخرى العفار، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر، تباين من بينهما شرر النار. وقد تقدم بيانه في آخر سورة يس. نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً أي جعلنا نار الزناد تبصرة في أمر البعث، لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها، قادر على إعادة ما تفرقت مواده.
أو تذكيرا لنار جهنم وَمَتاعاً أي منفعة لِلْمُقْوِينَ أي المسافرين الذين ينزلون القواء، وهي القفر. يقال: أقوى إذا نزل القواء، كأصحر إذا دخل الصحراء، فإن الإفعال يكون للدخول في معنى مصدر مجرده.(9/127)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
وعن مجاهد: (المقوين) المستمتعين، المسافر والحاضر.
وعن ابن زيد: هم الجائعون. تقول العرب: أقويت منه كذا وكذا، أي: ما أكلت منه. وأقوت الدار: خلت من ساكنيها وانتفاعهم بها، لأنهم يطبخون بها.
ولشدة احتياجهم لها، خصوا بالذكر مع انتفاع غيرهم بها.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي سبح اسمه. قال الزمخشري: بأن تقول: سبحان الله. إما تنزيها له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته، ويكفرون نعمته.
وإما تعجبا من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة. وإما شكرا لله على النعم التي عدها ونبه عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 79]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي منازل الكواكب ومراكزها البهيجة في السماء.
أو بمساقطها ومغاربها، وهي أوقات غيبتها عن الحواس. أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة. و (لا) في (لا أقسم) إما مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم، كما أوضحه في (فقه اللغة) وإما (لا أقسم) بتمامها صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي له كرم وشرف وقدر رفيع لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي محفوظ مصون، لا يتغير ولا يتبدل. أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه، كغيره من الكتب، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله، كما قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ اعلم أن في الآية أقوالا عديدة، مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقّى، أو المصحف، وأن (المطهرون) هم الملائكة، أو المتقون، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث. وذلك لاتساع ألفاظها الكريمة، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، وهاك ملخص ذلك ولبابه:
فأما أكثر المفسرين، فعلى أنه عني بالآية الملائكة. فنفي مسّه كناية عن لازمه، وهو نفي الاطلاع عليه، وعلى ما فيه. والمراد ب (المطهرين) حينئذ إما جنس الملائكة، أو من نزل به وهو روح القدس. وطهارتهم نقاء ذواتهم عن كدورات(9/128)
الأجسام، ودنس الهيولى، أو عن المخالفة والعصيان.
وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ كما قال: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 210- 212] .
انتهى. قال ابن كثير: وهذا القول قول جيد.
وقال الفرّاء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. ومثله قول محمد بن الفضل:
لا يقرؤه إلا الموحدون.
فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله، والاهتداء به، والعناية به، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس، وأثر الإقبال عليه، ورائد الانصياع له، والطهارة حينئذ هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق، والملكات الرديئة، والغرائز الفاسدة.
وقال آخرون: عني ب (المطهرين) المتطهرون من الجنابة والحدث. قالوا:
ولفظ الآية خبر، ومعناها النهي، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه، ولازم من لوازمه، لشرفه وعظم شأنه.
قالوا: والمراد ب (الكتاب) المصحف، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، أن لا يمس القرآن إلا طاهر. وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إلا أن فيهما مقالا بيّنه الحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) وأشار له ابن كثير أيضا. ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية. وقد أوضح ذلك الشوكاني في (نيل الأوطار) وعبارته:
(الطاهر) يطلق بالاشتراك على المؤمن- والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر- ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدل لإطلاقه على الأول قوله الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «1» : المؤمن لا ينجس.
وعلى الثاني وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6] ، وعلى الثالث:
قوله «2» صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في: الغسل، 23- باب عرق الجنب وأن المؤمن لا ينجس، حديث 204.
(2) أخرجه البخاري في: الوضوء، 49- باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، حديث رقم 145، عن المغيرة.(9/129)
في المسح على الخفين: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين.
وعلى الرابع: الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا. وقد ورد إطلاق ذلك في كثير. فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه، حمله عليها هنا.
والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب. والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها، فلا يعمل به حتى يبين. وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف. وخالف في ذلك داود. استدل المانعون للجنب بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن. والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لأنه الأقرب. والْمُطَهَّرُونَ الملائكة.
ولو سلم عدم الظهور، فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية. ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين، لكانت دلالته على المطلوب، وهو منع الجنب من مسه، غير مسلمة. لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما، لحديث: المؤمن لا ينجس. وهو متفق عليه.
فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل تعين حمله على من ليس بمشرك، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لهذا الحديث، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ. ولو سلم صدق اسم (الطاهر) على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر. فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه، فلا يعين حتى يبين. وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره
لحديث (المؤمن لا ينجس)
. ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال في جميع معانيه، لما صح، لوجود المانع، وهو
حديث: المؤمن لا ينجس.
واستدلوا أيضا بحديث عمرو بن حزم المتقدم، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج. لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج، لعاد البحث السابق في لفظ (طاهر) وقد عرفته.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر، لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه. فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما، فلا يتناوله الحديث، سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا، أو على بدنه نجاسة.(9/130)
فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل (الطاهر) على من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من
حديث ابن عباس «1»
أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.
ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ إلى قوله: مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] ، مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟
قلت: أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار، لمصلحة، كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه، ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا، عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك.
وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر، فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن عليّ والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز.
واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه. انتهى كلام الشوكاني.
تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون:
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) في مباحث أمثال القرآن الكريم، ما مثاله: الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني، أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يقصّر بها، ويعطي اللفظ حقه، والمعنى وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم. ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني، والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج. ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم. والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه. يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الوحي، 6- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حديث رقم 7.(9/131)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
مستنبطه. ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين. ومن هذا
قول «1» عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟
فقال: لا، والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه!
ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد. وأنت إذا تأملت قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأن القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهرة، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل. ووجدت الآية أخت قوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء: 210- 211] ، ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به، وعمل به، كما فهمه البخاري من الآية، فقال في صحيحه في باب قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها [آل عمران: 93] ، لا يَمَسُّهُ لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] ، وتجد تحته أيضا لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي، إلا القلوب الطاهرة، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه. فتأمل هذا السبب القريب، وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه. فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 80 الى 82]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي الذي رباهم بالكمالات، وهداهم إليها بتنزيلها منه أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص عليكم فخامة شأنه، وعظمة مقداره أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ قال ابن جرير: أي تلينون القول للمكذبين، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر. وأصل (الإدهان) - كما قال الشهاب- جعل الأديم ونحوه
__________
(1) أخرجه البخاري في: الجهاد، 171- باب فكاك الأسير، حديث 95.(9/132)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
مدهونا بشيء من الدهن. ولما كان ذلك ملينا له محسوسا، أريد به اللين المعنويّ، على أنه تجوز به عن مطلق اللين، أو استعير له. ولذا سميت المداراة والملاينة، مداهنة. وهذا مجاز معروف، ولشهرته صار حقيقة عرفية، فلذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا، لأن المتهاون بالأمر، لا يتصلب فيه وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي شكر رزقكم إياه تكذيبكم به، كفرا لنعمته، وجحدا لمنته.
قال ابن جرير: أي وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم، التكذيب. وذلك كقول القائل لآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، بمعنى جعلت شكر إحساني أو ثواب إحساني إليك، إساءة منك إليّ.
وقد ذكر عن الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزدشنوءة (ما رزق فلان) بمعنى ما شكر. انتهى.
وقد حمل بعضهم (الرزق) هنا على النعمة مطلقا، والأظهر أنه نعمة القرآن، للسياق.
وقال القاشاني: أي وتجعلون قوتكم القلبيّ ورزقكم الحقيقي، تكذيبه، لاحتجابكم بعلومكم، وإنكاركم ما ليس من جنسه، كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه. أو رزقكم الصوريّ. أي لمداومتكم على التكذيب، كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم. كما تقول للمواظب على الكذب:
الكذب غذاؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 85]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ أي النفس، لدلالة الكلام عليها الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي حالة نزعه، أو تنتظرون لفظه النفس الأخير. والخطاب لمن حول المحتضر: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ قال جمهور السلف: يعني ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. أو لا تدركون كنه ما يقاسيه. وبعضهم فسر القرب بالعلم والقدرة. وتقدم بسط الأقوال، وترجيح الأول في تفسير آية وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، في سورة (ق) فرجع إليه فإنه مهم.
وهذه الجملة معترضة، أو حالية كالتي قبلها.(9/133)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 86 الى 96]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير مجزيين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من (دانه) أذله واستعبده. تَرْجِعُونَها أي تردّون النفس إلى مقرها عند بلوغها الحلقوم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنكم غير مسوسين، مربوبين مقهورين.
يعني أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر الربوبية، وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشد الكراهية، وهو الموت. فَأَمَّا إِنْ كانَ أي الميت مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي السابقين من الأصناف الثلاثة المذكورة في أول السورة فَرَوْحٌ أي فله راحة وَرَيْحانٌ أي رزق طيب، أو شجر ناضر يتفيأ ظلاله وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي يتنعم فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قال ابن كثير: أي تبشرهم الملائكة بذلك. تقول لأحدهم: سلام لك، أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله، وسلّمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة: تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وهذا معنى حسن.
ويكون ذلك كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ الآيات [فصلت: 30] . انتهى.
وقال الرازي: في السلام وجوه:
أولها- يسلم به صاحب اليمين، على صاحب اليمين كما قال تعالى من قبل:
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25] .
ثانيها- فَسَلامٌ لَكَ أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه، فإنه في أعلى المراتب. وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم: كن فارغا من جانب ولدك، فإنه في راحة.(9/134)
ثالثها- أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان. إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد الفضل. انتهى.
ثم قال الرازيّ: والخطاب بقوله: لَكَ يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وحينئذ فيه وجه. وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها. فسلام لك يا محمد منهم، فإنهم في سلامة وعافية، لا يهمك أمرهم. أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم. انتهى.
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ أي بآيات الله الضَّالِّينَ أي الجائرين عن سبيله. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء انتهى حرّه. فهو شرابه وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي إحراق بالنار إِنَّ هذا أي المذكور من أحوال الفرق الثلاثة وعواقبهم لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي حقيقة الأمر، وجلية الحال، لا لبس فيه ولا ارتياب. والإضافة إما من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الحق اليقين: كما يقال: دار الآخرة. والدار الآخرة أو بالعكس، أي اليقين الحق. أو من إضافة العام للخاص، أي كعلم الأمر اليقين. فالإضافة حينئذ لامية، أو بمعنى (من) .
تنبيه:
في (الإكليل) : استدل بالآيات هذه على أن الروح بعد مفارقة البدن، منعّمة أو معذّبة، وعلى أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي نزهه عما يصفونه به من الأباطيل، وما يتفوهون به من الأضاليل، قولا وعملا.(9/135)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
سميت به لأنه ناصر لله ولرسوله في الجهاد، فنزل منزلة الآيات الناصرة لله ولرسوله، على أنه سبب لإقامة العدل، كالقرآن. وأيضا أنه جامع للمنافع، فأشبهه أيضا، فسميت سورة ذكر فيه، بذلك- أفاده المهايمي-.
وهي مدنية على الأصح، بل قال النقاش: إنها مدنية بإجماع المفسرين، ونظم آياتها. وما تشير إليه، يؤيده قطعا.
وآيها تسع وعشرون.
روى الإمام أحمد «1» عن عرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد. وقال: إن فيهنّ آية أفضل من ألف آية. وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي
. قال ابن كثير: والآية المشار إليها في الحديث هي- والله أعلم- قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الآية. لما سيأتي بيانه- والله أعلم.
__________
(1) أخرجه في مسنده 4/ 128.(9/136)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أظهر كل موجود تنزيهه عن الشريك والولد، وكل ما لا يليق به، وآذن بانفراده في ألوهيته، وتدبيره وعلمه وقدرته. فإن من شاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها، على حال من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غاياته- فبالضرورة يقضي بأن هذا الترتيب المحكم هو أثر خالق واحد، مدبر لنظامه، مريد لسيرة في سننه، كما بسطناه في (دلائل التوحيد) . وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القويّ الذي يقهر كل ما في السموات والأرض الْحَكِيمُ أي الذي رتب نظام كل موجود على ترتيب حكمي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما، ونفوذ الأمر فيهما يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يوجد ما يشاء من الحيوان والنبات كيفما شاء، ويميته بعد بلوغه أجله فيفنيه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي تام القدرة، فلا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماتة وغيرهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
هُوَ الْأَوَّلُ أي السابق على كل موجود، من حيث إنه موجده ومحدثه وَالْآخِرُ أي الباقي بعد فناء كل شيء وَالظَّاهِرُ أي وجوده بالأدلة الدالة عليه.(9/137)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
وقال ابن جرير. أي الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه وَالْباطِنُ أي باحتجابه بذاته وماهيته. أو العالم بباطن كل شيء. قال ابن جرير: أي الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي تام العلم، فلا يخفى عليه شيء.
وقد روى الإمام أحمد «1» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم! رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. أنت الأول فليس قبلك شيء. وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين. وأغننا من الفقر- ورواه مسلم «2» وغيره-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قال القاشاني: أي من الأيام الإلهية، وقيل المعهودة- والله أعلم- ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال ابن جرير: أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبّرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من خلقه كالأموات والبذور والحيوانات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي كالزروع وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من الأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة والأعمال وغيرها. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ قال ابن جرير: أي وهو شاهد لكم، أينما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (شرح حديث النزول) : لفظ المعية
__________
(1) أخرجه في المسند 2/ 381.
(2) أخرجه في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 61.(9/138)
في سورة الحديد والمجادلة، في آيتيهما، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم. وقالوا:
هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله. وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية) . ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاما كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصّا كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
[النحل: 128] ، وقوله:
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] ، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة:
40] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أراد به تخصيصه وأبا بكر، دون عدوّهم من الكفار. وكذلك قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضا، فلفظ المعية، ليست في لغة العرب، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] ، وقوله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] ، وقوله: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ، وقوله: وَجاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال: 75] ، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضا، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به. وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه. فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان. ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى.
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل) :
فإن قيل: فقد تأولتم آيات وأخبارا، فقلتم في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا؟
قلنا: نحن لم نتأول شيئا، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل(9/139)
لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الإفهام منها. وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه، حقيقة كان أو مجازا. ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية، المجاز دون الحقيقة، كاسم الرواية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية، فإن ظاهر هذا، المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلا يحتاج إلى دليل وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعيّ، وحقيقة لغوية، كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، إنما ظاهرها العرف الشرعيّ دون الحقيقة اللغوية. وإذا تقرر هذا، فالمتبادر إلى الفهم من قولهم (إن الله معك) أي بالحفظ والكلاءة. ولذلك قال الله تعالى فيما أخبر عن نبيّه إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] ، وقال لموسى إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] ، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص، لوجوده في حق غيرهم، كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجبا لنفي الحزن عن أبي بكر، ولا علة له. فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلا. ثم لو كان تأويلا فما نحن تأوّلناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم، الذين ثبت صوابهم، ووجب اتباعهم، هم الذين تأوّلوه. فإن ابن عباس والضحاك ومالكا وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أي علمه. ثم قد ثبت بكتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف، أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [المجادلة: 7] ، ثم قال في آخرها إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فبدأها بالعلم، وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفق فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم. فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيّنّاه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.
انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم عليه.(9/140)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 5 الى 6]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمور جميع خلقه، فيقضي بينهم بحكمه. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل ما نقص من ساعات أحدهما فيجعله زيادة في الآخر بحكمته وتقديره. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير أو شر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي موّلكم إياه، وجعلكم مستخلفين فيه، بتمكينكم وإقداركم على التصرّف فيه بحكم الشرع، إذ الأموال كلها لله، واختصاص نسبة التصرّف إنما هو بحكمه في شريعته- أفاده القاشاني-.
وقال الشهاب: الخلافة إمّا عمّن له التصرّف الحقيقي، وهو الله تعالى، وهو المناسب لقوله: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أو عمّن تصرّف فيها قبلهم ممن كانت في أيديهم فانتقلت لهم. وعلى كلّ، ففيه حثّ على الإنفاق، وتهوين له. أما على الأول فظاهر. لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره. وعلى الثاني أيضا، لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله، علم أنه لا يدوم له أيضا، فيسهل عليه الإخراج.
ومال المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوما أن ترد الودائع
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 8]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي وما يصدّكم عنه، وقد ظهرت دواعيه،(9/141)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
واتضحت سبله لذويه كما قال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي يدعوكم من طريق النظر والتفكّر إلى الإيمان بالذي ربّاكم بنعمه، وصرّفكم بآلائه، فوجب عليكم شكره. وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي بالإيمان، إذ ركّب فيكم العقول، ونصب الأدلّة.
ومكّنكم من النظر، بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتذكير الرسول، فما عليكم إلا أن تأخذوا في سبيله. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال القاشاني: أي إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 9]
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ أي حججا واضحات، وبراهين قاطعات، لِيُخْرِجَكُمْ أي الله، أو عبده بآياته مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادّة، إلى نور الهدى واليقين، الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب. وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي في إنزاله الكتب، وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه.
ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه، والحث عليه، أكثر من ذكره في ضروب من البيان، وفنون من الأحكام. ولذا قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد مال. وإذا كان كذلك، فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه ذخرا يجده بعد مماته.
قال الشهاب: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق، لأنه قرنه بالإيمان أولا لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان، مع سطوع براهينه، وعلى ترك الإنفاق(9/142)
في سبيل من أعطاه لهم، مع أنهم على شرف الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوه.
وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه، أعم من الجهاد وغيره. وقصر بعضهم إياه على الجهاد، لأنه فرده الأكمل، وجزؤه الأفضل، من باب قصر العامّ على أهم أفراده وأشملها، لا سيما وسبب النزول كان لذلك.
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي من قبل فتح مكة، أو صلح الحديبية، وقاتل لتعلو كلمة الحق. ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام، وعزة أهله. فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه. فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين.
على أنه أشير إليه بقوله مستأنفا عنهم، زيادة في التنويه بهم: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أي لعظم موقع نصرة الرسول، صلوات الله عليه، بالنفس، وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد. فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد، بخلاف ما بعد الفتح، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قويّا، والكفر ضعيفا. ويدل عليه قوله تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] ، وقوله عليه الصلاة والسلام «1» : لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أفاده الرازي-.
وفي (الإكليل) : في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق، وعلى تنزيل الناس منازلهم، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب. انتهى.
وَكُلًّا أي وكل واحد من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى، وهي الجنة، لا الأولين فقط، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء.
قال ابن كثير: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر، فيمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي من النفقة في سبيله، وجهاد أعدائه، وغير ذلك فيجازيكم على جميع ذلك.
قال ابن كثير: ولخبرته تعالى، فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل،
__________
(1) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 221، عن أبي هريرة.(9/143)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول، وإخلاصه التامّ، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. وفي
الحديث «1» : سبق درهم مائة ألف
. ولا شك عند أهل الإيمان أن الصّدّيق أبا بكر رضي الله عنه، له الحظّ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجلّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو السعود: ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين.
أي: من ذا الذي ينفق ماله في سبيله تعالى رجاء أن يعوضه، فإن كمن يقرضه.
وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات له. فالقرض مجاز عن حسن إنفاقه مخلصا في أفضل جهات الإنفاق. وذلك إما بالتجوز في الفعل، فيكون استعارة تبعية تصريحية، أو في مجموع الجملة، فيكون استعارة تمثيلية. وقد زعم بعضهم أنها مقصورة على النفقة في القتال، وآخرون على نفقة العيال. قال ابن كثير: والصحيح أنه أعم من ذلك، فكلّ من أنفق في سبيل الله بنيّة خالصة، وعزيمة صادقة، دخل في عموم هذه الآية.
وهو جليّ، وقد أسلفنا بيانه مرارا.
وقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي يعطيه ثوابه أضعافا مضاعفة، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي جزاء شريف جميل. والجملة حالية، أو معطوفة مشيرة إلى أن الأجر كما زاد كمّه، زاد كيفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي:
لكونهم على الصراط المستقيم، متوجهين إليه تعالى. و (النور) إما حقيقيّ حسيّ،
__________
(1) أخرجه النسائي في: الزكاة، 49- باب جهد المقلّ، عن أبي هريرة.(9/144)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
على ما روي عن ابن مسعود: أن نورهم على قدر أعمالهم، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، فدون ذلك.
قيل: وإنما خصصت تلك الجهات، لأن منها أخذت صحف الأعمال، فجعل الله معها نورا يعرف به أنهم من أصحاب اليمين وإما مجازيّ معنوي مراد به ما يكون سببا للنجاة، واختاره ابن جرير، وأيده بقوله: لو عنى بذلك النور، الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان، دون الشمائل، لأن الضوء المعروف، لم يخص عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان، دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذين يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم، دون الشمائل، ما يدل على أنه معنيّ به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلّا وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم تطاير. ويعني بقوله (يسعى) يمضي والباء في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى (في) وكان بعض نحويي البصرة يقول: الباء في قوله:
وَبِأَيْمانِهِمْ بمعنى (على أيمانهم) وقوله: يَوْمَ تَرَى من صلة (وعد) . انتهى.
بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي: يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة: بشراكم أي:
المبشّر به جنات أو بشراكم دخول جنات. وقد قيل: إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقدير مضاف تصحيحا للحمل.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي:
نصب منه. يقال: اقتبس، أي: أخذ قبسا، وهو الشعلة. وانْظُرُونا بمعنى انظروا إلينا، على الحذف والإيصال، لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية، يتعدى ب (إلى) فإن أريد التأمل تعدى ب (في) . وقولهم ذلك، إما حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمرا، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين، وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم، كقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.. [الأعراف:(9/145)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
50] الآية. وقيل: انْظُرُونا بمعنى انتظرونا، وهو الذي عول عليه ابن جرير.
والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس، هو رجاء شفاعتهم لهم، أو دخولهم الجنة معهم طمعا في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة.
قِيلَ أي: قالت الملائكة أو المؤمنون، ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً قال الزمخشري: طرد لهم، وتهكم بهم. أي: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل سببه. وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين. وتنحوا عنا، فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم.
وكلامه يدل على حمل النور على حقيقته. ولا مانع من أنه كنى به عن الإيمان والعمل الصالح. أي: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيمانا وعملا طيبا يهديكم إلى النجاة، كما أن النور يهدي في الظلمات، على طريق الاستعارة. والأمر للتخسير والتنديم. وهذا، مع ما ذكره الزمخشري رحمه الله، وجه رابع.
ونقل الرازي عن أبي مسلم، أن المراد من قول المؤمنين (ارجعوا) منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه: وراءك أوسع لك. قال الرازيّ: فعلى هذا القول، المقصود من قوله (ارجعوا) أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب، لأنه أمر لهم بالرجوع. انتهى. وهذا وجه خامس.
ثم أشار إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها، بقوله سبحانه:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ أي: بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين، يحجزهم عن أنوار المؤمنين، لتتم ظلمتهم لَهُ أي: لذلك السور بابٌ أي: لأهل الجنة يدخلون منه، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم باطِنُهُ وهو الجانب الذي يلي المؤمنين فِيهِ الرَّحْمَةُ يعني: الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم وَظاهِرُهُ وهو الذي يلي المنافقين، مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي: من عنده، ومن جهته الظلمة والنار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)(9/146)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ أي بالمؤمنين الدوائر، ليظهر الكفر فتظهروا ما في أنفسكم وَارْتَبْتُمْ أي في توحيد الله، ونبوّة نبيّه، أو في البعث بعد الموت، أو في قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] و [الفتح: 28] ، ووعده بنصر المؤمنين، أو في جميع ذلك. وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي طول الآمال، والطمع في امتداد الأعمار. أو قولهم: سَيُغْفَرُ لَنا. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: الموت، أو مصداق وعده بنصره رسوله، وإظهاره دينه، أو عذاب النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان، فأطمعكم بالنجاة والفوز والغلبة. وقرئ (الغرور) بالضم. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين، بعد أن ميز بينهم. أي فاليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به، بدلا من عذابكم، وعوضا من عقابكم وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المهاجرين بالكفر من المحادّين لله ولرسوله مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أي أولى بكم، أو تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار.
ثم نعى عليهم رخاوة عقدهم فيما ندبوا إليه من التصدق في سبيل الله، بأن ذلك من أثر قلة العناية بالخضوع لذكره وتنزيله، تعريضا بالمنافقين، وسوقا للمؤمنين إلى الكمال، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
أَلَمْ يَأْنِ أي ألم يحن. من (أنى الأمر) يأتى، إذا جاء إناه، أي وقته لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ أي أن تلين وترقّ وتخلص قلوبهم لذكر اسمه الكريم وما يوجبه من الوجل منه والخشية، أو لذكر وعده ووعيده. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن الذي لو أنزل على جبل لتصدع. قال أبو السعود: ومعنى الخشوع له، الانقياد التامّ لأوامره ونواهيه، والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام، التي من جملتها ما سبق وما لحق من الإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد قيل: إن عطفه على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، وأن ذكر الله ككلام الله، بمعنى القرآن، وكذا ما نزل من الحق، فالعطف لتغاير العنوانين، فإنه ذكر وموعظة، كما أنه حق نازل. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل والإمهال(9/147)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
والاستدراج فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لزوال الخشية والروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن دينهم، نابذون لما في كتابهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: في الآية نهي للمؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، فإنهم لما تطاول عليهم الأمد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فقست قلوبهم، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه. ولهذا نهى المؤمنون أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية. ونظير الآية قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ.. [النساء: 155] ، و [المائدة: 13] ، إلى آخرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم، فلا منتدح لكم عن الجزاء. أي فاحذروا مغبة القسوة والفسق. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الحجج وضروب الأمثال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك. وقد جوز في الشهداء وجهان:
أحدهما- أن يكون معطوفا على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر، لأن الأصل الوصل لا التفكيك.(9/148)
والثاني- أن يكون مبتدأ، خبره لَهُمْ أَجْرُهُمْ. والشُّهَداءُ حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم (شهيد) لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذن، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.
ثم رأيت لابن القيّم في (طريق الهجرتين) بسطا لهذين الوجهين في بحث الصديقية. ننقله لنفاسته. قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:
الطبقة الرابعة- ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق، بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية. ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] .
فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة. وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه. وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، قيل: إن الوقف على قوله: هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم يبتدئ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا، وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في
كلام النبيّ «1» في قوله: (اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد)
ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق. ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه.
__________
(1)
أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث 1728، عن أنس.(9/149)
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم. وعلى هذا، فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، وهي قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا، وشهداء على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفا لجملة (المؤمنين الصديقين) .
وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله. وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله: وَالشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدا في سبيل الله. ويرجحه أيضا أنه لو كان الشُّهَداءُ داخلا في جملة الخبر، لكان قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ داخلا أيضا في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء:
أحدها- أنهم هم الصدّيقون.
والثاني- أنهم هم الشهداء.
والثالث- أن لهم أجرهم ونورهم.
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجردا عن العطف. وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال. والأحسن في هذا تناسب الأخبار، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعا، فقول. زيد كريم عالم له مال أو كريم وعالم وله مال، فتأمله! ويرجحه أيضا أن الكلام يصير جملا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضا حسنا. فهؤلاء ثلاثة أصناف. ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد:
25] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الآية، وذكر المنافقين في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ [الحديد: 13] الآية. فهؤلاء أصناف العالم كلهم. وترك سبحانه ذكر المخلّط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء، دون المخلطين غالبا، لسرّ اقتضته حكمته. فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، فلا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في(9/150)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
تخليده في النار، ولو نزلوه بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء، وبين حالهم بقوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
ثم حقر تعالى أمر الدنيا، وبين حاصل أمرها عند أهلها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أي تفريح نفس وَلَهْوٌ أي باطل وَزِينَةٌ أي منظر حسن وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ أي في الحسب والنسب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أي مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف بعد خضرته ونضرته فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي من اليبس ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي هشيما متكسرا، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن ترك طاعة الله، ومنع حق الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال المهايمي: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة. وزينتها بزينة الجنة. والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء، دعاهم إلى الحياة الباقية، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بادروا بالتوبة من ذنوبكم، إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ(9/151)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أي الإيمان اليقيني. ذلِكَ أي المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ممن كان أهلا له وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جرير أي بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة، ما وصف أنه أعدّه لهم،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ أي من قحط وجدب ووباء وغلاء وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ أي من خوف ومرض وموت أهل وولد، وذهاب مال إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي إلا في علم أزليّ من قبل خلق المصيبة أو الأنفس. وما علم الله كونه فلا بد من حصوله إِنَّ ذلِكَ أي حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لسعة علمه وإحاطته لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ أي من عافية ورزق ونحوهما وَلا تَفْرَحُوا أي تبطروا بِما آتاكُمْ أي من نعم الدنيا. والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه. قال القاشاني: أي لتعلموا علما يقينيّا أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم، مدخل وتأثير. ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم. وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل. فلا تحزنوا على فوات خير، ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير. وزوال شر، إذ كلها مقدرة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متبختر من شدة الفرح بما آتاه فَخُورٍ أي به على الناس، لعدم يقينه، وبعده عن الحق، بحب الدنيا، واحتجابه بالظلمات عن النور الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بالإنفاق في سبيل الله، لشدة محبة المال وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي لاستيلاء الرذيلة عليهم، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف، أي لهم وعيد شديد، أو خبر ومبتدؤه محذوف، أي هم الذين، أو بدل من (كل) . وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن ذكر الله، وما أمر به فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عنه، لاستغنائه بذاته الْحَمِيدُ أي لاستقلاله(9/152)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
بكماله، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه الغنيّ المطلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي التامّ في الحكم والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل- قاله مجاهد وقتادة وغيرهما- قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] . أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون، إذا تبوأوا غرف الجنات الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 43] . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.
فإن قيل: الجمل المتعاطفة لا بد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟
فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى. ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد، الرادّ لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه.(9/153)
قال العتبي في أول (تاريخه) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرا، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت (الكتاب) قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع الْكِتابَ وَالْمِيزانَ وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذاب عذابه، وهو (الحديد) الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع- نقله الشهاب-.
وأوّل القاشاني (البينات) بالمعارف والحكم، والْكِتابَ بالكتابة، والْمِيزانَ بالعدل، لأنه آلته، والْحَدِيدَ بالسيف، لأنه مادته. قال: وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط الكليّ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، هو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في العمل، والاستقامة في طريق الكمال، هو العدل، ثم لا ينضبط النظام، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة. فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور. ويجوز أن تكون (البينات) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية والْكِتابَ إشارة إلى الشريعة والحكم العملية والْمِيزانَ إلى العمل بالعدل والسوية والْحَدِيدَ إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل: (البينات) العلوم الحقيقية، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية. أي الشرع، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات، والملك. وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع. والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك. انتهى.
تنبيه:
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول، حيث ذكر(9/154)
في كتاب الله تعالى، بيّن فيها أن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف، لاشتباه المعنى في تلك المواضع. وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع. وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا فيه معنى النزول المعروف. قال: وهو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب منزولا إلا بهذا المعنى. ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابا بغير لغتها. ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى، في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا. قال: وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن. وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة- فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك
الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح
- حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون.
فإن قيل: إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات، فهذه مكابرة للعيان.
وإن قيل: بل نزل معه آلة واحدة، وتلك لا تعرف، فأي فائدة في هذا لسائر الناس؟ ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثم حديد موجود يطرق بهذه الآلات؟
وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات.
ثم أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا لم ينزل من السماء.
فإن قيل: نزلت الآلة التي يطبع بها. قيل: فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة، والآلة وحدها لا تكفي، بل لا بد من مادة يصنع بها آلات الجهاد.
ثم قال: وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق، لأنه أخرجه من المعادن، وعلمهم صنعته، فإن الحديد إنما يخلق في المعادن، والمعادن إنما تكون في الجبال. فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال، لينتفع به بنو آدم. انتهى كلامه رحمه الله.
وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه. عطف على محذوف دلّ عليه ما قبله. أي لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد، وليعلم الله ... إلخ. وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر،(9/155)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
وهذا المقصود منه. أو اللام متعلقة بمحذوف. أي أنزله ليعلم ... إلخ والجملة معطوفة على ما قبلها. فحذف المعطوف، وأقيم متعلقة مقامه. وقيل عطف على لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. قال الشهاب: وهو قريب بحسب اللفظ، بعيد بحسب المعنى.
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ أي على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ أي غالب قاهر لمن شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ أي من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن طاعته، بترك نصوص كتبه وتحريفها، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها، واجترام ما نهوا عنه ثُمَّ قَفَّيْنا أي أتبعنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي حنانا ورقّة على الخلق، لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام، من الشفقة وهضم النفس والمحبة. وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة:
اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة، وأعظم بطشا، لا سيما في العقوبات. فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشريّ بها. ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها، وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره- كما بيّنه آخر سورة الصف- وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي ما فرضناها عليهم، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع. أي ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم. فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد، والتخلي للعبادة وعلم الكتاب، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد، وإخضاع الشعب لأهوائهم. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني الذين(9/156)
آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع. ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه، المبشر به عندهم. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده.
تنبيهات:
الأول- (الرهبانية) هي المبالغة في العبادة والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل. وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرّهبان، وهو الخائف. (فعلان) من رهب، ك (خشيان) من خشي.
الثاني- قال ابن كثير في قوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها: ذمّ لهم من وجهين:
أحدهما- في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني- في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزّ وجلّ.
الثالث- رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة (الرهبنة) وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والاضرار. فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة:
إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم. ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس، لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائما مختلطين بالعالم، يعلّمون وينصحون. ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها. بل بالعكس، فإن روح الكتاب وفحواه يضادّ كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث. وأيد بعض الباحثين المقاومين لها وقتئذ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين، فإن لهم أنواعا كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأمورا أخرى مقرونة بخرافات.
ثم قال: ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في(9/157)
المسكونة. وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري، فرارا من أيادي مضطهديه. ثم عكف على الوحدة. وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث. ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات. توهما بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في العيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة. مع أن ذلك الوهم باطل، ومضادّ للكتب المقدسة. ولما كثر عدد البرهان كثرة هائلة، ونحم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة. إلا أنها لم تنجح كثيرا.
وأما بدعة العزوبة والتبتل، فنشأت من حضّ بولس عليها، وترغيبهم فيها، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى.
وقد قال صاحب (ريحانة النفوس) أيضا: إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس. وإنما دخلت بالتدريج، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية، وظنهم أنها أزكى من الزواج، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحا بالغا النهاية في الإطراء، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث، حتى قاومتها كنائس أخرى، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها، لمغايرتها للطبيعة، ومضادتها لنص الكتب الإلهية، واستقرائها أديرة الراهبات، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتا للفواحش والفساد.
وفي كتاب (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية) إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء، تجول معهم. ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن تستوفيه، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية. ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي. هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل، لتضمنه سلب حقوق الطبيعة، وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا، ويفتح بابا واسعا لدخول الشيطان. وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمر الله، ويعدم وجود ألوف ألوف، ربما كانت تتولد من ذريته، فكأنه قد قتلها. وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط. فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى،(9/158)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
وهو مضر على أنفس الرهبان، وعلى الشعب، فمن يقاومه يقاوم الشيطان. وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصورا خارج العمران، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطّالون، يعيشون من أتعاب غيرهم، خلافا لسلوك رسل المسيح، والمبشرين القدماء، الذين لم نر واحدا منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب. إن بولس كان يخدم الكنائس، ويعيش من شغل يديه، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل، فلا يطعم. ولا تتسع الصحف لشرح جميع الاضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. انتهى. وهو حجة عليهم، منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال ابن كثير: حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في (القصص) وكما
في حديث «1» الشعبي عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران. وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران- أخرجاه في الصحيحين.
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما. وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة. والظاهر أن لفظها أعم، وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم على الثبات في الإيمان والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره. ومنه ما حرض عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه. وأن لهم في مقابلة ذلك أجرا وافرا، كما قال في أول السورة:
__________
(1) أخرجه البخاري في: العلم، 31- باب تعليم الرجل أمته وأهله، حديث رقم 82.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 241.(9/159)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ فآخر السورة، فيه رجوع لأوائلها بتذكير ما أمرت به، وما سبق نزولها لأجله.
وأصل (الكفل) الحظ. وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط، والتثنية في مثله إما على حقيقتها، أو هي كناية عن المضاعفة. و (النور) هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده. كما قال سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم ما ذكر، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله. والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به. لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم، ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فضلا عن أن يتصرفوا في أعظمه، وهو النبوة، فيخصوا بها من أرادوا، وأن الفضل بيد الله دونهم، ودون غيرهم من الخلق، يؤتيه من يشاء من عباده.
و (لا) في لِئَلَّا صلة. قال السمين: وهو حرف شاعت زيادته.
وقال ابن جرير: وذكر أن في قراءة عبد الله (لكي يعلم) . قال: لأن العرب تجعل (لا) صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح كقوله في الجحد السابق الذي لم يصرح به: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:
12] ، وقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] . وقوله:
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ... [الأنبياء: 95] الآية. ومعنى ذلك: أهلكناها أنهم يرجعون. انتهى.
ونقل الثعالبي في (فقه اللغة) زيادتها في عدة شواهد. في فصل الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب. فانظره، تزدد علما.(9/160)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المجادلة
سميت بها، لأنها لما كانت لطلب الحق والصواب، أشبهت مجادلة الأنبياء والقرآن، ولذلك سمع الله لصاحبها- قاله المهايمي-.
وهي مدنية، وآيها اثنتان وعشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
روى الإمام أحمد «1» عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة الى النبيّ صلى الله عليه وسلم تكلمه، وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول! فأنزل الله عزّ وجلّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ... إلى آخر الآية، ورواه البخاري معلقا.
وفي رواية لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء. إني أسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت، حتى نزل جبريل بهذه الآية قَدْ سَمِعَ ...
إلخ. قال ابن كثير: ويقال فيها: خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقد تصغر فيقال (خويلة) . ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب.
__________
(1) أخرجه في مسنده 6/ 46.(9/161)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
وفي (العناية) . المراد من قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ إلخ قبل قولها وأجابه، كما في: سمع الله لمن حمده، مجازا بعلاقة السببية أو كناية. انتهى.
وقوله: وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي تشتكي المجادلة ما لديها من الهم، بظهار زوجها منها، إلى الله، وتسأله الفرج.
ومعنى تَحاوُرَكُما ترجيعكما الكلام في هذه النازلة. وذلك أن الظهار كان طلاق الرجل امرأته في الجاهلية. فإذا تكلم به لم يرجع إلى امرأته أبدا. وقد طمعت المشتكية أن يكون غير قاطع علقة النكاح. والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبت لها فيه الأمر، حتى ينزل الوحي الذي يردّ. التنازع إليه. ثم أنزل تعالى فيه قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ يعني قول الرجل لامرأته إذا غضب عليها.
أنت عليّ كظهر أمي، يعني: في حرمة الركوب. ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي ما نساؤهم اللاتي ظاهروا منهن بأمهاتهم. أي يصرن بهذا القول كأمهاتهم في التحريم الأبدي.
قال المهايمي: ما هن أمهاتهم بالحقيقة، ولا في حكمهن بالمجاز، إذ لا يقتضي المجاز أن يكون في حكم الحقيقة، إلا بقلب الحقائق، لكنها لا تنقلب.
إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي فلا يشبه بهن في الحرمة الأزواج وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي قولا تنكره العقلاء، وتتجافاه الكرماء. وَزُوراً أي باطلا لا حقيقة له، لأنه يتضمن إلحاقها بالأمّ المنافي لمقتضي الزوجية. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي لذنوب عباده، إذا تابوا منها وأنابوا، فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : الآيات 3 الى 4]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)(9/162)
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي يرجعون إلى لفظ الظهار ثانية، فالقول على حقيقته، أو يعزمون على غشيانهن ووطئهن رغبة في تحليلهن، بعد تحريمهن، فالقول بمعنى المقول فيه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ
روى الإمام أحمد «1» عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله! وفي أوس بن صامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت:
كنت عنده، وكان شيخا كبيرا، قد ساء خلقه وضجر. فدخل عليّ يوما فراجعته بشيء، فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: قلت: والذي نفس خويلة بيده! لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكم. قالت:
فواثبني، فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني.
قال: ثم خرجت إلى بعض جاراتي. فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقي من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة! ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه. قالت: فو الله! ما برحت حتى نزل في القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سرّي عنه، فقال لي: يا خويلة! قد أنزل الله فيك وفي صاحبك.. ثم قرأ علي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ... إلى قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ... قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مريه فليعتق رقبة. قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عنده ما يعتق! قال: فليصم شهرين متتابعين. قال: فقلت: والله! إنه لشيخ كبير، ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر. قالت: فقلت: والله! يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بفرق من تمر. قالت: فقلت: يا رسول الله! وأنا سأعينه بفرق آخر. قال: قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا. قالت: ففعلت. ورواه أبو داود:
وعنده (خولة بنت ثعلبة) ، ولا منافاة كما تقدم، فإن العرب كثيرا ما تصغّر الأعلام.
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية:
أنت عليّ كظهر أمي، حرمت في الإسلام. فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس،
__________
(1) أخرجه في مسنده 6/ 410. [.....](9/163)
وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة، فظاهر منها، فأسقط في يديه، وقال: ما أراك إلا قد حرمت عليّ، وقالت له مثل ذلك. قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فأخبرته فقال: يا خويلة! ما أمرنا في أمرك بشيء، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خويلة! أبشري.
قالت خيرا. قال فقرأ عليها قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ... إلى قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. قالت: وأيّ رقبة لنا؟ والله! ما نجد رقبة غيري؟ قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قالت: والله! لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره. قال: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها! قال: فرعاه بشطر وسق ثلاثين صاعا، والوسق ستون صاعا، فقال: ليطعم ستين مسكينا وليراجعك. قال ابن كثير: إسناده جيّد قوي، وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.
تنبيهات:
قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية حكم الظهار، وأنه من الكبائر، وأنه خاص بالزوجات، دون الأجنبيات، وأن فيه بالعود كفارة، وأنه يحرم الوطء قبلها، وأنها مرتبة: العتق، ثم صوم شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينا، واستدلّ، مالك بقوله: مِنْكُمْ على أن الكافر لا يدخل في الحكم، وبقوله: مِنْ نِسائِهِمْ على صحته من الزوجات والسراري، لشمول النساء لهنّ.
واستدلّ ابن جرير وداود وفرقة بقوله: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا على أن العود الموجب للكفارة، أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرر.
واستدلّ بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار عتق الكافرة.
واستدلّ بظاهر الآية من لم ير الظهار إلا في التشبيه بظهر الأمّ خاصّة دون سائر الأعضاء، ودون الاقتصار على قوله (كأمي) ، وبالأم خاصة دون الحدّات وسائر المحارم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة والأب والابن ونحو ذلك. ومن قال لا حكم لظهار الزوجة من زوجها، لأنه تعالى خص الظهار بالرجل. ومن قال بصحة ظهار العبد لعموم الَّذِينَ له. ومن قال بإباحة الاستمتاعات بناء على عدم دخولها في لفظ المماسة. ومن قال يجوز الوطء ونحو ذلك قبل الإطعام إذا كان يكفر به، لأنه لم يذكر فيه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
وفي الآية ردّ على من أوجب الكفارة بمجرد لفظ الظهار، ولم يعتبر العود.
ووجه ما قاله أنه جعل العود فعله في الإسلام بعد تحريمه.(9/164)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
وفيه رد على من اكتفى بإطعام مسكين يوم واحد، ستين يوما. انتهى.
وقوله تعالى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي الحكم بالكفارة العظمى المذكورة، تزجرون به.
وقوله تعالى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ذلك البيان أو التعليم للأحكام لتصدّقوا بالله ورسوله في قبول شرائعه، والانتهاء عن قول الزور الجاهلي.
والمراد بقوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ الجاحدون لفرائضه وحدوده التي بيّنها. فالكفر على حقيقته، أو المتعدّون لها، وعنوان (الكفر) تغليظا لزجرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في مخالفة حدوده وفرائضه. وأصله من المحادّة، بمعنى المعاداة. لأن كلّا من المتعاديين في حدّ غير حد الآخر. كُبِتُوا أي أخزوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كفار الأمم الماضية. وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن جرير: أي دلالات مفصّلات، وعلامات محكمات، تدلّ على حقائق حدود الله وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يعني منكري تلك الآيات وجاحديها.
تنبيه:
فسّر بعضهم يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمعنى يضعون أو يختارون حدودا غير حدودهما.
قال محشّيه: ففيه وعيد عظيم للملوك، وأمراء السوء، الذين وضعوا أمورا خلاف ما حدّه الشرع، وسموها قانونا.
وقال: وقد صنّف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين، قدّس الله روحه، رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع، إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل. وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل، فيه نظر، لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيّف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير. والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع(9/165)
التي لا تحتمل التأويل ويبطلها وينسخها، فإنه كفر وضلال ولا يقول به، ولا يعول عليه، إلا المارقون الجاحدون وأما غير المنصوص عليه، أعنى ما لم يكن قاطعا في بابه، من آية محكمة، أو خبر متواتر، أو إجماع من الفروع النظرية، والمسائل الاجتهادية المدونة، فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعدّ ضلالا ولا كفرا، لأنه ليس من مخالفة الشرع في شيء، إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله، وأحكم الأمر فيه، وبين بيانا رفع كل لبس، لا ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد، وإعمال الرأي، فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ، مهما بلغ رائيه من المكانة إذ لا عصمة إلا في نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكثيرا ما تتشابه فروع الفقهاء بمواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتابا في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية، وذلك لأن مورد الجميع واحد، وهو الرأي والاجتهاد ورعاية المصلحة.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في هذا المعنى سماه (السياسة الشرعية) وكذا لتلميذه الإمام ابن القيّم، وهو أوسع. ولنجم الدين الطوفي أيضا رسالة في المصالح المرسلة. جمعناها من شرحه للأربعين النووية. وقد أرجع العز بن عبد السلام فروع الفقه في قواعده إلى قاعدتين: اعتبار المصالح، ودرء المفاسد.
قال القاضي زكريا: وبحث بعضهم رجوع الجميع إلى جلب المصالح.
وقال الشاطبيّ في (الموافقات) : إن الشارع قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وبأن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديّا وكليّا وعامّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال.
وقال نجم الدين الطوفي: إن
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) «1»
يقتضي رعاية المصالح إثباتا ونفيا، والمفاسد نفيا، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة، لأنهما نقضيان لا واسطة بينهما. ثم إن أقوى الأدلة النص والإجماع، وهما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها، فبها ونعمت، ولا تنازع. إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع، ورعاية المصلحة المستفادة من
قوله عليه السلام (لا ضرر ولا ضرار)
، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما، والتعطيل لهما، كما تقدّم السنّة على القرآن، بطريق البيان، انتهى. وتتمة كلامه جديرة بالمراجعة، هي وتعليقاتنا عليها، فابحث ولا تكن أسير التقليد، بل ممّن ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: الأحكام، 17- باب من بنى في حقه ما يضرّ جاره، حديث رقم 2340.(9/166)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 6]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط به علما، ولم يذهب عنه شيء وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي رقيب، يعلمه ولا يغيب عنه. ويَوْمَ منصوب ب (اذكر) مضمرا. وتقدمة الإخبار بسعة علمه سبحانه، تمهيد لما بعده من النهي عن النجوى بالإثم، تحذيرا وتنفيرا. وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهيّ عنه، والمحذر منه، في قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (النجوى) مصدر، معناها التحدث سرّا، مأخوذة من (النجوة) ، وهي ما ارتفع من الأرض، لأن السر يصان عن الغير، كأن رفع من حضيض الظهور، إلى أوج الخفاء، على التشبيه.
قال الشهاب: وأقرب منه قول الراغب، لأن المتسارّين يخلوان بنجوة من الأرض. أو هو من (النجاة) وتخصيص العددين، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين، على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة، وأقله ثلاثة، لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يتوسط بينهما. ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة، كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في الوترية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر. على أنه عمم الحكم بعد ذلك بقوله: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ أي: كالاثنين وَلا أَكْثَرَ أي: كالستة وما فوقها إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي: يعلم ما يكون بينهم في أي مكان حلّوا، لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكانيّ حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة.(9/167)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: هو فوق العرش، وعلمه معهم أينما كانوا.
وقال ابن كثير: حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى. ولا شك في إرادة ذلك.
قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
تنبيه:
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الله تعالى في كل مكان، فرد عليهم الإمام ابن حزم في (الفصل) بأن قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره، ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر، أو إجماع، أو ضرورة حس. وقد علمنا أن كل ما كان في مكان، فإنه شاغل لذلك المكان ومالئ له، ومتشكل بشكل المكان، أو المكان متشكل بشكله. ولا بد من أحد الأمرين ضرورة، وعلمنا أن ما كان في مكان، فإنه متناه بتناهي مكانه، وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه، وهذه كلها صفات الجسم. فلما صح ما ذكرنا، علمنا أن قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة: 85] . وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إنما هو التدبير لذلك، والإحاطة به فقط ضرورة، لانتفاء ما عدا ذلك. وأيضا فإن قولهم (في كل مكان) خطأ، لأنه يلزم، بموجب هذا القول، أنه يملأ الأماكن كلها، وأن يكون ما في الأماكن فيه، تعالى الله عن ذلك، وهذا محال. فإن قالوا: هو فيها، بخلاف كون المتمكن في المكان.
قيل لهم: هذا لا يعقل، ولا يقوم عليه دليل. انتهى.
وقد تقدم في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ كلام في المعية لابن تيمية، فارجع إليه في سورة الحديد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى قال مجاهد: هم اليهود. ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي: بما هو إثم وتعدّ على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم.(9/168)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قال أبو السعود: وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه، لزيادة تشنيعهم، واستعظام معصيتهم.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي من قولهم: (السام عليك) ، أو مما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية، فإن الله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] .
وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي: من التناجي المذموم، أو من التحريف في التحية، استهزاء وسخرية. أي: هلّا يعجل عقوبتنا بذلك؟ لو كان محمد رسوله، قال تعالى: حَسْبُهُمْ أي: يكفي قائلي ذلك في تعذيبهم جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ثم نهى تعالى المؤمنين وحذّرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي: بطاعة الله، وما يقربكم منه، وَالتَّقْوى أي: اجتناب ما يؤثم، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: فيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم.
ثم شجع تعالى المؤمنين في قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأنها لا تضرهم ما داموا مثابرين على وصاياه، متكلين عليه، بقوله إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أي:
النجوى التي ذمها. فاللام للعهد. أي المزين لهذه النجوى بالشر، والحامل عليها الشيطان. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي الشيطان، أو التناجي المذكور شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيئته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي بالمضي في سبيله، والاستقامة على أمره، وانتظار النصر على أثره.
لطيفة:
قال القاشانيّ: إنما نهوا عن النحوي لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما، لا يشاركهما فيه ثالث. وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد(9/169)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
وتظاهر، يتقوى ويتأيد بعضها بالبعض فيما هو سبب الاجتماع لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد. فإذا كانت شريرة يتناجون في الشر، ويزاد فيهم الشر، ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد بعد النهى قوله: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ الذي هو رذيلة القوى البهيمية وَالْعُدْوانِ الذي هو رذيلة القوى الغضبية، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ التي هي رذيلة القوة النطقية، بالجهل وغلبة الشيطنة، ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة، وأمرهم بالتناجي بالخيرات، ليتقووا بالهيئة الاجتماعية، ويزدادوا فيها فقال: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي: الفضائل التي هي أضداد تلك الرذائل، من الصالحات والحسنات المخصوصة بكل واحدة من القوى الثلاث، وَالتَّقْوى أي:
الاجتناب عن أجناس الرذائل المذكورة، انتهى.
قال ابن كثير: وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي، حيث يكون في ذلك تأذّ على مؤمن.
روى الإمام أحمد «1» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه- أخرجاه «2» -.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه- انفرد بإخراجه مسلم «3» -.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وذلك بأن يفسح المرء لأخيه ويتنحّى توسعة له.
قال الشهاب: وارتباطه بما قبله ظاهر. لأنه لما نهى عن التناجي والسرار، علم
__________
(1) أخرجه في مسنده 1/ 375.
(2) أخرجه البخاري في: الاستئذان، 46- باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارّة والمناجاة، حديث رقم 2381.
وأخرجه مسلم في: السلام، حديث رقم 37.
(3) أخرجه مسلم في: السلام، حديث رقم 36.(9/170)
منه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه، ورتب على امتثالهم فسحه لهم فيما يريدون التفسح، من المكان والرزق والصدر.
قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء
في الحديث الصحيح «1» : من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة. ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
. ولهذا أشباه كثيرة.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا للتوسعة، أو ارتفعوا في المجالس، أو انهضوا عن مجلس الرسول، إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه، فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي يرفع المؤمنين بامتثال أوامره، وأوامر رسوله، والعالمين بها، الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية.
قال الناصر: لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم، وعند الناس، ارتفاع مجالسهم، خصهم بالذكر عند الجزاء، ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس. تواضعا لله تعالى. انتهى.
وهذا- كما قال الشهاب- من مغيبات القرآن. لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس، ومحبة التصدير.
وفي كلام الزمخشريّ ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام، تعظيما له، بعدّه كأنه جنس آخر، كما في وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] . ولذا أعاد الموصول في النظم، والمراد بالعلم علم ما لا بد منه من العقائد الحقة، والأعمال الصالحة.
تنبيهات:
الأول- في (الإكليل) : في الآية استحباب في مجالس العلم والذكر، وكل مجلس طاعة.
الثاني- يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الصلاة، 65- باب من بنى مسجدا، حديث رقم 297، عن عثمان بن عفان.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 24 و 25.(9/171)
فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا- رواه الإمام أحمد والشيخان «1» .
وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم- رواه الإمام أحمد-
وفي رواية بلفظ: لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم، - تفرد به الإمام أحمد-.
قال ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء، على أقوال:
فمنهم من رخص بذلك محتجا «2»
بحديث: قوموا إلى سيدكم.
ومنهم من منع ذلك محتجا «3»
بحديث: من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار.
ومنهم من فصّل فقال يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبيّ صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة، فلما رآه مقبلا
قال للمسلمين: قوموا إلى سيدكم
. وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه- والله أعلم- فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، في فتوى له في ذلك: لم يكن من عادة السلف على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، أن يعتادوا القيام، كما يفعله، كثير من الناس. بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك. ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه، تلقيا له، كما
روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم
، وكان سعد متمرضا بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس، أن يعتادوا اتباع
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 17. والحديث رقم 4659.
وأخرجه البخاري في: استئذان، 31- باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، حديث رقم 532.
وأخرجه مسلم في: السلام، حديث رقم 27.
(2) أخرجه البخاري في: الاستئذان، 26- باب
قول النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم»
، حديث رقم 1444. عن أبي سعيد.
(3) أخرجه أبو داود في: الأدب، 152- باب في قيام الرجل للرجل، حديث رقم 5229، عن معاوية.(9/172)
السلف على ما كانوا عليه على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإنهم خير القرون. وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، فلا يعدل أحد عن هدى خير الخلق، وهدى خير القرون، إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له، ولا يقوم لهم، إلا في اللقاء المعتاد. فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك، تلقيا له، فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، أو قصد لخفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، - فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له.
وليس هذا القيام هو القيام المذكور في
قوله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار
. فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد. ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء. ولهذا فرقوا بين أن يقال (قمت إليه) و (قمت له) . والقائم للقادم ساواه في القيام، بخلاف القيام للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم «1»
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه، وصلّوا قياما. أمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا
، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد. لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك أن الذي يصلح، اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان. فمن لم يعتد ذلك، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. انتهى كلام شيخ الإسلام، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
الثالث- قال ابن كثير: روي عن ابن عباس والحسن البصريّ وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يعني في مجالس الحرب. قالوا: ومعنى قوله وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي انهضوا للقتال.
وقال قتادة: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال مقاتل: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا إذا كانوا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده. فربما يشق ذلك عليه، عليه السلام، وقد تكون له الحاجة. فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الأدب، 152- باب قيام الرجل للرجل، حديث 5230.(9/173)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
ينصرفوا، كقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور: 28] انتهى.
ولا تنافي بين هذه الأقوال، لأن كلّا منها تفسير للفظ العام بعض أفراده. وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك، لا أن أحدها هو المراد دون غيره، فذلك ما لا يتوهم. وقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف لكثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه- كما بيّنّاه مرارا-.
الرابع- في (الإكليل) قال قوم معنى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ يرفع الله المؤمنين منكم العلماء درجات على غيرهم، فلذلك أمر بالتفسّح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس، والتفسّح لهم عن المجالس الرفيعة، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي تصدقوا قبل مناجاته، أي مسارته في بعض شأنكم. ذلِكَ أي التقديم. خَيْرٌ لَكُمْ أي لأنفسكم، لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب، والقيام بحق الإخاء، بالعود على ذوي بالمسكنة بالمواساة والإغناء. وَأَطْهَرُ أي لأنفسكم من رزيلة البخل والشح، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين، وكأن الأمر بالتصديق المذكور، نزل ليتميز المؤمن من المنافق، فإن المؤمن تسخو نفسه بالإيمان كيفما كان، والثاني يغصّ به، ولو في أضرّ الأوقات. ومعظم أوامر السورة هو التصدق، حثّا للباخلين، وسوقا للمؤمنين، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا أي ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلى الله عليه وسلم. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجده، إذ لم يحرجه ولم يضيّق عليه، رحمة منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم، من تقديم(9/174)
الصدقات، الفاقة والفقر؟ توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، للزوم الخلف للإنفاق، لزوم الظل للشاخص. بوعد الله الصدق. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشقّ عليكم، وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم أن لا تفعلوا، رفعا للحرج حسبما أشفقتم، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجزيكم بحسبه.
تنبيه:
في (الإكليل) : قوله تعالى: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ الآية منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل، ووقوعه، خلافا لمن أبى ذلك. انتهى.
والظاهر أن مستند شهرة النسخ ما
رواه ابن جرير عن مجاهد قال: قال عليّ رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ ... إلخ قال: فرضت، ثم نسخت.
وعنه أيضا قال: نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدم دينارا فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك.
وعن قتادة أنها منسوخة، ما كانت إلا ساعة من نهار.
وعنه أيضا قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة الى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وعن الحسن وعكرمة قالا: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ... الآية، نسختها التي بعدها أَأَشْفَقْتُمْ ... الآية.
هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ، وقوفا مع ظاهرها. وقد أسلفنا في مقدمة التفسير، ومواضع أخرى، أن النسخ في كلام السلف أعم منه باصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول أعم مما يتبادر إليه الفهم. ومنه قول قتادة هنا: فأنزل الله الرخصة بعد ذلك. فإن مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخيا عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم. والأصل في الآي المقررة لحكم ما، هو اتصال جملها، وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع بيانها وتمام فقهها. والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل، لهم في الآية وجوه:(9/175)
أحدها- قول أبي مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وأن قوما من المنافقين تركوا النفاق، وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى، ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيّا عمن بقي على نفاقه الأصليّ. وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، لا جرم بقدر هذا التكليف. بذلك الوقت قال الرازيّ: وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخا وهذا الكلام حسن، ما به بأس. انتهى.
ثانيها- قول بعضهم: إن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب. وتأكد ذلك بقوله بعده: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فإن ذلك لا يقال إلا فيما يفقده يزول وجوبه. والجواب: أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب: ويدل عليه أمور:
الأول- أنه تعالى قال: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض.
والثاني- أنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا إلى آخر الآية.
والثالث- أن قوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... إلخ معناه إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم، فلذا ندبكم إلى هذا الأمر، ولم يجعله عليكم فرضا، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة، فأقيموا الصلاة ... إلخ. فقوله وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قد ورد هنا بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى أيضا في آية أخرى في سورة المزمل، وفي قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: 20] ، أي رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم. وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب، إذ لا ذنب هنا صدر منهم.(9/176)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
هذا ملخص ما حققه من ذهب إلى امتناع النسخ. والحق لا تخفى قرته، وسكون النفس إليه- وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 14]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني المنافقين الذين كانوا يتولّون اليهود ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، كما بينته آية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... [الحشر: 11] الآية. ما هُمْ مِنْكُمْ أي من أهل دينكم وملتكم، معشر المسلمين وَلا مِنْهُمْ أي من اليهود كقوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النساء: 143] ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ قال ابن جرير: وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نشهد أنك رسول الله) وهم كاذبون غير مصدقين به. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي المحلوف عليه كذب بحت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : الآيات 15 الى 16]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي وقاية وعصمة لأنفسهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم، وهو القتل، إراحة للمؤمنين من فسادهم. أو فصدّوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان وثبوطهم عنه. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي مذلّ لهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : الآيات 17 الى 19]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)(9/177)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من عذابه شيئا ما، كما كانوا يفتدون بذلك في الدنيا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي في الدنيا كاذبين مبطلين، إشارة إلى مرونهم على النفاق، ورسوخهم فيه، حتى لدى من لا تخفى عليه خافية. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي من النفع أو من الحق أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أي فيما يحلفون عليه في الدارين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أي بتسويل اللذات الحسية، والشهوات البدنية لهم، وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أي أتباعه في الفساد.
والإفساد. أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي للسعادة في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي في أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 21]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي حزب الشيطان المحادّين إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قويّ على إهلاك من حادّه ورسله، عزيز فلا يغلب في قضائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المجادلة (58) : آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي شاقّهما وخالف أمرهما. أي لا تجد قوما جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وبين موادّة(9/178)
أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادّة. على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم. وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أي آباء الموادّين والضمير في كانُوا لمن حاد الله ورسوله. والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد فيما قبله، باعتبار لفظها. أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي فإن قضية الإيمان هجر المحادين أُولئِكَ إشارة إلى الذين لا يوادّونهم كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته فيها وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي بنور وعلم ولطف حيّت به قلوبهم في الدنيا. وأشار إلى ما لهم في الآخرة، بقوله وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الناجحون الفائزون بسعادة الدارين.
تنبيهات:
الأول- من أشباه هذه الآية قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] الآية. وقال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24] .
