صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم.
فقاتل بمقبل قومك مدبرهم. فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام. فقلت: يا رسول الله! أرأيت سبأ؟ أواد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: لا، بل هو رجل من العرب ولد له عشرة. فتيامن ستة، وتشاءم أربعة. تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار- الذين يقال لهم بجيلة- وخثعم.
وتشاءم لخم وحذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: حديث حسن. وإن كان فيه أبو حباب الكلبي، وقد تكلموا فيه.
ورواه الحافظ ابن عبد البرّ في كتاب (القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم) عن تميم الداري أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ؟ فذكر مثله.
وقال ابن كثير: فقوي هذا الحديث وحسن.
وذكر علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق اسم سبأ، عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش. لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه. فسمي الرائش. والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشّر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمانه المتقدّم. وقال في ذلك شعرا.
سيملك بعدنا ملك عظيم ... نبيّ لا يرخّص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك ... يدينوه القياد بكل رامي
ويملك بعدهم منا ملوك ... يصير الملك فينا بانقسام
ويملك بعد قحطان نبيّ ... تقي متحنّث خير الأنام
يسمّى أحمدا. يا ليت أني ... أعمّر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجّج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه ... ومن يلقه يبلّغه سلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب (الإكليل) . واختلفوا في قحطان. فقيل: إنه من سلالة إرم بن سام بن نوح. وقيل: من سلالة عابر وهو هود عليه السلام. وقيل: إنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النمري في كتاب (الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة) .(8/141)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قال ابن كثير: ومعنى
قوله صلى الله عليه وسلّم في سبأ: كان رجلا من العرب،
يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح. وعلى القول الثالث. كان من سلالة الخليل عليه السلام، وليس هذا بالمشهور عندهم.
والله أعلم.
ولكن
في صحيح البخاري «1»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بنفر من أسلم ينتضلون فقال: ارموا، بني إسماعيل! فإن أباكم كان راميا
. وأسلم قبيلة من الأنصار. والأنصار أوسها وخزرجها من عرب اليمن. من سبأ، نزلت يثرب، لما تفرقت، كما مر.
(ثم قال) : ومعنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: ولد له عشرة
أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن. لا أنهم ولدوا من صلبه. بل منهم من بينه وبينه، الأبوان والثلاثة، والأقل والأكثر. كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصتهم، وما حل بهم من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لَآياتٍ أي لعبرا عظيمة لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي شأنه الصبر عن الشهوات والهوى والآثام، والشكر على النعم. قال الأعشى من قصيدة:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفّى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قال الزمخشري: قرئ (صدق) بالتشديد والتخفيف. ورفع لفظ (إبليس) ونصب (الظن) فمن شدد، فعلى: (حقق عليهم ظنه، ووجده ظنه صادقا) أي صدّق بمعنى حقق مجازا. لأنه ظن شيئا فوقع فحققه.
__________
(1) أخرجه في: الجهاد، 78- باب التحريض على الرمي، حديث رقم 1387، عن سلمة بن الأكوع.(8/142)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
وقوله (أو وجده ظنه صادقا) فإن العرب تقول صدّقك ظنك. والمعنى أن إبليس كان يسوّل له ظنه شيئا فيهم. فلما وقع جعل كأنه صدقه. شهاب.
ومن خفف فعلى (صدق في ظنه، أو صدق يظن ظنا) نحو فعلته جهدك. أي ف (ظنه) منصوب على الظرفية بنزع الخافض. وأصله (في ظنه) أي وجد ظنه مصيبا في الواقع، ف (صدق) حينئذ بمعنى أصاب، مجازا. أو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدّر. كفعلته جهدك، أي وأنت تجهد جهدك. فالمصدر وعامله في موقع الحال. شهاب.
وبنصب (إبليس) ورفع (الظن) فمن شدد فعلى (وجد ظنه صادقا) . ومن خفف، فعلى (قال له ظنه الصدق حين خيله إغواؤهم) برفع (إغواؤهم) على الفاعلية. أو نصبه على الحذف والإيصال، وفاعليه وضمير الظن. أي خيل له إغواءهم. شهاب. يقولون صدقك ظنك.
وبالتخفيف ورفعهما، أي على إبدال الظن من إبليس، بدل اشتمال. شهاب.
على (صدق عليهم ظن إبليس) . انتهى.
وذلك إما ظنه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشهوات، أو ببني آدم حينما رأى ما ركب فيهم من الشهوة والغضب.
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي ما كان له عليهم من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء، إلا لغرض صحيح وحكمة بينة. وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاكّ فيها. وعلل التسليط بالعلم. والمراد ما تعلق به العلم. قاله الزمخشري. يعني أن العلم المستقبل المعلل به هنا، ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس. بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب. فالمعنى ما سلطناه عليهم إلا ليبرز من كمون الغيب ما علمناه، فتظهر الحكمة فيه يتحقق ما أردناه من الجزاء أو لازمه، وهو ظهور المعلوم.
ويجوز أن يكون المعنى: لنجزي على الإيمان وضده. كذا في (العناية) وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب قائم على أحواله وأموره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 22]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)(8/143)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قُلِ أي للمشركين، إظهارا لبطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي من خير وشر ونفع وضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي شركة، لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي معين يعينه على تدبير خلقه، قال الزمخشري: يريد أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية. فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى، ويرجوا كما يرجى؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 23]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي من المستأهلين لمقام الشفاعة.
كالنبيين والملائكة. وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الفزغ عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم، بكلمة يتكلم بها رب العزة، في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك قالُوا أي سائلا بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ أي قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ذو العلوّ والكبرياء. ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم إلا بإذنه، وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
قال ابن كثير: هذا أيضا مقام رفيع في العظمة. وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي. فسمع أهل السموات كلامه، أرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي.
قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ولأي شيء وقعت (حتى) غاية؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام، من أن ثم انتظارا للإذن وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد مليّ من الزمان وطول من التربص. ومثل هذه الحال دل عليه قوله عزّ وجلّ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: 37- 38] . أي: وإذا كانت الشفاعة لمن أذن له بهذا الحال، عظمة وسموّا من ذي الجلال، فإنّى ينالها جماد لا يعقل، لا سيما وهو عدوّ للكبير المتعال، فتبين(8/144)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
كذبهم فيهم أنهم شفعاء، وحرمانهم من مقامها، بأجلى بيان وأفصح مقال.
وفي الآية تأويل آخر، وهو أن معنى قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي عن قلوب المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا تنبهوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة، قالوا ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا. قال مجاهد: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن: أي كشف عما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا عند الموت، أقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار. واختار ابن جرير القول الأول، وهو أن الضمير عائد إلى الملائكة.
قال ابن كثير: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه. لصحة الأحاديث فيه والآثار، أي ولورود ما يؤيده في آية أخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا وذلك في قوله تعالى:
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28] ، نعم، النظم الكريم لا يأبى ما ذكروه، إلا أن مراعاة الأشباه والنظائر هو العمدة في باب فهم التأويل، ما وجد إليها سبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما. وقوله: قُلِ اللَّهُ أي الذي تعترفون بأنه هو الخالق. كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس: 31] . أي فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم.
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين من الموحدين، الرازق من السموات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال.
قال الزمخشري: وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. وفي درجه بعد تقدمة ما قدم من(8/145)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
التقرير البليغ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.
ومنه بيت حسان:
اتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء
انتهى.
قال الناصر: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقا بالترديد. واستعاده الخاطر، كأني بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم.
وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام. فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله، والله الموفق. انتهي.
قال الشهاب: وهذا فن من فنون البلاغة يسمى (الكلام المنصف) . وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب. ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعا لقوله: وَإِنَّا وأَوْ فِي ضَلالٍ راجعا ل إِيَّاكُمْ كان العطف بالواو لا بأو.
وكونها بمعنى الواو كما في قوله:
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
بعيد جدا. إلّا أنه قيل: لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد. وإيثار (على) في الهدى و (في) في مقابله، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال، أو الراكب على جواد. وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 25]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي قل لهؤلاء المشركين:
لا تسألون عما أجرمنا من جرم وركبنا من إثم، ولا نسأل نحن عما تعملون من عمل.(8/146)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قال ابن كثير: معناه التبري منهم. أي لستم منا ولا نحن منكم. بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم وإن كذبتم فنحن براء منكم وأنتم براء منا. كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] . وقوله:
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون:
1- 3] . انتهى.
وما ذكره معنى دقيق، قلّ من يتفطن له، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر. وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل، الولع بتدبر التنزيل، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف، من أن هذا القول أدخل في الإنصاف من الأول. حيث أسند الإجرام إلى النفس، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلوا عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر. فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم. وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزاما للإنصاف. وزيادة على ذلك، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي، الذي يعطي تحقيق المعنى.
وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 26]
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أي يوم القيامة في صعيد واحد. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي يقضي بالعدل. لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال. فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضالّ، ويجزى كلا بعمله، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم: 14- 16] .
ولهذا قال سبحانه: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المحق من المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 27]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها له(8/147)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
عدلا، قال أبو السعود: أريد بأمرهم بإراءة الأصنام، مع كونها بمرأى منه صلّى الله عليه وسلّم. إظهار خطئهم العظيم واطلاعهم على بطلان رأيهم. أي أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة. وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم. وقد جوّز المعرب في (رأى) هنا أن تكون علمية متعدية بهمزة النقل. إلى ثلاثة مفاعيل: ياء المتكلم والموصول وشركاء. وعائد الموصول محذوف. أي ألحقتموهم. وأن تكون بصرية تعدت بالنقل لاثنين: ياء المتكلم والموصول، و (شركاء) حال. ولا ضعف في هذا كما قاله ابن عطية. بل فيه توبيخ لهم، إذ لم يرد حقيقته. لأنه كان يراهم ويعلمهم. فهو مجاز وتمثيل. والمعنى: ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر، تمت فضيحتكم. وقوله تعالى:
كَلَّا ردع لهم عن المشاركة، بعد إبطال المقايسة بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة. فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء وأذلها، من هذه الرتبة العالية. والضمير إما لله عزّ وعلا، أو للشأن. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 28]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي وما أرسلناك إلا إرسالة عامة لجميع الخلائق من المكلفين. تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كقوله تبارك وتعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] . تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] .
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغيّ والضلال كقوله عز وجلّ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] ، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] . قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم- إن الله تعالى فضل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس! فبم فضله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه:
إن الله تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:
4] ، وقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ. فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس.(8/148)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين.
رفعه عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ. وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبيّ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة
،
وفي الصحيح أيضا «2» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بعثت إلى الأسود والأحمر
، قال مجاهد: يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم.
والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا. وأي زمان وجدوا، مما لم يتفق في شرع قبله قط.
ولهذا ختمت النبوّات بنبوّته صلّى الله عليه وسلّم، كما تقرر في موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 29 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ يعنون بالوعد المنذر به استهزاء، كقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى:
18] وقوله وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 104- 105] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 31]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ما نزل قبل
__________
(1) أخرجه البخاري في: التيمم، 1- باب قول الله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا، حديث رقم 231، عن جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 3 عن جابر بن عبد الله.(8/149)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
القرآن من كتبه تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم. ثم أبدل من يَرْجِعُ قوله يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم قادتهم وسادتهم لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 32]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختيارتكم لذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 33]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم فيهما وإغراؤكم وتمنيتكم لنا إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي نظراء وآلهة معه. وَأَسَرُّوا أي الجميع من السادة والأتباع النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأعمالهم كلّ بحسبه. للقادة عذاب بحسبهم.
وللأتباع بحسبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 35]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي زعما أنه أكرمهم الله بذلك في الدنيا، فلا(8/150)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
يعذبهم في الآخرة على تقدير وقوعها. وتوهما بأنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم. ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم. وقد أبطل الله تعالى حسبانهم ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 36]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يضيق عليه حسب ما اقتضته حكمته ومشيئته في عباده، من يحب ومن لا يحب، وهو أعلم بمقتضياته وشؤونه.
فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعذاب، اللذين مناطهما الطاعة وعدمها. ولذا قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك. فيزعمون أن مدار البسط الكرامة، والتضييق الهوان. ويجهلون أن مناط الفوز والقرب منه تعالى، إنما هو الكمالات النفسية، وذلك بصدق الإيمان وحسن الاتباع. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 37]
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي بالمزية التي تقربكم قربة. ف زُلْفى محلها النصب إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي الثواب المضاعف بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ أي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن نظائر الآية قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55- 56] ، وقوله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: 55] .
وروى الإمام أحمد «1» ومسلم «2» عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
__________
(1) أخرجه في المسند 2/ 285.
(2) أخرجه في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 34.(8/151)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 38]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي بالصدّ عنها والطعن فيها مُعاجِزِينَ أي قاصدين المعاجزة والمغالبة والقهر أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي في عذاب جهنم محضرون يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه، فإن ينابيع خزائنه لا تنضب. وسحائب أرزاقه سحّاء الليل والنهار وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
أي أعلاهم. لأنه خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق.
روى أبو يعلى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض. يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق.
ثم تلا هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقال مجاهد: لا يتأولنّ أحدكم هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه، فإن الرزق مقسوم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 41]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر (إياك أعني واسمعي يا جارة) ونحوه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزّهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير. والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل(8/152)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وهوانهم ألزم.
ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتص عليه. انتهى.
وتخصيص الملائكة، لأنهم أشرف الأنداد عند مشركي العرب، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله، لزعمهم أن الأوثان على صور الهياكل العلوية المقربة. فتكون شفعاء لهم. وقوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أي: أبإذنكم كان ذلك. كما قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان: 17] .
وكما يقول تعالى لعيسى عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: 116] ، وهكذا تقول الملائكة سُبْحانَكَ أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم. فنبرأ إليك منهم. بينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار، براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم. وقولهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. والضمير الأول في قولهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ للإنس أو للمشركين. والأكثر بمعنى الكل. والثاني للجن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 42]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لأن الأمر كله فيه لله. لأن الدار دار جزاء وهو المجازي وحده. قال أبو السعود: وهذا من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزّه والتبرؤ عما نسب إليهم الكفرة. يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد، إظهارا لعجزهم وقصورهم عند عبدتهم، وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وهم المشركون ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ثم بين جملة أخرى من كفرانهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 43]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)(8/153)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا أي القرآن الكريم إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 44]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا. فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه. ثم هددهم سبحانه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 45]
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المتقدمة والقرون الخالية كما كذبوا وَما بَلَغُوا أي هؤلاء مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يعني أولئك، من المال وبسطة الملك والعمران والمدينة فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي عقابي ونكالي وانتقامي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي قياما خالصا لله بلا محاباة.
ولا مراءاة، اثنين اثنين وواحدا واحدا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا أي في أمره صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الهدى والإصلاح وتهذيب الأخلاق. ورفع النفس عن عبادة ما هو أحط منها من الأوثان، إلى عبادة فاطر الأرض والسموات، واتباع الأحسن، ونبذ التقاليد، وإنزال الرؤساء إلى مصاف المرؤوسين رغبة في الإخاء والمساواة، إلى غير ذلك من محاسن الإسلام وخصائصه المعروفة في الكتب المؤلفة في ذلك. وقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي جنون. مستأنف منبّه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف في(8/154)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
ترجح صدقه. فإنه لا يدعه أن يتصدى لا دعاء أمر خطير وخطب عظيم من غير تحقق وثوق ببرهان. فيفتضح على رؤوس الأشهاد، ويلقي نفسه إلى الهلاك. فكيف وقد انضم إليه معجزات كثيرة؟ وجوّز كون الجملة معلقا عنها. لقول ابن مالك: إنّ (تفكر) يعلّق حملا على أفعال القلوب. والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلّم ب (صاحبهم) ، للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بقوة العقل ورزانة الحلم وسداد القول والفعل. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ وهو عذاب الآخرة والمآل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 47 الى 49]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي أيّ شيء سألتكم من أجر على الرسالة فهو لكم. والمراد نفي السؤال رأسا. وإمحاض النصح كناية، لأن ما يسأله السائل، يكون له. فجعله للمسئول عنه،. كناية عن أنه لا يسأل أصلا. و (ما) على هذا شرطية. وجوز كونها موصولة مراد بها ما سألهم ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] . وقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . واتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وقرباه عليه السلام قرباهم. وجوّز أيضا كونها نافية. وقوله فَهُوَ لَكُمْ جواب شرط مقدر. أي فإذا لم أسألكم فهو لكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه. أو يرمي به في أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإعلاء كلمة الحق عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي ظهر، وهو الإسلام ومحاسنه وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره. مأخوذ من هلاك الحيّ. فإنه مادام موجودا، إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. ثم شاع في كل ما ذهب، وإن لم يبق له أثر، وإن يكن ذا روح. وجوز كون (ما) استفهامية منتصبة بما بعده. أي: أي شيء يقدر عليه.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية استحباب هذا القول عند إزالة المنكر.(8/155)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ أي عن الطريق الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي لأن وبال ذلك عائد عليها، أو على ذاتي، لا على غيري وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي من الرشاد والحق المبين إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ فإن قيل: مقتضى المقابلة مع الجملة قبلها، أن يقال (وإن اهتديت فإنما أهتدي لها) فلم عدل عنها إلى ما ذكر؟ قيل: إن المقابلة تكون باللفظ وتكون بالمعنى. وما هنا من الثاني. بيانه أن النفس كل ما عليها فهو بها، أي: كل ما هو وبال عليها، وضارّ لها، فهو بسببها، ومنها، لأنها الأمارة بالسوء. وكل ما هو لها مما ينفعها، فبهداية ربها وتوفيقه إياها.
وهذا حكم عام لكل مكلف. وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسند ذلك إلى نفسه. لأن (الرسول) إذا دخل في عمومه، مع علوّ محله وسداد طريقته، كان غيره أولى به. أشار لهذا، الفاضل ابن الأثير في (المثل السائر) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي هؤلاء المكذبون عند الموت أو البعث أو ظهور الحق وسلطانه، ودخولهم تحت أسرة فَلا فَوْتَ أي لهم، بهرب أو التجاء. إذ لا وزر لهم ولا ملجأ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو ظفر بهم بسهولة بعد تعذره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 52]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أو القرآن وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: ومن أين لهم تناول الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، لأنهم صاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء، لا دار الابتلاء، أو: لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم، أي (على تفسير إِذْ فَزِعُوا بظهور الحق عليهم في حياتهم. منه) قال الزمخشريّ: التناوش والتناول، أخوان. إلا أن التناوش، تناول سهل لشيء قريب،(8/156)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
يقال: ناشه ينوشه، وتناوشه القوم. ويقال تناوشوا في الحرب. ناش بعضهم بعضا.
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون. وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع، تناولا سهلا لا تعب فيه. انتهى. أي ففيه استعارة تمثيلية. شبه إيمانهم حيث لا يقبل، يمن كان عنده شيء يمكن أخذه، فلما بعد عنه فرسخا، مد يده لتناوله. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 53]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ حال أو معطوف أو مستأنف. والأول أقرب. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يرجمون بالظن فيتكلمون بما لم ينشأ عن تحقيق من أقوالهم الباطلة. كقولهم: ساحر وشاعر ومجنون وما نحن بمبعوثين. ونحو ذلك.
فكله مقذوف من جهة بعيدة، لا قرب لمصداقها بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 54]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار. أو من أن يدال لهم الأمر. لأنه جاء نصر الله والفتح كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأشباههم من كفرة الأمم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ من (أرابه) أوقعه في ريبة وتهمة. فالهمزة للتعدية. أو من (أراب الرجل) أي صار ذا ريبة. وهو مجاز، إما بتشبيه الشك بإنسان، على أنه استعارة مكنية وتخييلية. أو على أنه إسناد مجازيّ، أسند فيه ما لصاحب الشك، للشك، للمبالغة. أفاده الشهاب.
تنبيه:
في الإكليل قال ابن الفرس: احتج بهذه الآية بعض المفسرين، على أن الشاك كافر. وردّ بها على من زعم أنه ليس بكافر، وأن الله لا يعذب على الشك. انتهى.
وعن قتادة: إياكم والشك والريبة. فإن من مات على شك بعث عليه. ومن مات على يقين بعث عليه.
أحيانا الله وبعثنا على اليقين. إنه أرحم الراحمين. ووليّ المؤمنين.(8/157)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فاطر
سميت بذلك لما جاء فيها من خلق الملائكة، وجعلهم ذوي أجنحة متنوعة في العدد، الدالّ على عجيب صنعه تعالى وباهر قدرته.
وقال المهايميّ: سميت بها لاشتمالها على بيان تفصيل رسالتهم، من جهة أخذهم الفيض عن الله، وإيصاله إلى خلقه، من جهة أو جهتين أو ثلاث أو أكثر.
ليشعر أن الرسالة العامة لهم، إذا كانت كذلك، فكيف الرسالة الخاصة؟ مثل إنزال القرآن. فيجوز أن يكون له جهات كثيرة.
وقد روي أنه كان لجبريل ستمائة جناح. انتهى.
وتسمى هذه السورة سورة (فاطر) لذكر هذا الاسم الجليل والنعت الجميل في طليعتها. وهذه السورة ختام السور المفتتحة بالحمد، التي فصلت فيها النعم الأربع، التي هي مجامع النعم. لأن نعم الله تعالى قسمان: عاجلة وآجلة. والعاجلة وجود وبقاء، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى. كما بينه الرّازي.(8/158)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبتدئها ومبدعها من غير سبق مثل ومادة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد، حسب تفاوت ما لهم من المراتب. ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها.
وفي الصحيح «1»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام ليلة أسري به، وله ستمائة جناح
. ولهذا قال سبحانه يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره ما يشاء. مما تقتضيه حكمته: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي نعمة سماوية كانت أو أرضية فَلا مُمْسِكَ لَها أي لا أحد يقدر على إمساكها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ. أي من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء الْحَكِيمُ أي في أمره وصنعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي لتستدلوا بها على وحدته في ألوهيته. لأنه المنفرد بإرسالها وحده. ولا يصح لمن انفرد بالإنعام أن يشرك معه غيره. لأنه كفران له موجب لغضبه. وهذا ما أشار له بقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، 7- باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء، حديث 1526، عن ابن مسعود(8/159)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي المطر والنبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي تصرفون عن التوحيد الواجب- لأنه مقتضى شكر المنعم- إلى الشرك والكفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 4]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازي المكذب وشيعته بالخزي وظهور الحق عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ما وعد به من جزائه بالثواب إن صدقتم في الاتّباع. وبالعقاب. إن عصيتم فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي بأن يذهلكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها، عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان. وقرئ بالضم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 6]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي باتباع الهوى والركون إلى الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي: فمن حسن له عمله السيء، بأن غلب هواه على عقله، حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والتقبيح حسنا، كمن لم يزين له، بل هدى فعرف الحق وميز الحسن من السيء؟ فحذف الجواب لدلالة قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي إلى الإيمان واتباع الحق. وجوّز(8/160)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
أن يكون تقديره: أفمن زين له سوء عمله، ذهبت نفسك عليهم حسرة، بقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي فلا تهلك نفسك حزنا على ضلالهم وعدم اتباعهم لك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ أي فيجازيهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات، إحياء الأموات. وكثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، ليعتبر المرتاب في هذا. فإنه من أظهر الآيات وأوضحها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ أي الشرف والرفعة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عنده، باتباع شريعته، وموالاة أنبيائه ورسله والتأسي بهم في الصلاح والإصلاح، والصبر والثبات، واطّراح كل ملامة رغبة في الحق وعملا بالصدق. وهذا كآية الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النساء: 139] . وكآية وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:
8] ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وهو الداعي إلى الحق والإصلاح، والمنبه على سبل الضلال والفساد وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي يرفع الكلم العمل الصالح، على أن يكون المستكن للكلم. إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالكلم المؤثر في إبلاغ دعوة الخير. والضمير المستتر للعمل. والبارز للكلم. أي يكون العمل الصالح موجبا لرفعها وقبولها لأنه يحققها ويصدقها، كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:
88] ، وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي الأعمال السيئة المفسدة لصلاح الأمة وقيام عمرانها لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يضمحلّ. لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.(8/161)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي ذكرانا وإناثا. لطفا منه ورحمة وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي من أحد.
وإنما سمي معمرا لما يؤول إليه. أي وما يمدّ في عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ وهو علمه تعالى الذي سبق. ببلوغ أصله إليه إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي:
الحفظ والزيادة أو النقص، سهل. لشمول علمه وعموم قدرته.
لطيفة:
الضمير في (عمره) للمعمر قبله. باعتبار الأصل المحوّل عنه. لأن الأصل (وما يعمر من أحد) كما ذكرنا. أو هو على التسامح المعروف فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين: كقولهم (له عليّ درهم ونصفه) أي نصف درهم آخر. أو للمنقوص من عمره لا للمعمر، كما في الوجه السابق، وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور، كما قيل (وبضدها تتبين الأشياء) فيعود الضمير على ما علم من السياق. وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك. ومحصله، كما ذكره الشهاب، أنه اختلف في معنى (معمره) فقيل: المزاد عمره. بدليل ما يقابله من قوله يُنْقَصُ إلخ. وقيل (من يجعل له عمر) . وهل هو واحد أو شخصان؟ فعلى الثاني هو شخص واحد. قالوا مثلا: يكتب عمره مائة ثم يكتب تحته مضى يوم، مضى يومان، وهكذا، فكتابة الأصل هي التعمير. والكتابة بعد ذلك هو النقص. كما قيل:
حياتك أنفاس تعدّ فكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا
والضمير في (عمره) حينئذ راجع إلى المذكور. والمعمّر هو الذي جعل الله له عمرا طال أو قصر. وعلى القول الأول هو شخصان. والمعمر الذي يزيد في عمره.
والضمير حينئذ راجع إلى (معمر آخر) إذ لا يكون المزيد من عمره منقوصا من عمره. وهذا قول الفرّاء وبعض النحويين. وهو استخدام أو شبيه به. انتهى.
ثم أشار تعالى لآيات أخرى من آيات قدرته ووحدانيته، بقوله:(8/162)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي قويّ الملوحة وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أي زينة تتحلّون بها. كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] . وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أي تمخر الماء وتشقه بجريها لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بالتنقل فيها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 13]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني مدة دوره، أو منتهاه، أو يوم القيامة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي فإنّى يستأهلون العبادة. و (القطمير) لفافة النواة. وهو مثل في القلة والحقارة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 14]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا أي على الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي لعدم قدرتهم على النفع وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يقرون ببطلانه، وأن لا أمر لهم فيه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك بالأمر مخبر، مثل خبير عظيم أخبرك به. وهو الحق سبحانه. فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.(8/163)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 15]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي رحمته وعنايته ولطفه وإمداده في كل لمحة ونفس. وسرّ وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى. والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر وأخذت البأساء بمخانقهم، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعا إلى سؤاله لا مردّ له. وحاثّا إلى اللجإ إليه لا صادّ عنه. كما بين في غير آية. مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة. لغناه المطلق، كما قال وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي المحمود لنعمه التي لا تحصى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 16 الى 17]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع. قال الزمخشريّ: وهذا غضب عليهم، لاتخاذهم له أندادا، وكفرهم بآيه، ومعاصيهم، كما قال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى أي إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس. كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ والجار بالجار، ولا يرد آية وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، لأنها في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم، ما فيها شيء من وزر غيرهم.
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس أثقلتها الأوزار إِلى حِمْلِها أي إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أي لم تجب ولم تغث بحمل شيء وَلَوْ كانَ أي المدعوّ المفهوم من الدعوة ذا قُرْبى أي ذا قرابة من الداعي، من أب أو ولد أو أخ. وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم وغنائهم عنهم. وأنه لا تملك نفس(8/164)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
لنفس شيئا، وأن كل امرئ بما كسب رهين. ثم بين من يتعظ ويتذكر. فقال سبحانه إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى أي تطهر من أوضار الأوزار فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 19]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للكافر والمؤمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 20]
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20)
وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ مثل للحق والباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 21]
وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ مثل للثواب والعقاب والْحَرُورُ الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 22]
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي: ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة تنزيله، وأموات القلوب. لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تعرف الهدى من الضلال إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه. وهذا ترشيح لتمثيل المصرّين على الكفر بالأموات، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام، من إيمانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 23]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)(8/165)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر. فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع. وإن كان من المصرّين فلا عليك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي وما من أمة من الأمم الدائنة بملة، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] .
وكقوله سبحانه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 25]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي: وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك، فلا تبال بهم وتأس بمن كذّب من الرسل السالفة، فقد جاءوهم بالآيات والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق. وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا. وجوز أن يراد بالجميع واحد، والعطف لتغاير الأوصاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 26]
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري بالعقوبة. وفيه مزيد تشديد وتهويل لها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 27]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27)(8/166)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ قرأ الجمهور (جدد) بضم الجيم وفتح الدال، جمع (جدة) بالضم، وهي الطريقة من (جدّه) إذا قطعه، أي ومن الجبال ذوو جدد، أي طرائق بيض وحمر. وإنما قدر المضاف، لأن الجبال ليست نفس الطرائق. و (غرابيب) جمع (غربيب) وهو الأسود المتناهي في السواد، يقال:
أسود غربيب، كما يقال: أحمر قان، وأصفر فاقع، تأكيدا. وإما قدم هنا، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير، ذهابا إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 28]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي اختلافا كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال. وقوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تكملة لقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] ، بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس، بعد بيان اختلاف طبقاتهم، وتباين مراتبهم، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل. وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان. أي إنما يخشاه تعالى بالغيب، العالمون به عز وجل، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة. لما أن مدار الخشية معرفة المخشيّ والعلم بشئونه، فمن كان أعلم به تعالى، كان أخشى منه عز وجل. كما
قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» «1» .
ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته. وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة، امتنع إنذارهم بالكلية. أفاده أبو السعود.
وقال القاشانيّ: أي ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به، لأن الخشية ليست هي خوف العقاب، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة واستحضاره لها. فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته. ومن تجلى الله له بعظمته، خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوّريّ الحاصل للعالم غير العارف،
__________
(1) أخرجه البخاري في: النكاح، 1- باب الترغيب في النكاح، حديث رقم 2099 عن أنس بن مالك، قطعه من حديث طويل.(8/167)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
وبين التجلّي الثابت للعالم العارف- بون بعيد. ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان. انتهى.
ويذكر بعض المفّسرين هنا القراءة الشاذة. رفع الاسم الجليل ونصب العلماء.
ويتأوّلون الخشية بالتعظيم استعارة. وربما استشهدوا بقوله:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها
وقد طعن في (النشر) في هذه القراءة. والحق له. لمنافاتها للسياق والسباق.
وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ! وبالله التوفيق.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 29]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على تلاوته وتدبره، للأخذ بما فيه وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي أجرا وفضلا لا يفنى، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة. والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 30]
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ أي لأعمالهم. والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 32]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)(8/168)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا أي: ثم، بعد أخذ الذين كفروا، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل وعناية ورحمة، المصطفين من الموحدين. ثم بيّن انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة، بقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بالإثم والعصيان وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي في العمل، ليس من المجرمين ولا من السابقين وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 33 الى 34]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 35]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي كلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي:
أو ما عشتم في الدنيا أعمارا ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر؟ قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة. فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر. وقد نزلت هذه الآية. وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة.(8/169)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي مستخلفين فيها. أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أي بغضا شديدا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
قُلْ أي تبكيتا لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي شركة في خلقها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي حجة وبرهان، بأنه أذن لهم في الإشراك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 41 الى 43]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ(8/170)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا وفي معنى الآية قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الأنعام: 156- 157] . وقوله تعالى: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات: 167- 170] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا أي بما اقترفوا من معاصيهم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أي من نسمة تدب، لشؤم معاصيهم، والضمير للأرض لسبق ذكرها. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرا بمن يستحق أن يعاقب، وبمن يستوجب الكرامة.(8/171)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة يس
هي مكية. واستثنى منها بعضهم قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] الآية، لما أخرجه الترمذيّ «1» والحاكم عن أبي سعيد قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة. فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية. ولا حاجة لدعوى الاستثناء فيها وفي نظائرها. لأن ذلك مبنيّ على أن المراد بالنزول أن الواقعة كانت سببا لنزولها، مع أن النزول في الآثار يشمل ذلك، وكل ما تصدق عليه الآية، كما بيناه مرارا. لا سيما في المقدمة. يؤيده أنه جاء في هذه الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ لهم هذه الآية. كما في رواية الصحيحين «2» . وهكذا يقال فيما روي أن آية وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: 37] . من هذه السورة نزلت في المنافقين. فإن المراد ما ذكرناه. ولم يهتد لهذا التحقيق أرباب الحواشي هنا، فاحفظه. وآيها ثلاث وثمانون آية. ومما روي في فضلها ما أخرجه «3» الترمذيّ عن أنس رفعه: إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس، وفي إسناده ضعف.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 36- سورة يس، 1- حدثنا محمد بن وزير الواسطي.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، 33- باب احتساب الآثار، حديث 415، عن أنس، وليس في مسلم.
(3) أخرجه في: ثواب القرآن، 7- باب ما جاء في فضل يس.(8/172)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1)
يس تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارا. وحاصله- كما قاله أبو السعود- أنها إما مسرودة على نمط التعديد، فلا حظّ لها من الإعراب، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه. وعليه الأكثر. فمحله الرفع على أنه خبر محذوف.
أو النصب، مفعولا لمحذوف، وعليهما مدار قراءة يس بالرفع والنصب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 2]
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف، منزلة الرأس، وكانت أخص أو صاف التنزيل، أوثرت في القسم به دون بقية صفاته، لذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الموصل إلى المطلوب بدون لغوب. والتنكير للتفخيم والتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 5]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بالنصب على إضمار فعله، وبالرفع خبر لمحذوف. أو خبر ل يس إن كان اسما للسورة. أو مؤولا بها. والجملة القسمية معترضة.
والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به، اهتماما.(8/173)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 6]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي برسول ولا كتاب فَهُمْ غافِلُونَ أي عن أمر حق الخالق والمخلوق، بالكفر والفساد ونكران البعث والمعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 7]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ أي استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب وينتقم منهم أشد الانتقام فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا، كفرا وكبرا وعنادا.
وبغيا في الأرض بغير الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 8]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أي اللحى. أي واصلة إليها وملزوزة إليها فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي ناصبو رؤوسهم، غاضّو أبصارهم. يقال: أقمح الرجل، في رأسه وغض بصره. وأقمح الغلّ الأسير، إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه، فهو مقمح. إذا لم يتركه عمود الغلّ الذي ينخس ذقنه، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير:
هي في قوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ كناية عن الأيدي لا عن الأعناق. لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهريّ: أراد عز وجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا، كالإبل الرافعة رؤوسها، وهذا معنى قول ابن كثير: اكتفى بذكر الغل في العنق، عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين، لما دل السياق عليه. فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 9]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال الزمخشريّ: مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم، بأن جعلهم(8/174)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له. وكالحاصلين بين سدّين. لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر. وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله.
انتهى. أي فالمجموع استعارة تمثيلية. وفي (الانتصاف) للناصر: إذا فرقت هذا التشبيه، كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال. وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه، مشبها بالإقماح. لأن المقمح لا يطأطئ رأسه. وقوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الإقماح لهم. وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسدّ من خلفهم، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب: والتمثيل أحسن منه. انتهى.
ثم قال الناصر: يحتمل أن تكون الفاء في (فهم مقمحون) للتعقيب، كالفاء الأولى، أو للتسبّب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغلّ يوجب الإقماح. فإن اليد، والعياذ بالله، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن، دافعة بها ومانعة من وطأتها.
ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها. ولعله يتحيّل بها على فكاك الغلّ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة. أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم، مشبها بغلّ الأيدي. فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.
وإنما اختير هذا، لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه. فورد عليه أن يكون أجنبيا في البين. وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله: حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس:
7] ، والأول أدق، وبالقبول أحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 10]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أي خوفتهم بالقرآن أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يريدون أن يؤمنوا. ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش، الذين هلكوا في بدر، وكانوا طواغيت الكفر، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك.(8/175)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 11]
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
إِنَّما تُنْذِرُ أي الإنذار المترتب عليه النفع مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي عمل الصالحات لوجهه، وإن كان لا يراه فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ أي لذنوبه في الدنيا وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي ثواب حسن في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي للبعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر وَآثارَهُمْ أي ما تركوه من سنة صالحة، فعمل بها بعد موتهم. أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي في اللوح المحفوظ، أو العلم الأزليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 13]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي مثّل لأهل مكة مثلا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي اذكر لهم قصة عجيبة، قصة أصحاب القرية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي الدعاة إلى الحق ورفض عبادة الأوثان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 14]
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي فقوّيناهما برسالة ثالث فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ.(8/176)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 15 الى 17]
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ عن الله ظاهرا بيّنا لا سترة فيه، وقد خرجنا من عهدته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 18]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بكم. فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء، نسبوه إليهم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه، وآثروه وقبلته طباعهم. ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا. كما حكى الله عن القبط وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:
131] ، وعن مشركي مكة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:
78] ، أفاده الزمخشري: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي عن دعوتكم إلى التوحيد لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 19]
قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قالُوا أي الرسل طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والمعاصي أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي وعظتم بما فيه سعادتكم. وجواب الشرط محذوف، ثقة بدلالة ما قبله عليه. أي تطيرتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي في الشؤم والعدوان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 20]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى أي يسرع في المشي، حيث سمع بالرسل(8/177)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ أي بالإيمان بالله وحده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 21]
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أي جعلا ولا مالا على الإيمان وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي في أنفسهم بالكمالات والأخلاق الكريمة والآداب الشريفة. أي فيجدر أن يتأسّى بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 22]
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني. وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه. والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره. كما ينبئ عنه قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بعد الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 23]
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي فأضرع إليها وأعبدها، وهي في المهانة والحقارة بحيث إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ أي من ذلك الضر، بالنصر والمظاهرة. وفيه تحميق لهم، لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق، كيف يعبد؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 24 الى 25]
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي فاسمعوا إيماني واشهدوا به. قال السمين: الجمهور على كسر النون. وهي نون الوقاية، حذفت بعدها ياء الإضافة، مجتزى عنها بكسرة النون، وهي اللغة العالية. وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلط. انتهى.(8/178)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 26 الى 27]
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أي ثوابا على صدق إيمانك وفوزك بسببه بالشهادة قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي ليقبلوا على ما أقبلت عليه، ويضحوا لأجله النفس والنفيس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 28]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موته بالشهادة مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ أي لإهلاكهم وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ قال الرازيّ: إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا، على أسهل وجه، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 29]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون كالنار الخامدة. رمزا إلى أن الحيّ كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب، والميت كالرماد. كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه السلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين، غيره. وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدهما- أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام. كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله أعلم.(8/179)
ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا.
الثاني- أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم. وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح. ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة.
وهن: القدس لأنها بلد المسيح. وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها- كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم- كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين- فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
الثالث- أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف. أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: 43] ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن، قرية أخرى غير أنطاكية. كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية- إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة- مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وأقول: إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها، والإشارة منها إلى روحها وسرها، حرصا على الثمرة من أول الأمر، واقتصارا على موضع الفائدة، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين. لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى. وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث والأخذ والتلقي. فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته. حتى جعل ذلك فنّا برأسه وألف فيه مؤلفات. ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت. لا سيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل. إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما، إن كان جزمه من غير طريق القواطع فإن القاطع. هو(8/180)
ما تواتر أو صحّ سنده إلى المعصوم، صحة لا مغمز فيها. وهذا مفقود في الأكثر، ومنه بحثنا المذكور. فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل، إنما روي موقوفا ومنقطعا، وفي بعض إسناده متهمون. ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه. فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل، إجمالا فيما أجمله وتفصيلا فيما فصله، ولا يأخذ من إيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح. وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك، بل عن تشويهها. والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه. هذا أولا، وثانيا شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد، لا سيما وقد أسس فيها معبدا أحد رسل عيسى عليه السلام. ثالثا ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل. وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين. فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد، فأرسله من أنطاكية موثقا وأمر بأن يطعم للوحوش: فألقى في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه.
ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله. وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه. فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد، ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع. فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم. فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية. ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته. والشواهد في هذا الباب لا تحصى.
معروفة لمن أعار نظره جانبا مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه. فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى. رابعا شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ. هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع. وإلا، فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها. والصيحة أعم من أن تكون صيحة سماوية أو صيحة أرضية، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم. وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول. وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملا، وأما تعيينه، بوقت ما، وفئة ما، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ. وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار، وتخصيص مالا قاطع عليه.
الثاني- ذكر الرازيّ في قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا لطيفة، إن صح أن الرسل(8/181)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام. وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى. لأنه بإذنه وأمره. وبذلك تتمة التسلية للنبيّ صلوات الله عليه، لصيرورتهم في حكم الرسل.
ثم قال: وهذا يؤيد مسألة فقهية. وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل. حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول. انتهى.
الثالث- في قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 30]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا ندامة عليهم تكون يوم القيامة بسبب استهزائهم وسخريتهم في الدنيا بالناصحين، حتي أفضى بهم الحال إلى قتلهم كما فعل أصحاب القرية. أو المراد شدة خسرانهم حتى استحقوا أن يتحسر عليهم أهل الثقلين. أو التحسر منه تعالى مجازا. وتقريره أن التحسر ما يلحق المتحسر من الندم حتى يبقى حسيرا. وهو لا يليق به تعالى.
فيجعل استعارة، بأن شبه حال العباد بحال من يتحسر عليه الله فرضا، فيقول، يا حسرة على عبادي، قيل: وهو نظير قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:
12] . على القراءة بضم التاء، فالنداء للحسرة تعجب منه. والمقصود تعظيم جنايتهم، أي عدّها أمرا عظيما بتعجب منه. أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 31]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31)
أَلَمْ يَرَوْا أي يخبروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أي من الأمم الخالية أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 32]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
وَإِنْ كُلٌّ أي من هؤلاء المتفرقين لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي إلا(8/182)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
جميعهم محضرون للحساب والجزاء، وإنما أخبر عن (كل) بجميع ومعناهما واحد، لأن (كلا) تفيد الإحاطة حتى لا ينفلت عنهم أحد. و (جميع) تفيد الاجتماع، وهو فعيل بمعنى مفعول، وبينهما فرق. ومن ثم وقع أجمع في التوكيد تابعا ل (كل) ، لأنه أخص منه وأزيد معنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 35]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35)
وَآيَةٌ لَهُمُ أي عبرة لأهل مكة عظيمة الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي بالنبات لتدل على إحياء الموتى وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي وليأكلوا مما عملته أيديهم، وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، على ما استظهره القاضي. وقال الزمخشريّ: أي عملته بالغرس والسقي والآبار، قيل وهذا التفسير خلاف الظاهر. أي لاحتياجه إلى تجوز. إلا أن فيه تذكيرا بلذة ثمرة العمل وسرور النفس بعده. وفي الحديث (أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده) رواه الإمام أحمد «1» عن أبي بردة. وجوّز أن تكون (ما) نافية، والمعنى: أن الثمر بخلق الله لا بفعلهم أَفَلا يَشْكُرُونَ أي خالق هذه النعم الجسام بعبادته وحده. وهو إنكار لعدم قيامهم بواجب الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 36]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف كلها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي مما ذكر وغيره وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي من الأصناف والأنواع الموجودة في البر والبحر. وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 466.(8/183)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 37]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بيان لقدرته تعالى في الزمان، إثر ما بيّنها في المكان، أي نزيله ونكشفه عن مكانه. استعير لإزالة الضوء، السلخ الذي هو كشط الجلد وإزالته عن الحيوان المسلوخ. وفيه إشارة إلى أن النهار طارئ على الليل، كما أن المسلوخ منه قبل المسلوخ، الذي هو كالغطاء الطارئ على المغطى. قال الشهاب: لأن الليل سابق عرفا وشرعا ومعنى (مظلمون) داخلون في الظلام. يقال (أظلمنا) كما يقال: أعتمنا وأدجينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 38]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحدّ لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي. شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره. فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود. ووجه الشبه الانتهاء إلى محل معين، واللام تعليلية أو بمعنى (إلى) . وقيل مستقرها منقطع جريها عند حراب العالم. ومستقر، عليه، اسم زمان ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ذلك الجري المتضمن للحكم والمصالح والمنافع، والمدهش نظام سيره وإحكامه بلا اختلال، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 39]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي صيرنا له منازل ينزل كل ليلة في واحد منها حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي حتى إذا كان في آخر منازله، دق واستقوس وصار كالعذق المقوس اليابس، إذا حال عليه الحول. فالعرجون هو الشمروخ.، وهو العنقود الذي عليه الرطب، ويسمى العذق، بكسر العين. والقديم: العتيق، وإذا قدم دق وانحنى واصفرّ. فشبه به من ثلاثة أوجه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 40]
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)(8/184)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أي تجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه فتطمس نوره وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي يسبقه بأن يتقدم على وقته فيدخل قبل مضيّه. أو المراد بالليل والنهار آيتاهما. أي ولا القمر سابق الشمس فيكون عكسا للأول. أي ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس. والمعنى على هذا، أن كل واحد منهما لا يدخل على الآخر في سلطانه، فيطمس نوره، بل هما متعاقبان بمقتضى تدبيره تعالى، وعليه فسر إيثار (سابق) على (مدرك) كما قبله، هو أن السبق مناسب لسرعة سير القمر. إذ السبق يشعر بالسرعة، والإدراك بالبطء. وكذلك الشمس بطيئة السير تقطع فلكها في سنة. والقمر يقطعه في شهر. فكانت الشمس لبطئها جديرة بأن توصف بالإدراك. والقمر لسرعته جديرا بأن يوصف بالسبق.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : يؤخذ من هذه الآية أن النهار، تابع لليل، وهو المذهب المعروف للفقهاء. وبيانه من الآية أنه جعل الشمس التي هي آية النهار غير مدركة للقمر الذي هو آية الليل.
وإنما نفي الإدراك لأنه هو الذي يمكن أن يقع، وذلك يستدعي تقدم القمر وتبعية الشمس، فإنه لا يقال (أدرك السابق اللاحق) ولكن (أدرك اللاحق السابق) وبحسب الإمكان توقيع النفي،. فالليل إذا متبوع والنهار تابع. فإن قيل: هل يلزم على هذا أن يكون الليل سابق النهار، وقد صرحت الآية بأنه ليس سابقا؟ فالجواب أن هذا مشترك الإلزام. وبيانه: أن الأقسام المحتملة ثلاثة: إما تبعية النهار لليل وهو مذهب الفقهاء، أو عكسه وهو المنقول عن طائفة من النحاة. أو اجتماعهما. فهذا القسم الثالث منفي بالاتفاق. فلم يبق إلا تبعيه النهار لليل وعكسه. وهذا السؤال وارد عليهما جميعا. لأن من قال إن النهار سابق الليل لزمه أن يكون مقتضى البلاغة أن يقال (ولا الليل يدرك النهار) فإن المتأخر إذا نفي إدراكه كان أبلغ من سابقه. مع أنه يتناءى عن مقتضى قوله: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ تنائيا لا يجمع شمل المعنى باللفظ. فإن الله تعالى نفى أن تكون مدركة، فضلا عن أن تكون سابقة، فإذا أثبت ذلك، فالجواب المحقق عنه، أن المنفيّ السبقية الموجبة لتراخي النهار عن الليل، وتخلل زمن آخر بينهما. وحينئذ يثبت التعاقب، وهو مراد الآية.
وأما سبق أول المتعاقبين للآخر منهما، فإنه غير معتبر. ألا ترى إلى جواب موسى بقوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه: 84] ، فقد قربهم منه عذرا عن قوله تعالى:(8/185)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ [طه: 83] ، فكأنه سهل أمر هذه العجلة بكونهم على أثره. فكيف لو كان متقدما وهم في عقبه لا يتخلل بينهم وبينه مسافة، فذاك لو اتفق، لكان سياق الآية يوجب أنه لا يعد عجلة ولا سبقا. فحينئذ يكون القول بسبقية النهار لليل، مخالفا صدر الآية على وجه لا يقبل التأويل. فإن بين عدم الإدراك الدال على التأخير والتبعية، وبين السبق بونا بعيدا، ومخالفا أيضا لبقية الآية.
فإنه لو كان الليل تابعا ومتأخرا، لكان أحرى أن يوصف بعدم الإدراك، ولا يبلغ به عدم السبق. ويكون القول بتقديم الليل على النهار مطابقا لصدر الآية صريحا، ولعجزها بوجه من التأويل مناسب لنظم القرآن. وثبوت ضده أقرب إلى الحق من حبل وريده، والله الموفق للصواب من القول وتسديده. انتهى.
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي كل مما ذكر يجرون في مدار عظيم كالسابح في الماء. وتقدم لنا في سورة الأنبياء، ما قاله بعض علماء الفلك في مثل هذه الآية.
فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 41]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي حملنا أولادهم الذين يرسلونهم في تجارتهم. قال الشهاب: ولا يخفى مناسبته لقوله قبله: فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وذكر (المشحون) أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، أو لأنه أبعد عن الخطر، وقيل المراد فلك نوح عليه السلام. فهو مفرد، وتعريفه للعهد. والمعنى حمل آبائهم الأقدمين الذين بهم حفظ بقاء النوع لما عمّ الطوفان، ونجوا مع نوح في السفينة. وإنما كان آية، لأن بقاء نسلهم ونجاتهم بسفينة واحدة، صنع عجيب ومقدور كبير. وآثر البعض الوجه الأول، لأن الثاني محتاج للتأويل. وأرى جدارة الثاني بالإيثار لقاعدة الحمل على الأشباه والنظائر، ما وجد له سبيل. لأنه أقرب وأسدّ. وقد جاء نظيره آية: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة: 11- 12] . وإن ورد في نظير الأول آية وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرحمن: 24] ، وأشباهها، إلا أن لفظ الحمل اتحد في الآيتين، فقارب ما بينهما.(8/186)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 42]
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ أي من الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، حتى شاع إطلاق السفينة عليها. كما قيل (سفائن برّ والسراب بحارها) أو ما يركبون. أي من السفن والزوارق على الوجه الثاني. وهو أن يراد بالفلك سفينة نوح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 43]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم، أو لا مستغيث منهم، أو لا استغاثة، وذلك لأن الصريخ يكون المغيث والمستغيث وهو الصارخ. ومصدرا للثلاثيّ كالصراخ، يتجوز به عن الإغاثة، لأن المغيث ينادي من يستغيث به ويصرخ له، ويقول. جاءك العون والنصر. أنشد المبرد في أول الكامل:
كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظّنابيب
أي إذا أتانا مستغيث، كانت إغاثته الجد في نصرته.
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي ينجون من الموت به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 44]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي لكن رحمناهم ومتعناهم إلى زمن قدر لهم، يموتون فيه بعد النجاة من موت الغرق. ومن هنا أخذ أبو الطيّب قوله:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 45]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي من الوقائع الخالية في الأمم المكذبة للرسل وَما خَلْفَكُمْ أي من العذاب المعدّ في الآخرة، أو عذاب الدنيا وعذاب(8/187)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
الآخرة، أو عكسه، أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي باتقائكم وشكركم، وجواب (إذا) محذوف دل عليه قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 46]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي الدالة على صدق الرسل إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ بالتكذيب والصدّ عن الإيمان بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدقوا على الفقراء، من مال الله الذي آتاكم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي حيث أمرتمونا بما يخالف مشيئة الله. وقولهم هذا، إما تهكم أو عن اعتقاد. وجوز أن يكون إِنْ أَنْتُمْ جوابا من الله لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين. وفي هذه الآية أبلغ زجر عن اقتصاص ما يحكى عن البخلاء، في اعتذارهم بمثل ما ضلل به المشركون ومجاراتهم فيه. فإن ذلك من اللؤم وشح النفس وخبث الطبع. وإن كان يورده بعضهم للفكاهة أو الإغراب. كما فعل الجاحظ سامحه الله في كتاب (البخلاء) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 48]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون وعد البعث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 49]
ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يتخاصمون في متاجرهم ومعاملاتهم. أي أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها. و (يخصمون) بفتح الياء وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. والصادر على الأصل، وأصله (يختصمون)(8/188)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
سكنت التاء وأدغمت، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 50]
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يقدرون على الرجوع إلى أهليهم، ليروا حالهم. بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 51]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي للبعث فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي من القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي يعدون مسرعين، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: 43] ، ولا منافاة بين هذا وما في آية فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، لأنهما في زمان واحد متقارب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 52]
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي رقادنا أو مكانه. فيقال لهم هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي المخبرون عن ذلك الوعد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 53]
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53)
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي بمجرد تلك الصيحة. وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، عليه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 54 الى 55]
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي(8/189)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
شُغُلٍ فاكِهُونَ
أي متنعمون متلذذون، وفي تنكير شُغُلٍ تعظيم ما هم فيه وتفخيمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 56 الى 57]
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57)
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ أي في ظلال الأشجار، أو في مأمن من الحرور عَلَى الْأَرائِكِ أي السّرر المزينة مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 58]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي ولهم سلام يقال لهم قولا كائنا منه تعالى.
فيكون سَلامٌ مبتدأ محذوف الخبر. أو هو بدل من (مّا) أو خبر محذوف، أي:
هو سلام. أو مبتدأ خبره الناصب ل قَوْلًا أي: سلام يقال لهم قولا. أو مبتدأ وخبره مِنْ رَبٍّ وقَوْلًا مصدر مؤكد لمضمون الجملة. وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر.
والمعنى إنه تعالى يسلم عليهم تعظيما لهم. كقوله: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 59]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي عن المؤمنين في موقفهم. كقوله تعالى:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: 28] . وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] .
يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] ، أي يصيرون صدعين فرقتين احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 60]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تقريع منه(8/190)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
تعالى للكفرة، يقال لهم إلزاما للحجة. وعهده تعالى إليهم هو ميثاق الفطرة. كما قاله القاشانيّ. أو ما نصبه لهم من الحجج العقلية والسمعية، الآمرة بعبادته وحده ونبذ عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 61]
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: وأن أفردوني بالعبادة فإنه السبيل السويّ. وفي تنكيره إشعار بأنه صراط بليغ في استقامته، جامع لكل ما يجب أن يكون عليه. وأصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف، فالتنوين للتعظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 62]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
وَلَقَدْ أَضَلَّ أي الشيطان وأغوى بالشرك مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي خلقا كثيرا قبلكم، فحاق بهم سوء العذاب أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أي من أولي العقل. إنكار لأن يكونوا منهم. وقد قامت البراهين والإنذارات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : الآيات 63 الى 64]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 65]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي عند ما يجحدون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، قال الرازيّ: وفي الختم على الأفواه وجوه. أقواها أن الله يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها، وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير. أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة(8/191)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
مخصوصة. فكما جاز تحركه بها، جاز تحرك غيره بمثلها. والله قادر على الممكنات. والوجه الآخر، أنهم لا يتكلمون بشيء، لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم. فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس، لا يجد عذرا فيعتذر، ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار، حتى تنطق به الأيدي والأبصار. كما يقول القائل (الحيطان تبكي على صاحب الدار) إشارة إلى ظهور الحزن، والأول الصحيح. انتهى. أي لإمكانه وعدم استحالته، فلا تتعذر الحقيقة. ويؤيده آية وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] .
ومن لطائف بعض أدباء العصر ما نظمه في الفونغراف، مستشهدا به في ذلك، فقال:
ينطق الفونغراف لنا دليل ... على نطق الجوارح والجماد
وفيه لكل ذي نظر مثال ... على بدء الخليفة والمعاد
يدير شؤونه فرد بصور ... به الأصوات تجري كالمداد
فيثبت رسمها قلم بلوح ... على وفق المشيئة والمراد
وبعد فراغها تمضي كبرق ... ولا أثر لها في الكون بادي
تظن بأنها ذهبت جفاء ... كما ذهبت بريح قوم عاد
وأحلى رنّها فيه لتبقى ... كأرواح تجرد عن موادّ
متى شاء المدير لها معادا ... ورام ظهورها في كل ناد
يدير الصور بالآلات قسرا ... فينشر ميتها بعد الرقاد
وهذي آلة من صنع عبد ... فكيف بصنع خلّاق العباد؟
تبارك من يعيد الخلق طرّا ... بنفخة صوره يوم التناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 66]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي لو شاء تعالى، لمسح أعينهم. فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المسلوك لهم لم يقدروا، لعماهم.(8/192)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 67]
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ أي بتغيير صورهم وإبطال قواهم عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي ذهابا وَلا يَرْجِعُونَ أي ولا رجوعا. أي أنهم لا يقدرون على مفارقة مكانهم. فوضع الفعل موضعه للفواصل. وإذا كان بمعنى (لا يرجعون عن تكذيبهم) فهو معطوف على جملة (ما استطاعوا) والمراد أنهم بكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم، أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك. لكنا لم نفعل لشمول الرحمة، واقتضاء لحكمة إمهالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 68]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ أي نطل عمره نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي بتناقض قواه وضعف بنيته حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلّوه من العلم، كما قال عز وجل: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج: 5] ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] . أَفَلا يَعْقِلُونَ أي من قدر على ذلك، قدر على الطمس والمسخ، وأن يفعل ما يشاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 69]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي حتى يأتي بشعر. وهذا رد لقولهم أنه صلوات الله عليه شاعر أتى بشعر. قاسوه على من يشعر بقراءة الدواوين وكثرة حفظها. وكيف يشابه ما نزل عليه الشعر، وليس منه لا لفظا لعدم وزنه وتقفيته، ولا معنى لأن الشعر تخيلات، وهذا حكم وعقائد وشرائع وحقائق.
وَما يَنْبَغِي لَهُ أي وما يصح لمقامه. لأن منزل النبوة والرسالة يتسامى عن الشعر وقرضه. لما يرمى به الشعراء كثيرا من الكذب والمين ومجافاة مقاعد الحقيقة.
ولذا قال تعالى: إِنْ هُوَ أي القرآن الذي يتلوه إِلَّا ذِكْرٌ أي عظة وإرشاد منه(8/193)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
تعالى وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي كتاب سماويّ بيّن أمره وحقائقه. فلا مناسبة بينه وبين الشعر بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 70]
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي وتجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ أي المعرضين عن اتباعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 71]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي مما تولينا نحن خلقه، لم يقدر على إحداثه غيرنا، أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي متصرّفون فيها تصرّف الملاك. أو ضابطون قاهرون لها كما قال:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 72]
وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72)
وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي صيّرناها منقادة غير وحشية فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي مركوبهم وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي ينتفعون بأكل لحمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 73]
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ أي من الجلود والأصواف والأوبار وَمَشارِبُ أي من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ أي فيعبدوا المنعم بأصناف هذه النعم الجسيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 74]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي ينصرونهم فيما نابهم من الكوارث.(8/194)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 75]
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ أي لآلهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي معدّون لخدمتهم والذب عنهم. فمن أين لهم أن ينصروهم وهم على تلك الحال من العجز والضعف؟ أي بل الأمر بالعكس. وقيل: المعنى محضرون على أثرهم في النار.
وجعلهم- على هذا- جندا، تهكم واستهزاء. وكذا لام (لهم) الدالة على النفع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 76]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي في الله تعالى بالإلحاد والشرك. أو في حقك بالتكذيب والإيذاء إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي فنجازيهم عليه. كنى عن مجازاتهم بعلمه تعالى، للزومه له. إذ علم الملك القادر بما جرى من عدوّه الكافر، مقتض لمجازاته وانتقامه. وتقديم السرّ، لبيان إحاطة علمه تعالى بحيث يستوي السر عنده والعلانية. أو للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن، فإنه ملاك الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 77]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي جدل بالباطل.
بيّن الجدال، وهذه تسلية ثانية، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر.
تأثرت الأولى وهي قوله فَلا يَحْزُنْكَ الآية، عناية بشأنه صلوات الله عليه.
قال الطيبيّ: هذا معطوف على (أولم يروا) قبله. والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس. فإنه خلق له ما خلق ليشكر، فكفر وجحد النعم والمنعم. وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا، فطغى وتكبر وخاصم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 78]
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي في استبعاد البعث وإنكاره وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي خلقنا إياه قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية أشد البلى، بعيدة عن الحياة غاية(8/195)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
البعد. وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام. جامد غير صفة، كالرمة والرفات.
أو مشتق، فعيل بمعنى فاعل. إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف، ألحق بالأسماء فلم يؤنث. أو بمعنى مفعول. من (رمّه) بمعنى أبلاه. وأصله الأكل. من (رمت الإبل الحشيش) فكأن ما بلي أكلته الأرض. وقال الأزهري: إن (عظاما) لكونه بوزن المفرد، ككتاب وقراب، عومل رميم معاملته. وذكر له شواهد.
قال الشهاب: وهو غريب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 79]
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين. وإنما تقاس إعادته على إبدائه وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها، وطريق ضمها إلى بعضها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 80]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا فأثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا يوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد. لا يمنعه شيء. قال قتادة: الذي أخرج النار من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار (من شجر البادية) في أرض الحجاز. فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدها بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. والعفار الزند وهو الأعلى.
والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى. وعكس الجوهريّ فجعل المرخ ذكرا والعفار أنثى، واللفظ مساعد له. إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر:
إذا المرخ لم يور تحت العفار ... وضنّ بقدر فلم تعقب
وقال أبو زياد: ليس في الشجر كله أورى نارا من المرخ. وربما كان المرخ مجتمعا ملتفا، وهبت الريح، وجاء بعضه بعضا فأورى فأحرق الوادي. ولم نر ذلك في سائر الشجر.(8/196)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وقال الأزهريّ: العرب تضرب بالمرخ والعفار، المثل في الشرف العالي.
فتقول: (في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار) أي كثرت فيهما على ما في سائر الشجر. و (استمجد) استكثر واستفضل. وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر نارا، وزنادهما أسرع الزناد وريا. وفي المثل: اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ. ويقال (في كل شجر نار إلا العنّاب) .
قال الشهاب: ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين. ثم أنشد لنفسه:
أيا شجر العنّاب نارك أوقدت ... بقلبي. وما العنّاب من شجر النار
انتهى.
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية. لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار، وهي حارة يابسة بالفعل، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا، تطرأ عليه اليبوسة والبلى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 81]
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي مع كبر جرمهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي في الصغر والضعف ثانيا، بعد ما خلقهم أولا بَلى أي هو القادر وَهُوَ الْخَلَّاقُ أي الكثير الخلق مرة بعد أخرى الْعَلِيمُ أي الواسع المعلومات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 82]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه الأعلى أو قوله النافذ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فيوجد عن أمره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يس (36) : آية 83]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ تنزيه له مما وصفه به المشركون،(8/197)
وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا. وهو مالك كل شيء والمتصرّف فيه بلا وازع ولا منازع. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
فائدة:
قال ابن كثير: الملك والملكوت واحد في المعنى. كرحمة ورحموت ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت. ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول. وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. انتهى.
ولبعضهم: إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك. فهو بمعنى الملك التام، والله هو العليم العلام.(8/198)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الصافّات
سميت بها لاستمال الآية التي هي فيها على صفات للملائكة تنفي إلهية الملائكة من الجهات الموهمة لها فيهم. فينتفي بذلك إلهية ما دونهم، فيدل على توحيد الله، وهو من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي.
وهي مكية اتفاقا، وآيها مائة واثنتان وثمانون.
روى النسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بالتخفيف، ويؤمّنا بالصفات
. قال ابن كثير: تفرد به النسائي.(8/199)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارا لعظم شأنها وكبر فوائدها. وتنبيها إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها. و (الصافات) جمع صافة، أي طائفة صافة، أو جماعة صافة. فيكون في المعنى جمع الجمع. أو على تأنيث مفردة باعتبار أنه ذات ونفس، والمراد بالصفات الملائكة. لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك. من قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: 165] ، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعالى. وفَالزَّاجِراتِ أي: الناس عن المعاصي، بإلهام الخير. من (الزجر) بمعنى المنع والنهي. أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به. من (الزجر) بمعنى السوق والحث.
و (التاليات) أي: آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] ، و (الزاجرات) ، كل ما زجر عن معاصي الله. و (التاليات) كل من تلا كتاب الله. أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه.
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد والزاجرون الخيل أو العدوّ، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدوّ. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه.
وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإيثار الفاء على (الواو) لقصد الترتيب والتفاضل طردا أو عكسا. أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. و (صفا) و (زجرا) مصدر مؤكد. وكذا (ذكرا) ويجوز فيه كونه مفعولا به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1- 2] ، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع(8/200)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
الواو. والمعنى واحد. إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ الجواب للقسم. وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 5]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وحدته. أي مالك السموات والأرض وما بينهما من الموجودات ومربيّها ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقا. تشرق كل يوم من مشرق منها. وبحسبها تختلف المغارب، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما.
أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 6]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي الجهة العليا القربى من كرة الأرض بِزِينَةٍ أي عجيبة بديعة الْكَواكِبِ بالجر، بدل من (زينة) . وقرئ بالإضافة، على أنها بيانية، أو على معنى ما زينت هي به، وهو ضوؤها، والمراد التزيين في رأي العين. فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 7]
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7)
وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ أي خارج عن الطاعة، يقذفه بشهبها، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها وحِفْظاً إما منصوب بإضمار فعله. أي حفظناها حفظا، أو بعطفه على بِزِينَةٍ من حيث المعنى. أي خلقنا الكواكب(8/201)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
للسماء زينة وحفظا. أو على المفعول لأجله بزيادة الواو. والعامل فيه زَيَّنَّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 8]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8)
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله (يتسمعون) أي يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان. لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة إلخ. أو هي علة للحفظ. أي لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم (أن) وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] ، أي لئلا تضلوا، وقد يقال:
إنما ينكر حذف شيئين فيما يخلّ بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر، ومرجعه إلى تحليل معنى. لا يأباه اللفظ- فلا وجه للتعصب في رده، لمجرد أن الكوفيين، مثلا، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد وتحكيمها وَيُقْذَفُونَ أي يرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي من جميع جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 9]
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
دُحُوراً أي للدحور وهو الطرد وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي شديد غير منقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 10]
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي اختلس الكلمة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أي لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء ثاقِبٌ أي مضيء. كأنه يثقب الجوّ بضوئه.
تنبيه:
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء. فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم(8/202)
أنهم يعلمون الغيب. فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب.
فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه. ولهذا قال جلّ جلاله لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي: لئلا يصلوا إلى الملإ الأعلى، وهي السموات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره. كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى:
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ، قالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] ، انتهى.
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفّه الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] ، في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات والدواب بأرواح، منها الصالح (الملك) ومنها الطالح (الشيطان) وكذلك أرضنا هذه. فيها من الملائكة ومن الشياطين مالا نبصره إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ
[الأعراف: 27] . ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها. كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم. فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه. على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض، لا نبصرها ولا نشعر بها. وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقضّ عليها، قبل أن تخرج من جوّ الأرض، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها. حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى. وهذه الشهب التي تنقضّ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة. وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة. التهبت فيما بعد لشدة شرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جوّنا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحد بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضا (مثال ذلك عنصر الصوديم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من(8/203)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
الماء فيحلله) ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له. ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينّا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] والمراد (بالسماء الدنيا) في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا. أي هذا الجوّ الذي نشاهده وفيه العوالم كلها.
أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ (السماء) له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السموّ. وتفسّر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن حق، لا يوجد في العلم الطبيعيّ ما يكذبها. لأنه وحي الله حقا، والحق لا يناقضه الحق سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] .
وقال أيضا: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب.
ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن. ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعا مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم.
(قال) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اه كلامه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] ، وقوله عز وجل:
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16- 18] ، وقوله سبحانه إخبارا عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 8- 9] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 11]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)
فَاسْتَفْتِهِمْ أي فاستخبر مشركي مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى خلقة(8/204)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
وأمتن بنية أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي من السموات والأرض والجبال. كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [النازعات: 27] الآية، وقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] ، وفي اضطرارهم إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله عما ذكر، اعتراف بأنه لا يتعالى عليه أمر بعد هذا. كشأن البعث وغيره.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لزج ضعيف لا قوة فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 12]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
بَلْ عَجِبْتَ أي من إنكارهم للبعث بعد اضطرارهم للاعتراف بما يحققه وَيَسْخَرُونَ أي من تقرير أمر البعث والاحتجاج عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 13]
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13)
وَإِذا ذُكِّرُوا أي بما يؤيده، أو وعظوا وخوفوا من المخالفة لا يَذْكُرُونَ أي ما يقتضيه؟ لتعنتهم وعنادهم. أو لا يخافون ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 14]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي برهانا واحتجاجا على مصداقه، من آيات الكائنات في أنفسهم أو في الآفاق يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في السخرية، بدل الاعتبار والتدبر والتفكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 15]
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
وَقالُوا إِنْ هذا أي ادعاء ما ذكر، والاستدلال عليه والصدع بشأنه، والقراع فيه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 16 الى 18]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ أي تبكيتا لهم.(8/205)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
نَعَمْ أي تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي ذليلون، لا جدل منكم يدفعه ولا قدرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 19]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
فَإِنَّما هِيَ أي البعثة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي قيام من مراقدهم أحياء، أولو قوة مدركة، بها يبصرون. أو ينتظرون ما يفعل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 20]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي الجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 21 الى 22]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22)
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أنفسهم بالكفر والمعاصي والسعي بالفساد وَأَزْواجَهُمْ أي وأشباههم من الفجرة. أو نساءهم الكافرات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 23]
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23)
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام وغيرها، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي فعرفوهم طريقها ليسلكوها. والتعبير ب (الهداية) و (الصراط) للتهكم بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 24]
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي عن عقائدهم وأعمالهم.(8/206)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 25]
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، وقد كان شأنكم التعاضد في الحياة الأولى، وهو توبيخ لهم وتقريع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 26]
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي منقادون مخذولون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي عن القهر والغلبة. أي كنتم تضطرونا إلى ما تدعونا إليه. كما في آية وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً [سبأ: 33] ، وقيل عن الحلف والقسم. وقيل عن جهة الخير وناحية الحق.
من (اليمن) ضد الشؤم. أي توهمونا وتخدعونا أن ما أنتم عليه أمر ميمون فيه الخير والفوز فأين مصداقه وقد نزل ما نزل؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 29 الى 35]
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي عن الاستجابة للداعي إليها.(8/207)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 36]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي لقول من يقول بالمقدمات الخيالية عن الجنون. فرد عليهم بأنه لم يأت بكلام مخيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 37]
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ أي الذين هم أعقل الأمم وأحكم الحكماء.
فمتى يتفقون على قول مصدره الجنون؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 44]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
إِنَّكُمْ أي بافترائكم لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي في الصف مترائين، لا يحجب بعضهم عن بعض، ولا يتفاضلون في المقاعد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 45]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي شراب معين، جار كالنهر لا ينقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 46 الى 47]
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي ما يغتال العقل، ولا فساد من فساد خمر الدنيا وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي تذهب عقولهم.(8/208)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 48 الى 49]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي على أزواجهن أو مبيضّاته تشبيها بالثوب المقصور، وهو المحوّر. عِينٌ أي كبار الأعين كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي بيض نعام في الصفاء، مستور لم يركب عليه غبار.
قال الشهاب: وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها. وخصت ببيض النعام، لصفائه وكونه أحسن منظرا من سائره. ولأنها تبيض في الفلاة وتبعد ببيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء (بيضات الخدور) ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان، كما في الدرّ. وهو لون محمود جدا. إذ البياض الصرف غير محمود. وإنما يحمد إذا شابه قليل حمرة في الرجال، وصفرة في النساء. انتهى.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس أنه عنى بالبيض المكنون (اللؤلؤ) .
ثم قال: والعرب تقول لكل مصون (مكنون) لؤلؤا كان أو غيره. كما قال أبو دهبل:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 50]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على (يطاف) والمعنى، يشربون فيتحادثون على الشراب، كعادة أهل الشرب، عما جرى لهم وعليهم.
وقال القاشانيّ: أي يتحادثون أحاديث أهل الجنة والنار، ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب، كما ذكر في وصف أهل الأعراف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 51 الى 53]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي في المحادثة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي جليس في الدنيا(8/209)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمبعوثون فمجزيّون. أي يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب. والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده. كما أشار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 54]
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
قالَ أي ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي إلى أهل النار من كوى الجنة ومطالّها، لأريكم ذلك القرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 55 الى 57]
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني بالإغواء وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي بالهداية واللطف بي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي معك في النار. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 58 الى 59]
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ من تتمة كلامه لقرينه، تقريعا له. أو معاودة إلى محادثة جلسائه، تحدثا بنعمة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 60 الى 61]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثله، فليجدّ المجدّون.
ولما وصف ملاذّ أهل الجنة، تأثره بمطاعم أهل النار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 62]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وهي شجرة كريهة المنظر والطعم، كما ستذكر صفتها.(8/210)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 63 الى 65]
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً أي محنة وعذابا لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها أي حملها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي مثل ما يتخيل ويتوهم من قبح رؤوس الشياطين، فهي قبيحة الأصل والثمر والمنظر والملمس. قال الزمخشريّ:
وشبه برءوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر. لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة (كأنه وجه شيطان) (كأنه رأس شيطان) وإذا صوره المصوّرون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدّر وأهوله. كما أنهم اعتقدوا في الملك أنه خير محض لا شر فيه. فشبهوا به الصورة الحسنة. قال الله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] ، وهذا تشبيه تخييليّ. انتهى. أي لأمر مركوز في الخيال.
وبه يندفع ما يقال إنه تشبيه بما لا يعرف، وذلك لأنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج. بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال. ألا ترى امرأ القيس- وهو ملك الشعراء- يقول:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهو لم ير الغول. والغول نوع من الشياطين، لأنه في خيال كل أحد مرتسم بصورة قبيحة، وإن كان قابلا للتشكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 66]
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي لغلبة الجوع أو الإكراه على أكلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 67]
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي لشرابا كالصديد أو الغساق، ممزوجا من ماء متناه في الحرارة، يقطع أمعاءهم.(8/211)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 68]
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مصيرهم لَإِلَى الْجَحِيمِ أي إلى دركاتها. أو إلى نفسها لا مفر لهم منها ولا محيص كيفما تحولوا. قال ابن كثير: أي ثم إن مردّهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وسعير تتوهج. فتارة في هذا وتارة في هذا. كما قال تعالى:
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية. وهو تفسير حسن قويّ. انتهى.
ومن لطائف الإشارات في هذه الآية، ما قاله القاشانيّ. وعبارته: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوّه والخبث بالتنفر رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي تنشأ منها الدواعي المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة. فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشر والمفسدة، فكانت رؤوس الشياطين فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها يستمدون منها ويتغذون ويتقوّون، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ الأهواء الطبيعية والمنى السيئة الرديئة، ومحبات الأمور السفلية، وقصور الشرور الموبقة، التي تكسر بعض غلة الأشرار ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ لغلبة الحرص والشره، بالشهوة والحقد والبغض والطمع وأمثالها. واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.
انتهى.
وهذه الإشارات من المجازات التي تتسع لها اللغة. لأنها لا تنحصر في الحقيقة، ولا يقال إنها المرادة هنا، لنبؤها عن نظائرها من آيات الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 69 الى 70]
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. و (الإهراع) الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على(8/212)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
الإسراع على آثارهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير نظر وبحث، بل مجرد تقليد وترك اتباع دليل. قال الرازيّ: ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد، لكفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 72]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أنبياء حذروهم العواقب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 73]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي الذين أنذروا وخوّفوا. فقد أهلكوا جميعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 74]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصوا دينهم لله. أو الذين أخلصهم تعالى لدينه. على القراءتين. أي فإنه تعالى نصرهم وجعل العاقبة لهم. ثم أشار تعالى إلى أنبائهم، تثبيتا لفؤاده صلوات الله عليه. وتبشيرا لأتباعه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 77]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي بقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي نحن بهلاك قومه. لأنه لا يجيب المضطر غيره.
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الغرق والطوفان. والمراد بأهله، من آمن معه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أي في الأرض بعد هلاك قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 78 الى 79]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)(8/213)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا عليه في الأمم بعده ثناء حسنا، فمفعول (تركنا) محذوف، أو ما حكاه تعالى بقوله سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أي أن يسلموا عليه إلى يوم القيامة. أي أن يقولوا هذه الجملة. قال السمين: قوله سَلامٌ عَلى نُوحٍ مبتدأ وخبر. وفيه أوجه: أحدها أنه مفسر ل (تركنا) والثاني أنه مفسر لمفعوله. أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام. أو ثمّ قول مقدر. أي فقلنا سلام. أو ضمن (تركنا) معنى (قلنا) أو سلط (تركنا) على ما بعده. وقرئ (سلاما) وهو مفعول به ل (تركنا) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 80]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما أثيب به من التكرمة، بأنه مجازاة له على إحسانه، وهو مجاهدته في إعلاء كلمة الله، والدعوة إلى الحق ليلا ونهارا، سرّا وجهارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 81]
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين، وتعليل إحسانه بالإيمان، إظهار لفضل الإيمان ومزيته. حيث مدح من هو من كبار الرسل به. فالمقصود بالصفة مدحها نفسها، لا مدح موصوفها. وذلك لأن الإيمان أساس لكل خير يوجد، ومركز لدائرته، ومسك خاتمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 82]
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي من كفار قومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 83]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي ممن شايعه وتابعه في الإيمان والدعوة القوية إلى التوحيد.(8/214)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 84]
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب، باق على الفطرة، سليم عن النقائص والآفات، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ، منكر على من غيّر وبدّل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 85]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ أي من دون الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 86]
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون بطريق الكذب، آلهة دون الله؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 87]
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي بمن هو الحقيق بالعبادة، لكونه ربّا للعالمين، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره، والمعنى: لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى: فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كلّ، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 88]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي ليريهم على أنه يستدل بها على شيء لأنهم كانوا منجّمين.(8/215)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 89]
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي مريض لا يمكنني الخروج معكم إلى معيّدكم. ترخص عليه السلام بذلك. ليتخلص من شهود زورهم ومنكراتهم وأفانين شركهم، مما تجوزه المصلحة. أو عنى أنه سقيم القلب. تشبيها لغمه وحزنه بالمرض، على طريق التشبيه. أو أراد أنه مستعد للموت استعداد المريض. فهو استعارة أو مجاز مرسل.
قال الزمخشري: والذي قاله إبراهيم عليه السلام، معراض من الكلام. ولقد نوى به ان من في عنقه الموت، سقيم. ومنه المثل (كفى بالسلامة داء) وقول لبيد:
فدعوت ربّي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني، فإذا السلامة داء
ومات رجل فجأة، فالتفّ عليه الناس وقالوا: مات وهو صحيح. فقال أعرابيّ:
أصحيح من الموت في عنقه؟ انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : في الآية استعمال المعاريض والمجاز للمصلحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 90]
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي إلى معيّدهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 91]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91)
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إليها في خفية فَقالَ أي للأصنام استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 92 الى 96]
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)(8/216)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ أي بإيجاب ولا سلب فَراغَ عَلَيْهِمْ أي هجم عليهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي التي هي أقوى الباطشتين، فكسرها. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم بعد ما رجعوا يَزِفُّونَ أي يسرعون لمعاتبته على ما صدر منه. فأخذ عليه السلام يبرهن لهم على فساد عبادتهم قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي من الأصنام وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي وما تعملونه من الأصنام المنوعة الأشكال، المختلفة المقادير. ولما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 97 الى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
قالُوا ابْنُوا لَهُ أي لإحراقه بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي الأذلّين بإبطال كيدهم. جعل النار عليه بردا وسلاما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 99]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحسّ من قومه العداوة الشديدة، هاجر. فلأن يجب على غيره. بالأولى.
وقوله: سَيَهْدِينِ أي إلى ما فيه صلاح ديني، أو إلى مقصدي. وإنما بتّ القول لسبق وعده تعالى. إذ تكفل بهدايته. أو لأن من كان مع الله كان الله معه «1» (احفظ الله يحفظك) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 100 الى 101]
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي ولدا صالحا يعينني على الدعوة والطاعة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي متسع الصدر حسن الصبر والإغضاء في كل أمر، والحلم رأس الصلاح وأصل الفضائل.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: القيامة، 59- باب حدثنا بشر بن هلال.(8/217)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 102]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي السنّ الذي يقدر فيه على السعي والعلم قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى أي: إني أمرت في المنام بذبحك- ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة- فانظر هل تصبر على إمضائي أمر الرؤيا والعمل بظاهرها؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، أي يأمرك الله به. فإن كان ذاك أمرا من لدنه فأمضه. قال القاضي: ولعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به. أو علم أن رؤيا الأنبياء حق، وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، ثم قال: ولعل الأمر في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال، أدل على كمال الانقياد والإخلاص. انتهى.
قال الرازي: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب، أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم، حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم. وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية. ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة، والثناء الحسن في الدنيا. وقوله:
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي على الذبح، أو على قضاء الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 103]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلما وانقادا لأمره تعالى بدون إبطاء، واستلّ إبراهيم السكين، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على شقه، فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة. و (تله) أصل معناه: رماه على التلّ، وهو التراب المجتمع. ك (تربه) . ثم عم لكل صرع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 104 الى 105]
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي لا تذبحه وقد قمت بمصداقها في بذل الوسع من الأخذ بإمضاء ما تشير إليه وكمال الطاعة في هذا الشاقّ. وأوتيت(8/218)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
أجر الامتثال والصبر والثبات. وفي جواب (لما) ثلاثة أوجه، أظهرها أنه محذوف.
أي نادته الملائكة. أو ظهر صبرهما. أو أجزلنا لهما أجرهما، الثاني في أنه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ بزيادة (الواو) وهو رأي الكوفيين والأخفش. الثالث أنه وَنادَيْناهُ والواو زائدة أيضا. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي باللطف والعناية والنداء والوحي والفرج بعد الشدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 106]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختيار البيّن الذي يتميز فيه المخلص من غيره. إشارة إلى أن هذا الأمر كان ابتلاء وامتحانا لإبراهيم في صدق الخلة لله، وتضحية أعز عزيز لديه، وأحب محبوب عنده، لأمر ربه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 107]
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي رزقناه ما يذبح بدلا عنه وفداء له، منة وتطولا. وقد روي أنه عليه السلام لما نودي، حانت منه التفاتة إلى ما حوله، فأبصر كبشا قد انتشب قرناه في شجرة. فتم به المرئي في المنام المقصود به القربان لله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 108 الى 113]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ أي مثل ما تركنا على نوح. كما تقدم بيانه وإعرابه كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم وَعَلى إِسْحاقَ أي: بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم، وجعلهم ملوكا، وإيتائهم ما لم يؤت أحد وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي في علمه وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بالكفر والمعاصي مُبِينٌ أي ظاهر الظلم.(8/219)
تنبيهات:
الأول- يروي المفسرون هاهنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصحّ سندها ولا متنها: بل ولم تحسن، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّي وكعب. والسّدّي حاله معلوم في ضعف مروياته. وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما: فربما استمع له عمر. فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده. انتهى.
ولقد صدق رحمه الله. ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروريّ له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به. وقد ولع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكرا أيضا أو موضوعا. ولما صنفت مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار. وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه. وأمثل ما
روي في هذا النبأ من الآثار ما أخرجه الإمام أحمد «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة. فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تلّه للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض. فقال له: يا أبت! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه. فعالجه ليخلصه، فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول. واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاة.
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 297. والحديث رقم 7 ر 27. [.....](8/220)
ثم قال السيوطيّ: فسّر الذّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل. انتهى.
الثالث- استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه- كما ذكره الرازي- وذلك في باب الابتلاء. أي ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع- يذكر كثير الخلاف في الذبيح، قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) :
وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم. فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره) . وفي لفظ (وحيده) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده. والذي غرّ وأصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم (اذبح ابنك إسحاق) قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم. لأنهم تناقض قوله (بكرك) (وحيدك) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب. ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 70- 71] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه. ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة. فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه. فإن قيل، لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجرورا عطفا على إسحاق، فكانت القراءة وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي ويعقوب من وراء إسحاق.
قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به. لأن البشارة قول مخصوص: وهي أول خبر سارّ صادق. وقوله: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية. أو لما كانت البشارة قولا، كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول. كأن المعنى: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال: بشرت فلانا بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعا. هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة. ثم يضعف الجر(8/221)
أمر آخر، وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور: كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات: 103- 111] ، ثم قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] ، فهذا بشارة من الله له، شكرا على صبره على ما أمر به. وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول. بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته. أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله، جازاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة. قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده وأن يكون نبيّا. ولهذا ينصب نَبِيًّا على الحال المقدر أي مقدرا نبوته. فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة. هذا محال من الكلام. بل إذا وقع البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى، وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر. كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله. ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحاق وأمه. ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل. وكان النحر بمكة، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا. ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه. ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
[الذاريات:
24- 25] إلى أن قال قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] ، وهذا إسحاق بلا ريب، لأنه من امرأته وهي المبشرة به. وأما إسماعيل فمن السرية. وأيضا فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد. وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك. وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده. وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا. والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا(8/222)
يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل، فأمره الجليل بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة. إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختيار. إنما حصل عند أول مولود.
ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور. وأيضا فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة. فإنها كانت جارية. فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة. فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته. فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها. فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها. وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتا، هذه وابنها منهم، ويرى عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة. وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم، إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة. وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره. قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5] ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] ، انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بقوله تعالى بعد وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الصافات: 112] ، من قال إن الذبيح إسماعيل. وهو الذي رجحه جماعة. واحتجوا له بأدلة. منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده. والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق. وغير ذلك، وهي أمور ظنية لا قطعية، ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه- ولم أر من سبقني إلى استنباطه- وهو أن البشارة وقعت مرتين. مرة في قوله تعالى: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي(8/223)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
أَذْبَحُكَ
[الصافات: 99- 102] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح. ومرة في قوله: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] الآية. فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق. ولم يكن بسؤال من إبراهيم. بل قالت امرأته إنها عجوز. وإنه شيخ. وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره. أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله. فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين. أحدهما بغير سؤال، وهو إسحاق صريحا. والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره. فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 114]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أي بالنبوة والرسالة، والاصطفاء على عالمي زمانهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 115]
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو قهر فرعون لهم، بذبح الأولاد ونهاية الاستعباد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 116]
وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)
وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي مع ضعفهم وقوة فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 117]
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي البليغ في بيانه للأحكام والتشريعات، والآداب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 118]
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي في باب الاعتقاد والمعاملات الموصل(8/224)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
رعايته والسلوك عليه، إلى السعادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 119 الى 123]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وهو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان. أرسله الله لما انتشرت الوثنية في الإسرائيليين، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى، ونبذوا أحكام التوراة ظهريا. فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم ويدعوهم إلى التوحيد، ويسمى في التوراة (إيليا) وله نبأ فيها كبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 124]
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124)
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي عذاب الله ونقمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 125]
أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي تعبدونه أو تطلبون الخير منه؟ وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة، يعظمون من شأنهم ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة. ويقدمون لهم ضحايا بشرية وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي تتركون عبادته. قال القاضي: وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار، المعني بالهمزة. ثم صرح به بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 126 الى 127]
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب.(8/225)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 128 الى 130]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين آمنوا به واتبعوه وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة ب (ياسين) . وقرئ آل ياسين بإضافة آل (بمعنى أهل) إليه. وكله من التصرف في العلم الأصلي، الذي هو (إيليا) على قاعدة العرب في الأعلام العجمية، إذا أرادت أن تلفظها في الاستعمال، وتخففها على الألسنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 131 الى 134]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي للدعاء إلى الله والنهي عن الفواحش إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أي من عذاب قومه المنذرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 135]
إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135)
إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته، فإنها وإن خرجت عن مكان عذابهم، كانت فِي الْغابِرِينَ أي في حكم الباقين في العذاب، لكونها على دين قومها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 136]
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أي أهلكنا الْآخَرِينَ
بجعل قريتهم عاليها سافلها، وإمطار حجارة من سجيل عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 137 الى 139]
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)(8/226)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
وَإِنَّكُمْ
أي يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ
أي فترون دائما علامات مؤاخذتهم أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أي إلى أهل نينوى للتوحيد، والزجر عن ارتكاب المآثم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 140]
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
إِذْ أَبَقَ
أي: بغير إذن ربه عن قومه المرسل إليهم إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
أي السفينة المملوءة، ليركب منها إلى بلد آخر. روي أنه نزل من يافا وركب الفلك إلى ترسيس. فهبت ريح شديدة كادت تغرقهم. فاقترعوا ليعلموا بسبب من، أصابهم هذا البلاء. فوقعت على يونس. فألقوه في البحر. وهو معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 141]
فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
فَساهَمَ
أي قارع فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي المغلوبين بالقرعة. وأصله الزلق عن الظفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 142]
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه من السفر بغير أمر ربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 143]
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي الذاكرين الله بالتسبيح والإنابة والتوبة، في بطن الحوت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 144]
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي لكان بطنه قبرا له إلى يوم القيامة. أي لكن رحمناه بتسبيحه.(8/227)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 145]
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي حملنا الحوت على طرحه باليبس من الشط وَهُوَ سَقِيمٌ أي مما ناله من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 146]
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي لتقيه من الذباب والشمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 147]
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
وَأَرْسَلْناهُ أي بعد ذلك، بأن أمرناه ثانية بالذهاب إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وهم قومه المرسل إليهم، الذين أبق عن الذهاب إليهم أولا. و (أو) للإضراب. أو بمعنى الواو أو للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر. أي إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 148]
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
فَآمَنُوا أي فسار إليهم ودعاهم إلى الله، وأنذرهم عذابه إن يرجعوا عن الكفر والغي والضلال والفساد والإفساد. فأشفقوا من إنذاره واستكانوا لدعوته وآمنوا معه فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني والمقام الأمين، ببركة الإيمان والعمل الصالح. وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إلخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 149]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
فَاسْتَفْتِهِمْ أي قريشا المنذرين بأنباء الرسل وقومهم أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ(8/228)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
أي سلهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها. جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، في قولهم (الملائكة بنات الله) مع كراهتهم الشديدة لهنّ، ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 150]
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون، حتى فاهوا بتلك العظيمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 151 الى 152]
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152)
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي صدر منه الولد. مع أن الولادة من خواص الأجسام القابلة للفساد وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في مقالتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 153]
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
أَصْطَفَى الْبَناتِ أي اختار الإناث عَلَى الْبَنِينَ أي الذكور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 154]
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
ما لَكُمْ أي: أيّ شيء عرض لعقولكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ بنسبة الناقص إلى المقام الأعلى، وتخيّركم الكامل.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: قال قلت: أَصْطَفَى الْبَناتِ بفتح الهمزة، استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد، فكيف صحت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟
قلت: جعله من كلام الكفرة، بدلا عن قولهم وَلَدَ اللَّهُ وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما. وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة.
والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها. وذلك قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فمن جعلها للإثبات، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين. انتهى.(8/229)
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 155]
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155)
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أنه منزه عن ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 156]
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي حجة واضحة وبرهان قاطع. ثم لا يجوز أن يكون ذلك عقليا، لاستحالته عند الفعل. فغايته أن يكون مأثورا عن أسفار مقدسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 157]
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
أي المسطور فيه ذلك عن وحي سماوي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
أي في دعواكم. وهذا كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] ، وفيه إشعار بأن المدار في الدعوى على البرهان البين. وأنها بدونه لا يقام لها وزن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 158]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي قربا منه. قال مجاهد: قال المشركون:
الملائكة بنات الله تعالى. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سروات الجن. وكذا قال قتادة وابن زيد. ثم أشار إلى أن لا نسبة تقتضي النسب بوجه ما. عدا عن استحالة ذلك عقلا، بقوله: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي المنسوب إليهم هذا النسب إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في النار يوم القيامة. لكون الجنة كالجن، علما في الأغلب للفرقة الفاسقة عن أمر ربها من عالم الشياطين. أي: فالمنسوب إليهم يتبرؤون من هذه النسبة، لما يعلمون من أنفسهم أنهم من أهل السعير، لا من عالم الأرواح الطاهرة، فما بال هؤلاء المشركين يهرفون بما لا يعرفون؟ وفسر بعضهم (الجنة) بالملائكة المحدّث عنها قبل. والضمير في (إنهم) للكفرة. ولعل ما ذكرناه أولى، لخلوّه عن تشتيت الضمائر، ولموافقته للأغلب من استعمال الجن والجنة.(8/230)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
وذلك فيما عدا الملائكة. وقلنا (الأغلب) لما سمع من إطلاق الجن في الملائكة.
قال الأعشى يذكر سليمان عليه السلام:
وسخّر من جنّ الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون محاربا
وقال الراغب: الجن يقال على وجهين: أحدهما للروحانيين المستترة عن الحواس كلها، بإزاء الإنس. فعلى هذا تدخل فيه الملائكة. وقيل: بل الجن بعض الروحانيين. وذلك أن الروحانيين ثلاثة: أخيار وهم الملائكة. وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجن، ويدل على ذلك قوله تعالى:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] إلى قوله تعالى: وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الجن: 14] . انتهى.
وردّ إطلاق الجن على الملائكة العلامة الفاسي في شرحه على (القاموس) فقال: تفسير الجن بالملائكة مردود. إذ خلق الملائكة من نور لا من نار كالجن.
والملائكة معصومون. ولا يتناسلون ولا يتّصفون بذكورة وأنوثة، بخلاف الجن.
ولهذا قال الجماهير: الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ، منقطع أو متصل. لكونه كان مغمورا فيهم، متخلقا بأخلاقهم. انتهى. وهو يؤيد ما ذهبنا إليه. وبيت الأعشى لا يصلح حجة، لفساد مصداقه. لأن سليمان لم تسخّر الملائكة لتشيد له المباني. وليس ذلك من عملهم عليهم السلام. وقد مر الكلام على ذلك في تفسير سورة (سبأ) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 159]
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي من الولد والنسب. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 160]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء من (المحضرين) الذين هم الجنة، متصل على القول الأول، أي المؤمنين منهم. ومنقطع على الثاني. أو استثناء منقطع من (واو) يصفون. هذا، وبقي وجه في الآية لم يذكروه. وهو أن يراد بالنسب المناسبة والمشاكلة في العبادة. ويراد بالجنة الملائكة. ويكون المراد من الآية الإخبار عمن(8/231)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
عبد الملائكة من العرب وجعلوهم ندا ومثلا له تعالى، وحكاية لضلال آخر لهم، غير ضلال دعواهم، أنهم بنات الله سبحانه، من عبادتهم له. مع أنهم عليهم السلام يعلمون أن هؤلاء الضالين محضرون في العذاب. والآية في هذا كآية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40- 41] ، وكان السياق من هنا إلى آخر، كالسياق في طليعة السورة. كله في تقرير عبودية الملائكة له تعالى، وكونها من مخلوقاته الصافّة لعبادته، فإنّى تستحق الربوبية؟ والله أعلم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 161]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161)
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ عود إلى خطابهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 162]
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162)
ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أي مفسدين أحدا بالإغواء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 163]
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي ضالّ مثلكم. مستوجب للنار، قال ابن جرير:
يقول تعالى ذكره: فإنكم أيها المشركون بالله وَما تَعْبُدُونَ من الآلهة والأوثان ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أي ما أنتم على ما تعبدون من دون الله بمضلين أحدا، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي من سبق في علمي أنه صال الجحيم. وقد قيل: إن معنى (عليه) به. انتهى.
ثم بين تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية، للرد على عبدتهم، بقوله حاكيا عنهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 164]
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164)
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي في العبودية وتسخيره فيما يريده تعالى منه. لا(8/232)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
يتعدى فيه طوره، ولا يجاوز منه قدره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 165]
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة التي نؤمر بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 166]
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون الله عما يصفه به الملحدون. أو المصلون له خشوعا لعظمته، وتواضعا لجلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 167]
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167)
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي مشركو قريش.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 168]
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من الكتب التي نزلت عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 169]
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة له. فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو أهدى الكتب والمعجز من بينها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 170]
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم. وهذا كقوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: 42] . وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى(8/233)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها
[الأنعام: 156- 157] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 171]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي وعدنا لهم الأزليّ، وهو:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 172 الى 173]
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا أي الرسل ومن آمن معهم هُمُ الْغالِبُونَ
أي الظاهرون على أعدائهم، والمالكون لنواصيهم كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 174]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم إعراض الصفوح الحليم عمن ينال منه. كقوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: 48] ، وقوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] ، حَتَّى حِينٍ أي إلى استقرار النصر لك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 175]
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
وَأَبْصِرْهُمْ أي بصرهم وعرفهم عاقبة البغي والكفر، وما نزل بمن أنذر قبلهم، أو أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتك إياهم بالقرآن والوحي. فإن لم يبصروا الآن، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي ما قضينا لك من التأييد والنصرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 176]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي قبل حلول أجله، وإنه لآت، لأنه يوم الفتح الموعود به.(8/234)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 177]
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أي بقربهم وفنائهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس الصباح صباح من أنذرتهم بالرسل فلم يؤمنوا. لأنه يوم هلاكهم ودمارهم. قال الزمخشريّ: مثّل العذاب النازل بهم، بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره، ولا أخذوا أهبتهم، ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحا. فسميت الغارة (صباحا) وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل. انتهى. أي فهي استعارة تمثيلية. أو في الضمير استعارة مكنية، والنزول تخييلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : الآيات 178 الى 179]
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قال الزمخشريّ: إنما ثنى ذلك ليكون تسلية علي تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد. وفيه فائدة زائدة. وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول. وإنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به من الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة. وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 180]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي المنعة والقدرة والغلبة عَمَّا يَصِفُونَ أي من الشريك والولد ونحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 181]
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي سلام وأمان وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم.(8/235)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الصافات (37) : آية 182]
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على نعمه، التي أجلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا، وإصلاح الأولى والأخرى.
فوائد في خواتم هذه السورة:
الأولى- روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال: كانوا لا يصفّون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فصفوا. وقال أبو نضرة: كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم، استقيموا قياما، يريد الله بكم هدى الملائكة. ثم يقول: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخّر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم «1» عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. وجعلت لنا الأرض مسجدا. وتربتها لنا طهورا.
الثانية-
روى الشيخان «2» عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر. فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله! محمد والخميس. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: الله أكبر خربت خيبر (إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
. دلّ تمثله صلى الله عليه وسلّم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا، أولا وبالذات.
الثالثة- قال ابن كثير: لما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص، بدلالة المطابقة. ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص- قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن. ولهذا قال تبارك وتعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات.
الرابعة-
روى ابن حاتم عن الشعبيّ مرسلا: من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى
__________
(1) أخرجه في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 4.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، 6- باب ما يحقن بالأذان من الدماء، حديث 246.
وأخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم 87.(8/236)
من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، حين يريد أن يقوم: سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات.
وروي أيضا عن عليّ موقوفا.
وأخرج الطبرانيّ عن زيد بن أرقم مرفوعا: من قال دبر كل صلاة سُبْحانَ رَبِّكَ الآيات، ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر.
وقد بيّن الرازيّ أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العالية.
فارجع إليه.(8/237)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة ص
مكية. وقيل: مدنية وضعّف وآياتها ثمان وثمانون.(8/238)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
ص بالسكون على الوقف. وقرئ بالكسر والفتح. اسم للسورة، على القول المتجه عندنا فيه وفي نظائره. لما قدمنا غير ما مرة. وقيل: قسم رمزي، وإليه نحا المهايميّ. قال: أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب، الدال على الصدق في دعوى النبوّة. أو بصفائه عن رذائل الأخلاق وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب. أو بصعوده في مدارج الكمالات، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله- أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسوله. انتهى.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي الشرف الدال على حقيقته وصدقه. أو التذكير، كآية لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] ، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه. أي إنه لحق. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 2]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي كبر وَشِقاقٍ أي عداوة للحق والإذعان له.
إضراب عما قبله. كأنه قيل: لا ريب فيه قطعا. وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريب ممّا فيه. بل هم في حميّة جاهلية وشقاق بعيد لله ولرسوله. ولذلك لا يذعنون له. وقيل: الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية. أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 3]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)(8/239)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي لكبرهم عن الحق، ومعاداتهم لأهله فَنادَوْا أي فدعوا واستغاثوا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي وليس الحين حين فرار ومهرب ومنجاة. والكلام على (لات) وأصلها وعملها والوقف عليها، ووصل التاء بها أو فصلها عنها، مبسوط في مطولات العربية، وفي معظم التفاسير هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 4 الى 5]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ أي رسول مِنْهُمْ أي من أنفسهم. يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي بليغ في العجب. وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم، ورسوخه في أعماق قلوبهم. ومضي قرون عديدة عليه، وإلفهم به وأنسهم له، حتى ران على قلوبهم، وغشي على أبصارهم، ونسي باب النظر والاستدلال. بل محي بالكلية من بينهم.
وصار عندهم من أبطل الباطل وأمحل المحال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 6]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي الأشراف من قريش يحضون بعضهم على التمسك بالوثنية، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين أَنِ امْشُوا أي في طريق آبائكم وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا وتفنيد مزاعمنا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ تعليل للأمر بالصبر. أي يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة. أي يريده محمد من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان.
أو المعنى: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا. أي بنا. فلا انفكاك لنا عنه.
وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 7]
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى. لأنهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا(8/240)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي ما هذا التوحيد إلا فرية محضة، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 8]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رئاسة. قال الزمخشريّ: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي إضراب عن مقدّر. أي: إنكارهم للذكر ليس عن علم، بل هم في شك منه. يقولون في أنفسهم:
إمّا وإمّا بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي على الإنكار. فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد، وصدّقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين.
قال الناصر في (الانتصاف) : ويؤخذ منه أن (لما) لائقة بالجواب. وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده. كما يقول سيبويه. وفرق بينها وبين (لم) بأن (لم) نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته (قد) . و (لما) نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته (قد) .
وقال: وإنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام: الشفعة فيما لم يقسم. فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة. فقيل لي: إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة. فإما لأنها لا تقبل قسمة. وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة (لم) ومقتضاها، قبول المحل الفعل المنفيّ وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم. ولو قلت: الحجر لم يتكلم. لكان ركيكا من القول، لإفهامه قبوله للكلام.
انتهى. وهو لطيف جيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 9]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي حتى يتخيروا للنبوة ما تهوى أنفسهم. كلا وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] .(8/241)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 10]
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية.
روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال: الأسباب أدق من الشعر وأشدّ من الحديد. وهو بكل مكان. غير أنه لا يرى. انتهى.
وهذا البيان ينطبق على ما يعرّف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة. فتأمل.
ثم قال ابن جرير: وأصل السبب عند العرب، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة، أو رحم أو قرابة أو طريق أو محجة، وغير ذلك. انتهى.
وقال المهايميّ: أي فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش، ليستووا عليه، فيدبروا العالم وينزلوا الوحي على من شاءوا. وأنّى لهم ذلك؟؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 11]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)
جُنْدٌ ما أي هم جند حقير هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك. وأولئك قد قهروا وأهلكوا. وكذا هؤلاء. فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون. وهُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، فهو مجاز. وجوز أن يكون حقيقة، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة. قال قتادة: وعده الله وهو بمكة يومئذ، أنه سيهزم جندا من المشركين. فجاء تأويلها يوم بدر. وقال ابن كثير: هذه الآية كقوله جلت عظمته أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 44- 45] .
وكان ذلك يوم بدر. وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله: جُنْدٌ يجوز فيه وجهان: أحدهما- وهو الظاهر- أنه خبر مبتدأ. أي هم جند. وما فيها وجهان، أحدهما- أنها مزيدة. والثاني أنها صفة ل (جند) على سبيل التعظيم، للهزء بهم، أو للتحقير. فإن (ما) إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين.(8/242)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
وهُنالِكَ يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها- أن يكون خبرا ل (جند) و (ما) مزيدة ومَهْزُومٌ نعت ل (جند) . الثاني- أن يكون صفة ل (جند) . الثالث- أن يكون منصوبا ب (مهزوم) . ومَهْزُومٌ يجوز فيه أيضا وجهان: أحدهما- أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر، والثاني أنه صفة ل (جند) . وهُنالِكَ مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة، وهو مكة. أي سيهزمون بمكة. وهو إخبار بالغيب. وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام. وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك. الثاني من الوجهين الأولين أن يكون (جند) مبتدأ و (ما) مزيدة وهُنالِكَ نعت ومَهْزُومٌ خبره. وفيه بعد، لتفلّته عن الكلام الذي قبله. انتهى.
فائدة:
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل. فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل. ويقول ويقول. فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه. فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. قال فخشي أبو جهل لعنه الله. إن جلس إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس. ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه. فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال، وأكثروا عليه من القول.
وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها. تدين لهم بها العرب. وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم:
كلمة واحدة؟ نعم، وأبيك عشرا. فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ونزلت الآية. رواه ابن جرير والإمام أحمد والنسائيّ، والترمذيّ
وحسّنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 12]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وهم قوم هود وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي الملك الثابت. وأصله البيت المطنّب، أي المربوطة أطنابه- أي حباله- بأوتاده. استعير للملك استعارة تصريحية. وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه. أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت أقيم عموده وثبتت أوتاده. على(8/243)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
طريق الاستعارة المكنية. وأثبت له ما هو من خواصه تخييلا، وهو قوله: ذُو الْأَوْتادِ فإنه لازم له. أو هو كناية. حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم وهو الملك الثابت. وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
أو المعنى: ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا، كالوتد يشد البناء. فالاستعارة تصريحية في الأوتاد. أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند.
أو هو على حقيقته والمراد المباني العظيمة والهياكل الثابتة الفخيمة. واللفظ صادق في الكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 13]
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13)
وَثَمُودُ وهم قوم صالح وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الغيضة، وهم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الكفار المتحزبون على رسلهم، الذين جعل الجند المهزوم منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 14]
إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي فوجبت عليهم عقوبتي. قال الشهاب: إِنْ نافية وكُلٌّ محذوف الخبر. والتفريغ من أعمّ العام. أي ما كل أحد مخبر عنه بشيء، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل، لأن الرسل يصدق كلّ منهم الكل. فتكذيب واحد منه تكذيب للكل. أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع. فيكون كل كذب رسوله. أو الحصر مبالغة. كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه، بمنزلة العدم. فهم غالون فيه. انتهى.
وقال الزمخشريّ: وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا، والاستثنائية ثانيا. وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص- أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه.
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير. وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد(8/244)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلى قوله تعالى: فَحَقَّ عِقابِ على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام. وهو كما قدمته في قوله: وَكُذِّبَ مُوسى [الحج: 44] ، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ [الحج: 44] . انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 15]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي أهل مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال: صاح الزمان بهم، إذا هلكوا. كما قال:
صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خرّوا لشدّتها على الأذقان
وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم ما لَها مِنْ فَواقٍ أي من توقف مقدار فواق. وهو ما بين الحلبتين. أو رجوع وترداد. فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ف (فواق) إما بحذف مضافين أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه.