الثاني- قال ابن كثير: قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية لا تَجِدُ قَوْماً ... إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر. وفي أبي بكر الصديق، همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير، وفي عمر قتل قريبا له من عشيرته يومئذ أيضا. وفي حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتيبة يومئذ. انتهى.
وقد بينا مرارا، أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك، صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله، في مقابلة المفسدين، ولو كانوا من أقرب الأقربين.
قال ابن كثير: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في(9/179)
أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله! هل تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليّا من عقيل، وتمكن فلانا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين.
الثالث- قال ابن كثير: في قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
الرابع- يفهم من قوله تعالى حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله في آية أخرى لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] ، أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله، الصادّون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء. وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادّين لنا، أي الذين على حدّ منا، ومجانبة لشئوننا، تحقيقا لمخالفتنا، وترصدا للإيقاع بنا. وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا، ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا، واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية، لأنهم ليسوا بمحادّين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، ولذا كان لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم، ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم. فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهوديّا، وعرض عليه الإسلام فأسلم- كما رواه «1» البخاري-.
وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم، واستنقاذ أسراهم، لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام، وتأبد عهدهم، فلزمه ذلك، كما لزم المسلمين- كما في (الإقناع) و (شرحه) -.
وقال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم بكثير من الرخص المشروعة: ومن ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه، فيأكل طعامه. وأضافه يهوديّ بخبز شعير وإهالة سنخة. وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب. وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم من المسلمين وقال: أطعموهم مما تأكلون. وقد أحل الله عز وجل ذاك في كتابه. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاما فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا في الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعليّ رضي الله عنه: اذهب بالناس. فذهب عليّ
__________
(1) أخرجه في: المرضى، 11- باب عيادة المشرك، حديث رقم 714، عن أنس.(9/180)
بالمسلمين، فدخلوا، وجعل عليّ رضي الله عنه ينظر إلى الصورة.
وقال: ما على أمير المؤمنين، لو دخل وأكل!
انتهى.
والأصل في هذا قوله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8- 9] ، قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في (إيثار الحق) : عن الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليه السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، لا لسبب آخر، من جلب نفع أو دفع ضرر، أو خصلة خير فيه. وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.(9/181)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحشر
قال المهايميّ: سميت به لدلالة إخراج اليهود عنده، على لطف الله وعنايته برسوله وبالمؤمنين، وقهره وغضبه على أعدائهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير.
روى البخاري «1» عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟
قال: سورة بني النضير.
وعنه قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة بني النضير. وهم قوم من اليهود. وهي مدنية. وآيها أربع وعشرون، بلا خلاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تقدم القول في تأويل نظيره.
ثم أشار إلى بيان بعض آثار عزته تعالى، وإحكام حكمته، إثر وصفه بالعزة القاهرة، والحكمة الباهرة على الإطلاق، بقوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
__________
(1) أخرجه في: التفسير، سورة الحشر، 1- باب الجلاء من أرض إلى أرض، حديث رقم 1869.(9/182)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
يعني بني النضير من اليهود مِنْ دِيارِهِمْ أي مساكنهم التي جاوروا بها المسلمين حول المدينة، لطفا بهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي لأول الجمع لقتالهم. يعني أخرجهم تعالى بقهره لأول ما حشر لغزوهم. والتوقيت به إشارة إلى شدة الأخذ الرباني لهم، وقوة البطش والانتقام، بقذف الرعب في قلوبهم، حتى اضطروا لأول الهجوم عليهم، إلى الجلاء والفرار، كما يأتي.
ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا أي لشدة بأسهم ومنعتهم، فصار آية لكم، لأنه من آثار سنته تعالى في إذلال المفسدين وقهرهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من بأسه فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي عذابه، وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي أنزله إنزالا شديدا فيها، لدلالة مادة (القذف) عليه، كأنه مقذوف الحجارة.
قال القاشاني: أي نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به، لاستحقاقهم لذلك، ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته، ولوجود الشك في قلوبهم، وكونهم على غير بصيرة من أمرهم، وبينة من ربهم، إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم، ولعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور اليقين، وآمنوا به فلم يخالفوه.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي كيف حل بالمفسدين ما حل ونزل بهم ما نزل، لتعلموا صدق الله في وعده ووعيده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 3 الى 4]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الخروج من أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا أي بالقتل والسبي، كما فعل بإخوانهم بني قريظة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ أي الجلاء والعذاب بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا أي خالفوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما نهاهم عنه من الفساد، ونقض الميثاق. وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي له في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)(9/183)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي نخلة من نخيلهم إغاظة لهم أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي أمره ورضاه، لأن ذلك ليس للبعث والإصرار، بل لتأييد قوة الحق، وتصلّب أهله، وإرهاب المبطلين وإذلالهم، كما قال تعالى: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي لما فيه من إهانة العدوّ، وإضعافه ونكايته.
تنبيه:
ذكر علماء الأخبار وأئمة السير، أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد. قال الإمام ابن القيّم: لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معه ثلاثة أقسام، قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم. ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمر به ربه- تبارك وتعالى- فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.
فكانت بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، وحاصرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها. ثم نقض العهد بنو النضير. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، ونزل الوحي على الرسول صلوات الله عليه بما أراد القوم.
فقام ورجع بمن معه من أصحابه إلى المدينة. وأمر بالتهيؤ لحربهم. ثم سار بالناس، حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل وتحريقها، ثم قذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف(9/184)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
وأبا دجانة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان:
يامين بن عمير بن كعب، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به من شأني؟
فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون. ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل به. فيهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي أعاد عليه من أموال بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ أي فما أجريتم على تحصيله خيلا ولا ركابا، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم. و (الإيجاف) من الوجيف، وهو سرعة السير. و (الركاب) : ما يركب من الإبل، غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي من أهل الفساد والإفساد ليقوم الناس بالقسط. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قال الزمخشري: المعنى أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير، شيء لم يحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم، وعلى ما في أيديهم، كما كان يسلط رسله على أعدائهم. فالأمر فيه مفوض إليه، يضعه حيث يشاء. يعني أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهرا. وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي من أموال محاربيها، وهو بيان للأول، ولذا لم يعطف عليه، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ أي الفيء الذي حقه أن يكون لمن ذكر دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ(9/185)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
مِنْكُمْ
أي يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به. أو دولة جاهلية، إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي من قسمة غنيمة أو في فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منها فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي لمن خالفه إلى ما نهى عنه.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بالآية على أن (الفيء) ما أخذ من الكفار بلا قتال، وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفا. و (الغنيمة) ما أخذ منهم بقتال، كما تقدم في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنفال:
41] الآية، خلافا لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك. انتهى.
وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بيّنه آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك. قال- فيما رواه عنه ابن جرير-: كان الفيء في هؤلاء ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر. وكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس. فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، ويقسم الخمس الثاني على خمسة أخماس: فخمس لله وللرسول، وخمس لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل.
والمسألة مبسوطة في مطولات الفروع.
الثاني- قال الزمخشري: الأجود أن يكون قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الآية- عامّا في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه. وأمر الفيء داخل في عمومه.
وفي (الإكليل) : فيه وجوب امتثال أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: وكل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، يصح أن يقال إنه في القرآن، أخذا من هذه الآية. انتهى.
وهذا الأخير من غلوّ الأثريين، والإغراق في الاستنباط.
ثم بين تعالى من أصناف من تقدم، الأحق بالعناية والرعاية، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)(9/186)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ أي من مواطنهم ومألوفاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي من العلوم والفضائل الخلقية وَرِضْواناً أي منه، وهو أعظم ما يرغب فيه، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يبذل النفوس لقوة اليقين أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قال القاشاني: أي في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح، بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم.
ثم أشار إلى أن إيثار هؤلاء بالعطاء مما تطيب به نفوس إخوانهم الأنصار، لحرصهم، رضي الله عنهم، على الإيثار دون الاستئثار، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ أي دار الهجرة. أي توطنوها وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل مجيء المهاجرين إليهم. وعطف الْإِيمانَ قيل: بتقدير عامل. أي وأخلصوا الإيمان. وقيل: استعمل التبوّؤ في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن.
والمعنى: لزموا الدار والإيمان. وجوّز أيضا تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكّن فيه، على أنه استعارة بالكناية، ويثبت له التبوّؤ على طريق التخييل.
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ أي لوجود الجنسية في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء. قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا، مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرّم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر، كما قيل:
يا أخي! واللّبيب، إن خان دهر، ... يستبين العدوّ ممن يحبّ
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي في أنفسهم حاجَةً أي طلبا أو حسدا مِمَّا أُوتُوا أي مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، لسلامة قلوبهم، وطهارتها عن دواعي الحرض. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة وفاقة.
قال القاشاني: لتجرّدهم وتوجّههم إلى جناب القدس، وترفّعهم عن مواد الرجس، وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا، باقتضاء الفطرة، وفرط محبة الإخوان بالحقيقة، والأعوان في الطريقة. فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم، لمكان الفتوّة، وكمال المروّة، ولقوة التوحيد، والاحتراز عن حظ النفس.(9/187)
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. انتهى.
وقال ابن كثير: هذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8] ، وقوله:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] ، فإن هؤلاء تصدّقوا، وهم يحبون ما تصدّقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به. وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدّق الصّديق رضي الله عنه بجميع ماله،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟
فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله! وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل، أحوج ما يكون إلى الماء، فردّه الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالسعادتين. وفي إضافة الشّحّ إلى النفس إشارة لما قاله القاشاني من أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء. والشح من غرائزها المعجونة في طينتها، لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها. ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور، من عصمه الله.
قال ابن جرير: الشح في كلام العرب البخل، ومنع الفضل من المال. والعلماء يرون أن الشح في هذا الموضع إنما هو أكل أموال الناس بغير حق. ثم روي أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أخشى أن تكون أصابتني هذه الآية وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء! قال: ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما. ذلك البخل، وبئس الشيء البخل! انتهى.
والظاهر أنه عنى بالعلماء علماء الأثر. لأنه لم يفسر إلا بالمأثور. ولعل ابن مسعود فسّر الآية بذلك، لدلالة سياقها عليه، إذ القصد تزهيد الأنصار في أن تطمح أنفسهم لما جعل للمهاجرين دونهم. أو هو يرى الفرق بين الشح والبخل بما ذكره.
وعلى كل، فلا يتعين تأويل الآية بما ذكره بل هي مما تحتمله.(9/188)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
وعن ابن زيد في الآية قال: من وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئا، ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئا، فهو من المفلحين.
وروي ابن جرير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: برئ من الشح من أدّى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة.
وروى الإمام أحمد «1» عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من قبلكم: أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا.
وعن أبي هريرة «2» أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بالذين جاءوا من بعدهم، الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم. فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة. والمجيء حسي. وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. فالمجيء إما إلى الوجود، أو إلى الإيمان. ونظير هذه الآية، آية براءة:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] .
قال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق، والخلف للسلف، أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعوا لمن قبلهم، ويذكروهم بالخير.
تنبيه:
جعل الزمخشري قوله: وَالَّذِينَ عطفا على الْمُهاجِرِينَ كالموصول قبله في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا ... إلخ. فيكون قوله يُحِبُّونَ وقوله يَقُولُونَ حالين.
__________
(1) أخرجه في مسنده 2/ 159. الحديث رقم 6487.
(2) أخرجه النسائي في: الجهاد، 8- باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه.(9/189)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
وجوز السمين: وجها ثانيا، وهو كون الموصول فيهما مبتدأ، وما بعده خبره.
وعندي أن هذا هو الوجه، ما قبله تكلف، وأن الموصولين مستأنفان لمدح إيمان الأنصار والتابعين لهم بتلك الأخلاق الفاضلة، والخصال الكاملة. وما حمل الزمخشري ومن تابعه على الاقتصار على الوجه الأول إلا لتشمل أصناف من يستحق الفيء من فقراء كلّ، كأنه قيل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ... إلخ، وَللفقراء الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ... إلخ، وللفقراء الذين جاءوا من بعدهم ... إلخ، مع أن سياق الآيات المذكورة، ورعاية وقت نزولها، والمهاجرون في جهد، والأنصار في سعة ورغد- يقضي بأن المقصود منها للفيء، هو فقراء المهاجرين خاصة وأن الذين تبوءوا الدار في غنى عنه وعدم تشوف إليه، لشدة محبتهم لإخوانهم، بل رغبتهم في إيثارهم. ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه، ويدعو له ابتهاجا بما أتوا، واغتباطا بما عملوا، لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله، محبة في الله ورسوله، وبين محب لمن هاجر، مكرم له، بل مؤثر إياه، مما أشفّ عن قوة الإيمان، والإخلاص في تدعيم روابط الإيقان، هذا هو الظاهر من نظم الآيات الكريمة، وذوق سوقها. وأما فقراء الصنفين الآخرين، فإنهم يستحقون من الفيء قياسا على الصنف الأول، لاشتراكهم في الفقر. إلا أنه في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشك أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقرا، إلا سهلا وأبا دجانة- كما تقدم- فأعطاهما صلى الله عليه وسلم. وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها المغانم، فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبين في آيات أخر، فإن التنزيل الكريم بيّن مقاسم الأموال لذويها في عدة آيات.
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: 60] . حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... [الأنفال: 41] الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء. ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر: 7] . حتى بلغ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] . ثم قال:
استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحد إلا له فيها حق. ثم قال لئن عشت ليأتين الراعي. وهو يسيّر حمره، نصيبه، لم يعرق فيها جبينه!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)(9/190)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني النضير المتقدم ذكرهم. وأخوّتهم معهم أخوّة دين واعتقاد، أو أخوّة صداقة وموالاة لأنهم كانوا معهم سرّا على المؤمنين لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في خذلانكم أَحَداً أَبَداً أي من الرسول صلوات الله عليه، والمؤمنين وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم.
قال ابن جرير: ذكر أن الذين نافقوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول. ووديعة ومالك ابنا نوفل، وسويد، وداعس. بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن معكم قوتلتم قاتلنا وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة، كما تقدم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي منهزمين، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي بنوع مّا من أنواع النصر. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله، لاحتجابهم بالخلق عن الحق، بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ويستخفّوا بأوامره. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)(9/191)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود وإخوانهم جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي بالحصون، فلا يبرزون إلى البراز أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي من خلف حيطان، لفرط رهبتهم منكم، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ قال الزمخشري: يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة، لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذلّ، عند محاربة الله ورسوله. انتهى.
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرّقة، لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرّقها عن الحق بالباطل. ذلِكَ قال المهايمي: أي الاجتماع في الظاهر، مع افتراق البواطن، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي أنه يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكليّ. انتهى.
وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم، والحمل عليهم، وتبشير لهم بأنهم المنصورون الغالبون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مثل هؤلاء اليهود من بني النضير، فيما نزل بهم من العقوبة، كمثل من نالهم جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو فينقاع. قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا. انتهى.
قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. وكان من أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فتقلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام- والتفصيل في السير-.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عزّ وجلّ مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب، مما هو مذيقهم من نكاله، بالذين من قبلهم من مكذبي(9/192)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين أهلكهم بسخطه، وأمر بني قينقاع، ووقعة بدر، كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمره، ولم يخصص الله عزّ وجلّ منهم بعضا في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض. وكل ذائق وبال أمره، فمن قربت مدته منهم قبلهم، فهم ممثلون بهم فيها عنوا به من المثل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 16 الى 17]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الخروج معهم، ومثل انخداع بني النضير بوعد أولئك الكاذب، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي إذ غر إنسانا ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه فَلَمَّا كَفَرَ أي بالله، واتبعه وأطاعه قالَ أي مخافة أن يشركه في عذابه، مسلما له وخاذلا إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أي فلا أعينك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي في نصرتك فلم ينفعه التبرؤ، كما لم ينفع الأول وعده الإعانة فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي في حق الله تعالى، وحق العباد. أي وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين، الّذين وعدوهم النصرة. وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به. إنهم في النار مخلدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
قال المهايمي: يعني أن مقتضى إيمانكم أن لا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم.
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لما بعد الموت من الصالحات وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم بحسبها.(9/193)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال ابن جرير: أي لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم حظوظ أنفسهم من الخيرات.
وقال القاشاني: نَسُوا اللَّهَ أي بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية، والاشتغال باللذات النفسانية فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه، فذهلوا عن الجوهرة القدسية، والفطرية النورية.
وقال ابن القيّم في (دار السعادة) : تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما. وهو أن من نسي ربه، أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه، في معاشه ومعاده، فصار معطلا مهملا، بمنزلة الأنعام السائبة بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه، لبقائها علي هداها الذي أعطاها إياه خالقها. وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه. فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل به، وتزكو به، وتسعد به في معاشها ومعادها. قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: 28] . فغفل عن ذكره ربه، فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله، وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر، حيران لا يهتدي سبيلا، فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكو به وتفلح به. فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، انتهى.
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي: الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وخانوا وغدروا، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وهم الناسون الغادرون وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي: بالنعيم المقيم.(9/194)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
تنبيهان:
الأول- قال الزمخشري: استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. انتهى.
وردّ الاستدلال بذلك أحد أئمة الشافعية، وهو برهان الدين في (تفضيل السلف على الخلف) بما مثاله:
احتج بهذه الآية بعض الشافعية في مسألة قتل المسلم بالذمي، وهذا في غاية الضعف، لأن أحدا لم يسوّ بينهما. وإيجاب القصاص ليس بتسوية، لأنه ما من متباينين في وجوه، إلا وقد استويا في وجه أو وجوه. فلا يكون إيجاب القود استواء كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواء. فهذا كلام من ضعف نظره في مورد الانتزاع من شواهد الفرقان. انتهى.
الثاني- قال أبو السعود: لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء، من جهتهم، لا من جهة مقابليهم.
فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين. زيادة ونقصانا، وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص. وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد:
16] ، إلى غير ذلك من المواقع وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، فلعل تقديم الفاضل فيه، لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ أي الجامع للمواعظ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال، عَلى جَبَلٍ قال المهايمي أي بتفهيمه له وتكليفه بما فيه، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً أي متذللا لعظمة الله مُتَصَدِّعاً أي متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي مع عظم مقداره، وغاية صلابته، وتناهي قساوته. قال القاشاني: أي قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع(9/195)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
والانصداع وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي وتلك الأمور، وإن كانت وهمية، مفروضة، فلا بد من اعتبارها وضربها للناس الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا، ولينهم فقست قلوبهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ليعلموا أنه أولى بذلك الخشوع والتصدع.
قال الزمخشري: الآية تمثيل كما مرّ في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] . وقد دل عليه قوله: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه، مع أنه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 22 الى 24]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ما غاب عن الحس وشوهد هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أي المنعم بالنعم العامة والخاصة. ومن كان مطلعا على الأسرار يحب أن يخشع له، ويخشى منه، لا سيما من حيث كونه منعما. إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي الغني المطلق، الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه الْقُدُّوسُ أي المنزه عما لا يليق بجلاله، تنزها بليغا السَّلامُ أي الذي يسلم خلقه من ظلمه، أو المبرأ عن النقائص كالعجز الْمُؤْمِنُ أي لأهل اليقين بإنزال السكينة، ومن فزع الآخرة الْمُهَيْمِنُ أي الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه الْعَزِيزُ أي القويّ الذي يغلب ولا يغلب الْجَبَّارُ أي الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته- قاله الغزالي في (المقصد الأسنى) -.
وقال الإمام ابن القيّم في (الكافية الشافية) :(9/196)
وكذلك (الجبّار) من أوصافه ... والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف. وكل قلب قد غدا ... ذا كسرة، فالجبر منه داني
والثان جبر القهر بالعز الذي ... لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمّى ثالث وهو العلوّ ... فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم (جبّارة) للنخلة ال ... عليا التي فاتت بكل بنان
الْمُتَكَبِّرُ أي الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه. فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي من الأوثان والشفعاء. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته الْبارِئُ أي الموجد لها بعد عدم. الْمُصَوِّرُ أي الكائنات كما شاء. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الدالة على محاسن المعاني، وأحاسن الممادح.
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أي في تدبيره خلقه.
وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
تنبيهات:
الأول- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : مقام معرفة كمال الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عدّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكايدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا فذموا الأمر المحمود. ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي، والجحد المحض، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة.
قال الله جل جلاله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180] . وقال سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] . فما كان منها منصوصا في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته.
وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجلّ من أن يسمّى باسم لم يتحقق أنه تسمّى به.
ثم قال: وعادة بعض المحدّثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا(9/197)
تخريجه مع رواية أوّله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه. ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة، كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء، فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر، وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص.
ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب. فليرجع إليه النّهم بالتحقيقات.
الثاني- قال الغزاليّ في (المقصد الأسنى) - وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى-: هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف. أو تجوز بطريق العقل؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز، إلا ما منع منه الشرع، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى. فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمة الله عليه، أن ذلك موقوف على التوقيف، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى. إلا إذا أذن فيه.
والمختار عندنا أن نفصل ونقول: كل ما يرجع إلى الاسم، فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف، فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب. ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده.
الثالث- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير، وأكثرها واضح. والعصمة فيها عدم التشبيه، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها، الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى.
ثم قال: ولا بد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ، وهو أصل عظيم.، وذلك تفسير الحسنى جملة: فاعلم أنها جمع (الأحسن) لا جمع الحسن، وتحت هذا سر نفيس:
وذلك أن (الحسن) من صفات الألفاظ، ومن صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان حسن وأحسن، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه (حسنى) ، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه. ثم بيّن مثال ذلك فانظره.(9/198)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الممتحنة
بفتح الحاء، وقد تكسر، فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت فيها. وعلى الثاني صفة السورة، كما قيل لبراءة (الفاضحة) - كما في (الأعلام) -.
قال المهايمي: سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفي في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لا بد من اختبار البواطن. فدلائل الاعتقادات أولى بذلك. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
وفي (جمال القراء) أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة. وهي مدنية.
وآيها ثلاث عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا. نهي لأصحاب النبيّ صلوات الله عليه، عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي صميم المحبة، والباء زائدة في المفعول وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي من الإيمان بالله ورسوله وكتابه، الذي هو نهاية الهدى، وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أنه لم يكفهم ذلك حتى آذوا المؤمنين، بما يقطع العلائق معهم(9/199)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
رأسا، بقوله: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من أرضكم ودياركم أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي يخرجونكم لإيمانكم بالله، الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لا سيما باعتبار اتصافه بوصف كونه ربّاكم بالكمالات، فهي بالحقيقة عداوة مع الله.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم، وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده. ولهذا قال تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله ربّ العالمين كقوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] . وكقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 40] ، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ أي هاجرتم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به. والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق ب لا تَتَّخِذُوا أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي من المودة معهم وغيرها وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي اتخاذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي جار عن السبيل السوي الذي جعله الله هدى ونجاة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي حربا، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوؤكم كالقتل والشّتم، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي بما جاءكم من الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقال القاشاني: أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله، لأن القيامة مفرقة. وهذا معنى قوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يفصل الله بينكم(9/200)
وبين أرحامكم وأولادكم كما قال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس: 34- 36] ، انتهى، وهو تأويل جيد.
لطيفة:
قال السمين: يجوز في يَوْمَ الْقِيامَةِ وجهان:
أحدهما- أن يتعلق بما قبله، أي لن تنفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ ب يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ.
والثاني- أي يتعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أَوْلادُكُمْ، ويبتدأ ب يَوْمَ الْقِيامَةِ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم عليه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: ذكر أن هذه الآيات، من أول هذه السورة، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم- ثم ساق الروايات-.
وأما رواية البخاري «1» فعن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا:
أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب! فقلنا: لتخرجنّ الكتاب، أو لنلقينّ الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه:
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله! إني كنت امرءا من قريش، ولم أكن من أنفسهم. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال: إنه
__________
(1) أخرجه في: الجهاد، 141- باب الجاسوس، حديث رقم 1429. [.....](9/201)
شهد بدرا، وما يدريك، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم!
قال عمرو بن دينار- راوي الحديث- ونزلت فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ... الآيات.
قال ابن كثير: كان حاطب هذا رجلا من المهاجرين، ومن أهل بدر. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لمّا نقض أهلها العهد، فزمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: اللهم عمّ عليهم خبرنا. فعمد حاطب هذا، فكتب كتابا إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا
- كما ذكر في الحديث-.
الثاني- قال ابن كثير: يعني تعالى بقوله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ المشركين والكفار، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] ، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 57] . وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [النساء: 144] ، وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] . ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد. انتهى.
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة، وإن أخطأ.
والمجتهد المخطئ معذور. وقد تبيّن خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة، ولذلك قال الإمام إلكيا الهرّاسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية، لأنها في موضوع آخر. وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) . في المسألة الثامنة. قال (بعد أن أورد الآيات والأحاديث) : هذا كله في(9/202)
الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحّدين، إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالفة والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة. فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ- كما يأتي- وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة. وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى، يحيى بن المحسن عليه السلام في (الرسالة المخرسة، لأهل المدرسة) : لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه. لأن كثيرا من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولّى الناصر الكثير منهم، وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم.
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي موالاة الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، ونحو ذلك.
قال السيد: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: 15] . ومنها قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... [الممتحنة: 8] الآيتين، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء، بعد آيات التحريم، رواه أحمد والبزار والواحدي، وتأخرهما واضح في سياق الآيات، وقرينة الحال مع هذا الحديث. ولو لم يصح تأخر ذلك، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور. ورجحه ابن رشد في (نهايته) بالنصوصية على ما هو خاص فيه. ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة- هذه- وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة، والتقية فيما لا يضر في ظنه.
فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟(9/203)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والعموم نص في سببه.
فاتفق القرآن والحديث. وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ...
[النساء: 83] . ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال. فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم. فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم، لما فيه من الخيانة، لا نفس الفعل، لو تجرد من الكتم والخيانة- والله أعلم- انتهى.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلا في عقده، مضطربا في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سببا لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم. وهذا هو السر في الحقيقة، كما بينه آية رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] . وسيأتي بيانه.
ثم علّم تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم، وبقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 4]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي قدوة حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي أتباعه الذين آمنوا معه، كلوط عليه السلام إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ يعني الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت إِنَّا بُرَآؤُا جمع بريء، كظريف وظرفاء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي بدينكم ومعبودكم. قال ابن جرير: أي أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده. أي توحدوه وتفردوه بالعبادة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قال ابن جرير: أي قد كانت لكم أسوة حسنة(9/204)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها، من مباينة الكفار ومعاداتهم، وترك موالاتهم، إلا في قوله إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله، تبرءوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء، حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرءوا عن عبادة ما سواه.
ثم روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، فيستغفروا للمشركين.
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئا إن أراد عقابك. والجملة من تمام المستثنى، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده، ولذا قال الزمخشريّ: القصد إلى موعد الاستغفار وما بعده مبنيّ عليه، وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار.
وقوله تعالى: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ متصل بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة، أو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك، تتميما لما وصّاهم به من قطع الصلات المضرّة بينهم وبين المحاربين لهم.
ومعنى إِلَيْكَ أَنَبْنا أي إليك رجعنا بالتوبة مما تكره، إلى ما تحب وترضى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 5]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال قتادة: أي لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك. يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. انتهى.
ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل ما صنع حاطب، مما يورث افتتان المشركين بالدين إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم لو كان هؤلاء على حق، وما يوعدون به من الظفر حق، لما صانعنا مؤمنهم، فإذن ما هم عليه أماني. فيتزلزل من كان في نفسه الانتظام في سلكهم، والاستسعاد بحقهم. ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم. أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويفتح لعدو الدين الافتتان به، لأن(9/205)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
المؤمنين ما داموا متمسكين بآداب الدين، محافظين عليها، قائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم والظفر رائدهم، ولذا أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم.
حجة على دينهم أمام عدوهم. ولا مسترد لقولهم، ومستعاد لمجدهم، إلا بالرجوع إلى أصل كتابهم، والعلم بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به، مما يحرف كلمته، ويجافي حقيقته، وللحكماء في هذا الموضوع مقالات معروفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 6]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تكرير لوجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه، لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، والاسترسال إليهم. فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المخلصين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداءهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، لأن الحق لا يقوى إلا باعتصاب أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة. وفي إبدال لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ من لَكُمْ دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأن تركه مؤذن بسوء العقيدة. ولذلك عقبه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
أي من يتول عما أمر به، ويوالي أعداد الله، ويلقي إليهم بالمودّة، فإنه لا يضرّ إلا نفسه، والله هو الغني عن إيمانه به وطاعته، المحمود على كل حال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 7]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا وعد منه تعالى، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعد، وصاروا لهم أولياء وأحزابا. والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب، وقع مصداقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(9/206)
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. فهو في المعنى تخصيص لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ... إلخ. أي لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، أي تفضوا إليهم بالبرّ، وهو الإحسان، والقسط وهو العدل. فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه، بل مأمور به في حقهم. والخطاب، وإن يكن في مشركي مكة، إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فردّ ذلك الإمام ابن جرير بقوله:
والصواب قول من قال: عني بقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، فإن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء وأمها. انتهى.
وذلك
أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم! صلي أمك. رواه أحمد «1» والشيخان «2» ،
ورواه أيضا الإمام أحمد «3» عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب، وقرظ، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.
__________
(1) أخرجه في المسند 6/ 344.
(2) أخرجه البخاري في: الهبة، 29- باب الهدية للمشركين، حديث رقم 1272.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم 49 و 50.
(3) أخرجه في المسند 4/ 3.(9/207)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
قال الرازي: وقوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وكذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ. والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم، لشدتهم في العداوة، وهذه الآية على جواز البرّ بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ أي من مكة إلى المدينة، فَامْتَحِنُوهُنَّ أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي المطلع على قلوبهن، لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه.
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حلّفها بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبّا لله ورسوله.
وقال مجاهد: أي سلوهن ما جاء بهن؟ فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره، ولم يؤمنّ، فارجعوهن إلى أزواجهن.
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ قال الزمخشري: أي العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف، وظهور الأمارات، وإنما سماه علما، إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين، إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك، لأن إيمانها قطع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله.
قال ابن جرير: وإنما قيل ذلك للمؤمنين، لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية، أن يردّ المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلما، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات، فامتحنّ فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم مما ذكرنا، وأمروا أن لا يردوهن إلى المشركين، إذا علم أنهن مؤمنات، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي لانقطاع النكاح بينهنّ.(9/208)
قال ابن كثير: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين. وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة. ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع، زوج ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها. وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه. فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة. وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا
، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه. فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صدقا، ومنهم من يقول بعد سنتين، وهو صحيح، لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين، انتهى. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا قال ابن جرير: أي وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات، إذا علمتموهن مؤمنات، فلم ترجعوهن إليهم، ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب، مفارقات لأزواجهن، وإن كان لهن أزواج إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن. قال ابن زيد: لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأت أرحامهن.
ثم أشار إلى أنه، كما بطل نكاح المؤمنة على الكافر، بطل نكاح الكافرة على المسلم. بقوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال.
قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن. والْكَوافِرِ جمع كافرة.
و (العصم) : جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب. وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهن بفراقهن. ثم روي عن مجاهد قال: أمر أصحاب محمد بطلاق نسائهم كوافر بمكة قعدن مع الكفار.
وعن الزهري: لما نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية، وابنة جرول. وطلحة بن عبيد الله بنت ربيعة، ففرق بينهما الإسلام، حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، وكن ممن فرّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها(9/209)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
وزوّجها رجلا من المسلمين، أميمة بنت بشر الأنصارية. كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرّت منه، وهو يومئذ كافر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف، أحد بني عمرو بن عوف. فولدت عبد الله بن سهل.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي اطلبوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم، من الصداق، من تزوجهن منهم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليسألكم المشركون منهم، الذي لحق بكم أزواجهم مؤمنات، إذا تزوجن فيكم، من تزوجها منكم، ما أنفقوا عليهن من الصداق، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي هذا الحكم الذي حكم به من أمر المؤمنين بمسألة المشركين ما أنفقوا، وأمر المشركين بمثل ذلك، حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت الكفار، فلم يردّوا مهرها فَعاقَبْتُمْ أي فغزوتموهم فوجدتم منهم غنيمة فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ أي من المسلمين مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي في مهورهن.
قال مجاهد: مهر مثلها يدفع إلى زوجها.
وقال قتادة: كن إذا فررن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الكفار، ليس بينهم وبين نبيّ الله عهد، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة، أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره، واجتناب نواهيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)(9/210)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ قال ابن كثير: أي أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسرا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك- أخرجاه في الصحيحين «1» - وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال الزمخشري: يريد وأد البنات.
وقال ابن كثير: هذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعمّ قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجاهلات من النساء، تطّرح نفسها، لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: أي لا يلحق بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك. كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، فهو غير الزنا، فلا تكرار فيه.
وقال الشهاب: في شرح البخاري للكرماني معناه: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم. واليد والرجل كناية عن الذات، لأن معطم الأفعال بهما. ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك. أو معناه: لا تنشئوه من ضمائركم وقلوبكم، لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل. والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني عن كونه من دخيلة قلوبهم المبنية عن الخبث الباطني.
وقال الخطابي: معناه لا تبهتوا الناس كفاحا ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك. ورد بأنهم، وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه، فلا يقال: بين أرجله. وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها. أما مع الأيدي تبعا فلا.
فالمخطئ مخطئ وهو كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد: النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة. انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاري في: البيوع، 95- باب من أجرى أمر الأنصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة، حديث رقم 1108، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث رقم 7.(9/211)
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي من أمر الله تأمرهن به.
قال في النهاية: المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع، ونهى عنه.
فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فبايعهن على الوفاء بذلك، وسل الله لهن مغفرة ذنوبهن، والعفو عنها، فإنه غفور رحيم لمن تاب منها.
تنبيهات:
الأول-
روى البخاري «1» عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر أليه من المؤمنات بهذه الآية. فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك، كلاما. ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة. ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك.
قال ابن حجر: أي لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.
ثم
قال: وروى النسائي والطبري أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع. فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك. فقال: إني لا أصافح النساء.
ولكن سآخذ عليكن. فأخذ علينا حتى بلغ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال: فيما أطقتنّ واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا
-
وفي رواية الطبري: ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة
- وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب- أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي-.
وفي المغازي لابن إسحاق عن أبان بن صالح أنه كان يغمس يده في إناء، فيغمسن أيديهن فيه. انتهى.
والمعول على رواية البخاري الأولى لصحتها، وضعف ما عداها.
الثاني- روى مسلم «2» عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ كان منه النياحة.
__________
(1) أخرجه في: الطلاق، 20- باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي والحربي، حديث رقم 1310.
(2) أخرجه في: الجنائز، حديث رقم 31.(9/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
ولفظ البخاري «1» عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً. ونهانا عن النياحة.
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا أن لا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخمش وجها. ولا ننشر شعرا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن يومئذ أن لا ينحن، ولا يحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرما. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبيّ الله! إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا؟! فقال ليس أولئك عنيت.
الثالث- قال إلكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف. قال وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة، لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين.
وأصله مما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد. قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيه، وخيرته من خلقه. ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط. لم يقل وَلا يَعْصِينَكَ ويترك حتى قال فِي مَعْرُوفٍ فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف، وقد اشترط الله هذا على نبيه؟
ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبّه به في فاتحتها، من النهي عن موالاة محاربي الدين، تحذيرا من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي مسخوطا عليهم لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، وعيثهم بالفساد. وهو عام في كل محارب.
ومنهم من خصه باليهود، لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري. قال الناصر: قد كان الزمخشريّ ذكر في قوله، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلى قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا [فاطر: 12] ، أن آخر
__________
(1) أخرجه في: الجنائز، 46- باب ما ينهى عن النوح والبكاء، حديث 694.(9/213)
الآية استطراد. وهو فن من فنون البيان، مبوّب عليه عند أهله. وآية الممتحنة هذه ممكنة أن تكون من هذا الفن جدا، فإنه ذم اليهود، واستطرد ذمهم بذم المشركين، على نوع حسن من النسبة. وهذا لا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه. ومما صدروا به هذا الفن قوله:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس، وإن كان من جرم
وقوله:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
وقوله:
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام
انتهى.
وكان وجه إيثاره الفرار من التأكيد إلى التأسيس، مع أن إرادة ما أريد بأول السورة منه، فيه من المحسنات البديعية ردّ العجز على الصدر، تذكيرا به وتفخيما، للعناية بشأنه. ولكل وجهة.
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي من جزائها لجحدهم بها، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا. والجملة صفة ثانية كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي كما يئس من سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين. أي أنهم على شاكلة من قبلهم، وكلّ مؤاخذ بكفره. وقيل: المعنى كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. ففيه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلا لكفرهم، وبيانا لما اقتضى الغضب عليهم، ولما آيسهم. والأول أظهر.(9/214)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الصفّ
وتسمى سورة (الحواريين) . وهي مدنية. ولا عبرة بقول إنها مكية، لأن آياتها المحرّضة على القتال تردّه، لأنه لم يشرع الجهاد إلا في المدينة. وآيها أربع عشرة آية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي أذعن لله كل خلقه العلوي والسفلي، وانقاد لتسخيره، ودل على ألوهيته وربوبيته. وتقدم بيانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال القاشاني: من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة. إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما.
وقوله: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ يحتمل الكذب، وخلف الوعد. فمن ادعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان، وإلا فلا حقيقة لإيمانه. ولهذا قال:
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادئ الإيمان، فضلا عن كماله. إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى، والدين القيّم. وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها، التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة، والكاذب لا مروءة له، فلا إيمان له حقيقة. وإنما قلنا، لا مروءة له، لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير معنى، المدلول عليه باللفظ. والإنسان خاصته التي تميزه عن غيره، هي النطق، فإذا لم يطابق الإخبار، لم تحصل فائدة النطق،(9/215)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
فخرج صاحبه عن الإنسانية، وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير الواقع، فدخل في حد الشيطنة، فاستحق المقت الكبير عند الله، بإضاعة استعداده، واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف، لأنه قريب من الكذب، ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة، وأول درجاتها. فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه، فثبت المقت من الله. انتهى.
لطيفة:
قال الزمخشري: هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه. قصد في كَبُرَ التعجب من غير لفظه. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين. وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا، ونصب مَقْتاً على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص، لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ (المقت) لأنه أشد البغض وأبلغه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا، حتى جعل أشده وأفحشه.
و (عند الله) أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته.
قال الناصر: وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس، وهو تكراره لقوله:
ما لا تَفْعَلُونَ وهو لفظ واحد، في كلام واحد. ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قال القاشاني:
لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله، إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه. فأصل الشرك ومحبة الأنداد، محبة النفس. فإذا سمح بالنفس، كان غير محب لنفسه، وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا. وإذا كان بذله للنفس في اللهو وفي سبيله لا للنفس، كما قال- ترك الدنيا للدنيا- كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء، فكان من الذين قال فيهم: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم، لقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ، انتهى.
تنبيهات:
الأول- في ذكر هذه الآية عقيب مقت المخلف دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار، فلم يفلوا. انتهى.(9/216)
وأيده الناصر من الوجهة البيانية بأن الأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:
1- 2] ، فالنهي العام ورد أولا. والمقصود اندراج هذا الخاص فيه، كما تقول للمقترف جرما معينا: لا تفعل ما يلصق العار بك، ولا تشاتم زيدا. وفائدة مثل هذا النظم، النهي عن الشيء الواحد مرتين، مندرجا في العموم، ومفردا بالخصوص. وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في حيز التكرار، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل. انتهى.
الثاني- في (الإكليل) : قال إلكيا الهراسي، يحتج بقوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ في وجوب الوفاء بالنذر، ونذر اللجاج. قال غيره: والوعود. انتهى.
وقال ابن كثير: هو إنكار على من يعد وعدا، أو يقول قولا، لا يفي به. ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما
ثبت في الصحيحين «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان.
ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى:
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.
وقد روى الإمام أحمد «2» وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله! تعال أعطك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا. فقال: أما إنك لو لم تفعلي، كتبت عليك كذبة.
وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود، وجب الوفاء به. كما لو قال لغيره: تزوج ولك عليّ كل يوم كذا. فتزوج. وجب عليه أن يعطيه مادام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نزلت حين
__________
(1) أخرجه البخاري في: الإيمان، 24- باب علامة المنافق، حديث رقم 31، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 107.
(2) أخرجه في المسند 3/ 447.(9/217)
تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض، نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] . وقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ... [محمد: 20] الآية، وهكذا هذه الآية معناها كما قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين، قبل أن يفرض الجهاد، يقولون:
لوددنا أن الله عز وجل دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
وقيل: كان المسلمون يقولوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لأتيناه، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا، فلما كان يوم أحد، تولوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى شج وكسرت رباعيته، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ روي ذلك عن مقاتل بن حيّان.
وقيل: نزل هذا توبيخا لقوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون. يقولون: لو خرجتم خرجنا معكم، وكنا في نصركم، وفي وفي ... روي ذلك عن ابن زيد.
وكلّ المروي هنا مما تشمله الآية.
وقد روى الإمام أحمد «1» عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة- يعني سورة الصف- كلها.
ولفظ ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا، حتى جمعهم، ونزلت فيهم هذه السورة- الصف- قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها.
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 452.(9/218)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
وفي رواية ابن أبي حاتم هذه فائدة جليلة: وهي أن قول الصحابي نزلت هذه السورة، بمعنى قرئت في الحادثة، كما بيّنته الرواية قبله. والروايات يفسر بعضها بعضا. وقد نبهنا على ذلك مرارا.
الثالث- في (الإكليل) في قوله: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ: استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفا كصفوف الصلاة. وأنه يستحب سد الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام صف الأول فالأول، وتسوية الصفوف قدما بقدم، لا يتقدم بعض على بعض فيها.
قال ابن أبي الفرس: واستدل بها بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان. لأن التراصّ إنما يمكن منهم. قال: وهو ممنوع. انتهى.
وفي التشبيه وجهان آخران:
أحدهما- أن يكون المراد الثبات ورسوخ الأقدام في الموقف، تنبيها على أن المتزلزل القدم، والمضطرب في الموقف- دع من يعزم على الفرار- ممن يمقته الله تعالى، ولا تناله محبته.
ثانيهما- أن يكون المعنى به اجتماع الكلمة، والاتفاق على تسوية الشأن مع العدو، حتى يكونوا في الاتحاد وموالاة بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص. وقد أشار لهذين الوجهين الرازيّ. وهما أقرب من الأول، لتقويتهما لمعنى طليعة السورة، من الثبات على الوعد والوفاء به، والعتب على من يخلف فيه، كما تقدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ أي لم توصلون إليّ الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به، وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي فيما جئتكم به من الرسالة، لما شاهدتم من الآيات البينات؟ ومقتضى علمكم ذلك، تعظيمي وإطاعتي، لأن من عرف الله وعظمته، عظّم رسوله، لأن تعظيمه في تعظيم رسوله.
قال ابن كثير: وفي هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه(9/219)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
وغيرهم، وأمر له بالصبر. ولهذا
قال صلوات الله عليه: رحمة الله على موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر
. وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له، صلوات الله عليه أذى، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب: 69] ، انتهى.
وقال أبو السعود: هذا كلام مستأنف، مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال.
وإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر. خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين. أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال، وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة، بقوله يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] ، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان، حيث قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ [المائدة: 22] ، إلى قوله: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه الصلاة والسلام، كل الأذية. هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية، من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى، من انتقاصه وعيبه في نفسه وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة- فمما لا تعلق له بالمقام. انتهى ملخصا. وملخصه: أن المقام يعيّن نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العامّ، إلا أن أخذها عامة أعظم في التسلية وأولى، وقوفا مع عموم اللفظ الكريم.
فَلَمَّا زاغُوا أي عن مقتضى علمهم لفرط الهوى، وحب الدنيا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال، لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرّين على الغواية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام.
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الدلالات التي(9/220)
آتاها الله إياه، حججا على نبوّته، قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي بيّن.
والإشارة إلى ما جاء به أو إليه، صلى الله عليه وسلم، وتسميته سحرا مبالغة. يريد عليه السلام:
أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعا، ممن تقدم وتأخر.
تنبيهات:
الأول- نقل الرازي وغيره مصداق هذه الآية من الإنجيل الموجود بين أيديهم.
وذلك في إنجيل يوحنا، في الباب الرابع عشر، هكذا:
إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد- كما في النسخة المطبوعة سنة 1821 و 1831 و 1833 بمدينة لندن- وفارقليط يونانية، ولفظها الأصلي (بيركلوط) ، ومعناه:
محمد أو أحمد، كما بينه صاحب (إظهار الحق) .
وذكرت جريدة المؤيد عدد (3284) صفحة (2) تحت عنوان (لا يعدم الإسلام منصفا) :
وقال مسيومارسية من (مدرسة اللغات الشرقية) ما يأتي:
إن محمدا هو مؤسس الدين الإسلاميّ، واسم محمد جاء من مادة حمد. ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسما من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد، وهو أحمد، لتسمية البراكلية به. ومعنى أحمد صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلاميّ أن يثبتوا بأن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبيّ محمد. وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.
وقد قال اسبرانجيه: إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة (إنجيل يوحنا) حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم. انتهى بالحرف.
وأما (إنجيل برنابا) ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الضافية الذيول، التي يذكر فيها اسم محمد في عرضها ذكرا صريحا، ويقول إنه رسول الله.
وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيها يقول المسيح: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وذلك موافق لنص(9/221)
القرآن الكريم بالحرف. وقد بدل الرهبان نقط (الفارقليط) في المطبوعات الأخيرة ب (المعزّى) .
قال بعضهم: ولا عجب من هذه التحريفات المتجددة بتجدد الطبعات، فإنها سجية القوم في كتبهم المقدسة.
سجية تلك فيهم غير محدثة
الثالث- قال الإمام ابن القيّم في (جلاء الأفهام) : الفرق بين محمد وأحمد من وجهين:
أحدهما- أن محمدا هو المحمود حمدا بعد حمد، فهو دالّ على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه، و (أحمد) أفعل تفضيل من الحمد، يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره. فمحمد زيادة حمد في الكمية، وأحمد زيادة في الكيفية، فيحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر.
والوجه الثاني- أن محمدا هو المحمود حمدا متكررا كما تقدم، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره. فدل أحد الاسمين- وهو محمد- كونه محمودا. ودل الاسم الثاني- وهو أحمد- على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو القياس، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من فعل الفاعل، لا من فعل المفعول، ذهابا إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي ونازعهم آخرون وجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول، لقول العرب: (ما أشغله بالشيء) .
إلى أن قال: والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم سمي محمدا وأحمد، لأنه يحمد أكثر ما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره. فالاسمان واقعان، على المفعول، وهذا هو المختار. وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى. ولو أريد به اسم الفاعل لسمي (الحمّاد) وهو كثير الحمد، كما سمي محمدا، وهو المحمود كثيرا. فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمدا لربه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل، لكان الأولى أن يسمى حمّادا، كما أن اسم أمته الحمّادون. وأيضا فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد، فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السموات والأرض، فلكثرة خصائله التي تفوت عدّ العادّين سمي باسمين من أسماء الحمد، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة. انتهى.(9/222)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 7]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي: لا أحد أظلم وأشد عدوانا ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيقته، المسعد له في الدارين، فيستبدل إجابته بافتراء الكذب، واختلاقه على الله، وذلك قوله لكلامه تعالى (سحر) ولرسوله (ساحر) وهذه الآية إما مستأنفة رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها، لتقبيح ما بهت به الإسرائيليون عيسى عليه السلام مع الإشارة بعمومها إلى ذم كل من كان على شاكلتهم. ولا يقال الْإِسْلامِ يؤيد الأول، لأنه عنوان الملة الحنيفية، لأنه قد يراد به معناه اللغوي. وقد كثر ذلك في آيات شتى، نعم الأقرب الأول، واحتمال مثل الآية لهذين الوجهين، من بدائع التنزيل.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بما أنزل من الحق،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قال ابن جرير. أي يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا ساحر، ليبطلوا الحق الذي جاء به بقولهم إنه ساحر، وما جاء به سحر، والله معلن الحق، ومظهر دينه، وناصر رسوله على من عاداه، فذلك إتمام نوره. انتهى.
ف نُورَ اللَّهِ استعارة تصريحية لدينه، و (الإطفاء) ترشيح، أو التركيب استعارة تمثيلية، مثلت حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق، بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، تهكما وسخرية بهم، كما يقول الناس: هو يطين عين الشمس والثاني أبلغ وألطف، وهو مختار الزمخشري.
وفي لام لِيُطْفِؤُا مذاهب للنحاة مقررة في المطولات، ومن أشهرها أنها مزيدة لتأكيد معنى الإرادة، لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى(9/223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
الدِّينِ كُلِّهِ
قال ابن جرير: أي على كل دين سواه. وذلك عند نزول عيسى بن مريم، وحين تصير الملة واحدة، فلا يكون دين غير الإسلام.
وقال الزمخشري: أي ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وتقدم في آخر سورة الفتح في مثل هذه الآية تحقيق آخر، فليراجع.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أي لما فيه من محض التوحيد، وإبطال الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إيمانا يقينيا لا يشوبه أدنى شك وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من أهل العلم. أو أنه خير. فإن قيل: إن ذلك خير بنفسه علموا أولا، وأيضا أن علمهم محقق، إذ الخطاب مع المؤمنين. فالجواب ما قاله الناصر: أن الشرط ليس على حقيقته، بل هو من وادي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] .
والمقصود بهذا الشرط التنبيه على المعنى الذي يقتضي الامتثال، وإلهاب الحمية للطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه: إن كنت حرّا فانتصر. تريد أن تثير منه حمية الانتصار لا غير. انتهى. وقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر. أو لشرط أو استفهام، دل عليه الكلام تقديره: إن تؤمنوا وتجاهدوا. أو هل تقبلون أن أدلكم. يغفر لكم وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي بساتين إقامة لا ظعن عنها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي النجاء العظيم من نكال الآخرة وأهوالها، وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل. وهو فتح مكة. وهذا يدلّ، على أن السورة نزلت قبل فتح مكة بقليل. وكان القصد منها تشجيع المؤمنين على قتال محاربيهم، والثبات أمامهم، والتحذير عن الزيغ عن ذلك، والترغيب في السخاوة ببذل الأنفس والأموال، في سبيل الحق، لإعلاء شأنه، وإزهاق الباطل.(9/224)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
وأُخْرى مفعول لمقدر معطوف على الجوابين قبله، وهو جواب ثالث. أي ويؤتكم أخرى أو صفة لمبتدأ مقدّر، وخبره محذوف. وهو (لكم) . أي ولكم إلى هذه النعمة المذكورة. نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وهي نصر من الله لكم على أعدائكم، وفتح قريب يعجّله لكم.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بنصره تعالى لهم وفتحه. ومن منع من النحاة عطف الإنشاء على الخبر يقول: وبَشِّرِ معطوف على تُؤْمِنُونَ، لأنه بمعنى آمنوا.
وضعّف بأن المخاطب ب تُؤْمِنُونَ المؤمنون، وب بَشِّرِ النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم إن تُؤْمِنُونَ بيان لما قبله، وبَشِّرِ لا يصلح لذلك. وأجيب بأنه لا مانع من العطف على الجواب، ما هو زيادة عليه إذا ناسبه. وهذا أولى الوجوه عند صاحب (الكشف) ، كتقدير: أبشر يا محمد، وبَشِّرِ، وتقدير (قل) قبل يا أَيُّهَا.
وجعل بَشِّرِ أمرا بمعنى الخبر، كما في قوله: أبطئي أو أسرعي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أنصار الحق الذي أنزله وأمر به، كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من معي وجندي متوجّها إلى نصرة الله، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي ننصر دينه، وما أمر به، وندعو إليه، ونضحّي لأجله حياتنا، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعو إلى ما بعث به، وتنشر دعوته، وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أي برسالته والحق الذي معه، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ من اليهود والرومان الوثنيين، وفَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة، وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم، ما داموا متناصرين على الحق، مجتمعين عليه، غير متفرقين عنه ولا متخاذلين، كما وقع لسلفهم. اتفقوا فملكوا، وإلا فإذا تفرقوا هلكوا.
لطيفة:
ليس التشبيه على ظاهره، من تشبيه كون المؤمنين أنصار الله بقول عيسى، إذ(9/225)
لا وجه لتشبيه الكون بالقول، بل هو مؤول بجعل التشبيه باعتبار المعنى، إما على تقدير: قل لهم، كما قال عيسى، لظهوره فيه، وانصباب الكلام إليه، أو تقدير: كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟
قال الشهاب: ف (ما) مصدرية، وهي مع صلتها ظرف، والأصل: ككون الحواريين أنصارا وقت قول عيسى. ثم حذف المظروف، وأقيم ظرفه مقامه. وقد جعلت الآية من الاحتباك. والأصل: كونوا أنصار الله حين
قال لكم النبيّ: من أنصارى إلى الله؟ كما كان الحواريون أنصار الله
. حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟ فحذف من كل منهما، ما دل عليه المذكور في الآخر. وهو كلام حسن.
انتهى.(9/226)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الجمعة
مدنية. وآيها إحدى عشرة.
روى مسلم «1» في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ أي: العرب رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، أميّا مثلهم، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي: مع كونه أميّا مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلم، وَيُزَكِّيهِمْ أي: من خبائث العقائد والأخلاق، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي: القرآن والسنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: جور عن الحق، وانحراف عن سبيل الرشد.
وهو بيان لشدة افتقارهم إلى نبيّ يرشدهم.
قال ابن كثير: فبعثه الله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم عليه السلام فبدّلوه وغيروه، واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكّا، وابتدعوا، أشياء لم يأذن بها الله. وكذلك أهل الكتاب، قد بدلوا كتبهم وحرفوها
__________
(1) أخرجه في: الجمعة، حديث رقم 64.(9/227)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وأولوها، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل، شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار، وسخط الله تعالى. حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب، في الأصول والفروع وجمع له تعالى- وله الحمد والمنة- جميع المحاسن فيمن كان قبله، وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين، ولا يعطيه أحدا من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. انتهى.
وإنما أوثرت بعثته صلوات الله عليه في الأميين، لأنهم أحدّ الناس أذهانا، وأقواهم جنانا، وأصفاهم فطرة، وأفصحهم بيانا، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين، ولا بأفانين تلاعب أولئك المتمدنين، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم، وحكمة باهرة، وسياسة عادلة، قادوا بها معظم الأمم، ودوخوا بها أعظم الممالك. وإيثار البعثة فيهم- بمعنى إظهارها فيهم- لا ينافي عموم الرسالة، كما قال سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] .
وقوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] . وهو ظاهر. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ معطوف على (الأميين) .
يعني: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، من كل من دخل في الإسلام إلى يوم القيامة، كما فسره مجاهد وغيره، واختاره ابن جرير.
قال الرازي: فالمراد بالأميين العرب، وبالآخرين سواهم من الأمم، وجعلهم منهم، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ، انتهى.
تنبيه:
قال بعض المحققين: في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك في الإخبار عن غيب وقع، والبشارة بدخول أمم غير العرب في الإسلام قد حصل، فقد صارت تلك الأمم التي أسلمت، من العرب لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنسا ودينا ولغة، وحتى(9/228)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس، لأنهم أمة واحدة وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون: 52] ، فصدق الله العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني بعثته تعالى رسولا في الأميين، وفي آخرين، فضله تفضل به على من اصطفاه واختاره لذلك، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، والآيات هذه رد على من أنكر نبوته صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة.
حسدا وعنادا، مع أن لديهم من شواهد رسالته ما لا ترتاب أفئدتهم بصدقها، ولذا نعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً قال الزمخشري: شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها، وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها، ولا منتفعين بآياتها. وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفارا، أي: كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمرّ بجنبيه وظهر من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل، فهذا مثله، وبئس المثل! بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى حُمِّلُوا التَّوْراةَ كلفوا علمها، والعمل بها، ثم لم يحملوها، ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. انتهى.
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) : قاس من حمّله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبّره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبّر ولا تفهّم ولا اتباع له، ولا تحكيم له، وعمل بموجبه- كحمار على ظهره زاملة أسفار، لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلّا.
فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى، لمن حمل القرآن، فترك العمل به، ولم يؤدّ حقه، ولم يرعه حق رعايته. انتهى.(9/229)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بآيات ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 6]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ كان اليهود يقولون: نحن أبناء الله وأحبّاؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم، وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم، وينقلكم سريعا إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب، ولا يفرّ منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويصير إلى روح الجنان ونعيمها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : الآيات 7 الى 8]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من المعاصي والسيئات والكفر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي فيجازيهم على أعمالهم، وتقدم في البقرة نظير الآية قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ...
[البقرة: 94] . قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أي تخافون أن تتمنوه بلسانكم، مخافة أن يصيبكم، فتؤخذوا بأعمالكم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الأعمال، حسنها وسيئها، فيجازيكم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي عند جلوس الإمام على المنبر، لأنه لم كن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه. كان إذا جلس على المنبر،(9/230)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
أذّن بلال رضي الله عنه فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي الخطبة والصلاة وَذَرُوا الْبَيْعَ أي في ذلك الوقت. قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير، فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة. فنزلت ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي سعيكم لها، وترك البيع، خير لكم مما نفعه يسير، وربحه مقارب إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت وفرغ منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي أذكروا أمره ودينه وشرعه دائما، لتصير ملكة لكم، تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين، قال ابن جرير: أي اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه، لتفلحوا فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أي عير تجارة أَوْ لَهْواً أي ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنافع انْفَضُّوا إِلَيْها أي أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم المقصود وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ أي من الثواب المرجوّ بسماع الخطبة والعظة بها خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه منها.
قال الشهاب: وتقديم (اللهو) لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: فاعملوا للأعراض الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل، والثقة بفضله. فإنه خير الرازقين.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك. فنبههم الله تعالى بقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية. قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: 17] . ووجه آخر في التعلق. قال بعضهم:
قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله:
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 94] . وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا(9/231)
كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا. وبالسبت، وليس للمسلمين مثله.
فشرع الله لهم الجمعة. انتهى.
وقال المهايمي في وجه المناسبة: بيّن تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لا سيما الشكر على الإنسانية، لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر، الذي جرهم إلى الحمارية والبهيمية.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) : في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ مشروعية صلاة الجمعة، والأذان لها والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان. واستدل بالآية من قال إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيه النداء.، ومن قال لا يحتاج إلى إذن السلطان، لأنه تعالى أوجب السعي، ولم يشترط إذن أحد. ومن قال لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور، انتهى.
الثالث- في (الإكليل) : في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ إباحة الانتشار عقب الصلاة، فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها. انتهى.
وظاهره أنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما. غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين، وفي رواية أربعا. وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت، فتعصب مذهبي لا برهان له. وقد قلت في مقدمة مجموعة الخطب، في الفائدة الرابعة، ما مثاله:
الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات، تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلا. إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها، قد هول فيه السبكي في فتاويه، لأنه مما تأباه مشروعيتها، وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة، فإن صيغة (فعلة) في اللغة للمبالغة.
وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد الظهر بعدها، وقد بسطناه في كتابنا (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) .
الرابع- يدل قوله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، وردّ على ما ابتدع فيه من الوظائف ما يدعو إلى الانقطاع عن كل عمل.(9/232)
والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم، ولا الهدي النبويّ، من خبر قويم، فهو تشريع ما لم يأذن به الله. وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستجرّها إلينا بالأسباب الضعيفة، فاللهم غفرا.
الخامس- قال في (الإكليل) : في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً مشروعية الخطبة، والقيام فيها، واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، انتهى.
وفي الصحيحين «1» عن جابر قال: قدمت عير مرة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس. وبقي اثنا عشر رجلا. فنزلت وَإِذا رَأَوْا ... الآية.
وروى ابن جرير عن جابر قال: كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله وَإِذا رَأَوْا.. الآية.
وعن مجاهد: اللهو الطبل.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الجمعة، 38- باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، حديث 544.
وأخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم 36.(9/233)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
مدنية وآيها إحدى عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي أن الأمر كما قالوه وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي في قولهم نَشْهَدُ وادعائهم فيه مواطأة قلوبهم ألسنتهم، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أى حلفهم الكاذب، أو شهادتهم هذه، فإنها تجري مجرى الحلف في التوكيد جُنَّةً أي وقاية من القتل والسبي، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى دينه الذي بعث به رسوله صلوات الله عليه، وشريعته التي شرعها لخلقه إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى في اتخاذهم أيمانهم جنة، وصدهم، وغير ذلك من أعمالهم.
تنبيه:
في (الإكليل) : استدل بالآية أبو حنيفة على أن (أشهد بالله) يمين، وإن لم ينو معه، لأنه تعالى أخبر عن المنافقين أنهم قالوه، ثم سماه (أيمانا) انتهى.
قال الناصر: وليس فيما ذكره دليل، فإن قوله: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً غايته أن ما ذكره يسمى يمنا، وليس الخلاف في تسميته يمينا، وإنما الخلاف: هل يكون يمينا منعقدة يلزم بالحنث فيها كفارة أم لا؟ وليس كل ما يسمى حلفا أو قسما يوجب(9/234)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
حكما. ألا ترى أنه لو قال: أحلف، ولم يقل: بالله، ولا بغيره، فهو من محال الخلاف في وجوب الكفارة به، وإن كان حلفا لغة باتفاق، لأنه فعل مشتق منه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 3 الى 4]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
ذلِكَ أي ما نعي عليهم من مساوئهم بِأَنَّهُمْ آمَنُوا أي ظاهرا ثُمَّ كَفَرُوا أي سرّا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ختم عليها بما مرنوا عليه من التلوّن والتذبذب ورسوخ الهيئات المنكرة، فحجبوا عن الحق فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي حقية الإيمان، وحكمة الرسالة والدين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ أي لتناسب أشكالهم، وحسن مناظرهم وروائهم وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي للين كلامهم بما يدهنون فيه كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي في الخلوّ عن الفائدة، لأن الخشب إنما تكون مسندة إذا لم تكن في بناء، أو دعامة لشيء آخر.
قال القاشاني: روي عن بعض الحكماء أنه رأى غلاما حسنا وجهه، فاستنطقه لظنه ذكاءه وفطنته، فما وجد عنده معنى، فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن! وهذا معنى قوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي أجرام خالية عن الأرواح، لا نفع فيه ولا ثمر، كالأخشاب المسندة إلى الجدران عند الجفاف، وزوال الروح النامية عنها، فهم في زوال استعداد الحياة الحقيقية، والروح الإنساني، بمثابتها، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ قال ابن جرير: أي يحسب هؤلاء المنافقون، من خبثهم، وسوء ظنهم، وقلة يقينهم، كلّ صيحة عليهم، لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل فيهم من الله وحي على رسوله، ظنوا أنه نزل بهلاكهم وعطبهم.
وقال القاشاني: لأن الشجاعة إنما تكون من اليقين من نور الفطرة، وصفاء القلب، وهم منغمسون في ظلمات صفات النفوس، محتجبون باللذات والشهوات، أهل الشك، والارتياب، فلذلك غلبهم الجبن والخور.
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قال القاشاني: فقد بطل استعدادهم، فلا يهتدون بنورك(9/235)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
ولا تؤثر فيهم صحبتك قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق، مع وضوح مناره. و (قاتل) بمعنى لعن وطرد، وهو دعاء أو خبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : آية 5]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ أي: هلموا إلى التوبة والإنابة مما فرط منكم، وذاع من أفاعيلكم ضد المؤمنين لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ قال ابن جرير أي:
حركوها وهزوها استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وباستغفاره، وبتشديد الواو من لَوَّوْا قرأت القراء على وجه الخبر عنهم، أنهم كرروا هز رؤوسهم وتحريكها وأكثروا. إلا نافعا، فإنه قرأ ذلك بتخفيف الواو، على وجه أنهم فعلوا ذلك مرة واحدة.
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي يعرضون عما دعوا إليه، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: عن المصير إلى الرسول والاعتذار.
قال القاشاني: لضراوتهم بالأمور الظلمانية، واعتيادهم الكمالات البهيمية والسبعية، فلا يألفون النور، ولا يشتاقون إليه، ولا إلى الكمالات الإنسانية، لمسخ الصورة الذاتية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : آية 6]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال القاشاني:
لرسوخ الهيئات الظلمانية فيهم، وزوال قبول استعداداتهم للهداية، لفسقهم وخروجهم عن دين الفطرة القويم. وهذا معنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : آية 7]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي: حتى تصيبهم مجاعة، فيتفرقوا عنه. يعنون فقراء المهاجرين.(9/236)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قال القاشاني: لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله، وبما في أيديهم عما في خزائن الله، فيتوهمون الإنفاق منهم، لجهلهم.
وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: من بيده خزائنهما، رازقهم منها، وإن بخل المنافقون.
لطيفة:
قال الشهاب: قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ ... إلخ تعليل لرسوخهم في الفسق، لا لعدم المغفرة. لأنه معلل بما قبله. وقوله: عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الظاهر أنه حكاية ما قالوه بعينه، لأنهم منافقون مقرون برسالته ظاهرا، ولا حاجة إلى أنهم قالوه تهكما، أو لغلبة عليه، حتى صار كالعلم، كما قيل. ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة، فغيّرها الله إجلالا لنبيه صلى الله عليه وسلم وإكراما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : آية 8]
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: لمكان غرورهم وجهلهم وشدة ارتيابهم.
تنبيهان:
الأول-
قال ابن جرير: عني بهذه الآيات كلها- فيما ذكر- عبد الله بن أبيّ ابن سلول. وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسمع بذلك زيد بن أرقم فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عما أخبر به عنه، فحلف أنه ما قال! وقيل له: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يستغفر لك. فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء، ويعني بذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه هذه السورة من أولها إلى آخرها.
ثم أورد ابن جرير الروايات في ذلك. وتقدمه الإمام البخاريّ، فأسندها من طرق. ويجمعها كلها ما
رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقيهم على ماء لهم يقال له (المريسيع) وأظفره الله بهم. قال: فبينا الناس على ذلك(9/237)
الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له (جهجاه) ، يقود فرسه. فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج، على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا! والله! ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كمال قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم. لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب. فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر، إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا! ولكن أذّن بالرحيل، في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفا عظيما.
فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله! عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل- حدبا على ابن سلول ودفعا عنه.
قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبيّ الله! والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ! قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل! قال: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت. هو، والله، الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله! ارفق به. فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك، حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض، فوقعوا نياما ... وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وقدم(9/238)
المدينة، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبيّ، ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى لله بأذنه.
وكانت غزاة بني المصطلق هذه، في شعبان سنة خمس، كما في (زاد المعاد) .
وزعم قوم أن هذه المقالة كانت في غزوة تبوك. قال الحافظ ابن حجر: وقع في رواية محمد بن كعب عن زيد بن أرقم عند (النسائي) أنها غزوة تبوك، ويؤيده قوله في رواية زهير: في سفر أصاب الناس فيه شدة. وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يصلي فيه: فلما كان غزوة تبوك، نزل منزلا، فقال عبد الله بن أبي: فذكر القصة.
والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة المصطلق. ويؤيده قول جابر، بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) .
وكان الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. فهذا مما يوضح وهم من قال: إنها كانت بتبوك، لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا. وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار انتهى.
وسبقه ابن كثير حيث قال: وقوله- أي ابن جبير- إن ذلك كان في غزوة تبوك، فيه نظر، بل ليس بجيد، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش. وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير، أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق. انتهى.
التنبيه الثاني- قال الزمخشري: معنى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ إلخ أي:
الغلبة والقوة ولمن أعزه وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك. كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.
وعن بعض الصالحات- وكانت في هيئة رثة- ألست على الإسلام، وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه؟
وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أن رجلا قال له إن الناس يزعمون أن فيك تيها؟ قال: ليس بتيه، ولكنه عزة وتلا هذه الآية.
انتهى.(9/239)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
قال الرازي: قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية. كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلها. فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة.
ولما كانت غير مذمومة، وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف: 20] . وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع، من غير انحراف إلى الضعة، وقوف على صراط العزة المنصوب على نار الكبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: لا يشغلكم الاغتباط بها عن ذكر أمره ونهيه، ووعده ووعيده، أو ذكر ما أنزله وأوحى به. ومنه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. فإن مقتضى الإيمان أن لا يبالي المؤمن بعزة المال والولد، مع عزة الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته، كما قال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [الحشر: 19] . وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ أي أتصدق وأخرج حقوق مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها. أي لن يؤخر في أجل أحد إذا حضر، ولكن يخترمه.
قال القاشاني: معنى قوله: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إن صدقتم في الإيمان، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء، فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا، من شدة التعلق بهم وبالأموال، غالبة في قلوبكم على محبة، فتحتجبوا بهم عنه، فتصيروا إلى النار، فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما(9/240)
يفنى سريعا، وتجردوا عن الأموال بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها، ليكون فضيلة في أنفسكم، وهيئة نورية لها، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء، وهيئة التجرد في النفس. فأما عند حضور الموت، فالمال للوارث لا له، فلا ينفعه إنفاقه، وليس إلا التحسر والتندم، وتمني التأخير في الأجل بالجهل، فإنه لو كان صادقا في دعوى الإيمان، وموقنا بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري، وأنه مقدر في وقت معين قدره الله فيه بحكمته، فلا يمكن تأخره.
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي: بأعمالكم ونياتكم. فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل، ووعد التصدق والصلاح، لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء، ولا عن التجرد والزكاء، بل من غاية البخل وحب المال، كأنه يحسب أنه يذهب به معه، وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب، ومحبة العاجلة، لوجود الهيئة المنافية للتصدق والصلاح في النفس، والميل إلى الدنيا، كما قال الله تعالى:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: 28] والله أعلم.
تنبيه:
قال الإمام إلكيا الهرّاسي: يدلّ قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... الآية. على وجوب إخراج الزكاة على الفور، ومنع تأخيرها.
وأخرج الترمذي «1» عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، فقيل له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا. ثم قرأ هذه الآية.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، سورة المنافقين، 5- حدثنا عبد بن حميد.(9/241)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّغابن
مكية، على ما يظهر من أمثالها لمن سبر. وقيل: مدنية. وآيها ثمان عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ أي ملك السماوات والأرض، ونفوذ الأمر فيهما وَلَهُ الْحَمْدُ أي الثناء الجميل، لأنه مولى النعم وموجدها وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم، قابل للكلمات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر، جاحد للحق، كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته. ومنكم مختار للإيمان، كاسب له، حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد، وما يتفرع عليها من سائر النعم. فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعبا، وتفرقتم فرقا. وتقديم الكفر، لأن الأغلب فيما بينهم، والأنسب بمقام التوبيخ- أفاده أبو السعود- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم به، فآثروا ما يجديكم، وجانبوا ما يرديكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 3]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي حيث برأكم في أحسن تقويم.
وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أعدل الأمزجة. وآتاه العقل وقوة النطق، والتصرف في المخلوقات، والقدرة على أنواع الصناعات وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي مرجعكم للجزاء.(9/242)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 4]
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفاياها، وما تنطوي عليه، وفيه تقرير لما قبله، كالدليل عليه، لأنه إذا علم السرائر، وخفيات الضمائر، لم يخف عليه خافية من جميع الكائنات.
قال الزمخشري: نبه بعلمه ما في السموات والأرض، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه، ولا عازب عنه فحقه أن ينقى ويحذر، ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم، في معنى تكرير الوعيد. وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ كما ترى، في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصي الخالق، ولا تشكر نعمته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي معشر الكفرة الفجرة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ من عذاب الاستئصال. و (الوبال) الثقل، والشدة المترتبة على أمر من الأمور، وأَمْرِهِمْ كفرهم، عبر عنه بذلك، للإيذان بأنه أمر هائل، وجناية عظيمة وَلَهُمْ أي في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا، وما أعد لهم من عذاب الأخرى، بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة والأعلام، على حقيقة ما يدعونهم إليه، فنبذوها، واتبعوا أهواءهم، واستهزءوا برسلهم، وقالوا: أبشر يهدوننا؟
قال ابن جرير: استكبارا منهم أن تكون رسل الله إليهم بشرا مثلهم، واستكبارا عن اتباع الحق من أجل أن بشرا مثلهم دعاهم إليه. وجمع الخبر عن البشر فقيل يَهْدُونَنا، ولم يقل (يهدينا) ، لأن (البشر) وإن كان في لفظ الواحد، فإنه بمعنى الجميع. انتهى.(9/243)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
وقال القاشاني: لما حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس، ولم يجدوا منه إلا البشرية، أنكروا هدايته، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه، فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري، ولا يعرف الكمال إلا الكامل، ولهذا قيل: لا يعرف الله إلا الله، وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالّا لما أمكن به التوجه نحوه، وكذا كل مصدق بشيء، فإنه واجد للمعنى المصدق به، بما في نفسه من ذلك المعنى. فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا، لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه، ولم يعرفوا من الحق شيئا، فيحدث فيهم طلب، فيحتاجوا إلى الهداية، فأنكروا الهداية.
فَكَفَرُوا أي: بالحق والدين والرسول وَتَوَلَّوْا أي عن التدبر في الآيات البينات، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهم لما فعل ذلك. ف (استغنى) معطوف على ما قبله، وجوز جعله حالا بتقدير (قد) . أي: وقد استغنى بكماله، عرفوا أو لم يعرفوا.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ أي: بذاته عن العالمين، فضلا عن إيمانهم، لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له. حَمِيدٌ أي: يحمده كل مخلوق، أو مستحق للحمد بنفسه، وإن لم يحمده حامد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 7]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ أي من قبوركم ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي في الدنيا وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي هين لقبول المادة، وثبوت القدرة الكاملة.
قال ابن كثير: وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عزّ وجلّ، على وقوع المعاد ووجوده. فالأولى في يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ، قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53] ، والثانية في سبأ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] . والثالثة هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 8]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله وحده وبرسوله(9/244)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
فيما يخبركم به من البعث والجزاء وغيره وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن الحكيم.
والالتفات إلى نور العظمة، لإبراز كمال العناية بأمر الإنزال وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 9]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف ل لَتُنَبَّؤُنَّ أو ل خَبِيرٌ لما فيه من معنى الوعيد.
كأنه قيل: والله مجازيكم يوم يجمعكم، أو مفعول ل (اذكر) لِيَوْمِ الْجَمْعِ أي ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون. أي لأجل ما فيه من الحساب والجزاء ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قال الزمخشري: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن، انتهى.
ومما حسن إطلاق التغابن على ما ذكر، ورود البيع والاشتراء في حق الفريقين. فذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، واشتروا الضلالة بالهدى، وذكر أنهم ما ربحت تجارتهم، فكأنهم غبنوا أنفسهم. ودل المؤمنين على تجارة رابحة فقال هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. [الصف: 10] الآية. وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة. فخسرت صفقة الكفار، وربحت صفقة المؤمنين.
وقال القاشاني: أي ليس التغابن في الأمور الدنيوية، فإنها أمور فانية سريعة الزوال، ضرورية الفناء، لا يبقى شيء منها لأحد، فإن فات شيء من ذلك، أو أفاته أحد، ولو كان حياته، فإنما فات أو أفيت ما لزم فواته ضرورة، فلا غبن ولا حيف حقيقة، وإنما الغبن والتغابن في إفاتة شيء لو لم يفته لبقي دائما، وانتفع به صاحبه سرمدا، وهو النور الكمالي والاستعدادي، فتظهر الحسرة والتغابن هناك، في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة، كما قال: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] ، فمن أضاع استعداده ونور فطرته، كان مغبونا مطلقا، كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة. ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده، أو اكتسب منه شيئا، ولم يبلغ غايته، كان مغبونا بالنسبة(9/245)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
إلى الكامل التام، فكأنما ظفر بذلك الكامل بمقامه ومرامه، وبقي هذا متحيرا في نقصانه، انتهى. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 10 الى 11]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
أي بقدره ومشيئته، كقوله تعالى في آية الحديد ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ أي إلى العمل بمقتضى إيمانه، ويشرحه للازدياد من الطاعة والخبر. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي فيعلم مراتب إيمانكم، وسرائر قلوبكم. وأحوال أعمالكم وآفاتها، وخلوصها من الآفات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 12 الى 13]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي لما أرسل به، والله سبحانه ولي الانتقام ممن عصاه، وخالف أمره اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قال ابن كثير: الأول خبر عن التوحيد، ومعناه طلب.
أي وحدوا الإلهية له، وأخلصوها لديه، وتوكلوا عليه، كما قال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)(9/246)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ خطاب لمن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان له من أزواجهم وأولادهم من يعاديهم لإيمانهم، ويؤذيهم بسببه، فكان ذلك يغيظهم، وربما يحملهم على البطش بهم. فأمروا بالحذر من فتنتهم. وشركهم فحسب، وأن يظهروا فيهم بمظهر أولي الفضل. كما قال: وَإِنْ تَعْفُوا أي: عن ذنوبهم وَتَصْفَحُوا أي: بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا أي جناياتهم بالرحمة لهم، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يعاملكم بمثل ما عملتم.
روى ابن جرير عن إسماعيل بن أبي خالد قال: كان الرجل يسلم فيلومه أهله وبنوه، فنزلت الآية.
وعن ابن عباس قال: كان الرجل إذا أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تمنعه زوجته وولده، ولم يألوا يثبطونه عن ذلك، فقال الله: إنهم عدوّ لكم فاحذروهم واسمعوا وأطيعوا، وامضوا لشأنكم، فكان الرجل بعد ذلك إذا منع وثبط، مرّ بأهله وأقسم ليفعلن وليعاقبن أهله في ذلك، فقال الله جلّ ثناؤه: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 15]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي: تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما، إذا أوثرا على محبة الحق.
اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما.
روى ابن جرير عن الضحاك قال هذا في أناس من قبائل العرب. كان يسلم الرجل أو النفر من الحيّ. فيخرجون من عشائرهم، ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم عامدين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله أن لا يفارقوهم، ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرقّ ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
وعن مجاهد: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم، أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه به، فلذلك وعد في إيثار طاعة الله، وأداء حق الله في الأموال الأجر العظيم، وهو الجنة.(9/247)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : آية 16]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي جهدكم ووسعكم، أي ابذلوا فيها استطاعتكم، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أي افهموا هذه الأوامر واعملوا بها وَأَنْفِقُوا أي أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي وائتوا خيرا لأنفسكم. أي اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم. ف (خيرا) مفعول بمقدر، وهذا قول سيبويه، كقوله تعالى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171] ، وقيل: تقديره يكن الإنفاق خيرا، فهو خبر (يكن) مضمرا، وهو قول أبي عبيد. وقيل: مفعول ل أَنْفِقُوا وهو رأي ابن جرير. قال: أي وأنفقوا مالا من أموالكم لأنفسكم ستنقذوها من عذاب الله، والخير في هذا الموضع، المال وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي بالعصمة منه فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي المنجحون الذين أدركوا طلباتهم عند ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التغابن (64) : الآيات 17 الى 18]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بالإنفاق في سبيله، ما تحبون من غير منّ ولا أذى. قال الزمخشري: ذكر (القرض) تلطف في الاستدعاء يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي يضاعف جزاءه وخلفه وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ذنوبكم بالصفح عنها وَاللَّهُ شَكُورٌ أي ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا حَلِيمٌ أي عن أهل معاصيه، بترك معاجلتهم بعقوبته. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ما يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه الْعَزِيزُ أي الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه الْحَكِيمُ أي في تدبيره خلقه، وصرفه إياهم فيما يصلحهم.(9/248)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطلاق
قال المهايمي: سميت به لبيانها كيفية الطلاق السني، وما يترتب على الطلاق من العدة والنفقة والسكنى.
وتسمّى سورة النساء القصرى. مدنية. وآيها اثنتا عشرة:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي في وقتها. وهو الطّهر.
فاللام للتأقيت.
قال الناصر: جعلت العدة، وإن كان في الأصل مصدرا. ظرفا للطلاق المأمور به. وكثيرا ما تستعمل العرب المصارد ظرفا، مثل خفوق النجم، ومقدم الحاج. وإذا كانت العدة ظرفا للطلاق المأمور به، وزمانه هو الطهر، فلطهر عدة إذا.
قال ابن جرير: أي إذا طلقتم نساءكم فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهرا من غير جماع. ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن.
ثم روي عن قتادة قال: العدة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، تطليقة واحدة.
قال ابن كثير: ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنّة، وطلاق بدعة. فطلاق السّنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا(9/249)
يدري أحملت أم لا. وطلاق ثالث لا سنّة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة، وغير المدخول بها، وسيأتي في التنبيهات زيادة على هذا.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أي: اتقوه في تعدي حدوده في المطلقات، فلا تخرجوهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق، غضبا عليهن، وكراهة لمساكنتهن، لأن لهن حق السكنى، حتى تنقضي عدتهن.
وَلا يَخْرُجْنَ أي: باستبدادهن من تلقاء أنفسهن.
قال الناصر: قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ توطئة لقوله لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ حتى كأنه نهي عن الإخراج مرتين: مندرجا في العموم، ومفردا بالخصوص.
وقد تقدمت أمثاله.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي: فإنهن يخرجن. و (الفاحشة) الزنا، أو أن تبذو المطلقة على أهلها، أو هي كل أمر قبيح تعدّي فيه حده، فيدخل فيه الزنا والسرقة والبذاء على الأحماء ونحوها، والأخير مختار ابن جرير، وقوفا مع عموم اللفظ الكريم.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: بتعريضها للعقاب بما أكسبها من الوزر. أو أضرّ بها بما اكتسب من قوة النفار، وشدة البغضة التي قد تتفاقم فتعسر الرجعة، مع أن الأولى تخفيف الشنآن، وتلافي الهجران- وهو الأظهر- ولذا قال سبحانه: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية.
قال أبو السعود: وقد قالوا إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى، أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه، فلا بد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوى يلحقه بسبب تعديه، ولا يمكن تداركه. أو عن مطلق الضرر الشامل الدنيوي والأخروي. ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد، واهتمامهم بدفعه أقوى.
وقوله تعالى: لا تَدْرِي خطاب للمتعدي بطريق الالتفات، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي، لا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، كما توهم فالمعنى: ومن يتعد حدود الله فقد أضرّ بنفسه، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر، لعل الله يحدث في قلبك، بعد ذلك الذي فعلت من التعدي، أمرا يقتضي خلاف ما فعلته، فيبدل ببغضها محبة، وبالإعراض عنها إقبالا إليها، ويتسنى تلافيه رجعة، أو استئناف نكاح. انتهى.
تنبيهات:
الأول-
قال في (الإكليل) : فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: لِعِدَّتِهِنَّ بأن تطلق(9/250)
في طهر لم يجامع فيه- أخرجه البخاري ومسلم «1»
-
وفي لفظ مسلم «2»
أنه قرأ (فطلّقوهنّ في قبل عدتهن)
فاستدل الفقهاء بذلك على أن طلاق السنة ما ذكر، وأن الطلاق في الحيض أو طهر جومعت فيه بدعي حرام. واستدل قوم بالآية على عدم وقوعه في الحيض الثاني- في (الإكليل) : في قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وجوب السكنى لها مادامت في العدة، وتحريم إخراجها او خروجها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كسوء الخلق، والبذاءة على أحمائها. فتنتقل.
الثالث- في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً من لم يوجب السكنى بغير الرجعة. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن وعكرمة قال:
المطلقة ثلاثا، والمتوفى عنها، لا سكنى لها ولا نفقة، لقوله: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فما يحدث بعد الثلاث.
الرابع- قال ابن المنذر: أباح الله الطلاق بطليعة هذه السورة: انتهى.
وذلك- كما قال بعض الحكماء- إذا استحال الوفاق بين الزوجين، ولم يبق في الإمكان إصلاح، وصمم الزوج عليه، لأن وجود شخصين متنافري الطباع، متباغضين، لا ينظر أحدهما إلى الآخر إلا ويحسّ في نفسه بالنفور، وفي قلبه بالعداوة، يسعى كل منهما في أذى صاحبه- شرّ وفساد يجب محوه وقطعه. انتهى.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : إن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق، لما فيه من كسر الزوجة، وموافقة رضا عدوّه إبليس، حيث يفرح بمفارقة طاعة الله بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق وكان مع ذلك يحتاج إليه الزوج أو الزوجة، وتكون المصلحة فيه شرعه على وجه يحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه، فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة، فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. فإن زال الشر بينهما، وحصلت الموافقة، كان له سبيل إلى لمّ الشعث، وإعادة الفراش كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها. فإن تبعتها نفسه
__________
(1) أخرجه البخاري في: الطلاق، 1- باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، حديث رقم 2060، عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث 1- 14. [.....]
(2) أخرجه مسلم في: الطلاق، حديث رقم 14.(9/251)
كان له سبيل إلى خطبتها، وتجديد العقد عليها برضاها. وإن لم تتبعها نفسه، تركها فنكحت من شاءت.
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار، فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء. فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه، عقوبة له، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره، فيحظى به دونه، أمسك عن الطلاق. انتهى.
ومباحث الطلاق وفروعه تجدر مراجعتها من (إغاثة اللهفان) و (زاد المعاد) لابن القيم، و (فتاوي ابن تيمية) شيخه. ومن لم يقف على ما حرراه وجاهدا في الصدع به، فاته علم غزير، وفرقان منير، وبالله التوفيق.
الخامس- استدل بهذه الآيات من قال: إن جمع الطلاق في دفعة واحدة غير مشروع. قال الإمام ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) : ووجه الاستدلال بالآية من وجوه:
أحدها- أنه تعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي لاستقبال عدتها، فيطلق طلاقا يتعقبه شروعها في العدة، ولهذا أمر عليه السلام عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، لما طلق امرأته، أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة، فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى، فلا تكون الثانية للعدة، فلا يكون مأذونا فيها، فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى، لأنها طلاق للعدة بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها، وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة، الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة (فطلقوهن في قبل عدتهن) قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق، قبل الرجعة، أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى.
فإرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا شرع الإرداف في الأطهار من لا يجوّز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه رادّها. ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس!(9/252)
وإن الله عز وجل قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، فما أجد لك مخرجا.
عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عدتهن. وهذا حديث صحيح «1» ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم، وهذا فهم من دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفقّهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.
الوجه الثاني: من الاستدلال بالآية قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ وهذا إنما هو في الطلاق الرجعيّ، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا يطعن في صحتها، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها، فدل على أن هذا حكم كلّ طلاق شرعه الله تعالى، ما لم تسبقه طلقتان قبله. ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال: يملك ذلك، لأن الرجعة حقه، وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة، وإن كان حقا له، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة، أو باستيفاء العدد، كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة، فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن، وهم الصحابة، أن الأمر هنا هو الرجعة. قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
الوجه الخامس- قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فهذا حكم كل طلاق شرعه، إلا أن يسبق بطلقتين قبله. وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عدتهن كما تقدم- وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طهر أو أطهار، قبل رجعة أو عقد- كما تقدم- لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة- فلأن تدل على تحريم الجمع، أولى وأحرى.
قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة، لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبه، وقد وقّت للعدة أجلا لاستدراك ألفاظه بالرجعة، فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها، لأنه وقت نفرته عنها، وعدم
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الطلاق، 10- باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، حديث رقم 2197.(9/253)
قدرته على استمتاعه بها، ولا عقيب جماعها، لأنه قد قضى غرضه منها، وربما فترت رغبته فيها، ويزهد في إمساكها لقضاء وطره، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا، مع ما في الطلاق من تطويل العدة، وعقيب الجماع من بعلها، لأنه ربما قد اشتمل رحمها على ولد منه، فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت، ثم طهرت، فنفسه تتوق إليها، لطول عهده بجماعة، فلا يقدم على طلاقها في هذه الحالة إلا لحاجة إليه. فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال، أو في حال استبانة حملها، لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق وقد أكد النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيه، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، إن بدا له أن يطلقها فيطلقها. وفي ذلك عدة حكم:
منها- أن الطهر المتصل بالحيضة، هو وهي حكم القرء الواحد، فإذا طلقها في ذلك الطهر، فكأنه طلقها في الحيضة، لاتصاله بها، وكونه معها، كالشيء الواحد.
الثانية- أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر، فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك ولمنفعة النكاح، وعود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق، فيكون كأنه راجع ليطلق. وإنما شرعت الرجعة ليمسك. وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلل تزوج ليطلق، فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه.
الثالثة- أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صلحت الحال بينهما، وأقلعت عما يدعوه إلى الطلاق، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج، وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا، بحيث لا يكون له سبيل إليها. وكيف يجتمع في حكمة الشارع، وحكمة هذا وهذا؟ فهذه الوجوه ونحوها مما بيّن بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع، هي بعينها تعيّن عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة.(9/254)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 2]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)
فَإِذا بَلَغْنَ أي: المطلقات اللواتي في عدة أَجَلَهُنَّ يعني آخر العدة. أي:
إذا قرب انقضاؤه وشارفنه فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي. فراجعوهن بما أمركم الله به من الحقوق التي أوجبها الله لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي: اتركوهن حتى تنقضي عددهن فتبين منكم بمعروف، وهو إيفاؤهن ما لهن من حق، كالصداق والمتعة، على ما أوجب عليه لهن.
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: أشهدوا عند الرجعة والفرقة من يرضي دينهما وأمانتهما.
قال ابن عباس: فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين. وإن لم يراجعها، فإذا انقضت عدتها، فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.
وهذا الإشهاد على المراجعة والطلاق مندوب، ومنهم من ذهب إلى وجوبه عليهما، ومنهم من فرق بين المراجعة فأوجبه فيها، وبين الطلاق فاستحبه. وظاهر الأمر في الآية الوجوب فيهما، والترجيح يجب أن يكون بدليل مرجح. ومما يؤيد الوجوب أن الأوامر في الآية كلها، قبل وبعد، للوجوب إجماعا، ولا دليل يصرف الأمر بالإشهاد عن ظاهره، فبقي كسابقه ولا حقه، وإن كان القران لا يفيد المشاركة في الحكم، إلا أنه عاضد ومؤيد، إذا لم يوجد صارف. ثم الأمر بالإشهاد عند الطلاق، يدل على أن الحلف بالطلاق، أو تعليق وقوعه بأمر، كله مما لا يعدّ طلاقا في الشرع، لأن ما طلب فيه الإشهاد، لا بد أن ينوي فيه إيقاعه ويعزم عليه ويتهيأ له. وجدير بعصمة ينوي حلها، وكانت معقودة أوثق عقد، أن يشهد عليه، بعد أن يسبقها مراجعة من حكمين من قبل الزوجين، كما أشارت إليه آية الحكم. فليتدبر الطلاق المشروع، والطلاق المبتدع، وبالله التوفيق.
قال الزمخشريّ: قيل فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.(9/255)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي: لوجهه خالصا، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له، ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض، سوى إقامة الحق، ودفع الظلم، كقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] . انتهى.
وتدل الآية على حظر أخذ الأجرة على أداء الشهادة، ويؤيده قوله تعالى:
ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المشار إليه هو الحث على إقامة الشهادة لوجه الله، ولأجل القيام بالقسط، ويحتمل عوده على جميع ما في الآية.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 3]
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال الزمخشريّ: يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقه الأحسن، والأبعد من الندم. ويكون المعنى: ومن يتق الله فطلّق للسنّة، ولم يضارّ المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم، والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس، ويعطه الخلاص، ويرزقه من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه، إن أوفى المهر وأدّى الحقوق والنفقات، وقلّ ماله. ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ يعني: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن الفرس: قال أكثر المفسرين: معنى الآية في الطلاق أي: من لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث يجعل له مخرجا إن ندم في الرجعة. قال: وهذا يستدل به على تحريم جمع الثلاث وأنها إذا جمعت وقعت- نقله في (الإكليل) .
وقال ابن القيم في (الإغاثة) : اعلم أنه من اتقى الله في طلاقه، فطلّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له، أغناه عن الحيل كلها. ولهذا قال تعالى، بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي(9/256)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
عدتها، فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها. وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر. وإن لم يكن له غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل.
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا.
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلّقت امرأتي ألفا.
فقال: أما ثلاث، فتحرم عليك امرأتك، وبقيّتهن وزر، اتخذت آيات الله هزؤا.
قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه رادّها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك- ذكره أبو داود «1» - والبحث طويل الذيل لا يستغنى عن مراجعته.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي من يتوكل على ما شرعه، ويفوّض أمره إلى ما جعله المخرج، لأنه لا دواء أنجع منه إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قرئ بالإضافة، أي يبلغ ما أراد من أمره، فمن تيقن فوض أمره إليه، وعول عليه. وقرئ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي تام وكامل أمره وحكمه وشرعه، لما فيه من الحكم والرحمة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي حدّا وتقديرا، حسبما تقتضيه الحكمة. ومنه تقديره ما قدر في أمر الطلاق، مما بينه في شأنه وتوقيته، معرفة المخرج منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 4]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي أشكل عليكم حكمهن، أو شككتم في الدم الذي يظهر منهن لكبرهن، أمن الحيض أو هو من الاستحاضة؟
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي من الجواري لصغرهن إذا طلقهن أزواجهن
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الطلاق، 10- باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، حديث رقم 2197.(9/257)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
بعد الدخول، فعدتهن ثلاثة أشهر. فحذف لدلالة المذكور عليه وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ في انقضاء عددهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي ما في بطنهن. والآية عامة في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن.
ويروى عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهما أن الآية خاصة في المطلقات.
وأما المتوفى عنها فعدتها آخر الأجلين.
قال ابن جرير: والصواب أنه عام في جميع أولات الأحمال، لأنه تعالى عمّ القول بذلك، ولم يخصص الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها.
فإن قيل: إن سياق الخبر في أحكام المطلقات. يجاب: بأن نظمها خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال، المطلقات وغير المطلقات.
وفي الصحيحين «1» عن أم سلمة أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان أبو السنابل فيمن خطبها.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي فلم يخالف إذنه في طلاق امرأته يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وهو تسهيل الرجعة ما دامت في عدتها، والقدرة على خطبتها، إن انقضت ودعته نفسه إليها بسبب التقوى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 5]
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
ذلِكَ أي ما ذكر من حكم الطلاق والرجعة والعدة أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي لتأتمروا له وتعملوا به. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي بالمضاعفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 6]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ أي من سعتكم التي تجدون،
__________
(1) أخرجه البخاري في: الطلاق، 39- باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، حديث رقم 2061. وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث رقم 57.(9/258)
وطاقتكم ومقدرتكم وَلا تُضآرُّوهُنَّ أي لا تستعملوا معهن الضرار لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ أي في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية وجوب السكنى للمطلقات كلهن، وللبوائن، لتقدم سكنى الرجعيات، ولقوله بعده وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ فإنه خاص بالبوائن. وفيه أن الإسكان يعتبر بحال الزوج، وتحريم المضارة بها، وإلجائها إلى الخروج. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال ابن جرير أي وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل، وكن بائنات منكم، فأنفقوا عليهن في عدتهن منكم حتى يضعن حملهن.
فعن ابن عباس في الآية قال: هذه المرأة يطلقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت فحتى تفطم، وإن أبان طلاقها، وليس بها حبل، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها، ولا نفقة.
وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة: 233] . فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون عنى بقوله: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ كل مطلقة، ملك زوجها رجعتها أو لم يملك. وممن قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
فعن إبراهيم قال: كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا، السكنى والنفقة والمتعة. وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في غير بيت زوجها.
قال: ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة.
ثم قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوتة إلا أن تكون حاملا، لأن الله جل ثناؤه جعل النفقة بقوله: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ للحوامل دون غيرهن من البائنات من أزواجهن، ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب لهن من النفقة على أزواجهن سواء، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم، إذ هن وغيرهن في ذلك سواء.(9/259)
وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهن أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن، إلا أن تكون حاملا، وبالذي قلنا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس. أن أبا عمرو المخزوميّ طلقها ثلاثا، فأمر لها بنفقة فاستقلتها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن. فانطلق خالد بن الوليد في نفر من بني مخزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند ميمونة، فقال: يا رسول الله! إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لها نفقة، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انتقلي إلى بيت أم شريك، وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانتقلي إلى ابن مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد.
انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : لا يخفى على المتأمل لهذه الآي أن المبتوتة غير الحامل، لا نفقة لها، لأن الآي سيقت لبيان الواجب، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها، ولم يوجب سواها. ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن، وليس بعد هذا البيان بيان. والقول بعد ذلك بوجوب النفقة لكل معتدة مبتوتة، حاملا أو غير حامل، لا يخفى منافرته لنظم الآية.
والزمخشريّ نصر مذهب أبي حنيفة فقال: فائدة تخصيص الحوامل بالذكر أن الحمل ربما طال أمده، فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله فحصت بالذكر تنبيها على قطع هذا الوهم. وغرض الزمخشريّ بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل، لأن أبا حنيفة يسوي بين الجميع في وجوب النفقة. انتهى.
وفي (الإكليل) : في الآية وجوب الإنفاق على البائن الحامل حتى تنقضي عدتها. ومفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها. واستدل بعموم الآية من أوجبها للحامل المتوفى عنها. انتهى.
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ يعني: نساءكم البوائن منكم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: على رضاعهن وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليقبل بعضكم من بعض ما أمر به من معروف، يعني: المجاملة والمسامحة في الإرضاع والأجر. والخطاب للآباء والأمهات.(9/260)
تنبيه:
في (الإكليل) : فيها أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجرة مثل، وجب على الأب دفعها إليها، وليس له أن يسترضع غيرها. وفيه دليل على أن الأم أولى بالحضانة.
قال إلكيا: وفيه دلالة على أن الأجرة إما تستحق بالفراغ من العمل. انتهى.
وفي قوله: بِمَعْرُوفٍ طلب أن لا يماكس الأب، ولا تعاسر الأم، لأنه ولدهما معا، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليهن. قال الزمخشريّ-.
وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي ضيّق بعضكم على الآخر بالمشاحّة في الأجرة، أو طلب الزيادة ونحوه، فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى قال ابن جرير: أي فلا سبيل له عليها، وليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه.
وقال الزمخشريّ: أي فستوجد، ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه. وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك. تريد: لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. انتهى.
قال الناصر: وخص الأم بالمعاتبة، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو غير متموّل ولا مضنون به في العرف، وخصوصا في الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذا، أجدى باللوم، وأحق بالعتب. انتهى.
وفيه أيضا إشارة إلى معاتبة الأب أيضا، كما حققه بعضهم، وذلك أن الأب لما أسقط عن درجة الخطاب، وبين أن معاسرته لا تجدي، إذ لا بد مرضعة أخرى بأجر، وهذه أشفق منها، كان في حكم المعاتب المذكور في الجواب. وبه يندفع ما يقال: إن المعاسرة فعل الأب والأم، فكيف يخص الأم بالذكر في الجزاء. وحاصله أنهما مذكوران فيه، إلا أن الأم مصرح بها، والأب مرموز إليه. وتقدير ابن جرير يشير إليه أيضا.
تنبيه:
في (الإكليل) : تدل على أن الأم لا تجبر على الرضاع حيث وجد غيرها، وقبل الصبي ثديها، وإلا أجبرت عليه.
قال ابن العربيّ: والآية أصل في وجوب نفقة الولد على الأب، خلافا لمن أوجبها عليهما معا.(9/261)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 7]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها، وعلى ولده الصغير وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي ضيق عليه فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي على قدر ماله وطاقته لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها يعني: وسعها وطاقتها، فلا يكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحدا إلا فرضه الذي وجب عليه سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي سيؤتي المقلّ بعد ضيق فرجا، وبعد فقر غنى، تسلية للمعسرين من فقراء الأزواج، وتصبير لمطلقاتهن، وتطييب لقلوب الجميع، وتبشّر عام.
تنبيه:
في (الإكليل) : فيه أن النفقة يراعى فيها حال المنفق يسارا وإعسارا، وإن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر، لا حال المنفق عليه، واستدل بقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها من قال: لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة. وفي الآية استحباب مراعاة الإنسان نفسه في النفقة والصدقة. ففي الحديث: إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا: إذا هو وسع عليه وسع، وإذا هو قتر عليه قتر.
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبي عبيدة فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول:
انظر ماذا يصنع إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره، فقال رحمه الله: تأول هذه الآية لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ.
ثم حذر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده فيما شرعه، عناية بما مرّ من الأحكام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 9]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)(9/262)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها أي أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد، وَرُسُلِهِ أي وعن أمر رسله كذلك فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي على ما قدمت، فلم نغادر لها منه شيئا وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي عاقبة ما اكتسبت وجزاءه وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً قال ابن جرير: أي غبنا، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 10]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يعني عذاب النار المعدّ في القيامة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه يا أُولِي الْأَلْبابِ أي العقول الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا الله ورسله. نعت للمنادى، أو عطف بيان له قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 11]
رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
رَسُولًا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة، لذلك أبدل منه يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ أي لمن سمعها وتدبرها أنها حق من عند الله لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الضلال إلى الهدى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً أي طيبه، وفيه تعجيب له وتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي: المعبود المستحق للعبادة، من هذا خلقه. لا ما يشرك معه. وهاهنا.(9/263)
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. انتهى.
قال بعض علماء الفلك: أما كون الأرضين سبعا كالسماوات، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال أن كون الأرضين سبعا، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء، ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعا- أي أرضين- ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع، مرارا عديدة وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالافراد. نعم! ورد فيه قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع. وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقا.
قال: ولنا في تفسيرها وجهان:
أما أن تكون مِنَ في قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ زائدة، وإما أن تكون غير زائدة.
أما على الوجه الأول: فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي: أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وذلك من دلائل صدق القرآن. والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة. وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] . أي شيئا واحدا فَفَتَقْناهُما أي فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السموات تماما.
وأما على الوجه الثاني: وهو أن مِنَ غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضا مثلهن، فالآية واردة على طريقة(9/264)
التجريد، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم. أي مثلهم في الصداقة. أو التقدير: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها. وعليه، فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى.
الثانية- ذكر ابن الأثير في (المثل السائر) في النوع السادس، في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه، ما مثاله:
وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفردا، ولم يرد مجموعا، كلفظة الأرض، فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة. فإذا ذكرت السماء مجموعة. جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن. ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.
انتهى.
الثالثة- قرئ مِثْلَهُنَّ بالنصب، عطفا على (سبع) وبالرفع على الابتداء، وخبره مِنَ الْأَرْضِ.
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله وحكمه بينهن، وملكه ينفذ فيهن.
وقوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً علة ل (خلق) أو ل (يتنزل) أو لمضمر يعمهما، كفعل ما فعل لتعلموا ... إلخ، فإن كلّا منها يدل على كمال قدرته وعلمه.
قال ابن جرير: أي فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم، عقوبته، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع. وهو على ذلك قادر ومحيط أيضا بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها، يوم تجزى كل نفس ما كسبت.(9/265)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التحريم
مدنية، وآيها اثنتا عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال المهايميّ: ناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن.
وعبّر عنه بالمبهم إشعارا منه بأنه من غاية عظمته، بحيث لا يعلم كنهه. وأتى بلفظ النَّبِيُّ إشعارا بأنه الذي نبي بأسرار التحليل والتحريم الإلهيّ. والمراد بتحريمه ما أحلّ له، امتناعه منه، وحظره إيّاه على نفسه. وهذا المقدار مباح، ليس في ارتكابه جناح. وإنما قيل له لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى نبيّه، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه، ومن أجله خلقوا، ليظهر الله كمال نبوّته، بظهور نقصانهم عنه- كما أفاده الناصر-.
تنبيهان:
الأول- للأثريين في هذا الذي حرمه، صلوات الله عليه، على نفسه، روايات.
فروى البخاريّ ومسلم «1» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة التحريم، 1- باب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، حديث رقم 2063. وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث رقم 20.(9/266)
فقالت ذلك له فقال: بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت! لا تخبري بذلك أحدا، فنزلت الآية.
وروى الشيخان «1» أيضا عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: والله لنحتالنّ له! فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك، ودنا منك، فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا! فقولي له: وما هذه الريح؟ وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه! فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت نحله العرفط، حتى صار فيه- أي في العسل- ذلك الريح الكريه. وإذا دخل عليّ فسأقول له ذلك. وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت له مثل ما علمتها عائشة، وأجابها بما تقدم. فلما دخل على صفية، قالت له مثل ذلك. فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك. فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له: يا رسول الله! ألا أسقيك منه؟ قال. لا حاجة لي به؟ قالت: إن سودة تقول: سبحان الله، لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي؟
و (المغافير) صمغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له (العرفط) بضم العين المهملة والفاء.
وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب.
والاشتباه في الاسم لا يضر، بعد ثبوت أصل القصة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين، وكانتا زوجتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه! قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه عليّ حرام، رضا لك. وكانت حفصة وعائشة
__________
(1) أخرجه البخاري في: الطلاق، 8- باب لم تحرم ما أحل الله لك، حديث رقم 2063.
وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث رقم 21.(9/267)
تظاهران على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم. فانطلقت حفصة إلى عائشة. فأسرت إليها أن أبشري، إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه فتاته. فلما أخبرت بسر النبيّ صلى الله عليه وسلم، أظهر الله عز وجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... الآيات.
وروي أيضا عن الضحاك قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي عليّ، ولا تذكري لعائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته.
وروى النسائي عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية.
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية، على عادته في أمثالها، ولذا قال: الصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، غير أنه، أي ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه. انتهى.
والذي يظهر لي، هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه:
منها- أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات، ويهتم به لهنّ.
ومنها- أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها. إلا أن يكنّ عاتبنه في ذلك، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك، فحرمه.
ولكن ليس في الرواية ما يشعر به. وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة.
ومنها- أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة، لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك، بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمرا عظيما دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية،(9/268)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية. هذا ما ظهر لي الآن.
وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مرارا. وكأنه عليه السلام كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر الرواة بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه- والله أعلم-.
الثاني- في (الإكليل) : استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاما أو زوجة، لم تحرم عليه، وتلزمه كفارة يمين.
وروى البخاريّ «1» عن ابن عباس قال: في الحرام يكفّر. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين، ورد كون التحريم بمجرده يمينا، وفيه نظر، لأن اليمن في عرفهم أعم من القسم بالله، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم.
قال قتادة: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمها، يعني جاريته، فكانت يمينا- رواه ابن جرير
- وسيأتي ما يؤيده. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 2]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي: شرع تحليلها- وهو حل ما عقدته- بالكفارة،. والتحلة، مصدر بمعنى التحليل. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: متولي أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ أي بمصالحكم الْحَكِيمُ أي: في تدبيره إياكم بما شرعه وحكم به.
تنبيهات:
الأول- قال ابن قدامة في (الروضة) . دلت الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به، لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقيبه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم تمّمه بلفظ الجمع بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ. والمسألة طويلة الذيل في الأصول.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، سورة التحريم، 1- باب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، حديث 2072. وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث رقم 18.(9/269)
الثاني- قال تقيّ الدين ابن تيمية: التحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة، كما يقال: كرمته تكريما وتكرمه، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه، الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر، فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين، وهو حلها الذي هو خلاف العقد.
ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز، بهذه الآية على التكفير قبل الحنث، لأن التحلة لا تكون بعد الحنث، فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين، وإنا هي بعد الحنث كفارة، لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله. فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين وجوب الوفاء بها، رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار.
الثالث- شمل قوله تعالى: أَيْمانِكُمْ تحريم الحلال المذكور قبل، وهو الزوجة، لدخوله فيه دخولا أوليّا، بل كل يمين.
قال تقيّ الدين ابن تيمية في فتاويه: قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون، أن الله قد فرض لها تحلة.
وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة، بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى: فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة، لكان مخالفا للآية. كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة، لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا، مع عمومه اللفظي؟ فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة. وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق، أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب: فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس، أو ليقطعن رحمه، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه، أن يبرّ ويصلح بين الناس، أكثر مما يجعل الله عرضة، ثم إن وفي بيمينه، كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته، ففي الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا ما لا خفاء به. وأيضا فإنه تعالى قال: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله، إلا والله غفور لفاعله، رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم. لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير، لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك، والله غفور رحيم، فلو كان الحالف(9/270)
بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل.
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم
حديث «1» : من حلف فقال إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك، فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله
. وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهما في مسألة نذر اللجاج والغضب. فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية، وجعلوا قوله تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر.
ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما، سواء.
فإذا قيل: المراد بالآية اليمين بالله فقط، فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 89] ، وتَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم، وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعلم من اللفظ إلا المعروف عندهم، والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم. ولو كان اللفظ عامّا، فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة، كاليمين بالمخلوقات، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه، لأنه ليس من اليمين المشروعة
لقوله «2» : (من كان حالفا فليحلف بالله وإلّا فليصمت)
وهذا سؤال من يقول: كل يمين غير مشروعة، فلا كفارة لها ولا حنث.
فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله، بدليل استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله.
كقوله صلى الله عليه وسلم: النذر حلف
. وقوله الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق: كفر يمينك. وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولإدخال العلماء ذلك في
قوله صلى الله عليه وسلم «3» : من حلف فقال إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك
. ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس.
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الأيمان والنذور، 9- باب الاستثناء في اليمين، حديث رقم 3262، عن ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري في: الأدب، 74- باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلا، حديث رقم 1298، عن ابن عمر.
(3) أخرجه أبو داود في: الأيمان والنذور، 9- باب الاستثناء في اليمين، حديث رقم 3262، عن ابن عمر.(9/271)
وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل، وإما تحريمه مارية القبطية. وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية، وليس يمينا بالله، لهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم.
أن تحريم الحلال يمين مكفرة، إما كفارة كبرى كالظهار، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله. وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا.
وأيضا فإن قوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام. وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها. وإما لم تحرمه مطلقا، فإن أريد الأول والثالث، فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى، ثم فيعم، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله، فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال. ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية. لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل، فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيّا، لا شرعيّا. فكلّ يوجب امتناعه من الفعل، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ وحينئذ فقوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال، لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلا بد أن يطابق صوره، لأن تحريم الحلال هو سبب قوله:
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وسبب الجواب إذا كان عامّا كان الجواب عامّا، لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض، مع قيام السبب المقتضي للتعميم.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها. فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله:
لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان، إما مختصا به، وإما شاملا له ولغيره، فلا يجوز أن يخلي سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة، ويتعلق بغيره، وهذا ظاهر الامتناع.
وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم، كالمنع منه باليمين، بل أقوى. فإن اليمين، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع حلالا فحرمه المكلف، كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه.
ونحن نقول: لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم، ولا التحريم هتك حرمة الشرع، كما يقوله من يقوله من الفقهاء، وهو تعليل فاسد جدّا، فإن الحنث إما جائز، وإما واجب، أو مستحب. وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة.(9/272)
وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» أنه إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه، وأتى المحلوف عليه. ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى، لم يبح في شريعة قط، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى، تحلة. وهي تفعلة من (الحل) ، فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا. وهذا العقد، كما يكون باليمين، يكون بالتحريم. وظهر سر قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، عقيب قوله:
لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
وقال رحمه الله فيه، قبل: أما من قال إنه يمين مكفرة بكل حال، فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين يكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ... الآية. ولا بد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض، لأنه سببه، وتخصيص محل السبب من جملة العامّ، ممتنع قطعا، إذ هو المقصود بالبيان أولا، فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان، وهو ممتنع. وهذا استدلال في غاية القوة. فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: نعم! التحريم يمين كبرى في الزوجة، كفارتها كفارة الظهار، ويمين صغرى فيما عداها، كفارتها كفارة اليمين بالله. قال وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم: إن التحريم يمين يكفّر.
وقال رحمه الله في (أعلام الموقعين) : لا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين حرمه لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد، ولا هي من لغو اليمين، وهي يمين منعقدة، ففيها كفارة يمين.
ثم قال في المذهب الثالث عشر: إنه يمين يكفره ما كفر اليمين على كل حال. صح ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيّب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور، وخلق سواهم رضي الله عنهم. وحجة هذا القول.
ظاهر القرآن، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الأيمان والنذور، 18- باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب، حديث 1476، عن أبي موسى الأشعري. ونصه: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين، فوافقته وهو غضبان فاستحملناه. فحلف أن لا يحملنا. ثم قال: والله! إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها.(9/273)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
وقال في (زاد المعاد) : لا فرق بين التحريم (في غير الزوجة) بين الأمة وغيرها عند الجمهور، إلا الشافعي وحده، فإنه أوجب في تحريم الأمة خاصة، كفّارة اليمين، إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده، دون غيرها: وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية، فلا يخرج محل السبب عن الحكم، ويتعلق بغيره. ومنازعوه يقولون: النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعمّ من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفار حيث وجد سببها. وقد تقدّم تحريره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 3]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ هي حفصة في قول الرواة: ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك- كما نقله ابن جرير- حَدِيثاً وهو تحريم فتاته في قولهم. قال ابن جرير: أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحلّه له، وقوله: لا تذكري ذلك لأحد.
فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت بالسرّ، صاحبتها كما تقدم، وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلعه على تحديثها به، عَرَّفَ بَعْضَهُ أي عرّفها بعض ما أفشته معاتبا وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي بعض الحديث تكرّما، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أي الذي لا تخفى عليه خافية.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمانه. وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات، والتلطّف في العتب، والإعراض عن استقصاء الذّنب.
وحكى الزمخشريّ عن سفيان قال: ما زال التغافل من فعل الكرام.
ثم أشار تعالى إلى غضبه لنبيّه، صلوات الله عليه، مما أتت به من إفشاء السرّ إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، بقوله سبحانه:(9/274)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 4]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي إلى الحق. وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله. وقد صح عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عائشة وحفصة.
وفي خطابهما، على الالتفات من الغيب إلى الخطاب، مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مصرودا بعيدا عن ساحة الحضور. ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تتظاهرا وتتفقا على ما يسوؤه، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم، ختم الظهراء بهم ليكون أفخم في التنويه بالنبيّ صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار، يملأ القفار، يتأثر أميره وقائده، ليحمل على عدوّه ومناوئه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 5]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ أي خاضعات لله بالطاعة مُؤْمِناتٍ أي مصدّقات بالله ورسوله قانِتاتٍ أي مطيعات لما يؤمرن به تائِباتٍ أي من الذنوب لا يصررن عليها عابِداتٍ أي متعبّدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن، حتى صارت ملكة لهن سائِحاتٍ قيل: معناه صائمات- وسننبه على ما فيه- ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً.
اعلم أن في توصيف المبدلات بهذه الصفات، تعريضا بوجوب اتصاف الأزواج بها، لا سيما أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من (سائحات) صائمات أو مهاجرات.
وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير (السائحون) أن الحق فيه هو المعنى الحقيقيّ،(9/275)
لعدم ما يمنع منه، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين: إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء، كما هي كذلك للرجال، فمعنى قوله تعالى سائِحاتٍ مسافرات، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة. وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم لهن، حفظا لهن.
ثم قال: كأن الذي دعا البعض لتفسير (السائحات) بالصائمات، أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد؟! وأما قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] ، فكأنه مخصوص بالرجل، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا، بل للنصف منها، وهو الرجال. وحاشا أن يكون ذلك! أين هديه صلى الله عليه وسلم في سفره مع أزواجه؟ فقد كان يقرع بينهن، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها، وسافرت معه. وقد صار ذلك شريعة معمولا بها في الدين. وهكذا صح «1» أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم بصفية أردفها خلفه وهو مع الركب.
وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة، بل إلى عدة غايات وفوائد:
أولا- إدراك المعقولات، والإحاطة بعظات المسموعات، كما نتعلمه من آية أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
ثانيا- الوقوف على أحوال الأمم البائدة، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ [غافر: 21] ، وقوله:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 104- باب قول الرجل جعلني الله فداك، حديث رقم 246، عن أنس بن مالك.(9/276)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9] .
ثالثا- البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون، وفي الفنون، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:
20] .
رابعا- الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] .
فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى، حتى يكون السير خاصّا بالرجل؟ كلا! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ، وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ: 18] . وامتن على جميع عباده بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس: 22] ، وقال تعالى مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 96] ، فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء؟ كلا! بل الكل مغمور بهذه المنّات، كما هو مقتضى عموم الآيات. انتهى ملخصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي سببها. وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل، وأخذهن بما تأخذون به أنفسكم وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي تتّقد بهما اتقاد غيرها بالحطب عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي تلي أمرها وتعذيب أهلها، زبانية غِلاظٌ شِدادٌ أي جفاة قساة لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قال الزمخشريّ. وليست الجملتان في معنى واحد. فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. انتهى.
وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية لأنهم لا يفعلون شيئا ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27] ، فإن(9/277)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
استمرارهم على فعل ما يؤمرون به يفيده، فلا تكرار. وقيل: إنه من الطرد والعكس، وهو يكون في كلامين، يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر، وبالعكس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. فالمراد ب (اليوم) وقت دخولهم إياها. فتعريفه للعهد، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم، أو العذر لا ينفعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي توبة ترقع الخروق، وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد، وتسد الخلل. من (النصح) بمعنى الخياطة. أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب عنه، والنظر إليه بعدم الالتفات، وقطع النظر عنه. من (النصوح) بمعنى الخلوص عَسى رَبُّكُمْ أي بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
أي لا يذلّهم. تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أدمه أو زده وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أي بالسنان والبرهان وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي فيما تجاهدهم به، لتنكسر صلابتهم، وتلين شكيمتهم وعريكتهم، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.(9/278)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ أي حالهما كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما أي بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان، مع تمكنهما من الطاعة والإيمان فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ أي من عذابه شَيْئاً وَقِيلَ أي لهما عند موتهما، أو يوم القيامة: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي مع سائر الداخلين من الفجرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 11 الى 12]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي من عملهم وعذابهم وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظته وصانته فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا يعني جبريل عليه السلام، أو من روح خلقناه بلا توسط، وهو عيسى عليه السلام وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي بصحفه المنزلة من عنده وَكُتُبِهِ أي الموحاة.
والعطف للتفسير، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من المواظبين على الطاعة لله، والخضوع لأحكامه. والتذكير للتغليب.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشريّ: مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب، أو وصلة صهر، لأن عداوتهم(9/279)
لهم، وكفرهم بالله ورسوله، قطع العلائق، وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر، نبيّا من أنبياء الله- بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج، إغناء ما من عذاب الله. ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله- بحال امرأة فرعون، ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، الناطق بالكلمة العظمى. ومريم ابنة عمران، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] ، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب، بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره. انتهى.
الثاني: قال الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين) اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة، إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح، مع عدم الإيمان، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما. فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبيّ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال. فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئا. قال تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] ، وقال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً
[الانفطار: 19] ،(9/280)
وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] ، وقال: وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان: 33] ، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، بإبطاله، ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين. فأحدهما امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به، وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم، التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله، ويردن الدار الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة. ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا، قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على(9/281)
ما قال فيها الكاذبون، إن كانت قبلها. كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم. فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. انتهى.
الثالث- قال القاشانيّ: بيّن تعالى أن الوصل الطبيعية، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية. بل المحبة الحقيقية، والاتصالات الروحانية، هي المؤثرة فحسب. والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت، ولا تكون إلا في الدنيا، بالتمثيلين المذكورين. وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح، والاعتقاد الحق، كإحصان مريم، وتصديقها بكلمات ربها، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة، ولا تحفظ الأسرار، وتبيح المخالفة، داخلة في نار الحرمان، وجحيم الهجران مع المحجوبين، ولا تغني هداية الروح عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب. وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية، الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه، لا يبقى في العذاب مخلدا ويخلص إلى النجاة، ويبقى في النعيم سرمدا، وإن تعذب بمجاورتها حينا، وتألم بأفعالها برهة. وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج، هي القابلة لفيض روح القدس المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب، من العقائد الحكمية، والشرائع الإلهية، المطيعة لله مطلقا، علما وعملا، سرّا وجهرا.
انتهى ملخصا.
الرابع- في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ على صحة أنكحة الكفار. أقول: ويستدل بقوله تعالى امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ إلى قوله:
فَخانَتاهُما على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع. وهو جليّ. ويستدل بذلك أيضا على أن نكاح المشركات كان جائزا في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر، كما مرّ في آيات عديدة.
الخامس: قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون رَبِّ ابْنِ لِي(9/282)
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ
قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.
السادس- قال الزمخشريّ: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله، والالتجاء إليه، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وسنن الأنبياء. والمرسلين فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 118] ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [يونس: 85- 86] .(9/283)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الملك
قال المهايميّ: سميت به لاشتمالها على كثير مما ينبغي أن يكون عليه الملك من كثرة الخيرات، وعموم القدرة، والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة والغفران، ورفع الأبنية لخدامه وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وأن لا يقدر أحد على نصر من عاداه، ولا على رزق من منعه. انتهى.
وتسمى سورة (تبارك) . وهي مكية. وآيها ثلاثون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن جرير: أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة، لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقال القاشانيّ: الملك، عالم الأجسام، كما أن الملكوت عالم النفوس.
ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك، بحسب مشيئته بالتبارك، الذي هو غاية العظمة، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة. وباعتبار تسخيره عالم الملكوت، بمقتضى إرادته بالتسبيح، الذي هو التنزيه، كقوله فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس: 83] ، كلّا بما يناسبه، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام، والتنزه يناسب المجردات عن المادة. فمعنى (تبارك) تعالى وتعاظم، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام، لا بيد غيره، يصرفها كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات، يوجدها على ما يشاء.(9/284)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 2]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: قدر الموت والحياة فأمات من شاء وما شاء، وأحيى من أراد وما أراد، إلى أجل معلوم. أو أجد الحياة، وأزالها حسبما قدّره.
قال القاشانيّ: الموت والحياة من باب العدم والملكة. فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس. والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له. وعدم الملكة ليس عدما محضا، بل فيه شائبة الوجود. والألم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجوديّ، فلذلك صح تعلق الخلق به، كتعلقه بالحياة، وجعل الغرض من خلقهما، بلاء الإنسان في حسن العمل وقبحه، أي العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء، وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الإنسانية بعد وقوع المعلوم، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب، الظاهر بظهور المعلوم، لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال، والموت هو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه، وبه يظهر آثار الأعمال، كما أن الحياة يظهر بها أصولها، وبهما تتفاضل النفوس في الدرجات، وتتفاوت في الهلاك والنجاة. وقدم الموت على الحياة، لأن الموت في عالم الملك ذاتيّ، والحياة عرضية. وقيل: إن أريد به العدم السابق، فتقدمه ظاهر، لسبقه على الوجود. أو العدم اللاحق، فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة، وردعا عن ارتكاب المعاصي.
وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل الْغَفُورُ أي لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 3]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً قال ابن جرير: طبقا فوق طبق، بعضها فوق بعض.
وقال المهايميّ: أي يوافق بعضها بعضا بلا تضاد، ليتم أمر الحكمة في الكوائن والفواسد.(9/285)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ (السماء) يطلق لغة على كل ما علا الإنسان، فإنه من السموّ، وهو العلو، فسقف البيت سماء. ومنه قوله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج: 15] ، أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته.
وهذا الفضاء اللانهائيّ سماء. ومنه قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [إبراهيم: 24] . والسحاب سماء، ومنه قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [البقرة: 22] ، والكواكب سماوات. فالسماوات السبع المذكورة كثيرا في القرآن الشريف، هي هذه السيارات السبع، وهي طباق، أي: أن بعضها فوق بعض، لأن فلك كل منها فوق فلك غيره.
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكم، بل راعاها في كل خلقه.
فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي إن شككت، فكرر النظر هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ أي:
خلل. وأصل (الفطور) الصدوع والشقوق. أريد به لازمه. كذا قالوه، والصحيح أنه على حقيقته أي: هل ترى من انشقاق وانقطاع بين السموات، بحيث تذهب باتصالات الكواكب فتفرقها، وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها؟ كلا! بل هي متجاذبة، مرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في آية:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 4]
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ أي كرره كَرَّتَيْنِ أي: رجعتين أخريين، ابتغاء الخلل والفساد والعبث. والمراد بالتثنية التكرير. يَنْقَلِبْ أي: يرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً أي: مطرودا عن إصابة المطلوب. وَهُوَ حَسِيرٌ أي: معيي كالّ.