وقرئ بالضم. وهما لغتان. وقيل: المفتوح اسم مصدر من (أفاق المريض) إفاقة وفاقة، إذا رجع إلى الصحة. والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 16]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته. كقوله تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الحج: 47] و [العنكبوت: 53 و 54] ، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي الجزاء. وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية. كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 17]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي فقد وعدت بالنصر والظفر والملك والتأييد، كما أوتي داود عليه السلام، مما سارت به الأمثال ولذا قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي: القوة. أي: الاجتهاد في أداء الأمانة والتشدد في القيام بالدعوة ومجانبة إظهار الضعف والوهن إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجّاع إليه تعالى بالإنابة والخشية والعبادة والصيام.(8/245)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي تبعا لتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي مجموعة عنده يسبحن معه كُلٌّ لَهُ أي لله تعالى أَوَّابٌ أي مطيع منقاد. يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.
قال ابن كثير: أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] ، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه، وتسبح تبعا له. انتهى. أي بأن خلق فيها حياة ونطقا.
أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دويّ في الجبال. وحنين من الطيور إليه، وترجيع. وقد عهد من الطير القمريّ أنه ينتظر سكتة المصوّت والقارئ بصوت حسن أو المنشد، فيجيبه، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 20]
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بوفرة العدد والعدد ونفوذ السلطة وإمداده بالتأييد والنصر وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي النبوة أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال والحضّ على الآداب ومكارم الأخلاق. وكان زبوره عليه السلام، كله حكما غررا وَفَصْلَ الْخِطابِ أي فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، ورفع الشبه، وإقامة الدلائل. وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، ولا يخالفه أحد من أقاربه ولا من الأجانب. ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك، ما قصه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 21]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي ولجوه. و (المحراب) مقدم كل بيت وأشرفه.(8/246)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 22]
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ أي منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن خَصْمانِ أي شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بما يطابق أمر الله وَلا تُشْطِطْ أي ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي بحيث لا تميل عن الحق أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 23]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ أي فلم ينظر إلى غناه عنها، ولا إلى افتقاري إليها، بل أراد التغلب عليّ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي: ملكنيها. بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي نصيبي: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في المكالمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 24 الى 25]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قالَ أي داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها إِلى نِعاجِهِ أي مع استغنائه عن هذا الضم وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شؤونهم لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بغي الأعداء. مع أن واجب حقهم النصفة على الأقل. إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي فإنهم لا يبغون وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وهم قليل. و (ما) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير (قليل) وزيادة (ما) الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه. فكأنه قيل: ما أقلهم.(8/247)
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع. فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس. وروّح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟. وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونوا فيه الفصول، ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه بتلك الحكومة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربا وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجعا حسنا وكرامة، في الآخرة.
تنبيهات:
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألمّ به داود عليه السلام ثم غفر له، ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار لها بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه.
وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة، فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته، ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخرّ ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدّيّ وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشيّ وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.(8/248)
أقول: أما المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيها، فلم يأت من طريق صحيح، وأما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعوّلهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكى عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ.
كما فصّل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة. وابن الطيّب الباقلانيّ من الأشعرية، ومن اتبعه. وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردّا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في (الفصل) وعبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قوله صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود. وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم، بلا شك، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهما على الآخر على نصّ الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرّضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عزّ وجلّ، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذّب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذّب الملائكة. لأن الله تعالى يقول:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان، ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجرّدة. وتالله! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرّض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها.
وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوّكين الفسّاق المتمردين. لا أفعال أهل البرّ والتقوى. فكيف برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزّهه الله عزّ وجلّ عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدا، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبيّ. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبيّ يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض.
والملائكة كما قال الله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7] .
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وقوله تعالى: فَغَفَرْنا(8/249)
لَهُ ذلِكَ
فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عزّ وجلّ من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في (تفسيره) : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام. لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام. وذكرها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه صلّى الله عليه وسلم، فدفعه بقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم، لا بامرأة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.
وقال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات.
ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشيّ عن أنس رضي الله عنه. ويزيد، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يردّ علمها إلى الله عزّ وجلّ. فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قصة داود عليه السلام، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الأخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، ونقله بعض المفسرين. ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح.
والذي نص الله عليه قوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ وقوله فيه أَوَّابٌ فمعنى فَتَنَّاهُ أي اختبرناه. وأَوَّابٌ قال قتادة: مطيع.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.(8/250)
وهذا التفسير أولى. قال ابن عباس وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك وأكفلنيها.. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا، وهذا هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته، وقيل بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقنديّ أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لَقَدْ ظَلَمَكَ فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك- ذهب أحمد بن نصر وأبو تمام، وغيرهما من المحققين. قال الداوديّ: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه (الجواب الكافي) في مباحث العشق: وقد أرشد صلّى الله عليه وسلّم المتحابين إلى النكاح. كما
في سنن ابن ماجة «1» مرفوعا: لم ير للمتحابّين مثل النكاح
. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تداوى نبيّ الله داود صلى الله عليه وسلّم ولم يرتكب نبيّ الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلوّ مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا بتمامها. وهو من الأقوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعدّ داود ملكا حكيما، لا نبيا، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبيّ يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور- فدعوى مردودة من وجوه: منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إثبات أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم. ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام. ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب، أو هي إليه، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب، كما أخبر الله تعالى عنه، فليتأمل ذلك. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، 1- باب ما جاء في فضل النكاح، حديث 1847..(8/251)
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدّث بنبإ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذّب المحدّث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يلتمس خلافها. وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيّه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام، أحبّ إلى مما طلعت عليه الشمس. نقله الزمخشري.
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، داود وغيره، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى، انتهى.
التنبيه الثاني- قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في المسجد (أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصّا في محراب المسجد) والتلطف في ردّ الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرّض به، كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه، من أن يباده به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد، إذا وجدت منه هنة منكرة، بأن يعرّض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكي له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.
الثالث- قال ابن مسعود في قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني.
أخرجه ابن أبي حاتم. ففيه جواز إطلاق (الأخ) على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ على جواز الشركة. أفاده في (الإكليل) .
الرابع- قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود. لأنه، لإفضائه إليه، جعل كالسبب، ثم تجوّز به عنه. أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.(8/252)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
الخامس- قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزائم، بل هي سجدة شكر، لما
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد فيها، رواه أحمد والبخاري «1» وأصحاب السنن.
وعنه أنه قال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا، تفرد به النسائي «2» .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود. فقال صلّى الله عليه وسلم:
إنما هي توبة نبيّ. ولكن رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد. تفرّد به أبو داود «3» .
وإسناده على شرط الصحيح، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها، ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس، من الميل إلى مال أو جاه أو قريب أو صاحب فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي صراطه الموصل إلى الكمالات، كحفظ المملكة والنصر على الأعداء، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
تنبيه:
في الآية بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء أو سبب يقتضي الميل. واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله. كذا في (الإكليل) .
__________
(1) أخرجه البخاري في: سجود القرآن، 3- باب سجدة ص، حديث 589.
(2) أخرجه في: الافتتاح، 48- باب سجود القرآن، السجود في ص.
(3) أخرجه في: السجود، 5- باب السجود في ص، حديث رقم 1410.(8/253)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
وقال ابن كثير: هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى. ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله. وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؟ أقول؟ قال: قل في أمان. قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة. ثم توعده في كتابه قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ الآية.
وقال الرازي: اعلم أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع. لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة. حتى هذا يحرث وذاك يطحن وذلك يخبز وذلك ينسج والآخر يخيط. وبالجملة، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهمّ. وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدنيّ بالطبع. وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ويفصل تلك الحكومات. وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل. فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس. ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس. إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق. فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه. وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق.
وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك. أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية، انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه: فهذا هو المراد من قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق. فكن أنت ذلك. ثم قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب. فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 27]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي خلقا باطلا، لا حكمة فيه. أو(8/254)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
مبطلين عابثين، كقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 38- 39] . وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات والعبادات والمعاملات ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ولذا أنكروا البعث والجزاء على الأعمال، وأخذوا يصدّون عن سبيل الله ويبغون في الأرض الفساد.
قال الزمخشري: ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها. ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره. فكان إقراره بكونه خالقا، كلا إقرار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 28]
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قال المهايمي:
أي: أنترك البعث بالكلية، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب. وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء، كالمفسدين، بصرف العقل والأعضاء إلى الغير ما خلقت له؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ أي مخالفة أمر الله رعاية لمحبته كَالْفُجَّارِ أي الذين يخالفون أوامر الله، ولا يبالون بعداوته. أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله.
قال ابن كثير: وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة، على أنه لا بدّ من معاد وجزاء. فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك. ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده. فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 29]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي كثير الخير لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ قال المهايمي:
أي لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها. فيستخرجوا منها علوما بطريق الاستدلال.(8/255)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
وقال الزمخشري: تدبر الآيات: التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ لم يحل منه بكثير طائل. وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله.
حفظوا حروفه وضيعوا حدوده. حتى إن أحدهم ليقول: والله! لقد قراءات القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد، الله! أسقطه كله. ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله! ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. والله! ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 30]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالتوبة والإنابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 31]
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ أي من الخيل، جمع (صافن) وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، الْجِيادُ جمع (جواد) وهو الذي يسرع في جريه أو بمعنى الحسان جمع (جيّد) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 32]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32)
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي آثرته عليه. عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس. وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه، وذِكْرِ رَبِّي إما مضاف لفاعله أو لمفعوله.
قال الزمخشريّ: و (الخير) المال كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] ، وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] ، والمال: الخيل التي شغلته، أو(8/256)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
سمي الخيل خيرا كأنها نفس الخير، لتعلق الخير بها.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة
،
وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: ما وصف لي رجل فرأيته، إلا كان دون ما بلغني، إلا زيد الخيل
، وسماه زيد الخير، وسأل رجل بلالا رضي الله عنه عن قوم يستبقون، من السابق؟ فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي غربت الشمس. متعلق بقوله تعالى: أَحْبَبْتُ وفيه استعارة تصريحية أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء، أو ملك. وباء بِالْحِجابِ للظرفيّة، أو الاستعانة أو الملابسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 33]
رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)
رُدُّوها عَلَيَّ يعني الصافنات. وهذا من مقول القول، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فجعل يمسح مسحا، أي يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني يقطعها.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا، كما شغل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب. وذلك ثابت في الصحيحين «2» من غير وجه. ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو، والقتال. والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود. كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح (تستر) وهو منقول عن مكحول والأوزاعيّ وغيرهما، والأول أقرب. لأنه قال بعد رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قال
__________
(1) أخرجه البخاري في: المناقب، 28- باب حدثني محمد بن المثنى، حديث رقم 1368، عن أنس.
(2) أخرجه البخاري في: المغازي، 29- باب غزوة الخندق، حديث رقم 1400، عن علي.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 202.(8/257)
الحسن البصري: قال: لا، والله! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذلك قال قتادة.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبّا لها. وهذا القول اختاره ابن جرير. قال: لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح ابن جرير، فيه نظر، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة. ولهذا لما خرج عنها لله تعالى، عوضه الله عزّ وجلّ ما هو خير منها.
وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوّها شهر ورواحها شهر. فهذا أسرع وخير من الخيل،
روى الأمام أحمد «1» عن ابن قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي، أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجل يعلمني مما علمه الله عزّ وجلّ. وقال: إنك لا تدع سببا اتقاء الله تعالى، إلا أعطاك الله عزّ جلّ خيرا منه.
انتهى ما ذكره ابن كثير.
وقال القاشانيّ: أي طفق يمسح السيف بسوقها، يعرقب بعضها وينحر بعضها، كسرا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها، وقمعا لسورتها وقواها، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق، واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه، قال: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم. كما أنه كذلك في دين الإسلام. ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتي توارت بالحجاب أي غابت عن بصره. ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول تشريفا لها وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ.
والثاني- أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 78.(8/258)
الثالث- أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها. فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
وقال: فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا.
ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات.
قال: وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة. مع أن العقل والنقل يردها. وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة فإن قيل: إن الجمهور فسّروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟ فنقول: لنا هاهنا مقامان:
المقام الأول- أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها. وقد ظهر، والحمد لله، أن الأمر كما ذكرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
المقام الثاني- أن يقال: هب أن لفظ الآية لا يدل عليه، إلا أنه كلام ذكره الناس. فما قولك فيه؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام. ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم؟
والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وسبقه ابن حزم حيث قال: تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة. خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة. قد جمعت أفانين من القول، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبيّ مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها. وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير. من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها. ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده، برّا بها وإكراما لها، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره. وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة. وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين. فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم. لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه. إلا أن له الهيمنة عليه. فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه، يوقف عنده ولا يتجاوز. وحينئذ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها، إذ لا تقبل على علّاتها. وقوله تعالى:(8/259)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 34]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي ابتليناه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما مجسدا كناية عن صنم- على ما رووه- وإنما أوثر الجسد عليه- إجلالا لسليمان عليه السلام، وإشارة إلى أن قصته- إن صحت- كانت أمرا عرض وزال، بدليل قوله تعالى: ثُمَّ أَنابَ أي إلى ربه بالتوبة والاستغفار، كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي غيري، لفخامته وعظمته، هبة فضل وإيثار امتنان إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 36]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أي لينة سهلة، مع شدة وقوة، ولذا وصفت في الآية الأخرى ب عاصِفَةً حَيْثُ أَصابَ أي أراد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 37]
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي في قعر البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 38]
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 39]
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أي على من شئت من المقرنين وغيرهم أَوْ أَمْسِكْ أي(8/260)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
امنع بِغَيْرِ حِسابٍ أي غير محاسب على المنّ والإمساك، فيكون حالا من المستكن، أو هو حال من العطاء، أو صلة له، وما بينهما اعتراض. والمعنى: إنه عطاء جمّ لا يكاد يمكن حصره. فقد يعبر عن الكثير ب (لا يعدّ) و (لا يحسب) ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 40]
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربى في الدرجات، ووَ حُسْنَ مَآبٍ أي مرجع في الآخرة.
تنبيه:
روى الأثريّون هاهنا قصصا مطولة ومختصرة، مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير:
وكلها متلقاة من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في سياقها منكرات. وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي- لا عبرة له. فليس المقام قاصرا على صحة السند فحسب، لو كان ذلك في الصحيحين، فإنّى بمروي غيرهما؟؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات، وقد ساقها فانظرها.
وقال الإمام ابن جزم: معنى قوله تعالى: فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته، كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه السلام في قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء وقال تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت:
1- 3] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط. وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم. وأما الجسد الملقى على كرسيّه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد. نؤمن بهذا كما هو، ونقول (صدق الله عز وجل، كل من عند الله ربنا) ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتفسير هذا الجسد ما هو، لقلنا به، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح. فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك، فيكون كاذبا على الله عزّ وجلّ، إلا أننا لا نشك(8/261)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
البتّة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب.
والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا الهتك، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولدا له، أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عزّ وجلّ بنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة، لم يصح إسنادها قط. انتهى.
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان، هي من موضوعات حكماء اليهود، كسائر ما وضعت الحكاء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان.
ثم أخذ القاشاني في تأويلها، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه، عفا الله عنه، وقال قبل: إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، انتهى والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 41]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41)
وَاذْكُرْ أي في باب الابتلاء وحسن عاقبة الصبر عليه عَبْدَنا أي الكامل في التحقق بالعبودية أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعاه وابتهل إليه قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ أي أصابني الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي مشقة (بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما) وَعَذابٍ أي ألم شديد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 42]
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام. أي: فاستجبنا له وقلنا: اركض برجلك. أي أعد بها وامش، فقد برأت وشفيت من مرضك. وقوي جسمك وصح بدنك هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي ماء تغتسل به وتشرب منه.
والإشارة إلى عين أو نهر أو نحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 43]
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا(8/262)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
أي ترحما منا عليه بهذا الإضعاف والمباركة وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 44]
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي حزمة صغيرة فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي في كل ما ابتليناه به نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالإنابة والابتهال والعبادة.
تنبيهات:
الأول- كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا من أرباب العقار والماشية، وكان أميرا في قومه. وكانت أملاكه ومنزله في الجنوب الشرقيّ من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية. وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة.
وكان زمنه بعد زمن إبراهيم وقبل زمن موسى عليهم السلام. هذا ما حققه بعض الباحثين. والله أعلم.
الثاني- يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصا إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام. ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله. وهو ما أشار له التنزيل الكريم لأنه المتيقن. وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله.
وأنه صبر على ذلك صبرا صار يضرب به المثل لثباته وسعة صدره وشجاعته. وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.
الثالث- قال الزمخشري: فإن قلت: لم نسب المسّ إلى الشيطان ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه، ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه. وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسّه الله به من النصب والعذاب- نسبه إليه. وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. انتهى.(8/263)
الرابع- دلّ قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً الآية، على تقدم يمين منه عليه السلام. وقد رووا هنا آثارا في المحلوف عليه، لم يصح منها شيء، فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه. إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج. ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية، إيقافا للقارئ عليه، قال السيوطي في (الإكليل) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد. فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثا فيضربها به. فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة. قال سعيد بن جبير: وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب. ثم أخرج أيضا عن عطاء قال: هي للناس عامة. وعن مجاهد قال: كانت لأيوب خاصة قال الكيا الهراسي: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه، وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب.
قال: وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته، وأن يحلف ولا يستثني.
انتهى.
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال. إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث. واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى. فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح أن رجلا قال له: إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعا حتى تقف بعرفة. فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة. فقال: إنما عنيت يوم عرفة. فقال عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة، ما نوى أن يضربها بالضغث، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به.
قال عطاء: إنما القرآن عبر. انتهى كلام (الإكليل) .
وقد رد الإمام ابن القيّم في كتابه (إغاثة اللهفان) الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة. وعبارته: وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول: إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد. وقال الشافعيّ: إن علم أنها مسته كلها، برّ في يمينه. وإن علم أنها لم تمسه، لم يبر. وإن شك لم يحنث. ولو كان هذا موجبا لبرّ الحالف، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط(8/264)
أو ثمانين ويضربه بها ضربة واحدة. وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد، في المريض عليه الحدّ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد. واحتج بما
رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة «1» قال: كان بين أبنائنا إنسان مخدج ضعيف، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها. وكان مسلما. فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: اضربوه حدّه، قالوا: يا رسول الله! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه. فقال: فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة، وخلوا سبيله.
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق. فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه، تلتمس له الدواء بما تقدر عليه، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان. ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة.
فإنه لو كان في شرعهم كفارة، لعدل إلى التفكير، ولم يحتج إلى ضربها. فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود. وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة. وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان. فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام، لنص السنة، في شأن الضعيف الذي زنى. فلا يتعدى بهما عن محلهما.
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما، إنه يبرّ بجمع ذلك في ضربها بمائة شمراخ. قيل: قد جعل الله له مخرجا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر يمينه، ويقضي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبرّ فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة. ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا.
فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد، هل تقولون ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذر مرجوّ الزوال كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله.
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 222.(8/265)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
ثم يحدّ الحد الواجب. كما
روى مسلم «1» في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه، أن أمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم زنت. فأمرني أن أجلدها. فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس.
فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: أحسنت.
اتركها حتى تماثل.
انتهى كلام ابن القيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 45]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45)
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي ذوي القوة في العبادة والأفكار في معرفة الله تعالى. قال القاشانيّ: أي العمل والعلم، لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.
قال الشهاب: (الأيدي) مجاز عن القوة، مجاز مرسل. و (الأبصار) جمع بصر بمعنى بصيرة. وهو مجاز أيضا، لكنه مشهور فيه. وإذا أريد ب (الأيدي) الأعمال، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب. و (الأبصار) بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من المعارف كالأول أيضا. وعلى الوجهين، فيه تعريض بأن من ليس كذلك، كان لا جارحة له ولا بصر. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 46]
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة حظوظا.
وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ أي الباقية والمقر الأصليّ، أي استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرفين لأنوارنا، لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.
لطيفة:
قال السمين: قرأ نافع وهشام: بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ بالإضافة. وفيها أوجه:
أحدها- أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان. لأن الخاصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى. كما قوله: بِشِهابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ، لأن الشهاب يكون قبسا وغيره.
الثاني- أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص، فيكون مصدرا مضافا لمفعوله، والفاعل
__________
(1) أخرجه في: الحدود، حديث رقم 34.(8/266)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا. وقد جاء المصدر على (فاعلة) كالعاقبة. أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار.
وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة. وفيها أوجه: أحدها- أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون (ذكرى) منصوبا به، وأن يكون بمعنى الخلوص، فيكون (ذكرى) مرفوعا به، والمصدر يعمل منوّنا كما يعمل مضافا. أو يكون (خالصة) اسم فاعل على بابه. و (ذكرى) بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار (أعني) أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ، و (الدار) يجوز أن يكون مفعولا به ب (ذكرى) وأن يكون ظرفا إما على الاتساع وإما على إسقاط الخافض. و (خالصة) إن كانت صفة، فهي صفة لمحذوف. أي بسبب خصلة خالصة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 47 الى 48]
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي المختارين من أبناء جنسهم لقربنا الْأَخْيارِ أي المنزهين عن شوائب الشرور. على أنه جمع (خير) مقابل (شر) الذي هو أفعل تفضيل. أو هو جمع (خيّر) المشدد أو المخفف منه وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ أي بالنبوة والرسالة، للهداية والإصلاح.
و (اليسع) خليفة إلياس وكان خادمه. ويقال له بالعبرانية (اليشاع) كما يسمى إلياس فيها (إيليا) ، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ونبوته ومعجزاته صلوات الله عليه.
وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، في سورة الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 50]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50)
هذا ذِكْرٌ أي شرف لهم. و (الذكر) يتجوز به عنه. قال الشهاب: لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس، فتجوّز به عنه بعلاقة اللزوم. فيكون المعنى:
أي في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم. واختار الزمخشريّ أن المعنى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن. أي فالتنوين للتنويع. والمراد بالذكر القرآن. فذكره إنما هو للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر.
قال الزمخشريّ: لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل،(8/267)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، قال هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة وخلود مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي متى جاءوها يرونها في انتظارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 51]
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51)
مُتَّكِئِينَ فِيها أي على الأرائك يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ أي مهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 52]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أو يمنعن طرف الأزواج أن تنظر للغير، لشدة الحسن. وهو أبلغ. أو بمعنى حور الطرف جمع (أحور) والثوب المقصور يشبه بالحواريّ في بياضه ونصاعته أَتْرابٌ أي متساوية في السن والرتب، لا عجوز بينهن. جمع (ترب) بكسر فسكون. وهو من يولد معه في وقت واحد. كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد. ف (ترب) فعل بمعنى مفاعل ومتارب. وكمثل بمعنى، مماثل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 53]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي لوقت جزائه. واللام تعليلية. فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة. وهي تظهر بالحساب وتقع بعده. فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه. فالنسبة لليوم والحساب مجازية. ولو جعلت اللام بمعنى (بعد) كما في (كتب لخمس) سلم مما ذكر. أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 54]
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي انقطاع.(8/268)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 56]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)
هذا أي باب في وصف الجنة وأهلها. فهو مبتدأ خبر مقدر. أو الأمر هذا.
فهو خبر لمحذوف. أو مفعول لمحذوف وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش. مستعار من فراش النائم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 57]
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهو ما يغسق من صديد أهل النار. أي يسيل وجملة فَلْيَذُوقُوهُ معترضة بين المبتدأ وخبره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 58]
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)
وَآخَرُ أي ومذوق، أو عذاب آخر مِنْ شَكْلِهِ أي هذا المذوق أو العذاب في الشدة والهوان أَزْواجٌ أي أجناس وأصناف. ثم بيّن ما يقال للرؤساء الطاغين، إذا أدخلوا النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 59]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي هذا جمع من أتباعكم وأشباهكم، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة، مقتحم معكم في مضايق المذلة ومداخل الهوان.
والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. وقوله لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من الرؤساء على أتباعهم. أو صفة ل (فوج) . أو حال. أي مقولا فيهم لا مَرْحَباً بِهِمْ أي ما أتوا ربهم رحبا وسعة، لشدة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك، واستيحاش بعضهم من بعض، لقبح المناظر وسوء المخابر إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي داخلوها بأعمالهم مثلنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 60]
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)
قالُوا أي الأتباع للرؤساء بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي بل أنتم أحق بما(8/269)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
قلتم، لتضاعف عذابكم بضلالكم وإضلالكم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا.
قال القاشانيّ: وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال وقد تكون بلسان الحال. أي لأن الوضع لا يختص بالحقيقة. إلا أن الأظهر الأول. ويؤيده قوله تعالى بعد إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فَبِئْسَ الْقَرارُ أي المستقر جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 61]
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
قالُوا أي الأتباع أيضا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ كقوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الأحزاب: 68] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 62]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62)
وَقالُوا أي الطاغون أو الأتباع ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 63]
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة ل (رجالا) . وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله تعالى: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي مالت عنهم كبرا، وتنحّت عنهم أنفة. والمعنى أيّ الفعلين فعلنا بهم، السخرية منهم أم الإزراء بهم، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، تحسرا وندامة على ما فعلوا، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب، وقيل (أم) بمعنى (بل) أي بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار.
كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا نَعَمْ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] ، إلى قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الأعراف: 49] ، الآية. وقيل: (أم)(8/270)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
بمعنى (بل) أيضا، أي بل زاغت عنهم أبصارنا لكونهم في دار أخرى وهي دار النعيم. وقرئ (سخريّا) بضم السين وكسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 64]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكي عنهم لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي لواقع وثابت.
وتَخاصُمُ بدل من (حقّ) أو خبر لمحذوف. وقرئ بالنصب على البدل من ذلِكَ قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك. ولأن قول الرؤساء لا مَرْحَباً بِهِمْ وقول أتباعهم بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة. فسمي التقاول كله تخاصما، لأجل اشتماله على ذلك. انتهى.
فكتب الناصر عليه: هذا يحقق ما تقدم من أن قوله: لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ من قول المتكبرين الكفار. وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من قول الأتباع. فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين. فيتحقق التخاصم.
خلافا لمن قال إن الأول من كلام خزنة جهنم والثاني من كلام الأتباع. فإنه على هذا التقدير، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين. فالتفسير الأول أمكن وأثبت. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 65]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65)
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي رسول مخوّف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ أي بلا ولد ولا شريك الْقَهَّارُ أي الغالب على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 66]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي من الخلق والعجائب الْعَزِيزُ أي الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة الْغَفَّارُ أي لمن تاب وأناب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 67]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
قُلْ هُوَ أي الذي أنذرتكم به من التوحيد ومن البعثة به نَبَأٌ عَظِيمٌ.(8/271)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 68]
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم. فإن العاقل لا يعرض عن مثله. كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة. أما على التوحيد، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع. أما على بعثته صلّى الله عليه وسلّم به، فقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 69]
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي فإن إخباره عن محاورة الملائكة وما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي.
قال القاشانيّ: وفرق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وفي اختصام الملأ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ لأن ذلك حقيقيّ لا ينتهي إلى الوفاق أبدا. وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام، الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] ، وقوله تعالى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 33] ، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة. انتهى.
وبالجملة، فالاختصام المذكور في الآية، هو المشار إليه في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ، قال الرازيّ: وهو أحسن ما قيل فيه.
ثم قال: ولو قيل: كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى؟ قلنا: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب. وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة. والمشابهة علة لجواز المجاز. فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. انتهى.
وملخصه: أن يَخْتَصِمُونَ استعارة تبعية ل (يتقاولون) . وقيل: معنى الآية نفي علم الغيب عنه صلّى الله عليه وسلّم وردّ اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم، كقوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ(8/272)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
[الأنعام: 50] ، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك: 26] ، ولذا قال بعد:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 70]
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ وقرئ إنما بالكسر على الحكاية.
تنبيهات:
الأول- قال الرازيّ: واعلم أن قوله أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال، ومنع من التقليد. لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق، يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل، وقع في أعظم أبواب الشقاوة. فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية. وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
الثاني- قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة. وقيل: مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم.
كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض. حكاه الكرمانيّ في (عجائبه) .
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. وإن قوله تعالى بعد وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة: 30] ، تفسير له. ولم أره مأثورا عن أحد. بل المأثور عن ابن عباس وغيره ما تقدم، من أنه في شأن آدم والملائكة. وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي.
بتقدير (ما كان لي من علم لولا الوحي) ولا تنس القول الآخر. والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف. والله أعلم.
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في
حديث أخرجه الإمام أحمد «1» عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة عن صلاة الصبح. حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس. فخرج صلّى الله عليه وسلّم سريعا. فثوّب بالصلاة. فصلى وتجوز في صلاته. فلما سلّم قال صلّى الله عليه وسلّم: كما أنتم. ثم أقبل إلينا فقال: إني قمت من الليل
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 243.(8/273)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
فصليت ما قدّر لي. فنعست في صلاتي حتى استيقظت. فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، يا رب! أعادها ثلاثا. فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين صدري:
فتجلى لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلي الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات؟ قلت:
إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم! إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني. وإذا أردت فتنة بقوم، فتوفني غير مفتون. وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنها حق فادرسوها وتعلموها.
قال ابن كثير: هذا حديث المنام المشهور. ومن جعله يقظة فقد غلط. وهو في السنن من طرق. وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذيّ «1» من حديث جهضم بن عبد الله اليماميّ به، وقال: حسن صحيح.
ثم قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن. فإن هذا قد فسّر.
وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا. انتهى. يعني قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 72]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فخرّوا له ساجدين تعظيما وتكريما، إذا عدلت خلقته وأحييته بنفخ الروح فيه. (فإذا) بدل من (إذا) الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام، وهذا ما رآه الزمخشريّ وتابعه ابن كثير. وقدّر أبو البقاء (اذكر) وهو الأظهر عندي، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 73 الى 74]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 38- سورة ص، 4- حدثنا محمد بن بشار. [.....](8/274)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي باستكباره أمر الله تعالى، واستكباره عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 75]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي بنفسي من غير توسط، كأب وأم أَسْتَكْبَرْتَ أي: أعرض لك التكبر والاستنكاف أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي عليه زائدا في المرتبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 76]
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ يعني أن الروح الحيوانيّ الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية. وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس، وعصى الله تعالى في السجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 77]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو السماء فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 78]
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قال القاشانيّ: الرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية، المنزهة عن المواد الرجسية، بالانغماس في الغواشي الطبيعية، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية. ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين. وحدد نهايته به، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده. وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان. انتهى.(8/275)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 79 الى 83]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو القيامة الكبرى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية، وصفي فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : آية 84]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ جملة معترضة، للتأكيد، أي ولا أقول إلا الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 85 الى 86]
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي تبعك في التعزز والاستكبار والإباء عن الحق والمحاجة في الباطل قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على القرآن أو الوحي. قال القاشانيّ: أي لا غرض لي في ذلك. فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات، غير معلولة بالغرض وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ قال الزمخشريّ: أي المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوة وأدّعي القرآن.
تنبيه:
في الآية ذم التكليف. وقد روى الشيخان «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم. فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 38- صورة ص، 3- باب وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، حديث 570.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 39 و 40.(8/276)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (38) : الآيات 87 الى 88]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي عظة وتذكير لهم. وهذا كقوله لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، وقوله سبحانه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أي عند ظهور الإسلام وانتشاره، ودخول الناس فيه أفواجا أفواجا، من صحة خبره، وإنه الحق والصدق. وهذا من أجلّ معجزات القرآن، لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها، إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين، وخوف من المشركين. فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة، وضعفهم قوّة، وخوفهم أمنا، وكمونهم ظهورا وانتشارا. فصدق الله العظيم، وصدق نبيّه الكريم، وحقت كلمة الله على الكافرين، والحمد لله رب العالمين.(8/277)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّمر
سميت بها لاشتمالها على الآية التي ذكر فيها زمر الفريقين، المشيرة إلى تفصيل الجزاء وإلزام الحجة وبطلان المعذرة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية، واستثنى بعضهم ثلاث آيات قُلْ يا عِبادِيَ [الزمر: 53] ، إلخ ذهابا إلى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة على ما روي. قيل، ورابعة وهي اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] ، حكاه ابن الجوزيّ، وتقدم الكلام في مثل هذا.
وآياتها خمس وسبعون.
أخرج النسائيّ «1» عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
__________
(1) أخرجه في: الصيام، 34- باب الاختلاف على محمد بن إبراهيم فيه.(8/278)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي هذا تنزيل. أو تنزيله كائن من الله.
وقرئ تَنْزِيلُ بالنصب على إضمار فعل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 2]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي عن شعوب الشرك والرياء، بإمحاض التوحيد وتصفية السر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 3]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة، لانفراده بالألوهية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي بالمحبة. للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي يقولون ذلك احتجاجا على ضلالهم إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي عند حشر معبوداتهم معهم، فيقرن كلا منهم مع من يتولاه، من عابد ومعبود. ويدخل المبطل النار مع المبطلين، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لا يوصله إلى النجاة ومقرّ الأبرار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 4]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)(8/279)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي نزهه عن المماثلة والمجانسة. واصطفاء الولد. لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره. فلا تماثل في الوجود، فكيف في الوجوب؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي بإذهاب أحدهما وتغشية الآخر مكانه. كأنما ألبسه ولفّ عليه وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى دوره، أو منقطع حركته أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها أي من نفسها ونوعها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي ذكرا وأنثى. من الإبل والبقر والضأن والمعز يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أى متقلبين في أطوار الخلقة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ يعني البطن والرحم والمشيمة ذلِكُمُ أي الخالق لصوركم. المكوّر أي المصرف بقدرته، المسخر بسلطانه، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته، المنزل للنعم بنعمته اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي عن عبادته إلي عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي عن إيمانكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أي لأنه سبب هلاكهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له، يقبله منكم، لأنه دينه، ويثيبكم ثوابا حسنا لطاعتكم.(8/280)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
تنبيه:
في الإكليل: استدل بقوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي. وعلى أن الرضا غير الإرادة. وهو أحد قولي أهل السنة.
والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور، أن الرضا والإرادة سيان، وحملوا (العباد) في الآية على المخلصين. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي ما عليها من الذنوب، أو لا تؤخذ نفس بذنب أخرى، بل كلّ مأخوذ بذنبه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي بعد الموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب من الخير والشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
وَإِذا مَسَّ أي أصاب الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي شدة وبلاء دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ أي ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه، مقبلا إليه بالدعاء والتضرع ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة. وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه. ف (ما) بمعنى (من) أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفيّ، ولما في (ما) من الإبهام والتفخيم، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي يصد الناس عن دينه وطاعته قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أي عش به قَلِيلًا أي يسيرا في الدنيا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً أي متعبدا في ساعاته يقطعها في السجود والقيام يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عقابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي جنته ورضوانه، أي: أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه؟ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أي توحيده وأمره ونهيه في الثواب والطاعة وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا يستويان.
تنبيهات:
الأول- في الآية استحباب قيام الليل. قال ابن عباس: آناء الليل: جوف الليل.
وقال الحسن: ساعاته أوله ووسطه وآخره.(8/281)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
الثاني- في قوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ردّ على من ذمّ العبادة خوفا من النار أو رجاء الجنة.
وقال صلّى الله عليه وسلّم (حولها ندندن) » .
الثالث- في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الآية مدح العلم ورفعة قدره. وذمّ الجهل ونقصه. وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة، كما أنه لا يكافئ بنت العالم، أفاده في (الإكليل) .
وفي الآية أيضا إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم، إذ عبر عنهم أولا ب (القانت) ثم نفى المساواة بينه وبين غيره، ليكون تأكيدا له، وتصريحا بأن غير العالم كأن ليس بعالم.
قال القاشاني: وإنما كان المطيع هو العالم، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه، وأما المرتسم في حيز التخيل، بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه، فليس بعلم. إنما هو أمر تصوريّ وتخيل عارض لا يلبث، بل يزول سريعا. لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع إِنَّما يَتَذَكَّرُ أي يتعظ بهذا الذكر أُولُوا الْأَلْبابِ أي العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 10]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا، مثوبة حسنة في الآخرة، لا يكتنه كنهها وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أي بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. قال الشهاب: وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة.
أوضحه شراح الكشاف بأن قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى،
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الصلاة، 124- باب في تخفيف الصلاة، حديث رقم 792، عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.(8/282)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
ولذا قيد بالظرف. لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات.
وعقب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان، فكان حثا على اغتنام فرصة الأعمار، وترك ما يعوق من حب الديار، والهجرة فيما اتسع من الأقطار، كما قيل:
إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي وكلّ العالمين أقاربي
انتهى. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أي على مشاق الطاعة من احتمال البلاء.
ومهاجرة الأوطان لها أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير مكيال. تمثيل للكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 11]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي عن الالتفات إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 12]
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بذلك، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة. لأن إخلاصه صلّى الله عليه وسلّم أتمّ من إخلاص كل مخلص. وعلى هذا، فالأولية في الشرف والرتبة. أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته. فالأولية زمانية على ظاهرها. ويجوز أن تجعل اللام مزيدة. كما في (أردت لأن أفعل) فيكون أمرا بالتقدم في الإخلاص.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 13 الى 14]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بترك الإخلاص له عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ أي أخصه بالعبادة مُخْلِصاً لَهُ دِينِي عن شوب الغير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 15]
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)(8/283)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي أهلكوا أنفسهم بالضلال، وأهليهم بالإضلال. أو خسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضا. إن كانوا مثلهم، أو بفقدهم فقدا لا اجتماع بعده، إن كانوا من أهل الجنة أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 16]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي أطباق من النار ذلِكَ أي العذاب المتوعد به يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي بعدم التعرض لما يوجب السخط. قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى، ونصيحة بالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 19]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها يعني الأوثان. و (فعلوت) للمبالغة وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى أي بالثواب فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. قال الزمخشري: أراد أن يكونوا نقادا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
يريد المقلد. انتهى ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين، اعتراضا.
كالواجب مع الندب. والعفو مع القصاص. والإخفاء مع الإبداء في الصدقة، وهكذا أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي أفأنت تنقذه منها؟ أي: لا يمكن إنقاذه أصلا.(8/284)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 20 الى 21]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلا للدنيا كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا [يونس: 24] ، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 45] ، أفاده الزمخشري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 22]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي وسعه لتسليم الوجه إليه وحده، ولقبول دينه وشرعه بلطفه وعنايته وإمداده سبحانه فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي على بينة ومعرفة. واهتداء إلى الحق. واستعارة النور للهدى والعرفان، شهيرة، كاستعارة الظلمة لضد ذلك. وخبر (من) محذوف دلّ عليه قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية، وإعراضها عن الكمالات القدسية، أو من أجل ذكره. ف (من) للتعليل والسببية.. وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه. قال الشهاب: إذا (قيل قسا منه) فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه. وإذا قيل (قسا عنه) فالمعنى أن قسوته جعلته متباعدا عن قبوله. وبهما ورد استعماله. وقد قرئ ب (عن) في الشواذ. لكن الأول أبلغ. لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله.
وهو معناه إذا تعدى ب (عن) . وذكره تعالى مما يلين القلوب. فكونه سببا للقسوة، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة، سببا لقسوته أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي عن طريق الحق.(8/285)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 23]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا. في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ووجوه الإعجاز مَثانِيَ جمع (مثنّى) بمعنى مردّد ومكرر، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ تمثيل لإفراط خشيتهم. أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته وحكمه ووعيده، بما يرد على قلوبهم منها ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي بالانقياد والطاعة والسكينة لأمره ذلِكَ أي الكتاب، أو الكائن من الخشية والرجاء هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من زاغ قلبه فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 24]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم، أي قائما مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له. لأن ما يتقى به هو اليدان، وهما مغلولتان. ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه، لأنه أعز أعضائه.
وقل: الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به، لأن الوجه لا يتقى به. وخبر (من) محذوف كنظائره. أي: كمن أمن العذاب وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وباله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 25]
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها.(8/286)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 26 الى 27]
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي الذل والصغار وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بيّنا لهم في هذا القرآن، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه، من كل مثل يحتاج إليه. من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي به ما يهمهم من أمور دينهم، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم. فيفسروا المعقول بالمحسوس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 28]
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي العذاب والخزي يوم الجزاء، بالاتقاء من الأفعال القبيحة والأخلاق الرديئة. والاعتقادات الفاسدة. ومن أجلّ تلك الأمثال. ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات، وهو الشرك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 29]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي للمشرك والموحد رجلين مملوكين رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي سيئوا الأخلاق، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة، لا يزال متحيرا متوزع القلب، لا يدري أيهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجته وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي: خلص ملكه له، لا يتجه إلا إليه جهته، ولا يسير إلا لخدمته، فهمّه واحد. وقلبه مجتمع هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي: صفة وحالا. أي في حسن الحال وراحة البال؟ كلا. وهكذا حال من يثبت آلهة شتى. لا يزال متحيرا خائفا لا يدري أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد. وحال من لم يعبد إلا إلها واحدا. فهمّه واحد. ومقصده واحد. ناعم البال. خافض العيش والحال. والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ودرء الفرقة. كما قال تعالى حكاية عن يوسف(8/287)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
عليه السلام أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ قال أبو السعود: تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى. وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته. أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل، أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء. صنع جميل ولطف تام منه عزّ وجلّ، مستوجب لحمده وعبادته. وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره، فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 30]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وقرئ (مائت ومائتون) وقيل: كانوا يتربصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم موته. أي إنكم جميعا بصدد الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 31]
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم تَخْتَصِمُونَ أي فتحتج أنت عليهم بأنك بلّغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات. واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد، وهم قد لجّوا في المكابرة والعناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 32]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي افترى عليه بنسبة الشريك والولد وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو عين الحق إِذْ جاءَهُ أي حضر عنده دليله وبرهانه، فرفضه ورده على قائله، أي لا أحد من المتخاصمين أظلم ممن حاله ذلك. لأنه أظلم من كل ظالم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه، وسارعوا إلى التكذيب بالحق.(8/288)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 33]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي جاء بدليل التوحيد وآمن به فلم يعتد بشبهة تقابله، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعه أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أي الموصوفون بالتقوى التي هي أجل الرغائب. ولذا كان جزاؤهم أن يقيهم الله ما يكرهون، كما قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 34 الى 37]
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي الذين أحسنوا أعمالهم وأصلحوها لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يعصمه من كل سوء، ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان التي عبدوها من دونه تعالى. وهذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما قالت له قريش: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، ويصيبك مضرتها لعيبك إياها. كما قال قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من غفل عن كفايته تعالى وعصمته له عليه الصلاة والسلام. وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلا: فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي يصرفه عن مقصده، أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه.
إذ لا راد لفضله ولا معقب لحكمه أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ أي ينتقم من أعدائه لأوليائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 38]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)(8/289)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لما تقرر في الفطر والعقول من استيقان ذلك. ولوضوح الدليل عليه قُلْ أي تبكيتا لهم أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ أي نفعه وخيره. كلا. فإنها لا تضر ولا تنفع قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي في جميع أمورهم، لا على غيره. لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 40]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي حالتكم التي أنتم عليها، من العداوة ومناصبة الحق إِنِّي عامِلٌ أي على مكانتي، فحذف للاختصار، والمبالغة في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة، بنصر الله عزّ وجلّ وتأييده. ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين، بقوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم. وقد أخزاهم الله يوم بدر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 41]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ أي لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه وافتقارهم إلى بيان مراشدهم فَمَنِ اهْتَدى أي بدلائله فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لتجبرهم على الهدى. إذ ما عليك إلا البلاغ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)(8/290)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي مفارقتها لأبدانها، بإبطال تصرفها فيها بالكلية وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ أي فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وهو نوم آخر أو موت إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من التوفي على الوجهين لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في كيفية تعلقها بالأبدان، وتوفيها عنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 45]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى، والشفيع مأذونا له، وكلاهما مفقود ها هنا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي دون آلهتهم اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي فرادى، أو مع ذكر الله تعالى: إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون بذلك. لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم حق الله تعالى. ولقد بولغ في الأمرين حيث بيّن الغاية فيهما. فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه. والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 46]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي التجئ إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم. والمقصود بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم. وأن جدّه وسعيه معلوم مشكور عنده تعالى. وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى. والدعاء بأسمائه الحسنى، والاستعانة بالتضرّع والابتهال على دفع كيد العدوّ.(8/291)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي نزل بهم جزاؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 50]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50)
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي مني بوجوه الكسب والتحصيل بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي ابتلاء له، أيشكر تلك النعمة، فيصرفها فيما خلقت له، فيسعد. أو يكفرها فيشقى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما قال قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:
78] فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي فما دفع عنهم ما كسبوه بذلك العلم من متاع الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 51 الى 52]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي بأن الكل منه سبحانه، ومن آياته في ذلك- كما قال المهايمي- أنه تعالى قوي بذاته، له تقويه من يشاء وتضعيف من يشاء. ومنها أنه فيّاض بذاته لا(8/292)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
يتوقف فيضه على الشفعاء. ومنها أنه فاعل بذاته لا يتوقف فعله على سبب وواسطة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 56]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر لا تَقْنَطُوا قرئ بفتح النون وكسرها مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أي لمن تاب وآمن. فإن الإسلام يجبّ ما قبله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي توبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ أي استسلموا وانقادوا له. وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ أي قصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في جانب أمره ونهيه، إذ لم أتبع أحسن ما أنزل وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بمن يتبع الأحسن. وأَنْ تَقُولَ مفعول له بتقدير مضاف. أي: فتداركوا كراهة أن تقول. أو تعليل لفعل يدل عليه ما قبله. أي أنذركم وآمركم باتباع أحسن القول كراهة. وتفصيله في شروح (الكشاف) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 57]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي للإسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي: من هذا الكفر. أي تقول هذا النوع من التحسر ولتعلل بما لا يجدي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 58]
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ(8/293)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
الْمُحْسِنِينَ
أي في الإيمان والعمل الصالح. ثم ردّ تعالى على تلك النفس بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 59 الى 60]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ أي بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه، وأمره لهم، وغير ذلك من إفكهم وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أي لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم. فالسواد حقيقي. أو لما لحقهم من الكآبة، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم. فالسواد مجاز بالاستعارة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي عن الإيمان والهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 61 الى 62]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ أي بفوزهم وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز، من الاعتقادات المبنية على الدلائل والأعمال الصالحة لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي يتولى التصرف فيه كيف شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 63 الى 66]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو وحده يملك أمرها وخزائن غيوبها(8/294)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وأبواب خيرها وبركتها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي خصّه بالعبادة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي الصارفين ما أنعم به عليهم، إلى ما خلق لأجله.
قيل: كان الظاهر (لو أشركت) لأن (أن) تقتضي احتمال الوقوع. وهو هنا مقطوع بعدمه. فالجواب: أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها لأغراض. والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية قبح الإشراك.
وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره، فكيف بمن عداه؟ وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا، كالحنفية.
وغيرهم يرى الإحباط مقيدا بالاستمرار عليه إلى الموت، وأنه هو المحبط في الحقيقة. وأنه إنما ترك التقييد به اعتمادا على التصريح به في آية أخرى، وهي قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ [البقرة: 217] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 67]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته، ولا عرفوا جلاله حق معرفته. حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة. مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام. فإن تبديل الأرض غير الأرض. وطي السموات كطي السجل، أهون شيء عليه، وفي (القبضة واليمين) مذهبان معروفان.
مذهب السلف، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل. يجرون على الظاهر ويكلون علمه إليه تعالى ويقرون بأن تأويله (أي ما يؤول إليه من حقيقته) لا يعلمه إلا الله. وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح.
المذهب الثاني- القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب.
وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات،(8/295)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
استعيرت (القبضة) للملك أو التصرف و (اليمين) للقدرة، وذاهب إلى أنه في المركب، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض، ويمين بها تطوى السموات، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحسن بسط.
ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة، وحياتهم أخرى، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 68]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ أي هلك مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي من خواص الملائكة، أو من الشهداء. روي ذلك عن بعض التابعين. وقال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم، إلى ما صار ثنيته. وهذا هو الوجه. إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي وقوف، يقلبون أبصارهم دهشا وحيرة. أو ينتظرون ما يحل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : آية 69]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء وَوُضِعَ الْكِتابُ أي عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته. أو الْكِتابُ مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء، ووضعه ترشيح له. والمراد بوضعه الشروع فيه، أو هو تمثيل. وجوه نقلها الشهاب وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ أي الذين يشهدون للأمم وعليهم، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم. أي أحضروا للشهادة لهم أو عليهم لاطّلاعهم على أحوالهم. وجوّز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى، تنويها بشأنهم، وترفيعا لقدرهم، بضمهم إلى النبيين في الموقف. ولا يبعد وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي فتوزن أعمالهم بميزان العدل، ويوفّون جزاء أعمالهم، لا ينقص منها شيء، كما قال:(8/296)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 70 الى 73]
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت ضلالهم وغيهم، رعاية للعدل في التقديم والتأخير حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أي ليدخلوها، ولكل فريق باب وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أي الموكلون بتعذيبهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي وقتكم أو يوم القيامة، حرصا على صلاحكم وهدايتكم قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي حكمه عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ أي مساق إعزاز وتشريف، للإسراع بهم إلى دار الكرامة زُمَراً أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ أي من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا فَادْخُلُوها خالِدِينَ قال السمين: في جواب إِذا ثلاثة أوجه:
أحدها- قوله: وَفُتِحَتْ والواو زائدة. وهو رأي الكوفيين والأخفش. وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها، لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له، ثم تغلق عليه. فناسب ذلك عدم الواو فيها. بخلاف أبواب السرور والفرح، فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها.
والثاني- أن الجواب قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على زيادة الواو أيضا.
الثالث- أن الجواب محذوف. قال الزمخشري: وحقه أن يقدر بعد خالدين:(8/297)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه. والتقدير: اطمأنوا. وقدره المبرد: سعدوا. وعلى هذين الوجهين، فتكون الجملة من قوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها في محل نصب على الحال، والواو واو الحال. أي جاءوها مفتحة أبوابها. كما صرح بمفتحة حالا من جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ وهو قول المبرد والفارسي وجماعة. وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية. لأن أبواب الجنة ثمانية.
وردّه في (المغني) بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة، لم تكن الآية منها. إذ ليس فيها ذكر عدد البتة، وإنما فيها ذكر الأبواب، وهي جمع لا يدل على عدد خاص. ثم الواو ليست داخلة عليه، بل على جملة هو فيها. انتهى.
أي وهي- على قول مثبتها- الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد. ذهابا إلى أن بعض العرب إذا عدّوا قالوا: ستة سبعة وثمانية. إيذانا بأن السبعة عدد تامّ، وأن ما بعده عدد مستأنف، فأشبهت واو الاستئناف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزمر (39) : الآيات 74 الى 75]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي بإيصالنا إلى ما وعدنا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الآخرة. شبه نيلهم بأعمالهم لها، بإرثهم من آبائهم. فكأن الأعمال آباؤهم. كما قيل:
وأبي الإسلام لا أب لي سواه
وكما يقال (الصدق يورث النجاة) نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل من جنته الواسعة، أيّ مكان أراده فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي الذين عملوا بما علموا وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن، محدقين به. وتقدم في تفسير آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] في الأعراف، كلام في حملة العرش، فتذكره يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الخلائق بِالْحَقِّ أي بالعدل وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بينهم بالحق، وأنزل كلا منزلته التي هي حقه. والقائل:(8/298)
إما الحق جل جلاله، أو الملائكة الحافون، أو المؤمنون ممن قضي بينهم. أو الكل، فله الحمد عز وجل.
عن قتادة قال: افتتح الله أول الخلق ب الْحَمْدُ لِلَّهِ فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وختم بالحمد فقال وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.(8/299)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة غافر
وسميت (المؤمن) قال المهايميّ: سميت به لاشتمالها على كلمات مؤمن آل فرعون، المتضمنة دلائل النبوة ورفع الشبه عنها، والمواعظ والنصائح وسلامته عن أعدائه. وعما أخذوا به، وهي من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة غافر وسورة الطّول. وهي مكية وآيها ثمانون وخمس.(8/300)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الكلام في مفتتح هذه السورة وتاليه، كالذي سلف في (الم السجدة) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 3 الى 4]
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ أي المن والفضل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع والجزاء ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أي ما يخاصم في حجج الله وأدلته علي وحدانيته بالإنكار لها، إلا الذين جحدوا توحيده، قال الزمخشريّ: سجل على المجادلين في آيات الله بالكفر. والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله. وقد دل على ذلك قوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5] . فأما الجدال فيها، لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقارحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «1»
(جدال في القرآن كفر)
وإيراده منكرا، تمييز منه بين جدال وجدال. انتهى فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي للتجارات، وتمتعهم بالتجوال والترداد، فمآلهم إلى الزوال والنفاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 5]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/ 258. والحديث رقم 7499.(8/301)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ أي الذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد سماع أخبارهم ومشاهدة آثارهم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي ليتمكنوا منه، ومن الإيقاع به وإصابته بما أرادوا من تعذيب أو قتل.