تنبيهات:
الأول- ذهب الزمخشريّ إلى أن قوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صفة ثانية لقوله: سَبْعَ سَماواتٍ وضع فيها- خلق الرحمن- موضع الضمير للتعظيم، والأصل (فيهنّ) وتابعة القاضي والقاشانيّ، وعبارته:
نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات، لا ترى أحكم خلقا، وأحسن نظاما وطباقا منها. وأضاف خلقها إلى الرحمن، لأنها من أصول النعم الظاهرة،(9/286)
ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضا، وحسن انتظامها وتناسبها. وإنما قال ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ لأن تكرار النظر، وتجوال الفكر، مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق، لا يفيد إلا الخسوء والحسور، تحقق الامتناع، وما أتعب من طلب وجود الممتنع. انتهى.
ولو جعل قوله تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ مستأنفا، مقررا بعمومه لتناسب خلقه وإتقانه، وتناهي حسنه، فيشمل ما قبله- لكان أولى من تخصيصه بوصفية ما قبله، ويكون كآية: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] ، وآية: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] ، وتلطف بعضهم فقال: في الآية إشارة إلى قياس تقديره: ما ترى فيها من تفاوت لأنها من خلقه تعالى. وما ترى في خلقه من تفاوت.
الثاني- للإمام ابن حزم رحمه الله كلام في هذه الآية في كتاب (الفصل) ساقه في مباحثه مع المعتزلة، نأثره هنا لنفاسته، قال رحمه الله:
التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس، أو خرج عن المعهود، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه، فإذن ليس هو الذي يسميه الناس تفاوتا، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت، لكذب قول الله عز وجل ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ولا يكذب الله تعالى إلا كافر، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت، لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل، مرئيّ فيه، مشاهد بالعيان فيه، فبطل احتجاجهم.
فإن قال قائل: فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه؟
قيل لهم: هو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلا، بل هو معدوم جملة، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم، لوجد التفاوت في خلق الله تعالى. والله تعالى قد أكذب هذا، وأخبر أنه لا يرى في خلقه.
ثم نقول، وبالله تعالى التوفيق: إن العالم كله ما دون الله تعالى، وهو كله مخلوق لله تعالى، أجسامه وأعراضه كلها، لا نحاشي شيئا منها. ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه، وأنواع أجسامه، جرت القسمة جريا مستويا في تفضيل أجناسه وأنواعه، بحدودها المميزة لها، وفصولها المفرقة بينها، على رتبة واحدة،(9/287)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
وهيئة واحدة، إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع، الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة، بوجه من الوجوه، ولا تخالف في شيء منه أصلا. ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا، والصورة المستحسنة عندنا. واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط، ثم تحت نوع الكيفية، ثم تحت اسم العرض، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه، ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم.
وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد، ثم تحت فعل النفس، ثم تحت الكيفية والعرض، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم. وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية، وتحت اسم العرض، وقوعا حقا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف.
وهكذا القول في الظلم والإنصاف، وفي العدل والجور، وفي الصدق والكذب، وفي الزنا والوطء الحلال. وكذلك كل ما في العالم، حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرؤوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى. وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة. فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى، وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة، ضرورة لا منفك لهم عنها، وهي أنه لو كان وجود الكفر والكذب والظلم تفاوتا كما زعموا، لكان التفاوت موجودا في خلق الرحمن.
وقد كذب الله تعالى ذلك، وهي أن يرى في خلقه تفاوت. انتهى كلامه.
الثالث- قال الناصر: في قوله تعالى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وضع للظاهر موضع المضمر. وفيه من الفائدة التنبيه على أن الذي يرجع خاسئا حسيرا غير مدرك الفطور، هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يدرك شيء، دل على أنه لا شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 5]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قال ابن جرير: وهي النجوم. وجعلها بِمَصابِيحَ لإضاءتها. وكذلك الصبح، إنما قيل له صبح، للضوء الذي يضيء للناس من النهار. وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله تعالى(9/288)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
وَجَعَلْناها على جنس المصابيح، لا على عينها، لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها- والله أعلم-.
وقال القاضي: أي وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المسببة عنها. وقيل: معناه وجعلناها رجوما وظنونا لشياطين الإنس- وهم المنجمون-.
قال الشهاب: مرّضه لأنه خلاف الظاهر المأثور. و (الرجم) يكون بمعنى الظن، مجازا معروفا. والآية بمعنى آية الصافات إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 6- 10] ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع ذلك العذاب المحرق.
قال الناصر: هذا من الاستطراد. لما ذكر وعيد الشياطين، استطرد ذلك وعيد الكافرين عموما.
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً أي لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ، أو لأنفسهم. فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة الصوت، كقوله لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] ، أولها نفسها، تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق، وهو الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة، كصوت الحمار.
وَهِيَ تَفُورُ أي: تغلي بهم وتعلو.
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تتفرق أجزاؤها من الغيظ على الذين أغضبوا الله(9/289)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
ورسوله. شبهت في شدة غليانها، وقوة تأثيرها في أهلها، بإنسان شديد الغيظ على غيره، مبالغ في إيصال الضرر إليه، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية، وهي الغضب الباعث على ذلك. واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ- كما في شرح المفتاح الشريفي- وأما ثبوت الغيظ الحقيقيّ لها، بخلق الله فيها إدراكا، فبحث آخر. لكنه قد قيل هنا: إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه، لأن (تكاد) تأباه، كما في قوله: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: 35] ، وقد صرح به علماء المعاني في بحث المبالغة والغلوّ. وجوز أن يراد غيظ الزبانية. فالإسناد مجازيّ، أو على تقدير مضاف- كما في (العناية) -.
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي: جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي: في الدنيا ينذركم هذا العذاب.
قال في (الإكليل) : استدل به على أنه لا تكليف قبل البعثة.
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ أي: فكذبنا الرسل، وأفرطنا في التكذيب، حتى نفينا الإنزال والإرسال رأسا، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ أي: من النّذر ما جاءت به، سماع طالب الحق، وعقل من نبذ الهوى ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي: في عداد أهل النار.
تنبيهان:
الأول- قال الناصر: لو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلا على تفضيل السمع على البصر، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها.
الثاني- قال ابن السمعانيّ في (القواطع) : استدل به من قال بتحكيم العقل.
وقال الزمخشريّ: قيل إنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي: فأقروا بجحدهم الحق، وتكذيبهم الرسل، فبعدا لهم، اعترفوا أو أنكروا، فإن ذلك لا ينفعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 12]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)(9/290)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه أو يخافون عذابه، وهم لم يروه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 13]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بضمائرها، فكيف بما نطق به؟ والمعنى: فاتقوه واخشوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 14]
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألا يعلم السر والجهر، من خلق الأشياء، والخلق يستلزم العلم كما قال: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم.
وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقه، وهو بهذه المثابة ف (من) مفعول، والعائد مقدر.
قال الغزاليّ: إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها، وما لطف منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق، دون العنف. و (الخبير) هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك والملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس، إلا وعنده خبرها. وهو بمعنى العليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 15]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي لينة سهلة المسالك. فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أي: في نواحيها وجوانبها على التشبيه.
قال ابن جرير: لأن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي التمسوا من نعمه تعالى.
قال الشهاب: فالأكل والرزق، أريد به طلب النعم مطلقا، وتحصيلها أكلا وغيره. فهو اقتصار على الأهم الأعم، على طريق المجاز أو الحقيقة.
قال: وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا، وما فيها، لم تجد شيئا منها على المرء غير ما أكله، وما سواه متمم له، أو دافع للضرر عنه.(9/291)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي نشوركم من قبوركم للجزاء.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الأمر بالتسبب والكسب.
وقال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع، ومواضع الزرع والثمار. والمعنى: سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها، في أنواع المكاسب والتجارات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 17]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ خطاب للكافرين. أي أأمنتم العليّ الأعلى أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم إلى أسفل سافلين. فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي: تضطرب وتهتز هزا شديدا بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم.
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهو التراب، فيه الحصباء الصغار، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ قال ابن جرير: أي عاقبة نذيري لكم، إذا كذّبتم به، ورددتموه على رسولي.
وقد بيّن تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطلهم إذا أصرّوا، ونصر رسوله، وغلبة جنده، كما قال تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] .
قال الشهاب: (النذير) مصدر، والياء محذوفة، والقرّاء مختلفون فيها: فمنهم من حذفها وصلا، وأثبتها وقفا، ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة وكذلك الحال في (نكير) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : الآيات 18 الى 19]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)(9/292)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مع كونهم أشد منهم عددا وعددا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي نكيري تكذيبهم. وذلك بإنزال العذاب بهم، ودحر باطلهم.
قال القاضي: هو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد لقومه المشركين.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجوّ عند طيرانها، وَيَقْبِضْنَ أي ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن، وقت، للاستظهار.
ولتجدده عبر عنه بالفعل، إشارة إلى أنه أمر طارئ على الصف. يفعل في بعض الأحيان للتقوّي بالتحريك. كما يفعله السابح في الماء، يقيم بدنه أحيانا، بخلاف البسط والصف، فإنه الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم.
ما يُمْسِكُهُنَّ أي في الجو إِلَّا الرَّحْمنُ أي المفيض لكلّ ما قدّر له، حسب استعداده بسعة رحمته. ومنه ما دبر للطيور من بنية يتأتى منها الجري في الجوّ.
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ قال القاشاني: أي فيعطيه ما يليق به، ويسوّيه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه.
ثم بكّت تعالى المشركين، بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 20]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ أي معشر المشركين يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي إن أراد بكم سوءا، فيدفع عنكم بأسه. إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضرّ. أو أنها تقرّبهم إلى الله زلفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 21]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ يعني المطر ونحوها بَلْ لَجُّوا أي تمادوا فِي عُتُوٍّ أي عناد وطغيان وَنُفُورٍ أي شراد عن الحق واستكبار، مع وضوح براهينه، فأصرّوا على اعتقاد أنهم يحفظون من النوائب، ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق، مكابرة وعنادا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 22]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)(9/293)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تمثيل للضالين والمهتدين. و (المكب) هو المتعثر الذي يخرّ على وجهه لو عورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعا وانخفاضا. والذي يمشي سويّا هو القائم السالم من العثار، لاستواء طريقه، واستقامة سطحه.
قال القاضي: والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين، والدينين بالمسلكين.
ولعل الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا. أي: فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 26]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قُلْ هُوَ أي المستحق للعبادة وحده، وسلوك صراطه الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي العقول والإدراكات قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي باستعمالها فيما خلقت له قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم فيها لتعبدوه، وتقوموا بالقسط الذي أمر به وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي للجزاء وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر أو الفتح على رسوله وظهور دينه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في الإنذار به، والترهيب منه قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي بيّن الحجة على ما أنذركم به، من زهوق باطلكم إذا جاء أجله. وأما تعيين وقته، فليس إليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 27]
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
فَلَمَّا رَأَوْهُ أي: ما وعدوا به من العذاب، وزهوق باطلهم زُلْفَةً أي: قريبا، أو ذا زلفة، أي قرب سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن وَقِيلَ أي لهم تبكيتا هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبون وتستعجلون به، من الدعاء، أو تدّعون أن لا بعث، من (الدعوى) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 28]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)(9/294)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كان كفار مكة يتربصون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ريب المنون، تخلصا من دعوته وانتشارها، فأمر أن يقول لهم ذلك. أي أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم؟.
قال ابن كثير: أي خلصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم. والمعني بالعذاب: إما الدنيوي، وهو خزيهم بالانتصار عليهم، ودحور ضلالهم. أو الأخروي، وهو أشد وأبقى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 29]
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا أي اعتمدنا في أمورنا، لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في ذهاب عن الحق، وانحراف عن طريقه منا ومنكم، إذا جاء نصر الله والفتح في الدنيا، ونشأته الثانية في الأخرى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا لا تناله الدلاء، أو ذاهبا في الأرض فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟ أي جار ظاهر سهل التناول.
قال الرازي: المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض، فمن يأتيكم بماء معين؟ فلا بد وأن يقولوا: هو الله. فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا، شريكا له في العبودية. وهو كقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ [الواقعة: 68] ، أي بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع، رحمة بالعباد، فله الحمد.(9/295)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة القلم
وتسمى سورة القلم. وهي مكية. وآيها اثنتان وخمسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
ن بالسكون على الوقف: اسم للحرف المعروف، قصد به التحدي. أو اسم للسورة، منصوب ب (اذكر) أو مرفوع خبرا لمحذوف وَالْقَلَمِ أي الذي يخطّ به وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون. و (ما) مصدرية أو موصولة. وقوله ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم، قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] .
قال الزجاج: (أنت) هو اسم (ما) ، و (بمجنون) الخبر. وقوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ كلام وقع في البين. والمعنى: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال: أنت بحمد الله عاقل، وأنت بحمد الله فهم. ومعناه: أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت، والصفة المذمومة إنما زالت، بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه. فالباء في بِنِعْمَةِ متعلقة بمعنى النفي المدلول عليه ب (ما) والباء في بِمَجْنُونٍ زائدة.
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أي ثوابا على أذى المشركين، واحتمال هذا الطعن، والصبر عليه غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقوص ولا مقطوع.
قال ابن جرير: من قولهم (حبل منين) إذا كان ضعيفا، وقد ضعفت منته، أي:
قوته. أو غير ممنون به عليك، زيادة في العناية به صلى الله عليه وسلم، والتنويه بمقامه.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن جرير: أي أدب عظيم. وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.(9/296)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قالت عائشة «1» : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن
. أي كما هو في القرآن.
قال الرازي: وهذا كالتفسير لقوله بِنِعْمَةِ رَبِّكَ والدلالة القاطعة على براءته مما رمى به، لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والفصاحة التامة، والعقل الكامل، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، كانت ظاهرة منه. وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون. فكذب من أضافه إليه وضل، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 7]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ أي أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة.
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي المجنون. والباء مزيدة. أو الفتنة والفتون ذهابا، إلى أن المصدر يجيء على زنة المفعول والباء أصلية بمعنى (في) . أي: من كوشف بأسرار العلوم، وأوتي جوامع الكلم، أم من حجب عما في نفسه من آيات الله والعبر، وفتن بعبادة الصنم. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي: عن طريق الحق الذي أمر به، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي بمن اتبع الحق، وسلك سبيله، فسيجزي الفريقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي بآيات الله، وما جاءهم من الحق.
قال الزمخشري: تهييج وإلهاب على معاصاتهم.
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي: ودوا لو تركن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق، فيمالئونك- رواه ابن جرير عن مجاهد- ثم قال: أي: لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه:
__________
(1) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين، حديث رقم 139.(9/297)
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 74- 75] ، وإنما هو مأخوذ من الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي: كثير الحلف. قال الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة:
224] . مَهِينٍ أي: حقير الرأي والتمييز.
هَمَّازٍ أي: عيّاب طعان. قال ابن جرير: والهمز أصله الغمز. فقيل للمغتاب: هماز، لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم.
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي نقّال لحديث الناس بعضهم في بعض، للإفساد بينهم.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل بالمال، ضنين به. والخير المال. أو صادّ عن الإسلام.
مُعْتَدٍ أي: على الناس، متجاوز في ظلمهم أَثِيمٍ كثير الآثام.
عُتُلٍّ أي جاف غليظ. دعيّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي: دعيّ ملصق في النسب، ليس منهم. أو مريب يعرف بالشر. قال ابن جرير: ومعنى (بعد) في هذا الموضع معنى (مع) .
وقال الشهاب: الإشارة لجميع ما قبله من النقائص، لا للأخير فقط. وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القباحة. ف (بعد) هنا ك (ثم) الدلة على التفاوت الرتبيّ، كما مر في قوله: بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] .
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قال الزمخشري: متعلق بقوله وَلا تُطِعْ يعني: ولا تطعه مع هذا المثالب، لأن كان ذا مال. أي: ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن يتعلق بما بعده، على معنى لكونه متمولا مستظهرا بالبنين، كذب بآياتنا.
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي: تقرأ عليه آيات كتابنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي:
هذا مما كتبه الأولون، استهزاء به، وإنكارا منه أن يكون ذلك من عند الله.
وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ عدة منه تعالى بغاية إذلاله، بعد تناهي كبره وعجبه وزهوه وعتوه. تقول العرب: وسمته بميسم السوء: يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث، جدعت أنف الأخطل
قال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه،(9/298)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة، واشتقوا منه (الأنفة) وقالوا: الأنف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرموا الوجوه
، فوسمها في جواعرها. وفي لفظ (الخرطوم) استخفاف به واستهانة، لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل. وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم. انتهى.
تنبيه:
قيل: عنى بالآية الأخنس بن شريق. قال ابن جرير: وأصله من ثقيف، وعداده في بني زهرة. أي: لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية. ولذا سمي زنيما للصوقه بالقوم، وليس منهم وقيل: هو الوليد بن المغيرة، ادعاه أبو بعد ثماني عشرة من مولده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18)
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي بلونا مشركي مكة، فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم، هل يشكرون نعمته، فيحيوا حياة طيبة، أو يصرون على تكذيبه، فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي، ثم دمارهم.
وقيل: معناه أصبناهم ببلية، وهي القحط والجوع، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ وهم قوم من أهل الكتاب- على ما روي عن ابن عباس- أو ناس من الحبشة- في قول عكرمة- أي: كتابيون. فيتفق مع ما قبله، وليس من ضرورة الاعتبار بالمثل والعظة به، تعيين أهله، لولا محبة المأثور إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أي: ليقطعن ثمارها مبكرين بحيث لا يعلم مسكين بذلك وَلا يَسْتَثْنُونَ قال المهايمي: أي: ولا يخرجون شيئا من حق المساكين، واقتصر عليه. وحكاه الرازيّ والقاضي قولا ثانيا. والأول أن معناه: ولا يقولون إن شاء الله- واقتصر عليه ابن جرير والأول أظهر، والاستثناء بمعنى الإخراج الحسي، والجملة معطوفة على لَيَصْرِمُنَّها ومقسم عليها.(9/299)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 19 الى 20]
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي فطرق جنة هؤلاء القوم، طارق من أمر الله لتدميرها.
قال ابن جرير: ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلا، ولا يكون نهارا. وقد يقولون: أطفت بها نهارا. وذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده:
أطفت بها نهارا غير ليل ... وألهى ربّها طلب الرّخال
و (الرخال) أولاد الضأن الإناث.
فقوله: وَهُمْ نائِمُونَ أي مستغرقون في سباتهم، غافلون عما يمكر بهم.
تأكيد على الأول، وتأسيس على الثاني فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي كالبستان الذي صرم ثمره، بحيث لم يبق فيه شيء. أو كالليل الأسود لاحتراقها. وأنشد في ذلك ابن جرير لأبي عمرو بن العلاء:
ألا بكرت وعاذلتي تلوم ... تهجّدني وما انكشف الصّريم
وقال أيضا:
تطاول ليلك الجون البهيم ... فما ينجاب عن صبح صريم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 21 الى 27]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
فَتَنادَوْا أي فنادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ أي وقت الصبح، ولم يشعروا بما جرى عليهم بالليل أَنِ اغْدُوا أي اخرجوا غدوة عَلى حَرْثِكُمْ أي زرعكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي قاصدين قطع ثمارها، وقد قطعها البلاء من أصلها فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يكتمون ذهابهم ويتسارّون فيما بينهم أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي فقير. فالجملة مفسرة. أو (أن) مصدرية. أي بأن.
قال الزمخشري: والنهي عن الدخول للمسكين، نهي لهم عن تمكينه منه. أي(9/300)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل. كقولك: لا أرينّك هاهنا.
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي غدوا إلى جنتهم، على نشاط وسرعة وجدّ من أمرهم، أو على منع وغضب قادِرِينَ أي في زعمهم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين. فَلَمَّا رَأَوْها أي فلما صاروا إليها، ورأوها محترقا حرثها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي أنكروها وشكّوا فيها. هل هي جنتهم أم لا. فقال بعضهم لأصحابه: ظنا منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها: إنا، أيها القوم، لضالون طريق جنتنا! فقال من علم أنها جنتهم، وأنهم لم يخطئوا الطريق:
بل نحن، أيها القوم، محرومون، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 28 الى 32]
قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)
قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم وخيرهم رأيا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي:
تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وتخشون انتقامه من المجرمين. وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة، فعصوه، فعيّرهم. قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي في ترك استثناء حق المساكين، ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ
أي متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيّئ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي بتوبتنا إليه، وندمنا على خطأ فعلنا، وعزمنا على عدم العود إلى مثله. إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي في العفو عما فرط منا، والتعويض عما فاتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : آية 33]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)
كَذلِكَ الْعَذابُ أي في الدنيا لمن خالف الرسل، وكفر بالحق، وبغى الفساد في الأرض. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أعظم منه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لارتدعوا وتابوا وأنابوا. فالجواب مقدر. قال الشهاب: لأنه ليس قيدا لما قبله، إذ لا مدخلية لعلمهم في كون العذاب أكبر.(9/301)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
تنبيه:
قال في (الإكليل) : قال ابن الفرس: استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فرّ من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط، فإن ذلك لا يسقطها. ووجه ذلك: أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم. وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث، لأجل الفقراء.
هذا، وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سئل عن أصحاب الجنة: أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا.
وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيرا منها- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي في الكرامة والمثوبة الحسنى، والعاقبة الحميدة. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي بما ينبو عنه العقل السليم، فإنهما لا يستويان في قضيته. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي من الأمور لأنفسكم، وتشتهونه لكم، كقوله: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر: 40] ، وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأمانيّ الكاذبة أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي تقضون من أمانيّكم ومزاعمكم.
قال الزمخشري: يقال: لفلان عليّ يمين بكذا، إذا ضمنته منه، وحلفت له على الوفاء به. يعني: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأن معنى (أم لكم أيمان علينا) أم أقسمنا لكم. ف (بالغة) - كما قال الشهاب- معناه المراد منه، متناهية في(9/302)
التوكيد. وأصله بالغة أقصى ما يمكن، فحذف منه اختصارا، وشاع في هذا المعنى.
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ أي: الحكم زَعِيمٌ أي كفيل به، يدعيه ويصححه.
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي ناس يشاركونهم في هذا الزعم، ويوافقونهم عليه. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي: في دعواهم.
قال الزمخشريّ: يعني أن أحدا لا يسلّم لهم بهذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به. ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال ابن عباس: أي عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة. ألا تسمع العرب تقول: شالت الحرب عن ساق؟ - رواه ابن جرير.
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أي: لا مانع يمنعهم منه. والمراد من السجود: عبادة الله وحده، وإسلام الوجه له، والعمل بما أمر به من الصالحات.
تنبيه:
ما أثرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى (عن ساق) هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم. في أمثال هذه الآية، وعليه اقتصر الزمخشريّ، وعبارته:
الكشف عن الساق، والإبداء عن الخدام، مثل في شدة الأمر، وصعوبة الخطب.
وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك. قال حاتم:
أخو الحرب، إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
وقال ابن الرقيات:
تذهل الشيخ عن بنيه، وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
وجاءت منكّرة للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، منكر خارج عن المألوف كقوله:(9/303)
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: 6] ، كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل.
وقال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر. وساق الشيء: أصله الذي به قوامه، كساق الشجر وساق الإنسان. أي: تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها. فالساق بمعنى أصل الأمر، وحقيقته. استعارة من ساق الشجر، وفي (الكشف) تجوّز آخر، أو هو ترشيح له.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في (الفصل) : ما صح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن يوم القيامة أن الله عز وجل يكشف عن ساقه، فيخرون سجدا. فهذا كما قال الله عز وجل في القرآن: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. وإنما هو إخبار عن شدة الأمر، وهول الموقف، كما تقول العرب: قد شمرت الحرب عن ساقها. قال جرير:
ألا ربّ سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح. وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصّا.
ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به. وقد عاب الله هذا فقال بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس: 39] انتهى.
هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهانيّ إلى أن الآية وعيد دنيويّ للمشركين، لا أخرويّ. قال: إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة، لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، بل المراد منه: إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى [الفرقان: 22] ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة، لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها. وإما حال الهرم والمرض والعجز. وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود، وهم سالمون مما بهم الآن، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، أو من العجز والهرم. ونظير هذه الآية قوله فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] انتهى.
قال الرازيّ: واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم.
فأما قوله إنه لا يمكن حمله على القيامة، بسبب أن الأمر بالسجود حاصل هاهنا، والتكاليف زائلة يوم القيامة، فجوابه: أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل، فلم قلتم إن ذلك غير جائز؟(9/304)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
ثم تأثر تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة، بترهيبهم بما عنده وفي قدرته، من القهر، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : آية 44]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي كله إليّ فإني أكفيكه، وهذا من بليغ الكناية. كأنه يقول: حسبك انتقاما منه، أن تكل أمره إليّ، وتخلّي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به، قادر على ذلك. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة، وزيادة النعم، من حيث لا يعلمون أنه استدراج، وسبب لهلاكهم. يقال: استدرجه إلى كذا، أي: استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورّطه فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : آية 45]
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان، لتكمل حجة الله عليهم. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي كيدي بأهل الكفر شديد قويّ.
قال الزمخشريّ: الصحة والرزق والمدّ في العمر، إحسان من الله وإفضال، يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم. فلما تدرجوا به إلى الهلاك، وصف النعم بالاستدراج. وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وسمى إحسانه وتمكينه (كيدا) ، كما سماه استدراجا، لكونه في صورة الكيد، حيث كان سببا للتورط في الهلكة. ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 46 الى 47]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على ما أتيتهم به من النصيحة، ودعوتهم إليه من الحق.
فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي من عزة ذلك الأجر مثقلون. أي أثقلهم الأداء، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا الدخول فيما دعوتهم إليه. والمعنى: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان. أَمْ(9/305)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
أي منه ما يحكمون به، فيجادلونك بما فيه، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 50]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم، وتأخير ظهورك عليهم. أي لا يثنينّك، عن تبليغ ما أمرت به، أذاهم وتكذيبهم، بل امض صابرا عليه وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني: يونس عليه السلام إِذْ نادى أي دعا ربه في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا وغمّا. والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والونى عن التبليغ، فتبتلى ببلائه لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وهو قبول توبته ورحمته، تضرعه وابتهاله لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ قال الزمخشريّ: يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكانت حاله على الذم. والعراء:
الفضاء من الأرض.
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي برحمته. قال القاشانيّ: لمكان سلامة فطرته، وبقاء نور استعداده، وعدم رسوخ الهيئة الغضبية، والتوبة عن فرطات النفس، فقربه تعالى إليه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي لمقام النبوة والرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القلم (68) : الآيات 51 الى 52]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قال الزمخشريّ: يعني أنهم من شدة تحديقهم، ونظرهم إليك شزرا، بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلّون قدمك، أو يهلكونك. من قولهم (نظر إلى نظرا يكاد يصرعني، ويكاد يأكلني) أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل، لفعله. قال:
يتقارضون، إذا التقوا في موطن، ... نظرا يزلّ مواطئ الأقدام
وأنشد ابن عباس- وقد مرّ بأقوام حددوا النظر إليه-:(9/306)
نظروا إليّ بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبيّن تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلم للقرآن، وهو قوله: لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي القرآن، معاداة لحكمته. وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي من الهذيان الذي يهذي به في جنونه، لعدم تمالك أنفسهم من الحسد منه، والتنفير عنه. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي عظة وحكمة وتذكير وتنبيه لهم، على ما في عقولهم وفطرهم من التوحيد. فكيف يجنّن من جاء بمثله؟ - وبالله التوفيق-.(9/307)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحاقّة
مكية. وآيها إحدى وخمسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
الْحَاقَّةُ أي الساعة الحاقة التي تحق فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال. من قولهم: حق عليه الشيء، إذا وجب. وقوله: مَا الْحَاقَّةُ من وضع الظاهر موضع المضمر، تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ قال بعضهم: من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة، إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته، أتوا بإجمال وتفصيل. أي: أيّ شيء أعلم المخاطب ما هي؟
تأكيدا لتفخيم شأنها، حتى كأنها خرجت من دائرة علم المخاطب. على معنى: أن عظم شأنها، وما اشتملت عليه من الأوصاف، مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه وهمه، وكيفما قدر حالها، فهي وراء ذلك وأعظم. ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن لازمه، من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دار، ولا تبلغها الأفكار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 4 الى 8]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)(9/308)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ أي بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم.
قال الزمخشريّ: ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها. ولمّا ذكرها وفخمها، أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكة، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.
فَأَمَّا ثَمُودُ وهم قوم صالح عليه السلام فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، أو بطغيانهم، و (الطاغية) مصدر كالعافية.
وَأَمَّا عادٌ وهم قوم هود عليه السلام فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة العصوف والبرد عاتِيَةٍ أي: متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة.
سَخَّرَها أي: سلطها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أي متتابعات من (حسمت الدابة) ، إذا تابعت بين كيّها. شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء. أو معناه: نحسات، حسمت كل خير واستأصلته، أو قاطعات، قطعت دابرهم. هذا على أن (حسوما) جمع حاسم، كشهود وقعود. فإن كان مصدرا فنصبه بمضمر. أي تحسم حسوما، أو بأنه مفعول له. أي سخرها عليهم للحسوم، أي الاستئصال. وقد قيل: إن تلك الأيام هي أيام العجز. والعامة تقول: (العجوز) وهي التي تكون في عجز الشتاء، أي آخره.
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى أي هلكى، جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي ساقطة مجتثة من أصولها كآية: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20] ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي: بقاء. أو نفس باقية، أو بقية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 9 الى 12]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ أي: من الأمم المكذبة، كقوم نوح وعاد وثمود وَالْمُؤْتَفِكاتُ وهي قرى قوم لوط بِالْخاطِئَةِ أي: بالخطإ، أو الأفعال الخاطئة، على المجاز في النسبة. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: زائدة في الشدة. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي: كثر وتجاوز حده المعروف، بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبه، عليه السلام حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ أي السفينة التي تجري في الماء.(9/309)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
قال ابن جرير: خاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحا وولده، لأن الذين خوطبوا بذلك، ولد الذين حملوا في الجارية، فكان حمل الذين حملوا فيها من الأجداد، حملا لذريتهم.
لِنَجْعَلَها
أي تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً
أي: آية وعبرة تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله، وتدمير أعدائه.
وَتَعِيَها
أي تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ
أي حافظة لما سمعت عن الله، متفكرة فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 17]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي: لخراب العالم.
قال أبو السعود: هذا شروع في بيان نفس الحاقة، وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل. وفي توصيفها بالوحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدكّ الأرض والجبال وخراب العالم، هي وحدها، غير محتاجة إلى أخرى.
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: نزلت النازلة، وهي القيامة.
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ أي: انصدعت فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ متمزقة.
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي: جوانبها وأطرافها حين تشقق. وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ أي: من الملائكة أو من صفوفها.
قال ابن كثير: يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش (العرش العظيم) ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة، لفصل القضاء، - والله أعلم- انتهى.
ومثله، من الغيوب التي يؤمن بها، ولا يجب اكتناهها. وتقدم في سورة الأعراف، في تفسير آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] كلام لبعض علماء الفلك على هذه الآية، فتذكره.(9/310)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
وذهب بعض منهم إلى أن المراد بالعرش ملكه تعالى للسموات والأرض، وب (الثمانية) السموات السبع والأرض. وعبارته: وَيَحْمِلُ بالجذب عَرْشَ رَبِّكَ أي: ملك ربك للأرض والسموات فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يوم القيامة، ثَمانِيَةٌ أي: السموات السبع والأرض.
قال: وهذا يدل على أن (السبع) ليس للكثرة، بل المراد به الحقيقة. فهم ثمانية يحملون العرش، أي: ملك الأرض والسموات السبع بالجذب، كما هو حاصل اليوم. ولكن ذلك يكون بشكل عظيم جدّا.
ثم قال: ولا وجه لمعترض يقول: إن حملة العرش مسبحة، لقوله تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] ، فكيف تسبح السماوات والأرض؟ لأنه يجاب بقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء: 44] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 24]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أي: على ربكم للحساب والمجازاة لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي سريرة كانت تخفى في الدنيا بستر الله.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي: علامة لفوزه فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ أي: تعالوا، أو خذوا. والهاء للسكت، لا ضمير غيبة.
قال الشهاب: فحقها أن تحذف وصلا، وتثبت وقفا، لتصان حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها. ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف، أو لأنه وصل بنيّة الوقف. وإثباتها وصلا قراءة صحيحة، ولا يلتفت لقول بعض النحاة:
إنها لحن.
إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي جزائي يوم القيامة. أي:
فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي: ذات رضا، ملتبسة به، فيكون بمعنى (مرضية) .
أو الأصل: راض صاحبها، فأسند الرضا إليها، لجعلها، لخلوصها عن الشوائب، كأنها(9/311)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
نفسها راضية مجازا ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية، كما فصل في (المطول) .
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها جمع قطف بكسر القاف، وهو ما يقطف من ثمرها دانِيَةٌ أي قريبة سهلة التناول.
كُلُوا أي: يقال لهم كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي:
الماضية في الحياة الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ أي: عند ما يلاقي العذاب يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أي: أيّ شيء حسابي.
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ قال ابن جرير: أي يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث. و (القضاء) هو الفراغ. وقيل: إنه تمنى الموت الذي يقضي عليه، فتخرج منه نفسه.
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي: ما دفع من عذاب الله شيئا.
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي ملكي وتسلطي على الناس. أو حجتي، فلا حجة لي أحتج بها.
خُذُوهُ أي: يقال لخزنة النار: خذوه بالقهر والشدة فَغُلُّوهُ أي: ضموا يده إلى عنقه، إذ لم يشكر ما ملكته.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي: أدخلوه ليصلى فيها، لأنه لم يشكر شيئا من النعم، فأذيقوه شدائد النقم.
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ أي حلقة منتظمة بأخرى، وهي بثالثة، وهلم جرا.
ذَرْعُها أي: مقدارها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه فيها. أي: لفّوه بها، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقا، لا يقدر على حركة.(9/312)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قال القاشانيّ: والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة غير المحصورة، لا العدد المعيّن.
ثم علل استحقاقه ذلك، على طريقة الاستئناف، بقوله: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ أي: المستحق للعظمة وحده، بل كان يشرك معه الجماد المهين.
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: إطعامه، فضلا عن بذله، لتناهي شحه.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي: قريب تأخذه الحمية له.
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أي: من غسالة أهل النار وصديدهم.
قال ابن جرير: كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو (غسلين) - فعلين- من الغسل من الجراح والدّبر، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين.
لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي. الآثمون، أصحاب الخطايا. يقال: خطئ الرجل، إذا تعمد الخطأ. قال الرازيّ: الطعام ما هيّئ للأكل. فلما هيّئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاما لهم. ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام، فسمي طعاما. كما قال:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ أي: بالمشاهدات والمغيبات. وهذا القسم- كما قال الرازيّ- يعم جميع الأشياء على الشمول، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والعالم العلويّ والسفليّ، وهكذا. وتقدم في (الواقعة) الكلام على كلمة (لا أقسم) فتذكر.
إِنَّهُ أي: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو محمد صلّى الله عليه وسلم، يبلغه عن الله تعالى، لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ أي: كما تزعمون، فإن بين أسلوبه وحقائقه، وبين وزن الشعلة وخيالاته، بعد المشرقين.
قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ. تصدقون بما ظهر صدقه وبرهانه، عنادا وعتوّا. والقلة(9/313)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
كناية عن النفي والعدم. ونصب (قليلا) على أنه نعت لمصدر، أو زمان مقدر. أي إيمانا وزمانا. والناصب (تؤمنون) أو (تذكّرون) . و (ما) زائدة- هذا ما قاله ابن عادل- وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون نافية ومصدرية.
وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ أي كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تتعظون وتعتبرون. قيل: نفى الإيمان في الأول، والذكرى في الثاني، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن، لا ينكره إلا معاند. فلا عذر لقائله في ترك الإيمان، وهو أكفر من حمار. وأما مباينته للكهانة، فيتوقف على تذكّر ما، لأن الكاهن يأخذ جعلا، ويجيب عما سئل عنه ويتكلف السجع، ويكذب كثيرا، وإن التبس على الحمقى لإخباره عن بعض المغيبات بكلام منثور، فتأمّل.
تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي ممن ربّاهم بصنوف نعمه، ومنها ما نزله وأوحاه ليهتدوا به إلى سبل السعادة، ومناهج الفلاح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 47]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي افترى علينا. وسمى الكذب تقوّلا، لأنه قول متكلف، كما تشعر به صيغة التفعّل. والْأَقاوِيلِ إما جمع (قول) على غير القياس، أو جمع الجمع كالأناعيم، جمع أقوال وأنعام. قيل: تسمية الأقوال المفتراة (أقاويل) تحقيرا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك.
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ قال ابن جرير: أي لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة، ثم لقطعنا منه نياط القلب. وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة، ولا يؤخّره بها. وقد قيل: إن معنى قوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه. قال: وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه: خذ بيده، فأقمه، وافعل به كذا وكذا: قالوا: وكذلك معنى قوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي لأهنّاه. كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله. انتهى.
وقال الزمخشريّ: المعنى لو ادّعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، معاجلة بالسخط والانتقام. فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار، لأن(9/314)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده، وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور، لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه. فمعنى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا بيمينه. كما أن قوله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لقطعنا وتينه، وهذا بيّن. انتهى.
وما قرره الزمخشريّ أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة، إذ على الأول يفوت التصوير والتفصيل والإجمال، لأن قوله بِالْيَمِينِ بعد لَأَخَذْنا مِنْهُ بيان بعد الإبهام، ويصير قوله مِنْهُ زائدا من غير فائدة، ويرتكب المجاز من غير فائدة أيضا- كما في (العناية) -.
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي ليس أحد منكم يحجزنا عنه، ويحول بيننا وبين عقوبته، لو تقوّل علينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحاقة (69) : الآيات 48 الى 52]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي عظة لمن يتقي عقاب الله بالإيمان به وحده، وما نزل من عنده. وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أي له، إيثارا للدنيا والهوى. أي فنجازيكم على إعراضكم. وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي ندامة عليهم، إذا رأوا ثواب المؤمنين به. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي للحق اليقين الذي لا ريب فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي دم على ذكر اسمه، وادأب على الدعوة إليه وحده، وإلى ما أوحاه إليك. فالعاقبة لك، ولمن اتبعك من المؤمنين.(9/315)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المعارج
وتسمى سورة سَأَلَ سائِلٌ. وهي مكية. وآيها أربع وأربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3)
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ قال مجاهد: أي دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] . والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة- فيما رواه النسائيّ عن ابن عباس- وقد قيل: إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا. وقد قتل النضر ببدر، ففي الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقه. ولِلْكافِرينَ صفة ثانية ل (عذاب) ، أو صلة ل (واقع) . واللام للتعليل، أو بمعنى (على) . لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ أي رادّ يرده من جهته، لتعلق إرادته به. وهذا كقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] .
وقوله تعالى ذِي الْمَعارِجِ قال الرازيّ: المعارج جمع معرج، وهو المصعد.
ومنه قوله تعالى وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزخرف: 33] .
والمفسرون ذكروا فيه وجوها:
أحدها- قال ابن عباس في رواية: أي هي السموات. وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.
وثانيها- قال قتادة: ذي الفواضل والنعم. وذلك لأن لأياديه ووجوده إنعامه مراتب، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
وثالثها- أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة. وقوله تعالى:(9/316)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : آية 4]
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال ابن جرير:
أي تصعد الملائكة والروح، وهو جبريل، إليه عز وجل، في يوم كان مقدار صعودهم ذلك، في يوم لغيرهم من الخلق، خمسين ألف سنة. وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض، إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع.
وقيل: بل معناه تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة.
وقد قيل: إن (في يوم) متعلق ب (واقع) . والمراد به يوم القيامة.
فعن ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. والمقدار المذكور إما حقيقيّ، أو مجاز عن الاستطالة.
قال الشهاب: وهكذا زمان كل شدة، كما قيل:
تمتع بأيام السرور، فإنها ... قصار، وأيام الغموم طوال
ونقل الرازيّ عن أبي مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها، من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء. فبين تعالى أنه لا بدّ في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة. ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي. انتهى. وهو بعيد، وهذه الآية كآية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] ، ولا منافاة في التقدير، لأن المعنيّ به الاستطالة، لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات. والقرآن يفسر بعضه بعضا- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 14]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)(9/317)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي: على ما يقولون. ولا يضق صدرك، فقد قرب الانتقام منهم.
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي: العذاب الدنيويّ أو الأخرويّ بَعِيداً أي: وقوعه، لعدم إيمانهم بوعيده تعالى. وَنَراهُ قَرِيباً أي قريب الحضور. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي كالشيء المذاب، أو درديّ الزيت. و (يوم) إما ظرف ل (قريبا) ، أو لمحذوف.
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي: كالصوف.
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي قريب قريبا عن شأنه، لشغله بشأن نفسه.
يُبَصَّرُونَهُمْ أي يعرّفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض. وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل، لا احتجاب بعضهم من بعض.
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى الكافر لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ أي الذين هم محل شفقته.
وَصاحِبَتِهِ أي التي هي أحب إليه وَأَخِيهِ أي الذي يستعين به في النوائب.
وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمه إليها عند الشدائد.
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ أي الافتداء. أو المذكور. أو من في الأرض.
عطف على (يفتدى) . و (ثم) للاستبعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 15 الى 18]
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
كَلَّا أي لا يكون ذلك إِنَّها أي النار الموعود بها المجرم لَظى أي لهب خالص. نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي الأطراف، كاليد والرجل. أو جمع (شواة) وهي جلدة الرأس. تَدْعُوا أي إلى صليّها مَنْ أَدْبَرَ أي عن الحق وَتَوَلَّى أي عن الطاعة. وَجَمَعَ أي المال فَأَوْعى أي جعله في وعاء وكنزه، ومنع حق الله منه، فلم نزكّ، ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً أي قليل الصبر، شديد الحرص، كما بيّنه بقوله:
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الضرّ والبلاء جَزُوعاً أي كثير الجزع من قلة صبره.(9/318)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أي كثر ماله، وناله الغنى مَنُوعاً أي لما في يده، بخيل به، لشدة حرصه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 22 الى 35]
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي مقيمون، لا يضيّعون منها شيئا. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي المتعفّف الذي أدبرت عنه الدنيا، فلا يسأل الناس. وقيل: الذي لا ينمي له مال. وقيل: المصاب ثمره، أخذا من قوله أصحاب الجنة في السورة قبل بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم: 27] .
واللفظ أعمّ من ذلك كله.
وقد روى ابن جرير عن ابن عمر أنه سئل عن الحق المعلوم أهو الزكاة؟ فقال:
إن عليك حقوقا سوى ذلك.
ومثله عن ابن عباس قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رحما، أو يقري بها ضيفا، أو يحمل بها كلّا، أو يعين بها محروما.
وعن الشعبيّ: أن في المال حقّا سوى الزكاة.
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي الجزاء. وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ قال ابن جرير: أي وجلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيّعون له فرضا، ولا يتعدون له حدّا. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أي أن ينال من عصاه، وخالف أمره. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ أي لغلبة ملكة الصبر، وامتلاك ناصيته. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ قال ابن جرير: أي التمس لفرجه منكحا سوى زوجته، أو ملك يمينه.. فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الذين عدوا ما أحل الله لهم، إلى ما حرّمه عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ(9/319)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ
قال ابن جرير: أي لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم، على ما عقده لهم على نفسه راعون، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيّعونه. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها، غير مغيّرة ولا مبدّلة.
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي لا يضيّعون لها ميقاتا ولا حدّا. قيل: الحفظ عن الضياع، استعير للإتمام والتكميل للأركان والهيئات. ولذا قال القاضي: وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا، باعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها.
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أي بثواب الله تعالى، لاتصافهم بمكارم الأخلاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 39]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي مسرعين للحضور، ليظفروا بما يتخذونه هزؤا.
وعن ابن زيد: (المهطع) الذي لا يطرف.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أي متفرقين حلقا ومجالس، جماعة جماعة، معرضين عنك، وعن كتاب الله. أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي ولم يتّصف بصفات أهلها المنوّه بها قبل. كَلَّا أي لا يكون ذلك، لأنه طمع في غير مطمع. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي من النطف. يعني: ومن قدر على ذلك فلا يعجزه إهلاكهم، فليحذروا عاقبة البغي والفساد. ولذا قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المعارج (70) : الآيات 40 الى 44]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه، أو(9/320)
مشرق كل كوكب ومغربه، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب. إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين، إن أردنا ذلك. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي أخذهم فيه وهلاكهم. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ أي يسرعون.
و (النصب) الضم المنصوب للعبادة، أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك، أو ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. فهم يسرعون إسراع عبدة الأصنام نحو صنمهم، أو إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها. أو إسراع الجند إلى راية الأمير. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي من الخزي والهوان. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم. ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي بأنهم ملاقوه.(9/321)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة نوح
قال المهايمي: سميت به لاشتمالها على تفاصيل دعوته وأدعيته. وهي مكية.
وآيها ثمان وعشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني عذاب الطوفان قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يعفو عنها. ومِنْ إما مزيدة، أو تبعيضيه. وهو ما وعدهم العقوبة عليها. وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها، فقد تقدم عفوه لهم عنها. أو هو ما سبق، فإن الإسلام يجبّ ما قبله وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان. أي فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الذي كتبه على من كذب وتولى إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من أهل العلم والنظر لأنبتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 14]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)(9/322)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
قالَ أي نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل، في تلك المدد الطوال، رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي أي إلى التوحيد والعمل الصالح لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما بلا فتور ولا توان. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي من الحق الذي أرسلتني به وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ أي إلى الإيمان لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي بسببه جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم من استماع الدعوة وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي تغطوا بها من كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في الدين وَأَصَرُّوا أي على الشر والكفر وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي تعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد مرة، على وجوه متنوعة، ما بين مجاهرة وإظهار بلا خفاء، وما بين إعلان وصياح بهم، وما بين إسرار فيما بيني وبينهم في خفاء. وهذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي سلوه العفو عما سلف بالتوبة النصوح إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي لذنوب من تاب وأناب. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي متتابعا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ أي فيكثرها عندكم وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أي لسقيا جناتكم ومزارعكم. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي لا ترون له عظمة، إذ تشركون معه ما لا يسمع ولا يبصر. فنفي الرجاء مراد به نفي لازمه، وهو الاعتقاد، مبالغة. وجوّز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف، أي ما لكم لا تخافون عظمة الله. ومنه قوله:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
قال الشهاب: وهو أظهر.
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي تارات، ترابا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنّة، وهكذا طورا بعد طور. أي ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه، لعظيم قدرته. هذا في أنفسكم. وهكذا يستدل على باهر عظمته، وقاهر قدرته من آياته الكونية. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 20]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ(9/323)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
سِراجاً
أي يزيل ظلمه الليل، وينير وجه الأرض. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشأكم منها. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أي للحساب والجزاء. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أي تستقرون عليها وتمتهدونها. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي طرقا مختلفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 25]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي رؤساءهم المتبوعين، أهل المال والجاه، المعرضين عن الحق، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم، فهلكوا بسببهما، وخسروا سعادة الدارين.
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي متناهيا كبره، فإن (الكبّار) أكبر من (الكبير) .
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.
قال: فكان (ود) لكلب بدومة الجندل، وكانت (سواع) لهزيل، وكان (يغوث) لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان (يعوق) لهمذان، وكان (نسر) لذي الكلاع من حمير.
وقال (في رواية) : والله ما عدا- أي كلّ منها- خشبة أو طينة أو حجرا.
وقال ابن جرير: كان خبرهم- فيما بلغنا- من محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصورهم.
فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى البخاري «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال. صارت الأوثان التي
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة نوح، 1- باب وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ، حديث رقم 2066. [.....](9/324)
كانت في قوم نوح في العرب، بعد: أما (ود) ، فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما (سواع) فكانت لهذيل، وأما (يغوث) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما (يعوق) فكانت لهمذان، وأما (نسر) فكانت لحمير لآل ذي الكلاع:
أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلم، عبدت.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب. إشكال، لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب. ولا يمكن أن يقال إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها، لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها؟ انتهى كلامه.
ونحن نقول: إن جوابه بديهي، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم، على ألسنة الرحل والسّمار، لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر، وسنة الخالف أن يؤرخ السالف. وجلي أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم، لا سيما إذ زين له المنكر بصفة تميل إليها، فتكون ألصق به. وهكذا كان بعد انقراض العلم وحملته، أن حدث ما حدث من عبادتها، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري: حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلم، عبدت. وعجيب من الرازيّ أن لا يجد مخرجا من سؤاله، وهو على طرف الثّمام.
الثاني- قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : حكى الواقدي قال: كان (ود) على صورة رجل، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد، و (يعوق) على صورة فرس، و (نسر) على صورة طائر. وهذا شاذ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. انتهى.
الثالث- قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) أول ما كاد به الشيطان عبّاد الأصنام، من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ.. الآية.
ثم قال: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم(9/325)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعن «1» النبيّ صلّى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد السرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا،
وقال «2» : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
، وأمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا.... إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقوله تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا أي: الرؤساء كَثِيراً، أي خلقا كثيرا، أو الأصنام كقوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] . وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا أي خذلانا واستدراجا. وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم.
قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع ضميرهم، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجلها أُغْرِقُوا أي بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً أي أذيقوا به عذاب النار فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً.
قال الزمخشري: تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] .
وقال الرازي: لما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسائط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (71) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
__________
(1) أخرجه البخاري في: الجنائز، 62- باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث رقم 285، عن عائشة.
وأخرجه في: الجنائز، 71- باب بناء المسجد على القبر، حديث رقم 281، عن عائشة أيضا،
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنائز، حديث رقم 92 عن فضالة بن عبيد، و 93، عن علي بن أبي طالب.(9/326)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا.
قال ابن جرير: يعني ب (الديّار) من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها، وهو (فيعال) من الدوران، ديوارا اجتمعت الياء والواو، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة، وأدغمت الواو فيها، وصيرتا ياء مشددة. والعرب تقول: ما بها ديّار ولا عريب ولا دويّ ولا صافر ولا نافخ ضرمة.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق. وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال أبو السعود: أي إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه، من أن الدعاء بالاستئصال، مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن، منكر، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم، بعد ما جربهم، واستقرأ أحوالهم قريبا من ألف سنة.
وقال بعضهم: ملّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة، وتتربى بهيئاتها المظلمة، لا تقبل إلا نفسا مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. انتهى.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن جرير: أي رب اعف عني، واستر عليّ ذنوبي وعلى والديّ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قال ابن جرير: أي ولمن دخل مسجدي ومصلاي، مصليا مؤمنا بواجب فرضك عليه. وقيل: بيتي منزلي. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وخسارا.(9/327)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الجن
قال المهايمي: سميت بها لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان، وتقبيح الكفر، مع كون أقوالهم أشد تأثيرا في قلوب العامة، لتعظيمهم إياهم.
وهي مكية. وآيها ثمان وعشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أي لهذا القرآن الحكيم. والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط- كما في (المجمل) -.
قال القاشاني: قد مرّ أن في الوجود نفوسا أرضية قوية، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها، وقلة إدراكها، ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة، الغالب عليها الأرضية، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلويّ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية، على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا.
ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء، فتسترق السمع من كلام الملائكة، أي النفوس المجردة. ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية، تأثرت بتأثير تلك القوى، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها، وإدراك مداها من العلوم. ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك، أو تنزجر من(9/328)
الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان، الصادقون من الأنبياء والأولياء، خصوصا أكملهم نبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي الآية- كما قال القاضي- دلالة على أنه صلّى الله عليه وسلم ما رآهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله.
فَقالُوا أي لما رجعوا إلى قومهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً قال المهايمي أي كتابا جامعا للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين. عَجَباً أي غريبا، لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الحق وسبيل الصواب فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي من خلقه، في العبادة معه.
تنبيهات:
الأول- هذا المقام شبيه بقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] الآية.
وقد روى البخاري عن ابن عباس قال.
انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب! فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء! قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا. وأنزل الله عز وجل على نبيّه صلّى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وإنما أوحي إليه قول الجن. ورواه مسلّم أيضا وزاد في أوله: ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم، انطلق ... إلى آخره.
الثاني- قال الماوردي: ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن. قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز، وشروط المعجزة، فيقع له العلم بصدق الرسول. أو يكون عنده علم من الكتب الأولى، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. انتهى.(9/329)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
الثالث- قال الرازي: في الآية فوائد:
إحداها- أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن.
وثانيها- أن يعلم قريش أن الجن، مع تمردهم، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول.
وثالثها- أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
ورابعها- أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا، ويفهمون لغاتنا.
وخامسها- أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. انتهى.
ولما سمعوا القرآن، ووفّقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه، واتخاذه صاحبة وولدا، فاستعظموه، ونزهوه عنه، فقالوا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 3]
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً أي تعالى ملكه وعظمته، وصدق ربوبيته، عن اتخاذ الصاحبة والولد.
قال ابن جرير: الجدّ بمعنى الحظ. يقال: فلان ذو جدّ في هذا الأمر إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسيّة (البخت) . والمعنى: أن حظوته من الملك والسلطان والقدرة العظيمة عالية، فلا تكون له صاحبة ولا ولد، لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي تضطره الشهوة الباعثة إلى اتخاذها، وأن الولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد. فقال النفر من الجن: علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفا ضعف خلقه، الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة، أو وقاع شيء يكون منه ولد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 4 الى 6]
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6)
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعنون به مضلّهم ومغويهم عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي قولا ذا شطط. صفة لقول مقدر بتقدير مضاف. أو جعل عين الشطط مبالغة فيه.(9/330)
وأصله مجاوزة الحدّ. والمراد منه نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي في نسبة ما ليس بحق، إليه سبحانه. وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك، لظنهم أن أحدا لا يكذب على الله، حتى تبيّن لهم بالقرآن كذب السفيه وافتراؤه. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثما. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن وأن رؤساءها تحميهم منهم. وهكذا قال إبراهيم: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرّا ولا نفعا.
وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله. قال: فيزيدهم ذلك رهقا، وهو الفرق.
وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي. فلما جاء الإسلام، عاذوا بالله وتركوهم. انتهى.
أي: لأن ذلك من الشرك، ولذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله تعالى وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره. وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة، فإنها للإرشاد لذلك.
روى مسلم «1» عن خولة بنت حكيم قالت: من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك.
قال بعضهم: في الحديث تفسير آية الجن، وأن ما فيها من الشرك، وأن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
وفي الآية تأويل غريب نقله الرازي وهو أن المراد كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي. وأصحاب هذا التأويل، إنما ذهبوا إليه لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن. وهذا ضعيف، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلا.
انتهى.
__________
(1) أخرجه في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 54 و 55.(9/331)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
والضمير المرفوع في (فزادوهم) . للجن، على معنى: فزادوهم باستعاذتهم بهم، غيّا وإثما وضلالا. أو للإنس على معنى: فزادوا الجن باستعاذتهم كبرا وعتوّا.
و (الرهق) في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 7 الى 9]
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّهُمْ أي وأوحى إليّ أن الجن ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أي في جاهليتكم.
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي رسولا إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم. أو لن ينشر الله أحدا من قبره للحساب والجزاء.
وقيل: الضمير في وَأَنَّهُمْ للإنس، ذهابا إلى أن قوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا من كلام الجن، والخطاب لهم.
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً أي حفظة ورواجم. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث، وما يكون فيها، فمن يستمع الآن فيها يجد له شهاب نار قد رصد له.
قال الزمخشريّ: وفي قوله: مُلِئَتْ دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة.
وكذلك قوله: نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب. والآن ملئت المقاعد كلها. وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 10]
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً يعنون أن ما حدث من منعهم السمع من السماء، ورجم من استمع منهم بالشهب، كان يقولون هو لأمر(9/332)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
عظيم أراده الله بأهل الأرض، إما عذاب أو رحمة. أي: حتى علموا بعد باستماعهم القرآن، أنه لخير أريد بهم، وذلك بعثة نبيّ مصلح يرشد إلى الحق.
قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل. والمراد بالمريد هو الله عزّ وجلّ، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 11 الى 17]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المسلمون العاملون بطاعة الله وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو الكافرون كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي أهواء مختلفة، وفرقا شتّى. وهذا بيان للقسمة قبل. أي كنا مثلها أو ذويها. و (الطرائق) : جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه. و (القدد) الضروب والأجناس المختلفة، جمع (قدّة) كالقطعة.
وَأَنَّا ظَنَنَّا أي علمنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي إن أراد بنا سوءا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي إن طلبنا.
قال الزمخشري: هذه صفة أحوال الجن، وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله عزّ وجلّ عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب.
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم آمَنَّا بِهِ أي صدّقنا بأنه حق من عند الله، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها وَلا رَهَقاً أي أن ترهقه ذلّة، وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد. يعني: أنه يجزى الجزاء الأوفى، وتكون له في العز العاقبة الحسنى. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الكافرون الجائرون عن طريق الحق، فَمَنْ أَسْلَمَ أي أذعن وانقاد فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي ترجّوا وتوخوا رشدا عظيما، وقصدوا صوابا واستقامة.(9/333)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
وقوله: فَمَنْ أَسْلَمَ.. إلخ من كلام الله أو الجن. قال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم، وكفى به وعدا أن قال فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب وموجبه. والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد. أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أي توقد بهم، كما توقد بكفار الإنس. وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أي الجن أو الإنس أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ أي طريقة الحق والعدل لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي لوسعنا عليهم الرزق.
وإنما تجوز بالماء الغدق، وهو الكثير، عما ذكر، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب. أو لأن غيره يعلم منه بالأولى. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه. وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عبادته أو موعظته يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أي شديدا شاقّا.
قال الزمخشري: الصعد: مصدر صعد. يقال: صعد صعدا وصعودا. فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب، أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي مختصة به فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي فلا تعبدوا فيها غيره. تعريض بما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى بمسجده الحرام، ونصبهم في التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب. فإن المساجد لم تشد إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده. ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 19]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، يَدْعُوهُ أي يعبد ربه، كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي جماعات بعضها فوق بعض، تعجّبا مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. فالضمير في (كادوا) للجن. وقد بيّن ذلك حديث البخاريّ كما تقدم. وجوّز رجوعه للمشركين بمكة. والمعنى: لما قام رسولا يعبد الله وحده، مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه، وتعاونهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين- حكاه الزمخشري- ثم(9/334)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
قال: لِبَداً جمع لبدة، وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها لبدة الأسد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 21]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21)
قُلْ وقرئ (قال) إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي أعبده، وأبتهل إليه وحده، وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم، أو إطباقكم على مقتى. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لأن ذلك لله تعالى، وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب.
قال الشهاب في توضيح ما للقاضي هنا: إما أن يراد بالرشد النفع، تعبيرا باسم السبب عن المسبب، أو يراد بالضرّ الغيّ، تعبيرا باسم المسبب عن السبب. ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر. فيكون احتباكا. والتقدير: لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا، ولا غيّا ولا رشدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 22 الى 24]
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي إن أراد بي سوءا وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملتجأ إن أهلكني. وأصله: المدخل من اللحد. وقوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ استثناء من قوله: لا أَمْلِكُ فإن التبليغ إرشاد ونفع. فهو متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة. أي لا أملك إلا التبليغ والرسالات، من معاني الوحي، وأحكام الحق. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أي في الرسالات الإلهية، من الظهور عليهم والفتح، أو العذاب الأخرويّ. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي أجند الرحمن أو إخوان الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 27]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)(9/335)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي غاية تطول مدتها.
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي حرسا من الملائكة يحفظونه من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه.
قال القاشاني: (رصدا) أي حفظة إما من جهة الله التي إليها وجهه، فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية. وإما من جهة البدن، فالملكات الفاضلة والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات، يحفظونه من تخبيط الجن، وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات، بمعارفها اليقينية، ومعانيها القدسية، والواردات الغيبية، والكشوف الحقيقية. انتهى.
تنبيه:
قال الزمخشري: يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى.
قال: وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم، لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. انتهى.
وأجاب أبو السعود بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين، أحدا من خلقه، إلا من ارتضى من رسول. أي إلا رسولا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته، كما يعرب عنه بيان (من ارتضى) بالرسول تعلقا تاما، إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة، وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. وأما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب، التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليه أحدا أبدا. على أن بيان وقته مخلّ بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة. وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف. فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم(9/336)
أصلا، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. انتهى.
وملخصه تقييد الغيب بما هو معجزة أو من وظائف الرسالة. وهكذا نحا النسفي في الجواب، مع بيان الفارق وعبارته أي إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له، فإنه يطلعه على غيبه ما شاء: و (من رسول) بيان (من ارتضى) . والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه، أو بالفراسة. على أن كل كرامة للوليّ فهي معجزة للرسول.
انتهى.
وقال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه- يعني الزمخشري ومن تابعه- والذي تدل عليه أن قوله (على غيبه) ليس فيه صيغة عموم، فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد.
قال: والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقب قوله: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة. ثم قال بعده عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد. وبالجملة فقوله: (على غيبه) لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد. فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه.
فإن قيل: فإذا حملتم ذلك على القيامة، فكيف قال: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟
قلنا: بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة، وكيف لا وقد قال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ، ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة. وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا، كأنه قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص، وهو يوم القيامة، أحدا. ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن. لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته.(9/337)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، والرسول بالملك.
وناقشه في العناية بأن المرضي حمل الرسول على المتعارف لدلالة الساق والسياق عليه هذا، ونقل النسفي عن التأويلات ما مثاله:
قال بعضهم: في هذه الآية تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة فإنهم يعرفون طبائع النبات، وهذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق.
انتهى.
وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة زعما بأن معرفة مواقيت الكسوف، وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب. والصواب عدم شموله لمثله، لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية. وبالجملة فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء. ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبيّ أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من كل شيء بالتسليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. وإن شئت فقل: لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه. نعم، إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة. وقد أرشدنا صلّى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ
قال «1»
(أنتم أعلم بأمور دنياكم)
انتهى. فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ متعلق ب يَسْلُكُ غاية له. والضمير إما
__________
(1) أخرجه مسلم في: الفضائل، حديث 141.(9/338)
ل (الرصد) ، وإما ل مَنِ ارْتَضى. والجمع باعتبار معنى (من) . أي ليبلغوا، فيظهر متعلق علمه. وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير عن التفريط فيه. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي بما عند الرصد، أو الرسل عليهم السلام. حال من فاعل يَسْلُكُ جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي فردا فردا لسعة علمه. تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره.(9/339)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المزّمّل
قال المهايمي: سميت به لدلالته على عظم أمر الوحي، لأن أقوى الخلائق كان يرتعد عنده فيتزمل.
وهي مكية، قيل: إلا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة، وآيها عشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتزمل. من (تزمل) بثيابه إذا تلفف بها. فأدغم التاء في الزّاي خوطب صلّى الله عليه وسلم بحكاية حاله وقت نزول الوحي، ملاطفة وتأنيسا وتنشيطا للتشمر لقيام الليل، وقيل: معناه المتحمل أعباء النبوة، من تزمل الزّمل، إذا تحمل الحمل. ففيه استعارة. شبّه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل، بجامع المشقة.
قال الشهاب: وأورد عليه أنه مع صحة المعنى الحقيقي، واعتضاده بالأحاديث الصحيحة، لا وجه لادعاء التجوز فيه.
وقد يجاب بأن الأحاديث رويت في نزول سورة (المدثر) لا في هذه السورة، كما سيأتي إن شاء الله، إلا أن يقال: هما بمعنى واحد.
قُمِ اللَّيْلَ أي: فيه للصلاة، ودع التزمل للهجوع إِلَّا قَلِيلًا أي بحكم الضرورة للاستراحة، ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن بقاؤه بدونها.
ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيرا له بقوله: نِصْفَهُ أي نصف الليل بدل من الليل. أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي من النصف قَلِيلًا أي إلى الثلث.(9/340)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي النصف إلى الثلثين، والمقصود التخيير بين قيام النصف وما فوقه وما دونه. ولا يقال: كيف يكون النصف قليلا وهو مساو للنصف الآخر؟ لأن القلة بالنسبة إلى الكل، لا إلى عديله.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أي بيّنه تبيينا، وترسّل فيه ترسلا.
قال الزمخشريّ: ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤدة، بتبيين الحرف، وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهذّه هذّا، ولا يسرده سردا.
تنبيه:
قال السيوطي: في الآية استحباب ترتيل القراءة، وأنه أفضل من الهذّ به، وهو واضح.
وقد ثبت في السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، وأنها كانت مفسرة حرفا حرفا، وأنه كان يقف على رؤوس الآي.
واستدل بالآية على أن الترتيل والتدبّر، مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها، لأن المقصود من القرآن فهمه وتدبّره، والفقه فيه، والعمل به.
قال ابن مسعود: لا تهذّوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل. قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 5]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أي رصينا، لرزانة لفظه، ومتانة معناه، ورجحانه فيهما على ما عداه. ولما كان الراجح من شأنه ذلك، تجوّز بالثقيل عنه. أو ثقيلا على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر، وتجريد للنظر. أو ثقيلا تلقّيه، لقول عائشة «1» رضي الله عنها: رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا. وعلى كل فالجملة معللة للأمر بالترتيل، وأن ثقله مما يستدعيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 6]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الوحي، 4- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 2.(9/341)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي نشأته وطبيعة خلقه ومظهره هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي مواقفة لما يراد منها من جمع الهم، وهدوء البال. وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أشدّ مقالا وأصوبه.
قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل.
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال: ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل، أشد وطأ أبين أثرا. وأقوم قيلا، أصحّ مما تخرجه الأفكار بالنهار، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 7 الى 9]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تقلبا في مهماتك، واشتغالا بها، فلذا أمرت بقيام الليل. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكره ليلا ونهارا. قال الزمخشريّ:
وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أخلص إليه، بتجريد النفس عن غيره، إخلاصا عظيما. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي تكل إليه مهامك، فإنه سيكفيكها.
قال ابن جرير: أي فيما يأمرك، وفوض إليه أسبابك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 14]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من الأذى والفري وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل، كما قال تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأحزاب: 48] ، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني وإياهم، وكل أمرهم إليّ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم. أُولِي النَّعْمَةِ أي التنعم، يريد صناديد قريش ومترفيهم.(9/342)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي تمهل عليهم زمانا، أو إمهالا قليلا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي قيودا وَجَحِيماً أي نارا شديدة الحرّ والاتّقاد وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي يغصّ به آكله فلا يسيغه، وَعَذاباً أَلِيماً أي ونوعا آخر من أنواع العذاب مؤلما لا يعرف كنهه. أي فلا ترى موكولا إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تضطرب وترتجّ بالزلزال، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أي رملا متفرقا منثورا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بإجابة من أجاب وإباء من أبى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا أي يدعوه إلى الحق. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي ثقيلا، وذلك بإهلاكه ومن معه، غرقا في اليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 17 الى 19]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً أي كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم، ولم تؤمنوا بالحق، يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر.
قال ابن أبي الحديد: يقال في اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال، كلام جار مجرى المثل. وليس ذلك على حقيقته، لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير حلاهم في الآخرة إلى الشيب. والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعا. قال أبو الطيب:
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الزمخشري: وصف لليوم بالشدة أيضا. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
قال السمين: وإنما لم تؤنث الصفة لأحد وجوه: منها- تأويله بالمشتق.
ومنها- أنها على النسب، أي ذات انفطار، نحو: مرضع وحائض. ومنها- أنها تذكر وتؤنث. ومنها- أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: سماءة، وفي اسم الجنس التذكير والتأنيث. والباء في (به) سببية أو للاستعانة، أو بمعنى (في) .(9/343)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي لأنه لا يخلف وعده، فاحذروا ذلك اليوم. إِنَّ هذِهِ أي الآيات الناطقة بالوعيد الشديد تَذْكِرَةٌ أي موعظة لمن اعتبر بها واتّعظ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا
أي بالإيمان به، والعمل بطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالا لأمره وتبتلا إليه، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي يعلمهم كذلك، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم- أشار إليه ابن كثير-. أو المعنى:
يقدر فيهما ما شاء من الأوامر. ومنه تقديره في قيام الليل ما قدره، مما أمر به أول السورة من التخيير، ترخيصا وتيسيرا. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي قيام الليل، على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر فَتابَ عَلَيْكُمْ أي عاد عليكم باليسر ورفع الحرج. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي في صلاة الليل بلا تقدير. أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه، شوقا إلى العبادة، وسبقا إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه- نقله الرازي-.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى أي يضعفهم المرض عن قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة الدين، فلا يتفرّغون للقيام فيه فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن. ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.(9/344)
تنبيهات:
الأول- ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة، منسوخ بهذه الآيات.
روى ابن جرير عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب- وكان بهم رحيما- فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: يا أيها الناس؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإنه الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما دمتم عليه. ونزل القرآن. يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ... الآية، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم، فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل.
قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة. وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. انتهى كلامه.
أقول: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: (ونزلت الآية) الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها- كما بيناه مرارا-.
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا.
فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ ... الآية. فوسع الله- وله الحمد- ولم يضيق.
وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا بها حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فاستراح الناس.
وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة.
قال ابن حجر في (شرح البخاري) : ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقا، ثم نسخ بالخمس. وأنكره المروزيّ.
وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة.
وقال السيوطيّ في (الإكليل) : قوله تعالى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا هو منسوخ بعد أن كان واجبا، بآخر السورة. وقيل: محكم، فاستدل به ندب قيام الليل. واستدل به طائفة على وجوبه على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وآخرون على وجوبه على الأمة أيضا، ولكن ليس الليل كله، بل صلاة ما فيه، وعليه الحسن وابن سيرين. انتهى.
أقول: من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب، يرى أن آخر السورة تعليم لهم الرفق بأنفسهم، لأنه تاب عليهم باليسر، ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على(9/345)
عنايتهم بالمندوب، وحرصهم عليه، حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به، استعانة على قراءة القرآن، وكثرة تلاوته.
الثاني- قال ابن كثير: في قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ تعبير عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء: 110] ، أي بقراءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، بهذه الآية، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه.
واعتضدوا بحديث (المسيء صلاته) الذي في الصحيحين «1» : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن. وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين «2» أيضا،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة إلا أن تقرأ بفاتحة الكتاب.
انتهى.
الثالث- في قوله تعالى: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ علم من أعلام النبوّة.
قال ابن كثير: هذه الآية، بل السورة كلها، مكية. ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوّة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
الرابع- قال ابن الفرس: في قوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فضيلة التجارة، لسوقها في الآية مع الجهاد.
أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله، أحب إليّ أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله. ثم تلا هذه الآية.
وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي زكاة أموالكم.
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأذان، 95- باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، حديث رقم 461، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 45.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، 95- باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، حديث رقم 460.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 34 و 35 و 36.(9/346)
وجه، كأن يكون من أطيب المال، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير، واتقاء المنّ والأذى. وسر الأمر ب (الحسن) أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطي منه، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع. ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله، أو غير ذلك من أعمال البر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي ثوابا مما عندكم من متاع الدنيا.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي سلوه غفران ذنوبكم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، ورحمة أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.(9/347)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المدّثّر
مكية. وآيها ست وخمسون آية.
قال ابن كثير: ثبت في صحيح البخاريّ عن جابر أنه كان يقول: أول شيء نزل من القرآن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وخالفه الجمهور، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كما سيأتي بيان ذلك هنالك، إن شاء الله تعالى.
روى البخاري «1» عن يحيى بن كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني، فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا. فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء باردا. قال، فدثروني وصبوا عليّ ماء باردا. فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ.
وروى الشيخان أيضا «2» عن الزهريّ قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي
__________
(1- 2) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة المدثر، 1- حدثني يحيى حديث رقم 4.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 225.(9/348)
جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني. فدثروني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ... الآيات.
قال ابن كثير: وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله (فإذا الملك الذي جاءني بحراء) وهو جبريل حين أتاه بقوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد. هذا وجه الجمع:
أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة.
وروى الطبراني عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر.
فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ... الآيات
.(9/349)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي المتلفف بثيابه لنوم أو استدفاء، من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار. والشعار الثوب الذي يلي الجسد. وأصله (المتدثر) فأدغم، خوطب بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزول الوحي. أو لقوله: دثروني كما تقدم- وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم. ويقال: تلبس فلان بأمر كذا. فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازا.
قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وكذا يسمى (خلة) . والتشبيه بالدثار في ظهورها، أو في الإحاطة. والأول أتم.
قُمْ أي من مضجعك ودثارك. أو قيام عزم وجدّ فَأَنْذِرْ أي فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا.
قال الشهاب: لم يقل (وبشر) لأنه كان في ابتداء النبوة، والإنذار هو الغالب، لأن البشارة لمن آمن، ولم يكن إذ ذاك. أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ قال ابن جرير أي فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك، دون غيره من الآلهة والأنداد.
وقال القاشاني: أي إن كنت تكبر شيئا وتعظم قدره، فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينك غيره، ويصغر في قلبك كل ما سواه، بمشاهدة كبريائه.
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي: بالماء من الأنجاس. قال ابن زيد، كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر ويطهّر ثيابه. وقيل هو أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام.(9/350)
قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب. وإذا وفي وأصلح، قالوا: مطهر الثياب.
وعن ابن عباس: أي لا تلبسها على معصية، ولا على غدرة. ثم أنشد لغيلان ابن سلمة الثقفي:
وإني، بحمد الله، لا ثوب فاجر ... لبست، ولا من غدرة أتقنّع
وفي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما، وفي الثاني تجوّز بهما. وبقي وجه ثالث، وهو حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التبصير. لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرّون أذيالهم خيلاء وكبرا، فأمر بمخالفتهم. ورابع وهو عكس هذا، وذلك، بحمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة:
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه
أي: نفسه. ولذا قال:
ليس الكريم على القنا بمحرّم
واستصوب ابن الأثير في (المثل الساتر) الوجه الأول. قال في الفصل الثالث من فصول مقدمته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل، كقوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس. ومن تأول، ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس. وهذا لا بد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ.
ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف. والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا، فإنه قد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل، فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية، فإن السيف بضاربه:
إن السيوف مع الذين قلوبهم ... كقلوبهن، إذا التقى الجمعان
تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كل جبان
انتهى.
ويكفي دليلا ما للعرب من الشواهد والأمثال. والاستعمال لا ينحصر في الحقيقة. نعم، المتبادر أولى وأجدر، وهو عنوان الحقيقة.
وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي اتركه. و (الرجز) بكسر الراء كالرجس والسين والزاي يتبادلان، لأنهما من حروف الصفير.(9/351)
و (الرجس) اسم للقبيح المستقذر. كنّي به عن عبادة الأوثان خاصة، لقوله:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] ، أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.
وقيل: المراد بالرجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي.
فالرجز مجاز، وقد أقيم مقام سببه. أو هو بتقدير مضاف، أي أسباب الرجز. أو التجوز بالتشبيه.
وقرئ بضم الراء، وهو لغة في المكسور، وهما بمعنى، وهو العذاب.
وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر العذاب.
وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو بريء منه، إما أمر لغيره تعريضا، أو المراد الدوام على هجره.
وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، بمعنى: لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه. يقال: مننت فلانا كذا، أي أعطيته. كما قال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] ، أي فأعط أو أمسك. وأصله أن من أعطى فقد منّ، فسميت العطية بالمنّ على سبيل الاستعارة. وجوّز القفّال أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العوض كيف كان زائدا أو مساويا. قال: وإنما حسنت هذه الاستعارة، لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء. فسمي طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله. وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج، ولها ولد، للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيبا، ثم اتسع الأمر، فسمي ربيبا، وإن كان، حين تتزوج أمه، كبيرا.
وسر النهي أن يكون العطاء خاليا عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففا وكمالا وعلوّ همة.
وقيل: معنى الآية لا تعط عطاء مستكثرا له، فإن مكارم الأخلاق استقلال العطاء، وإن كان كثيرا، فالسين للعدّ والوجدان. وسبق في سورة الروم في قوله تعالى:
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39] ، كلام في هذه الآية أيضا فارجع إليه.
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي على أذى المشركين.(9/352)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 10]
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور. و (الناقور) من النقر، بمعنى التصويت. وأصله القرع الذي هو سبب الصوت. ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به أي:
لما كان الصوت يحدث بالقرع. تجوز به عنه، وأريد به النفخ لأنه نوع من الصوت.
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي شديد.
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي هيّن، لما يحيق بهم من صنوف الردى. وفي قوله: غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين. ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 17]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي لا مال له ولا ولد.
وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي مبسوطا كثيرا، أو ممدودا بالنماء.
وَبَنِينَ شُهُوداً أي رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضورا معه يأنس بهم، لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار، لاستغنائهم عن التكسب والمدح.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش والجاه والرياسة.
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أي من المال والولد والجاه. أو من النعيم الأخرويّ. وهذا أظهر لقوله: كَلَّا أي لا يكون ما يأمل ويرجو، لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون، لا هو، إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا للحجج المنزلة والمرسلة.
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأغشيه عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق- قاله الزمخشريّ-.
قال الشهاب: ومعنى كونه مثلا، أنه شبه ما يسوقه الله له من المصائب، بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاهقة، وأطلق لفظه عليه. فهو استعارة تمثيلية.
ثم علل إرهاقه ذلك بقوله:(9/353)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
إِنَّهُ فَكَّرَ أي ماذا يقول في هذه الآيات الكريمة والذكر الحكيم وَقَدَّرَ أي في نفسه ما يقوله وهيأه.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي لعن، كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه.
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية التعجب أنه يكثر من التعجب ويكرره.
وثُمَّ للدلالة على الثانية أبلغ في التعجب من الأولى للعطف ب (ثمّ) الدالة على تفاوت الرتبة. فكأنه قيل: قتل بنوع ما من القتل، لا بل قتل بأشده وأشده. لذا ساغ العطف فيه، مع أنه تأكيد.
وقد جوز الزمخشري في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيبا من تقديره وإصابته فيه المحزّ ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، أو حكاية لما ذكره من قولهم: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله.
ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله، ما أشجعه، وأخزاه الله، ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 21 الى 25]
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
ثُمَّ نَظَرَ أي في ذلك المقدّر. أي تروّى فيه. قال الرازيّ: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه. فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط.
وقال غيره: ثُمَّ نَظَرَ أي في وجوه القوم.
ثُمَّ عَبَسَ أي قطب وجهه كبرا وتهيئوا لقذف تلك الكبيرة وَبَسَرَ أي(9/354)
كلح وجهه. شأن اللئيم في مراوغته ومخاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه. ثُمَّ أَدْبَرَ أي عن الحق وَاسْتَكْبَرَ أي عن الإيمان به. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويتعلم. أي يأثره عن غيره. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي ليس بكلام الله، كما يقوله.
تنبيه:
اتفق المفسرون أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخرومي، أحد رؤساء قريش، لعنه الله. وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة، اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم. وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأيا واحدا ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويردّ قولكم بعضه بعضا. قالوا: فأنت، يا أبا عبد شمس! فقل، وأقم لنا رأيا نقل به. قال:
بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا، والله ما هو بكاهن! لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا:
فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضة ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر! قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السّحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله! إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه، لأن تقولوا: هو ساحر جاء بقول، هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم. لا يمرّ بهم أحد إلا حذّروه إياه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة، وفي ذلك، من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... الآيات.
وعن قتادة: قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله الآيات- رواه ابن جرير-.
وثم روايات بنحو ما ذكر.
وقد روى مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة. وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه(9/355)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
أسلم منهم ثلاثة: خالد وعمار وهشام. قال ابن حجر في (الإصابة) : والصواب خالد وهشام والوليد. فأما عمارة، فإنه مات كافرا، لأن قريشا بعثوه للنجاشيّ، فجرت له معه قصة، فأصيب بعقله. وقد ثبت أنه ممن دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش، لما وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره، وهو يصلّي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 26 الى 30]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي جهنم. وهو بدل من سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً بدل اشتمال، لاشتمال سَقَرُ على الشدائد وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قال الزمخشري:
أي لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء، ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ أي محرقة لجلود، من (لوّحته الشمس) إذا سوّدت ظاهره وأطرافه.
و (البشر) جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. أو اسم جنس بمعنى الناس. وجوّز أن يكون المعنى: لائحة للناس، من (لاح) بمعنى ظهر، والبشر بمعنى الناس. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي من الخزنة المتولّين أمرها، والتسلط على أهلها، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخرويّ، تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافا مضاعفة، تنبيها على هول العذاب، وكبر مكانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : آية 31]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي خزنتها إِلَّا مَلائِكَةً أي وهم أقوى الخلق بأسا، وأشدهم غضبا لله، ليباينوا جنس المعذبين، فلا يستروحون لهم. وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي من مشركي قريش. أي إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون، فيجعلوها موضع البحث والهزء.
قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر(9/356)
على أن يقوّي هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء.
وقال الكعبيّ: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوّض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعيّن إلى علم الخالق سبحانه. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي رسالة النبيّ صلوات الله عليه لإنبائه من وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه. واللام متعلقة ب جَعَلْنا الثانية.
فإن قيل: كيف يصح جعلهم في نفس الأمر على هذا العدد، معللا باستيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين، واستبعاد أهل الشك والنفاق، وليس إيجادهم تسعة عشر سببا لشيء من ذلك، وإنما السبب لما ذكر، هو الإخبار عن عددهم بأنه تسعة عشر؟
والجواب: أن الجعل يطلق على معنيين:
أحدهما- جعل الشيء متصفا بصفة في نفس الأمر.
وثانيهما- الإخبار باتصافه بها، ويقال له: الجعل بالقول. أي وما جعلنا عدتهم بالإخبار عنها إلا عددا يقتضي فتنتهم، لاستيقان أهل الكتاب ... إلخ. أي وقلنا ذلك وأخبرنا به لاستيقان ... إلخ. وعبر عن الإخبار بالجعل، لمشاكلة قوله وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ ... إلخ- هذا ما قرّره شرّاح القاضي-.
وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي تصديقا إلى تصديقهم بالله ورسوله. وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟
قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة، والكافرون بمكة، ماذا أراد الله بهذا مثلا. وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون، كسائر الإخبارات بالغيوب. وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكّين، وبعضهم قاطعين بالكذب. انتهى.
وقال الرازي: إن قيل: لم سموه مثلا؟(9/357)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
فالجواب: أنه لما كان هذا عددا عجيبا، ظن القوم أنه ربما لم يكن مرادا لله منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلا لشيء آخر، وتنبيها على مقصود آخر، لا جرم سموه مثلا.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أي إضلاله لصرفه اختياره إلى جانب الضلال:
عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي هدايته لصرف اختياره عند مشاهدته لتلك الآيات إلى جانب الهدى وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ قال الزمخشري: أي وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل، وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده، من الحكمة إلا هو. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، كما لا يعرف الحكمة في أعداد السموات والأرضين وأمثالها. أو وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعزّ عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكور، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها. انتهى.
ويجوز أن تكون الجملة تأييدا لكون ما تقدم مثلا. أي أن المؤمنين يستيقنون بأن عدتهم ضربت مثلا للكثرة غير المعتاد سماعها للكافرين. ومن سنته تعالى ضرب الأمثال في تنزيله، وإلا فلا يعلم جنوده التي يسلطها على تعذيب من يشاء إلا هو. وهذا معنى آخر، لم أقف الآن على من نبه عليه. ويؤيده قوله:
وَما هِيَ أي عدتهم المذكورة إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي عظة يرهبون منها عذاب النار، وهول أصحابها.
وقيل الضمير ل (سقر) . وقيل: للآيات. والأقرب عندي هو الأول لسلامته من دعوى كون ما قبله معترضا، إذا أعيد الضمير لغيره، ولتأييده لما قبله بالمعنى الذي ذكرناه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 37]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
كَلَّا ردع لمن أنكر العدة أو سقر أو الآيات. أو إنكار لأن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى ذاهبا بطلوع الفجر.(9/358)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء. ومن فوائد القسم بها الاعتبار بفوائدها، والاستدلال بآياتها، كما تقدم في سورة (الصافات) :
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي الأمور العظام.
نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي إنذارا لهم، فنصبه على أنه تمييز عن (إحدى) لما تضمنه من معنى التعظيم، كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا. ف نَذِيراً بمعنى الإنذار، كنكير بمعنى الإنكار. أو على أنه حال عما دلت عليه الجملة. أي كبرت منذرة، ف نَذِيراً مصدر مؤول بالوصف، أو وصف بمعنى منذرة.
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أي يسبق إلى الإيمان والطاعة أَوْ يَتَأَخَّرَ أي يتخلف. ولِمَنْ بدل من لِلْبَشَرِ أي منذرة لمن شاءوا التقدم والفوز، أو التأخر والهلاك. أو خبر مقدم، وأَنْ يَتَقَدَّمَ مبتدأ مؤخر، كقولك لمن توضأ أن يصلي، كآية فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 39] ، وفي الثاني بعد وزعم أبو حيان أن اللفظ لا يحتمله، ولم يسلم له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 48]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي مرهونة ومحبوسة به عند الله تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي فإنهم فكوا رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. فِي جَنَّاتٍ أي هم في جنات لا يدرك وصفها يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يسألون عنهم. وإيثار صيغة التفاعل للتكثير. ومنه (دعوته وتداعيناه) .
وقال القاشاني: أي يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين، لاطلاعهم عليها، وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر، فأجاب المسؤولون بأنا سألناهم عن حالهم بقولنا: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا أي بلسان الحال أو المقال لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي كنا(9/359)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية، ومحبة المال، وترك العبادات البدنية، والخوض في الباطل، والهزء والهذيان، والتكذيب بالجزاء، وإنكار المعاد.
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت، فرأينا به ما كنا ننكره عيانا. فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي من نبيّ أو ملك، لو قدر على سبيل فرض المحال، لأنهم غير قابلين لها. فلا إذن في الشفاعة لذلك. فلا شفاعة، فلا تنفع.
قال ابن جرير: أي فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذكره، مشفّع بعض خلقه في بعض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المدثر (74) : الآيات 49 الى 56]
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين، لا يستمعون لها، فيتعظوا ويعتبروا. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ أي كأنهم في الإعراض عن الذكرى، وبلادة قلوبهم، حمر شديدة النفار. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد، أو عصبة قنص من الرماة. بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم. ونحوه آية وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124] ، وآية وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] ، وآية وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ... [الأنعام: 7] الآية.
كَلَّا أي لا يكون مرادهم، ولا يتبع الحق أهواءهم. أو ليس إرادتهم تلك للرغبة في الإيمان، فقد جاءهم ما يكفيهم عن اقتراح غيره، وإنما هم مردة الداء، ولذا قال: بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يخشون العقاب، لإيثارهم العاجلة. أي فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، والإباء عن الإيمان بتنزيله. كَلَّا ردع عن إعراضهم إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي فاتعظ(9/360)
وعمل بما فيه من أمر الله ونهيه. وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي ذكرهم واتعاظهم، لأنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه. وفيه ترويح لقلبه صلوات الله عليه، مما كان يخامره من إعراضهم، ويحرص عليه من إيمانهم. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أي حقيق بأن يتقى عقابه، ويؤمن به ويطاع. وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه.(9/361)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القيامة
قال المهايمي: سميت به لتضمنها غاية تعظيم ذلك اليوم، من لا يتناهى ثوابه وعقابه، بحيث تتحسّر فيه كل نفس من تقصيرها، وإن عملت ما عملت.
وهي مكية. وآيها أربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال القاشاني: جمع بين القيامة والنفس اللوامة، في القسم بهما، تعظيما لشأنهما، وتناسبا بينهما. إذ النفس اللوامة، هي المصدقة بها، المقرة بوقوعها، المهيئة لأسبابها، لأنها تلوم نفسها أبدا في التقصير، والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت، لحرصها على الزيادة في الخير، وأعمال البر، تيقنا بالجزاء، فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانا.
ومر الكلام على لا أُقْسِمُ في مواقعه قبل هذا فتذكر. وحذف جواب القسم لدلالة قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 3 الى 4]
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ عليه، وهو لتبعثنّ. قال القاشانيّ: المراد بالقيامة، هاهنا، الصغرى، لهذه الدلالة بعينها.
بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي بلى! نجمع عظامه، قادرين تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها، على صغرها ولطافتها، وضم بعضها إلى بعض، فكيف بكبار العظام؟!(9/362)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : آية 5]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي ليدوم على الفجور، فيما يستقبله من الزمان، ولا يثنيه عنه شيء، ولا يتوب منه أبدا.
قال الشهاب: أَمامَهُ ظرف مكان، استعير هنا للزمان المستقبل، فيفيد الاستمرار والضمير للإنسان، أو ليوم القيامة. وقيل الدوام والاستمرار، لأنه خبر عن حال الفاجر، بأنه يريد ليفجر في المستقبل. على أن إرادته وحسبانه هما عين الفجور. وفي إعادة المظهر ما لا يخفى من التهديد ونعي قبيح ما ارتكبه، وأن الإنسانية تأباه. وقيل: حمله على الاستمرار ليصح الإضراب، ويصير المعنى بل يريد الإنسان أن يستمر على فجوره، ولا يتوب، فلذا أنكر البعث.
وقال القاشانيّ: أي ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية، والشهوات البهيمية، غارزا رأسه فيها، فيما بين يده من الزمان الحاضر والمستقبل، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها، وكونه مقصورا على اللذات العاجلة، وفرط تهالكه عليها، واحتجابه بها عن الآجلة، سائلا عنها، متعنتا مستبعدا إياها، كما قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 6 الى 13]
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي متى يكون؟ استبعادا وهزؤا. والجملة استئناف أو حال أو تفسير لقوله (يفجر) ، أو بدل منه والاستئناف بيانيّ، كأنه قيل: لم يريد الدوام على الفجور؟ قيل: لأنه أنكر البعث واستهزأ به فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي تحير ودهش. أي لما أتى من أمر الله. قال مجاهد: أي عند الموت. وَخَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب ضوؤه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي جمع بينهما في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منهما. وقيل: إنها يجمعان ثم يكوران، كما قال جل ثناؤه إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] ، قال ابن زيد: جمعا فرمي بهما في الأرض. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار. أي يطلب مهربا ومحيصا لدهشته، أو يقول قول الآيس لعلمه بأنه لا قرار حينئذ. كَلَّا ردع له عن طلب المفر، لا وَزَرَ أي لا ملجأ.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
أي مستقر العباد، من نار أو جنة. أي مفرض إليه لا إليه لا إلى غيره مستقرهم، أو استقرار أمرهم، والحكم فيهم يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
أي(9/363)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه، من الخيرات والصالحات، وَأَخَّرَ
أي منه ففرط وقصر فيه ولم يعمله.
قال الشهاب: بِما قَدَّمَ
كناية عما عمل، وما أَخَّرَ
ما تركه ولم يعمله.
وهو مجاز مشهور فيما ذكر. أو ما قدمه، ما عمله، وما أخره، عمل من اقتدى به بعده عملا له، كأنه وقع منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 15]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال القاشاني: أي حجة بينة، يشهد بعمله، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه، ورسوخها في ذاته، وصيرورة صفاته صور أعضائه، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج.
قال الشهاب: بَصِيرَةٌ
مجاز عن الحجة الظاهرة. أو بَصِيرَةٌ
بمعنى بينة، وهي صفة لحجة مقدرة. وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصر بها، فالإسناد مجازيّ.
أو هي بمعنى دالة مجازا. أو هو استعارة مكنية وتخييلية. والْإِنْسانُ
مبتدأ، وبَصِيرَةٌ
خبره، وعَلى
متعلق به. والتأنيث للمبالغة، أو لكونه صفة (حجة) .
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة. وفيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك وعبادة الأوثان، وإنكار البعث، منكر باطل، تنكره قلوبهم، وأنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل. ولا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة، والدين دين الفطرة.
قال الشهاب: شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به، فيكون فيه تشبيه لذلك بالماء المرويّ للعطش.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 19]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجلة، مخافة أن يتفلت منك. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أي في صدرك، وإثبات حفظه في قلبك، بحيث لا يذهب عليك منه شيء. وَقُرْآنَهُ
أي أن تقرأه بعد فلا تنسى فَإِذا قَرَأْناهُ
أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام،(9/364)
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي كن مقفيا له ولا تراسله. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما فيه، إذا أشكل عليك شيء من معانيه، أو أن نبيّنه على لسانك.
تنبيهات:
الأول- ما ذكرناه في تأويل الآية هو المأثور في الصحيحين وغيرهما.
ولفظ البخاري «1» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرّك شفتيه إذا أنزل عليه، فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
يخشى أن يتفلت منه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
أن نجمعه في صدرك وَقُرْآنَهُ
أن تقرأه فَإِذا قَرَأْناهُ
يقول أنزل عليه فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
أن نبيّنه على لسانك. زاد في رواية: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قرأه.
قال ابن زيد: أي لا تكلم بالذي أوحينا إليك، حتى يقضى إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلم به. يعني: أن هذه الآية نظير قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] .
قال ابن كثير: وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد أن هذه الآية نزلت في ذلك، وأنها تعليم من الله عزّ وجلّ لرسوله، كيفية تلقيه الوحي.
الثاني- ذكروا في مناسبة وقوع الآية معترضة في أحوال القيامة- على تأويلهم المتقدم- وجوها:
منها- تأكيد التوبيخ على ما جبل عليه الإنسان- والمرء مفتون بحب العاجل- حتى جعل مخلوقا من عجل. ومن محبة العاجل، وإيثاره على الآجل، تقديم الدنيا الحاضرة على الآخرة، الذي هو منشأ الكفر والعناد، المؤدي إلى إنكار الحشر والمعاد. فالنهي عن العجلة في هذا يقتضي النهي فيما عداه، على آكد وجه. وهذه مناسبة تامة بين ما اعترض فيه وبينه. قاله الشهاب.
ومنها- أن عادة القرآن، إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد، حيث يعرض يوم القيامة، أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملا وتركا، كما قال في الكهف: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: 49] ، إلى أن قال:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الوحي، 4- حدثنا موسى بن إسماعيل، حديث رقم 5.(9/365)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ [الإسراء: 89] الآية. وقال في طه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 102] ، إلى أن قال فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] .
ومنها- أن أول السورة لما نزل إلى قوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وحرّك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزلت لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلى قوله: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدأ به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مثلا مسألة، فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهّم ما أقول. ثم كمل المسألة فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسبا للمسألة، بخلاف من عرف ذلك- قاله الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) -.
الثالث- استدلوا على التأويل السابق بقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور لما تقتضيه ثُمَّ من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب، وتبعوه.
وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسان، فلا!.
قال الآمدي: يجوز أن يراد بالبيان الإظهار، لا بيان المجمل. يقال (بان الكوكب إذا ظهر) قال: ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص بالأمر المذكور دون بعض.
وقال أبو الحسين البصري: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله بَيانَهُ جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك- قاله الحافظ في (الفتح) -.
وجوز القفال أن تكون ثُمَّ للترتيب في الإخبار. أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه، فلا تدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وضعفه الرازي بأنه ترك للظاهر من غير دليل.
الرابع- ما قدمناه من معنى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
إلخ، وما استفيد(9/366)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
منه، وما قيل في مناسبته لما قبله، كله إذا جرى على المأثور فيها. وحاول القفال معنى فقال كما نقله عنه الرازي-: إن قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
ليس خطابا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: 13] ، فكان ذلك حال ما ينبأ بقبائح أفعاله، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] . فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف، وسرعة القراءة، فيقال له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة، أن نجمع أعمالك عليك، وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه، بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال. ثم إن علينا بيان أمره، وشرح مراتب عقوبته.
وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية: أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله، على سبيل التفصيل. وفيه أشد الوعيد في الدنيا، وأشد التهويل في الآخرة.
ثم قال القفّال: فهذا وجه حسن، ليس في العقل ما يدفعه، وإن كانت الآثار غير واردة به. انتهى.
ونقل الشهاب أن بعضهم ارتضى هذا الوجه، وقدمه على الوجه السابق.
وزعم الحافظ ابن حجر أن الحامل على هذا الوجه الأخير هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة. أي ولما بيّن الأئمة المناسبة التي أثرناها عنهم، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه الأخير، مع أن هذا الوجه- هو فيما يظهر- فيه غاية القوة والارتباط به قبله وما بعده، مما يؤثره على المأثور، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية. ومما يؤيده ما أورد عليه أن ابن عباس لم ير النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ البعث النبوي، ولم يكن ابن عباس ولد حينئذ. ولا مانع- كما قال ابن حجر- أن يخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك بعد، فيراه ابن عباس، أو يخبر به، فيكون من مراسيل الصحابة- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 25]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا العاجلة، بإيثار شهواتها. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ(9/367)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
أي بالإعراض عن الأعمال التي تورث منازلها، أو تنسون الآخرة ووعيدها، وهول حسابها وجزائها. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي حسنة جميلة من النعيم إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أي مشاهدة إياه، ترى جمال ذاته العلية، ونور وجهه الكريم، كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي كالحة، لجهامة هيئاتها، وهول ما تراه هناك من الأهوال، وأنواع العذاب والخسران. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية تفصم فقار الظهر، لشدتها وسوء حالها ووبالها. وشتان ما بين المرتبتين! ويظهر أن في عود الضمير من بِها إلى الوجوه- مرادا بها الذوات- شبه استخدام. ولم أر من نبه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 30]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ أي بلغت النفس أعالي الصدر. وإضمارها، وإن لم يجر لها ذكر، لدلالة السياق عليها، كقول حاتم:
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
قال الرازي: يكنى ببلوغ النفس التراقي، عن القرب من الموت، ومنه قول دريد ابن الصمة:
ورب عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التّراقي
ونظيره قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] . وَقِيلَ مَنْ راقٍ
قال ابن جرير: أي وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به، وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد نزل به شيئا. أي فالاستفهام بمعنى الطلب لراق أو طبيب. وجوز كونه بمعنى الإنكار، يأسا من أن يقدر أحد على نفعه برقية أو عوذة.
لطيفة:
قال الواحدي: إن إظهار النون عند حروف الفم لحن. فلا يجوز إظهار نون مَنْ
في قوله: مَنْ راقٍ
. وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله: مَنْ راقٍ
وبَلْ رانَ قال أبو علي الفارسي: ولا أعرف وجه ذلك. قال الواحدي:(9/368)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
والوجه أن يقال قصد الوقف على مَنْ
وبَلْ فأظهرهما. ثم ابتدأ بما بعدهما.
وهذا غير مرضي من القراءة. انتهى.
نقله الرازي.
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وأيقن الذي قد نزل ذلك به، أنه فراق الدنيا والأهل والمال. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت ساقه بساقه، فلا يقدر على تحريكها.
وقيل: هما ساقاه، إذا التفتا في الكفن. وقيل: الساق عبارة عن الشدة، كما مر في سورة (القلم) . والتعريف للعهد أيضا.
قال الشهاب: فإن قلت: ما مرّ هو الكشف عن الساق، ووجه ظاهر، لأن المصاب يكشف عن ساقه، فكيف ينزل هذا عليه؟
قلت: الأمر كما ذكرت، لكنه شاع فيه، ففهم ذلك من الساق وحده، حتى صار عبارة عن كل أمر فظيع- كما أشار إليه الراغب- انتهى.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي سوقه إلى حكمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 40]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
فَلا صَدَّقَ أي بالدين والكتاب. أو صدق ماله، أي ما زكاه وَلا صَلَّى أي الصلاة التي هي رأس العبادات، التي سها عنها. وَلكِنْ كَذَّبَ أي بدل التصديق وَتَوَلَّى أي بدل الصلاة التي بها كمال التوجه إلى الله تعالى: ثُمَّ أي مع هذه التقصيرات في جنب الله تعالى: ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتبختر في مشيته.
وأصله (يتمطط) أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه.
تنبيهات:
الأول- الضمير في الآيات للإنسان المتقدم في قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.
الثاني- قال الرازي: إنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين،(9/369)
ولكن كذب به. وأما ما يتعلق بفروع الدين فهو أنه ما صلى، ولكنه تولى، وأعرض.
وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ويختال في مشيته.
الثالث- دلت الآية على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
الرابع- قال الرازي: قال أهل العربية: (لا) هاهنا في موضع (لم) فقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصلّ، وهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] ، أي لم يقتحم.
وكذلك ما روي «1» : أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا استهل. قال الكسائيّ: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها، حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحا بها، أو مقدرا. أما المصرح، فلا يقولون لا عبد الله خارج، حتى يقولوا ولا فلان، ولا يقولون مررت برجل لا يحسن، حتى يقولوا ولا يجمل. وأما المقدر فهو كقوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] ، ثم اعترض الكلام فقال: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ، وكان التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، فاكتفى به مرة واحدة. ومنهم من قال: التقدير في قوله: فَلَا اقْتَحَمَ أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم. انتهى. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك مرة بعد مرة. دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه وأذلاء متكررا متضاعفا.
وقيل: المعنى بعدا لك. فبعدا في أمر دنياك، وبعدا لك فبعدا في أمر أخراك- حكاه الرازي عن القاضي- ثم قال: قال القفال: هذا يحتمل وجوها.
أحدها- أنه وعيد مبتدأ من الله للكافر.
والثاني- أنه شيء قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم لعدوه- يعني أبا جهل- فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك.
والثالث- أن يكون ذلك أمرا من الله لنبيه بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى، فقل له يا محمد: أولى لك فأولى، أي احذر،
__________
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه في: الطب، 46- الكهانة، حديث رقم 2269، عن أبي هريرة، ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها. فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية ما في بطنها غرة: عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك بطل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهّان
.(9/370)
فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه. انتهى. والأظهر هو الأول.
لطيفة:
تفسير أَوْلى لَكَ ب (ويل لك) قال الشهاب: هو محصل معناه المراد منه، فإنه مثله، فيرد للدعاء عليه، أو للتهديد والوعيد.
وعن الأصمعي أنها تكون للتحسر على أمر فات.
هذا هو المعنى المراد بها. وأما الكلام في لفظها فقيل: هو فعل ماض دعائي من (الولي) واللام مزيدة. أي أولاك الله ما تكرهه. أو غير مزيدة، أي أدنى الهلاك لك. وقريب منه قول الأصمعي: إن معناه قاربه ما يهلكه أن ينزل به. واستحسنه ثعلب.
وقيل: إنه اسم وزنه (أفعل) من الويل، فقلب. وقيل فعلى، ولذا لم ينون.
ومعناه ما ذكر، وألفه للإلحاق لا للتأنيث. وعلى الاسمية هو مبتدأ، و (لك) الخبر.
وقيل: إنه اسم فعل مبنيّ، ومعناه وليك شر بعد شر.
ونقل الزمخشري عن أبي عليّ أنه علم لمعنى الويل، وهو غير منصرف للعلمية ووزن الفعل. وقيل عليه: إن الويل غير متصرف، ومثل (يوم أيوم) غير منقاس، ولا يفرد عن الموصوف. وادعاء القلب من غير دليل، لا يسمع، وعلم الجنس خارج عن القياس. فما ذكر بعيد من وجوه عدة. وقيل: الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه. فالتقدير هنا: النار أولى لك. يعني: أنت أحق بها، وأهل لها. انتهى.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي: هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، مع أنه الإنسان الذي أودع العقل وعلّم البيان، وغرز في طبعه أن يعيش مجتمعا، وخص من المواهب ما فضل على غيره. فمن تمام الإحسان إليه إنقاذه من حيرته، وإعلامه بسبيل هدايته، وأن لا يترك خابطا في متائه جهالته، وقد كان ذلك بفضل الله ونعمته، كما أشار لذلك بقوله:
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصبّ في الرحم.
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي دما فَخَلَقَ أي قدّر أعضاءه فَسَوَّى أي سوى تلك الأعضاء لأعمالها وعدّلها.(9/371)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي لبقاء نوعه، يعمر الدنيا إلى الأجل الذي كتبه وقدره.
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي فيوجدهم بعد مماتهم لعمارة الآخرة.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك، فبلى- رواه أبو داود عن رجل من الصحابة.
ورواه أيضا عن أبي هريرة بلفظ: من قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فليقل: بلى. ورواه الإمام أحمد والترمذي
أيضا- والله أعلم-.(9/372)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الإنسان
وتسمى سورة (الدهر) و (الأمشاج) و (هل أتى) وهي مكية وآيها إحدى وثلاثون.
روى الإمام مسلم «1» عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة- الم تنزيل السجدة- وهل أتى على الإنسان
. القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي في ذلك الحين، بل كان شيئا منسيّا، نطفته في الأصلاب. والاستفهام للتقرير.
قال الشهاب: أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر به من ينكر البعث. وقد علم أنهم يقولون: نعم، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه. فيقال لهم: فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا، كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟
والمراد بالإنسان جنس بني آدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 2]
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي ذات أخلاط، وهي موادها المؤلفة منها. جمع مشج أو مشيج. كسبب وأسباب، ونصير وأنصار. أو مفرد، كبرمة أعشار (البرمة القدر. وأعشار أي منكرة كأنها صارت عشر قطع) انتهى نَبْتَلِيهِ أي نختبره. والجملة في موضع الحال أي خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، لا عبثا وسدى فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي لننظر هل صرف سمعه وبصره إلى استماع آيات الله والنظر فيها. ولما كان تمام المنّة بهما بهبة العقل، أشار إليه بقوله سبحانه:
__________
(1) أخرجه في: الجمعة، حديث رقم 64.(9/373)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك. أي عرّفناه وبينا له ذلك، بأدلة العقل والسمع إِمَّا شاكِراً أي بالاهتداء والأخذ فيه وَإِمَّا كَفُوراً أي بالإعراض عنه. ونصبهما ب (يكون) مقدرة. أي ليكون إما شاكرا وإما كفورا. أي ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته. كقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
(قال الرازي) قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل: قد نصحت لك. إن شئت فاقبل وإن شئت فاترك. أي فإن شئت فتحذف الفاء. فكذا المعنى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ فإما شاكرا وإما كفورا. فتحذف الفاء. وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد. أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر، وإن شاء فليشكر. فإنا أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا. كقوله: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] . انتهى.
لطيفة:
قال في (النهر) : لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال (شاكرا) ولما كان الكفر كثيرا من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر قال: كَفُوراً بصيغة المبالغة. انتهى.
وهذا ألطف من القول بمراعاة رؤوس الآي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 4]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ أي ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شدّا في الجحيم وَأَغْلالًا أي لتشد فيها أيديهم إلى أعناقهم وَسَعِيراً أي نارا تسعر عليهم فتتوقد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)
إِنَّ الْأَبْرارَ أي الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه واجتناب معاصيه(9/374)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي خمر، أطلقت عليها للمجاورة كانَ مِزاجُها أي ما تمزج به كافُوراً قال ابن جرير: يعني في طيب رائحتها كالكافور. ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يثيرونها من منابعها في روض الجنة، إثارة مبهجة، تفننا في النعيم. وعَيْناً منصوب بنحو (يؤتون) والباء في بِها بمعنى من. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 7]
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا. كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم؟ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي عذابه مُسْتَطِيراً منتشرا ظاهرا للغاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 8]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي مع حب الطعام، كقوله: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، أو على حب الله تعالى، لما سيأتي من قوله: لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9] ، مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أي مأسورا من حرب أو مصلحة.
وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم. فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه. واليتيم مات من يعوله ويكتسب له، مع نهاية عجزه بصغره. والأسير لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة.
قال في (الإكليل) : والآية تدل على أن إطعام المشرك ما يتقرب به إلى الله تعالى، أي لقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 9]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال، إزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة وتوقع المكافأة. أي لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده. وإطلاق (الوجه) على الذات مجاز مشهور لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً أي ثناء ومديحا.(9/375)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 10]
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم عَبُوساً أي شديدا مظلما. أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه قَمْطَرِيراً أي شديد العبوسة والكرب. وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله، من الصالحات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 11 الى 13]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي بسبب ما ذكر من خوفهم منه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي في الوجوه وَسُرُوراً أي في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة الله واجتناب محارمه والدعوة لسبيله واحتمال الأذى جَنَّةً وَحَرِيراً أي يلبسونه ويتزيّنون به مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي السّرر لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي لا حرّا ولا بردا. من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 16]
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي ظلال أشجارها. أي قريبة منهم، مظلة عليهم، زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سهلت ثمارها لمتناوليها. فلا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شوك. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب، وهو كوز لا أذن له: كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال أبو البقاء: حسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلهما. ولولا التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية، لشدة اتصال الصفة بالموصوف قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم. فجاءت كما قدّروا. أو قدرها لهم السقاة على قدر ريّهم. لا يزيد ولا ينقص. وهو ألذّ للشارب، لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز.
قال أبو حيان: أقرب من هذا ما نحاه أبو حاتم. وهو أن أصله قدر ريهم منها تقديرا والري العطش، فحذف المضاف وحرف الجر وأوصل الفعل له بنفسه.
قال الشهاب: وفي كونه أقرب، نظر. فإنه أكثر تكلفا. ولكن كل حزب بما لديهم فرحون.(9/376)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 17 الى 18]
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي ما يشبهه في الطعم. وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وهي شديدة الجرية المنسابة بنوع خاص بهيج. ونصب عَيْناً بنحو (يؤتون) أو (ينظرون) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 19]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي لا يموتون. أو دائم شبابهم لا يتغيّرون عن تلك السن. أو مسوّرون. أو مقرطون. إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً أي لحسنهم وكثرتهم في منازلهم، وانبثاثهم في منازه أماكنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 20 الى 21]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي نظرت في الجنة، ورميت بطرفك ما أوتي الأبرار رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي واسعا لا ينفذه البصر عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما رقّ من الحرير خُضْرٌ قرئ بالرفع صفة ل ثِيابُ وبالجر ل سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ من الديباج. وفيه القراءتان، رفعا وجرّا وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً أي ليس برجس كخمر الدنيا. أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدى الوضرة، وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان التي لم يعن بتنظيفها. والآية مما يستروح بها في نجاسة الخمر، لما فيها من التعريض بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 22]
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
إِنَّ هذا أي ما عدّ من ثوابهم كانَ لَكُمْ جَزاءً أي على ما قدمتم من الصالحات وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مجازى عليه غير مضيّع.(9/377)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 23]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي عظيما لا يقدر قدره. أي فأمره الحق ووعده الصدق. والقصد تثبيت قلبه صلوات الله عليه، وشرح صدره وتحقيق أن المنزل وحي. وعدم المبالاة برميهم له بالسحر والكهانة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 24]
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي من الصدع به، والتبليغ لآية والعمل بأوامره وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي ولا تطع في معصيته تعالى من مشركي مكة، من ركب الإثم وجاهر بالكفر، ممن يريدك عن الرجوع عن دعوتك، بما شئت من مال أو مطلب وأَوْ إما على بابها. أي لا تطع من كان فيه أحد هذين الوصفين، فالنهي عمن اجتمعا فيه يعلم بالطريق الأولى. وإما بمعنى الواو.
قال الفرّاء: أَوْ هاهنا بمنزلة الواو. وفي الجحد والاستفهام والجزاء يكون بمعنى (لا) فهذا من ذلك مع الجحد. انتهى.
وإما بمعنى (بل) إضراب إلى وصف هو به أخلق وأجدر. وإما للتخيير في التسمية أي من شئت تسميه بالآثم أو الكفور، لتحقق مفهومهما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 26]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بدعائه وتسبيحه والصلاة له بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي بالتهجد فيه وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أي مقدارا طويلا، نصفه أو زيادة عليه. وفي هذه الأوامر، مع الأمر في أول (المزمل) وأمثالها، ما يدل على العناية بقيام الليل والحرص عليه.
ويأتي البحث المتقدم هنا أيضا. في أن الأمر خاص به صلوات الله عليه بناء على أنه للوجوب، أو يشمل غيره تبعا وهو للقدر المشترك، قولان معروفان في نظيره. والقصد حثه صلى الله عليه وسلم أن يستعين في دعوة قومه والصدع بما أمر به، بالصبر على(9/378)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
أذاهم والصلاة والتسبيح وقد كثر ذلك في مواضع من التنزيل كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ، وقوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: 39- 40] ، وأمثالهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 27]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
إِنَّ هؤُلاءِ أي المشركين يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي اللذات العاجلة، فيسعون لها جهدهم، وإن أهلكوا الحرث والنسل وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أي شديدا، لثقل حسابه وشدته وعسره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 28]
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وأعضاء بناهم.
قال الشهاب: الأسر، معناه لغة الشد والربط. ويطلق أيضا على ما يشد ويربط به. ولذا سمي الأسير أسيرا بمعنى مربوطا. فشبهت الأعصاب بالحبال المربوط بها، ليقوى البدن بها أو لإمساكها للأعضاء. ولذا سموها رباطات أيضا.
وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي بإهلاكهم والإتيان بآخرين. وهذا محط الترهيب، وما قبله كالتعليل له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : آية 29]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
إِنَّ هذِهِ أي السورة، أو الآيات القريبة تَذْكِرَةٌ أي عظة لمن اعتبر واتعظ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي بالطاعة الموصلة لقربه، إيصال السبيل للمقاصد.
فهو تمثيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإنسان (76) : الآيات 30 الى 31]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)(9/379)
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال ابن جرير: أي وما تشاءون اتخاذ السبيل إلى ربكم إلا أن يشاء الله ذلك لكم، لأن الأمر إليه لا إليكم. أي لأن ما لم يشأ الله وقوعه من العبد، لا يقع من العبد. وما شاء منه وقوعه، وقع. وهو رديف (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) هذا تأويل السلف. وقالت المعتزلة: أي وما تشاءون الطاعة إلا أن يشاء الله بقسرهم عليها. والمسألة مبسوطة في الكلام. وقد لخصناها في (شرح لقطة العجلان) فارجع إليه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوالهم وما يكون منهم حَكِيماً أي في تدبيره وصنعه وأمره يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ قال أبو السعود:
بيان لإحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته. أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها. وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل إليه تعالى، حيث يوفّقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني عذاب النار. وقاناه الله بمنه وكرمه.(9/380)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المرسلات
وتسمى سورة العرف وهي مكية وآيها خمسون.
روى البخاري «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله في غار بمنى، إذ أنزلت عليه و (المرسلات) فإنه ليتلوها، وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حيّة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها. فابتدرناها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتم شرها. وأخرجه مسلم «2» أيضا.
وروى الإمام أحمد «3» عن ابن عباس عن أمّه أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا. ورواه الشيخان أيضا «4» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7)
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً إقسام بالرياح المرسلة متتابعة كشعر العرف. أو بالملائكة المرسلة بأمر الله ونهيه. وذلك هو العرف. أو بالرسل من بني آدم المبعوثة بذلك فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً أي الرياح الشديدات الهبوب، السريعات الممرّ وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أي الرياح التي تنشر السحاب والمطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] ، وقوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ [الروم: 48] ، أو الملائكة التي تنشر الشرائع والعلم
__________
(1) أخرجه في: التفسير، سورة المرسلات، 1- باب حدثني محمود، حدثنا عبيد الله، حديث رقم 927.
(2) أخرجه في: السلام، حديث رقم 137.
(3) أخرجه في مسنده 6/ 338. [.....]
(4) أخرجه البخاري في: الأذان، 98- باب القراءة في المغرب، حديث رقم 463، عن أم الفضل.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 173.(9/381)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
والحكمة والنبوّة والهداية في الأرض فَالْفارِقاتِ فَرْقاً أي الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال الوحي والتنزيل. أو الآيات القرآنية التي تفرق كذلك. أو السحب التي نشرن الموات ففرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر كقوله:
لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16] ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً أي الملائكة الملقيات ذكر الله إلى أنبيائه، المبلغات وحيه عُذْراً أَوْ نُذْراً أي إعذارا من الله لخلقه، وإنذارا منه لهم. مصدران بمعنى الإعذار والإنذار. أي الملقيات ذكرا للإعذار والإنذار. أي لإزالة إعذارهم، وإنذارهم عقاب الله تعالى إن عصوا أمره إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب القسم. أي: إن الذي توعدون به من مجيء القيامة والجزاء، لكائن نازل، كقوله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] ، أو من زهوق ما أنتم عليه من الباطل، وظفر الحق بقرنه، أو ما هو أعم. والأول أولى. لإردافه بعلاماته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15]
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي محقت أو ذهب ضياؤها، كقوله: انْكَدَرَتْ [التكوير: 2] ، وانْتَثَرَتْ [الانفطار: 2] . وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شققت وصدعت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي اقتلعت من أماكنها بسرعة. فكانت هباء منبثا وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة للشهادة على أممهم والفوز بما وعدوه من الكرامة. والهمزة من أُقِّتَتْ مبدلة من الواو.
قال ابن جرير وقرأه بعض قراء البصرة بالواو وتشديد القاف. وأبو جعفر بالواو وتخفيف القاف. وكل ذلك قراءات معروفات ولغات مشهورات بمعنى واحد. فبأيتها قرأ القارئ فمصيب. غير أن من العرب من يستثقل ضمة الواو- كما يستثقل كسرة الياء في أول الحرف. فيهمزها.
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب. أي يقال لأي يوم أجلت فالجملة مقول قول مضمر، هو جواب (إذا) أو حال من مرفوع (أقتت) والمعنى ليوم عظيم أخرت أمور الرسل. وهو تعذيب الكفرة وإهانتهم، وتعظيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكرة من أحوال الآخرة وأهوالها، ولذا عظم شأن اليوم، وهوّل أمره بالاستفهام. وقوله تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل مما قبله، مبين له. أو متعلق بمقدر. أي أجلت ليوم الفصل بين الخلائق. وقد قيل: لامه بمعنى (إلى) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي بين السعداء والأشقياء. والاستفهام كناية عن تهويله وتعظيمه.(9/382)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بيوم الفصل. كما قال في سورة المطففين الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المطففين: 11] ، والتكذيب به، إنكار البعث له والحشر إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 19]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي الأمم الماضين المكذبين بالرسل والجاحدين بالآيات، كقوم نوح، وعاد، وثمود. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي من قوم لوط، وموسى.
فنسلك بهم سبل أولئك. وهو وعيد لأهل مكة كَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ العظيم. نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم وطغى وبغى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال ابن جرير: أي بأخبار الله التي ذكرها في هذه الآية، الجاحدين قدرته على ما يشاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي من نطفة ضعيفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي رحم استقر فيها فتمكّن إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وقت معلوم لخروجه من الرحم فَقَدَرْنا قرئ بالتخفيف والتشديد. أي فقدرنا على ذلك أو قدّرناه فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرته تعالى على ذلك، أو على الإعادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 25 الى 26]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً قال ابن جرير: أي وعاء. تقول هذا كفت هذا وكفيته إذا كان وعاءه. والمعنى ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم، تكفت أحياءكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم، وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها؟ وجائز أن يكون عنى بقوله: كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً تكفت أذاهم في حال حياتهم، وجيفهم بعد مماتهم. انتهى.
و (الكفات) إما اسم جنس لما يضم ويقبض. يقال: كفته الله إليه أي قبضه.
ولذلك سميت المقبرة كفتة وكفاتا. ومنه الضمام والجماع، لما يضم ويجمع. يقال(9/383)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
هذا الباب جماع الأبواب. وإما اسم آلة، لأن فعالا كثر فيه ذلك. أو مصدر كقتال.
أوّل بالمشتق ونعت به، كرجل عدل. أو جمع كافت كصائم وصيام. أو كفت بكسر فسكون كقدح وقداح.
وكِفاتاً منصوب على أنه مفعول ثان ل نَجْعَلِ لأنها للتصيير، وأَحْياءً وَأَمْواتاً منصوبان على أنهما مفعولان به ل كِفاتاً.
قال الشهاب: وهذا ظاهر على كون (كفاتا) مصدرا أو جمع كافت. لا على كونه اسم آلة فإنه لا يعمل، كما صرح به النحاة. وحينئذ فيقدر فعل ينصبه من لفظه، كما صرح به ابن مالك في كل منصوب بعد اسم غير عامل. وثمة وجوه أخر.
تنبيه:
في (الإكليل) قال إلكيا الهراسي: عنى بالكفات الانضمام. ومراده أنها تضمهم في الحالتين. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت فلا يرى منه شيء. وقال ابن عبد البرّ: احتج ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية. لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ، فيكون حرزا. انتهى.
ونقله القفّال عن ربيعة. وعندي أن مثل هذا الاحتجاج من الإغراق في الاستنباط وتكلف التماس ما يؤيد المذهب المتبوع كيفما كان، مما يعد تعسّفا وتعصّبا. وبين فحوى الآية وهذا الاستنباط ما بين المنجد والمتهم. ومثله أخذ بعضهم من الآية السابقة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ تأجيل القضاة الخصوم في الحكومات، ليقع فصل القضاء عند تمام التأجيل. كما نقله في (الإكليل) عن ابن الفرس.
ومآخذ الدين والتشريع ليست من الأحاجي والمعميات. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 27 الى 28]
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ أي جبالا شاهقات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : آية 29]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا أي يقال لهؤلاء المكذبين بهذه النعم والحجج التي احتج بها عليهم يوم القيامة: انطلقوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي من عذاب الله للكفرة الفجرة.(9/384)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 30 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي فرق. وذلك دخان جهنم المرتفع من وقودها، إذا تصاعد تفرّق شعبا ثلاثا، لعظمه.
قال الشهاب: فيه استعارة تهكمية لتشبيه ما يعلو من الدخان بالظل. وفيه إبداع، لأن الظل لا يعلو ذا الظل. وقوله تعالى: لا ظَلِيلٍ تهكم بهم. لأن الظل لا يكون إلا ظليلا أي مظللا. فنفيه عنه للدلالة على أن جعله ظلّا تهكم بهم، ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم، فنفي هذا الاحتمال بقوله: لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي لا يردّ عنهم من لهب النار شيئا. والمعنى أنه لا يظلهم من حرّها ولا يكنّهم من لهبها إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أي تقذف كل شررة كالقصر في عظمها، والقصر واحد القصور.
قال ابن جرير: العرب تشبّه الإبل بالقصور المبنية، كما قال الأخطل في صفة ناقة:
كأنها برج رومي يشيّده ... لزّ بجصّ وآجرّ وأحجار
ثم قال: وقيل بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ولم يقل كالقصور. والشرر جمع. كما قيل:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ولم يقل الأدبار لأن الدبر بمعنى الأدبار. وفعل ذلك توفيقا بين رؤوس الآي ومقاطع الكلام. لأن العرب تفعل ذلك كذلك. وبلسانها نزل القرآن.
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ وقرئ (جمالات) جمع (جمال) جمع (جمل) أو جمع (جمالة) جمع (جمل) أيضا. ونظيره: رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات، وحجارة وحجارات. صُفْرٌ أي في لونها. فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر. وقيل:
صفر أي سود.
قال قتادة وغيره: أي كالنوق السود، واختاره ابن جرير: زاعما أنه المعروف من(9/385)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
كلام العرب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي بحجة. أو في وقت من أوقاته. لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت. أو جعل نطقهم كلا نطق، لأنه لا ينفع ولا يسمع فلا ينافي آية وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، ووَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] ، وثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي لا يمهد لهم الإذن في الاعتذار، لعدم قبول معذرتهم بقيام الحجة عليهم. وإنما لم يقل (فيعتذروا) محافظة على رؤوس الآي. وقيل: هو معطوف على يُؤْذَنُ منخرط معه في سلك النفي. والمعنى ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له، من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الإذن وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي الحق بين العباد جَمَعْناكُمْ أي حشرناكم فيه وَالْأَوَّلِينَ أي من الأمم الهالكة فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ أي احتيال للتخلص من العذاب فَكِيدُونِ أي فاحتالوا له.
قال الزمخشري: تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي فإنه لا حيلة لهم في دفع العقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 46]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه فِي ظِلالٍ أي كنان من الحرّ والقرّ وَعُيُونٍ أي أنهار تجري خلال أشجار وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يرغبون، مقولا لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي في طاعتهم وعبادتهم وعملهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي حظكم حظ من أجرم، وهو الأكل والتمتع أياما قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المرسلات (77) : الآيات 47 الى 50]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(9/386)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أي اخضعوا لهذا الحق الذي نزل، وتواضعوا لقبوله، واخشعوا لذكره لا يَرْكَعُونَ أي لا يخضعون ولا ينقادون ولا يقبلون، تجبرا واستكبارا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي الذين كذبوا رسل الله، فردوا عليهم ما بلغوا من أمر الله إياهم ونهيه لهم. وتكرير آية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ للتأكيد. وهو من المقاصد الشائعة. وقيل: لا تكرار، لاختلاف متعلق كل منها.
وتقدم تمام البحث في سورة (الرحمن) فارجع إليه في خاتمتها فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي بعد هذا القرآن، إذا كذبوا به، مع وضوح برهانه وصحة دلائله، في أنه حق منزل من عنده تعالى. وفيه تنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه، فضلا عن أن يفوقه ويعلوه، فلا حديث أحق بالإيمان منه.(9/387)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النّبأ
وتسمى سورة عَمَّ يَتَساءَلُونَ. وهي مكية، وآيها أربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
عَمَّ يَتَساءَلُونَ أي هؤلاء المشركون بالله ورسوله. قال ابن جرير وذلك أن قريشا جعلت، فيما ذكر عنها، تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث.
فقال الله تعالى لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟. و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. انتهى.
والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت. والتفاعل إما على بابه، أو هو بمعنى (فعل) والمعنى على الأول يتساءلون فيما بينهم. وعلى الثاني يسألون الرسول صلوات الله عليه وسلامه، أو المؤمنين. قيل مجيء تفاعل بمعنى فعل إذا كان في الفاعل كثرة، مراعاة لمعنى التشارك بقدر الإمكان ونوقش بأن (تفاعل) يكون بمعنى (فعل) كثيرا وإن لم يتعدد فاعله. كتواني زيد وتدانى الأمر. بل حيث لا يمكن التعدد نحو تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 63] ، وقوله:
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للمفخم شأنه، أو للمبكت من أجله الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ أي منقسمون، بعضهم يجحده وآخر يرتاب فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 5]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع للمتسائلين ووعيد لهم. والتكرير للمبالغة لحذف مفعول العلم. فإما أن يقدر سيعلمون حقيقة الحال وما عنه السؤال.
أو سيعلمون ما يحل بهم العقوبات والنكال. فتكريره مع الإبهام، يفيد مبالغة. وفي(9/388)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
ثُمَّ إشعار بأن الوعيد الثاني أشد. لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ. فكأنه قيل:
ردع وزجر لكم شديد، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله. ولذا خص عطفه ب ثُمَّ غالبا. هذا ملخص ما في (العناية) .
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 11]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا وموطئا تتمهدونها وتفترشونها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي للأرض. أي أرسيناها بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهادا بسبب ذلك. قال الإمام مفتي مصر: وإنما كانت الجبال أوتادا لأن بروزها في الأرض كبروز الأوتاد المغروزة فيها، ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من الميدان والاضطراب، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك.
كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيشان.
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي ذكورا وإناثا. قال الإمام: ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة ودعة، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقا للملزوم وهو (السبات) بمعنى النوم، وإرادة لّلازم وهو (الاستراحة) . وقيل: السبات هو النوم الممتد الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم: إنه مسبوت وبه سبات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر، لما فيه من المنفعة والراحة، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في أماليه في لطائف تأويل هذه الآية.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد، وستره لهم.
قال الرازي: ووجه النعمة في ذلك، أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوّ أو بياتا له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه. قال المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبّر أن المانوية تكذب
وأيضا، فكما أن الإنسان، بسبب اللباس، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع(9/389)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني وأذى الأفكار الموحشة.
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي وقت معاش. إذ فيه تتقلب الخلق في حوائجهم ومكاسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 12 الى 16]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال الرازي: أي سبع سماوات شدادا جمع (شديدة) يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان، لا فطور فيها ولا فروج.
وقال الإمام: السبع الشداد الطرائق السبع. وهي ما فيه الكواكب السبعة السيارة المشهورة. وخصها بالذكر لظهورها ومعرفة العامة لها. وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً أي متلألئا وقّادا. يعني الشمس وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ أي السحائب إذا أعصرت، أي شارفت أن تعصرها الرياح ماءً ثَجَّاجاً أي منصبّا متتابعا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً قال ابن جرير: الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد. والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع.
وقال الزمخشري: يريد ما يتقوّت من نحو الحنطة والشعير، وما يعلف من التبن والحشيش. كما قال: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] .
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي حدائق ملتفة الشجر، مجتمعة الأغصان.
قال الرازي: قدم الحب لأنه الأصل في الغذاء. وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه. وأخر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع. فاحتج بقوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا إلخ على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئا بواسطة شيء آخر. أي لأن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه، بحكمته الباهرة، نظام العمران.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء، باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة كانَ أي عند الله وفي علمه وحكمه مِيقاتاً أي حدّا معينا، ووقتا مؤقتا، ينتهي الخلق إليه ليرى كلّ جزاء عمله يَوْمَ(9/390)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان. كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها بها إلى الحياة والحشر في الآخرة. كما قال القاشاني والشهاب.
وقال الإمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي فرقا مختلفة، كل فرقة مع إمامهم، على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 19 الى 20]
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً قال ابن جرير: أي وشققت السماء فصدعت، فكانت طرقا، وكانت من قبل شدادا لا فطور فيها ولا صدوع.
وقال القاضي فيما نقله الرازيّ: وهذا الفتح هو معنى قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ، إذ الفتح والتشقق والتفطر تتقارب، وهذا، كما قال ابن جرير، متين للغاية. وتعقب الرازي له، وقوف مع الألفاظ لا يفيد. لا سيما والأصل هو التفسير بالنظائر والأشباه.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً أي رفعت من أماكنها في الهواء. وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ. والجامع أن كلّا منهما يرى على شكل شيء، وليس به. فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك. والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء، ترى كأنها جبال وليست بجبال. بل غبار غليظ متراكم، يرى من بعيد كأنه جبل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 26]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً أي موضع رصد، يرصد فيه خزنتها من كان يكذب بها وبالمعاد. على أن مِرْصاداً اسم مكان. أو مجدّة في ترصدهم وارتقاب مقدمهم. على أنه صيغة مبالغة لِلطَّاغِينَ مَآباً أي للذين طغوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله استكبارا على ربهم، منزلا ومرجعا يصيرون إليه لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً أي دهورا متتابعة إلى غير نهاية. كقوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الأحزاب: 65] ، لا(9/391)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً
أي روحا وراحة وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارّا انتهى غليانه وَغَسَّاقاً أي صديدا. وهو ما يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، في حياض يجتمع فيها، فيسقونه جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا بذلك جزاء موافقا لما ارتكبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأخلاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 27 الى 29]
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً قال القاشاني: أي ذلك العذاب، لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافاة والتكذيب بالآيات. أي لفساد العمل والعلم. فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء، ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً قال القاشاني: أي كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم.
وقال الرازيّ: المراد من قوله: كِتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم. وهذا التأكيد إنما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر. فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال، لأنه واجب لذاته. انتهى.
وهو بمعنى ما نقله الشهاب أنه تمثيل لإحاطة علمه بالأشياء لتفهيمنا. وإلا فهو تعالى غني عن الكتابة والضبط. ومذهب السلف الإيمان بهذه الظواهر وتفويض تأويلها إلى الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 30 الى 36]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أي يقال لهم ذاك، تقريعا وغضبا وتأنيبا لهم من تخفيف العذاب، وإعلاما بمضاعفته.
ولما ذكر وعيد الكفار، تأثره بوعد الأبرار، بقوله سبحانه إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي فوزا بالنعيم. ونجاة من النار، التي هي مآب الطاغين حَدائِقَ وَأَعْناباً الحدائق(9/392)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
جمع حديقة وهي البستان فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به.
والأعناب معروفة. قال ابن جرير: أي وكروم وأعناب، فاستغنى بالأعناب عنها.
وَكَواعِبَ أي بنات فلكت ثديّهن، أي استدارت مع ارتفاع يسير أَتْراباً أي متساويات في السن وَكَأْساً دِهاقاً أي ملأى من خمر لذة للشاربين لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً أي باطلا من القول وَلا كِذَّاباً أي مكاذبة.
أي لا يكذب بعضهم بعضا.
قال الإمام: اللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم. فأراد الله إزاحة ذلك عنهم جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً أي جزاء لهم على صالح أعمالهم، تفضّلا منه تعالى بذلك الجزاء حِساباً أي كافيا، أو على حسب أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 37]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال ابن جرير: أي لا يملكون أن يخاطبوا الله. قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه. وقال غيره: أي لا يملكهم الله منه خطابا في شأن الثواب والعقاب. بل هو المتصرّف فيه وحده. وهذا كما تقول (ملكت منه درهما) ف (من) ابتدائية متعلقة ب (يملكون) وعلى ما ذكره ابن جرير من أن المعنى لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب، ف (منه) صلة (خطابا) كما تقول (خاطبت منك) على معنى خاطبتك. ك (بعت زيدا) أو (بعت من زيد) ف (منه) بيان مقدم على المصدر لا صلة (يملكون) وقد قرئ (رب) و (الرحمن) بالجر وبالرفع. وقرئ بجر الأول ورفع الثاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 39]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ أي جبريل عليه السلام وهو المعبّر عنه بروح القدس في آية أخرى وفيه أقوال أخر نقلها ابن جرير. وما ذكرناه أصوبها. والتنزيل يفسر بعضه بعضا.(9/393)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي اختياره، قال: لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام. وثبت أن القيام صحيح من جبريل، والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له. فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؟ وقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال القاشاني: أي صافّين في مراتبهم، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] .
وقال الرازي: يحتمل أن يكون المعنى صفّا وحدا. ويحتمل أنه صفان، ويجوز صفوفا. والصف في الأصل مصدر، فينبئ عن الواحد والجمع. ورجح بعضهم الأخير لآية وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] ، انتهى.
وقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً أي لا يتكلمون في الشفاعة كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، والضمير للملائكة أو أعمّ كقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] .
قال الزمخشري: هما شريطتان: أن يكون المتكلّم منهم مأذونا له في الكلام، وأن يتكلّم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] .
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الواقع الذي لا يمكن إنكاره والْحَقُّ صفة أو خبر.
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً قال ابن جرير: أي فمن شاء اتخذ بالتصديق بهذا اليوم الحق، والاستعداد له والعمل بما فيه، النجاة له من أهواله، مرجعا حسنا يؤوب إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النبإ (78) : آية 40]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني عذاب الآخرة وقربه. لأن مبدأه الموت وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أي من خير أو شرّ. أي ينظر جزاءه: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
أي مثله. لم أصب حظّا من الحياة، لما يلقى من عذاب الله الذي أعدّ لأمثاله. وقاناه الله بمنه وكرمه.(9/394)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة. والطامّة. وهي مكية. وآيها ست وأربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5)
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني الغزاة أو أيديهم. يقال للرامي (نزع في قوسه) إذا مدها بالوتر. و (نزع في قوسه فأغرق) و (أغرق النازع في القوس) إذا استوفى مدها.
ويضرب مثلا للغلوّ والإفراط. وغَرْقاً بمعنى إغراقا كالسلام بمعنى التسليم، وهو الإغراق بحذف الزوائد. أو وَالنَّازِعاتِ الكواكب. من (نزع الفرس سننا) جرى طلقا، أي الجاريات على السير المقدر، والحدّ المعين، مجدّة في السير، مسرعة للغاية. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً أي الخيل لأنها تخرج من دار إلى دار. من قولهم (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد. أو هي السهام. يعني خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها. وكل شيء حللته، فقد نشطته. ومنه (نشاط الرجل) وهو انبساطه وخفته.
أو الكواكب تنشط من برج إلى برج. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً أي الخيل تسبح في عدوها فتسبق إلى العدوّ. وهو مستعار من (سبح في الماء) لكنه ألحق بالحقيقة لشهرته. أو هي الكواكب تسبح في الفلك. لأن مرورها في الجو كالسبح، كما قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. [الأنبياء: 33] ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً أي الخيل تسبق إلى العدوّ في حومة الوغى. أو الكواكب السيارة تسبق غيرها في السير، لكونها أسرع حركة. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أي الخيل. أسند إليها أمر تدبير الظفر مجازا لأنها سببه. أو المدبرات مثل المعقبات. أي أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها، الأمر الذي هو النصر. أو هي الكواكب تدبر أمرا نيط بها. كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، مجازا أيضا. لأنها(9/395)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
سببه. أو هي الملائكة تدبر ما نيط بها من أمر الله تعالى. وقد جوّز فيما قبلها أن تكون الملائكة أيضا. واللفظ الكريم متسع لما ذكر من المعاني بلا تدافع. ولا إمكان للجزم بواحد، إذ لا قاطع. ولذا قال ابن جرير: الصواب عندي أن يقال إنه تعالى أقسم بالنازعات غرقا، ولم يخصص نازعة دون نازعة. فكل نازعة غرقا، فداخلة في قسمه ملكا أو نجما أو قوسا أو غير ذلك. وكذا عم القسم بجميع الناشطات من موضع إلى موضع. فكل ناشط فداخل فيما أقسم به، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها، بأن المعنى بالقسم من ذلك، بعض دون بعض. وهكذا في البقية. وكلامه رحمه الله متجه للغاية. إذ فيه إبقاء اللفظ على شموله، وهو أعم فائدة وعدم التكلف للتخصيص بلا قاطع. وإن كانت القرائن واستعمال موادها في مثلها وشواهدها، مما قد يخصص الصيغ. إلا أن التنزيل الكريم يتوقّى في التسرّع فيه ما لا يتوقى في غيره.
لطائف:
قال أبو السعود: العطف مع اتحاد الكل، بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور، حقيق بأن يكون على حياله، مناطا لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام، بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. وغَرْقاً مصدر مؤكد بحذف الزوائد. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضا على المصدرية، وأما أَمْراً فمفعول للمدبرات. وتنكيره للتهويل والتفخيم. والمقسم عليه محذوف، تعويلا على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه، وهو (لنبعثن) وبه تعلق قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 6 الى 10]
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ أي الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة. أي تتحرك حركة شديدة وتزلزل زلزلة عظيمة. فالإسناد إليها مجازي لأنها سببه. أو التجوز في الطرف يجعل سبب الرجف راجفا. أو الراجفة الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال. فتسميتها راجفة باعتبار الأول. قال الشهاب: ولو فسرت الراجفة بالمحركة جاز، وكان حقيقة. لأن (رجف) يكون بمعنى حرّك وتحرّك.(9/396)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي السماء وما فيها. تردفها فتنشق وتنتثر كواكبها. ولوقوع ذلك فيها بعد الرجفة الأولى، جعلت رادفة لها. أو الرادفة النفخة الثانية لبعث يوم القيامة.
قال الحسن: هما النفختان. أما الأولى فتميت الأحياء. وأما الثانية فتحيي الموتى. ثم تلا الحسن: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب، خوفا من عظيم الهول النازل أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة، مما قد علاها من الكآبة والحزن، من الخوف والرعب. وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال ابن جرير: أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركي قريش، إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت:
أإنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا؟ وقال أبو السعود: حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به، إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي، وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار. أي يقولون، إذا قيل لهم إنكم تبعثون، منكرين له متعجبين منه: أإنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة؟ أي في الحالة الأولى. يعنون الحياة. من قولهم (رجع فلان في حافرته) أي في طريقته التي جاء فيها فحفرها. أي أثر فيها بمشيه.
وتسميتها (حافرة) مع أنها محفورة كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة:
21] ، أي منسوبة إلى الحفر والرضا. أو كقولهم (نهاره صائم) على تشبه القابل بالفاعل. أي شبه القابل للفعل بمن يفعله، لتنزيله منزلته. فالاستعارة في الضمير المستتر، وإثبات الحافرية له، تخييل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 11 الى 14]
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي بالية. وقرئ ناخرة. من (نخر العظم) بلي. فصار يمرّ به الريح فيسمع له نخير، وقوله تعالى: قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي ذات خسر. أو خاسرة أصحابها أي إن صحت فنحن إذا خاسرون. قال ابن زيد: وأي كرة أخسر منها؟ أحيوا ثم صاروا إلى النار، فكانت كرة سوء.(9/397)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
وقال أبو السعود: هذا حكاية لكفر آخر لهم، متفرع على كفرهم السابق. ولعل توسيط قالُوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار، مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنها في كافة أوقاتهم. حسبما ينبئ. عنه حكايته بصيغة المضارع. أي قالوا ذلك بطريق الاستهزاء، مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة. وقوله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم لإحياء العظام النخرة التي عبروا عنها بالكرّة. فإن مداره لما كان استصعابهم إياها، رد عليهم ذلك، فقيل: لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة.
أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية. وفيه تهوين لأمر الإعادة. على وجه بليغ لطيف فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي على ظهر الأرض أحياء.
قال ابن جرير: والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة (قال) وأراهم سموا ذلك بها لأن فيه نوم الحيوان وسهرها. فوصف بصفة ما فيه. وقيل لأن السراب يجري فيها. من قولهم: (عين ساهرة) للتي يجري ماؤها، وفي ضدها نائمة. والسهر على الأول بمعناه المعروف، والتحوز في الإسناد.
وفي الثاني مجاز على المجاز، لشهرة لأول التي ألحقته بالحقيقة. ثم ذكّر سبحانه الكفرة ما حل بمن هو أشد منهم قوة، لما طغوا، ترهيبا وإنذارا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 16]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي خبره حين ناجاه ربه تعالى. قال أبو السعود:
ومعنى هَلْ أَتاكَ إن اعتبر هذا أول ما أتاه صلى الله عليه وسلم من حديثه عليه السلام، ترغيب له في استماع حديثه. كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به. وإن اعتبر إتيانه، قبل هذا، وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص، حمله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّ بأمر يعرفه قبل ذلك. كأنه قيل أليس قد أتاك حديثه؟
وقال الشهاب: المقصود من الاستفهام التذكير لا التقرير، كما قيل. ولا مجافاة في المعنى على كلّ، كما لا يخفى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً إلى حين ناداه بالوادي المطهر المبارك. وهو واد في أسفل جبل طور سيناء من برية فلسطين.
وإِذْ ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتيهما وطُوىً اسم لذلك الوادي.
ومصدر لنادى. أو المقدس. أي ناداه نداءين. أو المقدس مرة بعد أخرى.(9/398)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 17 الى 19]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي عتا وتجاوز حدّه في العدوان على بني إسرائيل، وانتحال صفات الربوبية، ونسبتها إلى نفسه فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي تتزكى وتتطهر من دنس الشرك والطغيان. وإِلى متعلقة بمبتدأ محذوف. أي هل لك سبيل أو رغبة إلى أن تتزكى؟
وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك. جيء ب إِلى فجعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أرشدك إلى علم ما يرضيه عنك. وذلك الدين القيم فَتَخْشى أي عقابه من سلب الملك وإذاقة البأس مكان النعم. وذلك بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه. وفيه إشارة إلى أن الخشية مسببة عن العلم. كما في آية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ، أي العلماء به.
قال الزمخشري:
ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر. من خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض. كما يقول الرجل لضيفه:
هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق. ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه. كما أمر بذلك في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] ، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 20 الى 26]
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي الدلالة الكبرى على أنه لله رسول أرسله إليه. والفاء فصيحة، تفصح عن جمل قد طويت، تعويلا على تفصيلها في السور الأخرى. أي فذهب وبلغ ورجع وتحدّى فأراه الآية الكبرى. وهو على ما قاله مجاهد، عصاه ويده.
أي عصاه إذ تحولت ثعبانا مبينا. ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين. وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة. أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل. والبقية(9/399)
كالتبع. وقيل وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل. أو هو للزيادة المطلقة فَكَذَّبَ وَعَصى أي فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، ودعاها سحرا، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربه وخشيته إياه ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عما هدي إليه. أو انصرف عن المجلس كبرا يَسْعى أي يجدّ في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيل النفسانية. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان، مرعوبا مسرعا في مشيه فَحَشَرَ أي جمع السحرة، أو قومه وأتباعه فَنادى أي في المجمع بنفسه أو بمناد فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي على كل من يلي أمركم. وفي (التنوير) : أي أنا ربكم ورب أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها.
قال القاضي: وقد كان الأليق به، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية، أن لا يقول هذا القول. لأن، عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول. انتهى.
وهذا على أنه أراد بالرب الخالق والموجد. والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى. وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره. ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته. ولذا أخذ أشد الأخذ. فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر، عند خروجهم من مصر، فأغرقه الله تعالى في البحر. وهو معنى قوله تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي عذبه عذابهما. أي أن أخذه لم يكن مقصورا على الإغراق وحده، بل نكل به وعذبه عذاب يوم القيامة. ونَكالَ مفعول مطلق (أخذ) بتأويل في الأول أو في الثاني، والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة. وقيل الآخرة هي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية.
قال القفال: وهذا كأنه هو الأظهر. لأنه تعالى قال: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فذكر المعصيتين ثم قال:
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فظهر أن المراد أنه عاقبة على هذين الأمرين.
انتهى.
وما ذكره القفّال كان وقع في قلبي قبل أن أراه. وأراني في إيثار له. ثم ختم تعالى القصة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أي في أخذه وما أحل به من العذاب والخزي، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه. فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين.(9/400)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ خطاب للمكذّبين بالبعث من قريش، المتقدم قولهم أول السورة، بطريق التبكيت، لتنبيههم على سهولته في جانب القدرة الربانية.
فإن من رفع السماء على عظمها، هيّن عليه خلقهم وخلق أمثالهم، وإحياؤهم بعد مماتهم.
كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:
57] ، وقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] ، ثم بيّن كيفية خلقها بقوله: بَناها قال ابن جرير: أي رفعها فجعلها للأرض سقفا وقال الإمام: البناء ضم الأجزاء المتفرّقة بعضها إلى بعض، مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة. وهكذا صنع الله بالكواكب. وضع كلّا منها على نسبة من الآخر، مع ما يمسك كلّا في مداره، حتى كان عنها علم واحد في النظر، سمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا. وهو معنى قوله: رَفَعَ سَمْكَها أي أعلاه و (السمك) قامة كل شيء وقد رفع تعالى أجرامها فوق رؤوسنا فَسَوَّاها عدلها بوضع كل جرم في موضعه وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما. قال ابن جرير: أضاف الليل إلى السماء، لأن الليل غروب الشمس، وغروبها وطلوعها فيها، فأضيف إليها لما كان فيها، كما قيل (نجوم الليل) إذ كان فيه الطلوع والغروب. وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها. و (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار. وإيثار الضحى لأنه وقت قيام سلطان الشمس وكمال إشراقها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد تسوية السماء على الوجه السابق، وإبراز الأضواء دَحاها أي بسطها ومهدها لسكنى أهلها، وتقلبهم في أقطارها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا وَمَرْعاها أي رعيها وهو النبات.
قال الشهاب: والمرعى ما يأكله الحيوان غير الإنسان، فأريد به هنا، مجازا، مطلق المأكول للإنسان وغيره. فهو مجاز مرسل.
وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة. لأن الكلام مع منكري الحشر(9/401)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
بشهادة قوله: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل: أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم، في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة.
وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها فيها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي انتفاعا إلى حين قال أبو السعود: ونصبه إما على أنه مفعول له، أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم، لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى، واصلة إليهم وإلى أنعامهم. فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكله الإنسان وغيره- كما تقدم- وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر. أي متعكم بذلك متاعا. أو مصدر من غير لفظه، فإن قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى أي الداهية العظمى التي تطم على كل هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها. وهي القيامة للحساب والجزاء يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمل من خير أو شر. وذلك بعرضه عليه وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي أظهرت نار الله لأبصار الناظرين فَأَمَّا مَنْ طَغى أي أفرط في تعديه ومجاوزته حد الشريعة والحق، إلى ارتكاب العصيان والفساد والضلال وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي متاعها وشهواتها، على كرامة الآخرة وما أعد فيها للأبرار فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي مأواه ومرجعه وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يديه للسؤال، أو جلاله وعظمته. أي اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي فيما يكرهه الله ولا يرضاه منها، فخالفها إلى ما أمره به فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي مصيره يوم القيامة وجواب (إذا) محذوف لدلالة التقسيم عليه. تقديره: ظهرت الأعمال. أو انقسم الناس قسمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)(9/402)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي إقامتها. أي متى يقيمها الله ويكوّنها.
قال الناصر: وفيه إشعار بثقل اليوم كقوله: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الإنسان: 27] ، ألا تراهم لا يستعملون الإرساء إلا فيما له ثقل، كمرسى السفينة وإرساء الجبال فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها
أي في أي شيء أنت من ذكر ساعتها لهم. أي ليس إليك ذكرها لأنها من الغيوب، فلا معنى لسؤالهم إياك عنها. ولذا قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي ما بعثت إلا لإنذار من يخاف حسابها، وعقاب الله على إجرامه. ولم تكلف علم وقت قيامها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي كأن هؤلاء المكذبين بها، وبما فيها من الجزاء والحساب، يوم يشاهدون وقوعها، من عظيم هولها، لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا ساعة من نهار، بمقدار عشية أو ضحاها. وإضافة الضحى إلى العشية، لما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في يوم واحد.(9/403)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة عبس
وتسمى الصاخبة. مكية وآيها اثنتان وأربعون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2)
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.
روى ابن جرير: وابن أبي حاتم: عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم، يمشي وهو يناجيهم. فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن وقال:
يا رسول الله! علمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه. وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيات. فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ وإذا ذهب من عنده قال: هل لك حاجة في شيء؟
قال ابن كثير: وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة.
والضحاك. وابن زيد. وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم.
والمشهور أن اسمه عبد الله. ويقال عمرو. والله أعلم. انتهى.
وقال الرازي: أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول صلوات الله عليه. وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم. قال الشهاب: وهو مكيّ قرشي من المهاجرين الأولين.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدنية في أكثر غزواته. وكان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.(9/404)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
قيل: عمي رضي الله عنه بعد نور. وقيل: ولد أعمى. ولذا لقبت أمه أم مكتوم. والتعرض لعنوان عماه، إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم: وإما لزيادة الإنكار. كأنه قيل: تولى لكونه أعمى. وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 3 الى 10]
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7)
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر- بما يتلقن منك- من الجهل أو الإثم.
وفي الالتفات إلى الخطاب إنكار للمواجهة بالعتب أوّلا، إذ في الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم، لإيهام أن من مصدر منه ذلك غيره، لأنه لا يصدر عنه مثله. كما أن في الخطاب إيناسا بعد الإيحاش، وإقبالا بعد إعراض.
وقال أبو السعود: وكلمة (لعل) مع تحقق التزكي، واردة على سنن الكبرياء أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم. للتنبيه على أن الإعراض عنه، عند كونه مرجوّ التزكي، مما لا يجوز. فكيف إذا كان مقطوعا بالتزكي؟ كما في قولك (لعلك ستندم على ما فعلت) وفيه إشارة إلى أن إعراضه كان لتزكية غيره. وأن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي يعتبر ويتعظ فتنفعه موعظتك. وتقديم التزكية على التذكر. من باب تقديم التخلية على التحلية.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بماله وقوته عن سماع القرآن والهداية والموعظة فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تعرض بالإقبال عليه، رجاء أن يسلم ويهتدي وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام. إن عليك إلا البلاغ. قال الرازي: أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أن تعرض عمن أسلم، للاشتغال بدعوتهم وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله ويتقيه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تعرض وتتشاغل بغيره.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم، وعدم إيثار الأغنياء عليهم. وقال الزمخشري: لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا. فقد روي(9/405)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.
الثاني: في هذه الآيات ونحوها، دليل على عدم ضنه صلى الله عليه وسلم بالغيب. قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم من الوحي شيئا، كتم هذا عن نفسه.
الثالث: قال الرازي: القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام، تمسكوا بهذه الآية وقالوا: لما عاتبه الله في ذلك الفعل، دل على أن ذلك الفعل كان معصية. وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد. وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء. وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام. وإذا كان كذلك، كان ذلك جاريا مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل، فلم يكن ذلك ذنبا البتة.
وأجاب الإمام ابن حزم في (الفصل) بقوله: وأما قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيات فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه. وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين. وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته، وهو حاضر معه. فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير، عما لا يخاف فوته. وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله، الذي لو فعله اليوم منا فاعل، لأجر. فعاتبه الله عزّ وجلّ على ذلك، إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه! انتهى.
وقال القاشاني: كان صلى الله عليه وسلم في حجر تربية ربه، لكونه حبيبا. فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق، عوتب وأدب كما
قال «1» : (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. انتهى. وقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 17]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
كَلَّا ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال أنس رضي الله عنه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه. رواه أبو يعلى. وقوله تعالى إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي إن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
__________
(1) أخرجه العسكري في: كشف الخفاء، عن علي رضي الله عنه.(9/406)
قال الشهاب: وكون عتابه على ما ذكر عظة، لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله. فما بالك بغيره؟ وجوّز عود الضمير للآيات وللسورة، والوصية بالمساواة بين الناس، ولدعوة الإسلام. وقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حفظه. على أنه من (الذكر) خلاف النسيان: أو اتعظ به، من (التذكير) .
قال الزمخشري: وذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقيل:
الضمير للقرآن. والكلام استطراد فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني صحف آيات التنزيل وسوره مَرْفُوعَةٍ أي عالية المقدار مُطَهَّرَةٍ من التغيير والنقص والضلالة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ جمع سافر بمعنى سفير. أو هو الذي سعى بين قومه بالصلح والسلام. يقال:
سفر بين القوم، إذا أصلح بينهم. ومنه قوله:
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغشّ، إن مشيت
والسفرة، إما الملائكة لأنهم يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله. كأنه محمول بأيديهم. وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس كِرامٍ أي عنده تعالى، لاصطفائهم للرسالة بَرَرَةٍ أي أخيار. جمع (بارّ) وهو صانع البر والخير.
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجّب عباده المؤمنين من ذلك. فكأنه قيل: وأي سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أنّ أوله نطفة قذرة وآخرة جيفة مذرة. وفيما بين الوقتين حمال عذرة. فلا جرم، ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم. فإن خلق الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر. ومرجعه إلى أن المراد بالإنسان من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به. وجوز أن يراد بالإنسان الجنس المنتظم للمستغني، ولأمثاله من أفراده، لا باعتبار جميع أفراده.
لطائف:
الأولى: قال الزمخشري: قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم.
لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.
الثانية: قال ابن جرير: في قوله: ما أَكْفَرَهُ وجهان أحدهما التعجب من(9/407)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده. والآخر ما الذي أكفره، أي أيّ شيء أكفره.
وعلى الثانية، فالهمزة للتصيير ك (أغدّ البعير) .
الثالثة: قال الزمخشري في هذه الآية: ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن منتنا ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة. مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة، على قصر متنه. وسره ما أشار له الرازيّ من أن قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. وقوله: ما أَكْفَرَهُ تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات.
الرابعة: أفاد في (الكشف) أن الدعاء ليس على حقيقته، لامتناعه منه تعالى، لأن منشأه العجز، فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني. أي لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 21]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ شروع في بيان إفراطه في الكفر، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره، من فنون النعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة، مع إخلاله بذلك. وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه، ثم بيانه بقوله تعالى:
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقير له. أي من أي شيء حقير مهين خلقه؟ من نطفة مذرة خلقه فَقَدَّرَهُ أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تم خلقه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهله. وهو مخرجه من رحم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه. أو سبيل الإسلام.
قال ابن زيد هداه للإسلام الذي يسره له وأعلمه به. أي بما غرز في فطرته من الخير، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق. وقال مجاهد: يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] ، واختاره أبو مسلم قال:
المراد من هذه الآية هو المراد من قوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين. أي جعلناه متمكنا من سلوك سبيل الخير والشر. والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب. نقله الرازيّ. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر يوارى فيه. تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض للطير والسباع، كالحيوان.(9/408)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
قال الفراء: ولم يقل (فقبره) لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله تعالى يقال (قبر الميت) إذا دفنه. و (أقبر الميت) إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر.
وقال ابن جرير: القابر هو الدافن الميت بيده كما قال الأعشى:
ولو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 22 الى 32]
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي بعثه بعد مماته وأحياه. وإنما قال: إِذا شاءَ لأن وقت البعث غير معلوم لأحد. فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى. متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم.
قال الشهاب: وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار، لأن وقتهما معين إجمالا، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية.
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ قال ابن جرير: أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أذى حق الله عليه، في نفسه وماله، فإنه لما يؤد ما فرض عليه من الفرائض، ربّه.
وقال القاشانيّ: لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين، تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير. وعدد النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس، من مبادئ خلقته، وأحواله في نفسه، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به. وقرر أنه مع اجتماع الدليلين، أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل، والتوصل بها إلى المنعم. بل احتجب بها وبنفسه عنه. انتهى.
ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه.
فقال سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي فإن لم يشهد خلق ذاته، وعمي عن(9/409)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
الآيات في نفسه، وأصر على جحوده توحيد ربه، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه. ماذا صنعنا في إحداثه وتهيئته لأن يكون غذاء صالحا، وقوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ أي من المزن صَبًّا أي شديدا ظاهرا. وقد قرئ بكسر همزة (إنا) على الاستئناف المبين لكيفية حدوث الطعام، وبالفتح على البدلية، بدل اشتمال. بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول. فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ، ادعاء ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي صدعناها بالنبات. أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يعني حب الزرع.
وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب وَعِنَباً وَقَضْباً وهو كل ما أكل من النبات رطبا، كالقثاء والخيار ونحوهما. سمي قضبا لأنه يقضب، أي يقطع مرة بعد أخرى وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة، عليها حوائط تحيط بها غُلْباً جمع غلباء أي ضخمة عظيمة.
وعظمها إما لاتساعها البالغ حد البصر، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها وَفاكِهَةً أي ما يؤكل من ثمار الأشجار وَأَبًّا وهو المرعى الذي تأكله البهائم من العشب والنبات مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي تمتيعا. مفعول له ل (أنبتنا) أو مصدر حذف فعله وجرّد من الزوائد. أي متعكم بذلك متاعا. وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني الداهية الشديدة، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان. يقال صخّه يصخه، ضرب أذنه فأصمها. وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان، وقد صخ صخيخا، وهو صوته إذا قرع. وصخ لحديثه إذا أصاخ له، بمعنى استمع كما في (الأساس) ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة، مجازا في الإسناد. وجواب (إذا) محذوف يدل عليه ما بعده. كيشتغل كل بنفسه، أو افترق الناس يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَبَنِيهِ أي لاشتغاله بنفسه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه.(9/410)
قال الشهاب: يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع، وكلاهما منتف لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره، وعلمه بعدم نفعه. وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة.
فهو للترقي. كذا قيل.
قال الشهاب: والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يكفيه في الاهتمام به. كأنه ذلك الهم الذي نزل به، قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيها بالغني وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مضيئة ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدموا من الخير والعمل الصالح ما ملأوا به صحفهم وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار وكدورة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي تغشاها ظلمة أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي الفسقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم.(9/411)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكوير
وتسمى سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وهو مكية وآيها تسع وعشرون.
روى الإمام أحمد «1» عن ابن عمر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة، كأنه رأي عين فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وهكذا رواه الترمذيّ «2» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي أزيلت من مكانها، وألقيت عن فلكها، ومحي ضوؤها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تنثرت وانقضّت وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي رفعت عن وجه الأرض، ونسفت. من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ أي تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب. والعشار جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر. وخصلها، لأنها أنفس أموالهم. أي فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت، فتركت من شدة الهول النازل بهم، فكيف بغيرها؟ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت من كل جانب واختلطت، لما دهم أوكارها ومكامنها من الزلزال والتخريب، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي: ملئت بتفجير بعضها إلى بعض، حتى تعود بحرا واحدا. من (سجر التنور) إذا ملأه بالحطب. كقوله: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وقيل: المعنى تأججت نارا. قال القفال: يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار،
__________
(1) أخرجه في المسند 2/ 27.
(2) أخرجه في: التفسير، سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.(9/412)
فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا. فإذا انتهت مدة الدنيا، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك. وأوضحه الإمام بقوله: وقد يكون تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا، أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ولا يبقى في البحار إلا النار.
أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار. ورد أن البحر غطاء جهنم، وإن لم يعرف في صحيحها. ولكن البحث العلميّ أثبت ذلك. ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار. انتهى.
قال الرازي: واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا، ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة. وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. انتهى.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت الأرواح بأجسادها. أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر، وصنّفت أصنافا ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء.
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن. قال السيد المرتضى في (أماليه) : الموءودة هي المقتولة صغيرة. وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل: 59] ، وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 140] ، ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:
أحدهما أنهم كانوا يقولون إن الإناث بنات الله، فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا. والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق. قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام: 151] . قال المرتضى: وجدت أبا علي الجبائيّ وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر. لأنهم يقولون من الموءودة وأد (يئد) (وأدا) والفاعل (وائد) والفاعلة (وائدة) ومن الثقل يقولون آدني الشيء يؤودني، إذا أثقلني، أودا. انتهى.
وإنما قال (بعض النظر) لأن القلب معهود في اللغة، فلا يبعد أن يكون (وأد) مقلوبا من (آد) . وقال المرتضى: فإن سأل سائل، كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين: أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم (سألت حقي) أي طالبت به ومثله قوله تعالى:(9/413)
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] ، أي مطالبا به مسؤولا عنه. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة، على سبيل التوبيخ له، والتقريع له، والتنبيه له، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، على طريق التوبيخ لقومه، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب، لم يمتنع أن يقع. وإن لم يكن من الموءودة فهم له. لأن الخطاب. وإن علق عليها، وتوجه إليها، والغرض في الحقيقة به غيرها. قالوا وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده فأقبل على ولده يقول له: ضربت ما ذنبك وبأي شيء استحل هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا:
إن الأطفال، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة، أن يكونوا كاملي العقول، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب. فإن كان الخير متظاهرا والأمة متفقة على أنهم في الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة، لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه. انتهى.
قال الشهاب: والتبكيت قرره الطيبيّ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه. فيرى براءة ساحته، وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب. وهذا استدراج على طريق التعريض، وهو أبلغ من التصريح. والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له. حتى يبين من صدر عنه ذلك. كما سئل عيسى دون الكفرة، وهو فن من البديع، بديع. انتهى.
وقال الزمخشريّ وإنما قيل (قتلت) بناء على أن الكلام إخبار عنها.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية تعظيم شأن الوأد، وهو دفن الأولاد أحياء.
وأخرج مسلم «1»
أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: الوأد الخفيّ. وهي: وإذا الموءودة سئلت.
انتهى.
__________
(1) أخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم 141، عن جذامة بنت وهب الأسدية.(9/414)
وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني وأدت بنات لي في الجاهلية.
قال: أعتق عن كل واحدة منهن رقبة. قال: يا رسول الله! إني صاحب إبل. قال:
فانحر عن كل واحدة منهن بدنة.
وروى الدراميّ «1»
في أوائل مسنده أن رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان. فكنا نقتل الأولاد. وكانت عندي ابنة لي. فلما أجابت، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها. فدعوتها يوما فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه يا أبتاه. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه. فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كف.
فإنه يسأل عما أهمه. ثم قال له: أعد علي حديثك. فأعاده. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته. ثم قال له: إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك.
وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها:
طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها. وقد حفر لها بئرا في الصحراء. فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها. ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.
ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة. فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة. وإن ولدت ابنا حبسته. وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال، جد الفرزدق بن غالب، بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن. قيل إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك. وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد
وفي قوله أيضا:
أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب ... وفكّاك أغلال الأسير المكفّر
وكان لنا شيخان ذو القبر منهما ... وشيخ أجار الناس من كل مقبر
على حين تحيى البنات وإذ هم ... عكوف على الأصنام حول المدوّر
أنا ابن الذي ردّ المنية فضله ... وما حسب دافعت عنه بمعور
__________
(1) أخرجه في مسنده في: 1- باب ما كان عليه الناس قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجهل والضلالة.(9/415)
أبي أحد الغيثين صعصعة الذي ... متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر
أجار بنات الوائدين ومن يجر ... على القبر، يعلم أنه غير مخفر
وفارق ليل من نساء أتت أبى ... تعالج ريحا ليلها غير مقمر
فقالت أجر لي ما ولدت فإنني ... أتيتك من هزلى الحمولة مقتر
رأى الأرض منها راحة فرمى بها ... إلى خدد منها وفي شر محفر
فقال لها نامي فأنت بذمتي ... لبنتك جار من أبيها القنوّر
وروى أبو عبيدة: أن صعصعة- هذا- وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم. قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك. فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي! أوصني. فقال: أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك، فقال: زدني. فقال عليه الصلاة والسلام: احفظ ما بين لحييك ورجليك. ثم قال عليه الصلاة والسلام: ما شيء بلغني عنك فعلته؟
فقال: يا رسول الله! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب. غير أني علمت أنهم ليسوا عليه. فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم عزّ وجلّ لم يأمرهم بذلك. فلم أتركهم. ففديت ما قدرت عليه
. ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة: 32] ، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة فتبسم سليمان. وقال: إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في (أماليه) وبالجملة، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.
قال الإمام: انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى.
ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجمان فمن ذلك قول معن بن أوس:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن، لا نكذب، نساء صوالح
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... خوادم لا يمللنه ونوائح
وقال العلويّ الجمانيّ، في صديق له ولدت له بنت فسخطها، شعرا.(9/416)
قالوا له ماذا رزقتا ... فأصاخ ثمّت قال: بنتا
وأجلّ من ولد النساء ... أبو البنات. فلم جزعتا
إن الذين تودّ من ... بين الخلائق ما استطعتا
نالوا بفضل البنت ما ... كبتوا به الأعداء كبتا
وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته. فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال: أمطها عنك.
قال: ولم؟ قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقرّبن البعداء، ويورثن الشحناء، ويثرن البغضاء. قال: لا تقل ذلك يا عمرو! فو الله ما مرّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسل بنيه. فقال: يا معاوية! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن. وإنى لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إليّ منهن. وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون
فلو كان النساء كمن وجدنا ... لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... وما التذكير فخر للهلال
والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادّرع اغتباطا، واستأنف نشاطا. فالدنيا مؤنثة. والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية. وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب. والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة، ولو لاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون وفيها ينعم المرسلون. فهنيئا لك هنيئا بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
ونسخت رقعة لأبى الفرج الببغاء: اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرم الله عرقها، وأنبتها نباتا حسنا. وما كان من تغيرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر. وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عزّ من قائل: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49] ، وما سماه الله تعالى هبة، فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى.
فهنأك الله بورود الكريمة عليك. وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك.
والنوادر في هذا لا تحصى. وكلها من بركة الإسلام وفضله، وقوله تعالى:(9/417)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 10 الى 14]
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قال ابن جرير: أي صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقد عليها فأحميت. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت للمتقين عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي علمت كل نفس عند ذلك، ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار. أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ أي الرواجع من النجوم. من (خنس) إذا رجع وتأخر. قال الزمخشريّ: بينا ترى النجم في آخر البرج، إذ كرّ راجعا إلى أوله الْجَوارِ جمع جارية، من الجري الْكُنَّسِ أي الغيب التي تدخل في بروجها، في رأي العين. من (كنس الوحش) إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر. فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صار بالغلبة في الاستعمال، حقيقة وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ولم يبق إلا اليسير، وذلك وقت السحر وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وتبيّن. أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته. تشبيها بمن نفس عنه كربه.
قال الإمام: أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدّرها، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام، مع نعتها، في القسم، بما يبعدها عن مراتب الألوهية، من الخنوس والكنوس، تقريعا لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أربابا. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.(9/418)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام. والضمير إما للبعث والجزاء، المفهوم من قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن ذِي قُوَّةٍ أي على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تعالى:
شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] ، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى مُطاعٍ ثَمَّ أي في الملأ الأعلى أَمِينٍ أي على وحيه تعالى ورسالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 22 الى 25]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي ليس ممن يتكلم عن جنّة ويهذي هذيان المجانين. بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 37] ، وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه، صلى الله عليه وسلم، حسدا ولؤما.
قال الشهاب: وفي قوله صاحِبُكُمْ تكذيب لهم بألطف وجه. إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلا وأرجحهم نبلا وأكملهم وأصفاهم ذهنا. فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحترىّ في قوله:
إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.
قال ابن كثير: والظاهر، والله أعلم، أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى. وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى [النجم: 13- 15] ، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام، متمثلا له، هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان، لا على ظن وحسبان. وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي ببخيل.(9/419)
قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم. أي لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا وقرئ (بظنين) بالظاء: أي ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشانيّ: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ، لأن عقله صفّي عن شوب الوهم.
والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يتهم فيه. كما قال هرقل «1» لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
تنبيه:
قال بن جرير: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك بِضَنِينٍ بالضاد. لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّله (وما محمد، على ما علمه الله من وحيه وتنزيله، ببخيل بتعليمكموه أيها الناس. بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه) انتهى. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين:
أحدهما أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
وثانيهما قوله: عَلَى الْغَيْبِ ولو كان المراد البخل لقال (بالغيب) لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.
وقال الشهاب: قال في (النشر) : هو بالضاد في جميع المصاحف، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة، إن الضاد الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى، زيادة يسيرة، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم، لأن ما نقلوه موافق للقراءة
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الوحي، عن أبي سفيان بن حرب، 6- حدثنا أبو اليمان حديث رقم 7.(9/420)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
المتواترة. ولا بد مما ذكره أبو عبيدة، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى قال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام. وهو نفي لقولهم إنه كهانة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 29]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي أيّ مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة؟ لا جرم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه. فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب، بما لا يضبط ولم يتقرّب إليه بوجه. كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده، فيقال: أين تذهب.
قال الزمخشريّ: استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيّات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل إِنْ هُوَ أي القرآن المتلوّ عليكم إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي تذكرة وعظة لهم.
قال الإمام: موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير.
وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع. وقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بدل من (العالمين) أي إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه.
أما من أعرض ونأى. فمن أين تنفعه الذكرى، وقد زاده الران عمى؟ وقوله تعالى:
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما تشاءون شيئا من فعالكم، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، وإقداركم عليها، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار، هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عزّ وجلّ. فهو خاضع لسلطان مشيئته، مقهور تحت تدبيره وإرادته.(9/421)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الانفطار
وهي مكية. وآيها تسعة عشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت كما في آية وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت. والانتثار استعارة لإزالة الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها. وهي مصرحة أو مكنية وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فتح بعضها إلى بعض، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي بحثت وأخرج موتاها.
قال الشهابي: يعني أزيل التراب التي ملئت به، وكان حتى على موتاها فانفتحت وخرج من دفن فيها. وهذا معنى البعثرة. وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه.
وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا، كما هنا. وقد يتجوّز به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات. والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته. وثمّ، لما فيها، فكانت مجازا عما ذكر. ثم قال: وذهب بعض الأئمة كالزمخشريّ والسهيليّ إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا. ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتا. وأصله (بعث) و (أثير) أي حرك وأخرج. وله نظائر كبسمل، وحوقل، ودمعز. أي قال بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأدام الله عزه. فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معا. ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة، كما توهمه أبو حيان، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة، كما فصّله في (المزهر) نقلا عن أئمة اللغة.(9/422)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ أي لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ وَأَخَّرَتْ أي تركت من خير أو شر. أو المعنى: ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه، وما أخرت أي قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير، وجدان الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي: أيّ شيء خدعك وجرّأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر الْكَرِيمِ للمبالغة في المنع عن الاغترار. لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته. ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه. لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة، كما قال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ أي جعلك سويّا متساوي الأعضاء والقوى.
وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء. فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به فَعَدَلَكَ أي جعلك معتدلا متناسب الخلق، معتدل القامة. لا كالبهائم.
وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدّد، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة، مزت بها على سائر الحيوان فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركّبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. ف (أيّ) استفهامية. والمجرور متعلق ب رَكَّبَكَ وما زائدة وجملة شاءَ صفة صُورَةٍ.
والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسوّاه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب، لجدير بأن يتّقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.
تنبيه:
قال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية، على الأسباب، ما تتمته: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب- وهذا من أهم الأمور- فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرّة له في دنياه وآخرته، ولا بدّ. ولكن تغالطه نفسه.
ثم ذكر من أنواع المغترين من يغترّ بفهم فاسد، فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسّنّة فاتكلوا عليه. قال: كاغترار بعض الجهّال بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فيقول: كرمه. وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته. وهذا(9/423)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
جهل قبيح. وإنما غرّه بربه الغرور، وهو الشيطان، ونفسه الأمّارة بالسوء، وجهله وهواه. وأتى سبحانه بلفظ الْكَرِيمِ وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه. فوضع هذا المغتر (الغرور) في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.
وفي مثل هذا الغرور يجب- كما قال الغزاليّ- على العبد أن يستعمل الخوف.
فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه، ويقول: إنه، مع أنه غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وإنه، مع أنه كريم، خلد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضرّه كفرهم. بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا. وهو قادر على إزالتها. فمن هذه سنته في عباده، وقد خوّفني عقابه، فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل. فما لا يبعث على العمل فهو تمنّ وغرور.
ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم، وسبب إقبالهم على الدنيا، وسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك. فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، والشهوات، ويبكون على أنفسهم في الخلوات وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين. مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى. زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته. كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى، وينال بالهوينا، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟
ثم قال: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف. ولا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه، إن كان مؤمنا بما فيه. وترى الناس يهذّونه هذّا. يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب. لا يهمهم الالتفات إلى معانيه، والعمل بما فيه. وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 12]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قال الإمام: أي لا شيء يغرك ويخدعك. بل إن سعة(9/424)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
عطاء ربك وحكمته في كرمه، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر، لثواب أو عقاب. وإنما الذي يقع منك، أيها الإنسان، هو العناد والتكذيب بالدين.
أي الجزاء، أي الانصراف عمدا وعنادا عما يدعو إليه الشعور الأول، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل، والحجة التي يأتي بها الأنبياء. مع أن الله تعالى لم يترك عملا من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ أي رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم كِراماً كاتِبِينَ أي يكتبون ما تقولون.
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ أي من خير أو شر. أي يحصونه عليكم، فلا يغفلون ولا ينسون.
قال الرازيّ: إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم. لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم. ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة. فيخرج لهم كتب منشورة، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره. فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا. وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا. فكذا ها هنا. والله أعلم بحقيقة ذلك.
انتهى.
ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه.
فيجب الإيمان به، كما ورد. مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى. ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها. وبالله سبحانه التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ قال ابن جرير: أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.
والأبرار جمع (برّ) بفتح الباء وهو المتصف بالبرّ (بكسرها) أي الطاعة. قال الأصفهاني: وقد اشتمل عليه قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ(9/425)
وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
[البقرة: 177] ، وقوله تعالى:
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ أي الذين فجروا عن أمر الله. أي انشقوا عنه وخالفوه. وهم من لم توجد فيهم نعوت الأبرار المذكورة في الآية قبل يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي يوم يدان العباد بالأعمال، فيجازون بها وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ أي بخارجين، لأنهم مخلدون في صليّها. وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه. أي أيّ شيء أعلمك به؟ أي أنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمّ درايته والبحث عنه. والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة.
ثم فسّر تعالى بعض شأنه بقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي من دفع ضرّ أو كشف همّ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي أمر الملك الظاهر، ونفوذ القضاء القاهر، يومئذ لله وحده. لاضمحلال الممالك وذهاب الرياسات.
قال الرازيّ: وهو وعيد عظيم، من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا، من مال وولد وأعوان وشفعاء.(9/426)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المطفّفين
قال المهايميّ: سميت به دلالة على أن من أخلّ بأدنى حقوق الخلق، استحق أعظم ويل من الحق. فكيف من أخل بأعظم حقوق الحق، من الإيمان به وبآياته ورسله؟ وهي مكية على الأظهر. فإن سياقها يؤيد أنها كأخواتها اللائي نزلن بمكة، لا سيما خاتمتها، فإنها صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة. وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك. وأما ما رواه النسائي وابن ماجة «1» - كما في ابن كثير عن ابن عباس، لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل- فقد ذكرنا مرارا أن معنى الإنزال، في إطلاق السلف، لا يكون مقصورا على أن كذا سبب النزول. بل إن كذا مما نزل فيه ذلك. كأنّ أهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة. وقيل لهم: أنزل الله حظر ما أنتم عليه والوعيد فيه. فأقلعوا. وهذا ظاهر لمن له أنس بعلم الآثار وملكة فيه.
ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف.
وقول آخر: إن كل نوع من المكيّ والمدنيّ منه آيات مستثناة- منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتبادر من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق من خلافه. وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال ويتضح الحال.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: التجارات، 35- التوقي في الكيل والوزن، حديث 2223.(9/427)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أي هلاك لهم. قال الأصفهاني: ومن قال: وَيْلٌ واد في جهنم، فإنه لم يرد أن (ويلا) في اللغة هو موضوع لهذا. وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه، فقد استحق مقرّا من النار.
ثم بيّن تعالى المطففين بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أي إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافيا وزائدا. على إيهام أن بذلك تمام الكيل. وإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقدارا، ففي الوزن بطريق الأولى. وإيثار عَلَى على (من) للإشارة إلى ما فيه عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر. شأن المتغلب المتحامل المتسلط، الذي لا يستبرئ لدينه وذمته: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أي كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام. ففيهما حذف وإيصال.
قال ابن جرير: من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، بمعنى وزنت لك وكلت لك.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن. أي لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع، ولو في القليل. لأن من دنؤت نفسه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملكته، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة. قال ابن جرير:
وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر. والمطفف: المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن. ومنه قيل للقوم الذين(9/428)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع. يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان. فقال تعالى في عدة آيات: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] ، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن: 9] ، وقص تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال. ثم قال سبحانه متوعدا لهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أي من قبورهم بعد مماتهم لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل نارا حامية يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون، في موقف يغشى المجرم فيه من الهول، ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأثر الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين. مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه. ووجه ذلك، كما لخصه الشهاب، أن في ذكر الظن من التجهيل مع اسم الإشارة الدال على التبعيد، تحقيرا- ووصف يوم قيامهم بالعظمة- وإبدال يَوْمَ يَقُومُ منه، فإنه يدل على استعظام ما استحقروه. والحكمة اقتضت أن لا تهمل مثقال ذرة من خير وشر.
وعنوان (رب العالمين) للمالكية والتربية الدالة على أنه لا يفوته ظالم قويّ، ولا يترك حق مظلوم ضعيف- وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه، وأن من لا يهمل مثل هذا، كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟ وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة. فتأمّل هذا المقام، ففيه ما تتحيّر فيه الأوهام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 11]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
كَلَّا ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف اعتقادهم به إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ أي ما كتب فيه من عملهم السيء وأحصي عليهم.
وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثان، وهو الفجور، بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي مسطور(9/429)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
بيّن الكتابة. أو معلّم برقم ينبئ عن قبحه. سمي سجينا- فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق- لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم. فهو بمعنى (فاعل) في الأصل. أو لأنه مطروح في أسفل مكان مظلم. فهو بمعنى (مفعول) كأنه مسجون لما ذكر. وقيل: هو اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده. والتقدير: ما كتاب سجين أو محل كتاب مرقوم؟ فحذف المضاف وقيل إنه مشترك بين المكان والكتاب. وقال الأصفهاني: السجين اسم لجهنم بإزاء علّيّين. وزيد لفظه تنبيها على زيادة معناه. وقيل: هو اسم للأرض السابعة.
ثم قال: وقد قيل إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: وَما أَدْراكَ فسّره. وكل ما ذكره بقوله: وَما يُدْرِيكَ تركه مبهما. وفي هذا الموضع ذكر وَما أَدْراكَ وكذا في قوله: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم فسّر الكتاب، لا السجين والعليون. وفي هذه الطبقة موضعها الكتب التي يتبع هذا الكتاب، لا هذا. انتهى.
وقال القاشانيّ: لَفِي سِجِّينٍ في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها. وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ولذلك فسّر بقوله: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم، كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الحساب والمجازاة. وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف. لأن إصرارهم على التعدي والاجترام يدل على عدم الظن بالبعث. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 12 الى 13]
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي مجاوز طور الفطرة الإنسانية، بتجاوزه، حد العدالة، إلى الإفراط في أفعاله بالبغي والعدوان أَثِيمٍ أي مبالغ في ارتكاب أفانين الإثم وأنواع المعاصي إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطروه من الأحاديث والأخبار. يريد أنه ليس بوحي ربّاني، ولا تنزيل إلهيّ. مع نصوع بيانه وشواهد برهانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : آية 14]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)(9/430)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلَّا أي ليست هذه الآيات بأساطير الأولين. بل هي الحق المبين، والشفاء لما في الصدور بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي غطّى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام حتى كدّر جوهرها وصار صدأ عليها بالرسوخ فيها. و (الرين) أصل معناه الصدأ والوسخ القارّ، شبه به حب المعاصي الراسخ في النفس. وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال، وصفة للنفس قارّة فيها. فبكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدإ الذي لا يزول بسهولة. قال في (الأساس) : الران ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب. من قولهم: (ران عليه الشراب والنعاس) و (ران به) إذا غلب على عقله. و (رين بفلان) ونظيره الغين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : آية 15]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
كَلَّا ردع لهم عن الكسب الرائن على قلوبهم. أو بمعنى حقّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال ابن جرير: أي فلا يرونه ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم، فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيراه الله تعالى ويرى كرامته. قال الشهاب: لما كان الحجاب هو الساتر من ستارة بزّ وغيرها، استعير تارة لعدم الرؤية، لأن المجوب لا يرى ما حجب. وتارة للإهانة، لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء. ولذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب، أي معظم ومهان. وهو بمعانيه محال أن يتصف به الله. فلا يصح إطلاقه عليه تعالى، كما صرحوا به. وإنما يوصف به الخلق، كما في هذه الآية. فإذا أجري على اسم من أسمائه تعالى، فهو وصف سببيّ لا حقيقيّ. بل التشبيه للخلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 16 الى 17]
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ أي محترقون بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدإ على قلوبهم بالرسوخ فيها، كدّر جوهرها وغيرها عن طباعها. فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لامتناع قبول قلوبهم(9/431)
للنور، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطريّ. كالماء الكبريتي مثلا، إذ لو روّق أو صعّد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة، لاستحالة جوهرها. بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب.
وحكم عليهم بقوله: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ انتهى.
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) في هذه الآية ما مثاله: جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار. فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسامهم. كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا، وأخذ بأشد العذاب. فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه، وهي ممنوعة من الوصول إليه. فكيف إن حصل لها، مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه، بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة، منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة، كما قال:
وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر
وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.
فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار والأذن للسمع والأنف للشم واللسان للنطق واليد للبطش والرجل للمشي والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذكره. وجعل هذا كمالها وغايتها. فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالا من العين والأذن واللسان واليد والرجل، التي تعطلت عما خلقت له، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه لروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة. بل ألمها أشد الألم. وهو من جنس ألمها إذ فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها، وحيل بينها وبينه، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه. فهذا غاية(9/432)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا. فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه.
وفي حديث الرؤية «1» : فو الله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه.
ثم قال: وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين، وهما ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم نعيم القرب والنظر، ونعيم الأكل والشرب والنكاح والتمتع بما في الجنة، في قوله: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً [الإنسان: 11] الآيات.
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا. قال الإمام: تبكيتا لهم وزيادة في التنكيل بهم. فإن أشد شيء على الإنسان، إذا أصابه مكروه، أن يذكر وهو يتألم له، بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها. وأسباب التفصي عنه كانت في مكنته فأغفلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
كَلَّا ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال القاشانيّ: أي ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة، في عليين. وهو مقابل للسجين، في علوه وارتفاع درجته، وكونه ديوان أعمال أهل الخير. كما قال: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ أي محل شريف رقم بصور أعمالهم: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال، كما في آية فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] .
والمقربون هم الأبرار: أعاد ذكرهم، بوصف ثان، تنويها بهم وتعديدا لصفاتهم.
أو هم الملائكة إجلالا لهم وتعظيما لشأنهم.
ولما عظم تعالى كتابهم، تأثره بتعظيم منزلتهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 22 الى 26]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الجنة، 16- باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى.(9/433)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أي عظيم دائم، وذلك نعيمهم في الجنان عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي على الأسرة والمتكآت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته ورونقه، كما يرى على وجوه المترفهين ماؤه وحسنه يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي خمر، إلا أنه خص بالخالص الذي لا غش فيه، كما قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرحيق السّلسل
ومنه قولهم. مسك رحيق لا غش فيه، وحسب رحيق لا شوب فيه.
وقوله تعالى: مَخْتُومٍ أي ختم على أوانيه تكريما له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان خِتامُهُ مِسْكٌ قال القفال:
أي الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق، هو المسك، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم.
وعن بعض السلف واللغويين المختوم الذي له ختام أي عاقبة، وقد فسرت بالمسك. أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك. والقصد لذة المقطع بذكاء الرائحة وأرجها، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة وَفِي ذلِكَ أي النعيم المنوه به وما تلاه فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى:
قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه. وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه. وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم. وقال الرازيّ: إن مبالغته تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه. وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28]
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على (ختامه) صفة أخرى (لرحيق) وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته. أي ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. والتسنيم في الأصل مصدر سنمه بمعنى رفعه، ومنه السنام. سمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علوّ. وقد بينه بقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشربون بها الرحيق، والكلام(9/434)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
في الباء، كما في آية يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ، من كونها زائدة، أو بمعنى (من) أو صلة الامتزاج أو الالتذاذ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني كفار قريش كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي استهزاء بهم لإيمانهم بالله وحده وبما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه، ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم.
قال الإمام: الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شريت نفوسهم في الشر، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق. هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا. ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة. وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه السلام، ثم يهمس بها بعض من يليه. ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فيسرّ بها إلى من يرجوه، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عددا. كذلك كان شأن جماعة من قريش، كأبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم. وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وجهل معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تشايعها السرائر. وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب. وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب. وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل. وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل. واستوى في ذلك الكبير والصغير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم. إذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه.
وانطبق عليهم نص الآية الكريمة. انتهى.