من (الأخذ) بمعنى الأسر. والأخيذ الأسير وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي قابلوا حجج الرسل بالباطل من جدالهم لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليزيلوا به الأمر الثابت بالحجة الصحيحة. لكنه لا يندحض وإن كثرت الشبه. لما أنه الثابت في نفسه المتقرر بذاته فَأَخَذْتُهُمْ أي بالعذاب الدنيويّ المعروف أخباره. المشهود آثاره فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي في هذه الدار. فيعتبر به عقاب تلك الدار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 6]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ قال ابن جرير:
أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، التي قصصت عليك، يا محمد، قصصها، وحل بها عقابي. كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، الذين يجادلون في آيات الله. لأنهم أصحاب النار. ثم نوّه بالمؤمنين، وبما أعدّ لهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 10]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ أي من الملائكة. وقد سبق في تفسير آية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] ، في الأعراف، كلام في حملة العرش، فراجعه وَمَنْ حَوْلَهُ يعني الملائكة المقرّبين يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي: ويقرون بأنه(8/302)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
لا إله لهم سواه. ويشهدون بذلك لا يستكبرون عن عبادته. وفائدة التصريح بإيمانهم، مع جلائه، هو إظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله، والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين. حسبما ينطق به قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها، وأدعى الدواعي إلى النصح والشفقة.
وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم وتحميدهم وإيمانهم، إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول رَبَّنا أي يقولون ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي شملت رحمتك وأحاط بالكل علمك فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي صراطك المستقيم بمتابعة نبيّك في الأقوال والأعمال والأحوال وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي عمل صالحا منهم، ليتم سرورهم بهم إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي:
عقوبتها وجزاءها وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: لبغضه الشديد لكم، أعظم من بغض بعضكم لبعض. وتبرؤ كل من الآخر ولعنه حين تعذبون كما قال تعالى:
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] ، أو أعظم من مقتكم أنفسكم وذواتكم. فقد يمقتون أنفسهم حين تظهر لهم هيئاتها المظلمة وصفاتها المؤلمة، وسواد الوجه الموحش وقبح المنظر المنفّر إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي تدعون على ألسنة الرسل عليهم السلام، إلى الإيمان به سبحانه، فتكفرون كبرا وعتوّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 11]
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي أنشأتنا أمواتا مرتين. وأحييتنا في النشأتين كما قال تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] ، قال قتادة: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا. ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها. ثم أحياهم للبعث يوم القيامة. فهما حياتان وموتتان فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أي: فأقررنا بما عملنا من الذنوب في الدنيا. وذلك عند وقوع العقاب المرتب عليها. وامتناع المحيص عنه فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي: فهل(8/303)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
إلى خروجنا من النار، من سبيل، لنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل. قال الزمخشريّ: وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا. ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك. وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 12 الى 13]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13)
ذلِكُمْ أي ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب، وأن لا سبيل إلى خروج قط بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي بسبب إنكاركم أن الألوهة له خالصة، وقولكم أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] ، وإيمانكم بالشرك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ أي فالقضاء له وحده لا للغير. فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه.
فلا يمكن أحدا ردّ حكمه وعقابه هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي مطرا. وإفراده بالذكر من بين الآيات، لعظم نفعه، وتسبب حياة كل شيء عنه وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي. وما يتعظ بآياته تعالى، إلا من يرجع إليه بالتوبة والإنابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 14 الى 15]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي فاعبدوه مخلصين له الدين، عن شوب الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي غاظهم ذلك رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي رفيع درجات عرشه كقوله ذِي الْمَعارِجِ [المعارج: 3] ، وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش. وهي دليل على عزته وملكوته. أو هو عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه وكمالاته، غير المتناهية ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ أي الوحي والعلم اللدنيّ الذي تحيا به القلوب الميتة من سره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أهل عنايته الأزلية، واختصاصه للرسالة والنبوة لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ أي يوم القيامة الكبرى، الذي يتلاقى فيه العبد بربه ليحاسبه على أعماله، أو العباد.(8/304)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 16 الى 17]
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي من قبورهم. أو ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو بناء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أي من أعمالهم وأعيانهم وأحوالهم. وقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ينادي به الحق سبحانه، عند فناء الكل. أو وقت التلاقي والبروز.
فيجيب هو وحده لِلَّهِ الْواحِدِ أي المتفرد بالملك الْقَهَّارِ أي الذي قهر بالغلبة كل ما سواه الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي بإيصال ما يستحق كل منهم إليه، من تبعات سيئاته وثمرات حسناته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 18]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي الواقعة القريبة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ أي من أهواله ترتفع القلوب عن مقارّها. فتصير لدى الحلوق كاظِمِينَ أي ممتلئين غمّا، بما أفرطوا من الظلم ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب يهتمّ لشأنهم، فيخفف عنهم غمومهم وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي من يشفع في تخفيفها عنهم. إذ لا تقبل شفاعة فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 19 الى 25]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23)
إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)(8/305)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي نظراتها الخائنة. وهي الممتدة إلى ما لا يحلّ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي تكنّه من الضمائر والأسرار وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي بالعدل وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي لأنهم لا يقدرون على شيء إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني حصونهم وقصورهم وعددهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي بآيات نبوته مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي: قالوا أعيدوا عليهم القتل، كالذي كان أولا. واستبقوا نسائهم للخدمة وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: وما مكرهم في دفع ما أراد الله من ظهور دينه، إلا في ضياع. إذ هو كالغثاء الذي يقذفه تيار الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 26]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي ما أنتم عليه من عبادة الأصنام أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي فساد مملكتي. إذ يتفق الكل على متابعته وإجراء أحكامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 27]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ أي التجأت إليه وتوكلت عليه، فهو ناصر دينه ومعزّ أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 28]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)(8/306)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أي من فرعون وملئه أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي من عذاب الدنيا إن تعرضتم له. وقد أشار الزمخشري إلى ما في طي هذا القول من اللطائف والأسرار، بما ملخصه: إن هذا المؤمن استدرجهم في الإيمان باستشهاده على صدق موسى، بإحضاره عليه السلام من عند من تنسب إليه الربوبية، بينات عدة لا بينة واحدة. وأتى بها معرّفة. معناه البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم، ويكسر من سورتهم. ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم، فقال: لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا. فإن يك كاذبا فضرر كذبه عائد عليه. أو صادقا فيصبكم، إن تعرضتم له، بعض الذي يعدكم. وإنما ذكر (بعض) في تقدير أنه نبي صادق، والنبيّ صادق في جميع ما يعد به، لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة. فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم، وأدخل في تصديقهم له، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه صحته. وذلك أنه حين فرضه صادقا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد. ولكنه أردفه يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، ليريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وأثنى عليه، فضلا عن أن يكون متعصبا له. وتقديم (الكاذب) على (الصادق) من هذا القبيل.
قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا، قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26- 27] ، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالا بأن الحق معه ولا يضره التأخير لهذه الفائدة. وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة، ما في قصة يوسف مع أخيه. إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. انتهى. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال الزمخشري: يحتمل أنه إن كان مسرفا كذابا، خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر، فتتخلصون منه. وأنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة، ولما عضده بالبينات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 29]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)(8/307)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي عالين وقاهرين، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم بأنفسكم، ولا تعرضونا لعذابه تعالى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا ما أستصوبه من قتله. إذ البأس السماوي من أجل قتله، أمر متوهم. فاتباعه غلط وَما أَهْدِيكُمْ أي بإراءة رأي قتله إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وهو دفع تبدل دينكم وإظهار الفساد في الأرض، بإظهار أحكامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي من قتله مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي الطوائف الهالكة بالتكذيب مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ أي جزائهم من الغرق وَعادٍ أي من الريح العقيم وَثَمُودَ أي الصيحة وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من الأمم المكذبة، مما يدل على أن الهلاك سنة مستمرة لأهل التكذيب، إذ لم يكن لهم ذنب آخر يوجبه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي فلا يعاقبهم بغير ذنب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 32]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يعني يوم القيامة، أي عذابه. سمي بذلك لما جاء
في حديث «إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك، ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا»
أي: من هول فزع النفخة. وقال قتادة: ينادي كل قوم بأعمالهم. ينادي أهل الجنة أهل الجنة وأهل النار أهل النار. وقيل لمناداة أهل الجنة أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44] ، ومناداة أهل النار أهل الجنة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [الأعراف: 50] ، واختار البغوي وغيره أنه سمّي لمجموع ذلك. أي لوقوع الكل فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 33]
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي ذاهبين فرارا من الفزع الأكبر كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ(8/308)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
[القيامة: 11- 12] ، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي من عذابه، من مانع، لتقرر الحجة عليكم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي بزيغه عن صراط ربه فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من حجة ولا مرشد إلى النجاة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 34]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ أي من قبل مجيء موسى بالحجج البينة والبراهين النيرة، على وجوب عبادته تعالى وحده. كقوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ أي مع ظهور استقامته الكافية في الدلالة على صحة ما جاءكم به، فلم يزل يقررها حَتَّى إِذا هَلَكَ أي مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي يقرر حججه. فقطعتم من عند أنفسكم، بعدم إرسال الله الرسول، مع الشك في إرسال من أعطاه البينات، من فرط ضلالكم كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أي في التشكيك عند ظهور البراهين القطيعة مُرْتابٌ أي شاكّ مع ظهور لوائح اليقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 35]
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي برهان أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ أي بطر للحق، لا يقبل الحجة. جبار في المجادلة. ألدّ فيصدر عنه أمثال ما ذكر، من الإسراف والارتياب والمجادلة في الباطل لطمس بصيرته، فلا يكاد يظهر له الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)(8/309)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي قصرا عاليا ظاهرا لكل أحد لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أي طرقها فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي لأسأله عن إرساله، أو لأقف على كنهه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً قال ابن جرير: أي لأظن موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي، من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الرشاد لما طبع على قلبه، من كبره وتجبّره وإسرافه وارتيابه وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي خسار وهلاك، لذهاب نفقته على الصرح سدى، وعدم نيله، مما أراده من الاطلاع، شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 38]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ أي طريق الصواب الذي ترشدون إذا أخذتم فيه وسلكتموه. ثم أشار إلى تفصيل ما أجمله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 39]
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39)
يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي تمتع يسير، لسرعة زوالها وَإِنَّ الْآخِرَةَ التي يوصل إليها سبيلي هِيَ دارُ الْقَرارِ أي الاستقرار والخلود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 40]
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقدير وموازنة بالعمل. بل أضعافا مضاعفة. قال الزمخشري: قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ واقع في مقابلة إِلَّا مِثْلَها يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق. فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل ما شئت من الزيادة والكثرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 42]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)(8/310)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي بوجوده علم، إذ لا وجود له وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ أي الغالب الذي يقهر من عصاه الْغَفَّارِ أي الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه، بأنواره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 43 الى 44]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي الذي تدعونني إلى عبادته، ليس له دعوة في الدنيا لدفع الشدائد والأمراض ونحوها، ولا في الآخرة لدفع أهوالها، على ما قاله المهايمي. أو لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه، واستحالة وجوده فيهما، على ما قاله القاشانيّ. وقال الشهاب: عدم الدعوة عبارة عن جماديتها وأنها غير مستحقة لذلك. وسياق لا جَرَمَ عند البصريين أن يكدن (لا) ردّا لما دعاه إليه قومه وجَرَمَ بمعنى كسب. أي وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته. أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته. ويجوز أن يكون لا جَرَمَ نظير (لا بد) من الجرم وهو القطع. فكما أنك تقول (لا بد لك أن تفعل) والبد من التبديد الذي هو التفريق، ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا، فكذلك لا جَرَمَ معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام. بل هي باطلة أبدا. هذا ما يستفاد من (الكشاف) .
وفي (الصحاح) : قال الفرّاء: لا جَرَمَ كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا محالة، ولا بد فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة (حقا) فلذلك يجاب عنها باللام. ألا تراهم يقولون (لا جرم لآتينك) وقد حقق الكلام فيها ابن هشام في (المغني) في بحث. والجلال في (همع الهوامع) أثناء بحث إن والقسم، فانظرهما. وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ أي في الضلالة والطغيان وسفك الدماء هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي من النصح عند معاينة الأهوال وما يحيق بكم وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي وأسلم أمري إليه وأجعله له وأتوكل عليه، فإنه الكافي من توكل عليه إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي فيعلم المطيع منهم والعاصي، ومن يستحق المثوبة والعقوبة.(8/311)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 45]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي فرفع الله عن هذا المؤمن من آل فرعون، بإيمانه وتصديق رسوله موسى، مكروه ما كان فرعون ينال به أهل الخلاف عليه، من العذاب والبلاء، فنجاه منه وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ أي بفرعون وقومه سُوءُ الْعَذابِ يعني الغرق أو النار. وعلى الأول، فقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 46 الى 48]
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا جملة مستأنفة مبينة لكيفية نزول العذاب بهم. على أن النَّارُ مبتدأ وجملة يُعْرَضُونَ خبره. وعلى الثاني، فالنار خبر لمحذوف وهو خبر العذاب السيّئ. أو هي بدل من سُوءُ الْعَذابِ. والمراد عرض أرواحهم عليها دائما. واكتفى بالطرفين المحيطين- الغدوّ والعشيّ- عن الجميع.
وبه يستدل على عذاب القبر والبرزخ. وقاناه الله تعالى، بمنه.
قال السيوطي: وفي (العجائب) للكرماني: في هذه الآية أدل دليل على عذاب القبر. لأن المعطوف غير المعطوف عليه. يعني قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي هذا العرض ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة يقال لهم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وهو عذاب جهنم. لأنه جزاء شدة كفرهم وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي يتخاصمون فيها، الأتباع والمتبوعون فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي أتباعا كالمكرهين فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها أي نحن وأنتم. فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي بأن أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ولا معقب لحكمه. أو بأن قدّر عذابا لكل منا لا يدفع عنه، ولا يتحمله عنه غيره، قال الشهاب:
وهذا أنسب بما قبله.(8/312)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 49]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49)
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي لما أيسوا من التخفيف عند المحاجّة ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ أي يدفع عنا يوما من أيام العذاب، أو ألم يوم وشدته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 50]
قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المتكاثرة على صدقهم، المنذرة بهذه الشدة قالُوا بَلى أي جاءوا بها وأخبروا مع البينات قالُوا فَادْعُوا أي إن كان ينفعكم، وهيهات وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع لا يجاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 51]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي لننصرهم في الدارين. أما في الدنيا، فبإهلاك عدّوهم واستئصاله عاجلا، أو بإظفارهم بعدوّهم وإظهارهم عليه، وجعل الدولة لهم والعافية لأتباعهم. وأما في الآخرة، فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي. والْأَشْهادُ جمع شاهد، وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيبهم ظلما. أو جمع شهيد، كأشراف وشريف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 52]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قال ابن جرير:
ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل. وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا، وتابع عليهم الحجج فيها، فلا حجة لهم في الآخرة إلا الاعتصام بالكذب، بأن يقولوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، ولذا(8/313)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
كانت لهم اللعنة، وهي البعد من رحمة الله وشر ما في الدار الآخرة من العذاب الأليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 53]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى. أي ما يهتدي به. فكذب به فرعون وقومه كما كذبت قريش وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 54]
هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)
هُدىً أي بيانا لأمر دينهم وما ألزمناهم من شرائعها وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي الحجى والعقول منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 55]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
فَاصْبِرْ أي إذا تلوت ما قصصناه عليك للناس، فاصبر على أذى المشركين واصدع بما تؤمر إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي بنصرك على من خالف، لا خلف له وهو منجزه. واذكر نبأ موسى وفرعون وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي سله غفرانه وعفوة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ كقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي يدفعون الحق بالباطل، ويردّون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: إلا تكبّر عن الحق وتعظم عن التفكر، وغمط لمن جاءهم به، حسدا منهم علي الفضل الذي آتاك الله، والكرامة التي أكرمك بها من النبوة ما هُمْ بِبالِغِيهِ قال ابن جرير: أي الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمدركيه ولا نائليه.(8/314)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وليس بالأمر الذي يدرك بالأماني. وقد قيل: إن معناه إن في صدورهم إلا عظمة، ما هم ببالغي تلك العظمة، لأن الله مذلّهم فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ قال ابن جرير: أي فاستجر بالله يا محمد، من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي لما يقولون وبما يعملون، فسيجازيهم.
تنبيه:
قال كعب وأبو العالية: نزلت هذه الآية في اليهود. وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم، وأنهم يملكون به الأرض. فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يستعيذ بالله من فتنته. قال ابن كثير:
وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد. وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. ولم يذكره ابن جرير، على ولعه بالغريب والضعيف.
وفي (الإكليل) : ليس في القرآن الإشارة إلى الدجال إلا في هذه الآية، أي على صحة هذه الرواية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 57]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ أي: لإنشائهما وابتداعهما من غير شيء، أعظم من خلق البشر وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي لا ينظرون ولا يتأمّلون لغلبة الجهل عليهم. ولذا يجعلون إعادة الشيء أعظم من خلقه عن عدم، مع أنه أهون وأيسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 58]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي ما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما شاء. ويؤمن به- والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره. وذلك مثل للمؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله فيتفكر فيها ويتعظ، ويعلم(8/315)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
ما دلت من توحيد صانعه وعظيم سلطانه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي ولا يستوي أيضا المؤمنون بالله ورسوله، المطيعون لربهم وَلَا الْمُسِيءُ وهو الكافر بربه، العاصي له، المخالف أمره قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي حججه تعالى. فيعتبرون ويتعظون. أي لو تذكّروا آياته واعتبروا بها، لعرفوا خطأ ما هم مقيمون عليه، من إنكار البعث، ومن قبح الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 59]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي فأيقنوا بمجيئها وأنكم مبعوثون ومجازون بأعمالكم، فتوبوا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون بمجيئها. يعني المشركين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 60]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني أثبكم. قال الزمخشري:
والدعاء بمعنى العبادة، كثير في القرآن. ويدلّ عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين أذلّاء. قال الشهاب: إطلاق الدعاء على العبادة مجاز، لتضمن العبادة له، لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق. وجعل الإثابة لترتبها عليها استجابة، مجازا أو مشاكلة. وإنما أوّل به لأن ما بعده يدل عليه.
والمقام يناسبه الأمر بالعبادة. وقد جوّز أن يراد بالدعاء والاستجابة ظاهرهما. ويراد بالعبادة الدعاء مجازا، لأنه باب من العبادة عظيم، وفرد من أفرادها فخيم. قال الشهاب: ولو قيل لا حاجة إلى التجوّز، لأن الإضافة المراد بها العهد هنا، فيفيد ما ذكر من غير تجوّز- لكان أحسن. انتهى.
وعلى الوجه الثاني- وهو أن المراد بالدعاء السؤال- اقتصر كثير من المفسرين. قال المهايميّ أَسْتَجِبْ لَكُمْ لأن الدعاء من العبد غاية في التذلل لربه، وهو محبوب لربه. فإذا أتى العبد بمحبوب الرب عظمه بالاستجابة. وإذا لم يستجب له في الدنيا عوّضه في الآخرة. ولحبه التذلل أمر العباد بالعبادة، فإن استكبروا كان(8/316)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
لهم غاية الإذلال. وقال القاشانيّ: الآية في دعاء الحال. لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعوّ به خير له أم لا، دعاء المحجوبين. وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة، فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما يطلبه. ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء. كمن طلب المغفرة، فتاب إلى الله، وأناب بالزهد والطاعة. انتهى.
وتقدم في آية أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] ، فوائد تناسب هذا المقام، فلتراجع. ثم أشار تعالى إلى أنه كيف لا يلزم العباد عبادته، وقد أنعم عليهم بما يقتضي شكره بالعبادة، مما أجلاه منافع الليل والنهار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 62]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي الله الذي لا تصلح الألوهية إلا له.
ولا تنبغي عبادة غيره، هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه، فتستردوا بالراحة فيه، ما فاتكم من القوى في العمل بالنهار وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي أن يبصر فيه أو به لتتحركوا لتحصيل الأكساب الدينية والدنيوية. فقد تفضل الله عليكم بهما وبما فيهما إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي ليشكروه بعبادته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي عن طاعته إلى إثبات الشريك وعبادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 63]
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي من الأمم المتقدمة الهالكة.
أي فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم، وركبتم محجتهم في الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 64]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)(8/317)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي تستقرون عليها وتسكنون فوقها وَالسَّماءَ بِناءً أي مبنية مرفوعة فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم.
وقد فسّر (البناء) بالقبة المضروبة. لأن العرب تسمّي المضارب (أبنية) .
فهو تشبيه بليغ، وهو إشارة إلى كرّيتها. قاله الشهاب وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي يجعل كل عضو في مكان يليق به، ليتم الانتفاع بها، فتستدلوا بذلك على كمال حكمته وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي لذيذات المطاعم والمشارب لتشكروه وحده ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي الذي لا تصلح الربوبية إلا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 65]
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
هُوَ الْحَيُّ أي الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي مفردين له الطاعة، لا تشركوا في عبادته شيئا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي الثناء والشكر لله، مالك جميع أجناس الخلق، لا للأوثان التي لا تملك شيئا، ولا تقدر على ضرر ولا نفع.
قال ابن جرير: وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال (لا إله إلا الله) أن يتبع ذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تأولا منهم هذه الآية، بأنها أمر من الله بقيل ذلك. ثم أسنده عن ابن عباس وابن جبير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الآلهة والأوثان لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي أي الآيات الواضحات من عنده، على وجوب وحدته وتفرده بالعبادة وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أخضع له بالطاعة دون غيره من الأشياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 67]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)(8/318)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي مما يرجع إليه. أو خلق أباكم آدم منه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي يبقيكم لتبلغوا أشدكم، فتتكامل قواكم ثُمَّ لِتَكُونُوا أي إذا تناهى شبابكم وتمام خلقكم شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن يصير شيخا وَلِتَبْلُغُوا أي ونفعل ذلك لتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى أي ميقاتا محدودا لحياتكم، وهو وقت الموت. أو لجزائكم وهو يوم القيامة وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي ولكي تعقلوا حجج الله عليكم بذلك، وتتدبروا آياته، فتعرفوا بها أنه لا إله غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 68]
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي يكوّنه من غير كلفة ولا معاناة. وقد تقدم في (البقرة) الكلام على هذه الآية مطوّلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 72]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ أي عن الرشد إلى الغيّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بكتاب الله، وهو القرآن وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ أي الماء الحارّ. قال المهايميّ: لدفعهم برد اليقين من دلائل الكتاب والسنة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي يحرقون. قال المهايميّ: لإحراقهم الأدلة العقلية والنقلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 73 الى 74]
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا فلم نعرف مكانهم. وهذا قبل أن يقرنوا معهم. أو ضلالهم استعارة لعدم نفعها لها.
فحضورهم كالعدم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي ما كنا مشركين. وكذبوا(8/319)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
لحيرتهم واضطرابهم. أو بمعنى: تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا. قال القاشانيّ:
لاطلاعهم على أن ما عبدوه وضيعوا أعمارهم في عبادته، ليس بشيء، فضلا عن إغنائه عنهم شيئا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي أهل الكفر به، عنه وعن رحمته، فلا يخفف عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 75]
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
ذلِكُمْ أي العذاب بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي بسبب فرحكم في الدنيا، بغير ما أذن الله لكم به، من الباطل والمعاصي، وبمرحكم فيها. و (المرح) هو الأشر والبطر والخيلاء. وبين (الفرح) و (المرح) تجنيس بديع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 76]
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي منزل المتعظمين عن الإيمان والتوحيد، جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 77]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فاصبر على جدال هؤلاء المتكبرين في آيات الله، وعلى تكذيبهم، فإن وعد الله إياك بالظفر عليهم، حق ثابت فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي من العذاب والنقمة أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي قبل أن يحل بهم ما يحل فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي فنحكم بينهم بالحق، وهو الخلود في النار، لمناسبة نفوسهم الكدرة الظلمانية، البعيدة عن الحق، واستحكام ملكات رذائلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : آية 78]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)(8/320)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أي لتقف على ما وفينا لهم من وعد النصر إياهم في الدنيا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أي لمكان الطول. مع أن في نبئهم ما يشاكل نبأ المذكورين. والشيء يعتبر بشكله وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره. وهذا رد لمقترحهم وتعنتهم في طلب ما قص عنهم من آية وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] الآية، بأن الإتيان بذلك مردّه مشيئة الله تعالى وإرادته به. وقد شاء أن تكون الآية العظمى تنزيله، الأكبر من كل آية، والأعظم من كل خارقة. فهو خير الآيات وأحسنها وأقوم المعجزات وأمتنها. كما قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: 51] ، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي عند عدم الإيمان بالآية المقترحة، بعد إتيانها قُضِيَ بِالْحَقِّ أي من المؤاخذة، بعد تقرير الحجة المقترحة لهم وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي في دعواهم الشريك، وافترائهم الكذب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 82]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
اللَّهُ أي الذي لا تصلح الألوهية إلا له الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي مسخرة لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود والأوبار والأصواف وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي بالمسافرة عليها وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ أي في طريق البحر تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي دلائله الدالة على فرط رحمته وكمال قدرته فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أي من الحصون والقصور والمباني والعدد والعدد فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي مما لا يدفع به العذاب الأرضيّ ولا السماويّ.(8/321)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة غافر (40) : الآيات 83 الى 85]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي الخالي عن نور الهداية والوحي، ورضوا بها عن قبول هداية الرسل ومعارفهم. واستهزءوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به، في جنب ما عندهم من العلم الوهمي وَحاقَ بِهِمْ أي من عذاب الله ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي جزاؤه فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي مضت في خلقه، أن لا يقبل توبة ولا إيمانا في تلك الحال وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ
أي وهلك، عند مجيء بأسه تعالى، الكافرون بربهم الجاحدون توحيد خالقهم. ففاتتهم سعادة الأبد، والعيش الرغد. نسأله تعالى المعافاة من غضبه وعقابه، والموافاة مع زمرة أحبابه. آمين.(8/322)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فصلت (حم السجدة)
سميت بها لاشتمالها على آية سجدة. تدل على بطلان عبادة المظاهر بالكلية. وأن الله يستحق بذاته أجلّ العبادات. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. وآيها أربع وخمسون.(8/323)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال أبو السعود: إن جعل (حم) اسما للسورة، فهو إما خبر مبتدأ محذوف، وهو الأظهر، أو مبتدأ خبره تَنْزِيلٌ وهو على الأول خبر بعد خبر. وخبر لمبتدأ محذوف، إن جعل مسرودا على نمط التعديد.
وقوله تعالى: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ متعلق به، مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية، بالفخامة الإضافية. أو خبر آخر. أو تَنْزِيلٌ مبتدأ لتخصصه بالصفة، خبره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 3]
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
كِتابٌ وهو على الوجوه الأول بدل منه، أو خبر آخر، أو خبر لمحذوف.
ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت بالاشتمال على جميع المطالب الدينية، مع الدلائل العقلية قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلسان عربيّ يتيسر فيه من جميع الفوائد ما لا يتيسر في غيره. وانتصاب قُرْآناً على المدح، أو الحالية من كِتابٌ لتخصصه بالصفة، أو من آياتُهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي مقداره ومعانيه. أو لأهل العلم والنظر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 4]
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
بَشِيراً أي للعاملين به، الناظرين فيه، والمستخرجين منه، بالنعيم المقيم وَنَذِيراً أي للمعرضين عنه بخلود الأبد في نار جهنم فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر(8/324)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
هؤلاء القوم، الذين أنزل هذا القرآن بشيرا ونذيرا لهم، فلم يتدبروه فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يصنعون له، عتوّا واستكبارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 5]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيء مما تدعونا إليه، من التوحيد وتصديق ما في هذا القرآن من الأمر والنهي والوعد والوعيد وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم، لا نسمع ذلك، استثقالا له وكراهية وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي فلا تواصل ولا تلاقي على ما ندعي إليه فَاعْمَلْ أي على ما تدعو إليه، وانصب له إِنَّنا عامِلُونَ أي على ما ألفينا عليه آباءنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 8]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي بالتوحيد وإخلاص العبادة، من غير انحراف إلى الباطل والسبل المتفرقة وَاسْتَغْفِرُوهُ أي بالتوبة من الشرك وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي لا يزكون أنفسهم.
بطاعة الله، أو لا ينفقون من أموالهم زكاتها. وهذا ما رجحه ابن جرير، ذهابا إلى أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة. لا سيما مع ضميمة الإيتاء. وفيه إشارة إلى أن من أخص صفات الكفار هو منع الزكاة، ليحذر المؤمنون من ارتكابه. وعن قتادة: إن الزكاة قنطرة الإسلام. فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. قال ابن جرير: وقد كان أهل الردة، بعد نبي الله، قالوا: أما الصلاة فنصلي. وأما الزكاة، فو الله! لا تغصب أموالنا. قال فقال أبو بكر: والله! لا أفرق بين شيء جمع الله بينه. والله! لو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله، لقاتلناهم عليه وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي بإحيائهم بعد مماتهم للمجازاة هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي عليهم. أو غير منقوص. أو غير منقطع. أو غير محسوب.(8/325)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 10]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي في مقدارهما. وعلمهم بصلة الموصول، إما لما تلقوه خلفا عن سلف، فاستفاض بينهم. أو لما سمعوه من الكتب السالفة، كالتوراة، فأذعنت بذلك نفوسهم، حتى صار معهودا لها وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي أكفاء وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ذلِكَ أي الذي خلق الأرض في يومين رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها أي أكثر خيرها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ أي مستوية بالامتزاج والاعتدال، للطالبين للأقوات والمعايش. أي قدرها لهم، أو لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي والبركة، وتقدير الأقوات. فحدّه، كما أخبر تعالى، أنه أربعة أيام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 11]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إلى إيجادها. و (ثم) للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه، واختلافهما في الجهة والجوهر، لا للتراخي في الزمان، إذ لا زمان هناك. قاله القاشانيّ.
وقال ابن جرير: أي ثم ارتفع إلى السماء، أي بلا تكليف ولا تمثيل وَهِيَ دُخانٌ قال القاشاني: أي جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية.
وقال القاضي: (دخان) أمر ظلمانيّ. ولعله أراد به مادتها. أو الأجزاء المصغرة التي ركبت منها. وأصله للرازي حيث قال: لما خلق تعالى الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء، كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا، وأحدث صفة الضوء فيها، فحينئذ صارت مستنيرة. فثبت أن تلك الأجزاء، حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس والقمر،(8/326)
كانت مظلمة. فصح تسميتها بالدخان. لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة، غير متواصلة، عديمة النور. ثم قال: فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
وقال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية وَهِيَ دُخانٌ: أي ذرات، أي غازت أي سديم. ثم تجاذبت كما يجتمع السحاب فصارت كتلة واحدة. مصداقا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء:
30] . أي كتلة واحدة. فدارت ثم تقطعت وتفصلت بالقوة الدافعة، فتكونت الأرض والسماوات، تصديقا لقوله تعالى: فَفَتَقْناهُما أي فصلناهما، فصارتا كرات من الماء في يومين. أي ألفي سنة. لقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ، وفي هذا الوقت كان عرشه على الماء. أي كان ملكه وسلطانه على الماء، والله أعلم. انتهى والله أعلم فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ قال القاشاني: أي تعلق أمره وإرادته بإيجادهما، فوجدتا في الحال معا. كالمأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله. وهو من باب التمثيل. إذ لا قول ثمة. انتهى.
وقال ابن جرير: أي قال الله جل ثناؤه للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء، فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم. وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات. وتشققي عن الأنهار قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك، لا نعصي أمرك. انتهى. يعني أن إثبات المقاولة مع السماء والأرض من المجاز. إما بالاستعارة المكنية. كما تقول (نطقت الحال) فتجعل الحال كإنسان يتكلم في الدلالة، ثم يتخيل له النطق الذي هو لازم المشبه به، وينسب إليه. وإما بالاستعارة التمثيلية بأن شبه فيه حالة السماء والأرض التي بينهما وبين خالقهما، في إرادة تكوينهما وإيجادهما، بحالة أمير ذي جبروت له نفاذ في سلطانه، وإطاعة من تحت تصرفه من غير تردد. وقد ردّ غير واحد قول من ذهب إلى أن في الجمادات تمييزا ونطقا على ظاهر أمثال هذه النصوص. منهم ابن حزم. قال في (الفصل) : وأما قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن، إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس، بهواء يصل إلى آذان السامع، فيفهم به مرادات القائل. فإذ لا(8/327)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
شك في هذا، فلكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق، فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا مما لا يشك فيه ذو عقل. فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان، فكل قول ورد به نصّ ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته، فإنه ليس هو القول المعهود عندنا. لكنه معنى آخر. فإذ هذا كما ذكرنا، فبالضرورة صح أن معنى قوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل وتصريفه لهما. انتهى.
وكذا الحال في ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فإنهما لما نزلا ... وهما من الجمادات- منزلة العقلاء، إذ أمرا وخوطبا على طريق المكنية أو التمثيلية، أثبت لهما ما هو من صفات العقلاء من الطوع والكره ترشيحا. وهما مؤولان ب (طائع وكاره) لأن المصدر لا يقع حالا بدون ذلك، ويجوز كونهما مفعولا مطلقا. وإنما قال طائِعِينَ بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء الذكور. وكان مقتضى الظاهر (طائعات) أو (طائعتين) نظرا إلى الخطاب والإجابة والوصف بالطوع والكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 12]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي أحكمهن بإزالة رخاوة الدخان.
قال المهايميّ ولم يجعل لمادتها يوما. لأنها كمادة الأرض. فدخلت في يومها وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي ما أمر به فيها ودبّره من الملائكة والخلق الذي فيها، وما لا يعلم وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ فإنها كالسقف المرفوع المزين بمصابيح معلقة به، ما يدعو إلى الاستدلال بها على قدرة صانعها وحكمته وَحِفْظاً أي من الشياطين أن تسترق أخبارها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 13]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13)
فَإِنْ أَعْرَضُوا أي عن هذا الاستدلال، وعن الإيمان بهذا العزيز الغالب على كل شيء، الذي اقتضى علمه ترتيب بعض الأمور فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ لأنكم مثلهما في العناد، ومثل عاد في الاستكبار، ومثل ثمود في استحباب العمى على الهدى.(8/328)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
قال ابن جرير: قد بينا فيما مضى أن معنى الصاعقة كل ما أفسد الشيء وغيّره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع: عني بها وقعة من الله وعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 14 الى 16]
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال الزمخشريّ: أي أتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوّ والإعراض كما حكى الله تعالى عن الشيطان لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف: 17] ، يعني لآتينهم من كل جهة. ولأعلمن فيهم كل حيلة، وتقول (استدرت بفلان من كل جانب، فلم يكن لي فيه حيلة) . وحاصله جعل الجهتين كناية عن جميع الجهات، علي ما عرف في مثله. والمراد بإتيانهم من جميع الجهات، بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية. ويحتمل أن المعنى: جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهه المستقبل وما سيجري عليهم. فالمراد بما بين أيديهم الزمن الماضي، وبما خلفهم المستقبل.
ويجوز فيه العكس، كما ذكر في آية الكرسيّ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا أي إرسال رسول لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي من السماء بما تدعوننا إليه فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي من عبادة الله وحده كافِرُونَ فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي حتى نخاف عذابه، لو تركنا عبادته، أو عبدنا معه غيره أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي فيجب أن يحذر عقابه ويتقى عذابه وَكانُوا بِآياتِنا أي التي هي أقوى الدلائل يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أي لعتوّهم بالقوة رِيحاً صَرْصَراً أي شديدة الصوت في هبوبها فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي مشؤومات عليهم لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أى في الأخرى. كما لم ينصروا في الدنيا.(8/329)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
تنبيه:
قال الرازيّ: استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسا وبعضها قد يكون سعدا. لأن النحس يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي. ثم أطال الرازيّ في الجواب والإيراد. ولا يخفى أن السعد والنحس إنما هو أمر إضافيّ لا ذاتيّ. وإلا لكان اليوم الذي يراه المنجمون نحسا، مشؤوم الطالع على كل ما أشرقت عليه الشمس. وكذا ما يرونه سعدا. والواقع بخلاف ذلك. إذ اليوم النحس عند زيد، قد يكون سعدا عند بكر. بل الساعة بل الدقيقة. فأين تلك الدعوى؟ والقرآن أتى على أسلوب العرب البديع. ومن لطائفهم تسمية وقت الشدّة والبؤس بالنحس، ومقابلها بالسعد. فالنحس نحس على صاحبه. والسعد سعد على صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 17]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بيّنّا لهم سبيل الحق وطريق الرشد. ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة. وأمرناهم أن يقتفوا الهدى فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من الآثام، بكفرهم بالله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 18]
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي يخشون ربهم ويخافون وعيده. وذلك بالإيمان به وحده وتصديق رسله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 19]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يوم يجمع، لمزيد الفضيحة، بين الأولين والآخرين، أعداء الله المشركون والجاحدون، إلى النار فيجيء أولهم على آخرهم، ليتم إلزام الحجة عليهم بين جميعهم، فلا يبقى لهم مقال لهم لأنهم لا يزالون يجادلون عن أنفسهم.(8/330)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 20]
حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)
حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي فبالغوا في إنكار المخالفة شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ أي بأنهم سمعوا الحجج فأعرضوا عنها، وسمعوا الشبه فاتبعوها، وسمعوا الفواحش فاستحسنوها وَأَبْصارُهُمْ أي بأنهم رأوا الآيات فلم يعتبروها، ورأوا القبائح فاختاروها وَجُلُودُهُمْ أي بأنهم باشروا المعاصي، فوصل أثرها إلى القوة اللامسة منهم، فيشهد كل عضو وجزء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 21]
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ أي المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا أي بما يوجب إيلامكم قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ أي بهذه الشهادة الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أنطق كل شيء من الحيوان. فهو من العامّ الذي خصه العقل، كقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] ، أي كل شيء من المقدورات. هذا، على أن النطق علي ظاهره وحقيقته. وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا، بتغير أشكالها ونحوه. مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك، لارتفاع الغطاء في الآخرة. فالنطق مجاز عن الدلالة.
قال القاشانيّ: معنى شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي غيرت صور أعضائهم، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ إذ لا يخلو شيء ما من النطق. ولكن الغافلين لا يفهمون. انتهى. لكن قال الرازيّ: تفسير هذه الشهادة، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء، دالة على صدور تلك الأعمال منهم، عدول عن الحقيقة إلى المجاز. والأصل عدمه.
ثم قال: وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة. فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء. والله أعلم.(8/331)
تنبيه:
قال الرازيّ: نقل عن ابن عباس أنه قال: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، وإنه من باب الكنايات كما قال وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235] وأراد النكاح. وقال: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ [النساء: 43] و [المائدة: 6] ، والمراد قضاء الحاجة. فتكون الآية وعيدا شديدا في الزنى. انتهى.
وقد أشار الإمام ابن الأثير في (المثل السائر) إلى ترجيح هذا المعنى. حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين، يدل عليهما لفظ واحد، يكون حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، وعبارته: الجلود هاهنا تفسّر حقيقة ومجازا.
أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو المانع البلاغيّ الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز، عن غير الجانب البلاغيّ. ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقة لفظ الجلود عامّ،، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة. ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة، شهادة باطلة. إذ هي شهادة غير شاهد. والشهادة هنا يراد بها الإقرار. فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا. وتقول الرّجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا. وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرّة بأعمالها. فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح. وإذا أريد به الجوارح، فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض. فإن أريد به الكل، دخل تحته السمع والبصر. ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة. وإن أريد به البعض، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح، لأمرين: أحدهما- أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج. فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع. الآخر- إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج. فكني عنه بالجلد، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر، من باب التفصيل، كقوله تعالى:
فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] . والنخل والرمان من الفاكهة. قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك. لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة، إنما هي تعظيم لأمر المعصية.(8/332)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
وغير السمع والبصر أعظم في المعصية. لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى. ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم: وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها. وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر، فأعظم. لأن معصية اليد توجب القطع. ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم. وهذا أعظم. فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر. وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة.
انتهى كلام ابن الأثير.
وناقشه ابن أبي الحديد في (الفلك الدائر) بما محصله: أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين، إذا كان بين لفظتي الجلد والفرج أو معناهما مناسبة. ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج. فعبر عن الكل بالبعض، وهو بعيد جدا. انتهى.
وأقول: مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى.
وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة. ولا يخفى أن أهمها بالعناية وأولاها بالإرادة هو الفروج. لأن معصيتها تربى على الجميع. وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العامّ على فرده الأهم. كقصرهم (سبيل الله) على الجهاد، مع أن (سبيل الله) يصدق على كل ما فيه خير وقربة ونفع ومعونة، على الطاعة. إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق. فذكر الجهاد لا ينفي غيره. وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير. فإنها من فوائده الجليلة. وينحل بها إشكالات.
ليست بالقليلة، والله الموفق. وقوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إما من تمام كلام الجلود، أو مستأنف من كلامه تعالى: وعلى كلّ، فهو مقرر لما قبله، بأن القادر على الخلق أول مرة، قادر على إنطاق كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 22]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ أي وما كنتم تستترون عند فعلكم الفواحش والمنكرات، مخالفة أو كراهة أن يشهد عليكم(8/333)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
ما ذكر. أي ليس استتارهم للخوف مما ذكر، بل من الناس. ف أَنْ يَشْهَدَ مفعول له، بتقدير مضاف. أو من أن يشهد أو عن أن يشهد. أو أنه ضمن معنى الظن، فهو في محل نصب. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق، أنه لا يمر عليه حال إلا وعليه رقيب، كما قال أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوما، فلا تقل ... خلوت. ولكن قل: علي رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليك، يغيب
وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ما ظننتم أن الله يعلم فينطق الجوارح، ولكن ظننتم أنه لا يعلم كثيرا، وهو ما عملتم خفية. فما استترتم عنها واجترأتم على المعاصي. وإذا كان أَنْ يَشْهَدَ مفعولا له، فالمعنى ما استترتم بالحجب، لخيفة أن تشهد عليكم الجوارح. فلذا ما استترتم عنها. لكن لأجل ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا، فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق، لا عن الخالق، ولا عما تنطق به الجوارح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 23]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي أهلككم بالجراءة على مخالفته في الدنيا، ومجادلته في القيامة فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي لأعمال النجاة.
والدرجات في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 24]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
فَإِنْ يَصْبِرُوا أي على النار فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي منزل ومسكن وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسألوا العتبى وهي الرجعة إلى الذين يحبون فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المجابين إليه، فلا يخفف عنهم العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 26]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)(8/334)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي بعثنا لهم نظراء من الشياطين اقترنوا بهم فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي حسّنوا لهم أعمالهم كلها، الحاضرة والمستقبلة.
فالطرفان كناية عن الجميع، أو ما بين أيديهم من جرائم الدنيا، وما خلفهم من التكذيب بالمعاد. قال الشهاب: وتفسير أمور الدنيا بما بين أيديهم، لحضورها عندهم، كالشيء الذي بين يديك تقلّبه كيف تشاء. والآخرة بما خلفهم، لعدم مشاهدتها، كالشيء الذي خلفك، أو لكونها ستلحق بهم. وقد يعكس فيجعل ما بين أيديهم الآخرة لأنها مستقبلة، وما خلفهم الدنيا لمضيّها وتركها كما مرّ قريبا.
وقال القاشاني في تفسير الآية: أي قدرنا لهم أخدانا وأقرانا من شياطين الإنس أو الجن، من الوهم والتخيل، لتباعدهم من الملأ الأعلى، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية، بانغماسهم في المواد الهيولانية. واحتجابهم بالصفات النفسانية، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية. فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة والكدرة المظلمة. وخالفوا الجواهر القدسية. فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية، والشهوات الطبيعية في وَما خَلْفَهُمْ أي من الآمال والأماني التي لا يدركونها وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي في القضاء الإلهي. بالشقاء الأبدي فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين بأنبيائهم، الضالين المضلين مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ستروا زينة أدلة القرآن عن أتباعهم. الذين زينوا لهم شبهاتهم الواهية لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي إذا قرأه، ولا تصغوا له، كيلا يؤثر عليكم وعظه وَالْغَوْا فِيهِ أي ائتوا باللغو عند قراءته، ليختلط. فلا يمكنه القراءة. والمراد باللغو ما لا أصل له. أو ما لا معنى له لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تصدّون من أراد استماعه، عن استماعه، فلا يسمعه. وإذا لم يسمعه، ولم يفهمه، لم يتبعه. فتغلبون بكيدكم هذا حججه، التي يغلب بها عقولكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 27 الى 28]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي المكث الأبدي. وفي النظم الكريم من البديع، التجريد. وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة، آخر مثله، مبالغة فيها. لأنها نفسها دار(8/335)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
الخلد. ويجعله للظرفية الحقيقية، تكلف لا داعي له. مع أن المذكور أبلغ. قاله الشهاب جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون أو يلغون. وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 29]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي ندوسهما انتقاما منهما لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ قال القاشاني: أي حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلهم من الفريقين، عند وقوع العذاب. وتمنوا أن يكونوا في أشد من عذابهم وأسفل من دركاتهم، لما لقوا من الهوان وألم النيران وعذاب الحرمان والخسران، بسببهم. وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم، وأنزل مراتبهم. كما ترى من وقع في البلية، بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها، يتحرّد عليه ويتغيّظ، ويكاد أن يقع فيه، مع غيبته ويتحرّق. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 30]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي وحّدوه بنفي غيره، وعرفوه بالإيقان حق معرفته ثُمَّ اسْتَقامُوا أي في أخلاقهم وعقائدهم وأعمالهم. وذلك بالسلوك في طريقه تعالى، والثبات على صراطه، مخلصين لأعمالهم، عاملين لوجهه، غير ملتفتين بها إلى غيره تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أي في الدنيا، بإلهامهم. أو عند الموت، أو حين البعث أَلَّا تَخافُوا أي ما تقدمون عليه بعد مماتكم وَلا تَحْزَنُوا أي على ما خلفتم من دنياكم، من أهل وولد. فإنا نخلفكم في ذلك كله. أو من الفزع الأكبر وهوله، فإنكم آمنون لآية لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:
103] ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا. أو الآيتان في مقامين وبشارتين. وفضله تعالى أوسع، وجوده أعم وأشمل. قال القاشاني: وإنما تنزلت الملائكة عليهم للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي، والإيمان اليقيني، والعمل الثابت على منهاج(8/336)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
الحق والاستقامة في الطريقة إليه. غير ناكثين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين في عمل. كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين، بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة. فتنزلت عليهم. انتهى. وقوله تعالى: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي في الدنيا، حال الإيمان بالغيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 32]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أي أحباؤكم في الدارين.
للتناسب بيننا وبينكم. كما أن الشياطين أولياء الكافرين، لما بينهم من الجنسية والمشاركة في الظلمة والكدورة. قال ابن كثير: أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا. نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله. وكذلك نكون معكم في الآخرة. نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور. ونؤمنكم يوم البعث والنشور. ونجاوزكم الصراط المستقيم. ونوصلكم إلى جنات النعيم. وقال الرازي: معنى كونهم أولياء للمؤمنين، أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية. كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح، بإلقاء الوساوس فيها، وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة، حاصل من جهات كثيرة معلومة، لأرباب المكاشفات والمشاهدات. فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة. فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال. بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى. وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة. وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر. والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة. كما
قال صلّى الله عليه وسلّم «1» : «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 353. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليلة أسري بي، لما انتهينا إلى السماء السابعة فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق. قال، فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.
فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات. فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.(8/337)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السموات. فإذا زالت العلائق الجسمانية، والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس»
. انتهى.
وهو مشرب صوفيّ ومنزع فلسفيّ، فيه شية من الرقة وَلَكُمْ فِيها
أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
أي من الروح والريحان والنعيم المقيم وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
أي تتمنون نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أي إكراما معدّا لكم، من غفور لذنوبكم، ورحيم بتفضله وتطوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 33]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي لا أحد أحسن مقالا ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد.
لطائف:
الأولى- قال القاشاني: وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل، لكونه أشرف المراتب، ولا لاستلزامه الكمال العلمي والعملي. وإلا لما صحت الدعوة. انتهى.
الثانية- في الآية إشارة إلى ترغيبه صلّى الله عليه وسلّم في الإعراض عن المشركين، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم. وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ، والدعوة، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات. فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق. وثمة وجه آخر. وهو أن مراتب السعادات اثنان: كامل وأكمل. أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته. فإذا فرغ من هذه الدرجة، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين.
فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] و [الأحقاف:
13] ، إشارة إلى المرتبة الأولى. وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها. فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الانتقال بتكميل الناقصين. وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق. وهو المراد من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا الآية واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية، ونصيبا وافيا من العلوم الإلهية، عرف أنه لا(8/338)
ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن، أفاده الرازي.
الثالثة- يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة، وسبيل من السبل المأثورة. لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية. ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق، وإيثاره على الخلق.
الرابعة- في الآية دليل على وجب الدعوة إلى الله تعالى- على ما قرره الرازي- لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال. وكل ما كان أحسن الأعمال، فهو واجب.
الخامسة- احتج من جوز قول (أنا مسلم) بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية. وقال: إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى. والمسألة معروفة بسطها الغزالي في (الإحياء) .
وللإمام ابن حزم في (الفصل) تحقيق لطيف لا بأس بإيراده. قال رحمه الله:
اختلف الناس في قول المسلم (أنا مؤمن) فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء، أنه كره ذلك. وكان يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) وقال بعضهم: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وكانوا يقولون: من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة.
ثم قال ابن حزم: والقول عندنا في هذه المسألة، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه. فإن كان يدري أنه مصدق بالله عزّ وجلّ، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكل ما أتى به عليه السلام. وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك. كما أمر تعالى، إذا قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ولا نعمة أوكد، ولا أفضل ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول (أنا مسلم قطعا عند الله تعالى، وفي وقتي هذا) ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود وأنا أبيض) . وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والتعجب في شيء. لأنه فرض عليه أن يحصن دمه بشهادة التوحيد. قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] ، وقول ابن مسعود عندنا صحيح. لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه (مسلم مؤمن) على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات. وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع رضي الله عنه من أن(8/339)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
يقول المرء (إني مؤمن) بمعنى مصدق. كيف؟ وهو يقول (قل آمنت بالله ورسله) أي صدقت. وأما من قال فقل إنك في الجنة، فالجواب أننا نقول: إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنة والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة. إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن من مكر الله تعالى. ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان، ولا ندري ماذا نكسب غدا. ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 34]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي لكون الأولى من مقام العقل تجرّ صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة. والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع السيئة حيث اعترضتك، بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة. على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا. أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. وإنما عدل من مقتضى الظاهر وهو (ادفع بالحسنة) إلى الأبلغ- لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه. وهذا الكلام أبلغ في الحمل والحث على ما ذكر. لأنه يومئ إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه.
قال القاشاني: أي إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة، التي هي أحسن، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها، فكيف بالسيئة؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة، بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب. فإن قابلتها بمثلها كنت منحطا إلى مقام النفس، متبعا للشيطان، سالكا طريق النار، ملقيا لصاحبك في الأوزار، وجاعلا له ولنفسك من جملة الأشرار، متسببا لازدياد الشر، معرضا عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة، سكّنت شرارته، وأزلت عداوته، وتثبت في مقام القلب على الخير، وهديت إلى الجنة وطردت الشيطان وأرضيت الرحمن، وانخرطت في سلك الملكوت، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة، ثم أشار تعالى إلى علة الأمر وثمرته بقوله: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ أي صديق أو قريب حَمِيمٌ أي شديد الولاء. وأصل الحميم الماء الشديدة حرارته. كنى به عن الولي المخلص في وده، لما يجد في نفسه من حرارة الحب والشوق والاهتمام نحو مواليه.(8/340)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 35]
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
وَما يُلَقَّاها أي هذه الخصلة الشريفة، والفضيلة العظيمة، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على تجرع الشدائد. أو على طاعته تعالى وأمره، تخلقا بالعلم والعفو وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي من الخير وكمال النفس. ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه. ومن الثواب وكمال العقل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 36]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، والانتقام منه، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، بالرجوع إلى جنابه تعالى، واللجأ إلى حضرته، من شره ووسوسته ونزغه. قال ابن كثير: قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف وهو قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 199- 200] ، وفي سورة المؤمنون وهو قوله سبحانه:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 96- 98] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 37]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
وَمِنْ آياتِهِ أي حججه تعالى على خلقه، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه اللَّيْلُ وَالنَّهارُ أي اختلافهما، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أي نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما، واختلاف سيرهما في سمائهما، لبقاء صلاح الكون لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليم، فهما مخلوقان وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي تفردونه بالعبادة. فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعته أحدا.
لأنها لا تنبغي لأحد سواه.(8/341)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
تنبيه:
استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في (المهذب) على صلاة الكسوف. قال:
لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها. وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء، لكونها في القرآن، بخلافها. كذا في (الإكليل) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 38]
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي عن عبادته كبرا وعتوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي من الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملّون عبادته، لأنها قرة أعينهم وحياة أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : الآيات 39 الى 41]
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41)
وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي ساكنة لا حركة لعشب فيها ولا نبات ولا زرع فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي اهتزت بالنبات وتحركت بزينته، وربت بارتفاعه على سطحها، أي صارت ربوة مرتفعة إِنَّ الَّذِي أَحْياها أي هذه الأرض الدارسة، فأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن حججنا وأدلتنا، ويزيغون عنها تكذيبا لها وجحودا لها لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي لإحاطة علمه بهم، وكونه بالمرصاد لهم، فسيجزيهم.
تنبيه:
شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه، كما فسّرها ابن عباس. قال في (الإكليل) : ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه(8/342)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
جوهر اللفظ، كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي بهذا القرآن لَمَّا جاءَهُمْ أي فهم هالكون. فالخبر محذوف. أو الجملة بدل من جملة إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ أي منيع محمي عن التغيير والتبديل، وعن محاكاته بنظير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 42]
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات.