وَإِذا مَرُّوا
أي الذين آمنوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أي يغمز بعضهم بعضا استهزاء وسخرية. والغمز: الإشارة بالجفن والحاجب.(9/435)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قال السيوطيّ: وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين، والضحك منهم، والتغامز عليهم وَإِذَا انْقَلَبُوا أي هؤلاء المجرمون من مجالسهم إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان. أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المطففين (83) : الآيات 32 الى 36]
وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَإِذا رَأَوْهُمْ أي رأوا المؤمنين قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي لتركهم ما عليه العامة، والاعتصام بغيره. وقوله تعالى: وَما أُرْسِلُوا أي هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر عَلَيْهِمْ أي على المسلمين حافِظِينَ أي لأعمالهم. جملة حالية من (واو قالوا) أي قالوا ذلك، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم، يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم.
وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترءوا عليه من القول، من وظائف من أرسل من جهته تعالى.
وقد جوّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين. كأنهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين. إنكارا لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وإنما قيل عَلَيْهِمْ نقلا له بالمعنى كما في قولك: (حلف ليفعلنّ) لا بالعبارة، كما في قولك: (حلف لأفعلنّ) أفاده أبو السعود فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ تفريع على ما قبله، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم في الدنيا و (اليوم) يوم الدين والجزاء. وضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوّه من الهوان والصغار، بعد العزة والكبر. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إلى ما أوتوا من النعيم، وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا.
والجملة متعلقة ب (ينظرون) في محل نصب بعد إسقاط الجار. أو مستأنفة.
والاستفهام للتقرير كأنه خطاب للمؤمنين، تعظيما لهم وتكريما وزيادة في مسرتهم.
أي هل رأيتم كيف جازى الله الكافرين بأعمالهم، أي أنه فعل. و (ما) مصدرية أو موصولة.(9/436)
وثوّبه وأثابه بمعنى جازاه. وهو من (ثاب) بمعنى رجع. فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله. ويستعمل في الخير والشر.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ [المؤمنون: 108- 111] .(9/437)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الانشقاق
وتسمى سورة إذا السماء انشقت. وهي مكية. وهي خمس وعشرون آية. قيل ترتيب هذه السور الثلاث ظاهر. لأن في (انفطرت) تعريف الحفظة الكاتبين وفي (المطففين) مقرّ كتبهم. وفي هذه عرضها للقيامة.
روى الإمام مالك «1» عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم: إذا السماء انشقت. فسجد فيها. فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
ورواه مسلم «2» والنسائي «3» وأخرج البخاري «4» عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة. فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد. فقلت:
ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
. فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
وفي رواية للنسائي «5» عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
__________
(1) أخرجه في الموطأ في: الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، حديث رقم 12.
(2) أخرجه في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 107.
(3) أخرجه في: الافتتاح، 51- باب السجود في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.
(4) أخرجه في: سجود القرآن، 11- باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها. حديث رقم 466.
(5) أخرجه في: الافتتاح، 51- باب السجود في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. [.....](9/438)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي انصدعت وتقطعت كما تقدم في قوله: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي سمعت له في تصدعها وتشققها. وهو مجاز عن الانقياد والطاعة. والمعنى أنها انقادت لتأثير قدرته، حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الذي يستمع للآمر ويذعن له. قال ابن جرير: العرب تقول (أذن لك في هذا إذنا) بمعنى استمع لك. ومنه الخبر الذي
روي «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن.
يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن. ومنه قول الشاعر:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
ومعنى قوله تعالى: وَحُقَّتْ أي: حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر ولا تمتنع. وهي حقيقة بالانقياد لأنها مخلوقة له في قبضة تصرفه. قال المعرب: الأصل حق الله طاعتها. ولما كان الإسناد في الآية إلى السماء نفسها، والتقدير: وحقت هي، كان أصل الكلام على تقدير مضاف في الضمير المستكنّ في الفعل. أي وحق سماعها وطاعتها. فحذف المضاف، ثم أسند الفعل إلى ضميره، ثم استتر فيه وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت وجعلت مستوية وذلك بنسف جبالها وآكامها كما قال:
قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 106- 107] ، ولذا قال ابن عباس:
مدت مد الأديم العكاظيّ. لأن الأديم إذا مدّ، زال كل انثناء فيه واستوى وَأَلْقَتْ ما فِيها أي ما في جوفها من الكنوز والأموات وَتَخَلَّتْ أي: وخلت غاية الخلوّ،
__________
(1) أخرجه البخاري في: التوحيد، 32- باب قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، حديث رقم 2088، عن أبي هريرة.(9/439)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلوّ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي انقادت له في التخلية، وحق لها ذلك، وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته. وجواب (إذا) محذوف للتهويل بالإبهام. أي: كان ما كان مما لا يفي به البيان. أو لاقى الإنسان كدحه، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ قال ابن جرير: أي إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به، خيرا كان أو شرّا. المعنى: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك. وقال القاشانيّ: أي إنك ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت. أي تسير مع أنفاسك سريعا. كما قيل:
أنفاسك خطاك إلى أجلك أو مجتهد مجد في العمل، خيرا أو شرّا، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة. قال: والضمير إما للرب وإما للكدح. وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه، حتى يؤثر فيها. من (كدح جلده) إذا خدشه. فاستعير للجد في العمل وللتعب، بجامع التأثير في ظاهر البشرة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهم من آمن وعمل صالحا واتصف بما وصف به الأبرار، في غير ما آية فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال ابن جرير: بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها ويجازى على حسنها. وقال القاشاني: بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة، لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أي: زوجته وأقاربه.
أو قومه من يجانسه ويقارنه من أصحاب اليمين مَسْرُوراً أي بنجاته من العذاب، أو بصحبتهم ومرافقتهم، وبما أوتي من حظوظه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 10 الى 15]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره، وهو على هيئة المغضوب عليه، أمام الملك المنصرف به عن ذاك المقام إلى دار(9/440)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
الهوان لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل: 60] ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي ينادي بالهلاك وهو أن يقول:
ووا ثبوراه! ووا ويلاه! وهو من قولهم دعا فلان لهفه، إذا قال والهفاه وَيَصْلى سَعِيراً أي يدخل نارا يحترق بها إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي منعما مستريحا من التفكر في الحق والدعاء إليه والصبر عليه. لا يهمه إلا أجوفاه، بطرا بالنعم، ناسيا لمولاه إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلى ربه، أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيي ويموت ولا يهلكه إلا الدهر. فلم يك يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا ولا يبالي ما ركب من المآثم، على خلاف ما قيل المؤمنين إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ [الطور:
26] ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] ، بَلى أي ليحورن وليرجعن إلى ربه حيّا كما كان قبل مماته إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي بما أسلف في أيامه الخالية فيجازيه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وهي الحمرة في الأفق من ناحية مغرب الشمس وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضمّ مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهارا كذا قال ابن جرير والأظهر أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها، لاشتمال الليل عليها. فكأنه تعالى: أقسم بجميع المخلوقات كما قال: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38- 39] ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع وتم نوره وصار كاملا لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي حالا بعد حال. والمعني بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال. وبالثانية الحياة الأولى. وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها. فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحس والإدراك والألم واللذة، وإن خفي اكتناهها. وجوز أن يكون طَبَقاً جمع طبقة وهي المرتبة. أي لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات، وأطوارا مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور.
قال الشهاب: الطبق معناه ما طابق غيره مطلقا في الأصل، ثم إنه خص بما ذكر، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدة المتعاقبة.
وعَنْ للمجاوزة أو بمعنى (بعد) . والبعدية والمجاوزة متقاربان لكنه ظاهر(9/441)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
في الثاني فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي بهذا الحديث. وقد أقام لهم الحجة على التوحيد والبعث وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي لا يخضعون ولا يستكينون ولا ينقادون.
قال في (الإكليل) : وقد استدل به على مشروعية سجدة التلاوة
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الانشقاق (84) : الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بآيات الله وتنزيله، المبين لما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقيق موجبات تصديقه، والإضراب عن محذوف تقديره كما قال الإمام، لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر إغلاق قلوبهم، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم. بلى، قد بلغ وأقنع فيما بلغ. ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان، ويصدهم عن الإذعان، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل. وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل، وإن أخفوه عنادا. أو بما يصمرون من البغي والمكر، فسيجزيهم عليه. ولذا قال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي جزاء على تكذيبهم وإعراضهم وبغيهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.
والاستثناء منقطع أو متصل، على أن المراد بمن آمن من أسلم منهم فآمنوا باعتبار ما مضى أو بمعنى (يؤمنون) وكونه منقطعا أظهر لمجيء (لهم أجر) بغير فاء. والله أعلم.(9/442)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البروج
مكية. وآيها اثنتان وعشرون. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والسماء والطارق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي الكواكب والنجوم شبهت بالبروج، وهي القصور، لعلوّها. أو البروج منازل عالية في السماء.
قال ابن جرير: وهو اثنا عشر برجا. فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث فذلك ثمانية وعشرون منزلا. ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر. وأصل معنى البروج- كما قال الشهاب- الأمر الظاهر من التبرج. ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية. لأنها ظاهرة للناظرين. ويقال لما ارتفع من سور المدينة (برج) أيضا. فشبه- على هذا- الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة وَشاهِدٍ وهو كل ما له حس يشهد به وَمَشْهُودٍ وهو كل محسّ يشهد بالحس.
فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها. وتخصيص بعض المفسرين بعضا مما يتناوله لفظهما، لعله لأنه الأهم. أو الأولى أو الأعرف والأظهر، لقرينة عنده. وإلا فاللفظ على عمومه، حتى يقوم برهان على تخصيصه.(9/443)
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم. على أن الجملة خبرية هي جواب القسم. أو دليل جوابه إن كانت دعائية، والتقدير: لتبلون كما ابتلي من قبلكم، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود.
قال الزمخشري: وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم (قتلت قريش) كما قيل: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ والأخدود: الحفرة في الأرض مستطيلة. وقوله تعالى: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ بدل من الْأُخْدُودِ والْوَقُودِ بالفتح الحطب الجزل الموقد به وأما (الوقود) بالضم فهو الإيقاد إِذْ هُمْ عَلَيْها أي على حافات أخدودها قُعُودٌ أي قاعدون يتشفون من المؤمنين وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية، وما تفعل بها النيران. ولا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ أي: وما أنكروا منهم، ولا كان لهم ذنب، إلا الإيمان بالله وحده.
قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة.
ومنه الانتقام الْعَزِيزِ أي الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام الْحَمِيدِ أي المحمود على إنعامه وإحسانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة، أصحاب الأخدود وغيرهم، شاهد شهودا لا يخفى عليه منه مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه. وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى، إشعار بمناط إيمانهم. فإن كونه تعالى قاهرا ومنعما، له ذلك الملك الباهر. وهو عليم بأفعال عبيده، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر، وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهو معروف في كتب المعاني.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودا في الأرض، ثم أوقدوا فيها نارا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء، فعرضوا عليها. وهكذا قال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالا(9/444)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
ونساء فخدّوا لهم أخدودا، ثم أوقدوا فيه النيران، فأقاموا المؤمنين عليها. فقالوا:
تكفرون أو نقذفكم في النار.
وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقا بنجران. كانوا يعذبون فيها الناس- وتفصيل النبأ- على ما في كتاب (الكنز الثمين) - إن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العريّة عن شوائب الإلحاد، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران. وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرا من قبله نصرانيّا مثله. وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع. ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن، والإيقاع بمن تنصر، بغضا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم. فأقاموا رجلا يهوديا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله. فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ. وجاء لمحاربة مدينة نجران، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة. ولما دخلها قتل عددا عظيما من سكانها رجالا ونساء. كانت عدتهم- فيما يقال- ثلاثمائة وأربعين شهيدا. وأتى بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود. وكان هرما لا يقوى على المشي. فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه السلام. فأمر بسفك دمه فقتل. وكذلك بقيه الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران. ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره. وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى، والفرح بالشهادة، ما أضحوا مثالا وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه.
سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له. لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين. وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته. ويؤرخونها بعام (524) من التاريخ المسيحي وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم.
قال أبو السعود: والمراد بهم. إما أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون(9/445)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
في جملتهم دخولا أوليا ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي عن كفرهم وفتنتهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي عذابان منوّعان على الكفر وعلى الفتنة. أوهما واحد. أو من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه. لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما.
والأظهر أنهما واحد. وإنه من عطف التفسير والتوضيح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي من هؤلاء المفتونين وغيرهم لَهُمْ أي في نشأتهم الأخرى جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي التام الذي لا فوز مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال أبو السعود: استئناف خوطب به النبيّ صلى الله عليه وسلم، إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. و (البطش) الأخذ بعنف. وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام. كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يبدئ الخلق ثم يعيده. قال الإمام: وهو في كل يوم يبدئ خلقا من نبات وحيوان وغيرهما. ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى. ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه وَهُوَ الْغَفُورُ أي لمن يرجع إليه بالتوبة الْوَدُودُ أي المحب لمن أطاعه وأخلص له ذُو الْعَرْشِ أي الملك والسلطان أو السماء الْمَجِيدُ أي العظيم في ذاته وصفاته. وقرئ بالجر صفة للعرش. ومجده: علوه وعظمته فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي لا يريد شيئا إلا فعله. فلا يحول بينه وبين مراده شيء. فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين، فعل، لأن له ملك السماوات والأرض. ولذا تأثره بقوله سبحانه:(9/446)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ أي الذين تجندوا على الرسل بأذاهم.
قال ابن جرير: أي قد أتاك ذلك، وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياك، لما نالوك به من مكروه، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي. ولا يثنينّك عن تبليغهم رسالتي. كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء. فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم، إلى عطب وهلاك كالذي كان من هؤلاء الجنود، فالجملة- كما قال أبو السعود- استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة، والكفرة العتاة وكونه (فعالا لما يريد) متضمن لتسليته صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود.
وقوله تعالى: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من (الجنود) لأن المراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ أي للحق والوحي، مع وضوح آياته وظهور بيناته، عنادا وبغيا. والإضراب انتقالي للأشد، كأنه قيل ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك. فإنهم مع علمهم بما حل بهم، لم ينزجروا، وفي جعلهم فِي تَكْذِيبٍ إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي محص عليهم أعمالهم. لا يخفى عليه منها شيء وهو مجازيهم على جميعها. فاللفظ كناية عما ذكر. أو المراد وصف اقتداره عليهم. وأنهم في قبضته وحوزته، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهربا. ففيه استعارة تمثيلية.
قال الشهاب: وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم، وقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي سام شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قرئ بالرفع صفة (لقرآن) والجر صفة للوح. قال ابن جرير: والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح. وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه، عما أثبته الله فيه. وبَلْ إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه، إلى وصف القرآن بما ذكر، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء. فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين.(9/447)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطارق
وهي مكية وآيها سبع عشرة.
روى الإمام أحمد «1» : عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي حبل العدواني عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر. فسمعته يقرأ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها: قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك. ثم قرأتها في الإسلام. قال فدعتني ثقيف فقالوا:
ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم. فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا. لو كنا نعلم ما يقول حقّا لا تبعناه.
وروى النسائي «2» عن جابر. قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة أو النساء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحو هذا؟
__________
(1) أخرجه في المسند 4/ 335.
(2) أخرجه في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.(9/448)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقا لأنه يطرق ليلا أي يبدو فيه.
قال الشهاب: الطارق من (الطرق) وأصل معناه الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت. ومنه المطرقة والطريق، لأن السابلة تطرقها. ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق، لتصور أنه يطرقها بقدمه. واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلا (طارقا) لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.
والتعريف في النَّجْمُ للجنس. وأصل معنى (الثقب) الخرق. فالثاقب الخارق. ثم صار بمعنى المضيء، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره، تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي مهيمن عليها رقيب. وهو الله تعالى، كما في آية: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب: 52] ، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، وقد قرئ (لمّا) بالتخفيف ف (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وكُلُّ نَفْسٍ مبتدأ وعَلَيْها حافِظٌ خبره. و (ما) صلة واللام هي الفارقة. وقرئ (لما) بالتشديد على أنها بمعنى (إلّا) الاستثنائية و (إن) نافية والخبر محذوف. أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و (كل) على هذا مؤكدة لأن نَفْسٍ حينئذ نكرة في سياق النفي، فتعم.
قال ابن جرير: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك، التخفيف. لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام(9/449)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
العرب. غير أن الفرّاء كان يرى أنها لغة في هذيل. يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة لمّا. فإن كان صحيحا ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة. وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.
وقد صحح غير واحد ثبوتها. وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة. واستشهد ابن هشام لها في (المغني) فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي:
إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر إلخ.
قال الإمام: قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها، زيادة في التأكيد. ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها. ثم إن هذا السائل ينشأ خلقا كاملا كالإنسان، مملوءا بالحياة والعقل والإدراك، قادرا على القيام بخلافته في الأرض. فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى. كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه. وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة، قادر على أن يعيده. فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق. ويعدل بها عن سبل الشر. فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.
ودافِقٍ من الدفق. وهو صبّ فيه دفع. وقد قيل إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] .(9/450)
والصحيح أنه بمعنى النسبة ك (لابن وتامر) أي ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد. فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقا. لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضا أي يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث. أقوال.
وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي من بين صلب الرجل ونحر المرأة.
قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار. ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقا لاسم الجزء على الكل و (الترائب) موضع القلادة من الصدر، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة. أي أن ذلك الماء الدافق، إنما يكون مادة لخلق الإنسان، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة.
فقوله (يخرج) إلخ وصف لا بد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه.
وقال بعض علماء الطب: الترائب جمع تريبة وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى. ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس:
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
قال: ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين الصلب- أي فقرات الظهر في الرجل- والترائب أي عظام صدره. وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريبا. ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة. ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين، فيغذيانهما. ومن دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين يسميان شرياني الخصيتين، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير، تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ أي الحافظ سبحانه، المتقدم في قوله: لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أو الخالق المفهوم من خلق عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ أي رجع الإنسان وإعادته في(9/451)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
النشأة الثانية، لقادر. كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تظهر وتعرف خفيات الضمائر.
قال الزمخشري: السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي من قوة يمتنع بها من عذاب الله وأليم نكاله. ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه. يعني أنه فقد ما كان يعهده في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته، يمتنع منهم ممن أراده بسوء. وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر. يسمى رجعا لأنه تعالى يرجعه وقتا فوقتا إلى العباد، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي النبات، لأنه يصدع الأرض أي يشقها. أي الانشقاق بالنبات. فهو علم أو مصدر إِنَّهُ أي القرآن الكريم لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي حق فرق بين الحق والباطل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب، بل هو جدّ الجدّ إِنَّهُمْ أي المكذبين به، الجاحدين لحقه يَكِيدُونَ كَيْداً أي يمكرون مكرا لإبطال أمر الله وإطفاء نوره وَأَكِيدُ كَيْداً قال ابن جرير: أي وأمكر مكرا. ومكره جل ثناؤه بهم إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية. بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم، بالكيد وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل عقابهم. وقوله: أَمْهِلْهُمْ بمعنى (مهلهم) فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله:
رُوَيْداً أي قليلا.
قال الإمام: وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بل لكل داع إلى الحق الذي جاء به، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله، وأن المناوئين له هم الخاسرون.(9/452)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأعلى
مكية وآيها تسع عشرة: قال ابن كثير: والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري «1» عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم. فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به. حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء. فما جاء حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى، في سور مثلها.
وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تفرد به الإمام أحمد «2»
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
وعن النعمان بن بشير «3»
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. رواه مسلم وأهل السنن.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد والمعوذتين.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، سورة الأعلى، 1- حدثنا عبدان، حديث رقم 1831.
(2) أخرجه في مسنده 1/ 96.
(3) أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم 62.(9/453)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:
180] ، فالاسم صلة. وسرّ إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة، كثيرا ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه ومجد ذكره. كما يقال سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى، لاستحالة اكتناه ذاته العلية، فأقحم تنبيها على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا:
سبحان ربي الأعلى، كما رواه ابن جرير وغيره.
وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم، بعضها اللات وبعضها العزى، حكاه ابن جرير فالإسناد على ظاهره، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في (الفصل) حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى، ذهابا إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عزّ وجلّ بأن يسبح غيره. فقال ابن حزم رحمه الله:
وأما قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عزّ وجلّ، هو تنزيه الشيء عن السوء. وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه، الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به، ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ومعنى قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 95- 96] ، معنى واحد. وهو أن يسبح(9/454)
الله تعالى باسمه. ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه. فكلا الوجهين صحيح. وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص. ولا فرق بين قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وبين قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 48- 49] .
والحمد بلا شك هو غير الله. وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه، ولا فرق. فبطل تعلقهم بهذه الآية. انتهى كلامه.
وقد يقال فرق بين الآيتين. فإن الباء في بِحَمْدِ رَبِّكَ للملابسة، ولا كذلك هي في بِاسْمِ رَبِّكَ ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار، ولآية فَسَبِّحْهُ وآية سُبْحانَ رَبِّكَ والله أعلم.
والْأَعْلَى هو الأرفع من كل شيء، قدرة وملكا وسلطانا. واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف. والمسألة معروفة.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى قال الزمخشري: أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وإنه صنعة حكيم وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى أي قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات فَجَعَلَهُ أي بعد خضرته ونضرته غُثاءً أي جافّا يابسا تطير به الريح أَحْوى أي أسود، صفة مؤكدة (لغثاء) لأن النبات إذا يبس تغير إلى (الحوّة) وهي السواد.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك. وهذا القول وإن كان غير مدفوع، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره. فأما وله في موضعه وجه صحيح، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. انتهى. والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة.(9/455)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 13]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أي سنجعلك قارئا، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه والمعنى نجعلك قارئا للقرآن فلا تنساه.
قال الزمخشري: بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أميّ لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين:
أحدهما- إنه كان رجلا أميّا فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة، خارق للعادة، فيكون معجزا.
وثانيهما- إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع، فكان هذا إخبارا عن الغيب، فيكون معجزا.
الثاني: - قيل (لا تنسى) نهي والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] ، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساه. فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.
قال الرازي: والقول المشهور إن هذا خبر. والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحث لا تنسى وتأمن النسيان. كقولك: (سأكسوك فلا تعرى) أي فتأمن العري، قال: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية. منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به. فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان. مثل الدراسة وكثرة التذكر. وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.
ومنها أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضا خلاف الأصل.
ومنها أنا إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا(9/456)
تنساه. وإذا جعلناه نهيا كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة. وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول. ولأنه على خلاف قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] انتهى.
الثالث: قال البرهان الشافعي في كتاب (تفضيل السلف على الخلف) .
إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال، لأن قوله: وَلا تَعْجَلْ نهي عن العجلة، وقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ليس بأمر بها ليكون ناسخا للنهي عنها. بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه.
وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر. لأن تأويله إنا نحفّظك تحفيظا لا تخاف معه النسيان. فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك. ولكنهم سموه نسخا، لغة لا حقيقة. على معنى تبدل الحال عنه. فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه. انتهى.
وقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم المفاعيل. أي لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحيانا.
قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى. ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسيانا كليّا دائما. وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير. وإلا لكان الإنسان عالما آخر.
وقد روى البخاري «1» عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله فلانا. لقد أذكرني كذا وكذا آية، كنت أسقطتهن. ويروى أنسيتهن.
وقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. رواه الشيخان «2» عن ابن مسعود.
وقيل: الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي. ولأن (ما شاء الله) في العرف يستعمل للمجهول. فكأنه
__________
(1) أخرجه في: الشهادات، 11- باب شهادة الأعمى، حديث رقم 1292.
(2) أخرجه البخاري في: الصلاة، 31- باب التوجه نحو القبلة حيث كان، حديث رقم 266 وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 89.(9/457)
قيل: إلا أمرا نادرا لا يعلم. فإذا دل مثله على القلة عرفا، والقلة قد يراد بها النفي في نحو (قلّ من يقول كذا مجازا) أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله: (أو قال إلا ما شاء الله) والغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه (أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله) ولا يقصد استثناء شيء.
وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
وقال الفراء- فيما نقله الرازي-: إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيرا ناسيا لقدر عليه، كما قال: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] ، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه، لا من قوته. انتهى.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى أي ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله: سَنُقْرِئُكَ مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.
ثم أشار إلى أن هذا المقرأ الموحى به للعمل. ليس فيه حرج وعسر، بقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نوفقك للطريقة اليسرى، أي الشريعة السمحة السهلة، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر فَذَكِّرْ أي عباد الله عظمته، وعظهم وحذرهم عقوبته إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي الموعظة و (إن) إما بمعنى (إذ) كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] ، أو بمعنى (قد) على ما قاله ابن خالويه. ويؤيده قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] ، وقيل: (إن) شرطية. والمعنى ذم المذكّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم، تسجيلا بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ: (عظ المكّاسين إن سمعوا منك) قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون سَيَذَّكَّرُ أي يقبل التذكرة وينتفع بها مَنْ يَخْشى أي يخاف العقاب على الجحود والعناد، بعد ظهور الدليل وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي العظمى ألما وعذابا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يهلك فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا:
(لا هو حي ولا ميت) فجاء على مألوفهم في كلامهم. و (ثم) هنا للتفاوت الرتبيّ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار، وصليه.(9/458)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله به وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أي تذكر جلال ربه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه، كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، وجوز أن يحمل تَزَكَّى على إيتاء الزكاة و (صلى) على إقامة الصلاة، كآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة، مع أن الجاري تقديمها إذا ذكرت باسمها. أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها، فلا كقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] . والأول أظهر، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قال أبو السعود: إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام. كأنه قيل، إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] الآية، أو للكل، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة. في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ. وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة، وتشديد العتاب في حق المسلمين.
وقرئ (يؤثرون) بالياء وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي أفضل، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل تُؤْثِرُونَ مؤكدة للتوبيخ والعتاب إِنَّ هذا أي ما ذكر في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أو ما في السورة كلها لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من (الصحف الأولى) وفي إبهامها ووصفها بالقدم، ثم بيانها وتفسيرها، من تفخيم شأنها، ما لا يخفى.(9/459)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الغاشية
مكية. وآيها ست وعشرون. وقد تقدم
حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى والغاشية) في صلاة العيد ويوم الجمعة.
وروى الإمام مالك «1»
أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية (رواه مسلم «2» وأبو داود وغيرهما) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ أي خبرها وقصتها، وهي القيامة. وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال القاشاني: أي تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضربت بها في الدنيا، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. وجوز أن يكون عامِلَةٌ ناصِبَةٌ إشارة إلى عملهم في الدنيا. أي عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون
__________
(1) أخرجه في الموطأ في: العمل في غسل يوم الجمعة، حديث رقم 19.
(2) أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم 62.(9/460)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباء منثورا كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة لِسَعْيِها راضِيَةٌ وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم تَصْلى ناراً حامِيَةً أي تدخل نارا متناهية في الحرارة. قال القاشاني: أي مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي بلغت غايتها في شدة الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطبا. فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل. قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له الشبرق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] .
لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع وقيل الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا لا يُسْمِنُ أي لا يخصب البدن وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي لعملها الذي عملته في الدنيا، وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 10 الى 16]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو. لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والحميد فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أي لا انقطاع لها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي مرتفعة ليروا، إذا جلسوا عليها. جميع ما خولوه من النعيم والملك وَأَكْوابٌ جمع كوب، وهو إناء لا أذن له مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ أي فوق الأسرة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها وَزَرابِيُّ أي بسط مَبْثُوثَةٌ أي مفروشة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 20]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)(9/461)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر.
والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من (الإبل) أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزّ وجلّ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه وَإِلَى الْجِبالِ أي التي ينزلون في أقطارها كَيْفَ نُصِبَتْ أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظ للأرض من الميدان وَإِلَى الْأَرْضِ أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق. حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي أن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال. وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام رب العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآيات، لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد(9/462)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
خلقه عن رفعها. وكذا البواقي. لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء. وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعا، وهي الإبل. ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.
لنا جبل يحتلّه من نجيره ... منيع يردّ الطرف وهو كليل
فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل- ومن لأصحاب مواش بذاك- كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور. فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا. وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خياله تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيبا للعيب فيه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
فَذَكِّرْ أي من أرسلت إليه بآياته تعالى، التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي مبلغ ما نسي من أمره تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع. أي لكن من تولى وكفر، فإن لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده، باعتبار معنى (من) كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي فنجازيهم بالعذاب الأكبر. فإن القهر والغلبة له تعالى وحده.(9/463)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفجر
مكية. وآيها تسع عشرة
روى النسائي «1» عن جابر قال: صلى معاذ صلاة. فجاء رجل فصلى معه، فطول. فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف. فبلغ ذلك معاذا، فقال: منافق. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى فقال: يا رسول الله! حيث أصلي معه يطول عليّ. فانصرفت وصليت في ناحية المسجد فعلفت ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتانا يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
وَالْفَجْرِ أي الصبح كقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] ، أقسم تعالى بآياته، لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضّوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات، لطلب الأرزاق. وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم. وفيه عبرة لمن تأمل وَلَيالٍ عَشْرٍ هي، على قول ابن عباس ومجاهد، عشر ذي الحجة، لأنها أيام الاهتمام بنسك الحج.
وفي البخاري «2» عن ابن عباس مرفوعا: ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة.
وحكى ابن جرير: أنه قيل عني بها عشر المحرم. والرازي، قولا أنها العشر الأواخر من رمضان، لما فيه من ليلة القدر، ولما صح «3» أنه صلوات الله عليه كان إذا
__________
(1) أخرجه في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.
(2) أخرجه الترمذي في: الصوم، 52- باب ما جاء في العمل في أيام العشر، حديث رقم 757.
(3) أخرجه البخاري في: فضل ليلة القدر، 5- باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، حديث رقم 1027، عن عائشة.(9/464)
دخل العشر الأخير من رمضان شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله. وثمة وجه آخر في العشر. وهو أنها الليالي التي يحلولك فيها الليل ويشتد ظلامه ويغشى الأفق سواده.
وتلك خمس من أوائله وخمس من أواخره. وإن لفظة (عشر) بمثابة قوله في السور الآتية إِذا يَغْشى إِذا سَجى مما يبيّن وجه العبرة ويجلّيها أتم الجلاء، ولا بعد في هذا المعنى. بل فيه توافق لبقية الآيات. وبالجملة فأوضح المخصصات ما عضده دليل أو أيدته قرينة أو حاكى نظائره. والله أعلم.
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يعني الخلق والخالق. فالشفع بمعنى جميع الخلق، للازدواج فيه كما في قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49] ، قال مجاهد: كل خلق الله شفع. السماء والأرض. والبر والبحر.
والجن والإنس والشمس والقمر والكفر والإيمان. والسعادة والشقاوة. والهدى والضلالة. والليل والنهار.
وَالْوَتْرِ هو الله تعالى لأنه من أسمائه. وهو بمعنى الواحد الأحد. فأقسم الله بذاته وخلقه. وقيل: المعنى بالشفع والوتر، جميع الموجودات من الذوات والمعاني. لأنها لا تخلو من شفع ووتر.
قال القاضي: ومن فسرهما بالبروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها أو بيومي النحر وعرفة، فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لما قبلهما.
قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر، دون نوع، بخبر ولا عقل، وكل شفع ووتر، فهو مما أقسم به. مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا، لعموم قسمه بذلك.
وقد قرئ (الوتر) بفتح الواو وكسرها. وهما لغتان.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] ، والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة. ففي الليل الراحة التي هي من أعظم النعم، وفي النهار المكاسب وغيرها. وحذف الياء للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي. ومن القراء من حذفها، أصلا ووقفا. ومنهم من خصه بأحدهما، كما فصل في كتب الأداء.
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ قال ابن جرير: أي هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر. وإنما عني بذلك: أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه، مما هو أغلظ منه في الإقسام.(9/465)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
وقال الرازي: المراد من الاستفهام التأكيد. كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. أي على طريقة قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:
76] ، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للخلق، وإيذانا بظهور الأمر. و (الحجر) العقل. لأنه يحجر صاحبه، أي يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي. والمقسم عليه محذوف. وهو (ليعذبن) كما ينبئ عنه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 8]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ أي ألم تعلم علما يقينيّا كيف عذب ربك عادا، فيعذب هؤلاء أيضا، لاشتراكهم فيما يوجبه من جحود الحق والمعاصي. و (عاد) قبيلة من العرب البائدة. وتلقب بإرم أيضا. وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه السلام. فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. فقوله تعالى: إِرَمَ عطف بيان لعاد ذاتِ الْعِمادِ أي ذات الخيام المعمّدة لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان. ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت. وقيل: كني بالعماد عن العلوّ والشرف والقوة، إلا أن الأشبه- كما قال ابن جرير- بظاهر التنزيل هو الأول. وهو أنهم كانوا أهل عمد سيارة. لأن المعروف في كلام العرب من العماد، ما عمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء. ثم قال: وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه، ما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي في العظم والبطش والأيدي.
قال ابن كثير: كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا. ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم. فقال:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف: 69] . وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] .
تنبيه:
قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في (مقدمة) تاريخه في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله: وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير(9/466)
سورة (الفجر) في قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فيجعلون لفظه إِرَمَ اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان. هما شديد وشداد. ملكا من بعده. وهلك شديد فخلص الملك لشداد. ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنينّ مثلها. فبنى مدينة (إرم) في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة. وكان عمره تسعمائة سنة. وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته. حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين. وينقلون عن عبد الله بن قلابة، من الصحابة، أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه. وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه. فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هي إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا، والله، ذاك الرجل.
قال ابن خلدون: وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض. وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا. والأدلاء تقص طرقه من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه. إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة. وبعضهم يقول إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبه بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذاتِ الْعِمادِ أنها صفة إِرَمَ وحملوا العماد على الأساطين. فتعين أن يكون بناء. ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير (عاد إرم) على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات. وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم. بما اشتهر من قوتهم. لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت، كما في قراءة ابن الزبير، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة. كما تقول: قريش كنانة وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة؟ انتهى. وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال: ومن زعم(9/467)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
أن المراد بقوله: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق أو إسكندرية، ففيه نظر. فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا، إن جعل إِرَمَ بدلا أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ. فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك. وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها. ولو صح إلى ذلك الأعرابي، فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين، ومن وجود مطالب تحت الأرض، فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير. لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها. فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء. فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات. ويطنزون بهم.
والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 9 الى 14]
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
وَثَمُودَ وهم قوم صالح عليه السلام الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتا. كما في قوله: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر: 82] ، والباء ظرفية. والمجرور متعلق ب (جابوا) أو هو حال من الفاعل أو المفعول. وقرئ بالياء وبإسقاطها. كما في (يسر) والوادي هو وادي القرى. كانت منازلهم فيه. كما قاله ابن إسحاق وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي الجنود الذين يشدون له أمره. أو هي أوتاد يشد بها من يعذّبه. أو القوى والعدد والعدد التي تم له بها ملكه، ورسخ بطشه وسلطانه، ومنه قولهم، لمن تمكن في أرض ما: ضرب بها أوتادا الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون. أي تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرّد والبغي في(9/468)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
بلادهم، اغترارا بالقوة وعظم السلطان فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي الضرر والإيذاء وهضم الحقوق فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي أنزل بهم عذابه، وأحلّ بهم نقمته، بما طغوا في البلاد وأفسدوا فيها. وقد بين تعالى إهلاكهم مفصلا في غير ما سورة وآية. و (السوط) إما مصدر (ساطه) أي خلطه كما في قول كعب:
لكنها خلّة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
أريد به المفعول هنا. أي أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب. قيل:
وبما ذكر سميت الآلة المعروفة، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة. استعيرت لعذاب أدون من غيره. وهو ما اختاره الزمخشري حيث قال: وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
وقيل: هو من قبيل (لجين الماء) أي عذابا كالسوط في شدته، وهو ما يقتضيه كلام الطبري، حيث زعم أن السوط مثل لشدة العذاب.
قال الشهاب: وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة، كالإذاقة. يقال: صبّ عليه السوط، وقنّعه به وغشّاه. وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد. و (المرصاد) اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد- جمع راصد- أو صيغة مبالغة. كمطعام ومطعان. فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية. شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العباد، مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها. بحيث لا ينجو منه أحد- بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها، ليأخذه فيوقع به ما يريد. ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.
ثم أشار إلى غفلة الإنسان في حالي غناه وفقره. ونعى عليه شأنه فيهما.
بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ أي بالغنى واليسار فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أي فضّلني، لما لي عنده من الكرامة وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي(9/469)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
ضيّقه عليه وقتّره، فلم يكثر ماله ولم يوسع عليه فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي أذلني بالفقر. وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين. فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه. وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. ففي كلّ ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب. ونظير الآية، آية:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وآية، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] وآية، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 19- 22] . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
كَلَّا ردع عن قوليه في حاليه. أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء، والإهانة في المنع، بل لطلب الشكر. وهو صرف النعم إلى ما خلقت له، وإعطاء المال لذويه، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه، كما قال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وهو من فقد كافله ومربيه. فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته، صونا له إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته. ومثله التحاضّ على مواساة البؤساء. وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه، كما قال: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحض بعضكم بعضا عليه ولا يتواصى به.
قال الإمام: وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام فيقول لم تطعموا المسكين) ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون. وإنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التزام كلّ لما يأمر به، وابتعاده عما ينهى عنه.
لطيفة:
قال القاشاني: في دلالة قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ: أي الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان، لحديث (الإيمان نصفان. نصف:
صبر، ونصف شكر) لأن الله تعالى إما إن يبتليه بالنعم والرخاء، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه. ولا(9/470)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول: إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين. أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول: إنّ الله أهانني. فربما كان ذلك إكراما له.
بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق، كما أن الأول ربما كان استدراجا منه. انتهى.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال ابن جرير: أي تأكلون الميراث أكلا شديدا، لا تتركون منه شيئا. من قولهم: (لممت ما على الخوان أجمع فأنا ألمه لمّا) إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.
قال ابن زيد: كانوا لا يورّثون النساء ولا يورّثون الصغار، وقرأ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ [النساء: 127] ، أي لا تورثونهن أيضا. وقال بكر بن عبد الله: اللمّ: الاعتداء في الميراث. يأكل ميراثه وميراث غيره وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي جمعه وكنزه، حبّا كثيرا شديدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)
كَلَّا ردع لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم. وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي دكا بعد دك حتى عادت هباء منثورا.
قال الشهاب: ليس الثاني تأكيدا، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب. كقرأت النحو بابا بابا. وجاء القوم رجلا رجلا. و (الدك) قريب من الدق، لفظا ومعنى وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا قال ابن كثير: أي وجاء الرب، تبارك وتعالى، لفصل القضاء، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفا صفوفا. وسبقه ابن جرير إلى ذلك وعضده بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام، والملائكة بين يديه، وإشراق الأرض بنور ربها. ومذهب الخلف في ذلك(9/471)
معروف، من جعل الكلام على حذف مضاف، للتهويل. أي جاء أمره وقضاؤه. أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه.
قال الزمخشري: مثلت حاله في ذلك، بحال الملك إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم انتهى.
وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد. ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق، فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق. بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى، كما أنها لا تشبه الذوات، فكذلك صفات لا تشبه الصفات. لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما. فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه. على ما يليق به. كالعلم والقدرة. لا تمثيل ولا تعطيل.
قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه: واعلم أن من المتأخرين من يقول إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل. فإن قوله (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين. مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و (إن الله معنا) ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك. فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال إن مذهب السلف أن هذا غير مراد، فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث. فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار، معذورا في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية. انتهى.
وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في (الرسالة المدنية) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.
وقال رحمه الله في بعض فتاويه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله. وبالتأويل الجاري على نهج السبيل. ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا، أنا لا نقول(9/472)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
بالمجاز والتأويل. والله عند لسان كل قائل. ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب.
والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزيّ، وأبي الفضل التميميّ، وابن حامد، فيما أظن، وغيرهم، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز. وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز. فقابلوا الضلال والفساد، بحسم الموادّ. وخيار الأمور التوسط والاقتصاد. انتهى.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيره إليها. فمجيئها متجوز به عن إظهارها. كما صرح به آية وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات: 39] ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ
تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي منفعتها. فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد، كما فسره بقوله تعالى: يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه. فاللام للتعليل. أو: قدمت وقت حياتي. فاللام بمعنى وقت. والحياة هي التي في الدنيا فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب كعذاب الله، أحد في الدنيا وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وقرئ (يعذب ويوثق) على بناء المجهول.
قال السمين: وعذاب ووثاق في الآية، واقعان موقع تعذيب وإيثاق. والمعنى لا يعذب أحد تعذيبا مثل تعذيب الله هذا الكافر. ولا يوثق أحد إيثاقا مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال. فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق. كالعطاء بمعنى الإعطاء.
ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحا، في مقابلة من تقدم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن. وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشيته من الاضطراب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ(9/473)
أي وعده وثوابه راضِيَةً مَرْضِيَّةً أي راضية بما أوتيت، مرضية عند ربها فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي في زمرتهم، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَادْخُلِي جَنَّتِي أي معهم. وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.
ومن غرائب المأثور هنا، تأويل النفس بالروح، والرب بصاحبها. أي ارجعي إلى جسد صاحبك إيذانا بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد، وأن لها مقرّا قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت. والمسألة من الغوامض بل من الغيوب.
وبمعرفة نظائر التنزيل، يظهر بعد هذا التأويل.(9/474)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البلد
مكية وهي عشرون آية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3)
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير لا أُقْسِمُ والْبَلَدِ هو مكة. وقيد القسم بقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ عناية بالنبيّ صلوات الله عليه. فكأنه إقسام به لأجله، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلا عظيما، لهمهم بإخراج من هو حقيق به، وبه يتم شرفه.
قال الشهاب: و (الحل) صفة أو مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. وقيل معناه وأنت يستحل فيه حرمتك، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام، عليه الصلاة والسلام؟؟.
وقيل: معناه وأنت حل به في المستقبل. تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار، يقتل ويأسر. مع أنها ما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له. ففيه تسلية له، ووعد بنصره، وإهلاك عدوه.
و (الحل) على هذين الوجهين ضد (الحرمة) وفيهما- كما قالوا- بعد. لا سيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه السلام، بجعل حلوله به مناطا لإعظامه، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب، بذكر بعض موادّ المكايدة، على نهج براعة الاستهلال، وإنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله، ما لم يكابده داع قبله، صلوات الله عليه وسلامه.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ عطف على (هذا البلد) داخل في المقسم به. قيل: عني(9/475)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
بذلك آدم وولده وقيل: إبراهيم وولده. والصواب- كما قال ابن جرير- أن المعني به كل والد وما ولد. قال: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان، يجب التسليم له بخصوصه. فهو على عمومه كما عمه.
وإيثار (ما) على (من) لإرادة الوصف. فيفيد التعظيم في مقام المدح. وإنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها. ولذا أفادت التعجب أو التعجيب، وإن لم يكن استفهاما كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي أيّ مولود عظيم الشأن وضعته. وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام، ظاهر. أما على أن المراد به آدم وذريته، فالتعجب من كثرتهم، أو مما خص به الإنسان من خواص البشر. كالنطق والعقل وحسن الصورة. حكاه الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 4 الى 7]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في شدة، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار. إما في الجنة وإما في النار.
قال الزمخشري: (الكبد) أصله من قولك (كبد الرجل كبدا) فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت. فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة. كما قيل: (كبته) بمعنى أهلكه. وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. انتهى.
وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه، مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا. وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصبا. هذا خلاصة ما قالوه.
وقال القاشاني: (في كبد) أي مكابدة ومشقة من نفسه وهواه. أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب. إذ (الكبد) في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة. فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.
أَيَحْسَبُ أي لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ(9/476)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
أَحَدٌ
أي أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته. مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا. من (تلبد الشيء) إذا اجتمع. والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء. كقولهم (خسرت عليه كذا وكذا) إذا أنفق عليه.
يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله. ولهذا قال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي: أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 8 الى 16]
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ قال القاشانيّ: أي ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟
وقال السيد المرتضى: هذا تذكير ينعم الله عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم. لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة. فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضا. وقوله تعالى:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر، قال الإمام: النجد مشهور في الطريق المرتفعة والمراد بهما طريقا الخير والشر. وإنما سماهما نجدين، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر. وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما. ثم وهبناه الاختيار. فإليه أن يختار أي الطريقين شاء. فالذي وهب الإنسان هذه الآلات. وأودع باطنه تلك القوى، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه(9/477)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
شيء من سريرته. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. و (الاقتحام) الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و (العقبة) الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله تعالى بمكانة رفيعة فَكُّ رَقَبَةٍ أي عتقها. أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعا به إلى ما فطرت عليه من الحرية أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي قرابة. قال السيد المرتضى: وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين، على الأجانب في الإفضال.
قال: وقد يمكن في مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى، بل من (القرب) الذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضرّ وهذا أشبه بقوله تعالى: ذا مَتْرَبَةٍ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى. وقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال: (ترب) كأنه لصق بالتراب. ويقال: (فقر مدقع) و (فقير مدقع) بمعنى لاصق بالدقعاء، وهي التراب.
لطيفة:
ذهب الأكثرون إلى أن (لا) من قوله (فلا) نافية. وإنما لم تكرر، مع أن العرب لا تكاد تفردها، كما جاء في آية فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] ، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] ، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن (لا اقتحم) لما فسر بما بعده كان في قوة (لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا) وفي الآية أجوبة أخرى. منها أنه لما عطف عليه، كان وهو منفي أيضا.
فكأنها كررت. وقيل (لا) للدعاء. كقولهم (لا نجا ولا سلم) وقيل مخففة من (ألا) التي للتحضيض. وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل. وقال الإمام: أما ما قيل من أن (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها، ولم تكرر في الآية، فذلك لا يلتفت إليه. لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 18]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالحق الذي جاءهم. عطف على المنفي ب (لا)(9/478)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وهو (اقتحم) أو على (فك) وَتَواصَوْا أي أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ أي على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالرحمة على بعضهم. كقوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي اليمين، أو جهة اليمين التي فيها السعداء.
تنبيه:
قال القاشاني: يشير قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الآيات، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها، حتى يصير التطبع طبعا. ثم قال:
فإن الإطعام، خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق، الذي هو وضع في موضعه، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها- والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها، وهو الإيمان العلمي اليقيني- والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة- وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين.
و (المرحمة) أي التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة. فانظر كيف عدّد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل.
وعبر عنها بمعظم أنواعها. وأخص خصالها الذي هو السخاء. ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس. وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ.
وعبر عن الحكمة به لكونه أمّ سائر مراتبها وأنواعها.
ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين. وأخر العدالة التي هي نهايتها.
واستغنى بذكر المرحمة، التي هي صفة الرحمن، عن سائر أنواعها. كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البلد (90) : الآيات 19 الى 20]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق، التي بكل يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي الشؤم على أنفسهم، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء. وقال الإمام: أهل اليمين، في لسان الدين الإسلامى، عنوان السعداء. وأهل الشمال عنوان الأشقياء عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة أبوابها، كناية عن حبسهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها.(9/479)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشمس
مكية، وآيها خمس عشرة.
وقد تقدم
حديث جابر الذي في الصحيح «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)
وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي ضوئها إذا أشرقت. قال الراغب: (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي الوقت. وحقيقته- كما قال الشهاب- تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته. وقال الإمام:
يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم. ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم. وهل كنت ترى حيا أو تبصر ناميا، أو هل كنت تجد نفسك، لولا ضياء الشمس، جلّ مبدعه؟.
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبع الشمس، قال الإمام: وذلك في الليالي البيض، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة. وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء. إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر. وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره. وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أظهر الشمس. وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن
__________
(1) أخرجه النسائي في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى. [.....](9/480)
الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وفي هذه الأقسام كلها- كما قاله الإمام- إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى وفي قوله: إِذا جَلَّاها بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة. وهي حالة الصحو. أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار. وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر: 2] ، على القول الأخير. قال الإمام: ولقلة أوقات الظلمة، عبر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخرا عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائما من أوله إلى آخره. وذلك شأن له في ذاته. ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض.. ولهذا عبر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله، بدون إفادة أنه مما ينفك عنه.
وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن رفعها، وصيّرها بما فيها من الكواكب، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية. أي والقادر الذي أبدع خلقها.
قالوا: وذكر ما بَناها مع أن في ذكر السَّماءِ غنية عنه، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها. من كل جانب، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها.
قال الإمام: وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية، كما يزعم بعض الجاهلين. أي بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي أفهمها إياهما، وأشعرها بهما، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.
لطيفة:
جوز في (ما) كونها مصدرية في الكل، ولا يضره خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذا لا مرجع له. وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق. وهي موجودة هنا. وأن العطف على صلة (ما) لا عليها مع صلتها. فكأنه قيل: ونفس وتسويتها، فإلهامها إلخ. وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد. نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ. وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم له. وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم.(9/481)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 9 الى 12]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام. أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي أخملها ووضع منها، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. هذا ما قاله ابن جرير: وقال غيره: أي نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق. وهو مأخوذ من (دس الشيء في التراب) أي أدخله فيه وأخفاه. وأصل (دسّى) دسّس. كتقضّى البازي.
وجملة قَدْ أَفْلَحَ إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول.
قال القاضي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.
وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله عليهم. أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحا عليه السلام. وقد دل عليه قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أي بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور. ف (الطغوى) مصدر. وجوز أن يراد به العذاب نفسه، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر.
أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة من العذاب. والباء صلة (كذبت) وقوله تعالى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ظرف ل (كذبت) أو (طغوى) أي حين قام أشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه السلام. وكانوا نهوا عن مسّها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشمس (91) : الآيات 13 الى 15]
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه السلام لقومه- ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها(9/482)
أي احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربها، الذي اختصه الله به في يومها. وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر، غير يوم الناقة. كما بينته آية الشعراء قال: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 155- 156] ، أي لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها فَكَذَّبُوهُ أي فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا فَعَقَرُوها أي قتلوها.
قال في النهاية: أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك. وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها. وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها. ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ أي أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته، استهانة به واستخفافا بما بعث به. وقيل:
دمدم أطبق عليهم العذاب. وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهدة فَسَوَّاها أي فسوى الدمدمة عليهم جميعا، فلم يفلت منهم أحد. بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود. أي جعلها عليهم سواء وَلا يَخافُ عُقْباها أي لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب.
قال الشهاب: أي لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله. فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله. فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر. ويجوز عوده للرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة، كما إذا قيل: الضمير للأشقى أي أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. والواو الحال أو الاستئناف.
تنبيه:
قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) : المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين. ولهذا، والله أعلم، ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة وَالشَّمْسِ وَضُحاها لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين: القدر والشرع.
فقال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] ، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9] ، فهذا أمره ودينه. وثمود، هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى. والتدسية على التزكية. والله أعلم.(9/483)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الليل
مكية، وآيها إحدى وعشرون. وقد تقدم
قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «1» : هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغشى الشمس أو النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر بزوال الليل أو تبين بطلوع الشمس.
قال الإمام: والتعبير في الغشيان بالمضارع، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود، حتى عبر به عن الوجود نفسه. أما تجلي النهار فهو لازم له. لهذا عبر عنه بالماضي كما سبق بيانه وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية، كما تقدم.
قال الإمام: وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها، والإشارة إلى الإبداع في الصنع. إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى، في الحيوان، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، كما يزعم بعض الجاحدين. فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى. فتكوين الولد من عناصر واحدة تارة ذكرا وتارة أنثى، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.
__________
(1) أخرجه النسائي في: الافتتاح، 63- باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.(9/484)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
وقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم. أو هو مقدر، كما مر تفصيله. أي مختلف في جزائه. ومفرّق في عاقبته. فمنه ما يسعد به الساعي ومنه ما يشقى به، فشتان ما بينهما، كما فصله بعد. و (شتى) إما جمع شتيت أو شت، بمعنى متفرق، والمصدر المضاف يفيد العموم. فيكون جمعا معنى. ولذا أخبر عنه ب (شتى) وهو جمع. وفيه وجه آخر وهو أنه مفرد مصدر مؤنث. كذكرى وبشرى. فهو بتقدير مضاف، أو مؤول، أو بجعله عين الافتراق، مبالغة.
قال الرازيّ: ويقرب من هذه الآية قوله: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية: 21] .
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى تفصيل لتلك المساعي الشتى، وتبيين لمآلها ما تقدم.
قال الرازيّ: وفي أَعْطى وجهان:
أحدهما- أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم. كما كان يفعله أبو بكر، سواء كان ذلك واجبا أو نفلا وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقا في سبيل الله، سواء كان واجبا أو نفلا وقد مدح الله قوما فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8] ، وقال في آخر هذه السورة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى [الليل: 17- 18] الآية.
وثانيهما- أن قوله أَعْطى يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق الناس في طاعة الله تعالى. يقال: فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة. انتهى.
إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء. لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وَاتَّقى أي ربه فاجتنب محارمه وَصَدَّقَ(9/485)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
بِالْحُسْنى
أي بالمثوبة الحسنى. قال قتادة: أي صدق بموعود الله الحسن. وهو بمعنى قول مجاهد، إنها الجنة كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشورى: 23] ، فسمى مضاعفة الأجر (حسنى) وقال القاشاني: أي صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى، التي هي السلوك في طريق الحق، لقوة يقينه.
قال الشهاب: ولما كانت مؤدية إلى اليسر، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ أي بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها وَاسْتَغْنى أي عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة، وعمه به عن الحق وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بوجود المثوبة للحسنى، لمن آمن بالحق، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ.
قال الإمام: الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية، ويغمسها في أو حال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الإنسان، لأنه لا يجد معينا عليها لا من فطرته ولا من الناس وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله، إذا هلك، من قولهم: (تردى من الجبل وفي الهوة) وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة، هو المهلك والموقع لنفسه. وهو الحافر على حتفه بظلفه و (ما) نافية أو استفهام في معنى الإنكار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله. أي علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق(9/486)
الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمكين من الاستدلال والاستبصار، بخلق العقل وهبة الاختيار.
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي ملكا وخلقا. فلا يضرنا توليكم عن الهدى.
وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه. لا يحول بينه وبينه أحد، ولا يحصله أحد، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه.
وفيه إشارة إلى تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته. ولذا رتب عليه قوله: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى أي تتلظى وتتوهج. وهي نار الآخرة لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق الذي جاءه وَتَوَلَّى أي عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عنادا وكفرا وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي من يد يكافئه عليها. أي لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر (الأتقى) بالمنفق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى قال ابن جرير: أي ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عزّ وجلّ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على، إن ضمير (يرضى) ل (الأتقى) لا للرب. قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.
وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الإمام، قال: أي ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه (ثم قال) : والتعبير ب (سوف) لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك.
ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها. فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ولكنه مقدم(9/487)
الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة. فإنه كان صدّيقا تقيّا كريما جوادا بذّالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم. ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها. ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل.
ولهذا قال له عروة بن مسعود، وهو سيد ثقيف، يوم صلح الحديبية: أما والله! لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل. فكيف بمن عداهم؟
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير. فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم
. انتهى.(9/488)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الضّحى
مكية وآيها إحدى عشرة.
لطيفة:
قال ابن كثير: روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد. فلما بلغت وَالضُّحى قال لي: كبّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة. فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك. وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، من ولد القاسم بن أبي بزة. وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازيّ وقال: لا أحدث عنه. وكذلك أبو جعفر العقيليّ، قال: هو منكر الحديث.
لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (شرح الشاطبية) عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته. فقال بعضهم:
يكبر من آخر وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وقال آخرون: من آخر وَالضُّحى وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول (الله أكبر) ويقتصر، ومنهم من يقول (الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر) وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى، أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبر فرحا وسرورا، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. فالله أعلم.(9/489)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
وَالضُّحى تقدم في سورة وَالشَّمْسِ وَضُحاها تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعا عاليا وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أي اشتد ظلامه. وأصله من التسجية وهي التغطية، لستره بظلمته. كما في آية وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [النبأ: 10] ، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ جواب القسم. أي: ما تركك وما قطعك قطع المودّع.
قال الشهاب في (العناية) : فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا. وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى. فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزّ مفارقته.
كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ... فلم أدر أيّ الظاعنين أشيّع
وقال في (شرح الشفاء) : الوداع له معنيان في اللغة: الترك وتشييع المسافر.
فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة، يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركه أصلا.
فإنه معه أينما كان. وإنما الترك، لو تصور في جانبه، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع. فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده. وإليه أشار الأرجاني بقوله:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنّك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع (عادوا)
فقوله وَما قَلى مؤكد له. (قال) : وهذا، لم أر من ذكره مع غاية لطفه.
وكلهم فسروه بالمعنى الأول. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه. فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه، لا لضرره بهجره. أو لنفي القيد والمقيد. وقرئ ما وَدَّعَكَ بالتخفيف. وورد(9/490)
في الحديث «1» شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه. وورد في الشعر، كقوله:
فكان ما قدّموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا
ولهذا قال في (المصباح) بهذا: اعلم أن قولهم، في علم التصريف، أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ. وجعله استعارة من الوديعة تعسّف. انتهى وكذا قال في (المستوفى) : أنه كله ورد في كلام العرب، ولا عبرة بكلام النحاة فيه، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وإن كان نادر. انتهى وقوله تعالى: وَما قَلى أي: وما أبغضك. والقالي: المبغض. يعني ما هجرك عن بغض.
قال الشهاب: وحذف مفعول (قلى) اختصارا للعلم به، وليجري على نهج الفواصل التي بعده، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض.
تنبيه:
روى ابن جرير: عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما، فعيّر بذلك. فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله هذه الآية،
وفي رواية: إن قائل ذلك امرأة أبي لهب، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها. ولا تنافي، لاحتمال صدوره من الجميع. إلا أن قول المشركين وقول خديجة- إن صح- توجع وتحزن-
وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: فتر الوحي حتى شق ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأحزنه. فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني. فجاء جبريل بسورة والضحى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
قال ابن جرير: أي وللدار الآخرة، وما أعد الله لك فيها، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي: أو: لنهاية أمرك خير من بدايته. فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أي يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 48- باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، حديث رقم 2330، عن عائشة.(9/491)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالجملة، فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه وهذا غاية الإحسان والإكرام.
تنبيه:
قال في (المواهب اللدنية) : وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحدا من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم. فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة. وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريرا للجهال وتزيينا لموارد الضلال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 11]
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال أبو السعود: تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت، من فنون النعماء العظام، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود. فيطمئن قلبه وينشرح صدره، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه. كأنه قيل: قد وجدك إلخ. والوجود بمعنى العلم.
روي أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر. وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب وعطّفه الله عليه فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى
أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك إماما له، كما في آية ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] .
قال الشهاب: فالضلال مستعار من (ضل في طريقه) إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة، من طريق الاكتساب وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا فَأَغْنى أي فأغناك بمال خديجة الذي وهبته إياه. أو بما حصل لك من ربح التجارة فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله فتذهب بحقه، استعطافا منك له وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال ابن جرير: أي وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته. أي لأن للسائل حقا، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي(9/492)
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
[المعارج: 24- 25] .
وقد ذهب الحسن- فيما نقله الرازيّ- إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم. فيكون في مقابلة قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وهكذا قال ابن كثير:
أي وكما كنت ضالا فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قال الإمام:
ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم. فمنهم أهل الكتاب الممارون. ومنهم الأعراب الجفاة. ومنه من كان يسأل عما لا يسأل عنه الأنبياء. فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبه على التولّي عن الأعمى السائل، في سورة عبس. انتهى.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي بشكرها وإظهار آثارها، فيرغب فيما لديه منها، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم. وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها، حرصا على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفرارا من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.
قال الإمام: عن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل. فلا تجدهم إلا شاكين من القل. أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين.
فهذا هو قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ أي إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض. ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاويا. وقد يقال: إن المراد من النعمة النبوة. ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فتكون النعمة بمعنى الغنى. ولو كانت بمعنى النبوة، لكانت مقابلة لقوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا وقد علمت الحق في مقابله. والله أعلم.(9/493)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشرح
مكية. وقيل: مدنية، وهو الأقوى عندي. فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها، إنما كان بالمدينة المنورة، كما لا يخفى. وآيها ثمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، وتأييده وعصمته، حتى علم ما لم يعلم وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء، والهمزة لإنكار النفي. ونفي النفي إثبات. ولذا عطف المثبت عليه. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه، وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده. فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه، شرحا وتوسيعا. وذلك لأنه بالإلهام ونحوه، مما ينفس كربه ويزيل همه، بظهور ما كان غائبا عنه وخفيّا عليه، مما فيه مسرته. كما يقال (شرح الكتاب) إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه. لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه. ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطا. ثم سموا ضده ضيقا وقبضا. وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط- هذا ما حققه الشهاب.
وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قال الشهاب: الوزر الحمل الثقيل. ووضعه:
إزالته عنه. لأنه إذا تعدى ب (على) كان بمعنى التحميل. وإذا تعدى ب (من) كان بمعنى الإزالة. والإنقاض: حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض، التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي صوت، كما قاله الأزهريّ.(9/494)
وقال ابن عرفة: هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضا. أي مهزولا ضعيفا. وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه، مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها. ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعد، ودخولهم في دين الله أفواجا، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذل أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإباء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] .
والوجه الأول أقوى، وفي الآية، على كلّ، استعارة تمثيلية. والوضع ترشيح لها وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطا في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة. فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.
وعن مجاهد: أي لا أذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب وهذا- أي المأثور عن مجاهد- إن أخذ كلية خالف الواقع. فإنه كم ذكر الله وحده! وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده! وإن عين موضعا فهو ترجيح بلا مرجح. وإن جعلت القضية مهملة، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.