قال القاشاني: لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا. ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله، ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق، كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته. فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين. هذا على أن ما بين يديه وما خلفه، كناية عن جميع الجهات. كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله. أو المعنى: لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية. والماضية ما بين يديه، والآتية ما خلفه. أو العكس كما مرّ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ قال ابن جرير: أي هو تنزيل من عند ذي حكمة، بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم، محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 43]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ أي ما يقول لك كفار قومك، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم، من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة.
أي فاصبر كما صبروا إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم، بالصفح عنهم وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي لمن أصرّ على كفره وذنوبه، ومات قبل التوبة منها.(8/343)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 44]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بيّنت أدلته وما فيه، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه. قال الزمخشري: كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل: لو كان كما يقترحون، لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا: لولا فصلت آياته؟ أي بيّنت ولخصت بلسان نفقههءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ الهمزة همزة الإنكار، يعني: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجميّ ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربيّ؟
والمعنى: إن آيات الله على أي طريقة جاءتهم، وجحدوا فيها متعنتا. لأن القوم غير طالبين للحق. وإنما يتعبون أهواءهم. انتهى.
قال الشهاب: والأعجمي أصله (أعجم) . ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة. كما في أحمري. ويطلق على كلامه مجازا. لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة. وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم. وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا. فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي. انتهى. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ أي: هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق، وتبصّرهم بالمعرفة. وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل. كالنفاق والشك، أي تبصّرهم بطريق النظر والعمل، فتعلمهم وتزكيهم وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أي لا يسمعونه ولا يفهمونه. بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها. فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي مثلهم في عدم قبولهم الحق، واستماعهم له، مثل من يصيّح به من مسافة شاطة، لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء. وذلك لبعدهم عن منبع النور الى يدرك به الحق ويرى. وانهماكهم في ظلمات الهيولى. قال الشهاب: وجعل النداء من مكان بعيد، تمثيلا لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له. يقال: أنت تنادى من مكان بعيد، أي لا تفهم ما أقول. وقيل: إنه على حقيقته، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك، تفضيحا لهم.(8/344)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 45]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ قال ابن جرير: أي فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود. وقال ابن كثير: أي كذب وأوذي، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ. أي لولا أنه تعالى قدر الجزاء في الآخرة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بتعجيل العذاب بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي موقع للريب والاضطراب لأنفسهم وأتباعهم، لعمى بصائرهم وتبلد عقولهم. وإلا فالحق أجلى من أن يخفى. وقال ابن كثير: أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم، لما قالوا. بل كانوا شاكّين فيما قالوه، غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجّهه ابن جرير. وهو محتمل. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 46]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أي من عمل بطاعة الله، فائتمر لأمره وانتهى عما نهاه، فلنفسه نفعه. لأنه يجازى عليه جزاءه الحسن وَمَنْ أَساءَ أي عمل السيّئ وعصى فَعَلَيْها ضرّه. لأنه جنى على نفسه بذلك، ما أكسبها سخط الله تعالى والعقاب الأليم ووَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه، ولا يعذّب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 47]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي لا يعلمها إلا هو. أو المعنى: إذا سئل عنها يقال:
الله عالم بها وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي أوعيتها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا(8/345)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ
أي مقرونا بعلمه. قال الزمخشري: يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي أعلمناك ما منا من يشهد لهم بالشركة ويقرّبها الآن. ف شَهِيدٍ فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم. أو هو منهم إنكار لعبادتها. فيكون كذبا، كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 48]
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي يعبدون من الأوثان، فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي وأيقنوا يومئذ مالهم من ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 49]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49)
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي لا يمل من مسألته ربه بالخير، كالمال وصحة الجسم وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ أي الضرّ في نفسه من سقم أو جهد في معيشته فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي من روح الله ورحمته، ومن أن يكشف ما نزل به. قال الزمخشري: بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء (فعول) ومن طريق التكرير.
والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 50]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي بتفريجها عنه لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي حقي نلته بعملي، لا بفضل من الله. جحدا للمنعم وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة. حرصا ورجما(8/346)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
بالغيب، وتلاعبا بما شاء الهوى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي فلنخبرن هؤلاء المتمنين على الله الأباطيل، بحقيقة أعمالهم. ولنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وهو تخليدهم في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 51]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي إذا كشفنا ما به من ضر، ورزقناه غنى وصحة وسعة، أعرض عما دعي إليه من الطاعة. وتكبر وشمخ بأنفه عن الإجابة. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير. يديم تضرعه، ويستغرق في الابتهال أنفاسه. وقد استعير (العرض) لكثرة الدعاء. كما يستعار له (الطول) أيضا.
فيقال: أطال فلان الدعاء، إذا أكثر. وكذلك أعرض دعاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 52]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ أي من غير نظر واتباع دليل مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي من أضل منكم. فوضع الموصول موضع الصلة، شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم. والشقاق الخلاف. لكون المخالف في شق وجانب ممن خالفه. قال الشهاب: الآية رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين. وختم السورة بما يلتفت لفت بدئها، وهو من الكلام المنصف. وفيه حث على التأمل، واستدراج للإقرار. مع ما فيه من سحر البيان. وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد. وتنبيها على ما هم عليه من الضلال البعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 53]
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني وقائع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها. وظهوره على الناس تصديقا للوعد وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي من(8/347)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
غلبتهم وقهرهم وكسر شوكتهم. وكما وقع في بدر وفتح مكة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي أن هذا القرآن، بوعده ووعيده، هو الحق الثابت، إذا لا برهان بعد عيان.
فقد نصر الله رسوله وصحبه، وخذل الباطل وحزبه أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي لا يخفى عليه شيء ما، مما يفعله خلقه، وهو مجازيهم عليه. ففيه وعد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة فصلت (41) : آية 54]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من البعث بعد الممات، ومعادهم إلى ربهم أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي فلا يخرج عن إحاطته شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] .(8/348)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشورى
سميت بالشورى، لإشعار آياتها بذلة الدنيا وعزة الآخرة، وصفات طالبيها، مع اجتماع قلوبهم بكل حال. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايمي: وهي مكية. وقيل إن فيها مدنيا. ومرّ مرارا تحقيق ذلك، وآيها ثلاث وخمسون.(8/349)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2)
حم عسق قد روى بعض المفسرين ها هنا، في تفسير حم عسق آثارا واهية جدا لا يعول عليها. بل هي، كما قال ابن كثير منكرة، وقد قدمنا أن الصواب أن هذه الحروف، أوائل السور الكريمة، أسماء لها. وحم عسق اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما، وعدّا آيتين. وقيل اسم واحد، والفصل ليناسب سائر الحواميم، فيكون آية واحدة. وهو الوجه عندي لاشتهارها بهما معا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 3]
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كلام مستأنف، وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف سائر الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق. أو أن إيحاءها مثل إيحائها، بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها. والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ل (يوحي) على الأول- وعلى أنه نعت لمصدر مؤكد له، على الثاني و (ذلك) على الأول إشارة إلى ما فيها. وعلى الثاني إلى إيحائها. وما فيه من معنى البعد، للإيذان بعلوّ رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل. أي مثل ما في هذه السورة من المعاني، أوحى إليك في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. على أن مناط المماثلة ما أشير إليه من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد. أو مثل إيحائها، أوحى إليك عند إيحاء سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم. لا إيحاء مغايرا له. كما في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [النساء: 163] الآية. على أن مدار المثلية كونه بواسطة الملك. وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية،(8/350)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
للإيذان باستمرار الوحي، وأن إيحاء مثله عادته. وفي جعل مضمون السورة أو إيحاءها مشبها به، من تفخيمها ما لا يخفى. وكذا في وصفه تعالى بوصفي العزة والحكمة. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل. مع ما فيه من التشويق. وقرئ (يوحى) على البناء للمفعول، على أن (كذلك) مبتدأ (ويوحى) خبره المسند إلى ضميره، أو مصدره و (يوحي) مسند إلى (إليك) . و (الله) مرتفع بما دل عليه (يوحي) كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: الله. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان له، أو مبتدأ، كما في قراءة (نوحي) ، والعزيز وما بعده خبران له. أو العزيز الحكيم صفتان له. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 4]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبران له. وعلى الوجوه السابقة، استئناف مقرر لعزته وحكمته. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 5 الى 6]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يتشققن لتأثرهن من تجليات عظمته، ويتلاشين من علوّ قهره وسلطنته، يدل عليه مجيئه بعد الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أو من دعائهم له ولدا، كما في سورة مريم وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يسألون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين به أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أفعالهم يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل لحفظ أعمالهم. وإنما أنت منذر فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 7]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)(8/351)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهلها، وهي مكة وَمَنْ حَوْلَها أي من العرب وسائر الناس وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم القيامة الذي تكون فيه الفضيحة أعظم، لأنه يجمع فيه الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله، واتبعوا ما جاءهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفريق في السعير، أي النار الموقدة المسعورة على أهلها. وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 8]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي أهل دين واحد وملة واحدة وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي ولكن لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، لمنافاة ذلك ما يقتضيه حكمة خلق الإنسان من تنوع أفراده المستلزم اختلاف أميالهم ومشاربهم. ولذا شاء ما اقتضاه خلقهم واستعدادهم. فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون. فأدخل من شاء في رحمته وهم المؤمنون، وفي عذابه، الكافرين. قال أبو السعود: ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي والكافرون بالله ما لهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله فينقذهم من عذابه، لأنه يدخلهم في قهره. وتوصيفهم بالظالمين، إشارة إلى عدل المؤمنين في باب الاعتقادات والأخلاق والأعمال والأفعال، وأنه تعالى يواليهم وينصرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 10]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي يتولونهم. مع أنه لا ولاية لهم في الحقيقة، إذ لا قدرة ولا قوة فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنه المولى والسيد دون غيره، لتوليه سبحانه كل شيء، وسلطانه وحكمه. والفاء جواب(8/352)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
شرط مقدر. كأنه قيل بعد إنكار كل وليّ سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الوليّ بالحق، لا وليّ سواه وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو المحيي القادر، فكيف تستقيم ولاية غيره، وقوله وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ تمهيد لما يأتي بعد، من الأمر بإقامة الدين وعدم التفريق فيه، الذي هو وصية الله تعالى لأنبيائه، وشرعته لخلقه، وتنبيه على أن خلاف من خالف من المشركين والكافرين، إنما مردّه إلى الله تعالى وحكمه وقضائه. وأنه لا دين إلا دينه، ولا عبادة إلّا عبادته، ولا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، والقصد الرد على مشركي مكة وأمثالهم، في تشريعهم ما لم يأذن به الله، وتحكيمهم إتباع الآباء وأفانين الأهواء. فإن السورة مكية. ومع ذلك، فتدل الآية على أن ما اختلف فيه المختلفون وتنازعوا في شيء من الخصومات، يجب أن يكون التحاكم فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن لا يوثر على حكومته حكومة غيره.
كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ، وتدل أيضا على الرجوع إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا اختلفوا في تأويل آية واشتبه عليهم. وعلى تفويض ما لم تصل إلي دركه العقول، إلى الله تعالى، بأن يقال: الله أعلم. كما في قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] . وقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي بتقدير (قل) أو هو حكاية لقوله صلّى الله عليه وسلّم. أي الذي هذه الصفات صفاته، ربي لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي في أموري كلها وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في المعاد، أو من الذنوب، أو في الأمور المعضلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 11]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي أصنافا مختلفة، أو ذكورا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي يكثركم. من (الذرء) وهو البث. يقال: ذرأ الله الخلق. بثهم كثّرهم. وفسر ب (يخلقكم) . وضمير (فيه) للبطن أو الرحم. وقال الزمخشريّ: أي في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل.
والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء(8/353)
على الغيب مما لا يعقل. فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل:
يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. انتهى.
وقيل (في) مستعارة للسببية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال ابن جرير: فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء. وأدخل المثل في الكلام، توكيدا للكلام، لكونهما بمعنى واحد. والآخر أن يكون معناه: ليس مثله شيء. وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام. انتهى.
وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة. أي ليس كصفته صفة. ورابع- وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من مثله ذاته. كما في قولهم: مثلك لا يبخل. على قصد المبالغة في نفيه عنه. فإنه إذا نفي عمن يناسبه. كان نفيه عنه أولى. ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة. وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشّمنّي. وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه. لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم. كما يقال: ليس لأخي زيد أخ. فأخو زيد ملزوم. والأخ لازمه. لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد. فنفي هذا اللازم. والمراد نفي ملزومه. أي ليس لزيد أخ. إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ. هو زيد. فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل. والمراد نفي مثله تعالى- إذ لو كان له مثل، لكان هو تعالى مثل مثله، لتحقق المماثلة من الجانبين.
فلا يصح نفي مثله (أي نفي مثل ذلك المثل) وبالجملة، فأطلق نفي مثل المثل، وأريد لازمه من نفي المثل. قال بعض الأفاضل: طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا. وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية. وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته. ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة. فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات.
وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم. مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال. ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى. ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا. بل هو محتمل فقط. كما تحتمل نفيه. وإن كان الأول أقرب، لكن عارضه في خصوص هذه المادة. أنه لو كان له مثل إلخ. فبطل ذلك الاحتمال من أصله. فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال فافهم ذلك. وقال العصام: هذا- أي كون الآية من باب الكناية- وجه تلقاه الفحول بالقبول. ورجّحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح.
وعدم الزيادة أحق بالترجيح. وفيه بحث، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي(8/354)
المثل. لأن الشيء ليس مثل مثله. بل المثل المشارك للشيء في صفة، منع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل. والمثل بمنزلة الملحق به المتقارب. انتهى.
ورده السيلكوتي فقال: ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه، فتوهم محض. لأن المماثلة هي الشركة، في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة. صرّح به في (شرح العقائد النسفية) انتهى. ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام. وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية ردّ على المشبهة. وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حالّ في مكان ولا زمان. انتهى.
وكان حقه أن يتم الاستنباط. فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة. فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد على المعطلة. ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف. فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه.
وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق. ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل.
فمثلوا أولا وعطلوا آخرا. فهذا تشبيه وتمثيل منهم، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عزّ وجلّ. بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة. فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. من غير تحريف ولا تشبيه. قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فرد على المشبهة بنفي المثلية، ورد على المعطلة بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال الحافظ ابن عبد البرّ: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيّفوا شيئا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة.
ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. انتهى.
قال الذهبي: صدق والله! فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أدّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم. كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة. قيل: لها سعف؟(8/355)
قالوا: لا. قيل لها كرب؟ قالوا: لا. قيل لها رطب؟ قالوا: لا. قيل: فلها ساق؟ قالوا:
لا. قيل: فما في داركم نخلة. قلت: كذلك هؤلاء النفاة قالوا إلهنا الله تعالى. وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا. وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات. بل نقول: سبحان الله العظيم السميع المريد، الذي كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا. ويرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقال الذهبي رحمه الله أيضا: مقال متأخري المتكلمين، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السموات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم. وقالوا: جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم. قال لهم أهل السنة والأثر: نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم. فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم. تعالى الله جلّ جلاله عن العدم. بل هو موجود متميز عن خلقه، موصوف بما وصف به نفسه، من أنه فوق العرش بلا كيف. انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) في القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك. والنفي كقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتا. وإلا فجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال. لأن النفي المحض عدم محض. والعدم المحض ليس بشيء. وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع. والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، إلى قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [البقرة: 255] ، فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي لا يكرثه ولا يثقله. وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته. وكذلك قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] ، فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات(8/356)
والأرض. وكذلك قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، فإن نفي مس اللغوب، الذي هو التعب والإعياء، دل على كمال القدرة ونهاية القوة. بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية. لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح. إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا. وإنما المدح في كونه لا يحاط به، وإن رئي. كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية. فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته، ما يكون مدحا وصفة كمال. وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها. لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة. وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا، هو مما لم يصف الله به نفسه. فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا، بل ولا موجودا. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك. كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش. ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت. ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق ميّز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال. بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات. فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص. فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم. فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أنه يقبل البصر، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه. وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها. فإن الله قادر على جعل الجماد حيّا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي
لا يوصف(8/357)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس. فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك. مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها. وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات. فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحيّ. وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال. فالحياة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها، صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات. فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به، لكان المخلوق أكمل منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 12 الى 13]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويغنيه، ويقتّر على آخرين إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اعلم أنه تعالى لما عظّم وحيه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: 3] ، ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك، وهو ما شرعه له ولهم من الاتفاق على عبادته وحده لا شريك له كما قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وفي الحديث «1» : نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد. يعنى: عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم. كقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] . وتخصيص هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 48- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث رقم 1617، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم 145.(8/358)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
عليهم السلام، بالذكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة. ولاستمالة قلوب الكفرة، لاتفاق الكل على نبوّة بعضهم. وابتدأ بنوح عليه السلام لأنه أول الرسل. والمعنى: شرع لكم من الدين ما وصى به جميع الأنبياء من عهد نوح عليه السلام إلى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتوصية فيهم والوحي له، للإشارة إلى أن شريعته صلّى الله عليه وسلّم هي الشريعة الكاملة. ولذا عبر فيه ب (الّذي) التي هي أصل الموصولات. وأضافه إليه بضمير العظمة، تخصيصا له ولشريعته بالتشريف وعظم الشأن وكمال الاعتناء. وهو السر في تقديمه على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي من إخلاص العبادة لله وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الأوثان اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يوفق للعمل لطاعته واتباع رسله من يقبل إلى طاعته ويتوب من معاصيه. ثم أشار إلى حال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 14]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
وَما تَفَرَّقُوا أي في دينهم وصاروا شيعا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل الصحيحة والبراهين اليقينية على حقية ما لديهم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ظلما وتعديا وطلبا للرئاسة وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو تأخير العذاب.
إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي باستئصالهم، لاستيجاب جناياتهم لذلك وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم أهل مكة الذين من الله عليهم بالكتاب العزيز لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي موقع لأتباعهم في الشك، لكثرة ما يبثونه من الوساوس الصادّة عن سبيل الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)(8/359)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
فَلِذلِكَ فَادْعُ أي فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، فادع الناس كافة إلى إقامة الدين لمقاومة الباطل ودحره، وهتك وساوسه وَاسْتَقِمْ أي على الدعوة إليه والصدع به كَما أُمِرْتَ أي أوحي إليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي: أيّ كتاب كان، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. أفاده أبو السعود وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي لأسوّي بينكم في دعوة واحدة كما قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: 64] الآية. ثم أشار إلى أن ما وراء الأمر المذكور والتبليغ به من الحساب، فهو إليه تعالى. فقال اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا خصومة ولا محاجة بعد هذا. لأن الحق قد ظهر. ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للمخالفة محل سوى المكابرة. والحجة في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج. كما ذكره الراغب. وتكون بمعنى الدليل. والمراد هو الأول دون الثاني. وهو ظاهر اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أي يوم القيامة، فيقضي بالحق فيما اختلفنا فيه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المعاد والمرجع للجزاء.
تنبيهان:
الأول- تفسير العدل بما ذكرناه، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام لا سيما والسورة مكية. ولم يكن مظهره صلوات الله عليه بها فصل الخصومات والقضاء في الحكومات. نعم من ذهب إلى ذلك فإنما وقف مع عمومها. ومنه قول قتادة: أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعدل حتى مات. والعدل ميزان الله في الأرض. به يأخذ للمظلوم من الظالم. وللضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب.
وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه.
الثاني- قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات. كل منها منفصلة عن التي قبلها. حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي. فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. انتهى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 16]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دينه الذي ابتعث به خاتم أنبيائه،(8/360)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
وهم الذين أورثوا الكتاب، المذكورون قبل، ليصدوا عن الهدى طمعا في عود الجاهلية مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي استجاب له الناس. أي بالاستسلام والانقياد لدينه حسبما قادهم إليه العقل السليم والنظر الصحيح وسيرة الداعي وهديه وحسن دعوته وتصديق الكتب المنزلة له وسلامة الفطرة حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي زائلة لأنها في باطل. والباطل لا بقاء له مع قوة الحق عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في حكمه وقضائه وتقديره. قال أبو السعود: وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة معهم على زعمهم الباطل وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ أي عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 17]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي متلبسا به في أحكامه وأخباره وَالْمِيزانَ أي وأنزل الميزان وهو العدل الذي يوزن به الحقوق ويسوّى به الخلاف وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ قال أبو السعود: أي شيء قريب. أو قريب مجيئها. أو الساعة بمعنى البعث. والمعنى أنها على جناح الإتيان. فاتبع الكتاب واعمل به وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 18]
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون منها. قال ابن جرير: لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي المتحقق وجوده لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي لإنكارهم عدل الله وحكمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 20]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)(8/361)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي يلطف بهم في تدبير إيصال ما يفتقرون من خبر الدين والدنيا يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
قال الزمخشري: سمي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والزكاء، حرثا على المجاز- أي بتشبيهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا. ولذلك قيل (الدنيا مزرعة الآخرة) وفرق بين عمل العاملين بأن من عمل للآخرة، وفّق في عمله وضوعفت حسناته. ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها، لا ما يريده ويبتغيه، وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه، وما له نصيب قط في الآخرة. ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب على أن رزقه المقسوم له، واصل إليه لا محالة- للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
انتهى.
وهذه الآية كآية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ [الإسراء:
18] ، إلخ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 23]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (أم) منقطعة، فيها معنى (بل والهمزة) ولا بد من سبق كلام، خبرا أو إنشاء، يضرب عنه ويقرر ما بعده.
وما سبق قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] ، إلخ فهو معطوف عليه، وما بينهما من تتمة الأول. والمراد بشركائهم، إما شياطينهم لأنهم شاركوهم في الكفر وحملوهم عليه. وإما أوثانهم. وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها(8/362)
شركاء وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وعلى الثاني، فإسناد الشرع إليها، لأنها سبب ضلالهم وافتتانهم بما تدينوا به. أو لأنها على صورة المشرّع الذي سنّ هذا الضلال لهم. ويجوز كون الاستفهام المقدّر حينئذ للإنكار. أي ليس لهم شرع ولا شارع.
كما في قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] ، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بأن الجزاء في القيامة لا في الدنيا. أو لولا ما وعدهم الله به من أنه يفصل بينهم ويبيّن في الآخرة. فالفصل بمعنى البيان لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لفرغ من الحكم بين الكافرين والمؤمنين، بتعجيل العذاب للكافرين وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ أي يوم البعث مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي من السيئات وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي نازل بهم لا محالة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تعطونيه إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا. ولا يكن غيركم، يا معشر قريش، أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم.
قال الشهاب: المودة مصدر مقدر ب (أن والفعل) . والقربى مصدر كالقرابة.
و (في) للسببية. وهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة. والخطاب، إما لقريش أو لجميع العرب، لأنهم أقرباء في الجملة. انتهى. والاستثناء منقطع. ومعناه نفي الأجر أصلا. لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم، لكونها سبب نجاتهم. فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. وقيل (القربى) التقرّب إلى الله تعالى. أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه.
والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة. ولم يرتض ابن عباس رضي الله عنه، غيره.
ففي البخاري «1» عنه أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد ابن جبير: القربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت. إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
قال ابن كثير: انفرد به البخاري- أي عن مسلم- ورواه الإمام أحمد. وهكذا
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 42- سورة الشورى، 10- باب قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، حديث رقم 1643.(8/363)
روى الشعبي والضحاك وعليّ بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس، رضي الله عنهما، مثله. وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسّدّي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي، لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم.
وروى الإمام أحمد «1» عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودّوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته. وهكذا روي عن قتادة والحسن البصريّ مثله
. وأما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار، فإسناده ضعيف. على أن السورة مكية. وليس يظهر بين الآية وتلك الرواية في هذا السياق مناسبة. وكذا ما
رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: فاطمة وولدها رضي الله عنهم
، فإن في إسناده مبهما لا يعرف، عن شيخ شيعي، وهو حسين الأشقر، فلا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد. فإنها مكية. ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعليّ رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه عنه البخاري. ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم. فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا. ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية. كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين
وقد ثبت في الصحيح «2» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته: إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي. وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.
وروى الإمام أحمد «3» عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن. وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال فغضب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا وقال: والذي نفسي بيده! لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله.
هذا ملخّص ما أورده ابن
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 268. والحديث رقم 2415.
(2) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 36.
(3) أخرجه في المسند 1/ 207، والحديث رقم 1772.(8/364)
كثير رحمه الله تعالى، وسبقه في الإيساع في ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في (منهاج السنة) من أوجه عديدة.
قال في الوجه الثالث: إن هذه الآية في سورة الشورى. وهي مكية باتفاق أهل السنة. بل جميع آل حم مكيات. وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر. والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة. والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة. فكيف يفسر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
ثم قال: الوجه الرابع- إن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك. فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت، بعد عليّ، يقول:
ليس معناها مودة ذوي القربى. ولكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا. لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم. فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أوّلا، أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.
الوجه الخامس- أنه قال: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوي القربى كما قال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الأنفال: 41] ، وقال ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الحشر: 7] ، وكذلك قوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 26] ، وقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [البقرة: 177] ، وهكذا في غير موضع. فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذوي قربى الإنسان، إنما قيل فيها (ذوي القربى) . لم يقل (في القربى) . فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم، دل على أنه لم يرد (ذوي القربى) .
الوجه السادس- أنه لو أريد المودة لهم لقال: المودّة لذوي القربى، ولم يقل في القربى، فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره: أسألك المودة في فلان، ولا في قربى فلان. ولكن أسألك المودة لفلان، والمحبة لفلان. فلما قال المودة في القربى، علم أنه ليس المراد لذوي القربى.
الوجه السابع- أن يقال إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا البتة.
بل أجره على الله كما قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ، وقوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور: 4] و [القلم:(8/365)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
46] وقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: 47] ، ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] ، ولا ريب أن محبة أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واجبة. لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات.
وفي الصحيح «1» عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى (خما) بين مكة والمدينة فقال (أذكركم الله في أهل بيتي)
وفي السنن «2» عنه أنه قال (والذي نفسي بيده! لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي)
فمن جعل محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه، فقد أخطأ خطأ عظيما. ولو كان أجرا له نثب عليه نحن، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة. فهل يقول مسلم مثل هذا؟؟؟.
الوجه الثامن- إن (القربى) معرفة باللام. فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقد ذكر أنها لما نزلت، لم يكن قد خلق الحسن والحسين، ولا تزوج علىّ بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها، يمتنع أن تكون هذه. بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم، كما تقول (لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا) وكما تقول (لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم) (ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر) .
انتهى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي بمضاعفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي لمن تاب وأناب شَكُورٌ لسعيهم بتضعيف جزاء حسناته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 24]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بدعوى النبوة والوحي فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ قال ابن كثير: أي: لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون، يختم على قلبك أي: يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن.
كقوله جل جلاله
__________
(1) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 36.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 208، الحديث رقم 1777.(8/366)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47] ، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. انتهى.
وهذا تفسير بالأشباه والنظائر من الآيات، يؤثره كثير من الأئمة، ما وجد إليه سبيلا. فإن التنزيل يفسّر بعضه بعضا. ومآل الآية على هذا المعنى، كما أوضحه أبو السعود، هو الاستشهاد على بطلان ما قالوا، ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى، لمنعه من ذلك قطعا، فختم على قلبه بحيث لم يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه. وحيث لم يكن الأمر كذلك. بل تواتر الوحي حينا فحينا، تبين أنه من عند الله تعالى.
وقال الزمخشري: فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب. فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله، إلا من كان في مثل حالهم. وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، وإنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في الجملة المختوم على قلوبهم. ومثل هذا أن يخوّن بعض الأمناء فيقول:
لعل الله خذلني. لعل الله أعمى قلبي. وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم.
انتهى.
قال الشهاب: فمعناه إن يشأ الله يختم على قلبك كما فعل بهم. فهو تسلية له صلوات الله عليه، وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه، ليشكر به ويترحم على من ختم على قلبه، فاستحق غضب ربه، ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر. ولذا أتى (بأن) في موضع (لو) إرخاء للعنان، وتلميحا للبرهان. على أنه لا يتصور وصفه بما.
ذكروه. فالتفريع بالنظر للمعنى المكني عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا المحال، لأنه مطبوعون على الضلال. انتهى وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ استئناف مقرر لنفي الافتراء عما يقوله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لو كان مفترى لمحقه. إذ من سنته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه. فليس (يمح) مجزوما بالعطف على الجزاء، بل معطوف على مجموع الجملة والكلام السابق. ولذا أعيد لفظ الجلالة ورفع (يحق) . قال الزمخشري: ويجوز أن يكون عدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن، وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم. إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك.(8/367)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 25]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أي يقبل رجوعه إذا راجع توحيد الله وطاعته، من بعد كفره وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي معاصيه التي تاب منها وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي من خير أو شر، وهو مجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 26 الى 27]
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يستجيب لهم. فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] ، أي يثيبهم على طاعتهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي على ثوابهم، منة منه وطولا وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي تجاوزوا الحدّ الذي حدّه لهم إلى غيره، بركوبهم ما حظره عليهم. لأن الغنى مبطرة مأشرة كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أي ولكن ينزل من رزقه ما يشاؤه بقدر، لكفايتهم إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ قال الزمخشري: أي يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط. كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 28]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي بركات الغيث ومنافعه وآثاره من الخصب والرخاء وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي الذي يتولى الخلق بإحسانه، والمحمود على أياديه عندهم.(8/368)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 29]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي حشرهم يوم القيامة إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ أي متمكن منه، لا يتعذر عليه وإن تفرقت أوصالهم.
تنبيه:
ذهب بعض الباحثين في آيات القرآن الفلكية والعوالم العلوية إلى معنى آخر في هذه الآية. وعبارته: يفهم من هذه الآية أن الله تعالى خلق في السموات دواب، ويستدل من قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ [النور: 45] ، أن هذه الدواب ليست ملائكة كما قال المفسرون، بل حيوانات كحيوانات الأرض. ولا يبعد أن يكون بينهم حيوان عاقل كالإنسان، ويلزم لحياة تلك الحيوانات أن يكون في السموات نباتات وأشجار وبحار وأنهار كما تحقق في هذا العصر لدى علماء الرصد.
ثم قال: لعمري، إن هذه الآية التي نزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل ألف وثلاثمائة وعشرين سنة، لآية لأهل هذا العصر وأيّة آية، آية لأهل العلم والفلسفة الذين يبذلون الأموال والأرواح بلا حدّ ولا حساب، ليتوصلوا إلى معرفة سر من أسرار الكائنات.
ومع هذا الجد العنيف والجهد المتواصل منذ ثلاثمائة سنة، لم يتوصلوا إلا بالظن إلى ما أنبأت به هذه الآية. وجل ما توصلوا إليه بالبرهان العقلي، إن الأرض أصغر من الشمس وأنها تدور حولها. وإن الكواكب السيارات كريّات. وأن النجوم الثوابت شموس، ولها سيارات تدور حولها. ولما ثبت لديهم جميعا وجود الماء والهواء، وحصول الصيف والشتاء في هذه السيارات، ظنوا أنه يوجد فيها عالم كعالم الأرض.
وبدأ البعض منهم يفكرون بإيجاد الوسائل للمخابرة بالكهربائية مع سكان المريخ الذي هو أقرب السيارات إلينا. وليس ذلك بالمستحيل فنّا. ويستدل على إمكانيته من آخر الآية نفسها وهو قوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ فلا يبعد أن يتخابرا ويجتمعا فكرا، إذا لم يجتمعا جسما. فلينظر الفلكيون إلى ما حوته هذه الآية المكنوزة في القرآن. وليعلم المعجبون منا بالعلوم العصرية، الضاربون صفحا عن العلوم الإسلامية، ما في كتاب الله من الحكمة والبيان.(8/369)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
وقال أيضا: لا يخفى أن القرآن العظيم نزل لبيان الحق وتعليم الدين، أولا وبالذات. لكن، تمهيدا لهذه السبيل، أتى بشذرات من العلوم الفلكية والطبيعية، وصرف بصائر الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما هن عليه من الإبداع.
فوجه أبصارهم إلى التأمّل في خلق الإنسان وما هو عليه من التركيب العجيب، إلى غير ذلك من الأمور الفلكية والطبيعية في أكثر من ثلاثمائة آية. فالمفسرون رحمهم الله، لما فسروا هذه الآيات، شرحوا معانيها على مقدار محيط علمهم بالعلوم الفلكية والطبيعية. ولا يخفى ما كانت عليه هذه الآلات في زمنهم من النقصان. لا سيما علم الفلك. فهم معذرون إذا لم يفهموا معاني هذه الآيات التي تحيّر عقول فلاسفة هذا العصر، المتضلعين بالعلوم العقلية. لذلك لم يفسروا هذه الآيات حق تفسيرها، بل أوّلوها وصرفوا معانيها عن الحقيقة إلى المجاز أو الكناية. انتهى كلامه.
وقال عالم فلكي أيضا: يقول العلماء إنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه، ويكون كل كوكب منها أرضا بالنسبة لحيواناته. وباقي الكواكب سموات بالنسبة لها.
قال: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح. لأن الله تعالى يقول في كتابه وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ ويقول: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 30]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فبسبب معاصيكم وما اجترمتم من الآثام. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 31]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بمعجزين ربكم إن أراد عقوبتكم، لأنكم في قبضة تصرّفه وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي إذا أراد عذابكم. فاتقوه واخشوه.(8/370)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 33]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي الجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي فيبقين ثوابت على ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جري هذه الجواري في البحر، بتسخير الله تعالى الريح لجريها لَآياتٍ أي لعبرة وعظة وحجة بيّنة على القدرة الأزلية لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن. وإنما آثر وصفيه المذكورين، تذكيرا بما ينبغي أن يكون المؤمن عليه من وفرة الصبر وكثرة الشكر. إذ لا يكمل الإيمان بدونهما (والإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 34 الى 35]
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي أو يهلكهن بالغرق بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ أي يخاصمون الرسول في آياته على توحيده أنهم ما لهم من محيد عن عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 38]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي مما زيّن للناس حبه من الشهوات فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو متاع لكم. تتمتعون به في الدنيا. وليس من الآخرة وَما عِنْدَ اللَّهِ أي من ثوابه الأخروي خَيْرٌ وَأَبْقى وذلك لخلوصه عن الشوائب ودوامه لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي في أمورهم وقيامهم بأسبابهم وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي يصفحون عمن أساء إليهم وَالَّذِينَ(8/371)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي حينما دعاهم إلى توحيده، والبراءة من عبادة غيره وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
وذلك من فرط تدبّرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم في إيمانهم وتحابّهم في الله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي فيؤدّون ما فرض عليهم من الحقوق لأهلها، من زكاة ونفقة. وما ندبوا إليه من مواساة وصدقة ومعونة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 39]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي بالعدالة. احترازا عن الذلة والانظلام، لكونهم في مقام الاستقامة، قائمين بالحق والعدل الذي ظلّه في نفوسهم.
قاله القاشاني. وقال ابن جرير: اختلف أهل التأويل في الباغي الذي حمد تعالى ذكره، المنتصر منه بعد بغيه عليه. فقال بعضهم: هو المشرك إذا بغى على المسلم.
وقال آخرون: بل هو كل باغ بغى فحمد المنتصر منه. وإليه ذهب السّدّي حيث قال:
ينتصرون ممن بغى عليهم من غير أن يعتدوا.
قال ابن جرير: وهذا القول الثاني أولى من ذلك بالصواب. لأن الله لم يخصص من ذلك معنى دون معنى. بل حمد كل منتصر بحقّ ممن بغى عليه.. فإن قال قائل:
وما في الانتصار من المدح؟ قيل: إن في إقامة الظالم على سبيل الحق، وعقوبته بما هو له أهل، تقويما له. وفي ذلك أعظم المدح. انتهى. وكذا قال الزمخشري. فإن قلت: أهم محمودون في الانتصار؟ قلت: نعم. لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، أو ردّ على سفيه محاماة على عرضه وردعا له، فهو مطيع. وكل مطيع محمود. قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق. ثم أشار تعالى إلى أن الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 42]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي وجزاء سيئة المسيء ما ماثلها. إذ النقصان(8/372)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
حيف والزيادة ظلم. ثم بيّن تعالى أن العفو أولى، فقال فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ أي بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثوابه عليه. وفي إبهامه، ما يدل على عظمه. حيث جعل حقا على العظيم الكريم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي البادئين بالسيئة والمعتدين في الانتقام وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ما ظلم.
فالمصدر مضاف لمفعوله، أو هو مصدر المبنيّ للمفعول فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي للمعاقب، ولا للعاتب والعائب. لأنهم انتصروا منهم بحق. ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فكيف يكون عليه سبيل؟ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءوهم بالظلم والإضرار، أو يعتدون في الانتقام وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون فيها ويفسدون أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: بسبب ظلمهم وبغيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 43]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى وَغَفَرَ أي لمن ظلمه ولم ينتصر إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي التي ندب الله عباده، وعزم عليهم العمل بها.
تنبيه:
نقل السيوطي في (الإكليل) عن الكيا الهراسيّ أنه قال: قد ندب الله إلى العفو في مواضع من كتابه، وظاهر هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أن الانتصار أفضل. قال، وهو محمول على من تعدى وأصرّ، لئلا يتجرأ الفساق على أهل الدين. وآيات العفو فيمن ندم وأقلع. انتهى. وعجيب فهمه الأفضلية من الآية، فإنها لا تدل عليه، عبارة ولا إشارة. فإنه تعالى لم يرغب في الانتصار. وإنما بين أنه مشروع لهم إذا شاءوا. ثم بين بعده أن مشروعيته بشرط رعاية المماثلة. ثم بين أن العفو أولى، وهو الذي انتهى إليه الكلام، وتم به السياق. وكذلك لا حاجة إلى حمل الانتصار على من تعدى. وذلك لأن الانتصار بالمثل من فروع علم العقوبات والجزاء المشروعة لإقامة الحق والعدل، ودفع الظلم عن النفس والصغار، ورفع الأحقاد والأضغان. وأما العفو والصفح، فذاك من فروع علم الأخلاق وتهذيب النفوس. لأنه من باب المسامحة بالحق وإسقاط المستحق، رغبة في تزكية النفس وهضما لها وحرصا على خير الأمرين وأوفر الأجرين. وكلاهما من محاسن الشريعة الحنيفية، وتوسطها بين الاقتصاص البتة والعفو كليّا لأن العقل السليم يرى فيهما إفراطا(8/373)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
وتفريطا. والدين دين الفطرة. وهي تتقاضى القصاص بالمثل، وتراه حقا لها بجبلّتها والقضاء الأدبيّ والوازع الرحمانيّ يرشدها إلى ما هو أمثل إن شاءت، ويبرهن لها أمثليته، مما لا يبعد، إذا راجعت نفسها وثابت إلى رشدها، أن تؤثره ولا تؤثر عليه.
كيف؟ وقد دل قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كما قال الزمخشريّ، على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء، خصوصا في حال الحرد والتهاب الحمية. فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 44]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي: ومن خذله عن الرشاد، فليس له من وليّ يليه، فيهديه لسبيل الصواب، ويسدده من بعد إضلال الله إياه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أي رجعة إلى الدنيا. وذلك استعتاب منهم في غير وقته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 45 الى 47]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي من طرف قد خفي من ذله وصغاره وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بالتعريض للعذاب المخلد، وتفويت النعيم المؤبد أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي أجيبوا أيها الناس داعي الله وآمنوا به مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا يرده الله بعد ما حكم به ف «من» صلة (مردّ) أو هي صلة (يأتي) أي من قبل أن يأتي يوم الله لا يمكن ردّه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ(8/374)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ
أي إنكار لما اقترفتموه، لأنه محصيّ عليكم. أو نكير ينكر على الله في مؤاخذتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 48]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا تحفظ عليهم أعمالهم وتحصيها إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي إبلاغهم ما أرسلت به، فإذا فعلت فقد قضيت ما عليك وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي جحود نعم ربه، فلا يذكر إلا البؤس والبلاء، ولا يتفكر إلا فيما أنزله به من الفساد والشقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إنه تعالى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة. وتقديم الإناث، إما لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، تنبيها بأنهن سبب لتكثير مخلوقاته، فلا يجوز الحزن من ولادتهن وكراهتهن، كما يشاهد من بعض الجهلة.
وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن (ومن يمن المرأة تبكيرها بأنثى) .
قال الشهاب: والضمير في يُزَوِّجُهُمْ للأولاد، وما بعده حال منه، أو مفعول ثان إن ضمّن معنى التصيير، يعني يجعل أولاد من يشاء ذكورا وإناثا مزدوجين. كما يفرد بعضهم بالذكور وبعضهم بالإناث. ويجعل بعضهم لا أولاد له أصلا.(8/375)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : آية 51]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي إلهاما وقذفا في القلب منه، بلا واسطة أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه، كما كلم موسى عليه السلام أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي من ملائكته كجبريل فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ أي فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه، ما يشاء إيحاءه، من أمر ونهي وغير ذلك، على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام، أو الهتاف أو المنام إِنَّهُ عَلِيٌّ أي من أن يواجه ويخاطب. بل يفنى ويتلاشى من يواجهه، لعلوّه من أن يبقى معه غيره، أو يحتمل شيء حضوره. قاله القاشاني.
وقال المهايمي: أي لا يبلغ البشر حد مكالمته شفاها، ولا يحتمل سماع كلامه مع رؤيته. انتهى. حَكِيمٌ أي يدبر بالحكمة وجوه التكليم، ليظهر علمه في تفصيل المظاهر، ويكمل به عباده، ويهتدوا إليه ويعرفوه. وقال المهايمي: أي حكيم في تبليغ كلامه العلي إلى البشر الضعيف.
تنبيه:
في (الإكليل) : استدلت بالآية، عائشة رضي الله عنها، على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. واستدل مالك بقوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا على أن من حلف لا يكلم زيدا، فأرسل إليه رسولا أو كتابا، أنه يحنث. لأنه تعالى استثناه من الكلام، فدل على أنه منه. انتهى. وفيه بعد. إذ لا يقال لمن ألهمه الله، إنه كلمه إلا مجازا. فلا يكون الاستثناء متصلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشورى (42) : الآيات 52 الى 53]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي وحيا من أمرنا. وسمّاه روحا لأنه تحيا به القلوب الميتة. قال الشهاب:(8/376)
فهو استعارة أو مجاز مرسل، لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة. وقيل: هو جبريل.
وأَوْحَيْنا مضمن معنى (أرسلنا) . والمعنى: أرسلناه إليك بالوحي ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح أو الكتاب أو الإيمان نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي بالتوفيق للقبول والنظر فيه وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي خلقا وملكا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي في الآخرة. فيقضي بينهم بالعدل. إذ لا حاكم سواه، فيجازي كلا بما يستحقه من ثواب أو عقاب. نسأله تعالى أن يحسن لنا المآب. إنه الكريم الوهاب.(8/377)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزخرف
سميت به لدلالة آيته على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربّها بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ. وهي مكية. قيل: إلا آية وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ [الزخرف:
45] ، وآيها تسع وثمانون.(8/378)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي معانيه ومواعظه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 4]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ أي رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها حَكِيمٌ أي ذو الحكمة الجامعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 5]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم. وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير. بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط. ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قاله القاشاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 6 الى 8]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف في القرآن في غير موضع منه، ذكر قصتهم وحالهم في تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم. أي فليتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حلّ بسلفهم.(8/379)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 10]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي مهادا تستقرون عليها وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا تتطرقونها من بلدة إلى بلدة، لمعايشكم ومتاجركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 11]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار الحاجة إليه. فلم يجعله طوفانا يهلك، ولا رذاذا لا ينبت، بل غيثا مغيثا فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي أحيينا به بلدة ميتا من النبات، قد درست من الجدب وعفت من القحط كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من بعد فنائكم ومصيركم بالأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 12 الى 14]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي خلق كل شيء فزوّجه، فجعل منه الذكر والأنثى وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي من السفن والبهائم ما تركبونه لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي لصائرون إليه، وراجعون بعد مماتنا.
تنبيه:
في (الإكليل) : في الآية استحباب هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته.(8/380)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 15]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيبا.
وذلك قولهم للملائكة (هم بنات الله) قال القاشانيّ: أي اعترفوا بأنه خالق السموات والأرض ومبدعهما وفاطرهما. وقد جسموه وجزأوه بإثبات الولد له، الذي هو بعض من الوالد، مماثل له في النوع، لكونهم ظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزون عن رتبة الحس والخيال، ولا يتجردون عن ملابس الجسمانيات، فيدركون الحقائق المجردة والذوات المقدسة، فضلا عن ذات الله تعالى. فكل ما تصوروا وتخيلوا، كان شيئا جسمانيا. ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور، وكل ما يتعلق بالمعاد. إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية، أمور المعاش. فلا مناسبة أصلا بين ذواتهم وذوات الأنبياء، إلا في ظاهر البشرية. فلا حاجة إلى ما وراءها. انتهى إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي لجحود نعم ربه، التي أنعمها عليه. يبين كفرانه لمن تدبر حاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 16]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ أي: بل اتخذ. والهمزة للإنكار تجهيلا لهم. وتعجيبا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين وهو الإناث دون الذكور. على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث، وأمقتهم لهن. ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وادوهن. كأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة، فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة، ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما، ترك له شرهما وأدناهما؟
قاله الزمخشري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 17]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي من البنات ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي من الكآبة والغم والحزن وَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء قلبه من الكرب.(8/381)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 18]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي تربى في الزينة، يعني البنات وَهُوَ فِي الْخِصامِ أي في المجادلة غَيْرُ مُبِينٍ أي لمن خاصمة ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه.
والمعنى: أو من كان كذلك جعلتموه جزءا لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيبه منهم؟.
تنبيه:
قال الكيا الهرّاسي: في دليل على إباحة الحلي للنساء. وسئل أبو العالية من الذهب للنساء، فلم ير به بأسا، وتلا هذه الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 19]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده، يسبحونه ويقدسونه، إناثا. فقالوا (هم بنات الله) جهلا منهم بحق الله سبحانه، وجراءة منهم على قيل الكذب.
قال القاشاني: لما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها، إما باعتبار اللفظ وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية، مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية- توهموا أنوثتها في الحقيقة، التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصاصها بالله.
فجعلوها بنات. وقلما يعتقدها العاميّ إلا صورا إنسية لطيفة في غاية الحسن. انتهى.
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟ وهو تجهيل لهم، وتهكم بهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ أي على الملائكة بما هم مبرّءون عنه وَيُسْئَلُونَ أي عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا. وفيه من الوعيد ما فيه. لأن كتابتها، والسؤال عنها، يقتضي العقاب والمجازاة عليها، وهو المراد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 21]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)(8/382)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم وخصامهم وتعنتهم. وقد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور والمعاصي. وأهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح. وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء، الناطق به غير ما آية. ولما كانت هذه الآية وأخواتها من معارك الأنظار قديما وحديثا آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين، جريا على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم، وتحلية مصنفاتنا بها، فنقول: قال القاشاني: لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى، افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار. وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان، بل على سبيل العناد والإفحام.. ولهذا ردّهم الله تعالى بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله. فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره. إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرّا إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل، حين عظموهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم، كما قال قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] ، ولمّا خوّفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم، أجاب بقوله وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام: 80] ، إلى قوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ [الأنعام: 81] ، انتهى.
وفي البيضاوي وحواشيه: إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها. يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى.
فيكون مأمورا بها أو حسنة. ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة. وهذا الاستدلال باطل. لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض، حسنا كان أو قبيحا. ولذلك جهلهم في استدلالهم هذا. والحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلا على امتناع النهي عن عبادتهم، أو على حسنها: لا إلى هذا القول. فإنه كلمة حق أريد بها باطل. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئته تعالى، حتى الضلالة والهدى، اتباعا لدليل العقل، وتصديقا لنص النقل.
في أمثال قوله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [النحل: 93] و [فاطر:
8] ، وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا. فنقول: إذا قال الكافر (لو شاء الله ما كفرت) فهذه كلمة حق أراد بها باطلا، أما كونها كلمة حق، فلما مهدناه. وأما كونه أراد بها باطلا، فمراد الكافر(8/383)
بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته.
ثم قال: فإذا وضح ما قلناه، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله. فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ و (إنهم إلا يظنون) وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير.
وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] ، فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، والإشراك بالله، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا [الأنعام: 148] فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب وخيال مكذب، فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] ، ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] ، ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك. لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149] ، وهو معنى قولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا من حيث إن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم. بل شاء ضلالتهم.
ولو شاء هدايتهم لما ضلوا. فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء، مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها. من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف. لأنها اختيارية. يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية. فهذه الآية أقامت الحجة. ووضحت، لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة، المحجة. ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة. فلا جرم أن أفهامهم تبددت. وأفكارهم تبدلت. فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه. وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار. وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا.(8/384)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
وأرشدهم إلى الطريق الوسطى. فانتهجوا سبل السلام. وساروا ورائد التوفيق لهم إمام. مستضيئين بأنوار العقول المرشدة، إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته. ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة. لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة. لكنها قدرة تقارن بلا تأثير.
وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير. فهذا هو التحقيق. والله ولي التوفيق.
انتهى.
وقد سبق في آية (الأنعام) نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت.
وقوله تعالى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك. نظير قوله تعالى في الآية الأخرى قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا
يعني بالعلم كتابا موحى فيه ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 22]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي لا حجة لهم إلا تقليد آبائهم، الجهلة مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 23]
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ أي كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله.
قال القاضي: وفيه تسلية له صلّى الله عليه وسلّم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضا لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين، إشعار بأن النعم وحب البطالة، صرفهم عن النظر إلى التقليد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 24]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)(8/385)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
قالَ وقرئ قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي جاحدون منكرون، وإن كان أهدى. إقناطا للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 25]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي بعذاب الاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم، مما أصبح مثلا وعبرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 26]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ قال القاضي: أي اذكر وقت قوله هذا، ليروا كيف تبرّأ عن التقليد وتمسّك بالدليل. أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بدّ من التقليد، فإنه أشرف آبائهم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ أي بريء من عبادتكم أو معبودكم. وبَراءٌ بفتح الباء الموحدة كما هو قراءة العامة، مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة. فلذا أطلق على الواحد وغيره. وقرئ بضم الباء وهو اسم مفرد صفة مبالغة، كطوال وكرام، بضم الطاء والكاف. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 27]
إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء منقطع أو متصل. على أن (ما) يعمّ أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام. أو (إلّا) بمعنى (غير) صفة ل (ما) . أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني. أي خلقني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي للدين الحق، واتباع سبيل الرشد. والسين إما للتأكيد، ويؤيده آية الشعراء يَهْدِينِ بدونها. والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار. وإما للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولا. فيتغاير ما في الآيتين من الحكاية أو المحكي، بناء على تكرر قصته.(8/386)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 28]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
وَجَعَلَها أي شهادة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي موصي بها، موروثة متداولة محفوظة. كقوله تعالى وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132] ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا إلى عبادته، ويلجئوا إلى توحيده في سائر شؤونهم. أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 29]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعني أهل مكة وَآباءَهُمْ أي من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم على كفرهم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي دعوة التوحيد أو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 30]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي جاحدون. فازدادوا في ضلالهم، لضمهم إلى شركهم، معاندة الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 31]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحداهما، مكة والطائف. فالتعريف للعهد عَظِيمٍ أي بالجاه والمال. فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم. قال القاضي: ولم يعلموا أنها رتبة روحانية. تستدعي عظيم النفس، بالتحلّي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 32]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)(8/387)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار، فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم فيما لا يتولّاه إلا هو تعالى. والمراد بالرحمة النبوّة نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي فجعلنا بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ أي بالغنى فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ يعني الغني بَعْضاً يعني الفقير سُخْرِيًّا أي مسخرا في العمل، وما به قوام المعايش، والوصول إلى المنافع. لا لكمال في الموسّع عليه، ولا لنقص في المقتّر عليه بل لحاجة التضامّ والتآلف، التي بها ينتظم شملهم.
وأما النفحات الربانية، والعلوم اللدنية، فليست مما يستدعي سعة ويسارا. لأنها اختصاص إلهي، وفيض رحماني، يمنّ به على أنفس مستعدّيه، وأرواح قابليه.
و (السخريّ) بالضم منسوب إلى السخرة بوزن (غرفة) وهي الاستخدام والقهر على العمل. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يعني أن النبوّة خير مما يجمعون من الحطام الفاني. أي: والعظيم من أعطيها وحازها، وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. لا من حاز الكثير من الشهوات المحبوبة. ثم أشار تعالى إلى حقارة الدنيا عنده، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 35]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي متفقة على الكفر بالله تعالى. أي لولا كراهة ذلك لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ أي لتكثير النعم عليه، مع كفره بالمنعم فيزداد عذابا لِبُيُوتِهِمْ بدل من لِمَنْ سُقُفاً بفتح السين وسكون القاف، وبضمهما، جمعا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ أي مصاعد من فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي يرتقون وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً أي من فضة وَسُرُراً أي من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا، أي زينة من ذهب وجواهر فوق الفضة.
ثم أشار إلى أن لا دلالة في ذلك على فضيلتهم بقوله: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت، من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة، الزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي: وزين الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي الذين اتقوا الله فخافوا عقابه. فجدّوا في طاعته وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم.
قال المهايمي: يعني لا خصوصية في ذاك المتاع، بحيث يدل عدمه على عدم(8/388)
منصب النبوة، وإنما الذي يدل عدمه على عدم النبوة، التقوى. فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه. سواء كانت عنده الدنيا أم لا. وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار، لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق. بحيث يصير صاحبها أعشى. انتهى.