قال: وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر، ويردّ السائل غير صفر، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها. فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب.
فلا ترى مشهدا من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك. فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها، فتتجه الكلية. فإن قلت: من أين لك هذا التقييد، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟
قلت: المقام ناطق بهذا القيد. فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه صلى الله عليه وسلم من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد. وأي إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.
ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعيّ في أول (رسالته الجديدة) وبينه السبكيّ في تعليقة على الرسالة فقال رحمه الله تعالى:
قال الإمام رضي الله تعالى عنه عن مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا رسول الله. قال الشافعيّ: يعني(9/495)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
ذكره عند الإيمان بالله والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
قال السبكيّ: هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جدّا. وهو مبني على أن المراد بالذكر، الذكر بالقلب، وهو صحيح. فعلى هذا يعم. لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالا لأمر الله تعالى به، ذاكرا للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقلبه، لأنه المبلغ لها، عن الله. وهذا أعم من الذكر باللسان، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين أو دنيا. أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله، تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل:
فأنت باب الله أيّ امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل؟
ولك أن تقول: المراد برفع ذكره تشريفه صلى الله عليه وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأولها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين ثم الأذان والصلاة والخطب.
فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إشارة إلى أن الذي منحه، صلوات الله عليه، من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة. وهو أن مع العسر يسرا. ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. (وأل) في (العسر) للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ، وقلة الوسائل إلى المطلوب. ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك، وهو(9/496)
الوحي والنبوة. ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئا من عزمه. بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصارا طوالا. أفاده الإمام رحمه الله.
لطيفة:
تنكير (يسرا) للتعظيم. والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة (مع) إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقارن للعسر. فهو استعارة، شبه التقارب بالتقارن، فاستعير لفظ (مع) لمعنى (بعد) وقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد، أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة. وعليه أثر: «1» (لن يغلب عسر يسرين) فإن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهودا أو جنسا. وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول فَإِذا فَرَغْتَ أي من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فَانْصَبْ أي خذ في عمل آخر واتعب فيه. فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل، قاله الإمام وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ
أي في الدعوة إليه. أي لا ترغب إلا إلى ذاته، دون ثواب أو غرض آخر، لتكون دعوتك وهدايتك إليه، قال القاشانيّ.
وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه. إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد، والأظهر عندي، اعتمادا على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل- أن يكون معنى قوله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكرا لله على ما أنعم، وأرغب إليه خاصة ابتغاء لمرضاته. فتكون الآيتان بمعنى سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال: فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه. إلا أن السياق والنظائر- وهو أهم ما يرجع إليه- يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الجهاد، حديث 6، ونصه: عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم. فكتب إليه عمر بن الخطاب: أما بعد فإنه مهما ينزل بعيد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين ... إلخ.(9/497)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة التّين
مكية، ويقال: مدنية. وأيد الأول بقوله: وَهذَا الْبَلَدِ وآيها ثمان.
روي عن البراء بن عازب «1»
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون.
فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه. أخرجه الجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وأما المقسمات بها قبل، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها. فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن التِّينِ الذي يؤكل والزَّيْتُونِ الذي يعصر. قالوا: وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة (التين) الجبل الذي عليه دمشق و (الزيتون) الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد: (التين) مسجد دمشق و (الزيتون) بيت المقدس. فطهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان. وصوب ابن جرير الأول منها، وعبارته:
والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال التِّينِ هو التين الذي يؤكل والزَّيْتُونِ هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت. لأن ذلك هو المعروف عند العرب.
ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبا وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر التنزيل
__________
(1)
أخرجه البخاري في: التوحيد، 52- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» ، حديث رقم 467.(9/498)
ولا من قول من لا يجوّز خلافه، لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد.
قال صاحب (الذخيرة) في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون. قال: وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء. انتهى.
ويسمى أيضا طور زيتا إلى الآن. على أن فيما صوبه ابن جرير، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد- غير مفهومة. كما قاله الإمام. فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.
قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيّا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام.
والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.
والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء: يعني الذي كلم الله عليه موسى. وأشرق من ساعير: يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى. واستعلن من جبال فاران: يعني جبل مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم. فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان. ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير.
ومراده ببعض الأئمة، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان. فإنه ذكر ذلك في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام، واهتماما بتحقيقه. قال رحمه الله (فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم) : وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول في الترجمة: تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء (واللفظ لأبي محمد بن قتيبة) : ليس بهذا خفاء على من تدبره. ولا غموض. لأن مجيء الله من طور سيناء، إنزاله التوراة(9/499)
على موسى بطور سيناء. كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا. وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير، إنزاله على المسيح الإنجيل. وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران. وهي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. فإن ادعوا أنها غير مكة- وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم- قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبيّ الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح. أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما: ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوّه؟؟.
وقال أبو هاشم بن طفر: ساعير جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام. قلت: وبجانب بيت لحم- القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم ساعير. ولها جبال تسمى جبال ساعير، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال:
جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، وفيه كان أول نزول الوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم. وفيه كان ابتداء نزول القرآن. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران. ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح، نزل كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بعث نبيّ. فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران، إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن. وهذه الكتب نور الله وهداه.
وقال في الأول: جاء أو ظهر. وفي الثاني: أشرق. وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك. ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى. وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء.
ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران. فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في شرق الأرض وغربها، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها. ولهذا سماه الله سراجا منيرا. وسمى الشمس سراجا وهاجا. والخلق محتاجون إلى السراج المنير، أعظم من حاجتهم إلى السراج(9/500)
الوهاج. فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت. بل قد يتضررون به بعض الأوقات. وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في كل وقت، وكل مكان، ليلا ونهارا، سرّا وعلانية. وقد قال صلى الله عليه وسلم «1» : زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. وهذه الأماكن الثلاثة، أقسم الله بها في القرآن في قوله:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فأقسم بالتين والزيتون، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل. وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداه فيه، من واديه الأيمن، في البقعة المباركة من الشجرة- وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل، وأمه هاجر فيه. وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله.
وجعله آمنا خلقا وأمرا، قدرا وشرعا.
ثم قال (ابن تيمية) : فقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
ولما كان ما في التوراة خبرا عنها، أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن، فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها. وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله. فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة. فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولا بالتين والزيتون. ثم بطور سينين، ثم بمكة. لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء. فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 1- 4] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة.
فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسرا، وقد قيل إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ، فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الشورى: 32] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.
__________
(1) أخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم 19. عن ثوبان.(9/501)
واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: وَالتِّينِ يعني به شجرة (بوذا) مؤسس الديانة البوذية، التي تحرفت كثيرا عن أصلها الحقيقي. لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه. وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية. ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها.
ثم قال: والراجح عندنا، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية، أنه كان نبيّا صادقا ويسمى (سكياموتي) أو (جوناما) وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي. وأرسله الله رسولا. فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه. ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم (التينة المقدسة) وبلغتهم (أجابالا) .
قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم. فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلى آخر السورة.
قال: ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددا وأرقاهم.
والترتيب في ذكرها في الآية، هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى. فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفا عن أصلها.
كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى. ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفا. ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعا وأبعدها عن التحريف والتبديل. بل إن أصولها، الكتاب والسنة العملية المتواترة، لم يقع فيها تحريف مطلقا. ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك، ذكر ديني الفضل (البوذية والمسيحية) أولا ثم ديني العدل (اليهودية والإسلامية) ثانيا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولا. ثم تربية الشدة والعدل. وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب.
ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما. وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما. فلذا جمع الأولان معا والآخران كذلك. وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى. كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه.
ومن محاسن الآية أيضا الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية (مكة) وهي البلد الأمين. ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيرا في أودية الجبال، كما في جبل الزيتون(9/502)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
بالشام وطور سيناء، وهما مشهوران بها. فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة، الذين بقيت شرائعهم للآن. وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم. انتهى بحروفه. والله أعلم.
لطيفة:
لم ينصرف (سينين) كما لا ينصرف (سيناء) لأنه جعل اسما للبقعة أو الأرض. فهو علم أعجميّ. ولو جعل اسما للمكان أو المنزل أو اسما لمذكر لانصرف، لأنك سميت به مذكرا. وقرأ العامة (سينين) بكسر السين. وقرأ بعض السلف بفتحها. وآخرون (سيناء) بالكسر والفتح ممدودا. قال السمين: وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السريانيّ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التين (95) : الآيات 4 الى 8]
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي في أحسن تعديل خلقا، وشكلا، صورة ومعنى قال الشهاب: الظرف في موضع الحال من الإنسان. والتقويم فعل الله، فهو بمعنى القوام أو المقوم، أو فيه مضاف مقدر، أي قوام أحسن تقويم، أو (في) زائدة والتقدير: قومناه أحسن تقويم.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي جعلناه أسفل من سفل، وهم أصحاب النار لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين، ف (رد) بمعنى جعل التي تنصب مفعولين. قال الشهاب: و (السافلين) العصاة وغيرهم، وأسفل سافل للمتعدد المتفاوت. و (ثم) للتراخي الزماني أو هو رتبي، وجوز نصب أَسْفَلَ بنزع الخافض صفة لمحذوف. أي إلى مكان أسفل سافلين. أي محل النار. أو النار بمعنى جهنم. وهذا ما قاله مجاهد حيث قال: (في النار) وفي رواية (إلى النار) والسافلين، على هذا، الأمكنة السافلة وهي دركاتها.
وجمعها للعقلاء للفاصلة، أو للتنزيل منزلة العقلاء. كذا قالوا. ولو أريد بهم أهل النار والدركات، لأنهم أسفل السفل كالأول، لكان أولى.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أو غير(9/503)
منقوص أو غير محسوب أو غير ممنون به عليهم. والاستثناء متصل من ضمير (رددناه) فإنه في معنى الجمع لأن المكنيّ عنه وهو الإنسان، في معنى الجنس.
هذا، وقد اعتمد ابن جرير في تأويل الآية، ما روي عن ابن عباس من أن المعنى (ثم رددناه إلى أرذل العمر. وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله، من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته) .
وعبارة ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال معناه: ثم رددناه أي إلى أرذل العمر إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر، وذهاب العقل.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في حال صحتهم وشبابهم فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل.
قال: وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال، احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت. ألا نرى أنه يقول: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني بعد هذه الحجج. ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين. وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان القوم، للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا أهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن، والشباب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف. انتهى كلامه.
وعليه فيكون الاستثناء منقطعا، استدراكا للدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره، ويكون (الدين) حينئذ مبتدأ، والفاء داخلة في خبره. وأما على الوجه الأول، فالفاء للتفريع، ومدخولها جملة مترتبة عليه، ومؤكدة له. وقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ خطاب للإنسان على طريق الالتفات، لتشديد التوبيخ والتبكيت، أي فما يحملك على التكذيب بالدين، أي(9/504)
الجزاء بعد البعث، وإنكاره بعد هذه الدلائل. والمعنى: إن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا، وتحويله من حال إلى حال، كمالا ونقصانا، من أوضح الدلائل على قدرة الله عزّ وجلّ على البعث، والجزاء فأي شيء تضطرك إلى التكذيب به؟
وجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ومعنى يُكَذِّبُكَ إما ينسبك إلى الكذب (كفسقته إذا قلت له إنه فاسق) والباء في بِالدِّينِ بمعنى (في) أي يكذبك في إخبارك به. أو سببية أي بسبب إخبارك به وإثباته. أو المعنى ما يجعلك مكذبا بالدين. على أن الباء صلته. وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين، والمعنى إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين. لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأسا. والاستفهام للإنكار والتعجب.
واستصوب ابن جرير: قول من قال (ما) بمعنى (من) أي فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين.
قال الشهاب: (فما) استفهام عمن يعقل، وفيه نظر، لأنه خلاف المعروف، فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها، كما بيناه لك. والداعي لارتكاب هذا، أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه إنكار توبيخيّ للمكذبين له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي بأحكم من حكم في أحكامه. قال أبو السعود: أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا، حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين، تعين الإعادة والجزاء. فالجملة تقريرا لما قبلها. وقيل: الحكم بمعنى القضاء، فهي وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما يستحقونه من العذاب و (أحكم) من الحكم أو الحكمة. قيل: والثاني أظهر.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال:
بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. أرسله قتادة، ورفعه أبو هريرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
.(9/505)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العلق
سورة العلق. وهي مكية بالإجماع. وصدرها أول آية نزلت من القرآن، كما صحت بذلك الأخبار. وأما أول سورة نزلت كاملة فهي الفاتحة. ويروى في الأوائل غيرها، ولا منافاة. لأن الأولية حقيقية ونسبية.
روى الشيخان «1» وغيرهما عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. فكان يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد. ويتزوّد لذلك. ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال اقْرَأْ قال: ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقْرَأْ فقلت:
ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقْرَأْ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده.
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الوحي، 3- باب حدثنا يحيى بن بكير، حديث رقم 3.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 252.(9/506)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبسا باسمه تعالى. أي مبتدئا به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء. قال أبو السعود:
والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام، للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية، بإنزال الوحي المتواتر. ووصف الرب بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى الله عليه وسلم منه تعالى. والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم- أي الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء.
وقال الإمام: ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى: كن قارئا باسم الله من قبيل الأمر التكويني. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا. ولذلك كرر القول مرارا: ما أنا بقارئ. وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا. فإنه سينزل عليه كتاب يقرؤه. وإن كان لا يكتبه. ولذلك وصف الرب بالذي خلق، أي الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها. لأنك لم تكن تدري ما الكتاب.
فكأنّ الله يقول: كن قارئا بقدرتي وبإرادتي. وإنما عبر بالاسم، لأنه كما سبق في (سورة سبح) دال على ما تعرف به الذات، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعا. لأن القراءة علم في نفس حية. فهي تخط ببالك من الله وجوده وعلمه وقدرته وإرادته. أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا: إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله. وهو خلاف المتبادر، فيكون معنى ذلك: إذا قرأت فاقرأ(9/507)
دائما على أن تكون قراءتك عملا تنفذه لله لا لغيره فلو فرض أنه قرأ وجعل قراءته لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم، فهو قارئ باسم الله. وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل.
ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه. انتهى. وهو جيد خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي دم جامد. وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه، وتخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيما لشأنه. إذ هو أشرفها وإليه التنزيل. وهو المأمور بالقراءة وإنما قال عَلَقٍ دون (علقة) كما في الآية الأخرى، لرعاية الفواصل، ولأن الْإِنْسانَ مراد به الجنس.
فهو في معنى الجمع. فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه. وخص العلق دون غيره من التارات، لأنه أدل على كمال القدر، من المضغة. مع استلزامه لما تقدمه. ومع رعاية الفواصل.
قال الإمام: أي ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية، ويسخرها لخدمته يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم قارئا. وإن لم يسبق له تعلم القراءة. وجاء بهذه الآية بعد سابقتها، ليزيد المعنى تأكيدا. كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ: أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات، وما القراءة إلا واحدة منها. والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة.
وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل. فهي أولى بسهولة الإيجاد، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء، في تصييرها ملكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلهذا كرر الأمر بقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ وجملة وَرَبُّكَ إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء. فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة، نعمة القراءة، من بحر كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة، فوصف مانحها بأنه الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام. فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، ألا يجعل منك قارئا مبيّنا وتاليا معلما وأنت إنسان كامل؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئا، فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة، وسيبلغك فيها(9/508)
مبلغا لم يبلغه سواك، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا، فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها؟؟ انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) في مباحث عجائب الإنسان وما في خلقه من الحكم: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين. البيان النطقي والبيان الخطي وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد. فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه. فذكر أولا عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي. ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الإنسان لأنه موضع العبرة. والآية فيه عظيمة.
ومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم. وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة. وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها. أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار، أو مادة الفرع وهو الماء المهين. وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة. فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة. ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده. إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم. فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان. فنعمة الله عزّ وجلّ بتعليم القلم بعد القرآن، من أجلّ النعم. والتعليم به، وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة، فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله. فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم. فإنه علمه فتعلّم. كما أنه علمه الكلام فتكلم. هذا، ومن أعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم(9/509)
به، والبنان الذي يخطّ به، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد.
فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم. فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا، معناه أعجب من صورته، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك. ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة: مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي. فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب. ودل قوله: خَلَقَ على أنه يعطي الوجود العيني. فدلّت هذه الآيات، مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها، على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما. وذكر خلقين وتعليمين خلقا عاما وخلقا خاصا، وتعليما خاصّا وتعليما عاما. وذكر من صفاته هاهنا اسم (الأكرم) الذي هو فيه كل خير وكل كمال. فله كل كمالا وصفا، ومنه كل خير فعلا. فهو (الأكرم) في ذاته وأوصافه وأفعاله. وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه، لا من حاجة دعته إلى ذلك، وهو الغني الحميد.
الثاني: قال الإمام: لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه. من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى، ولم ينبهم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع، فلا أرشدهم الله أبدا.
الثالث: قال الرازي: في قوله: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع. فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على(9/510)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 8]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه، أن رأى نفسه استغنت. ف (كلا) بمعنى (حقا) لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهرا، لتأخر نزول هذا عما قبله- على ما تقدم في المأثور- أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل: كَلَّا يكون ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران والطغيان. أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان. ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
قال الكرخي، ومذهب أبي حيان أن (كلا) بمعنى (ألا) الاستفتاحية، وصوبه ابن هشام بكسر همزة (إن) بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي (الكواشي) : يجوز في (كلا) أن تكون تنبيها، فيقف على ما قبلها. وردعا، فيقف عليها.
تنبيه:
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود، قررها الحكماء المصلحون. وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. قالوا: لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، كما نطقت به الآية الكريمة.
قال بعض الحكماء: التحول لأجل الحاجات وبقدرها، محمود بثلاثة شروط.
وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال.
الشرط الأول: أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال. أي إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.
والشرط الثاني: أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير، كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء، أو التغلب على المباحات. مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.(9/511)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
الشرط الثالث لجواز التمول: هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا. وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية. لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغصب. وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق. وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات، فيختل التساوي بين الناس، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.
وقوله تعالى: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي المرجع في الآخرة. قال أبو السعود:
تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد، و (الرجعى) مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه. أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، لا إلى غيره، استقلالا ولا اشتراكا. فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه، والتهديد والتحذير بحاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 9 الى 14]
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أي يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي، إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك. قال ابن عطية: لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم. كما روي في الصحيحين.
ولفظ البخاريّ «1» عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه.
فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: لو فعله لأخذته الملائكة
. وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ (العبد) وتنكيره، لتفخيمه عليه السلام، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه. وقيل: إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف، إذ قال (ينهى) ولم يقل (يؤذي) و (عبدا) دون (نبيّا) والرؤية هاهنا بصرية، وفيما بعدها قلبية. معناه: أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق، حديث رقم 2072.(9/512)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
المرئي، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. قاله أبو السعود.
وقال الإمام: كلمة (أرأيت) صارت تستعمل في معنى (أخبرني) على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقي، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها. فكأنه يقول: ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته، خصوصا وهو في حالة أدائها. وقوله: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أي أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده. أي ألم يعلم بأن الله يرى. وعليه، فالضمائر كلها ل (الذي ينهى) وجوز عود الضمير المستتر في (كان) للعبد المصلي. وكذا في (أمر) أي أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي؟ والمنهيّ على الهدي آمر بالتقوى. والنهي مكذب متول، فما أعجب من هذا! وذهب الإمام رحمه الله، في تأويل الآية إلى معنى آخر. وعبارته: أما قوله: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة، أفما كان ذلك خيرا له وأفضل؟ وقوله:
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون. وتولى أي أعرض عن العمل الطيب، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتمال؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود، بعد ما دل على المحذوف بقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أي أجهل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقيّا على الهدى أحسن جزاءه، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته. ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل (أرأيت) الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة. فهو مما لا معنى له؟ لأن القرآن قدوة في التعبير، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلا بمعنى (أخبرني) .
والجملة المستخبر عن مضمونها، تسد مسد المفاعيل. انتهى كلامه رحمه الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 19]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
كَلَّا ردع عن النهي عن الصلاة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي عن هذا الطغيان، وعن النهي عن الصلاة، وعن التكذيب والتولي لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته،(9/513)
ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. والأخذ بالناصية هنا، مثل في القهر والإذلال والتعذيب والنكال. وقوله تعالى: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ بدل من (الناصية) ولم يقتصر على إحدى الجملتين، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك. ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها، على الإسناد المجازي، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب. وكذا حال الخطأ، وهو كقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل: 62] ، و (وجهها يصف الجمال) - والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله (بنو فلان قتلوا قتيلا) والقاتل أحدهم.
لطيفة:
قال في (البحر) : كتبت نون (لنسفعا) بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفا. وقال السمين: الوقف على هذه النون بالألف تشبيها لها بالتنوين. وتكتب هنا ألفا اتباعا للوقف لأن قاعدة الرسم مبنية على حال الوقف والابتداء فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل مجلسه، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين، اتكالا على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والجملة إما بتقدير مضاف، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي يجتمعون سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر، ولم يرسم (سندع) بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ، أو لمشاكلة قوله: (فليدع) وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر كَلَّا ردع للناهي بعد ردع، وزجر إثر زجر لا تُطِعْهُ أي لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك. قال الزمخشريّ: أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا من الدعاء.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل، على ما صح في الأخبار، قال الإمام: ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى. والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(9/514)
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : إنما شدد الأمر- أمر الوعيد- في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط، حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي- لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته، وبوطء العنق الشريف. وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له، لو فعل ذلك. وقد عوقب عقبة بدعائه صلى الله عليه وسلم وعلى من شاركه في فعله، فقتلوا يوم بدر، كأبي جهل.
الثالث: قال الإمام: ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة. فقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة.
الرابع: قال في (اللباب) : سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ. فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. يدل عليه ما
روي عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ: أخرجه مسلم في صحيحه.(9/515)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القدر
قال السيوطي: فيها قولان، والأكثر أنها مكية، وآيها خمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] ، وكانت في رمضان، لقوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
[البقرة: 185] .
قال الإمام: سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير، لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه. أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم (فلان له قدر) أي له شرف وعظمة. لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة، بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال: (إنها خير من ألف شهر) لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهم يختبطون في ظلمات الضلال. فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في(9/516)
تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى. فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير. ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ فإنه جار على عادتهم في الخطاب. وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير. وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت (إخفاء الصدقة خير من إظهارها) لم تعين درجة الأفضلية. وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة بدر، أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران. فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله. ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها يخبر جلّ شأنه أن أول عهد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة، كان في تلك الليلة. تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحده حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، والروح هو الذي يتمثل له مبلغا للوحي، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم. فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذا الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام. لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال:
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده. فيكون الإذن مبتدئا من الأمر على هذا المعنى. والأمر هاهنا هو الأمر في قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 4- 5] ، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء آخر سواها. ولهذا قال بعضهم: إن (من) هاهنا بمعنى الباء، أي بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن- لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [البقرة: 214] ، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا. والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها. ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي أنها كانت ليلة سالمة من كل(9/517)
شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه- وهو الأمن والسلامة- للمبالغة في أنه يشبها كدر، بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة. وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها، الأيام والشهور الطوال.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ولا إجماع في تعيين تلك الليلة. بل في صحيح البخاري «1» : أنها رفعت. أي رفع العلم بتعيينها.
وفي رواية فيه: نسيتها أو أنسيتها
. من قوله صلوات عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في العشر الأخير من رمضان لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين قال ابن حجر: وحجتهم حديث واثلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان. وقد اضطربت أقوال السلف فيها. صحابة ومن بعدهم.
حتى أنافت على أربعين قولا.
قال الإمام: ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان. ولا نعيّنها من بين لياليه. فقد اختلف فيها الروايات اختلافا عظيما. وكتاب الله لم يعينها. وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة، شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم، في أثنائها.
ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه. فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء، يتسابق إليها المنافقون. ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون. كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام. فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه. ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه. بل إن أصغوا إليه، فإنما يصغون لنغمة تاليه، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره. ولهم
__________
(1) أخرجه في: فضل ليلة القدر، 2- باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، حديث رقم 419، عن أبي سعيد الخدري.(9/518)
خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال، فضلا عن الراشدين من الرجال. انتهى.
وقال الطبريّ: إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون، ما لا يظهر في سائر السنة. إذ لو كان ذلك حقّا، لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلا عن ليالي رمضان.
الثاني: حكى الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قولا عن بعض العلماء أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم ولعل مستنده ما صح أنها رفعت. وقد قدمنا معناه. ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه. وعندي أن لا تنافي. لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به- وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة. لأنها منه قطعا. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة. ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكاراتهم وجعلها أعيادا، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها فتأمّل الفرق، واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث: قال الإمام: ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة. وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك لم يرد، لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذب الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العزة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة. فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين. لعدم تواتر خبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه. وإلا كنا من الذين (إن يتّبعون إلّا الظّنّ) نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويعدّ من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل. فأحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.(9/519)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البيّنة
ويقال سورة القيمة. وسورة المنفكين. وسورة البرية. وعدد آياتها ثمان وهي مدنية على الأصح.
روى الإمام أحمد بن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ ابن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: وسمّاني لك، قال: نعم. فبكى. ورواه البخاري ومسلم «1» .
وفي رواية الإمام أحمد «2» عن أبي حبّة البدريّ قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة. قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فبكى أبيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوة النبيّ صلوات الله عليه بعنادهم، بعد ما تبينوا الحق منها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى الذي عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته، لم يكونوا هم وَالْمُشْرِكِينَ أي وثنيّ العرب مُنْفَكِّينَ أي عن غفلتهم وجهلهم بالحق، ووقوفهم عند ما قلدوا فيه آباءهم، ولا يعرفون من الحق شيئا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة القاطعة المثبتة للمدعي، وهي هنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم بأنه كان شيئا معروفا لهم، يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع. فإن ما هم فيه أجمل وأبدع. ومتابعة الآباء
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة لم يكن، 1- حدثنا محمد بن بشار، حديث رقم 1784، عن أنس.
(2) أخرجه في المسند 3/ 489.(9/520)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
فيه أشهى إلى النفوس وأمتع. تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي محمد صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معا فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي مستقيمة لا عوج فيها. واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما، مما حكاه الله في كتابه عنهم. فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم. وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته عليه السلام من أهل الكتاب سبيلا إلى إنكار الحق. وإنما فضلوا عليه سواه. أن هي سور القرآن. فإن كل سورة من سوره، كتاب قويم. فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة. ولما كان لسائل أو يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟
أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم. وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه. فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب. ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل. لكن هذه البينة لم تفدهم شيئا فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغيا منهم، واستمرارا في المراد، وإصرارا على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم.
بتفرقهم فيها، وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها. فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى،(9/521)
منهم؟؟ وقول تعالى: وَما أُمِرُوا أي والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الإذعان والخضوع، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء. لا واسطة ولا مال، ولا كرامة ولا جاه حُنَفاءَ أي متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله. وأصله جمع (حنيف) بمعنى المائل المنحرف. سمي به إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي الإتيان بها، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة. فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء، البتة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ أي بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة.
أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها. وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى.
وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وإن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة. هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب. فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعا، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن مِنْ في قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبعيض. وأن معنى (لم يكونوا منفكين) :
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا والله أعلم، أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عند ما جاءهم. ولم ينظروا في دليله. أو أعرضوا عنه بعد ما عرفوا دليله سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب. وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء. فبين أن الذين كفروا، أي جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب، لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرسال رسوله إليهم!(9/522)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم. وبذلك أو هذا ظهر معنى (حتى) وبطل جميع ما يهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد، عن الرأي السديد، فصعبوا من القرآن سهله، وحرموا من فهمه أهله. انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته، ولكونه أحسن ما فسّرت به، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته، أحسن ما قيل فيها. فلذلك سميناه (محاسن التأويل) هدانا الله إلى أقوم السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فجحدوا نبوّته مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر من برأه الله وخلقه. قال الإمام: لأن منكر الحق، بعد معرفته وقيام الدليل عليه، منكر في الحقيقة لعقل نفسه، مهلك لروحه، جالب الهلاك لغيره.
لطائف:
الأولى- دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان (المشركين) لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن، بل هو خاص بالوثنيين. أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب، فأهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك. لأنه دخيل لا أصيل. ولذلك ينفرون من وصمة الشرك. وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنيين.
الثانية- قال ابن جرير: العرب لا تهمز البرية. وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم. فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها.
وذهب بها إلى قول الله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها وأنها فعلية من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك، وهو مفعل، من (ألك) أو (لأك) ومن (يرى) و (ترى) و (نرى) ، وهو (تفعل) من رأيت. والآخر أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من (البراء) وهو التراب. حكي عن العرب سماعا فقيل (بفيك البراد) يعني به التراب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البينة (98) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)(9/523)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله ورسوله محمد، صلوات الله عليه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق، وبذل المال في أعمال البر، مع القيام بفرائض العبادات، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات. لأن إذعانهم الصحيح، ووجدانهم لذة معرفة الحق، ملّكت الحق قيادهم. فعملوا الأعمل الصالحة، قاله الإمام أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي أفضل الخليقة، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنسانيّ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة. فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي بساتين إقامة، لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي ماكثين على الدوام، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلوصهم من عقابه في ذلك وَرَضُوا عَنْهُ لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا. فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نعم الآخرة، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.
ذلِكَ أي هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خاف الله في الدنيا. في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.
قال الإمام: أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس، بل الخاصة كذلك. وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة، وتقليد الأبوين، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام، وأداء بعض العبادات، كحركات الصلاة وإمساك الصوم، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء. وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء. وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء. بل ولمن دون الأمراء. خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء- كلا لا ينالون حسن الجزاء. فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم. ولهذا لم تهذب من نفوسهم. ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.(9/524)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّلزلة
قال ابن كثير: مكية. ورجّح السيوطيّ أنها مدنية. وآيها ثمان.
روى الترمذي «1» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا زُلْزِلَتِ تعدل نصف القرآن. وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن. وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ تعدل ربع القرآن
. وسيأتي سر ذلك في تفسير سورة الكافرين والإخلاص إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2)
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب.
فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص، بمعنى الزلزال المخصوص بها. وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول. لآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ، وقرئ بفتح الزاي. وقد قيل هما مصدران. وقيل المفتوح اسم والمكسور مصدر. وهو المشهور وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها أي قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك. لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها. كقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 3- 4] ، والأثقال جمع (ثقل) بفتحتين.
وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون. وهذا على الاستعارة. ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن، على التشبيه أيضا. لأن الحمل يسمى ثقلا كما في قوله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [الأعراف: 189] ، قاله الشريف المرتضى في (الدرر) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزلزلة (99) : الآيات 3 الى 8]
وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
__________
(1) أخرجه في: ثواب القرآن، 10- باب ما جاء في إِذا زُلْزِلَتِ.(9/525)
وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي قال من يكون من الإنسان شاهدا لهذا الزلزال، الذي فجأه ودهشه، ولم يعهد مثله: ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة يَوْمَئِذٍ بدل من (إذا) أي في ذلك الوقت تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي تبين الأرض بلسان حالها، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك. وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.
قال أبو مسلم: أي يومئذ يتبين لك أحد جزاء عمله. فكأنها حدثت بذلك.
كقولك (الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة) فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة، تحدث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء سببية متعلق ب (تحدث) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه. وهو إحداث ما تدل به على خرابها.
وقال القاشانيّ: أي أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال.
يعني الأمر التكويني. وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً أي ينصرفون عن مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم، متفرقين سعداء وأشقياء لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي ليريهم الله جزاء أعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير، يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر. وقيل الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر، يرى جزاءه ثمة.
تنبيهات:
الأول- دل لفظ (من) على شمول الجزاء بقسميه، للمؤمن وغيره.
قال الإمام: أي من يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره، فإنه يراه ويجد جزاءه.
لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار، وأنها لا تنفعهم، معناها هو ما ذكرنا. أي أن عملا من(9/526)
أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم، على بقية السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء. كيف لا، والله جل شأنه يقول: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ، فقوله: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء. وإن كلّا يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه. وأن أبا لهب يخف عنه لسروره بولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة (الإجماع) كثيرا ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدين، وحجرا يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى، فبئس ما يصنعون. انتهى.
وقد سبقه الشهاب في (حواشيه) على القاضي، حيث ناقش صاحب المقاصد في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته: كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية، وهو مخالف لما صرح به في الآية؟ والذي يلوح للخاطر، بعد استكشاف سرائر الدفاتر، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل. ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهيّ. انتهى الثاني- قال في (الإكليل) : في هاتين الآيتين، الترغيب في قليل الخير وكثيره. والتحذير من قليل الشر وكثيره. أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ (أجمع) وسمّى «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة، حين سئل عن زكاة الحمير
فقال: ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
وروى الأمام أحمد «2» عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ إلخ. قال:
حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها. ورواه النسائي في تفسيره.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 99- إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، 1- باب قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، حديث رقم 1185، عن أبي هريرة.
(2) أخرجه في مسنده: 5/ 59.(9/527)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العاديات
مكية أو مدنية. وآيها إحدى عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً إقسام بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدوّ، فتضبح.
و (الضبح) صوت أنفاسها إذا عدت. وليس المراد بالصوت الصهيل. بل قولها (اح.
اح) كما قاله ابن عباس. ونصب ضَبْحاً إما بفعله المحذوف، أو بالعاديات لإفادته معناه، أو بالحالية فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أي تورى النار بحوافرها. والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه. لأنه إخراج النار وإيقادها. فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة. وتسمى نار الحباحب. ولما كان مرتبا على عدوها، عطفه بالفاء، وكون المراد به الحرب- بعيد. وفي إعرابه الوجوه السابقة.
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً أي تغير على العدوّ في وقته. يقال (أغار على العدوّ) إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يستلب ماله.
قال الإمام: وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها. أي أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها، لتهجم على عدوّ وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أي فأهجن، بذلك الوقت، غبارا من الإثارة. وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع. وانتفع: الغبار كما ذكرنا، وورد بمعنى الصياح. فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه، وأوقع به. لا صياح المغير المحارب، وإن جاز على بعد فيه. أي هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ، وضمير (به) للوقت والباء ظرفية. وفيه احتمالات أخر. ككونه للعدو أو للإغارة، لتأويلها بالجري. فالباء سببية أو للملابسة. ويجوز كونها ظرفية أيضا. والضمير للمكان الدال عليه السياق، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع. وهو الذي اختاره ابن جرير.(9/528)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
قال الشهاب: وذكر إثارة الغبار، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ.
وتخصيص الصبح، لأن الغارة كانت معتادة فيه. أي لمباغتة العدوّ. والغبار إنما يظهر نهارا و (أثرن) معطوف على ما قبله.
قال الناصر: وحكمة الإتيان بالفعل معطوفا على الاسم، الذي هو العاديات أو ما بعده، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلا عن اسم فاعل، تصوير هذه الأفعال في النفس. فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف. وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة. وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي.
وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً أي فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرقنه وشتتنه. يقال: (وسطت القوم) بالتخفيف و (وسطته) بالتشديد و (توسطته) بمعنى واحد. وفي الضمير الوجوه المتقدمة.
قال الإمام رحمه الله: أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها، آتية بالأعمال التي سردها لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد. ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل، والإغارة بها. ليكون كل واحد منهم مستعدا في أي وقت كان، لأن يكون جزءا من قوة الأمة إذا اضطرت إلى صدّ عدو. أو بعثها باعث على كسر شوكته. وكان في هذه الآيات القارعات، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] ، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر- ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل. ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها. وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقانا. أفليس أعجب العجب أن ترى أمما، هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى.
ثم قال: يقسم الله بالخيل صاحبة تلك الصفات التي رفع ذكرها، ليؤكد الخبر الذي جاء في قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)(9/529)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور. يكفر نعمه ولا يشكرها. أي لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.
قال المهايميّ: أي لكفور، فيوجب قتله بهذه الخيول وقهره بهذا الغضب.
وعن أبي أمامة: الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ أي وإن الإنسان على كنوده، لشهيد يشهد على نفسه به، لظهور أثره عليه. فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفرانه وعصيانه بلسان حاله.
قال القاشانيّ: لشهادة عقله ونور فطرته إنه لا يقوم بحقوق نعم الله، ويقصر في جنب الله بكفرانه وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها، لقويّ. ولحب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس وإنه لحب الخير الموصل إلى الحق، شديد منقبض، غير هش منبسط. أو اللام للتعليل. أي إنه لأجل حب المال بخيل. فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولا به عن الحق، معرضا به عن جنابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العاديات (100) : الآيات 9 الى 11]
أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
أَفَلا يَعْلَمُ أي أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل، ولا يعلم بنور فطرته وقوة عقله إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بعث وأثير ما في القبور وإخراج موتاها وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي أظهر وأبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونياتهم المكتومة فيها، من خير أو شر إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ أي عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم. فيجازيهم على حسبها يومئذ. وتقديم الظرف، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخصيص لوقوع علمه تعالى كناية عن مجازاته. وهي إنما تكون يومئذ.
قال الرازيّ: وإنما خص أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب. فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب، لما حصلت أفعال الجوارح. ولذلك جعلها تعالى الأصل في الذم فقال: آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] ، والأصل في المدح فقال: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، و [الحج: 35] .(9/530)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القارعة
مكية وآيها إحدى عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ قال أبو السعود: القرع هو الضرب بشدة واعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، وهي القيامة. سميت بها لأنها تفزع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال:
السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم وبالتكوير والانكدار والانتثار، والأرض بالزلزال والتبديل والجبال بالدك والنسف. وهي مبتدأ خبره قوله تعالى مَا الْقارِعَةُ على أن (ما) الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ، لا بالعكس. لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا. هو كلمة (ما) لا (القارعة) أي أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة؟ وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل. وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ تأكيد لهولها وفظاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق على معنى أن عظم شأنها ومدى شدتها، بحيث لا تكاد تناله دراية أحد، حتى يدريك بها. أي: وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ولما كان هذا منبئا عن الوعد الكريم بإعلامها، أنجز ذلك بقوله تعالى:
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ أي هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة والاضطراب، والتطاير إلى الداعي، كتطاير الفراش إلى النار. ف (يوم) خبر محذوف بني على الفتح. لإضافته إلى الفعل، أو هو منصوب. بإضمار (اذكر) كأنه قيل، بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة(9/531)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أي كالصوف المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو. ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبتدئ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال وما تستحقه من الجزاء، رتب عليه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القارعة (101) : الآيات 6 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10)
نارٌ حامِيَةٌ (11)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال ابن جرير: أي فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين الوزن. والعرب تقول (لك عندي درهم بميزان درهمك) ويقولون (داري بميزان دارك ووزن دارك) يراد حذاء دارك. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكلّ مخاصم ميزانه
يعني بقوله (ميزانه) كلامه وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مثل ضرب. انتهى وعليه، فالموازين جمع ميزان. وجوز كونه جمع موزون، وهو العمل الذي له خطر ووزن عند الله تعالى. ومعنى قوله: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي في عيشة قد رضيها في الجنة. ف (راضية) بمعنى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها أو في إسنادها.
أو استعارة مكنية وتخييلية وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي وزن حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ أي فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.
قال الشهاب: فسمى المأوى (أمّا) على التشبيه تهكما. لأن أم الولد مأواه ومقره. وفي (التأويلات) : قيل المراد أم رأسه. أي يلقى في النار منكوسا على رأسه.
انتهى.
والأول هو الموافق لقوله: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ فإنه تقرير لها بعد إبهامها، والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتهويل. أصل ما هِيَهْ ما هي، كناية عن الهاوية فأدخل في آخرها هاء السكت وقفا. وتحذف وصلا. وقد أجيز إثباتها مع الوصل.(9/532)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكاثر
وهي مكية وآيها ثمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي شغلكم التباهي بالكثرة في المال والولد ونحوهما. فيقول هذا: أنا أكثر منك مالا، والآخر: أنا أكثر منك ولدا. وهكذا مما يصرف عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية. ذهب بكم التفاخر والتباهي بهذه الأمور الفانية، من كثرة الأموال والأولاد، وشرف الآباء والأجداد كل مذهب حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى هلكتم ومتم وصرتم من أصحاب القبور، فأفنيتم عمركم في الأعمال السيئة وما تنبّهتم طول حياتكم إلى ما هو سبب سعادتكم ونجاتكم. وزيارة القبور عبارة عن الموت.
روى الزمخشري شواهد لها. قال الشهاب: وفيها إشارة إلى تحقق البعث. لأن الزائر لا بد من انصرافه عما زاره. ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها: بعثوا، ورب الكعبة! وقال ابن عبد العزيز: لا بد لمن زار، أن يرجع إلى جنة أو نار. وسمى بعض البلغاء المقبرة، دهليز الآخرة كَلَّا ردع عن الاشتغال بالتكاثر، وتوهم أن الفوز بالتفاخر. فإن الفوز بالتناصر على الحق والتحلي بالفضائل سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي مغبة ما أنتم عليه، في الآخرة، من وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الشهوات السريعة الزوال، العظيمة الوبال، لبقاء تبعاتها.(9/533)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير للتأكيد و (ثم) للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول. أو الأول عند الموت، والثاني عند النشور كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون ما بين أيديكم من الجزاء، علم الأمر اليقين، لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز في التكاثر، والذهول عن الحق به.
واليقين بمعنى المتيقن، صفة لمحذوف، أو صفة للعلم، على أنه من إضافة الصفة للموصوف، وحذف جواب (لو) ليطلبه العقل من الشرط وما سبقه، ليستحكم فيه فضل استحكام. وقوله تعالى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدد به التهديد، وأوضح به ما أنذروه تفخيما ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فالعين هنا بمعنى النفس، كما في (جاء زيد عينه) أي نفسه.
وإنما كانت نفس اليقين، لأن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة، فوق سائر الانكشافات.
فهو أحق بأن يكون عين اليقين. والتكرير للتأكيد.
قال الإمام: وكني برؤية الجحيم، عن ذوق العذاب فيها. وهي كناية شائعة في الكتاب العزيز. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به والتفاخر في الدنيا. ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟ ويدخل في ذلك ما أنعم عليهم من السمع والبصر وصحة البدن.
قال ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. قال: يسأل الله العباد فيم استعملوا وهو أعلم بذلك منهم. وهو قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] ، قال ابن جرير: لم يخصص في خبره تعالى نوعا من النعيم دون نوع. بل عمّ. فهو سائلهم عن جميع النعيم. ولذا قال مجاهد: أي عن كل شيء من لذة الدنيا. وقال قتادة: إن الله عزّ وجلّ سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.(9/534)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العصر
مكية، وقيل مدنية، وآيها ثلاث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
وَالْعَصْرِ أي الدهر. أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارّة والمارّة. ولذا قيل له (أبو العجب) . ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبّه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه، تعريضا ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل:
يعيبون الزمان وليس فيه ... معيب غير أهل للزمان
وجوّز أن يراد بالعصر، الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.
قال الإمام: كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم. وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسبّ، كما اعتاد الناس أن يقولوا (زمان مشؤوم) و (وقت نحس) و (دهر سوء) وما يشبه ذلك. بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات. وهو ظرف لشئوون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي خسران، لخسارته رأس ماله؟ الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر،(9/535)
وإضاعة الباقي في الفاني إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله وبما أنزل من الحق، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم. كما قال: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال القاشانيّ: أي من الفضائل والخيرات. أي اكتسبوها فربحوا زيادة النّور الكماليّ على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم.
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي على ما يبلو الله به عباده. أو على الحق، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.
تنبيهات:
الأول- قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة، لكفتهم. وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها معرفة الحق. الثانية عمله به.
الثالثة تعليمه من لا يحسنه. الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا. وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة.
وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه، مكملا لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية. فصلاح القوة العلمية بالإيمان.
وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات. وتكميله غيره، بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة، على اختصارها، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه، شافيا من كل داء، هاديا إلى كل خير. انتهى.
الثاني: قال الرازي: هذه السورة فيها وعيد شديد. وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة. وهي: الإيمان.
والعمل الصالح. التواصي بالحق. والتواصي بالصبر. فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور. وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه، فكذلك يلزمه(9/536)
في غيره أمور. منها الدعاء إلى الدين. والنصيحة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه. والأول الأمر بالمعروف، والثاني النهي عن المنكر. ومنه قوله تعالى: وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] ، وقال عمر: رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
الثالث: قال الرازي: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه. فلذلك قرن التواصي بالصبر.
الرابع: تخصص التواصي بالحق والصبر، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة، لإبراز كمال الاعتناء بهما.
قال الإمام: من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر. لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر. والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة. وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة. فشرط النجاة من الخسران، أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم، ويمكّنوه من قلوبهم، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه، بأن يدعو كلّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل. وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات، التي لا قرار للنفوس عليها، ولا دليل يهدي إليها. ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام. وهذا إطلاق للعقل من كل قيد، مع اشتراط التدقيق في النظر. لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم. ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين. كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل. والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة، إن كان في نيلها ما يخالف حقّا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها. واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع. فشرط النجاة من الخسران أن تصبر، وأن توصي غيرك بالصبر، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة، التي هي أم الفضائل بأسرها، ولا يمكنك حمله على ذلك، حتى تكون بنفسك متحلّيا بها. وإلا دخلت فيمن يقول، ولا يفعل كما يقول. فلم تكن ممن يعمل الصالحات. انتهى.(9/537)
الخامس- قال الإمام: إنما قال وَتَواصَوْا ولم يقل (وأوصوا) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق، ليوصي صاحبه بطلبه، يهمه أن يرى الحق فيقبله. فكأن في هذه العبارة الجزلة، قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم.
السادس- قال ابن كثير: ذكر الطبرانيّ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله ابن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها. ثم يسلم أحدهما على الآخر. قال الإمام: قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك. وهو خطأ. وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها. خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر. حتى يجتلب منه قبل التفرق، وصية خير لو كانت عنده.
وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره، فعلى من أراد التوسع في أسرارها، أن يرجع إليه.(9/538)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الهمزة
مكية، وآيها تسع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ أي لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم أصله من الهمز بمعنى الكسر، ومن اللمز بمعنى الطعن، الحقيقيين. ثم استعيرا لذلك ثم صارا حقيقة عرفية فيه. قال زياد الأعجم:
تدلى بودّ إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزة
وبناء (فعلة) يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها، لأنه من صيغ المبالغة والآية عني بها من كان مع المشركين بمكة، همازا لمازا. كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين:
29- 30] ، وقوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11] الآيات، فالسبب، وإن يكن خاصّا، إلا أن الوعيد عام، يتناول كل من باشر ذلك القبيح. وسرّ وروده عامّا، ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه.
الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ أي أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر.
قال الإمام: أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده. أي عده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه. لأنه لا يرى عزّا ولا شرفا ولا مجدا في سواه. فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه. فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه. ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض. لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه، وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا، فمزيل عنه الموت.(9/539)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الهمزة (104) : الآيات 4 الى 9]
كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
كَلَّا أي فليرتدع عن هذا الحسبان، فإن الأمر ليس كما ظن. بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيّئ الأعمال، كما قال: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. أي تكسره، وكلمة (النبذ) تفيد التحقير والتصغير وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ استفهام عنها لتهويل أمرها. كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.
قال أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه، ووصفها بالإيقاد، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ قال ابن جرير: أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى. حكي عن العرب سماعا (متى طلعت أرضنا) و (طلعت أرضي) بلغت.
وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب. ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه. فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه!! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. أو تطالع، على سبيل المجاز معادن موجبها إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ صفة لمؤصدة، أو حال من الضمير المجرور. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله: والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب، وتمدد على العمد، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممددة، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص.
و (المقاطر) جمع (مقطرة) بالفتح، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم (وتقطر) أي يجعل كلّ بجنب آخر و (عمد) قرئ بضم العين والميم وفتحهما.
قال ابن جرير: وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من(9/540)
القراء. ولغتان صحيحتان. والعرب تجمع العمود عمدا وعمدا، بضم الحرفين وفتحهما، كما تفعل في جمع إهاب تجمعه أهبا وأهبا.
تنبيه:
قال القاشاني في بيان آفات رذيلتي الهمز واللمز اللتين نزلت في وعيدهما السورة، ما مثاله: الهمز أي الكسر من أعراض الناس واللمز أي الطعن فيهم، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر. لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس. وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس، ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها.
فينسب العيب والرذيلة إليهم، ليظهر فضله عليهم. ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة.
فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية.
ثم قال: وفي قوله تعالى: وَعَدَّدَهُ إشارة أيضا إلى الجهل. لأن الذي جعل المال عدة للنوائب، لا يعلم أن نفس ذلك المال يجر إليه النوائب. لاقتضاء حكمة الله تفريقه في النائبات، فكيف يدفعها؟ وكذا في قوله: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي لا يشعر أن المقتنيات المخلدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية، لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل، مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل. والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية، أصل جميع الرذائل، ومستلزم لها. فلا جرم أنه يستحق صاحبه المغمور فيها، العذاب الأبديّ المستولي على القلب المبطل لجوهره.(9/541)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفيل
مكية، وآيها خمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ يعني الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة، ورئيسهم أبرهة الحبشي الأشرم. كما سيأتي.
قال أبو السعود: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم بإنكار عدمها. والرؤية علمية. أي ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان، باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله عزّ وجلّ لا بنفسه، بأن يقال ألم تر ما فعل ربك إلخ- لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن ذلك من الإرهاصات. لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سنأثره. وقوله تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ بيان إجمالي لما فعل بهم. أي ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا، وتدميرهم أشد تدمير.
قال الرازي: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية (إن قيل) لم سماه كيدا وأمره كان ظاهرا، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت؟ (قلنا) نعم لكن الذي(9/542)
كان في قلبه شر مما أظهر. لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة، منهم ومن بلدهم، إلى نفسه وإلى بلدته وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أي طوائف متفرقة، يتبع بعضها بعضا من نواح شتى و (أبابيل) جمع لا واحد له، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء. وزعم أبو جعفر الرؤاسي- وكان ثقة- أنه سمع واحدها إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة. وهي حزمة الحطب. استعير لجماعة الطير. وحكى الكسائي عن بعض النحويين في مفردها (أبول) وعن آخرين (أبيل) سماعا كما أثره ابن جرير. والتنكير في (طيرا) إما للتحقير، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر. أو للتفخيم، كأنه يقول وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل. أفاده الرازي.
تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي من طين متحجر. وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعنيّ بالسجيل السماء الدنيا لأن اسمها سجيل.
قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ولا لغة. وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال ابن جرير: كزرع أكلته الدواب فراثته، فيبس وتفرقت أجزاؤه. شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم، وتفرق آراب أبدانهم بها، بتفرق أجزاء الروث، الذي حدث عن أكل الزرع.
قال الشهاب: ولم يذكر الروث لهجتنه. فجاء على الآداب القرآنية. وفيه إظهار تشويه حالهم.
وقال أبو مسلم: (العصف) التين، لقوله: ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ..
[الرحمن: 12] ، لأنه تعصف به الريح عند الذرّ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه. انتهى.
ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى: كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه، والتقدير كعصف مأكول الحب. كما يقال فلان حسن أي حسن الوجه. فأجرى (مأكول) على (العصف) من أجل أنه أكل حبه. لأن هذا المعنى معلوم. ومنها أيضا أن معنى (مأكول) مما يؤكل، يعني تأكله الدواب. يقال لكل ما يصلح للأكل (هو مأكول) والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك. أشار له الرازي.
تنبيهات:
الأول: كان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل،(9/543)
مسير أبرهة الحبشي بجنده مع الفيل إلى بيت الله الحرام لتخريبه، وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية. حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث. فيقولون: ولد عام الفيل وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ونحو ذلك.
وتفصيل نبئها على ما أثره ابن هشام: أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي.
وكان ذا دين في النصرانية. فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها. ثم كتب للنجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك.
ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها (أي أحدث فيها) ثم خرج فلحق بأرضه. فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة، لما سمع قولك (أصرف إليها حج العرب) غضب فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل.
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثم سار وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه. فأجابه إلى ذلك من أجابه. ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر وأصحابه وأتى به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق. وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له.
حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب. فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا. فأتى به.
فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب. وهاتان يداي لك على قبيلي خثعم: شهران وناهس، بالسماع والطاعة. فخلى سبيله وخرج به معه يدله. حتى إذا مر بالطائف خرج له مسعد بن معتب الثقفي في رجاله ثقيف.
فقالوا له: أيها الملك! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه. فتجاوز عنهم- واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة- فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة.(9/544)
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمّس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنا لك:
فرجمت قبره العرب. فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة.
فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم. وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها. فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به. فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم. إنما جئت لهدم هذا البيت. فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي في دمائكم.
فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها. فقيل له عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة. فقال له عبد المطلب: والله! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام (أو كما قال) فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه. وأن يخل بينه وبينه، فو الله! ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر. فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه. فقال له: يا ذا نفر! هل عندك من غناء فيما نزل ثبا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوّا أو عشيا. ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. فقال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة.
يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال. وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة فقال له:
أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال. فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم. فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته. وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي(9/545)
أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك. وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: وما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك، وكان، فيما يزعم أهل العلم، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة- يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل. فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم لا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم، أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له. فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة. وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا همّ إن العبد يم ... نع رحله، فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم، عدوا محالك
إن كنت تاركهم وقب ... لتنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة. وهيأ فيله وعبّأ جيشه، وأبرهة مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه. فقال له: ابرك أو ارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل: وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل.
وضربوا الفيل ليقوم. فضربوا رأسه ليقوم فأبى. فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها- أي أدموه- ليقوم فأبى. فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله تعالى طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك. وليس كلّهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق(9/546)
الذي منه جاءوا. ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفرّ والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك. على كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده. وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة. كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمثّ- أي تسيل- قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر. فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة. أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب، ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ. بِأَصْحابِ الْفِيلِ السورة.
ثم قال ابن إسحاق: فلما ردّ الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما ردّ عن قريش من كيدهم. ثم ساق القصائد في ذلك.
وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق. لأنه أحسن اقتصاصا وأبلغ سبكا، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها، فرحمه الله ورضي عنه.
التنبيه الثاني: إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل، واشتهرت به، لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب، فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ. وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام. فإذا غضبوا على محارب وأسروه، أو وزير وأوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه- أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه.
وقواعد البنيان فيهدمها. فيكون أمضى من معاول وفؤوس. وأعظم رعبا ورهبة في النفوس. وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه، فأعمل فيه نابه، ولف عليه خرطومه وشاله، ومثل به تمثيلا، كان أشد بطشا وتنكيلا. وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام.
الثالث: قال القاشاني: قصة أصحاب الفيل مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد(9/547)
الرسول صلى الله عليه وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه. وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة. وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها، ليس بمستنكر. ومن اطلع على عالم القدرة، وكشف له حجاب الحكمة، عرف لمية أمثال هذه.
قال: وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر.
الرابع: قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة) : آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة. تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس بها كذب بصدق. ولا منتحل بمحق. وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته. فكان من أعظمها شأنا، وأظهرها برهانا. وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل. أنقذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها وسبي ذرارّيها وهدم الكعبة. وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملا في بطن أمه بمكة. لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل. فكانت آيته في ذلك من وجهين: أحدهما أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا.
فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا. والثاني أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم. وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة. ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
فإن قيل. فكيف منع عن الكعبة قبله مصيرها قبلة ومنسكا، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها؟
قيل: فعل الحجاج كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس البنوة ومجيء الرسالة. على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم(9/548)
كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين. وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين. وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لك طاغ.
وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل. منهم حكيم بن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية. لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام، انتهى.
الخامس: ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل.
روى البخاري «1»
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء- أي حرنت- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل
، قال ابن الأثير في (النهاية) : هو فيل أبرهة الحبشي الذي جاء يقصد خراب الكعبة، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم. ورد رأسه راجعا من حيث جاء. يعني أن الله حبس ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية. فلم تتقدم ولم تدخل الحرم. لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين.
وفي الصحيحين «2» أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. ألا فليبلغ الشاهد الغائب.
__________
(1) أخرجه في: الشروط، 15- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، حديث 881، 882 عن المسور بن مخرمة ومروان. [.....]
(2) أخرجه البخاري في: العلم، 39- باب كتابة العلم، حديث رقم 96 عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 447 و 448.(9/549)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة قريش
مكية، وآيها أربع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال ابن هشام: إيلاف قريش إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم. وكانت لهم خرجتان: خرجة في الشتاء وخرجة في الصيف. قال: أخبرني أبو زيد الأنصاري أن العرب تقول: ألفت الشيء إلفا، وآلفته إيلافا، في معنى واحد وأنشدني لذي الرمة:
من المؤلفات الرمل إدماء حرة ... شعاع الضّحى في لونها يتوضّح
والإيلاف أيضا أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك، ويقال آلف فلان إيلافا، قال الكميت بن زيد:
بعام يقول له المؤلفو ... ن هذا المعيم لنا المرجل
والمعيم العام الذي قل فيه اللبن. والإيلاف أيضا أن يصير القوم ألفا يقال آلف القوم إيلافا. قال الكميت:
وآل مزيقياء غداة لاقوا ... بني سعد بن ضبّة مؤلفينا
والإيلاف أيضا أن يؤلف الشيء، فيألفه ويلزمه. يقال: آلفته إياه إيلافا.
والإيلاف أيضا أن تصيّر ما دون الألف ألفا. يقال: آلفته إيلافا. انتهى. ولورود الإيلاف بهذه المعاني، ظهر سر إبداله بالمقيد منه بعد إطلاقه. مع ما في الإبهام، ثم التفسير من التفخيم والتقرير. روى ابن جرير عن عكرمة قال: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن، يختلفون إلى هذه في الشتاء وإلى تلك في الصيف. وعن ابن زيد(9/550)
قال: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة. إذا كان الشتاء امتنع الشام منهم لمكان البرد. وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن. وعن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة ويصيّفون بالطائف. والأكثرون على الأول. واللام في قوله (لإيلاف) متعلق بقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي فليعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين. ودخلت الفاء، لما في الكلام من معنى الشرط. إذ المعنى، أن نعم الله تعالى عليهم غير محصورة. فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. والبيت هو الكعبة المشرفة الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي جوع شديد كانوا فيه قبل الرحلتين ف (من) تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم أو بدلية وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض. قال ابن زيد:
كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها بعضا. فأمنوا من ذلك لمكان الحرم وقرأ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] ، ونظيره أيضا قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
تنبيه:
زعم بعض الناس أن اللام في (لإيلاف) متعلق بما قبله أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. قال الشهاب: وعلى هذا لا بد من تأويله. والمعنى: أهلكهم ولم يسلط على أهل حرمه ليبقوا على ما كانوا عليه. أو أهلك من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد، فيتم لهم الأمن في الإقامة والسفر. أو هي لام العاقبة.
انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التكلف. ولذا قال ابن جرير في رده: وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون (لإيلاف) بعض (ألم تر) وأن لا تكون سورة منفصلة من (ألم تر) وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ من صلة قوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لم تكن أَلَمْ تَرَ تامة حتى توصل بقوله: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر. انتهى.(9/551)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الماعون
مدنية، وآيها سبع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي بثواب الله وعقابه، فلا يطيعه في أمره ونهيه قال أبو السعود: استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. أو لكل عاقل. والرؤية بمعنى العلم. والفاء في قوله تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ جواب شرط محذوف، على أن (ذلك) مبتدأ والموصول خبره. والمعنى: هل عرفت الذي يكذّب بالجزاء أو بالإسلام، إن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا. يقال:
دفعت فلانا عن حقه: دفعت عنه وظلمته وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحث غيره من ذوي اليسار على إطعام المحتاج وسدّ خلته. بل يبخل بسعيه عند الأغنياء لإغاثة البؤساء.
قال الشهاب: إن كان الطعام بمعنى الإطعام، كما قاله الراغب، فهو ظاهر. وإلا ففيه مضاف مقدر. أي بذل طعام المسكين. واختياره على الإطعام للإشعار بأنه كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24- 25] ، فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان.(9/552)
قال أبو السعود: وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما ذكر، فما ظنك بحال من ترك ذلك مع القدرة؟.
قال الزمخشري: جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه، ولم يقدم على ذلك. فحين أقدم عليه علم أنه مكذب، فما أشده من كلام! وما أخوفه من مقام! وما أبلغه في التحذير من المعصية وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين، وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال ابن جرير: أي لاهون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها.
وتضييعها أحيانا وتضييع وقتها أخرى. وقال القاشاني: أي فويل لهم، أي للموصوفين بهذه الصفات، من دعّ اليتيم وعدم الحث على طعام المسكين. الذي إن صلّوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم.
و (المصلين) من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب، لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص، وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي يراءون الناس بصلاتهم إذا صلوا لأنهم لا يصلّون رغبة في ثواب، ولا رهبة من عقاب. وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنوهم منهم فيكفوا عنهم. وأصل المراءاة أن ترى غيرك ويراك. أريد به العمل عند الناس ليثنوا عليهم. أوضحه الشهاب.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به، لكون الجهل حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي وعدم اعتقادهم بالجزاء. فلا محبة لهم للحق للركون إلى العالم الفاني، ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل، فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا. قاله القاشاني
تنبيه:
المعني بهذه الآيات أولا وبالذات المنافقون في عهد النبوة. ويدخل فيها ثانيا وبالعرض، كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتبارا بالعموم. فالسورة مدنية.
ونظيرها في المنافقين قوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[النساء: 142] ، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير:
هم المنافقون، كانوا يراءون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضا لهم، وهو الماعون.(9/553)