تنبيه:
ما قدمناه من أن معنى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على تقدير (لولا كراهة ذلك) وأن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور- هو ما ذكره المفسرون. فورد عليه أنه حين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا، لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا. والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين فكانت الحكمة فيما دبر حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء. وغلب الفقر على الغنى. هذا ما قاله الزمخشري.
وعندي أن لا حاجة لتقدير الكراهة. وأن معنى الآية غير ما ذكروه. وذلك أن المعنى: لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة، للترافد والتعاون والتضامّ، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحليّ لدخوله تحت القدرة الكاملة. إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود. وإنما عبّر عن الناس بمن يكفر بالرحمن، رعاية للأكثر وهم الكفار فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض وملأوا وجهها. وحطّا لقدر الدنيا وتصغيرا لشأنها، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة.
والأخس قدرا. وخلاصة المعنى: أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم. وهذا هو معنى (لولا) المطرد، أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها. ولذلك يقولون (حرف امتناع لوجود) .
فليس المعنى على ما ذكروه أبدا كما يظهر واضحا لمن أنعم النظر. وبالجملة، فالآية هذه تتمة لما قبلها، في جواب أولئك الظانين، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة. فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى. وهي التسخير. وفي الثانية حقارة الدنيا عنده وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه، مبالغة(8/389)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
في الإعلام بضعتها. وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن ما عنده خير وأبقى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 36]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي يعرض عنه، فلم يخف سطوته ولم يخش عقابه نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي نجعل له شيطانا يغويه ويضله عن السبيل القويم دائما، لمقارنته له. قال القاشاني: قرئ (يعش) بضم الشين وفتحها: والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشى لعارض أو متعمدا، من غير آفة في بصره. وعشي إذا إيف بصره. فعلى الأول معناه: ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة لإدراك ذكر الرحمن، أي القرآن النازل من عنده وفهم معناه. وعلم كونه حقا، فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغي وحسد، أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته، لاحتجابه بالغواشي الطبيعية، واشتغاله باللذات الحسية عنه، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً جنيّا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات، وحرص عليه من الزخارف. أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه. أو إنسيا يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه. ومن إيف استعداده في الأصل، وشقي في الأزل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر، وقصّر عن فهم معناه نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً من نفسه أو جنسه، يقارنه في ضلالته وغوايته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 37]
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ قال ابن جرير: أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي يظن هؤلاء المشركون بالله، بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه، أنهم على الصواب والهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 38]
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
حَتَّى إِذا جاءَنا أي العاشي قالَ أي لشيطانه يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ(8/390)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
الْمَشْرِقَيْنِ
أي بعد المشرق من المغرب. فغلب المشرق على المغرب، ثم ثنى.
وقيل المراد مشرقا الصيف والشتاء. والتقدير من المغربين، فاختصر. فَبِئْسَ الْقَرِينُ قال القاشاني: أي حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله، والعذاب المستحق لمذهبه ودينه، تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزيّن له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذمه، لعدم الوصلة الطبيعية، أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 39]
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قال القاشاني: أي لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب. إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله. لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه. أو ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه. أي كما ينفع الواقعين في أمر صعب، معاونتهم في تحمل أعبائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 40]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم. وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده تعالى. وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال، لأنه لا أجمع من ذلك لشرح حالهم، ولا أبلغ منه. إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم.
وإبصار آيات الله والاعتبار بها، كالأعمى. وقصد السّبيل الأمم، كالضالّ الحائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 41]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي نقبضك قبل أن نظهرك عليهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أي بالعذاب الأخروي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 42]
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ وهذا كقوله تعالى:(8/391)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [غافر: 77] ، وفي تعبيره بالوعد، وهو لا يخلف الميعاد، إشارة إلى أنه هو الواقع. وهكذا كان. إذ لم يفلت أحد من صناديدهم، إلا من تحصّن بالإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 43]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني دين الله الذي أمر به وهو الإسلام. فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب: هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وأمر لأمته أو له، بالدوام على التمسّك. والفاء في جواب شرط مقدّر. أي إذا كان أحد هذين واقعا لا محالة، فاستمسك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 44]
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقومك من قريش. لما خصهم به من نزوله بلسانهم. أو المراد بقومه، أتباعه. أي تنويه بقدرك وبقدر أمتك، لما أعطاه لهم بسببه من العلوم والمزايا والخصائص والشرائع الملائمة لسائر الأحوال والأزمان، وجوّز أن يراد بالذكر الموعظة وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي عما عملتم فيه، من ائتماركم بأوامره، وانتهائكم عن نواهيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 45]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي:
هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم؟ قال القاضي: والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه، فيكذب ويعادى له. انتهى.
والذين أمر بمسألتهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هم مؤمنو أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
فالكلام بتقدير مضاف. أي أممهم المؤمنين. أو يجعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم. لأنهم إنما يخبرونه عن كتب الرسل. فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.(8/392)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 46]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي المصدقة له إِلى فِرْعَوْنَ لينهاه عن الاستعباد وَمَلَائِهِ أي لينهاهم عن التعبّد له فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فأبان أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى، وأن ليس لأحد سواه استعباد، لأنها حق الربوبية المطلقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 47]
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ فلما أتاهم بالحجج على التوحيد والبراءة من الشرك، إذا فرعون وقومه يضحكون. أي كما أن قومك، مما جئتهم به من الآيات والعبر، يسخرون. وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، عما كان يلقى من مشركي قومه. وإعلام منه له أن قومه من أهل الشرك، لن يعدوا أن يكونوا كسائر.
الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله. وندب منه نبيّه صلّى الله عليه وسلّم إلى الاستنان بهم، بالصبر عليهم، بسنن أولي العزم من الرسل. وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك. كسنته في المتمردين عليهم قبله، وإظفاره بهم، وإعلائه أمره. كالذي فعل بموسى عليه السلام وقومه الذين آمنوا به. من إظهار هم على فرعون وملئه. أفاده ابن جرير. ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد، لا لقصورها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 48 الى 50]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي السابقة عليها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي الدنيوي كالسنين، مما يلجئ إلى الرجوع، ولا أقل من رجائه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي من أنه لا يعذّب من آمن(8/393)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
بك ليكشف عنا العذاب إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي بما تزعم أنه الهداية فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 53]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني أنهار النيل أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف لا شيء له من الملك والأموال وَلا يَكادُ يُبِينُ أي الكلام، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي يعينونه ويصدقونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 54 الى 55]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي فاستفزهم بهذه المغالطات، وحملهم على أن يخفّوا له ويصدقوه فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونا أي أغضبونا بطاعة عدونا وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وآياته، وندائه بالساحر، ونكث العهود انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال، الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 56 الى 58]
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي حجة للهالكين بعدهم وَمَثَلًا أي عبرة لِلْآخِرِينَ أي الناجين وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي في كونه كآدم، كما أشارت له آية إِنَّ(8/394)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: 59] ، والمعنى: لما بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ أي من مثله المضروب ووصفه المبين يَصِدُّونَ أي يعرضون ولا يعون وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعما منهم أنهم بنات الله تعالى. كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة. أي أنهم خير من عيسى وأفضل، لأنهم من الملأ الأعلى والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول وهو عيسى، فبالأولى عبادة الأفضل وهم الملائكة. كأنهم يقررون على شركهم أصولا صحيحة. ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة. وغفلوا، لجهلهم، عن بطلان المقيس والمقيس عليه. وأن البرهان الصادع قام على بطلان عبادة غيره تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العلية. وإذا اتضح الهدى فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال. كما قال تعالى:
ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد، لظهور بطلانه بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي شديد والخصومة بالباطل تمويها وتلبيسا.
وفي الحديث «1»
(ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)
وما ذكرناه في تفسير هذه الآية، هو الجلي الواضح، لدلالة السياق والسباق فقابل بينه وبين ما حكاه الغير وأنصف. ثم جلى شأن عيسى عليه السلام، بما يرفع كل لبس، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 59]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي بالنبوة والرسالة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي آية لهم وحجة عليهم، بما ظهر على يديه، مما أيّد نبوته ورسالته وصدق دعواه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 60]
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يكونون مكانكم. إيعاد لهم بأنهم في قبضة المشيئة في إهلاكهم، وإبدال من هو خير منهم.
__________
(1) . أخرجه الترمذي في: التفسير، 43- سورة الزخرف، عن أبي أمامة.(8/395)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
كما في قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] ، وقيل معنى لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب، لتعرفوا تميزنا بالقدرة. واللفظ الكريم يحتمله. إلا أن الأظهر هو الأول، لما جرت به عادة التنزيل، من خواتم أمثال ما تقدم، بنظائر هذا الوعيد، والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 61 الى 62]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الضمير إما للقرآن كما ذهب إليه قوم، أي وإن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وعن أهوالها. وفي جعله عين العلم، مبالغة. والعلم بمعنى العلامة. وقيل الضمير لعيسى عليه السلام. أي إن ظهوره من أشراط الساعة.
ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا. وقال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها. فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث. فالآية مجاز مرسل علاقته المسببية. إذ أطلق المسبب وهو العلم، وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته. كقولك (أمطرت السماء نباتا) أي مطرا يتسبب عنه النبات. وقرئ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ بفتحتين. أي أنه كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه.
فبعيسى عليه السلام يهتدى إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها. انتهى.
وهو جيد فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ أي اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. أو هو أمر للرسول أن يقوله هذا أي القرآن، أو ما أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي عن الاتباع إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 64]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ(8/396)
فِيهِ
أي من أحكام التوراة وغيرها. كاختلاف اليهود في القيامة، لعدم صراحتها في كتبهم. وقد جاء في نحوها آية وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] ، وقد وضع عن اليهود شيئا من إصر التوراة وأغلال الناموس، كما فعل في يوم السبت. خفف شدّة حكمه.
قال بعض المحققين: وإنما لم يقل (ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه) لأنه لم يفعل ذلك. بل ترك بيان كثير من الأشياء، كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للفارقليط (محمد صلّى الله عليه وسلّم) الذي يأتي بعده، لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه. كما قال هو نفسه في (إنجيل يوحنا) في الإصحاح السادس عشر.
وخصوصا إذا تعرّض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم.
ولو فعل ذلك لشكّ فيه الكثيرون منهم وكذّبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون، فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن. وهي التي بعث من أجلها.
وأما قول الله تعالى عن لسانه وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ [آل عمران: 50] ، فالمراد بمثل هذا التعبير، أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت. وكلمة (التوراة) تطلق على كتاب العهد القديم.
فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل. ولو لاه لما صدقت تلك النبوات، فإنها لا تنطبق إلا عليه. وليس المراد أن عيسى يقرّ كل ما في التوراة، كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية. وإلا لما قال بعدها مباشرة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] ، فكيف يقرّها وهو قد جاء ناسخا لبعض ما فيها؟ فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون. ويفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه. وهو وجيه جدا.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ قال ابن جرير: أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعا.
فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئا. فإنه لا يصح ولا ينبغي أن يعبد شيء سواه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أمرتكم به، من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهية، هو الطريق القويم. وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام، فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله. ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه، بقوله تعالى:(8/397)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 65]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي الفرق المتحزبة اختلافا نشأ مِنْ بَيْنِهِمْ أي لا من قوله تعالى، ولا من قول عيسى. بل ظلما وعنادا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي مؤلم من شدة الأهوال وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 67]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
هَلْ يَنْظُرُونَ أي قريش إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ أي المتخالون على المعاصي والفساد، والصدّ عن الحق يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي معاد، يتبرأ كل من صاحبه إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي المتصادقين في طاعة الله ومحبته. قال القاشانيّ: الخلة إما أن تكون خيرية، أو لا. والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبته. وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقليّ. والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل، التي قال «1» فيها (فما تعارف منها ائتلف) فهم إذا برزوا في هذه النشأة، وتوجهوا إلى الحق، وتجددوا عن مواد الرجس، فلما تلاقوا تعارفوا، وإذا تعارفوا تحابوا، لتجانسهم الأصلي، وتوافقهم في الوجهة والطريقة، وتشابههم في السبيرة والغريزة، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية، التي هي سبب العداوة.
وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه. والتذ بلقائه، وتصفى بصفائه، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة. فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأنبياء والأصفياء والأولياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة. ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة. كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم. ومحبة العرفاء والأولياء إياهم. ومحبة الأنبياء أممهم.
والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأعراض الجزئية.
__________
(1) . أخرجه البخاري في: الأنبياء، 2- باب الأرواح جنود مجندة، الحديث رقم 1576، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: 45- البرّ والصلة والآداب، حديث رقم 159. [.....](8/398)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة. ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واستلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش، وتيسير المصالح الدنيوية. كمحبة التجار والصناع. ومحبة المحسن إليه للمحسن. فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل، زال بزواله، وانقلب عند فقدانه عداوة. لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه، من اللذة المعهودة والنفع المألوف. وامتناعه لزوال سببه. ولما كان الغالب على أهل العالم أحد القسمين الأخيرين، أطلق الكلام وقال: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ لانقطاع أسباب الوصلة بينهم، وانتفاء الآلات البدنية عنهم، وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا.
قد زالت اللذات والشهوات، وبقيت العقوبات والتبعات. فكل يمقت صاحبه ويبغضه. لأنه يرى ما به من العذاب، منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقتلهم، كما لقال وَقَلِيلٌ ما هُمْ [ص: 24] ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] ، ولعمري، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر.
وهم الكاملون في التقوى، البالغون إلى نهايتها، الفائزون بجميع مراتبها. ويليهم القسم الثاني. وكلا القسمين، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخطه وعقابه، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 68]
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أي لأمنهم من العذاب وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي على فوات لذات الدنيا. لكونهم على ألذّ منها وأبهج، وأحسن حالا وأجمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 69]
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا أي صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم وَكانُوا مُسْلِمِينَ أي أهل خضوع لله بقلوبهم، وقبول منهم لما جاءتهم به رسولهم عن ربهم، على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء، لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان.(8/399)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 70]
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ أي تسرّون سرورا يظهر حباره، أي أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:
24] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 71 الى 72]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ الصحاف جمع (صحفة) وهي آنية الأكل. والأكواب جمع (كوب) وهو ما يشرب منه كالكوز. إلا أن الكوب ما لا عروة له. قال الشهاب: العروة ما يمسك منه ويمسي أذنا. ولذا قال من ألغز فيه:
وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب
إذا استولى على صبّ ... فقل ما شئت في الصبّ
ومن اللطائف هنا ما قيل: إنه لما كانت أواني المأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة، جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة. وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي بمشاهدته وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الخيرات والأعمال الصالحات. وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة، من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه المرء لورّاثه من الأملاك والأرزاق.
ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورّث (على صيغة اسم الفاعل) فهو استعارة تبعية أو تمثيلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 73]
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ أي ما اشتهيتم. و (من) إما ابتدائية أو تبعيضية. ورجح بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبدا، موقرة بها.(8/400)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 75]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي الذين اجترموا الكفر والمعاصي في الدنيا فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف ولا ينقص وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي مستسلمون يائسون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 76]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
وَما ظَلَمْناهُمْ أي بهذا العذاب وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أي بكفرهم الله وجحودهم توحيده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 78]
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
وَنادَوْا أي بعد إدخالهم جهنم يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا. أي سله أن يفعل بنا ذلك. تمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس، لشدّة التألم بالعذاب الجسماني. قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي لابثون لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي لا تقبلونه وتنفرون منه، وعبّر (بالأكثر) لأن من الأتباع من يكفر تقليدا.
لطيفة:
قال القاشاني: سمي خازن النار (مالكا) لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها.
لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 37- 39] كما سمي خازن الجنة (رضوانا) لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 79]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي أم أبرم مشركو مكة أمرا فأحكموه، يكيدون به(8/401)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم، من النكال. كقوله تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور: 42] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 80]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي ما أخفوه من تناجيهم بما يمكرون، فلا نجازيهم عليه لخفائه علينا بَلى أي نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا يعني الحفظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ أي ما تكلّموا به ولفظوا من قول. ثم أشار إلى ردّ إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى، ختما للسورة مما بدئت به، المسمى عند البديعيين (رد العجز على الصدر) فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 81]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي لذلك الولد. والأولية بالنسبة إلى المخاطبين، لا لمن تقدّمهم. قال الشهاب: ولو أبقى على إطلاقه، على أن المراد إظهار الرغبة والمسارعة. جاز. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 82]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ على نفي التالي. وهو عبادة الولد. أي أوحّده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلا لشيء. لكونه ربّا خالقا للأجسام كلها. فلا يكون من جنسها. فيفيد انتفاء الولد على الطريق البرهاني.
وأما دلالته على الثاني فإذا جعل قوله: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ إلخ من كلام الله تعالى، لا من كلام الرسول، (أي نزّه رب السماوات عما يصفونه) فيكون نفيا للمقدم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال. والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم، أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق. كما قال في استبعاد الرؤية فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الأعراف: 143] . انتهى.(8/402)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 83]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا أي في باطلهم وَيَلْعَبُوا أي في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ قال ابن جرير: وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه، جهنم، وهو يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 84]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي المعبود فيهما بلا شريك وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ أي في تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء بمصالحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : الآيات 85 الى 86]
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أي الشفاعة لهم عند الله، كما زعموا أن أندادهم شفعاء إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي من آمن بالله وأقرّ بتوحيده، وهم يعلمون حقيقة توحيده. أي وحّدوه وأخلصوا له على علم منهم ويقين، كقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] . قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع، أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده، بإذنه له.
تنبيه:
قال الشهاب: استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم، وأنها تجوز وإن لم يشهد.
وفي (الإكليل) قال إلكيا: يدل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ على معنيين: أحدهما- أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا(8/403)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني- أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها، أن يكون الشاهد عالما بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 87]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي: خلقنا لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 88]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88)
وَقِيلِهِ أي قيل محمد صلوات الله عليه، شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى، قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ أي الذين أمرتني بإنذارهم، وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر.
كقوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:
30] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الزخرف (43) : آية 89]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
فَاصْفَحْ أي أعرض عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ أي لكم أو عليكم. أو أمري سلام.
أي متاركة فهو سلام متاركة لا تحية.
وقال الرازيّ: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر. ثم قال:
إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قوله (سلام) وأن يقال للمؤمن (سلام عليكم) والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر.
وفيه نظر، لأنه جمود على الظاهر البحت هنا، والغفلة عن نظائره. من نحو قول إبراهيم عليه السلام لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] ، وآية سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55] ، على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف، أي (عليكم) والمقدر كالمذكور، والمحذوف لعلة كالثابت.
فالصواب أن السلام للمتاركة. والله أعلم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي حقية ما أرسلت به، بسموّ الحق وزهوق الباطل.(8/404)
تنبيه:
قرئ وَقِيلِهِ بالنصب عطفا على (سرّهم ونجواهم) وضعّف بوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، بما لا يحسن اعتراضا. أو على محل (الساعة) لأنه في محل نصب، لأنه مصدر مضاف لمفعوله. أو بإضمار فعله. أي وقال قيله. وقرئ بالجر عطفا على (الساعة) أو الواو للقسم والجواب محذوف. أي لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور وهو قوله إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ وقرئ بالرفع عطفا على (علم الساعة) بتقدير مضاف. أي وعنده علم قيله. أو مرفوع بالابتداء، وجملة (يا رب) إلخ هو الخبر. أو الخبر محذوف. أي وقيله كيت وكيت، مسموع أو متقبل. وفي (الحواشي) مجازيات جدلية، فازدد بمراجعتها علما.(8/405)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الدخان
قال المهايمي: سميت به لدلالة آيته على أنه جزاء غشيان أدخنة النفوس الخبيثة، بصائر قلوب أهلها وأرواحهم. ولذلك رأوا الدلائل شبهات الشياطين.
وجعلوا المميز بينهما مجنونا. وإن القرآن كاشف عنه ككشف الدخان المحسوس عنهم، وهي مكية. وآيها خمسون وتسع.
روي «1» الترمذي مرفوعا. من قرأ (حم الدخان) في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.
ثم قال: غريب. وعمرو بن أبي خثعم راويه، يضعّف. قال البخاري: منكر الحديث. أفاده ابن كثير.
__________
(1) أخرجه في: ثواب القرآن، 8- باب ما جاء في فضل (حم الدخان) .(8/406)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يعني ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم. وكانت في رمضان. كما قال سبحانه شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] ، قال ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، فقد أبعد النجعة. فإن نص القرآن أنها في رمضان. وما روي من الآثار في فضلها، فمثله لا تعارض به النصوص. هذا على فرض صحتها. وإلا فهي ما بين مرسل وضعيف. والبركة اليمن. ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى، والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني: ووصفها بالمباركة، لظهور الرحمة والبركة، والهداية والعدالة في العالم بسببها. وازدياد رتبته صلّى الله عليه وسلّم وكماله بها، كما سماها (ليلة القدر) لأن قدره وكماله إنما ظهر بها إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذامّ وتذلل للهوى ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 4]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة، على وجه متين محمود عند الكمل تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 5 الى 6]
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص. أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من(8/407)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
عندنا على مقتضى حكمتنا. وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخامته الذاتية إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي مرسلين إلى الناس رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، رحمة منه تعالى بهم، لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وجوز كون (رحمة) علة للإنزال. أي رحمة تامة كاملة على العالمين بإنزاله، لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية، وصلاح معاشهم ومعادهم، وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه. والوجه هو الأول. وهو كونه غاية للإرسال.
لإفصاح تلك الآية عنه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها الْعَلِيمُ أي بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال، قاله المهايمي.
وقال القاشاني: أي: السميع لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم، (العليم) أي بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المختلة ومعايشهم غير المنتظمة. فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا، المرشد إلى الصواب فيهما، بتوضيح الصراط المستقيم، وتحقيق التوحيد بالبرهان، وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 7 الى 9]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال أبو مسلم: أي إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا. كقولهم (فلان منجد متهم) أي يريد نجدا وتهامة. وقيل: معناه إن كنتم موقنين بما تقرون به، من أنه رب الجميع وخالقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته، لأن الإيقان يستتبع قبول البرهان، وإنما هو قول ممزوج بلعب، لغشيان أدخنة أهوية نفوسهم، بصائر قلوبهم وأرواحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 12]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا(8/408)
الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ
أي انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل. ولا يستعمل (الارتقاب) إلا في أمر مكروه. وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه: الأول- قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة. قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع.
من الظلمة كهيئة الدخان،
روى ابن جرير عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا. فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصا عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله. فمن علم شيئا فليقل بما يعلم. ومن لا يعلم فليقل (الله أعلم) . فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم (الله أعلم) وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم (لا أعلم) فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ، إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف. فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف. ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا، من الجوع. فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم. وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم
. قال الله عز وجل فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، إلى قوله:
إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] ، قال: فكشف عنهم يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 16] ، فالبطشة يوم بدر. وقد مضت آية الروم وآية الدخان. والبطشة واللزام.
قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين «1» ورواه الإمام أحمد «2» في مسنده وهو عند الترمذي «3» والنسائي في تفسيرهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة وقد وافق ابن مسعود رضي الله على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وو إبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 44- سورة الدخان، 2- باب يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ، حديث رقم 570، عن عبد الله بن مسعود وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 39.
(2) أخرجه في المسند 1/ 380. الحديث رقم 3613.
(3) أخرجه في: التفسير، 44- سورة الدخان، 1- باب حدثنا محمود بن غيلان.(8/409)
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة. لقول ابن مسعود (ثم عادوا) ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر.
وعلي هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك. فلذلك قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدّا. والله المستعان. انتهى.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما- أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء.
وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة (الغبراء) ثانيهما- أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان. فيقولون (كان بيننا أمر ارتفع له دخان) . والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
انتهى.
وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة. لأن الدخان مما يتأذى به.
فأطلق على كل مؤذ يشبهه، أو على ما يلزمه، ولذا قيل:
تريد مهذّبا لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان
الوجه الثاني في الآية- أنه دخان يظهر في العالم. وهو إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد، وهو آت وهو قول حذيفة. ويروى عن عليّ وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الأول- أن قوله: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ يقتضي وجود دخان تأتي به السماء. وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع، فذاك ليس بدخان أتت به السماء. فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه، عدولا عن الظاهر، لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز.
الثاني- أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا. والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم. ومثل هذا لا يوصف بكونه دخانا مبينا. والثالث- أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس. وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز. وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الرابع- ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من عدّه الدخان من الآيات المنتظرة.(8/410)
أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا. فإن قالوا:
الدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا، إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة، استقام. فإنه نقل أن التقحط لما اشتد، بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن لهم وأزال الله عنهم تلك البلية، أن يؤمنوا به. فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم. أما إذا حلمناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة، لم يصحّ ذلك. لأن عند ظهور علامات القيامة. لا يمكنهم أن يقولوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ولم يصح أيضا أن يقال لهم إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فتحدث هذه الحالة. ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون. فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق. وإذا كان هذا محتملا، فقد سقط ما قالوه، والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وهكذا رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني، ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة. مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي بيّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى:
يَغْشَى النَّاسَ أي يتغشاهم ويعمّهم. ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه يَغْشَى النَّاسَ وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: 13- 14] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه، سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27] ، وكذا قوله جلّ وعلا وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] . وهكذا قال جلّ جلاله.(8/411)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 13 الى 14]
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة. ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. وهذا كقوله جلت عظمته يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 23] الآية. وكقوله عزّ وجلّ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: 51] . إلى آخر السورة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 15]
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يحتمل معنيين: أحدهما- أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. كقوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: 75] ، وكقوله جلت عظمته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: 28] ، والثاني- أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم. كقوله تعالى:
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: 98] . ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم. بل كان قد انعقد سببه عليهم. ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى، إخبارا عن شعيب عليه السلام، أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها [الأعراف: 88- 89] . وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم. وقال قتادة: إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى عذاب الله. وقوله عزّ وجلّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 16]
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه(8/412)
بيوم بدر. وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم. وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا. قال ابن جرير: حدثني يعقوب. حدثنا ابن علية.
حدثنا خالد الحذّاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر. وأنا أقول هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عنه. وبه يقول الحسن البصريّ وعكرمة في أصح الروايتين عنه. والله أعلم.
انتهى كلام ابن كثير.
فصل:
وممن رجح الوجه الأول، وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازا، بذكر المسبّب وإرادة السبب. أو بالاستعارة، العلامة أبو السعود حيث قال: والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعا. فإن قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى إلخ، ردّ لكلامهم واستدعائهم الكشف، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية، أي كيف يتذكرون؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم؟ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر. وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها. حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، وبيّن لهم مناهج الحق، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صمّ الجبال ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ عن ذلك الرسول وهو هو، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولي وَقالُوا في حقه مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف. وأخرى مجنون، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا. فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف، وإذا شبع طغى. وقوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب من جهته تعالى عن قولهم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بطريق الالتفات، لمزيد التوبيخ والتهديد. وما بينهما اعتراض. ألى إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفا قليلا، أو زمانا قليلا. إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتوّ والإصرار على الكفر. وتنسون هذه الحالة. وفائدة التقييد بقوله:
قَلِيلًا الدلالة على زيادة خبثهم. لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف، كانوا بعده(8/413)
أسرع إلى العود. وصيغة الفاعل في الفعلين، للدلالة على تحققهما لا محالة. ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى، بدعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد. انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة.
فصل:
وأما الوجه الثالث في الآية، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا جعفر بن مسافر. حدثنا يحيي بن حسان. حدثنا ابن مهيعة. حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قال: كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب جدّا. بل منكر. انتهى.
أى لأنه لم يرو مرفوعا ولا موقوفا على ابن عباس، ترجمان القرآن. أو غيره من الصحب. إلا أن عدم كونه مأثورا لا ينافي احتمال لفظ الآية له. وصدقها عليه. لا سيما، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ مما هو وعد بظهوره عليهم. وكان ذلك يوم الفتح. وحينئذ، فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي ما ينزل بهم يومئذ، برفع القتل والأسر عنهم. ومعنى عائِدُونَ أي إلى لقاء الله ومجازاته.
فصل:
يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب، عليهم الرضوان، اهتماما في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها. حتى كان ابن مسعود مصرّا على وجه، وعليّ وابن عباس وحذيفة على وجه آخر. على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية. وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار. وسبب الاختلاف هو إيجار الأسلوب الكريم، وإيثاره من الألفاظ أرقها، وأوجزها. مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازا أخرى. هذا أولا. وثانيا، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات، كان ذلك مما يقرب بينهما ويدعوا إلى اتحاد المراد منهما. لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة.
فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده. وأما من فتح للتدبر بابا ومهد للنظر مجالا، ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها، وأنها أعم وأشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه. فذاك وسّع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، ورقاه من(8/414)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
حظيرة النقل إلى فضاء العقل. ولكلّ وجهة.
إذا علمت ذلك، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازا في بعض مفرداتها، وحقيقة في بقيّتها وفي وقوع مصداقها، في رأيه. ومن فسرها بالدخان المنتظر، المروي من أشراط الساعة، وقف مع المروي ورأى أنه تفسيرها. لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود. لأنه الأقرب خطورا والأسبق حضورا، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح، رأى أنها من بليغ المجاز وبديع الكناية في ذلك. وأن الوعد بالارتقاب. كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية، مرادا به الفتح. كآية وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 28- 30] ، فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ومداركهم في التأويل. وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر. ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازي المتقدّم، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به، أن لا منتدح، بعد، عنه. مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز. بل وقوّته هنا، لأن المقام مقام إنذار وإيعاد، والذوق أكبر حاكم وإليه مردّ البلاغة. ولا يلزم المتأوّل نكرانه للدخان المنتظر كما قد يتوهم. بل يعترف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية. وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظي اتحاد المتلوّ والمروي. وبالجملة، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة. وسببه تحقق مصداق الجميع. وأما تعيين واحد منها للمراد، فصعب جدّا فيما أراه، لا سيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها. هذا ما نقوله الآن. والله العليم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 17]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي ابتلينا، قبل هؤلاء المشركين، قوم فرعون، بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا. فاختاروا الكفر على الإيمان وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي على الله والمؤمنين، أو في نفسه. فعلى الأول كريم بمعنى مكرّم أي. معظّم. وعلى الثاني، من الكرم بمعنى الاتصاف بالخصال الحميدة، حسبا ونسبا.(8/415)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 18]
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي أرسلوا معي بني إسرائيل، لأسير بهم إلى بلادنا الأولى. وأطلقوهم من أسركم وحبسكم. فإنهم قوم أحرار، أبوا، للضيم. هذه الديار إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي على وحيه ورسالته، التي حملنيها إليكم. لأنذركم بأسه إن عصيتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 19]
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم، وتكذيب رسوله وغضب عباده إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة على ربوبية الله، ونفي ربوبيتكم. وعلى رسالتي. وعلى أن بني إسرائيل عباده الخاصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 20]
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي اعتصمت به من رجمكم. يعني القتل، فعصمني، فلا ينالني منكم مكروه، مع أنه لا يعصم من افترى عليه، وقصد بهذه الجملة. إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزلّ الأقدام، خوفا ورعبا. وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله وتأييده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 21]
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي فكونوا بمعزل عني. فلست بموال منكم أحدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 22]
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
فَدَعا رَبَّهُ أي لما تابوا عن إجابته أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي مشركون مفسدون.(8/416)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 23]
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فأجاب دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي إن فرعون وقومه من القبط متبعوكم. إذا شخصتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 24 الى 25]
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي فإذا قطعت البحر أنت وأصحابك، فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته، ولا تضربه بعصاك ليدخله القبط فيغرقوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا أي بعد هلاكهم بالغرق مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي بساتين وعيون يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 26]
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَزُرُوعٍ أي قائمة مزارعهم للقوت وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي محافل مزينة ومنازل مزخرفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 27]
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي متنعمين من نساء وأموال وحشم، وما لا يحصى من المشتهيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 28]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)
كَذلِكَ أي أخرجناهم مثل هذا الإخراج. فالكاف، أو الجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك. أو هو خبر محذوف. أي الأمر كذلك. والمراد به التأكيد والتقرير وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني من خلفهم بعد مهلكهم.(8/417)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 29]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير، قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس. قال جرير:
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل. مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه من بكاء مصلّى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء: تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه تهكم بهم وبحالهم. المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض، وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي مؤخّرين بالعقوبة. بل عوجلوا بها، زيادة سخط عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 30]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني استعباد فرعون وقتله أبناءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 31]
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب، على حذف مضاف. أو جعله عذابا مبالغة لإفراطه في التعذيب. أو حال من (المهين) بمعنى واقعا من جهته إِنَّهُ كانَ عالِياً أي متكبرا على الناس مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزين الحدّ، في العتوّ والشرّ.(8/418)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 32]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أي فضلناهم لأجل علم معهم، على عالمي زمانهم. أو عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 33]
وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
وَآتَيْناهُمْ أي زيادة على اختبارهم وتفضيلهم مِنَ الْآياتِ أي المعجزات ولكرامات ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة، لأنهم حجة واضحة على أعدائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 35]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
إِنَّ هؤُلاءِ أي مشركي قريش لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي المتعقبة للحياة. كأنهم أرادوا إلا موتتنا هذه. وليس القصد إلى إثبات ثانية. قال الإسنوي في (التمهيد) : الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون. كما تقول: هذا أول ما اكتسبته. فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب. كذا ذكره جماعة، منهم الواحدي في تفسيره، والزجاج. ومن فروع المسألة، ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره، بالاتفاق. قال أبو عليّ: اتفقوا على أن ليس من شرط كونه أولا، أن يكون بعده آخر. وإنما الشرط أن لا تقدم عليه غيره. انتهى.
وما ذكر أظهر مما للزمخشري هنا وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي مبعوثين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 36]
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في بعثنا بعد بلائنا في قبورنا. قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة. فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في دار الدنيا. بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقا جديدا. ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا. ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يردّ، كما حلّ بأشباههم من المشركين، بقوله سبحانه:(8/419)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 37]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
أَهُمْ خَيْرٌ أي في القوة والمنعة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي أهلكناهم بجرمهم. وهو كفرهم وفسادهم. وهم ما هم. فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ. أهلكهم الله عزّ وجلّ وفرقهم في البلاد شذر مذر. كما تقدم في سورة (سبأ) قال ابن كثير: وقد كانوا عربا من قحطان. كما أن هؤلاء عرب من عدنان. وكانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا. كما يقال (كسرى) لمن ملك الفرس و (قيصر) لمن ملك الروم.
و (فرعون) لمن ملك مصر كافرا. و (النجاشي) لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، لكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند. واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه. واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل. فاستحيا منه وكفّ عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود، كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة. فإنها مهاجر نبيّ يكون في آخر الزمان. فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن. فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة. فنهياه عن ذلك أيضا. وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
وأنه سيكون له شأن عظيما على يدي ذلك النبيّ المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر. ثم كرّ راجعا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه. وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام. فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه (السيرة) . وترجمة الحافظ ابن عساكر في (تاريخه) ترجمة حافلة، وذكر أنه ملك دمشق. وساق ما روي في النهي عن سبه ولعنه. قال ابن كثير: وكأنه، والله أعلم. كان كافرا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام. وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء، والوصائل من الحرير والحبر.
ونحر عنده ستة آلاف بدنة. وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن. وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة، عن أبي بن كعب وعبد(8/420)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وكعب الأحبار. وإليه المرجع في ذلك كله، وإلى عبد الله بن سلام أيضا. وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهبه بن منبه ومحمد بن إسحاق في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات، ترجمة تبع هذا، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل. فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه. ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ.
وتبع هذا هو تبع الأوسط. واسمه أسعد أبو كرب. ولم يكن في حمير أطول مدة منه. وتوفي قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنحو من سبعمائة سنة وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة، أن هذه البلدة مهاجر نبيّ في آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعرا، واستودعه عند أهل المدينة. فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف. وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، الذي نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في داره، وهو:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النّسم
فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرّجت عن صدره كلّ غم
ثم ساق ابن كثير آثارا في النهي عن سبه: وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروي في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح، إلا أن ذلك مما يتحمل التوسع فيه، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي. نعم، لا يشك أن قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر، ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه، إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به من شأنه. وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا قصّ ذلك خبرا من الأخبار، وسمرا من الأسمار، كما هو السر في أمثال نبئه. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 39]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي الاستدلال على خالقهما، لعبادته وطاعته وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي حكمة خلقها، فيعرضون عنه.(8/421)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شرّ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي عليه إثابة أو تحمل عقاب وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي بأن وفّقه للإيمان والعمل الصالح إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب في انتقامه من أعدائه الرَّحِيمُ أي بأوليائه وأهل طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 43]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43)
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ أي التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 44]
طَعامُ الْأَثِيمِ (44)
طَعامُ الْأَثِيمِ أي الفاجر الكثير الآثام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 45 الى 46]
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
كَالْمُهْلِ وهو دردي الزيت، أي عكره في قعره يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها. وقوله كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي الماء الحارّ الذي انتهى غليانه. وقوله: فِي الْبُطُونِ كقوله نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6- 7] ، وهذه الآية كآية الصافات أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 62- 67] ،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 47]
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ أي ادفعوه بعنف إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطها ومعظمها.(8/422)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 48]
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 49]
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي يقال له ذلك، على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له، مع العذاب الأول، وهو الحسىّ، العذاب العقلي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 50]
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
إِنَّ هذا أي العذاب أو الأمر ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكّون، مع ظهور دلائله. أو تتمارون وتتلاحقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 51]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي يأمن صاحبه من الخوف والفزغ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 52 الى 53]
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53)
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أي ما رقّ من الحرير وكثف مُتَقابِلِينَ أي في مجالسهم أو أماكنهم، لحسن ترتيب الغرف، وتصفيف منازلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 54]
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرنّاهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم، لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم.(8/423)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : آية 55]
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، آمنين من كل ضرر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الدخان (44) : الآيات 56 الى 59]
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قال ابن جرير: أي لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة، الموت بعد الموتة الأولى، التي ذاقوها في الدنيا.
وكان بعض أهل العربية يوجه إِلَّا هنا بمعنى (سوى) أي سوى الموتة الأولى. انتهى.
يعني أن الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلناه حيث أنزلناه بلغتك، وهو فذلكة للسورة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بعبره وعظاته وحججه، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق فَارْتَقِبْ أي ما يحل بهم من زهوق باطلهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون عند أنفسهم غلبتك. أو هو قولهم نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ وهذا وعد له صلّى الله عليه وسلّم بالنصرة والفتح عليهم، وتسلية ووعيد لهم. وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] .(8/424)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الجاثية
سميت بها لتضمن آيها بيان سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة، لأجل اجتماع الأمم محاكمة إلى الله تعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وهي من المطالب الشريفة في القرآن. وتسمى (سورة الشريعة) لتضمن آيها وجه نسخ هذه الشريعة، سائر الشرائع، وفضلها عليها. وهو أيضا من المطالب العزيزة فيه. قاله المهايمي.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية:
14] ، فإنه قيل إنها مدنية، نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما سيأتي، وآياتها سبع وثلاثون آية.(8/425)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قال المهايمي: فعزّته تقتضي إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها.
وأنواع السعادات، وحدة النظر، والحكمة تقتضي محو الشبه وإزالة النقائص وإحراق الشقاوة وتمهيد الفكر. وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته، لتكميل القوة النظرية والعملية، ليتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية، من الإيمان والإيقان والعقل.
وذلك بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه. فمنها آيات الأجسام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 3 الى 5]
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي مطر. سمي رزقا لأنه سببه فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي عن الله، ما وعظهم به ودعاهم إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 6]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي بعد آياته ودلائله الباهرة. وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم. كما في قولك (أعجبني زيد وكرمه) .(8/426)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 7]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أي كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل أَثِيمٍ أي بترك الاستدلال، لا سيما إذا لم يترك عن غفلة، بل مع كونه،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 8 الى 12]
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ أي لا بالإخبار عنها بالغيب، بل تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أي على إنكارها مُسْتَكْبِراً أي عن قبولها، لا يتأثر بها أصلا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً استهانة بها أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من بعد انقضاء آجالهم، عذابها وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا أي من الأموال والأولاد شَيْئاً أي من عذاب الله وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني آلهتهم التي عبدوها، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر واتخذوهم نصراء في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا أي القرآن هُدىً أي بيان ودليل على الحق، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أي بتسخيره وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة، وجهاد وهداية وغوص فيه، لاستخراج لآليه، وصيد منه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمة هذا التسخير، فتعبدوه وحده، وتصرفوا ما أنعم به عليكم، إلى ما خلقتم له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 13]
وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)(8/427)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في آيات الله وحججه وأدلته، فيعتبرون بها ويتفكرون. قال المهايميّ: منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده. وجعل البعض سبب البعض، دليل حكمته، وجعل الكل مسخرا للإنسان، دليل كمال جوده. فمن أنكر هذه الآيات ولم يشكر هذه النعم، استوجب أعظم وجوه الانتقام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 14]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي صدّقوا بالله واتبعوك يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من علمهم. ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش. وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد شتمه رجل من غفار، فهمّ أن يبطش به، فتكون الآية مدنية. قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية. من أن من أسلم بها كانوا مقهورين فلا يمكنهم الانتصار منهم. والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح. وأجيب بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله بقلبه، ليثاب عليه. مع أن دوام عجز كل أحد منهم غير معلوم. فالصواب أن الآية مكية كالسورة. ومعنى نزولها في عمر- إن صح- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه. كما حققنا المراد من النزول، غير ما مرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 15]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أي لكونه افتكّها من العذاب وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى، لأنه أوبقها بذلك ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي تصيرون. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 16]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16)
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة وَالْحُكْمَ أي الفهم بالكتاب(8/428)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب وَالنُّبُوَّةَ أي جعلنا منهم أنبياء ورسلا إلى الخلق وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المنّ والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 17]
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات، تأبى الاختلاف، ولكن أبوا إلا الاختلاف فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ظلما وتعديا منهم، لطلب الحظوظ العاجلة إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بالمؤاخذة والمجازاة. قال ابن كثير: وهذا فيه تحذير لهذه الأمة، أن تسلك مسلكهم. وأن تقصد منهجهم. ولهذا قال جلّ وعلا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 18]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ أي على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين، الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا فَاتَّبِعْها أي تلك الشريعة الثابتة بدلائل والحجج وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
يعني المشركين وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 19]
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن يدفعوا عنك من غضبه وعقابه شيئا ما، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أعوان وأنصار على المؤمنين وأهل الطاعة. أو في التحزّب والتقوى. ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم؟ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي من اتقاه بعبادته وحده، وخشيته بكفايته من بغى عليه، وكاده بسوء. والأظهر تفسير الآية بآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا(8/429)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ
[البقرة: 257] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 20 الى 21]
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21)
هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي يبصرون به الحق من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد. قال الزمخشري: جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع، بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحا وحياة، أي فهو تشبيه بليغ وَهُدىً أي من الضلالة وَرَحْمَةٌ أي من العذاب لمن آمن وأيقن لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يطلبون اليقين أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
أي اكتسبوا سيئات الأعمال أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي من عدم التفاوت. قال الزمخشري: والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا.
وأن يستووا مماتا. لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتا حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم. انتهى.
وزد عليه: حيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله وسنن الرشاد وطمأنينة القلب، وأولئك على الضلال والجهل والعبث بالفساد واضطراب القلب وضيق الصدر، بعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 124] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 22]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالحكمة والصواب. قال ابن جرير:
أي للعدل والحق، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله، من التسوية بين الأبرار(8/430)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
والفجار. لأنه خلاف العدل والإنصاف وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ قال الزمخشري:
معطوف على (بالحق) لأن فيه معنى التعليل. أو على معلل محذوف، تقديره، خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته، ولتجزى كل نفس وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي في جزاء أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 24]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده. فجعله إلها تشبيه بليغ أو استعارة. قال القاشاني: الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها. إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته، فهو إلهه لو كان حجرا! وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ. أي عالما بحاله، من زوال استعداده، وانقلاب وجهه، إلى الجهة السفلية. أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون عَلى عِلْمٍ حالا من الضمير المفعول في أَضَلَّهُ اللَّهُ لا من الفاعل. وحينئذ يكون الإخلال لمخالفته علمه بالعمل، وتخلف القدم عن النظر. لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى. أو على علم منه غير نافع. لكونه من باب الفضول. ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ أي بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه، لمكان الرّين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئا وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي عن رؤية حجج الله وآياته فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها نَمُوتُ أي بالموت البدني الطبيعي، وَنَحْيا أي الحياة الجسمانية الحسية، لا موت ولا حياة غيرهما وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي مرّ الليالي والأيام وطول العمر وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي: وما يقولون ذلك عن علم ولكن عن ظن وتخمين. وبِذلِكَ إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر، أو إلى إنكار البعث، أو إلى كليهما قال الزمخشري: كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس. وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح(8/431)
بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة وحدث إلى الدهر والزمان. وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «1»
(لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)
أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر. انتهى.
وقال الخطابي، معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر.
فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها.
وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور. وكان عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا (بؤسا للدهر) و (تبا للدهر) . انتهى.
قال ابن كثير: وقد غلط ابن حزم. ومن نحا نحوه من الظاهرية، في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى. أخذا من هذا الحديث. انتهى.
تنبيه:
في هذه الآية ردّ على الدهرية. وهم المعطلة بأن متمسكهم ظن وتخمين. لم يشم رائحة اليقين. وما هذا سبيله، فباب القبول في وجهه مسدود إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36] .
قال الشهرستاني في معطلة العرب: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا. إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي. وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها.
فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فاستدل عليهم بضرورات فكرية، وآيات فطرية، في كم آية وسورة فقال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا، ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف: 184] . أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:
185] . وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ [النحل: 48] ، وقال قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] . وقال يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] . فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق. فإنه قادر على الكمال. إبداء وإعادة. انتهى.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 229. عن أبي قتادة.(8/432)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
ولي في الرد على الدهريين، وهم الماديون والطبيعيون، كتاب وسمته (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد، فليس وراءه، بحمده تعالى، من مزيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 25]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي بأن الله باعث خلقه يوم القيامة ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي انشروهم أحياء، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، وإطلاق الحجة على ذلك، إما حقيقة بناء على زعمهم، فإنهم ساقوه مساق الحجة، أو هو مجاز تهكما بهم. كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. بمعنى أن لا حجة لهم البتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 26]
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي قل لهم في جواب قولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ: قل الله يحييكم ثم يميتكم، لا الدهر. لما عرف من وجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود، هو سبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم (في جواب إنكارهم البعث) : بأن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة، على ما مرّ مرارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 27]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا مالك غيره، ولا معبود سواه وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 28 الى 31]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)(8/433)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي باركة، مستوفزة على الركب لا حراك بها. شأن الخائف المنتظر لما يكره وذلك عن الحساب أو في الموقف الأول، وقت البعث قبل الجزاء كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي اللوح الذي أثبت فيه أعمالها. ويعطى بيمين من كان سعيدا. وشمال من كان شقيا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أي يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تعالى، لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نستكتب الملائكة ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي في جنته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أي فيقال لهم أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي بكسب الآثام، والكفر بالله، وعدم التصديق بمعاد، ولا الإيمان بثواب وعقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : آية 32]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي: أي شيء هي؟ أي: لا نستيقن بها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي إنها كائنة وآتية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 33 الى 35]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني الجزاء وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي نترككم في العذاب ترك ما ينسى، كما تركتم التأهب له.
ف نَنْساكُمْ استعارة أو مجاز مرسل وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة(8/434)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وزعمتم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه. من (الإعتاب) وهو إزالة العتب.
كناية عن الإرضاء. أو: لا هم يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة، فما بعد الموت مستعتب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ أي الثناء الكامل. قال ابن جرير: أي فلله الحمد على نعمه وأياديه عند خلقه. فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه، دون ما تعبدون من دونه، من آلهة ووثن رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الاستعلاء،. ونهاية الرفع والكبر على كل شيء، وغاية العلوّ والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القوي القاهر لكل شيء الْحَكِيمُ قال القاشاني: أي المرتب لاستعداد كل شيء، بلطف تدبيره، المهيّئ لقبوله، لما أراد منه من صفاته، بدقيق صنعته، وخفي حكمته (لا إله إلا هو رب العالمين) .
وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام 1326 بمنزلنا بدمشق الشام. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.(8/435)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحقاف
قال المهايميّ: سميت بها لأن مكانها من حيث قبوله سرعة تأثير ريح العذاب فيه. كالدليل على إنذاره. ففيه إشعار على أن إنذارات القرآن كالدلائل على أنفسها.
ثم في قصتهم اتساق الإنذار إلى صيرورة المرجوّ مخوفا. ففيه إشعار بأن إنذارات القرآن مما يخاف منها صيرورة ما يرجوه الجهال مخوفا عليهم. وذلك من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ ... [الأحقاف:
17] الآيتين. وقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... [الأحقاف: 10] الآية.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [الأحقاف: 15] الأربع الآيات. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ [الأحقاف: 35] الآية، فهي مدنية- كذا قيل. وتقدم في طليعة سورة الجاثية تحقيق ذلك. وآيها خمس وثلاثون.(8/436)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي: الحكمة وإقامة العدل في الخلق. وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي: وبتقدير أجل معين لكل منها، يفنيه إذا هو بلغه، وهو يوم القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي: من هول ذلك اليوم مُعْرِضُونَ أي: لا يؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 4]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: من الأوثان التي تعبدونها. أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال، أو شيء سماويّ بالشركة، حتى تستحق العبادة. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقليّ، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. أي: ائتوني بكتاب إلهيّ من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، دالّ على صحة دينكم. أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي: أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في دعواكم، فإنها لا تكاد تصح، ما لم يقم عليها برهان عقليّ، أو سلطان نقليّ. وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل، تبين بطلانها.(8/437)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 5]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ أي: دعاءه لعجزه عنها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي: لأنهم إما جمادات، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم. و (الغفلة) مجاز عن عدم الفائدة فيها. أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره.
لطيفة:
قال الناصر: في قوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ نكتة حسنة. وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة. ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم. فالوجه- والله أعلم- أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كان الحالتين، وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما، كالشيء وضده. وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة. والحالة الثانية التي في القيامة، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم. فهو من وادي ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 29- 30] انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 6]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب كانُوا أي:
آلهتهم لَهُمْ أَعْداءً أي: لتبرئتهم منهم. قال الشهاب: أعداء استعارة، أو مجاز مرسل للضارّ. وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ قال ابن جرير: أي وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا، بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرّأنا إليك منهم، يا ربنا! أي: فالتكذيب بلسان المقال، قصدا إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين وأهواؤهم.(8/438)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
وقال القاشانيّ: كانوا أعداء، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ. وكذا استعباد الموالي لخدمهم. فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب، كانوا لهم أعداء، وأنكروا عبادتهم.، يقولون: ما خدمتمونا، ولكن خدمتم أنفسكم. كما قيل في تفسير قوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: 67] . انتهى.
وقيل: الضمير في كانُوا في الموضعين، للعابدين، لئلا يلزم التفكيك.
وفيه نظر: لأنه خلاف المتبادر من السياق، إذ هو لبيان حال الآلهة معهم، لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم. وتسميته كفرا، خلاف الظاهر أيضا. وقد أوضح ذلك آية وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81- 82] . والقرآن يفسر بعضه بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بادهوه بالجحود أول ما سمعوه، من غير إجالة فكر، ولا إعمال روية. واللام في لِلْحَقِّ لام الأجل متعلقة ب قالَ. وقيل: بمعنى الباء، متعلقة ب كَفَرُوا، وعدّي الكفر باللام، حملا على نقيضه، وهو الإيمان، فإنه يعدى بها نحو أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشعراء: 111] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 8]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا، إن أصابني به. و (أم) - على ما قالوا- منقطعة مقدرة ب (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر، حتى أضرب عنه، أن الكذب خصوصا على الله متفق على قبحه، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر، فإنه، وإن قبح، فليس بهذه المرتبة، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة.(8/439)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
وقال الناصر: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها، فإنه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه، مع ما تقدمه مما ينقص عنه، منزلة المتنافيين، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر. وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: تخوضون في حقه من أنه سحر أو إفك كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي: لمن راجع منكم الكفر وتاب وآمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 9]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم، فلم تستنكرون بعثتي، وتستبعدون رسالتي، كقوله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] ، و (البدع) كالبديع، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير: ومن البدع قول عديّ بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
ومن البديع قول الأحوص:
فخرت فانتمت فقلت: ذريني ... ليس جهل أتيته ببديع
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ قال أبو السعود: أي: أيّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، من أفعاله تعالى، وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن (ما) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلّى الله عليه وسلّم جازم بأنه صائر إلى الجنة، هو ومن اتبعه(8/440)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
بإحسان. وأما في الدنيا، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش، أيؤمنون، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد «1» عن أم العلاء، وكانت بايعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: (طار لنا في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضناه. حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: رحمة الله عليك، أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزّ وجلّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير.
والله! ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي! قالت: فقلت: والله! لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك. فنمت، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري، فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري «2» دون مسلم، وفي لفظ له: ما أدري- وأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ما يفعل به
. وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها: فأحزنني ذلك. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام (والد جابر) والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. انتهى كلام ابن كثير.
وقال المهايميّ: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي: فيما لو يوح إليّ.
والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي. ولم يكن لي أن أضمّ إلى الوحي كذبا من عندي.
إِنْ أَتَّبِعُ أي: في تقرير الأمور الغيبية إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر عقاب الله على كفركم به، أبان لكم إنذاره وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 10]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
__________
(1) أخرجه في المسند 6/ 436.
(2) أخرجه في: الجنائز، 3- باب الدخول على الميّت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، حديث رقم 666.(8/441)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: القرآن منزلا من لدنه، عليّ. لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة عَلى مِثْلِهِ أي مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] ، وقوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 18- 19] ، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى. أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله، شهادة على مثل شهادة القرآن، لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله، أو (المثل) صلة و (الفاء) في قوله تعالى فَآمَنَ للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي: عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ استئناف مشعر بأن كفرهم، لضلالهم المسبب عن ظلمهم. ودليل على الجواب المحذوف. مثل: (ألستم ظالمين) أو (فمن أضل منكم) وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعا، فيكون كقوله في الآية الأخرى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] .
قال أبو السعود: ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم، لظلمهم.
تنبيه:
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة، كما ذكره الكواشيّ، لأن إسلامه كان بالمدينة. وأجيب: بأن لا حاجة للاستثناء، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع، كقوله وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف:
48] . ويرشحه أن شَهِدَ معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره به بيانا للواقع، لا على أنه مراد بخصوصه منها. هذا ما حققوه. ويقرب مما نذكره كثيرا من المراد من سبب النزول في مثل هذا، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم.
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به، فقال سبحانه:(8/442)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 11]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ أي: الإيمان، أو ما أتى به الرسول خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به، كسائر الخيرات من المال والجاه.
قال ابن كثير: يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء. وما ذاك إلّا لأنّهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بيّنا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام: 53] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا، ولهذا قالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة. لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
انتهى. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب قديم، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي
قال «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بطر الحق وغمط الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 12]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، ورحمة لمن آمن به، وعمل بما فيه. وَهذا أي الذي يقولون فيه ما يقولون كِتابٌ مُصَدِّقٌ
__________
(1)
أخرجه الترمذي في: البر والصلة، 61- باب ما جاء في الكبر ونصه: عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. ولا يدخل النار (يعني من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) .
قال، فقال له رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة.
قال: إن الله يحب الجمال. ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس.(8/443)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
أي: لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه لِساناً عَرَبِيًّا أي: بيّنا واضحا. وفي تقييد الكتاب بذلك، مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة، على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها، وهي غير عربية. ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: لا غيره. ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: على العمل الصالح. قال القاضي: أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في الأمور، التي هي منتهى العمل. وثُمَّ للدلالة على تأخير رتبة العمل، وتوقف اعتباره على التوحيد فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي: من هول يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وقرئ (حسنا) وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور، في قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف:
17] الآية.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي: ذات كره، أو حملا ذا كره، وهو المشقة. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي: حمله جنينا في بطنها، وفطامه من الرضاع ثَلاثُونَ شَهْراً أي: تمضي عليها بمعاناة المشاق، ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية، وأكيد الرعاية. لا يقال: بقي ثلاثة أشهر، لأن أمد الرضاع حولان، لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما، كما ينبئ عنه(8/444)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] ، ولئن سلم أنهما أمدها، فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود، وحذف الكسور، جريا على عرفهم في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلّى الله عليه وسلّم على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين، كما بين في شرح الشمائل. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود وترك الكسور، وسرّ ذلك هو القصد إلى ذكر المهم، وما يكتفي به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب، وتدقيق الأعداد.
قال ابن كثير: وقد استدل عليّ رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: 14] ، وقوله تبارك وتعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويّ صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: استحكم قوته وعقله وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي: بالهداية للتوحيد، والعمل بطاعتك، وغير ذلك. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: واجعل الصلاح ساريا في ذريتي، راسخا فيهم إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي: من ذنوبي التي سلفت مني وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
أُولئِكَ أي الموصوفون بالتوبة والاستقامة الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: من الصالحات فنجازيهم عليها وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي: معدودين في زمرتهم ثوابا ومقاما.
قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] ليدل على المبالغة بعلوّ منزلتهم فيها، إذ قولك (فلان من العلماء) أبلغ من قولك (عالم) . ولم يبيّنوه هاهنا، ومن لم يتنبه لهذا قال (في) بمعنى (مع) . انتهى.
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق(8/445)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
في الدنيا، وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] .
ثم بيّن تعالى نعت من عصى ما وصّى به من الإحسان لوالديه، من كل ولد عاقّ كافر، وما له في مآله، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 17]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أي حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة أُفٍّ لَكُما أي:
من هذه الدعوة أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث من قبري بعد فنائي وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي: هلكت ولم يرجع أحد منهم وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي:
يطلبان الغياث بالله منه. والمراد إنكار قوله، واستعظامه، كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال (العياذ بالله) ! أو المعنى: يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق، حتى يرجع عما هو عليه وَيْلَكَ آمِنْ أي: صدّق بوعد الله، وأقرّ أنك مبعوث بعد موتك.
ووَيْلَكَ في الأصل معناه الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه، وأخذ ما ينجعه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: إن وعده تعالى لخلقه، بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب، لمجازاتهم بأعمالهم، حق لا شك فيه فَيَقُولُ أي:
مجيبا لوالديه، ورادّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: أباطيلهم التي كتبوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 18]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: الإلهي، وهو العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي: الذين كذبوا رسل الله، وعتوا عن أمره إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي: ببيعهم الهدى بالضلال، والباقي بالفاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 19]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)(8/446)
وَلِكُلٍّ أي من الفريقين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي بنقص ثواب، ولا زيادة عقاب.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه- وهما أبو بكر وأم رومان، وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان، وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات. فأسلم بعد، فحسن إسلامه- فنزلت توبته في هذه الآية وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا.
قال الحافظ ابن حجر: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته، أصح إسنادا وأولى بالقبول. وذلك ما رواه البخاري «1» والإسماعيليّ والنسائيّ وأبو يعلى أن مروان كان عاملا على المدينة، فأراد معاوية أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم، فذكر يزيد، ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: ما هي إلا هرقلية! فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر.
فقال عبد الرحمن: هرقلية! إن أبا بكر، والله! ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده! فقال مروان: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري. ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان، ومروان في صلبه.
ومما يؤيده أن الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وحاول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه، ثم يسلم بعد ذلك. ومعلوم أن الإسلام يجبّ
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 46- سورة الأحقاف، 1- باب وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ، حديث رقم 2043، عن عائشة.(8/447)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمصرّين عليه الذين لم يقلعوا، لكثرة ما ورد في العفو عن التائبين. وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها تنعي على من كان مشركا آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أنّ فيها ما يحط من أقدارهم، ويجعلها مغمزا لهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم. ويرحم الله عبد الرحمن! فقد شفى الغلة، وصدع بالحق، في حين أن لا ظهير له ولا نصير- والله أعلم-.
قال ابن قتيبة في (المعارف) : أربعة رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسق: أبو قحافة، وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن.
وقال أيضا: قيل: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. انتهى.
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس، المسماة بالدحداح، مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر، نسب إليه زورا. وما أكثر المزوّرات في المزارات، كما يعلمه من دقّق في الوفيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 20]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ أي يقال لهم أذهبتم طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها عطف تفسير لقوله أَذْهَبْتُمْ أي فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير ما أباح لكم وأذن وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي عن طاعته، فأبعدكم عن كرامته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 21]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)(8/448)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع. قال قتادة ذكر لنا أن عادا كانوا حيّا باليمن، أهل رمل، مشرفين على البحر. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي: وقد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده، متفقين على أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه. وقال كل واحد منهم عليه السلام إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي من عبادة غير الله عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي بمقدار هتكهم، عذاب الله بالشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 22 الى 23]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23)
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب على عبادتنا إياها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي في وعدك أنه آت لا محالة. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي إني وإن علمت إتيانه قطعا، فلا أعلم وقت مجيئه، لأن العلم بوقته عنده تعالى، فيأتيكم به في وقته الذي قدره له وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. قال الطبريّ: أي مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 24 الى 25]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه عارضا في ناحية من نواحي السماء، متجها نحو مزارعهم قالُوا هذا عارِضٌ أي سحاب عارض مُمْطِرُنا أي بغيث نحيا به بَلْ هُوَ أي قال هود بل هو مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي من العذاب رِيحٌ أي هي ريح. أو بدل من (ما) ، فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ أي تهلك كُلَّ شَيْءٍ أي من أموالهم وأنفسهم بِأَمْرِ رَبِّها أي إذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم، بل دمّرتهم فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي بيوتهم.(8/449)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
ثم أشار إلى أن هذا لا يقتصر على عاد، بل ينتظر لمن كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، بقوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين إذا تمادوا في غيهم، وطغوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 26]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي مكنا عادا، وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام، فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا. على أنّ (إن) نافية، أوثرت على (ما) لئلا توجب شبه التكرير الثقيل. وقيل (إن) شرطية محذوفة الجواب.
والتقدير: ولقد مكناهم في الذي، أو في شيء، إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر.
وقيل: هي صلة كما في قوله.
يرجّى المرء ما إن لا يراه ... ويعرض دون أدناه الخطوب
قال الزمخشريّ: والوجه هو الأول. ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مريم: 74] ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً [غافر: 82] وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار.
قال الناصر: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] ، وقوله: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] أي: والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد. على ما فيه أيضا من سلامة الحذف والزيادة.
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً قال الطبريّ: أي جعلنا لهم سمعا يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له، بل في خلافه إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب.
قال الطبريّ: وهذا وعيد من الله عزّ وجلّ ثناؤه، لقريش. يقول لهم: فاحذروا(8/450)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
لطيفة:
قال الشهاب: أفرد السمع في النظم، وجمع غيره، لاتحاد المدرك به، وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 27]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ أي ما حول قريتكم يا أهل مكة مِنَ الْقُرى أي كحجر ثمود، وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي وعظناهم بأنواع العظات، وبيّنا لهم ضروبا من الحجج لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن الكفر بالله ورسله. قال الطبريّ:
وفي الكلام متروك، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي على غيهم، فأهلكناهم، فلم ينصرهم منا ناصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 28]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي: فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم، أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقربون بها، فيما زعموا، إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا، إن كانت تشفع لهم عند ربهم، كما قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] .
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي غابوا عن نصرهم، وامتنع أن يستمدوا بهم، امتناع الاستمداد بالضالّ ففي ضَلُّوا استعارة تبعية وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي ضياع آلهتهم عنهم، وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة. وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم.(8/451)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا أي ليتم التدبر والتفكر فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من قراءته، كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، لذلك وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي عما هم فيه من الضلال. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي المتفق على تعظيم كتابه. أي وقد علمنا صدقه لكونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي من هذه الكتب كلها، وقد فضّل عليها إذ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي معرفة الحقائق وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي لا عوج فيه، وهو الإسلام.
قال ابن كثير: أي يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار، وإلى طريق مستقيم في الأعمال. فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب. فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33] ، فالهدى هو العلم النافع. ودين الحق هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: يهدي إلى الحق في الاعتقادات، وإلى طريق مستقيم، أي في العمليات.
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أي رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي بمعجز ربّه، بهربه إذا أراد تعالى عقوبته، لأنه في قبضته وسلطانه، أنّى اتجه. وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي أخذ على غير استقامة.(8/452)
تنبيهات:
الأول-
روى الإمام مسلم «1» عن علقمة قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير، اغتيل! قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال:
فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فقال:
أتاني داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم
. وروى الإمام أحمد «2» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي، فيسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا. فيكون ما سمعوا حقّا، وما زادوا باطلا. وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك. فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبثّ جنود، فإذا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. ورواه الترمذي «3»
والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما. وهكذا قال الحسن البصريّ: إنه صلّى الله عليه وسلّم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف، ودعائه إياهم إلى الله عزّ وجلّ، وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها، ثم قال:
فلما انصرف عنهم، بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعته الجن من أهل نصيبين. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولكن قوله (إن الجن كان استماعهم تلك الليلة) فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور. وخروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...
__________
(1) أخرجه في: الصلاة، حديث رقم 150.
(2) أخرجه في 1/ 274، والحديث رقم 2482.
(3) أخرجه الترمذي في: التفسير، 72- سورة الجن.(8/453)
الآية. قال ابن كثير: فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يقتضي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا: قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج. فأما ما رواه البخاريّ ومسلم «1» جميعا عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدّثني أبوك- يعني ابن مسعود رضي الله عنه- أنه آذنته بهم شجرة، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي أعلمته باجتماعهم، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم.
قال الحافظ البيهقيّ: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم، ولم يرهم. ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن، فقرأ، عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ- كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه-.
ثم قال ابن كثير: وأما ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حال مخاطبته للجن، ودعائه إياهم، وإنما كان بعيدا منه، ولم يخرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحد سواه، ومع هذا، لم يشهد حال المخاطبة. هذه طريقة البيهقيّ. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم، لم يكن معه صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى- والله أعلم- كما روى ابن أبي حاتم في تفسير قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجنّ نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة، فجن نصيبين. وتأوّل البيهقيّ قوله (فبتنا بشرّ ليلة) على غير ابن مسعود، ممن لم يعلم بخروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الجن، وهو محتمل، على بعد وبالجملة، فقد روي ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روى عنه أولا من وجه جيّد عن ابن جرير في هذه الآية، قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، فهذا يدلّ على أنه قد روى القصتين. وذكر أبو حمزة الثماليّ أن هذا الحيّ من الجن كانوا أكثر الجن عددا،
__________
(1) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، 32- باب ذكر الجن وقول الله تعالى: قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن، الحديث رقم 1810.
وأخرجه مسلم في: الصلاة حديث رقم 153.(8/454)
وأشرفهم نسبا. وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة. ويروى أنهم كانوا خمسة عشر، وروي ستين، وروي ثلاثمائة. وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. قال ابن كثير:
فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم. ومما يدلّ على ذلك ما رواه البخاري «1» في صحيحه أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول: إني لأظنه هكذا، إلا كان كما يظن. بينما عمر بن الخطاب جالس، إذ مرّ به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. عليّ الرجل. فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني! قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق! بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه، يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. قال فوثب القوم.
فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبيّ- هذا سياق البخاريّ- وقد رواه البيهقيّ من حديث ابن وهب بنحوه. ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح. وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه. وسائر الروايات تدلّ على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه- والله أعلم-.
وهذا الرجل هو سواد بن قارب. قال البيهقيّ: وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم
روى بسنده عن البراء قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال، فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال:
فبينما نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب. قال، فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان. قال سواد: فإني كنت نازلا بالهند، وكان لي رئيّ من الجن.
__________
(1) أخرجه في: مناقب الأنصار، 35- باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث 1813. [.....](8/455)
قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم إذا جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل! قد بعث رسول من لؤيّ بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجنّ وتحساسها ... وشدّها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خيّر الجنّ كأنجاسها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عزّ وجلّ بعث نبيّا، فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية، أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدّها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... وليس قدماها كأذنابها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة، أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدّها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشّرّ كأخيارها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله. قال: فانطلقت إلى رحلي، فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة، ولا عقدت أخرى، حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو بالمدينة- يعني مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعرا، فاسمعه مني! قال صلّى الله عليه وسلّم: قل يا سواد، فقلت:
أتاني رئيّي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال، قوله كلّ ليلة: ... أتاك رسول من لؤيّ بن غالب
فشمّرت عن ساقي الإزار ووسّطت ... بي الدّعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا ربّ غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله، يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذّوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب(8/456)
قال: فضحك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيّك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجلّ من الجن
. ثم أسنده البيهقيّ من وجهين آخرين. انتهى كلام ابن كثير.
وقد ساقه الإمام الماورديّ في (أعلام النبوة) مع نظائر له، في الباب السادس عشر، في هتوف الجن، ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد، عمن لا يرى شخصه، ولا يحج قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النفوس بشير، وقد قبلها السامعون. وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها. فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة، فعنه جوابان:
أحدهما: أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخبارا.
والثاني: أن الكهانة عن مغيّب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم. انتهى.
التنبيه الثاني:
قال الماورديّ: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] ، وجهان:
أحدهما- أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء، برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ما هذا الحادث في السماء، إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض، حتى وقفوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ، وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن، ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث، صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب. وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
أقول: وعليه فتكون (إلى) في (إليك) بمعنى لام التعليل. وذكر في (المغني) أنها تأتي مرادفة اللام، نحو وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل: 33] . وفيه تكلف وبعد، لنبوّه عما يقتضيه سياق بقية الآية.
ثم قال الماورديّ: وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] .(8/457)
أقول: سيأتي مرفوعا عن جابر أنها سورة الرحمن.
ثم قال الماورديّ:
والوجه الثاني- أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق، هداية من الله تعالى، حتى أتوا نبيّ الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل بهذه الآية، وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود، حتى جاء الحجون. قال ابن مسعود: فخط عليّ خطّا وقال: لا تجاوزه.
فعلى الوجه الأول، لم يعلم بهم حتى أتوه. وعلى الوجه الثاني، أعلمه جبريل قبل إتيانهم. واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم. فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا. وحكى ابن مسعود أنه رآهم. وقرأ عليهم القرآن.
أقول: تقدم لابن كثير ما فيه كفاية-.
ثم قال الماورديّ: وفي قوله فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف: 29] وجهان:
أحدهما- فلما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه.
والوجه الثاني: فلما حضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أنصتوا لسماع قوله. انتهى.
قال ابن كثير: وهذا- أي قولهم أنصتوا- أدب منهم.
وقد روى البيهقيّ عن جابر قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 42] ، إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد، ورواه الترمذي «1»
وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير.
الثالث- دل قوله تعالى يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الأحقاف: 32] ، على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامّ الرسالة إلى الإنس والجن.
قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن، ولهذا قال أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 55- سورة الرحمن، باب حدثنا عبد الرحمن بن واقد.(8/458)
قال الماورديّ: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم، فجوّزه قوم لقول الله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الأنعام: 130] ، ومنع آخرون منه. وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
على الذين لما سمعوا القرآن، وولّوا إلى قومهم منذرين. انتهى.
أقول: ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلا في آية إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] .
الرابع- استدل بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة. إذ لو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا، لأوشك أن يذكروه.
قال الماورديّ: فأما كفارهم فيدخلون النار، وأما مؤمنوهم، فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم. فقال الضحاك: ومن جوز أن يكون رسلهم منهم، يدخلون الجنة. وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها، ثم يقال: لهم: كونوا ترابا كالبهائم. انتهى.
والحق- كما قال ابن كثير- أن مؤمنهم كمؤمن الإنس، يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف. وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عزّ وجلّ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56 و 74] ، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جلّ وعلا وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 46- 47] ، فقد امتنّ تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة. وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القوليّ أبلغ من الإنس، فقالوا:
ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم. وأيضا، فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار، وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة، وهو مقام فضل، بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على عموم ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] ، وما أشبه ذلك من الآيات. وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان، من تكفير الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار. فمن أجير من النار دخل الجنة لا(8/459)
محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:
4] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة، فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها. ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم، ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس، عوضا عن الطعام والشراب، كالملائكة، لأنهم من جنسهم. وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها. انتهى.
الخامس- قيل: سر التبعيض في قوله مِنْ ذُنُوبِكُمْ أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد. وفيه نظر، لأن الحربيّ لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه، جبّ الإسلام عنه إثم ما تقدم.
بلا إشكال. ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة، والسر فيه أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن- أفاده الناصر-.
السادس- قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفودا وفودا، كما تقدم بيانه.
السابع- قال الماورديّ: الجن من العالم الناطق المميز، يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء. وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية.
وقال القاشاني: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر، سماها حكماء الفرس (الصور المعلقة) . ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية، ومشاركتها الإنس في ذلك، سميا (ثقلين) . وكما أمكن الناس التهدّي بالقرآن أمكنهم. وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع، وأوضح من أن يقبل التأويل. انتهى.(8/460)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : آية 33]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي بإعادة الروح إلى الجسد، بعد مفارقتها إياه، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم.
وفي ابن جرير بحث نحويّ في دخول الباء في بِقادِرٍ بديع. ويذكر في مباحث زيادة الباء، في مطولات العربية.
بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من إعادة المعدوم، ولو فني الجسد وغيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 الى 35]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا أي الإحياء إحياء بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ أي على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي: أولو الثبات والجد منهم، فإنك منهم. والعزم- في اللغة- كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر. والعزم أيضا القوة على الشيء والصبر عليه. فالمراد به هنا المجتهدون، المجدّون، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم، وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الأولياء. فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص. ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال: أحدها- أنهم جميع الرسل. والثاني- أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث- أنهم خمسة بزيادة عيسى، كما قيل:(8/461)
أولي العزم نوح والخليل الممجّد ... وموسى وعيسى والنبيّ محمد
والرابع- أنهم ستة، بزيادة هارون أو داود. والخامس- أنهم سبعة بزيادة آدم.
والسادس- أنهم تسعة، بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف. وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد، وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية، وأموره الخارجية، كمبارزة كل أهل عصره، كما كان لنوح. أو لملك جبار في عصره، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية، كنمروذ إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى. ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل.
وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام. ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره- أفاده الشهاب- وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي من عذاب الله ونكاله وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا أو في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا.
وقوله تعالى بَلاغٌ قال ابن جرير: فيه وجهان:
أحدهما- أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذف (ذلك لبث) ، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها.
والآخر- أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكروا واعتبروا، فتذكروا. انتهى.
وأشار المهايميّ إلى معنى آخر فقال: ليس من حق الرسل الاستعجال، بل حقهم بلاغ.
فَهَلْ يُهْلَكُ أي بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي الذين خالفوا مره، وخرجوا من طاعته. نعوذ بالله من غضبه، وأليم عقابه.(8/462)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
سميت به، لما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد متفرقا، أعظم من الإيمان بما نزل مجموعا على سائر الأنبياء عليهم السلام. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة (القتال) ، لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، وما يترتب على القتال وكثرة فوائده- قاله المهايميّ-.
وهي مدنية. وحكى النسفيّ قولا غريبا، أنها مكية. وآيها ثمان وثلاثون.(8/463)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)
الَّذِينَ كَفَرُوا أي: جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة. أو صدوا غيرهم عن ذلك. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي جعلها على غير هدى ورشاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 2]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.
وقوله: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي بما أنزل الله به جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وإنما خصه بالذكر، مع دخوله فيما قبله، تعظيما لشأنه وتعليما، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه، لإفراده بالذكر. وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الثابت بالواقع ونفس الأمر. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي ستر بإيمانهم وعملهم الصالح، ما كان منهم من الكفر والمعاصي، لرجوعهم عنها وتوبتهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم وشأنهم، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الشهاب: (البال) يكون بمعنى الحال والشأن. وقد يخص بالشأن العظيم،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم «1»
«كل أمر ذي بال» .
ويكون بمعنى الخاطر القلبيّ، ويتجوز به عن القلب. ولو فسر به هنا كان حسنا أيضا. وقد فسره السفاقسيّ بالفكر، لأنه إذا صلح قلبه وفكره، صلحت عقدته وأعماله.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، 19- باب خطبة النكاح، حديث 1894.(8/464)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
وقال ابن جرير: البال كالمصدر، مثل الشأن، لا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر، فإذا جمعوه قالوا: (بالات) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 3]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
ذلِكَ أي المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن بِأَنَّ الَّذِينَ أي بسبب أن الذين كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي يشبه لهم الأشباه، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار. واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 4]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ لما كان طليعة هذه السورة تمهيدا لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادّين عن منهج الرشاد، وبعثا على الصدق في قتالهم، كسحا لعقبة باطلهم، عملا بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان، وتمييزا لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة. ولذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها. فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام. أي: فإذا كان الأمر كما ذكر، فإذا لقيتموهم في المحاربة، فضرب الرقاب. وأصله: فاضربوا الرقاب ضربا. فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار وتأكيد بليغ. والتعبير به عن القتل، تصوير له بأشنع صورة، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون(8/465)
منه حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي غلبتموهم، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدُّوا الْوَثاقَ بفتح الواو، وقرئ بكسرها. وهو ما يوثق به، أي يربط ويشد، كالقيد والحبل. أي فأمسكوهم به كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون بعد ذلك عليهم، فتطلقونهم بغير عوض، لزوال سبعيّتهم، وإما تفدون فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.
قال المهايميّ: ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] ، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال. ولم يذكر الاسترقاق، لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية. ولا تزالوا كذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: إلى انقضاء الحرب و (الأوزار) كالأحمال وزنا ومعنى. استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها، استعارة تصريحية أو مكنية، بتشبيهها بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره، وأثبت له ذلك تخييلا. وقد جاء ذكرها في قول الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها: ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقيل: أوزارها آثامها. يعني: حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في الآية بيان كيفية الجهاد.
الثاني- للسلف قولان في أن الآية: منسوخة أو محكمة.
فروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي أنها منسوخة بقوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، قالوا: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.
وروي عن ابن عمر وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز، أن الآية محكمة ليست منسوخة، وأنه لا يجوز قتل الأسير، وإنما له المن أو الفداء.
ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة.
ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات، محمول على المفصل في(8/466)
مثل هذه الآية، أي إن القتل عند اللقاء، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير، إلا أن تبدو مصلحة في القتل، فتلك من باب آخر.
وثم قول ثالث: وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل، لعلمه من آيات أخر، لا سيما ومرجع الأمر إلى المصلحة. وهذا القول هو الذي أختاره. وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ.
فالأول هو المرجح. وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام، لما قدمناه في مقدمة التفسير، من تغاير اصطلاح السلف والأصوليين في النسخ.
ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك، وعبارته:
والصواب من القول عندنا في ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر. وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ، الآية. بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمن على بعض، مثل يوم بدر: قتل عقبة بن أبي معيط، وقد أتي به أسيرا. وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر، وفادى بجماعة، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر.
ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده. ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب، من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلّى الله عليه وسلّم دائما ذلك فيهم.
وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخص ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك، قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكررا، فأعلم نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء، ما له فيهم مع القتل. انتهى كلام ابن جرير.
الثالث- من فوائد الآية أيضا جواز تخلية سبيل المشركين، إذا ضعفت شوكتهم، وأمنت مفسدتهم، لأن ذلك من لوازم المن وقبول الفداء، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل، ينافيه نص هذه الآية، وقبول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، فتفهّم.(8/467)
وبالجملة، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم، أن الأمير يخيّر، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين، بين قتال واسترقاق، ومنّ وفداء. ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين، لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ، كوليّ اليتيم، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى. فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين، فقتله أصلح.
ومنهم الضعيف ذو المال الكثير، ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين، يرجى إسلامه، فالمنّ عليه أولى. ومن ينتفع بخدمته، ويؤمن شرّه، استرقاقه أصلح- كما في (شرح الإقناع) -.
الرابع- تسنّ دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة، قطعا لحجته. ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة، لحديث «1» بريدة بن الحصيب قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين. وقال: إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم- رواه مسلم-.
وقيد الإمام ابن القيّم وجوب الدعوة واستحبابها، بما إذا قصدهم المسلمون.
أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة، دفعا عن نفوسهم وحريمهم وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، لأنه أعرف بحال الناس، وبحال العدوّ، ونكايتهم وقربهم وبعدهم- كما في (شرح الإقناع) -.
وقوله تعالى: ذلِكَ خبر لمحذوف. أي الأمر ذلك. أو مفعول لمقدّر وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي: لانتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم ذلك كله.
وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق. وَالَّذِينَ قُتِلُوا أي استشهدوا. وقرئ (قاتلوا) فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ.
__________
(1) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث رقم 3.(8/468)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 5 الى 6]
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي بيّنها لهم في كثير من آياته، تعريفا يشوق كل مؤمن أن يسعى لها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي الظفر والتمكين في الأرض، وإرث ديار العدوّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 8 الى 9]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي خزيا وشقاء. وأصله من السقوط على الوجه، كالكبّ. وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي جعلها على غير هدى واستقامة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي من الحق، وشايعوا ما ألفوه من الباطل. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ كعبادتهم لأوثانهم، حيث لم تنفعهم، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 10]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المكذّبة رسلها، الرادة نصائحها. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ما اختص بهم، وكان لهم، يقال: دمّره بمعنى أهلكه. ودمّره عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس.
فالثاني أبلغ، لما فيه من العموم، لجعل مفعوله نسيا منسيّا، فيتناول نفسه وكل ما يختص به. والإتيان ب (على) لتضمنه معنى (أطبق عليه) أي أوقعه عليهم محيطا بهم، أو هجم الهلاك عليهم. وَلِلْكافِرِينَ يعني المكذّبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَمْثالُها أي أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة.(8/469)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 11 الى 12]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ أي لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب، إذا حاق بهم. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي غير مفكّرين في المعاد، ولا معتبرين بسنة الله، كغفلة الأنعام عن النحر والذبح، فلا همّ لهم إلا الاعتلاف دون غيره. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي مأواهم بعد مماتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 14]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني مكة، على حذف مضاف أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ، أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي على برهان وحجة وبيان من أمر ربه، والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه.
كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أي فأراه إياه الشيطان حسنا، فهو مقيم عليه. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي متغيّر الريح وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي من القذى، وما يوجد في عسل الدنيا وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أي من فرط حرارته.(8/470)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
لطيفة:
مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ خبره كَمَنْ هُوَ خالِدٌ بتقدير حرف إنكار ومضاف. أي:
أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد. أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. فلفظ الآية، وإن كان في صورة الإثبات، هو في معنى الإنكار والنفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار وانسحاب حكمه عليه، وهو قوله: أَفَمَنْ كانَ..
إلخ، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هو من السياق، وإن فيه جزالة المعنى.
وثم أعاريب أخر، هذا أمتنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 16]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)
وَمِنْهُمْ أي ومن هؤلاء الكفار مَنْ أي كافر منافق يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي من الصحابة، استهزاء بما سمعوه من المتلوّ، وتهاونا به ماذا قالَ آنِفاً أي الساعة. هل فيه هدى؟ فإن بينوه لم يستفيدوا منه شيئا. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي آراءهم، لا ما يدعو إليه البرهان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 17]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا أي باتباع الحق، والمشي مع الحجة زادَهُمْ هُدىً أي بيانا لحقيقة ما جاءهم وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي أعانهم عليها. أو آتاهم جزاء تقواهم. أو بيّن لهم ما يتقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 18]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قال ابن كثير: أي أمارات اقترابها، كقوله تبارك وتعالى: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ(8/471)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
[النجم: 56- 57] ، وكقوله جلت عظمته اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:
1] ، وقوله سبحانه وتعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقوله جلّ وعلا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] . فبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة، لأنه خاتم الرسل، الذي أكمل الله تعالى به الدين، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه، بما لم يؤته نبيّ قبله، كما هو مبسوط في موضعه.
وقال الحسن البصريّ: بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة، وهو كما قال.
ولهذا جاء في أسمائه صلّى الله عليه وسلّم أنه نبيّ التوبة، ونبيّ الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبيّ.
روى البخاريّ «1» عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بإصبعيه هكذا- بالوسطى والتي تليها-: بعثت أنا والساعة كهاتين.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي ذكرى ما قد ضيعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة. يعني: أن ليس ذلك بوقت ينفعهم فيه التذكر والندم، لأنه وقت مجازاة، لا وقت استعتاب واستعمال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال ابن جرير: أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة ويجوز لك وللخلق عبادته، إلا الله الذي هو خالق الخلق، ومالك كل شيء. يدين له بالربوبية كل ما دونه. والفاء فصيحة في جواب شرط معلوم، مما مر من أول السورة إلى هنا، من حال الفريقين.
قال السيوطي: وقد استدل بالآية من قال بوجوب النظر، وإبطال التقليد في العقائد، ومن قال بأن أول الواجبات، المعرفة قبل الإقرار.
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال ابن جرير: أي وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء.
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الرقاق، 39- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «بعثت أنا والساعة كهاتين» حديث رقم 2068
.(8/472)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
قال الشهاب: وإنما أعيد الجار، لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإن ذنوبهم معاص كبائر وصغائر، وذنبه ترك الأولى.
وقال السيوطي: استدل بالآية من أجاز الصغائر على الأنبياء. انتهى.
والمسألة مبسوطة بأقوالها، وما لها وما عليها في (الفصل) لابن حزم، فارجع إليه.
وفي الصحيح «1» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطاياي وعمدي، وكل ذلك عندي» .
وفي الصحيح «2» أنه كان يقول في آخر الصلاة: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني. أنت إلهي لا إله إلا أنت» .
وفي الصحيح «3» أنه قال: «يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ أي متصرّفكم فيما تتصرفون فيه، وإقامتكم على ما تقيمون عليه من الأقوال والأعمال، فيجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 20]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار.
فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي مبيّنة لا تقبل نسخا ولا تأويلا، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الدعوات، 60- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت» حديث رقم 2404، عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه البخاري في: التهجد، 1- باب التهجد بالليل، حديث رقم 613، عن ابن عباس.
(3) أخرجه البخاري في: الدعوات، 3- باب استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليوم والليلة، حديث 2390، عن أبي هريرة.(8/473)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
أي الأمر بقتال المشركين رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: شك في الدين وضعف في اليقين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. شبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره فَأَوْلى لَهُمْ قال الشهاب: اختلف فيه، بعد الاتفاق على أن المراد به التهديد والوعيد، على أقوال:
فذهب الأصمعيّ إلى أنه فعل ماض بمعنى قارب. وقيل: قرّب بالتشديد، ففاعله ضمير يرجع لما علم منه، أي: قارب هلاكهم. والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى القرب. وقال أبو عليّ: إنه اسم تفضيل من الويل. والأصل (أويل) فقلب، فوزنه أفلع. وردّ بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر.
وقد قيل: إنه فعلى، من آل يؤول. وقال الرضي: إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ و (لهم) خبره. وقد سمع فيه (أولاة) بتاء تأنيث. وهو كما قيل، يدل على أنه ليس بأفعل تفضيل، ولا أفعل فعلى، وأنه علم وليس بفعل، بل مثل أرمل وأرملة، إذا سمي بهما، فلذا لم ينصرف. ولا اسم فعل، لأنه سمع فيه (أولاة) معربا مرفوعا، ولو كان اسم فعل بني. وفيه أنه لا مانع من كون (أولاة) لفظا آخر بمعناه، فلا يرد شيء منه عليهم أصلا، كما جاء (أوّل) أفعل تفضيل، واسم ظرف ك (قبل) وسمع فيه (أوّلة) - كما نقله أبو حيان- فلا يرد النقض به كما لا يخفى. انتهى.
قال السمين: إذا قلنا باسميته. ففيه أوجه:
أحدها- أنه مبتدأ، و (لهم) خبره، تقديره: فالهلاك لهم.
والثاني- أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: العقاب أو الهلاك أولى لهم، أي أقرب وأدنى، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء. أي أولى وأحق بهم.
الثالث- أنه مبتدأ، و (لهم) متعلق به، واللام بمعنى الباء، و (طاعة) خبره، والتقدير: فأولى بهم طاعة دون غيرها، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 21]
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21)
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فيه أوجه:
أحدها- أنه خبر (أولى) على ما تقدم.
الثاني- أنها صفة السورة. أي: فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة، أي: ذات طاعة، أو مطاعة. ذكره مكيّ وأبو البقاء. وفيه بعد، لكثرة الفواصل.
الثالث- أنها مبتدأ، و (قول) عطف عليها، والخبر محذوف. تقديره: أمثل بكم من غيرهما. وقدره مكيّ: منا طاعة، فقدّره مقدما.(8/474)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
الرابع- أن يكون خبر مبتدأ محذوف. أي أمرنا طاعة.
الخامس- أن (لهم) خبر مقدم و (طاعة) مبتدأ مؤخر. والوقف والابتداء يعرفان مما قدمته، فتأمل- أفاده السمين-.
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جدّ الحال، وحضر القتال: قال أبو السعود: أسند العزم، وهو الجد، إلى الأمر، وهو لأصحابه، مجازا. كما في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] ، وعامل الظرف محذوف. أي خالفوا وتخلفوا. وقيل ناقضوا.
وقيل: كرهوا. وقيل: هو قوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ على طريقة قولك: إذا حضرني طعام، فلو جئتني لأطعمتك. أي: فلو صدقوه تعالى فيما قالوه من الكلام المنبئ عن الحرص على الجهاد، بالجري على موجبه لَكانَ أي الصدق خَيْراً لَهُمْ أي في عاجل دنياهم، وآجل معادهم. قيل: فلو صدقوه في الإيمان، وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم. وأيّا ما كان، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض، وهم المخاطبون بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 22]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسوله أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي بالتغاور والتناهب وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق، بعد ما جمعكم الله بالإسلام، وألف به بين قلوبكم، وأمركم بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام. وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال، وبذل الأموال. وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 23]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ أي عن استماع الحق لتصامّهم عنه بسوء اختيارهم وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أي لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 24]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)(8/475)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ قال ابن جرير: أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه السلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها أي فلا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر. وتنكير (القلوب) للإشعار بفرط جهالتها ونكرها، كأنها مبهمة منكورة. و (الأقفال) مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة، إذ لا يمكن فتحها أبدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي عادوا لما كانوا عليه من الكفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي الحق بواضح الحجة.
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه وَأَمْلى لَهُمْ أي ومدّ لهم في الآمال والأمانيّ، أو أمهلهم الله تعالى، فمد في آجالهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة. والمعنى: الشيطان سول لهم، والله أملى لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 26]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم، بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قالُوا أي المنافقون لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي بعض أموركم، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والتظاهر على الرسول، أو الخروج معهم إن أخرجوا، كما أوضح ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] ، وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي: إخفاءهم لما يقولونه لليهود.(8/476)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 27 الى 28]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
فَكَيْفَ أي: يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ أي: التي ولوها عن الله إلى أعدائه وَأَدْبارَهُمْ أي التي ولوها عن الأعداء إلى الله.
ذلِكَ أي التوفي الهائل بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ أي من إطاعة أعدائه، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ أي في معاداتهم، فأدى بهم إلى الردة فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب، ومن الفضائح الدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 29]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ أي يظهر اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي أحقادهم لرسوله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورة. والمعنى: أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 30 الى 31]
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لعرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم التي نسمهم بها وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي أسلوبه وما يرومون من غير إيضاح به.
قال في (الإكليل) : استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجبا للحد.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أي فيجازيكم بحسب قصدكم.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ أي أهل المجاهدة في سبيل الله، والصبر على المشاق وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي أفانين أقوالكم، وضروب(8/477)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
بياناتكم، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق والصدع به والدأب عليه، هل هو متمحض لذلك، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم.
قال القاشانيّ: علم الله تعالى قسمان: سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء، وتفصيلا في لوح القدر، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية، والنفوس السماوية الجزئية. فمعنى حَتَّى نَعْلَمَ حتى يظهر علمنا التفصيليّ في المظاهر الملكوتية والإنسية، التي يثبت بها الجزاء- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 32]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي فتذهب سدى، لا تثمر لهم نفعا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أي لكن يعذبهم ويعاقبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 35]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
فَلا تَهِنُوا أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم، وصدوا عن سبيل الله، وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي الصلح والمسالمة وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي الأغلبون، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه، ما تيسرت أسبابه، وقهرت أربابه وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي بنصره ما تمسكتم بحبله وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم ثوابها ويضيعها.(8/478)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 36]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي ثواب إيمانكم وتقواكم وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي لأنه غنيّ عنكم، وإنما يريد منكم التوحيد، ونبذ الأوثان، والطاعة لما أمر به ونهى عنه.
قال بعض المفسرين: أي لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير، كربع العشر وعشره. إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء. والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم. ولا يخفى حسن مقابلته لقوله يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال- هذا ما قاله الشهاب-.
والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده، وأن طلب إنفاق الأموال منهم، لعود نفعه إليهم لا إليه، لاستغنائه المطلق، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد، وكله مما يعود ثمرته عليهم.
ثم أشار تعالى إلى حكمته ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 37]
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا أي فيجهدكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، تبخلوا بها وتمنعوها، ضنّا منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم، ومن ضيق أنفسكم، فلم يسألكموها.
قال الزمخشريّ: الإحفاء المبالغة، وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال (أحفاه في المسألة) إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، و (أحفى شاربه) إذا استأصله.
وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي أحقادكم، وكراهتكم لدين يذهب بأموالكم. وضمير (يخرج) لله تعالى، ويعضده القراءة بنون العظمة. أو للبخل لأنه سبب الأضغان.(8/479)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
وقرئ (يخرج) من الخروج، بالياء والتاء، مسندا إلى الأضغان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة محمد (47) : آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في جهاد أعدائه، ونصرة دينه فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي بالنفقة فيه. وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي يمسكه عنها، لأنه يحرمها الأجر، ويكسبها الوزر وَاللَّهُ الْغَنِيُّ أي: عن كل ما سواه، وكلّ شيء فقير إليه. ولهذا قال سبحانه وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ أي بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، لا ينفكون عنه، أي وإذا كان كذلك، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك، الجزيل من ثوابه.
وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير، وفائدة وقربة ومثوبة. وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر، وجزئيّه الأهم، وقت نزول الآيات، وإلا فلا ينحصر فيه.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أي عما جاءكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم، بدلا منكم، يؤمنون به، ويعملون بشرائعه.
ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ أي لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله، على ما يؤمرون به.(8/480)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفتح
سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز. وكل هذه أمور جليلة- إفادة المهايميّ-.
وآيها تسع وعشرون، وهي مدنية. نزلت مرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية سنة ست من الهجرة، عدة له بالفتح. قال أنس: لما رجعنا من الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فنزلت. واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد (بضجنان) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة. وعند الحاكم في- الإكليل- بكراع الغميم. وعن أبي معشر (بالجحفة) .
قال الحافظ ابن حجر: والأماكن الثلاثة متقاربة.
وروى البخاريّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال- وهو في بعض أسفاره- لعمر: لقد أنزلت عليّ الليلة سورة، لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة سورة الفتح، فرجّع فيها
.(8/481)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال الرازيّ: في الفتح وجوه:
أحدها- فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها- فتح الروم وغيرها.
وثالثها- المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها- فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها- المراد منه الحكم، كقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] ، وقوله ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سبأ: 26] . انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الربانيّ، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكرّه من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر صلّى الله عليه وسلّم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم(8/482)
الحديبية. روى البخاريّ «1» عن البراء رضي الله عنه قال: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية) .
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض» ، ثم قرأها عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- أخرجاه في الصحيحين «2» من رواية قتادة به-.
وروى الإمام أحمد «3» عن مجمّع بن جارية الأنصاريّ رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال ابن كثير: فالمراد بقوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً- أي بينا ظاهرا- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله:
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلّم بعضهم بعضا، وناظره في الإسلام، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. ولهذا سماه الله فتحا في قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً نزلت في الحديبية، فقال عمر:
يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها،
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1686.
(2) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث 97.
(3) أخرجه في المسند 3/ 420.(8/483)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب، قصة زكريا، وخلق الولد له، مع كونه كبيرا، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 2]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال أبو السعود: غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاقّ الحروف، واقتحام موارد الخطوب. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي جميع ما فرط منك، من ترك الأولى. وتسميته ذنبا، بالنظر إلى منصبه الجليل.
قال ابن كثير: هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. وهو صلّى الله عليه وسلّم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: حبسها حابس الفيل. ثم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها، فلما أطاع الله في ذلك، وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... الآيات» .
وقوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك.
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ويرشدك طريقا من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود: أصل الاستقامة، وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلا قبل.(8/484)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 3]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي قويّا منيعا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، والظفر الذي يمدك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي السكون والطمأنينة إلى الإيمان والحق. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا منضما إلى يقينهم.
قال القاشاني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن. وهو من مبادئ عين اليقين، بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقينيّ معه لذة وسرور.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي في تقديره وتدبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 5]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5)
واللام في قوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها متعلق بمحذوف، نحو: أمر بالجهاد ليدخل ... إلخ. أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك، أو متعلق ب فَتَحْنا على تعلق الأول به مطلقا، وهذا مقيدا، أو بقوله لِيَزْدادُوا. وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 6]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6)(8/485)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظن الأمر السوء، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع، كالقتل والإهانة والإذلال. وقرئ دائِرَةُ السَّوْءِ بالضم، وهما لغتان من (ساء) كالكره والكره. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بالقهر والحجب. وَلَعَنَهُمْ أي بالطرد والإبعاد في الآخرة. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 7]
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً قيل في سر التكرير: إنه ذكر سابقا على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ذيله بقوله عَلِيماً حَكِيماً، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم، فلذا ذيله بقوله عَزِيزاً حَكِيماً فلا تكرار. وقيل: إن الجنود جنود رحمة، وجنود عذاب، وأن المراد هنا الثاني، ولذا تعرّض لوصف العزة. وقال القاشاني: كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين، بعكس ما فعل بالمؤمنين. وبدّل عَلِيماً بقوله عَزِيزاً ليفيد معنى القهر والقمع، لأن العلم من باب اللطف، والعزة من باب القهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 8]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه وَمُبَشِّراً أي لمن استجاب لك بالجنة وَنَذِيراً أي لمن خالفك بالنار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 9]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ أي تؤيدوا دينه وتقرّوه وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظّموه وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي غدوة وعشيا- على ظاهره- أو دائما، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع، كما يقال (شرقا وغربا) لجميع الدنيا. والضمائر كلها- على ما ذكرنا- لله، وجوّز إعادة الأولين للرسول، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكا.(8/486)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ أي على قتال قريش تحت الشجرة، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ، ولا يولوهم الأدبار. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي لأن عقد الميثاق مع رسول الله، كعقده مع الله، من غير تفاوت، لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ونواهيه. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ تأكيد لما قبله. أي أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. وقال القاشاني: أي قدرته البارزة في يد الرسول، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم، فيضرهم عند النكث، وينفعهم عند الوفاء.
فَمَنْ نَكَثَ أي نقض عهده فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي لعود ضرر ذلك عليه خاصة. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وهو الجنة.
تنبيه:
هذه البيعة هي بيعة الرضوان. وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ألفا وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل:
خمسمائة. والأول أصح- على ما قاله ابن كثير- وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها، لزم إيرادها مفصلة.
قال ابن إسحاق: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.
وقال الإمام ابن القيّم: قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة. وكان معه ألف وخمسمائة. هكذا في الصحيحين «1» عن جابر.
وفيهما «2» عن عبد الله بن
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1685.
(2) أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1894.(8/487)
أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة. وعن جابر فيهما «1» : كانوا ألفا وأربعمائة- والقلب إلى هذا أميل- وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع. ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريبا من عسفان، أتاه عينه فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وقال: أترون أن نميل إلى ذراريّ هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد. ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فروحوا إذن. فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين، فو الله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بعترة الجيش. فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم، بركت راحلته. فقال الناس: حل حل، فألحّت: فقالوا: خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها. ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه. قال، فو الله! ما زال يجيش لهم بالريّ، حتى صدروا عنه. وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمّارا، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم، ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجلّ مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان. فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمّارا. فقالوا:
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1685.(8/488)
قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه. فحمل عثمان على الفرس وأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة. وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون! فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله، وقد خلص قال: ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معا. واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قد قتل. فدعا إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان. ولما تمت البيعة رجع عثمان. فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي! والذي نفسي بيده! لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت! فقال المسلمون: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم، إلا الحرّ بن قيس، وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان أول من بايعه أبو سنان الأسديّ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نجئ لقتال أحد. ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم: فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا. وإن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم:
لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا. فقال عروة بن مسعود الثقفيّ: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوا من(8/489)
قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن أخرى، فو الله إني لأرى وجوها، وأرى أوشابا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك! فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك! وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكلما كلمه أخذ بلحيته. والمغيرة بن شعبة على رأس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر! أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية. فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فو الله! ما تنخم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! لقد وفدت على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا. والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا فلان، وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها له، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلّدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.
فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر فجعل يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينا هو يكلّمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن، فو الله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اكتب: باسمك اللهم. ثم(8/490)
قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: فو الله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني رسول الله وإن كذبتموني! اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله! لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما؟! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: فو الله! إذن لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فأجره لي قال: ما أنا بمجيره لك، قال: بلى، فافعل. قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما لقيت- وكان قد عذب عذابا شديدا في الله- قال عمر ابن الخطاب: والله! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ألست نبيّ الله؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق، وعدوّنا على الباطل؟
قال: بلى! فقلت: على م نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى! أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا! قال: فإنك آتيه، وتطوف به! قال فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّ عليه أبو بكر كما ردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت فو الله! إنه لعلى الحق. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قوموا وانحروا ثم احلقوا. فو الله! ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا. ثم جاءت نسوة مؤمنات.، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: 10] ، حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية.(8/491)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
ثم رجع إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... الآيات. فقال لعمر: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم! فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! فما لنا! فأنزلنا الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.... [الفتح: 4] ، الآية. ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير- رجل من قريش- مسلما، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفرّ الآخر يعدو، حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: قتل، والله! صاحبي، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال: يا نبيّ الله! قد أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويل أمّه! مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرحم لمّا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأنزل الله عز وجلّ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح: 24] الآية
. وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك، حتى إذا كان العام المقبل، قدمها، وخلّوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابكم لم نردّه عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا: يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال: من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم، جعل الله له فرجا ومخرجا.
هذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في (زاد المعاد) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)(8/492)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا قال مجاهد: هم أعراب المدينة، كجهينة ومزينة، استتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخروجه إلى مكة، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا، والخوف على أهلنا من الضيعة، فاستغفر لنا ربنا.
وقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله، والنفاق.
وكذا طلبهم للاستغفار أيضا، ليس بصادر عن حقيقة، لأنه بغير توبة منهم. ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به، ما لم يكن مترجما عن الاعتقاد الحق.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي لا أحد يمنعه تعالى من ذلك، لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم، ولذا هددهم بقوله سبحانه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي فيجازيكم عليه.
لطيفة:
قال الناصر: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل- والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا. لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا، كقوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: 41] ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ [الأحقاف: 8] . ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الحديث «1» : إني لا أملك لكم شيئا-
يخاطب عشيرته- وأمثاله كثيرة. وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان المنفعة، فإنه ضرر عائد عليه، لا له. فإذا ظهر ذلك، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 350. [.....](8/493)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة. وخص عبارة دفع الضر، لأنه هو المتوقع لهؤلاء، إذ الآية في سياق التهديد، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17] ، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : الآيات 12 الى 13]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أي اعتقدتم أنه لن يرجع الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً أي بل تستأصلهم قريش. وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي حسّن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وهو عدم نصر الرسول، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا. وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين، مستوجبين لسخط الله، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً أي: من النار تسعتر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 14]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن جرير: هذا من الله جل ثناؤه حثّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. يقول لهم:
بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله يغفر للتائبين، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.(8/494)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي بعذر الاشتغال بأموالهم وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم إِذَا انْطَلَقْتُمْ أي قصدتم السير إِلى مَغانِمَ أي أماكنها. قال ابن جرير: وذلك ما كان وعد الله أهل الحديبية من غنائم خيبر ذَرُونا أي اتركونا في الانطلاق إليها نَتَّبِعْكُمْ أي نشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أي بعد ظهور كذبهم في الاعتذار، وطلب الاستغفار أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ
قال ابن جرير: أي وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنها على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة. وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] ، والأكثرون على الأول. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها وغنم أموالا كثيرة، فخصها بهم.
قال الشراح: وكان ذلك بوحي. ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة أيضا. وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ...
[التوبة: 83] الآية. فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية، وقد نزل بعدها بكثير؟ - والله أعلم-.
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا أي إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم. وهو نفي في معنى النهي.
قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي، وهو أبلغ.
كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ قال ابن جرير: أي من قبل مرجعنا إليكم. إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. قال الشهاب: وهو(8/495)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
إضراب عن كونه بحكم الله. أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا.
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ أي عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين إِلَّا قَلِيلًا أي فهما قليلا، وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 16]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ أي عن المسير معك سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي يفوق قتال من أقاتلهم، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه، بل تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال. وقرئ شاذا أو يسلموا بمعنى إلا أن يسلموا، أو حتى يسلموا. فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي عن الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أي لتضاعف جرمكم.
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار، وإن حدثت بعد التخلف الأول، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال المهايمي: وإن أمكنة القتال بإحساس صوت مشي العدوّ، ومشي فرسه، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه. وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ أي وإن أمكنه القتال قاعدا، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ، ولا يقوى قوة القائم وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام، فلا قوة له في دفع العدوّ، فضلا عن الغلبة عليه.
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء، وإن فاتهم الجهاد، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله، بقوله سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ(8/496)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
وَمَنْ يَتَوَلَ
أي عن إطاعتهما، وإن كان أعمى أو أعرج أو مريضا يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أي بالمذلة دنيا، والنار أخرى.
تنبيه:
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم (أولو بأس شديد) - على أقوال:
أحدها- أنهم هوازن.
الثاني- ثقيف، وكلاهما غزاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
الثالث- بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه.
الرابع- أهل فارس والروم، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه.
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة. ولو عدّ من الأوجه كفار مكة، لم يبعد، بل عندي هو الأقرب، لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، منصرفه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قتال قريش أو يسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعا أو كرها- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 18]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر، تحت شجرة هناك.
وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد. ففي الصحيحين «1» من حديث أبي عوانة عن طارق، عن سعيد بن المسيّب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجّين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم، فأنتم أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 35- باب غزوة الحديبية، حديث 1898.(8/497)
وفيهما أيضا عن سفيان قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال: كان جدي يقال له (حزن) ، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعمّيت علينا.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول:
ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف، فذهبت الشجرة، وكانت سمرة، إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلّون عندها، فتوعّدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت!.
ولا ينافي ما تقدم، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها، أو توهّموها، فاتخذوها مسجدا، ومكانا مقدسا، فقطعها عمر حالتئذ، صونا لعقيدتهم من الشرك، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها، وإجلال مثال أصحابها.
وقال في (الفتح) أيضا في شرح حديث ابن عمر، وقوله: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، ما مثاله:
وقد وافق المسيّب بن حزن، والد سعيد، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة.
والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجّهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله (كانت رحمة من الله) أي كان خفاؤها عليهم، بعد ذلك، رحمة من الله تعالى. انتهى.
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، سميت لهذه الآية، وتقدمت قصتها مفصلة.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي في الصبر والطمأنينة والوقار. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال ابن جرير: أي وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة، بقتالهم أهلها، فَتْحاً قَرِيباً، وذلك- فيما قيل- فتح خيبر.(8/498)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 19]
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل بيعة الرضوان خاصة. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي ذا عزة في انتقامه من أعدائه، وحكمة في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 20]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت، إلى قيام الساعة. وقيل: المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول، كما قاله ابن جرير، لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية إليها، من فتح خيبر وغنائمها. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي أيدي أهل خيبر، فانتصرتم عليهم، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول.
قال: لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الآية. أي والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لا سيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها- والله أعلم-.
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم، والفتح لهم. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 21]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها معطوف على هذِهِ أي فعجّل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، لأنه قال: لَمْ(8/499)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
تَقْدِرُوا عَلَيْها
وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن: هي فارس والروم.
قال القرطبيّ: وكونها معجلة، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.
وعن قتادة: هي مكة. قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله قتادة، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها. ومعقول أنه لا يقال لقوم، لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يروموها فتتعذر عليهم، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه، خيبر لحرب، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية، علم أن المعنى بقوله وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت، فكانت مكة وأهلها كذلك. وأخبر الله تعالى نبيّه والمؤمنين، أنه أحاط بها وبأهلها. وأنه فاتحها عليهم. انتهى.
وقال القرطبي: معنى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت. فأنتم، وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: أَحاطَ اللَّهُ بِها علم أنها ستكون لكم، كما قال وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً. وقيل: حفظها الله عليكم، ليكون فتحها لكم. انتهى.
وقد جوّز في أُخْرى أن تكون معطوفة على مَغانِمَ المنصوب ب وَعَدَكُمُ وأن تكون مرفوعة بالابتداء ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صفتها وقَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها خبر. وأوجه أخر.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي: لا يبعد عليه إذا شاءه.
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر والنصر المستمر، لصدق إيمانهم إخلاصهم في ثباتهم، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 23]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
وَلَوْ قاتَلَكُمُ أي بعد هذا الفتح والنصر المعجل الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ(8/500)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
أي ولوكم أعجازهم في الحرب، فعل المنهزم من قرنه في الحرب. ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي من يواليهم على حربكم، وينصرهم عليكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها.
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا.
قال ابن جرير: بل ذلك دائم. للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 24]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة. إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف، ما كان يوم الفتح. ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا من أصحابه أخذا، فأخذوا أخذا. فأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الآية.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: أقبل معتمرا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم. فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فذلك الإظفار ببطن مكة.
قال قتادة: بطن مكة، الحديبية.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي فيجازيكم عليه.(8/501)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 25]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي هؤلاء المشركون من قريش، هم الذي جحدوا توحيد الله وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي أيضا، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم مَعْكُوفاً أي محبوسا. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية (عكف) بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهريّ وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ قال ابن جرير: أي محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ أي موجودون بمكة مع الكفار لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. أَنْ تَطَؤُهُمْ أي تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: أَنْ تَطَؤُهُمْ يجوز أن يكون بدلا من (رجال ونساء) غلب الذكور، وأن يكون بدلا من مفعول تَعْلَمُوهُمْ. فالتقدير على الأول (ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين) . وتقدير الثاني (لم تعلموا وطأهم) والخبر محذوف تقديره (ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة) .
انتهى.
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي إثم وغرامة. من (عرّه) إذا عراه ما يكرهه. وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من الضمير المرفوع في تَطَؤُهُمْ أي تطئوهم غير عالمين بهم.
وفي جواب لَوْلا أقوال:
أحدها- أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم(8/502)
مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني- أنه مذكور، وهو لَعَذَّبْنَا وجواب (لو) هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث- أن قوله لَعَذَّبْنَا جوابهما معا، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشريّ قريبا من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرير ل لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون لَعَذَّبْنَا هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني- أفاده السمين-.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا، وإن كانت (لولا) تدل على امتناع لوجود، و (لو) تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر، لأن (لولا) هاهنا دخل على وجود، و (لو) دخلت على قوله تَزَيَّلُوا وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال:
وكان جدّي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى ردّ الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق (المعرة) بالدية، ذهابا إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك.
وهو مذهب الشافعيّ. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير حيث قال: (المعرة) هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب- إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه- الكفارة دون الدية فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوز أن يكون مَنْ يَشاءُ عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي ليدخل الله في(8/503)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي بالقتل أو الأسر أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهرّاسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيها أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ قال ابن جرير: وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وأن يكتب فيه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامه ذلك. والعامل في الظرف إما (لعذبنا) أو (صدوكم) أو (اذكر) مقدرا، فيكون مفعولا به. و (الحمية) الأنفة، وهي الاستكبار والاستنكاف، مصدر من (حمى من كذا) حمية.
وقوله تعالى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على منويّ.
أي: فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك، ويقاتلوا عليه، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. يعني: الوقار والتثبت، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم.
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها.(8/504)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
وَكانُوا أَحَقَّ بِها قال أبو السعود: أي متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا. وقيل: أحق بها من الكفار. وَأَهْلَها أي المستأهل لها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. قال أبو السعود: أي فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ.
قال ابن جرير: أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصرا بعضهم رأسه، ومحلقا بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلّى الله عليه وسلّم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ ...
الآية، إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. والرُّؤْيا منصوب بنزع الخافض، أي صدقه في رؤياه. أي حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرمانيّ، وعبارته: (كذب) يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا (صدق) كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله بِالْحَقِّ حال من الرؤيا. أي متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله لَتَدْخُلُنَّ جواب قسم محذوف. أي: والله! لتدخلن.
وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد. أو للإشعار بأن(8/505)
بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه.
وقوله مُحَلِّقِينَ حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: ملحقا بعضكم، ومقصرا آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح «1» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: رحم الله المحلقين! قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين؟ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين!
وقوله تعالى لا تَخافُونَ حال مؤكدة لقوله آمِنِينَ أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه. بعضها عنوة، وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعريّ وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة معتمرا، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريبا من مرّ الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسيّ والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 318.(8/506)
عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلّى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، القسيّ والرماح! فقال صلّى الله عليه وسلّم: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟ فقال: بهذا عرفناك، بالبرّ والوفاء
. وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى أصحابه رضي الله عنه، غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاريّ آخذ بزمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينه ... باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... قد أنزل الرّحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله ... بأن خير القتل في سبيله
يا رب! إني مؤمن بقيله
وروى الإمام أحمد «1» من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلّى الله عليه وسلّم: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلّى الله عليه وسلّم بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة، فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنّة.
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك في حجة الوداع.
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 305، والحديث رقم 2783.(8/507)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
وروى أحمد «1» من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمّى يثرب، ولقوا منها سوءا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ليرى المشركون جلدهم. قال، فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين، حيث لا يراهم المشركون.
وفي رواية: ولم يمنع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب، فليراجعها من أحب الزيادة.
وقوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أي من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها، عامكم ذلك.
قال ابن جرير: وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك. وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَتْحاً قَرِيباً يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين مشركي قريش، أو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. وإلى الأول ذهب الزهريّ، قال: يعني صلح الحديبية. وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام، يعقل شيئا، إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. ووافقه مجاهد وإلى الثاني ذهب ابن زيد.
قال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي البيان الواضح وَدِينِ الْحَقِّ أي الإسلام.
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 395، والحديث رقم 2686(8/508)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
وقال المهايميّ: بِالْهُدى أي الدلائل القطعية وَدِينِ الْحَقِّ أي الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة.
وقال ابن كثير: أي بالعلم النافع، والعمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل. فالعلم الشرعيّ صحيح، والعمل الشرعيّ مقبول، فإخباراتها حق، وإنشاءاتها عدل. لِيُظْهِرَهُ أي ليعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قال ابن جرير: أي ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه. وذلك حين ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. انتهى.
وقال ابن تيمية: قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين، كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله، كما زال ملك اليهود، وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها. انتهى.
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح أو المغانم كائن. قال الحسن: شهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله.
قال ابن جرير: وهذا إعلام من الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسلّيهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن، بانصرافهم عن مكة قبل دخولها، وقبل طوافهم بالبيت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي أصحابه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم، الصادّين عن سبيل الله، وعندهم(8/509)
تراحم فيها بينهم، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] .
لطائف:
الأولى- جوز في مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أن يكونا مبتدأ وخبرا، وأن يكون رَسُولُ اللَّهِ صفة، أو عطف بيان، أو بدلا، وَالَّذِينَ مَعَهُ عطف عليه. وخبرهما أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ.
الثانية- قال الشهاب: قوله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تكميل، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد. فلما قيل رُحَماءُ بَيْنَهُمْ اندفع ذلك التوهم، فهو تكميل واحتراس، كما في الآية المتقدمة، فإنه لما قيل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، وأنهم موصوفون بالذل دائما، وعند كل أحد، فدفع بقوله أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فهو كقوله:
حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... على أنه عند العدوّ مهيب
الثالثة- قال المهايميّ: تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية، إذ هم أشداء على الكفار، لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده، رحماء بينهم، لعدم ميلهم إلى الشهوات. هذا باعتبار الأخلاق، وأما باعتبار الأعمال، فأنت تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال. ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم! وهو أكبر من الأولى، كما قال جل وعلا وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] انتهى.
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مبتدأ وخبر، أي علامتهم كائنة فيها. وقوله تعالى مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ بيان للسيما، كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود. أو حال من المستكنّ في (وجوههم) .
قال الشهاب: وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره: هي من أثر السجود.
انتهى.(8/510)
وهل الوجوه مجاز عن الذوات، أو حقيقة؟ في معناها تأويلان للسلف، فعن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد، يعني الخشوع والتواضع. وقال منصور لمجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال مجاهد، ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال بعض السلف:
من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار. وقد رفعه ابن ماجة. والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة لنورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وروى الطبرانيّ مرفوعا: ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر- وإسناده واه، لأن فيه العرزميّ وهو متروك-.
وروى الإمام أحمد «1» عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان.
وأخرج أيضا «2» عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الهدى الصالح، والسمت الصالح والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة. ورواه أبو داود أيضا.
والتأويل الثاني في الآية، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الطهور. روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة. وقد كان ذلك في العهد النبويّ، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه.
وكل من المعنيين من (سيماهم) رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى ذلِكَ أي الوصف مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أي صفتهم العجيبة فيها وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه أو سنبله أو نباته فَآزَرَهُ أي قوّاه فَاسْتَغْلَظَ أي فغلظ الزرع واشتد. فالسين للمبالغة في الغلظ، أو صار من الدقة إلى الغلظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي استقام على قصبه. و (والسوق) جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه، وحسن نباته، وبلوغه وانتهائه، الذين زرعوه. وقوله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 28.
(2) أخرجه في المسند 1/ 296، والحديث رقم 2698.(8/511)
تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم، كأنه قيل: إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار.
لطائف:
الأولى: يجوز في قوله تعالى وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ وجهان:
أحدهما- أنه مبتدأ، وخبره كَزَرْعٍ فيوقف على قوله فِي التَّوْراةِ فهما مثلان، وإليه ذهب ابن عباس.
والثاني- أنه معطوف على مَثَلُهُمْ الأول، فيكون مثلا واحدا في الكتابين، ويوقف حينئذ على فِي الْإِنْجِيلِ، وإليه نحا مجاهد والفرّاء، ويكون قوله كَزَرْعٍ في هذا فيه أوجه:
أحدهما- أنه خبر مبتدأ مضمر. أي مثلهم كزرع، فسر به المثل المذكور في الإنجيل.
الثاني- أنه حال من الضمير في مَثَلُهُمْ أي مماثلين زرعا هذه صفته.
الثالث- أنه نعت مصدر محذوف، أي تمثيلا كزرع- ذكره أبو البقاء-.
قال الزمخشريّ: ويجوز أن يكون ذلِكَ إشارة مبهمة أوضحت بقوله كَزَرْعٍ كقوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ [الحجر: 66] ، - أفاده السمين-.
الثانية- قال السمين: الضمير المستتر في فَآزَرَهُ للزرع، والبارز للشطء.
وعكس النسفيّ، فجعل المستتر للشطء، والبارز للزرع. أي فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه. قال الجمل: وما صنعه النسفي أنسب، فإن العادة أن الأصل يتقوّى بفروعه، فهي تعينه وتقوّيه.
الثالثة- قال السمين: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ حال. أي حال كونه معجبا، وهنا تمّ المثل.
الرابعة- قال الزمخشريّ: هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقّيه في الزيادة، إلى أن قوي واستحكم، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام وحده، ثم قوّاه الله بمن آمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.(8/512)
وهذا ما قاله البغويّ من أن (الزرع) محمد، و (الشطء) أصحابه والمؤمنون، فجعلا التمثيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته.
وأما القاضي فجعله مثالا للصحابة فقط. وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، قلّوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقّى أمرهم، بحيث أعجب الناس.
قال الشهاب: ولكل وجهة.
الخامسة- قال ابن كثير: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم. قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة، فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك- انتهى كلام ابن كثير-.
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النوويّ في شرح (مقدمة مسلم) ، وقبله الإمام الغزاليّ في كتابه (فيصل التفرقة) . وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة. وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك، كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ. على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان، مأجور غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل (جمع الجوامع) .
نعم، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين. وإذا اشتد البياض صار برصا.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا الله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً أي عفوا عما مضى من ذنوبهم، وسيء أعمالهم بحسنها. وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا جزيلا، وهو الجنة.(8/513)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحجرات
قال المهايميّ: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مدنية، وآيها ثمان عشرة.
وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، من التوقير والتبجيل.(8/514)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن جرير: أي يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، ونبوّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله، وأمر رسوله.
محكيّ عن العرب: فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه.
انتهى.
وتُقَدِّمُوا إما متعد حذف مفعوله، لأنه أريد به العموم، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع. أو هو لازم، فإن (قدم) يرد بمعنى (تقدم) كبيّن، فإنه متعد، ويكون لازما بمعنى تبيّن.
وفي هذه الجملة تجوّزان:
أحدهما- في (بين اليدين) ، فإن حقيقته ما بين العضوين، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما. فهو من المجاز المرسل، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء، ومتابعة لمن يلزم متابعته، تصويرا لهجنته وشناعته، بصورة المحسوس، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فنقلت العبارة الأولى، بما فيها من المجاز، إلى ما ذكر، على ما عرف في أمثاله- هذا محصل ما في (الكشاف) و (شروحه) .
قال ابن كثير: معنى الآية: لا تسرعوا في الأشياء قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب
حديث معاذ رضي الله عنه. قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال صلّى الله عليه وسلّم: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال صلّى الله عليه وسلّم: فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه: أجتهد(8/515)
رأيي! فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وقد رواه أحمد «1» وأبو داود «2» والترمذيّ «3» وابن ماجة.
والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. انتهى.
وقد جوز أن يكون المراد (بين يدي رسول الله) وذكر (الله) لبيان قوة اختصاصه به تعالى، ومنزلته منه، تمهيدا وتوطئة لما بعده. وقد أيد هذا، بأن مساق الكلام لإجلاله صلّى الله عليه وسلّم.
تنبيه:
قال ابن جرير: بضم التاء من قوله لا تُقَدِّمُوا قرأ قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها. وقد حكى عن العرب: قدّمت في كذا وتقدمت في كذا. فعلى هذه اللغة لو كان قيل (لا تقدموا) بفتح التاء، كان جائزا. انتهى. وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في التقديم أو مخالفة الحكم. والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم، بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق العار بك. فتنهاه أولا عن عين ما قارفه، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه، لم يرتكب تلك الغفلة، وكل ما يضرب في طريقها، ويتعلق بسببها- أشار له الزمخشريّ-.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي فحقيق أن يتّقى ويراقب.
تنبيه:
في (الإكليل) : قال إلكيا الهراسيّ: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي، دونه.
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء. وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم. ويحتج به في تقديم النص على القياس. انتهى.
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 230.
(2) أخرجه في: الأقضية، 11- باب اجتهاد الرأي في القضاء حديث رقم 3592.
(3) أخرجه في: الأحكام، 3- باب حدثنا هناد، حديث رقم 1327.(8/516)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي: إذا نطق ونطقتم، فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحدّ الذي يبلغه صوته، ليكون عاليا لكلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين، القريب من الهمس، الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه، أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد! يا محمد! بل يا نبيّ الله! يا رسول الله! ونظر فيه شراح (الكشاف) بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه، إذ الظاهر أن يقال: لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض، كما مر في قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] . انتهى.
ولك أن تقول: إنما أفرغ هذا المعنى المرويّ عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جريا على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل، وألطفها في ذلك، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي مخافة أن تحبط أعمالكم، برفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها.
تنبيه:
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها. ولما كان عند أهل السنة، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعا.
وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق. ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبيّ عليه الصلاة والسلام. والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق.(8/517)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبيّ عليه الصلاة والسلام، سواء وجد هذا المعنى أو لا، حماية للذريعة، وحسما للمادة. ثم لما كان هذا المنهيّ عنه- وهو رفع الصوت- منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه. وإن كان، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان.
وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة، لم يكن لقوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع. إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا، فيكون كفرا محبطا قطعا، وبين أن يكون غير مؤذ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعا. فعلى كلا حاليه، الإحباط به محقق، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور، مع أن الشعور ثابت مطلقا- والله أعلم-.
ثم قال: وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين، كلتاهما صحيحة:
إحداهما- أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه. فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
المقدمة الأخرى- أن إيذاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفر. وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا- يعني المالكية- وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق. انتهى.
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل، وامتنع القياس عليه، لأنه مقام توعد وخسران، ولا مجال للرأي في مثل ذلك. هذا ما أعتقده وأراه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 3]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ أي يبالغون في خفضها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال ابن جرير: أي اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني(8/518)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب جزيل، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 4]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ أي يدعونك مِنْ وَراءِ أي خارج الْحُجُراتِ أي عند كونك فيها، استعجالا لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ لا يفعله محتشم، ولا يفعل لمحتشم، فلا يراعون حرمة أنفسهم، ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال، موافقة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 5]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه. وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة، مع اتصافهم بالصبر، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب من معصية الله، بندائك كذلك، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميميّ، فيما أورده غير واحد.
روى الإمام أحمد «1» عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد! يا محمد! (وفي رواية: يا رسول الله!) فلم يجبه. فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمّي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل.
وروى ابن إسحاق، في ذكر سنة تسع، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما افتتح مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت، ضربت إليه وفود
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 488.(8/519)
العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صياحهم، فخرج إليهم. ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولا ثم قال: وفيهم نزل من القرآن إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
الثاني- الْحُجُراتِ بضمتين، وبفتح الجيم، وبسكونها. وقرئ بهنّ جميعا: جمع (حجرة) . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
قال الزمخشريّ: والمراد حجرات نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات، متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة، فنادوه من ورائها. وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها. ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولمكان حرمته. والفعل- وإن كان مسندا إلى جميعهم- فإنه يجوز أن يتولّاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا.
الثالث- قال الزمخشريّ: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإجلاله.
منها- مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به، بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه.
ومنها- لفظ الْحُجُراتِ وإيقاعها، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها- المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها- التعريف باللام دون الإضافة.
ومنها- أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا ... من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط للثاني، ووطاء لذكره. ثم(8/520)
ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع- قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلّى الله عليه وسلّم، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيّا، وفي قبره صلّى الله عليه وسلّم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال:
لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. انتهى.
الخامس- روى البخاريّ «1» عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمّر الأقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ...
الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاريّ دون مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 49- سورة الحجرات، 2- باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ، حديث 1942.(8/521)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة لا تُقَدِّمُوا ولكن لما اتصل بها قوله لا تَرْفَعُوا تمسك عمر منها بخفض صوته. وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذين يختص بهم، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ. انتهى.
وتقدم لنا مرارا الجواب عن أمثاله، بأن قولهم: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، لا أنه سبب لنزولها.
قال الإمام ابن تيمية: قولهم نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب. كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى.
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول، فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله. ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاريّ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب. وبعضها لآخر، في قصة واحدة. وبالله التوفيق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أي قوما براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما
رواه الإمام أحمد «1» في مسنده من رواية مالك
__________
(1) أخرجه في المسند 4/ 279.(8/522)
عن ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعيّ رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت:
يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إليّ يا رسول الله رسولا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟! قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... إلى قوله: حَكِيمٌ.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك (زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام) فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى(8/523)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «التثبّت من الله، والعجلة من الشيطان»
. وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل، وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد بن عقبة- والله أعلم- انتهى.
قال ابن قتيبة في (المعارف) : الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية ابن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أروى بنت كريز. أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقا إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبا.
فأنزل الله هذه الآية. وولّاه عمر على صدقات بني تغلب، وولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدّه. ولم يزل بالمدينة حتى بويع عليّ، فخرج إلى الرقّة فنزلها، واعتزل عليّا ومعاوية. ومات بناحية الرّقة.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية ردّ خبر الفاسق، واشتراط العدالة في المخبر، راويا كان، أو شاهدا، أو مفتيا. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل. قال ابن كثير: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبّت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.
الثالث- في قوله تعالى فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فائدتان:
إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول:
هب أني أصبت قوما، فماذا عليّ؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية- مدح المؤمنين. أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها- أفاده الرازيّ-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 7]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيّ(8/524)
الله صلّى الله عليه وسلّم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ قال الطبريّ: أي لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له، فيطيعكم، لنالكم عنت- يعني الشدة والمشقة- في كثير من الأمور، بطاعته إياكم، لو أطاعكم، لأنه كان يخطئ في أفعاله، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت.
والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد.
تنبيه:
(أنّ) بما في حيزها سادة مسدّ مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال، وهو قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ.. إلخ، فإنه حال من الضمير المجرور في فِيكُمْ المستتر فيه. والمعنى: أنه فيكم كائنا على حالة يجب تغييرها، أو كائنين على حالة كذلك، وهي أنكم تودّون أن يتبعكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك. وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقع في بني المصطلق، وأنه لم يطع رأيهم هذا. ويجوز أن يكون لَوْ يُطِيعُكُمْ مستأنفا. إلا أن الزمخشريّ منع هذا الاحتمال، قال: لأدائه إلى تنافر النظم، لأنه لو اعتبر لَوْ يُطِيعُكُمْ ... إلخ كلاما برأسه، لم يأخذ الكلام بحجز بعض، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إذا قطع عما بعده. وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرّطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا آراءهم، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، فوضح جواز الاستئناف، والوقف على رَسُولَ اللَّهِ.
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أي فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتمّوا به، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ أي بالله وَالْفُسُوقَ يعني الكذب وَالْعِصْيانَ أي مخالفة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتضييع ما أمر الله به.(8/525)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
أُولئِكَ أي الموصوفون بمحبة الإيمان، وتزينه في قلوبهم، كراهتهم المعاصي هُمُ الرَّاشِدُونَ أي السالكون طريق الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 8]
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي إحسانا منه، ونعمة أنعمها عليكم. قال القاشانيّ:
كان فضلا بعنايته بهم في الأزل، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد. ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية. وهو تعليل ل (حبّب) و (كرّه) وما بينهما اعتراض، أو نصب بفعل مضمر، أي جرى ذلك فضلا، أو يبتغون فضلا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه، وتصريفهم فيما شاء من قضائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 9]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال ابن جرير: أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله، له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت الباغية، بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي فيجازيهم أحسن الجزاء.(8/526)
تنبيهات:
الأول- قال القاشانيّ: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية. والإصلاح إنما.
يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة، التي هي ظل الوحدة. فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما، على تقدير بغيهما. والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما، حتى ترجع. لكون الباغية مضادة للحق، دافعة له.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي، لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. روي ذلك من طريق عديدة، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقيّا.
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة، والقتال بمعنى الدفع مجازا.
قال- فيما رواه الطبريّ عنه-: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله وَإِنْ طائِفَتانِ إلى قوله فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ... الآية. يقول: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. انتهى. ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما. وقد قال اللغويون: ليس كل قتال قتلا. وقد يفضي الخصام إلى القتل، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم، لتكون الفائدة أشمل- والله أعلم-.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل، لقوله حَتَّى تَفِيءَ. انتهى.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم. وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم. ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال. ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيدا، فلا يغسل ولا يصلى عليه، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار.(8/527)
وإن أظهر قوم رأي الخوارج. مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، ولم يجتمعوا لحرب، لم يتعرّض لهم. وإن جنوا جناية وأتوا حدّا، أقامه عليهم.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية، أو طلب رئاسة، فهما ظالمتان. لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى.
هذه شذرة مما جاء في (الإقناع) و (شرحه) وتفصيله ثمة.
الثالث- قال في (شرح الإقناع) : في الآية فوائد: منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان. وأنه أوجب قتالهم. وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
وإجازة كل من منع حقّا عليه. والأحاديث بذلك مشهورة: منها ما روى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله (متفق عليه) «1» . وأجمع الصحابة على قتالهم، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وعليّا قاتل أهل الجمل، وأهل صفّين. انتهى.
وتدل الآية أيضا على وجوب معاونة من بغى عليه، لقوله فَقاتِلُوا، وعلى وجوب تقديم النصح، لقوله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر.
الرابع- وجه الجمع في اقْتَتَلُوا، مع أنه قد يقال: مقتضى الظاهر (اقتتلتا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. والنكتة في اعتبار المعنى أولا. واللفظ ثانيا عكس المشهور في الاستعمال، ما قيل إنهم أولا في حال القتال مختلطون مجتمعون، فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير ثانيا وسرّ قرن الإصلاح الثاني بالعدل، دون الأول، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإبهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.
الخامس- (أقسط) الرباعيّ همزته للسلب. أي أزيلوا الجور، واعدلوا.
بخلاف (قسط) الثلاثيّ، فمعناه جار. قال تعالى:
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الفتن، 2- باب قول النبي. صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أمورا تنكرونها» حديث رقم 2547.
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث 41 و 42.(8/528)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] ، وهذا هو المشهور- خلافا للزجاج- في جعلهما سواء- أفاده الكرخيّ-. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، فإن من لوازم الإخوة أن يصطلحوا.
قال الشهاب: وتسمية المشاركة في الإيمان أخوّة تشبيه بليغ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد، لأن كلّا منهما أصل للبقاء، إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبديّ في الجنان.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ أي إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله، وحكم رسوله.
قال القاشانيّ: بيّن تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين، للمناسبة الأصلية، والقرابة الفطرية، التي تزيد على القرابة الصورية، والنسبة الولادية، بما لا يقاس، لاقضائه المحبة القلبية، لا المحبة النفسانية، المسببة عن التناسب في اللحمة. فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة، وأحد خصالها، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة، ولم يتكدروا بغواشي النشأة، لم يتقاتلوا، ولم يتخالفوا. فوجب على أهل الصفاء، بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية، الإصلاح بينهما، وإعادتهما إلى الصفاء. انتهى.
تنبيه:
وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير والتخصيص. وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان. فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجمع، أكثر منه في شقاق الاثنين- أفاده القاضي والزمخشريّ-.
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة:
كحديث «1»
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه
__________
(1) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، 3- باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث 1202، عن ابن عمر. [.....](8/529)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
ولا يسلمه) .
وحديث «1»
(والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
وحديث «2»
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .
وحديث «3»
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبّك بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم
- وكلها في الصحاح-.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي خافوا مخالفة حكمه، والإهمال فيه، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم، ويثيبك رضوانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي لا يهزأ رجال من رجال، فيروا أنفسهم خيرا من المسخور منهم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي الساخرات.
قال أبو السعود: فإن مناط الخيرية في الفريقين، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبا. بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير.
وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة، فيسخر به من أجلها.
قال الطبريّ: والصواب أن يقال إن الله عمّ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض، جميع معاني السخرية. فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في: الذكر، حيث رقم 38، عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، 27- باب رحمة الناس والبهائم، حديث 2322، عن النعمان بن بشير.
(3) أخرجه البخاري في: الصلاة، 88- باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث رقم 319، عن أبي موسى.(8/530)
وقد عدّ الغزاليّ في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميما للفائدة، قال رحمه الله.
الآفة الحادية عشرة- السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذيا، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... الآية. ومعنى السخرية:
الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء. وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: والله ما أحب أني حاكيت إنسانا، ولي كذا وكذا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] ، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر.
وقال معاذ بن جبل: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله.
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ. أي لا تستحقره استصغارا، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيرا أو ناقصا، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهيّ عنها. انتهى.
لطيفة:
قال أبو السعود: القوم مختص بالرجال، لأنهم القوّام على النساء (والأحسن المهمات) وهو في الأصل إما جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. أو مصدر(8/531)
نعت به فشاع في الجمع. وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون، فإما للتغليب، أو لأنهن توابع. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع. والتنكير إما لتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم على بعض ولا يطعن.
قال الشهاب: ضمير تَلْمِزُوا للجمع بتقدير مضاف فيه. وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين، وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم، كما في قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة.
ففي اللفظ الكريم تجوّز، وتقدير مضاف. والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين، وهو مغاير لما قبله، وإن كان مخصوصا بالمؤمنين أيضا بحسب المفهوم، لتغاير الطعن والسخرية، فلا يقال إن الأول مغن عنه، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته، وهذا ذكره بما يكره مطلقا. أو هو تعميم بعد التخصيص، كما يعطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. وقيل: إنه من عطف العلة على المعلول، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية، كالإشارة. أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة. انتهى.
وقيل: معنى الآية: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه.
قال الشهاب: ف أَنْفُسَكُمْ على ظاهره والتجوّز في قوله تَلْمِزُوا. فهو مجاز ذكر فيه المسبّب، وأريد السبب. والمراد: لا ترتكبوا أمرا تعابون به. وضعف بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله وَلا تَنابَزُوا، كما في (الكشف) ، وكونه من التجوّز في الإسناد، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب، تكلف ظاهر. وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق، لا يدفع كونه مخالفا للظاهر. وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم، بالطعن على غيركم، كما في الحديث «1» (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه) ، إذ فسّر بأنه إذا شتم والدي غيره، شتم الغير والديه أيضا.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبز بها الملقب فقد
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 146، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(8/532)
روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد «1» وأبو داود. وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق!، وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق بعد التوبة. والآية- كما قال ابن جرير-: تشمل ذلك كله قال: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ قال الزمخشريّ: الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر. من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.
وحقيقته ما سما ذكره، وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر، أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: بَعْدَ الْإِيمانِ ثلاثة أوجه:
أحدها- استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة، الصبوة.
والثاني- أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهوديّ! يا فاسق! فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز.
والثالث- أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة، الفلاحة بعد التجارة. انتهى.
واختار ابن جرير الثالث، لا ذهابا لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن، كما أنه غير كافر، فهو في منزلة بين المنزلتين بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن التقليب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان، فإن شعار الجاهلية. وعبارته: يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا، إن فعلتموه، أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق. وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ عليه. ثم ضعف القول الثاني وقال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية،
__________
(1) أخرجه في المسند 4/ 260.(8/533)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه، أو بالقبيح. انتهى.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أي من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي كونوا على جانب منه. وذلك بأن تظنوا بالناس سوءا، فإن الظانّ غير محقق. وإبهام (الكثير) لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه، أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن. قال تعالى:
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: 12] . نعم! من أظهر فسقه، وهتك ستره، فقد أباح عرضه للناس. ومنه ما روي: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له. ولذا قال الزمخشريّ: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر، كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر، لا الخير إِثْمٌ أي مكسب للعقاب، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال حجة الإسلام الغزاليّ في (الإحياء) في بيان تحريم الغيبة بالقلب: اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول. فكما يحرم عليك أن تحدّث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدّث نفسك، وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست(8/534)
أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس، فهو معفوّ عنه، بل الشك أيضا معفوّ عنه. ولكن المنهيّ عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب. فقد قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب، لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل. فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينك، ولم تسمعه بأذنك، ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة، أو بينة عادلة. انتهى.
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، ذكر سبحانه النهي عنه، إثر سوء الظن لذلك، فقال تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا قال ابن جرير: أي لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمونه من سرائره.
يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه، وبحث عنه، كتلمس. قال الشهاب: الجس (بالجيم) كاللمس، فيه معنى الطلب، لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه. واستعمل التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزاليّ: ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله. فيتوصل إلى الاطلاع، وهتك الستر، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه، كان أسلم لقلبه ودينه.
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة. منها
حديث «1»
أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته» .
وفي الصحيح» عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» .
__________
(1) أخرجه الترمذي في: البرّ والصلة، 85- باب ما جاء في تعظيم المؤمن، عن ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري في: النكاح، 45- باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، حديث رقم 2125، عن أبي هريرة.(8/535)
وروى أبو داود «1» أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل، فقيل له: هذا فلان، تقطر لحيته خمرا! فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به- والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وروى أبو داود «2» عن معاوية قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» .
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه:
كلمة سمعها معاوية من رسول الله، نفعه الله بها.
وروى الإمام أحمد «3» عن دجين، كاتب عقبة، قال: قلت لعقبة: إنا لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشّرط فيأخذونهم! قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم! قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشّرط فتأخذهم! فقال له عقبة: ويحك! لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها» !.
وروى أبو داود «4» عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» .
قال الأوزاعيّ: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب، ما يكره المقول فيه ذلك، أن يقال له في وجهه. يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله، إذا ذكره بسوء في غيبته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي فلو عرض عليكم، نفرت عنه نفوسكم، وكرهتموه. فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. وفيه استعارة تمثيلية، مثّل اغتياب الإنسان لآخر بأكل لحم الأخ ميتا.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشريّ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى: منها- الاستفهام الذي معناه التقرير (وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4890.
(2) أخرجه أبو داود في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث 4888.
(3) أخرجه في المسند 4/ 147.
(4) أخرجه في: الأدب، 37- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم 4889.(8/536)
عند كل سامع، حقيقة أو ادعاء) ومنها- جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها- إسناد الفعل إلى (أحدكم) والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها- أن لم يقتصر تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا.
ومنها- أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ، حتى جعل ميتا. انتهى.
وقال ابن الأثير في (المثل السائر) في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله. فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله، فشديد المناسبة جدا، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.
وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، آمران بتركها، والبعد عنها. ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة، والشهوة لها، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قصدت له. انتهى.
الثانية- الفاء في قوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ فصيحة في جواب شرط مقدّر.
والمعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، فما ذكر جواب للشرط، وهو ماض فيقدر معه (قد) ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي، كما في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الفرقان: 19] ، وضمير فَكَرِهْتُمُوهُ للأكل، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه. والمعنى: فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل. وعبر عنه بالماضي للمبالغة، فإذا أوّل بما ذكر يكون إنشائيا غير محتاج لتقدير (قد) - أفاده الشهاب-.
الثالثة- قال ابن الفرس: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة(8/537)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
الآدميّ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان. فدل على أنه في التحريم فوقها. ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه (بالإحياء) للغزاليّ، فإنه جمع فأوعى.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.
ثم نبه تعالى، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض، على تساويهم في البشرية، كما قال ابن كثير، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي من آدم وحواء. أو من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء. أي: من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا قال ابن جرير: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا. ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أي أشدكم اتقاء له وخشية بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا، ولا أكثركم عشيرة.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم، وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية.
تنبيهات:
الأول- حكى الثعالبيّ في (فقه اللغة) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبيّ عن أبيه: أن الشّعب (بفتح الشين) أكبر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العمارة، (بكسر العين) ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العترة، ثم الأسرة. انتهى.(8/538)
وقال الشيخ ابن برّي: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خلق الإنسان، فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة فقال:
أقصد الشّعب فهو أكثر حيّ ... عددا في الحواء ثم القبيلة
ثم يتلوهما العمارة ثم ال ... بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرنا قليله
فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصيّ بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت (الشعوب) لأن القبائل تشعبت منها. و (الشعوب) جمع شعب، بفتح الشين.
قال أبو عبيد البكريّ في (شرح نوادر أبي علي القالي) : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح، وفي الجبل بالكسر، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس. نقله الزبيديّ في (تاج العروس) .
الثاني- في الآية الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وذم التفاخر بها، وأن التقيّ غير النسيب، يقدم على النسيب غير التقيّ، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب غيرهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: سألت مالكا عن نكاح الموالي العربية فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية، فلم يشترط في الكفاءة الحرية- نقله في (الإكليل) .
وقال ابن كثير: استدل بالآية، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين.
الثالث- أفاد قوله تعالى: لِتَعارَفُوا حصر حكمة جعلهم شعوبا وقبائل فيه.
أي إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب والتوارث، لا للتفاخر بالآباء والقبائل.
قال الشهاب: الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر، والسكوت في معرض البيان.(8/539)
وقال القاشانيّ: معنى قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لا كرامة بالنسب، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى. والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر، فإنه من الرذائل. والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة، كان صاحبها أكرم عند الله، وأجل قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية، التي هي الذنوب، في عرف ظاهر الشرع، أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها. انتهى.
الرابع-
روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاريّ «1» عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم.
قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟
قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» .
وروى مسلم «2» عنه أيضا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وروى الإمام «3» أحمد عن أبي ذر قال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود، إلا أن تفضله بتقوى الله.
وروى البزار في مسنده عن حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» .
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة: «أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل برّ تقيّ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر يتّقى، هين على الله تعالى. إن الله عزّ وجلّ يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى..
الآية» .
__________
(1) أخرجه في: الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، حديث رقم 1587.
(2) أخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب. حديث رقم 34. عن أبي هريرة.
(3) أخرجه في المسند في 5/ 158. [.....](8/540)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير، فانظرها.
وروى الطبريّ عن عطاء قال: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله وقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا. قال عطاء: نسيت الثالثة.
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب، والإنكار على مساوئ أخلاقهم، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيهم، ما كانوا فيها هم المقصود أولا وبالذات، ثم غيرهم ثانيا وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان، ثم بيان من المؤمن حقّا، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون، فقال سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قالَتِ الْأَعْرابُ أي المحدث عنهم في أول السورة آمَنَّا أي بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، زعما أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي لستم مؤمنين، وإن أخبرتم عنه، لأن الإيمان قول وعمل. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة، والبعد من ركوب المناهي، فإن لكل حق حقيقة، ولكل دعوى شاهد. فإن قيل: في قوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ بعد قوله قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة؟ والجواب: إن فائدة قوله لَمْ تُؤْمِنُوا تكذيب دعواهم، وقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قُولُوا. وما في لَمَّا من معنى التوقع، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد، فلا تكرار. هذا ما أشار له الزمخشريّ، واختار كون الجملة حالا، لا مستأنفة، إخبارا منه تعالى، فإنه غير مفيد لما ذكر.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين،(8/541)
بل بينهما عموم وخصوص مطلق، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهرا، والإيمان تصديق القلب كما قال وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. انتهى.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف. لأن ترادفهما شرعا لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغويّ في بعض المواضع. وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن، وهي جلية، كما هنا. وإلا فآية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ، أكبر مناد على اتحادهما. ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. والإيمان والإسلام وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في (الفصل) فانظره.
الثاني- قال في (الإكليل) : في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، وهو ظاهر. وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم، الإمام ابن حزم في (الفصل) ، فراجعه.
الثالث- قيل، مقتضى الظاهر أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا.
أو: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل عنه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعا. وقيل: إنه من الاحتباك، وأصله: لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا، ولكن أسلمتم، فقولوا أسلمنا، فحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر. والأول أبلغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم، ثم استدرك عليه فقال: دعوا ادعاء الإيمان، وادّعوا الإسلام، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه، فنفى الإيمان، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك، مع سلامته من الحذف بلا قرينة- هذا ما في القاضي وحواشيه.
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فتأتمروا لأوامرهما، وتنتهوا عما نهياكم عنه.
والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا، ولا ينقصكم من ثوابها.
قال الزمخشريّ: يقال (ألته السلطان حقه أشد الألت) وهي لغة غطفان. ولغة أسد، وأهل الحجاز- لاته ليتا- وحكى الأصمعيّ عن أم هشام السلولية أنها قالت:
الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات. وقرئ باللغتين لا يَلِتْكُمْ و (لا يألتكم) . ونحوه في المعنى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: 47] .(8/542)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن أطاعه وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأنيبوا إليه أيها الأعراب، وتوبوا من النفاق، واعقدوا قلوبكم على الإيمان، والعمل بمقتضياته، يغفر لكم ويرحمكم.
ثم بين تعالى الإيمان، وما به يكون المؤمن مؤمنا، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 15]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوّة نبيه، وألزموا نفوسهم طاعة الله، وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم.
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مهجهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله، لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى- قاله ابن جرير: وقدّمنا مرارا أن قصر (سبيل الله) على غزو الكفار المعتدين، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها، لأنها في سبيله وجهته.
قال الشهاب: وقدم الأموال، لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه.
وجاهَدُوا بمعنى: بذلوا الجهد. أو مفعوله مقدر، أي العدوّ أو النفس والهوى.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في ادّعاء الإيمان، لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريض يكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحصر. أي: هم الصادقون، لا هؤلاء، أو إيمانهم إيمان صدق وجد.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان. وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف، وليراجع في ذلك ما بسطه ابن حزم رحمه الله في (الفصل) .
الثاني- قال القاشانيّ: في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ.. الآية إشارة إلى(8/543)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
الإيمان المعتبر الحقيقيّ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها، والتسخر لهيأتها، وذلك معنى قوله: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعد نفي الارتياب عنهم، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ، وأثره في الظاهر. انتهى.
الثالث- قال في (الكشاف) : فإن قلت: ما معنى (ثم) هاهنا، وهي للتراخي.
وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين:
أحدهما- أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان، أو بعض المضلين، بعد ثلج الصدر، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمر على ذلك، راكبا رأسه، لا يطلب له مخرجا.
فوصف المؤمنون حقّا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا.
والثاني- أن الإيقان وزوال الريب، لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي، إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّا جديدا. انتهى.
يعني: أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم تحدث لهم ريبة، فالتراخيّ زمانيّ لا رتبيّ على ما مرّ في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا.
أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيها على أصالته في الإيمان، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديما وحديثا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 16]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قُلْ أي لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم آمَنَّا. أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه بقولكم آمَنَّا، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، من التعليم، بمعنى الإعلام والإخبار، فلذا تعدى(8/544)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
للثاني بالباء. وقيل: تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور. وفيه تجهيل لهم وتوبيخ. أي لأن قولهم آمَنَّا إن كان إخبارا للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له، لأنهم كيف يعلمونه، وهو العالم بكل شيء، كما قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال ابن جرير: هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم. يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم، مختوما بتوعدهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 17]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي انقادوا وكثّروا سواد أتباعك. قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إليّ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء: 15] ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم آمَنَّا لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون، لاطلاعه على الغيوب، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (49) : آية 18]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال ابن جرير يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلّمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السموات والأرض.
تنبيهات:
الأول-
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال(8/545)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم- ونزلت هذه الآية-.
وقال ابن زيد: هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيّين أولها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة- والله أعلم.
الثاني- في قوله تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ... الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للأنصار يوم حنين «1» : «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي. وكنتم عالة فأغناكم الله بي» ؟
- كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ.
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى: وبعث إليهم رسلا منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصرا، وأولهم يوم الدين ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجة وبرهانا، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية، محمد صلّى الله عليه وسلّم تسليما، الذي اتخذه صفيّا وحبيبا، وأرسله إلى عباده بشيرا ونذيرا، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم. أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا. فلم يزل صلّى الله عليه وسلّم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لمّا كان وحيدا، وبالعنف لمّا وجد أنصارا وجنودا. لا يرى للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 56- باب غزوة الطائف، حديث رقم 1931، عن عبد الله بن زيد ابن عاصم(8/546)
الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلّاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.
الثالث- قال الرازيّ: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق.
وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين: لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجا عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضرا عندهم، أو غائبا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها- يتعلق بجانب الله.
وثانيها- بجانب الرسول.
وثالثها- بجانب الفسّاق.
ورابعها- بالمؤمن الحاضر.
وخامسها- بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ لبيان وجوب احترام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ثالثا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيّن ذلك عند تفسير قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا.
وقال رابعا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وقال وَلا تَنابَزُوا لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وقال: وَلا تَجَسَّسُوا وقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً لبيان وجوب الاحتراز(8/547)
عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء.
بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم الفاسق؟.
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور. وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدّ يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا؟
انتهى.(8/548)
فهرس الجزء الثامن
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل(8/549)
فهرس الجزء الثامن سورة الروم الآيات 1- 6 4 الآيتان 7 و 8 5 الآيات 9- 12 6 الآيات 13- 18 7 الآيات 19- 21 8 الآيات 22- 25 9 الآيتان 26 و 27 11 الآيات 28- 32 13 الآيات 33- 36 14 الآية 37 15 الآيتان 38 و 39 16 الآية 40 17 الآيات 41- 43 18 الآيات 44- 50 19 الآيات 51- 53 20 الآيتان 54 و 55 21 الآيتات 56 و 57 22 الآيات 58- 60 23 سورة لقمان الآيات 1- 6 25 الآيات 7- 12 26 الآيتان 13 و 14 28 الآية 15 29 الآيتان 16 و 17 30 الآيتان 18 و 19 31 الآيات 20- 26 33 الآيات 26- 32 34 الآية 33 35 الآية 34 36 سورة السجدة الآيات 1- 5 38 الآيات 6- 12 39 الآيات 13- 16 41 الآيات 17- 22 42 الآيات 23- 27 43 الآيتان 28 و 29 44 الآية 30 45(8/551)
سورة الأحزاب الآيات 1- 4 47 الآية 5 49 الآية 6 51 الآية 7 52 الآيتان 8 و 9 53 الآيات 10- 13 54 الآيات 14- 19 56 الآيتان 20 و 21 57 الآيتان 22 و 23 58 الآيتان 24 و 25 59 الآيات 26- 28 64 الآيات 29- 33 66 الآيتان 34 و 35 75 الآية 36 76 الآيتان 37- 39 79 الآية 40 80 الآيتان 41 و 42 89 الآية 43 90 الآيات 44- 49 91 الآية 50 94 الآية 51 96 الآية 52 97 الآية 53 99 الآية 54 101 الآية 55 104 الآية 56 106 الآية 57 110 الآية 58 111 الآية 59 112 الآيات 60- 62 114 الآيات 63- 66 116 الآيات 67- 69 117 الآيتان 70 و 71 123 الآية 72 124 الآية 73 125 سورة سبأ الآيتان 1 و 2 132 الآية 3 133 الآيات 4- 8 134 الآية 9 135 الآيات 10- 12 136(8/552)
الآيتان 13 و 14 137 الآيتان 15 و 16 138 الآيات 17- 19 139 الآيتان 20 و 21 142 الآية 22 143 الآية 23 144 الآية 24 145 الآية 25 146 الآيتان 26 و 27 147 الآية 28 148 الآيات 29- 31 149 الآيات 32- 35 150 الآيتان 36 و 37 151 الآيات 38- 41 152 الآيتان 42 و 43 153 الآيات 44- 46 154 الآيات 47- 49 155 الآيات 50- 52 156 الآيتان 53 و 54 157 سورة فاطر الآيات 1- 3 159 الآيات 4- 8 160 الآيتان 9 و 10 161 الآية 11 162 الآيات 12- 14 163 الآيات 15- 18 164 الآيات 19- 23 165 الآيات 24- 27 166 الآية 28 167 الآيات 29- 32 168 الآيات 33- 37 169 الآيات 38- 43 170 الآيتان 44 و 45 171 سورة يس الآيات 1- 5 173 الآيات 6- 9 174 الآية 10 175 الآيات 11- 14 176 الآيات 15- 20 177 الآيات 21- 25 178 الآيات 26- 29 179 الآيات 30- 32 182 الآيات 33- 36 183 الآيات 37- 40 184(8/553)
الآية 41 186 الآيات 42- 45 187 الآيات 46- 49 188 الآيات 50- 55 189 الآيات 56- 60 190 الآيات 61- 65 191 الآية 66 192 الآيات 67- 69 193 الآيات 70- 74 194 الآيات 75- 78 195 الآيتان 79 و 80 196 الآيات 81- 83 197 سورة الصافات الآيات 1- 4 200 الآيات 5- 7 201 الآيات 8- 10 202 الآية 11 204 الآيات 12- 18 205 الآيات 19- 24 206 الآيات 25- 35 207 الآيات 36- 47 208 الآيات 48- 53 209 الآيات 54- 62 210 الآيات 63- 67 211 الآيات 68- 70 212 الآيات 71- 79 213 الآيات 80- 83 214 الآيات 84- 88 215 الآيات 89- 96 216 الآيات 97- 101 217 الآيات 102- 105 218 الآيات 106- 113 219 الآيات 114- 118 224 الآيات 119- 127 225 الآيات 128- 139 226 الآيات 140- 144 227 الآيات 145- 149 228 الآيات 150- 154 229 الآيات 155- 158 230 الآيتان 159 و 160 231 الآيات 161- 164 232 الآيات 165- 170 233(8/554)
الآيات 171- 176 234 الآيات 177- 181 235 الآية 182 236 سورة ص الآيات 1- 3 239 الآيات 4- 7 240 الآيتان 8 و 9 241 الآيتان 10 و 11 242 الآية 12 243 الآيتان 13 و 14 244 الآيات 15- 17 245 الآيات 18- 21 246 الآيات 22- 25 247 الآية 26 253 الآية 27 254 الآيتان 28 و 29 255 الآيات 30- 32 256 الآية 33 257 الآيات 34- 39 260 الآية 40 261 الآيات 41- 43 262 الآية 44 263 الآيتان 45 و 46 266 الآيات 47- 50 267 الآيات 51- 54 268 الآيات 55- 60 269 الآيات 61- 63 270 الآيات 64- 67 271 الآيتان 68 و 69 272 الآية 70 273 الآيات 71- 74 274 الآيات 75- 78 275 الآيات 79- 86 276 الآيتان 87 و 88 277 سورة الزّمر الآيات 1- 4 279 الآيات 5- 7 280 الآيتان 8 و 9 281 الآية 10 282 الآيات 11- 15 283 الآيات 16- 19 284 الآيات 20- 22 285 الآيات 23- 25 286 الآيات 26- 29 287(8/555)
الآيات 30- 32 288 الآيات 33- 38 289 الآيات 39- 42 290 الآيات 43- 46 291 الآيات 47- 52 292 الآيات 53- 58 293 الآيات 59- 66 294 الآية 67 295 الآيتان 68 و 69 296 الآيات 70- 73 297 الآيتان 74 و 75 298 سورة غافر الآيات 1- 5 301 الآيات 6- 10 302 الآية 11 303 الآيات 12- 15 304 الآيات 16- 25 305 الآيات 26- 28 306 الآية 29 307 الآيات 30- 33 308 الآيات 34- 37 309 الآيات 38- 42 310 الآيتان 43 و 44 311 الآيات 45- 48 312 الآيات 49- 52 313 الآيات 53- 56 314 الآيتان 57 و 58 315 الآيتان 59 و 60 316 الآيات 61- 64 317 الآيات 65- 67 318 الآيات 68- 74 319 الآيات 75- 78 320 الآيات 79- 82 321 الآيات 83- 85 322 سورة فصلت الآيات 1- 4 324 الآيات 5- 8 325 الآيات 9- 11 326 الآيتان 12 و 13 328 الآيات 14- 16 329 الآيات 17- 19 330 الآيتان 20 و 21 331 الآية 22 333 الآيات 23- 26 334(8/556)
الآيتان 27 و 28 335 الآيتان 29 و 30 336 الآيتان 31 و 32 337 الآية 33 338 الآية 34 340 الآيات 35- 37 341 الآيات 38- 41 342 الآيتان 42 و 43 343 الآية 44 344 الآيات 45- 47 345 الآيات 48- 50 346 الآيات 51- 53 347 الآية 54 348 سورة الشورى الآيات 1- 3 350 الآيات 4- 7 351 الآيات 8- 10 352 الآية 11 353 الآيتان 12 و 13 358 الآيتان 14 و 15 359 الآية 16 360 الآيات 17- 20 361 الآيات 21- 23 362 الآية 24 366 الآيات 25- 28 368 الآية 29 369 الآيتان 30 و 31 370 الآيات 32- 38 371 الآيات 39- 42 372 الآية 43 373 الآيات 44- 47 374 الآيات 48- 50 375 الآيات 51- 53 376 سورة الزخرف الآيات 1- 8 379 الآيات 9- 14 380 الآيات 15- 17 381 الآيات 18- 21 382 الآيات 22- 24 385 الآيات 25- 27 386 الآيات 28- 32 387 الآيات 33- 35 388 الآيات 36- 38 390 الآيات 39- 42 391(8/557)
الآيات 43- 45 392 الآيات 46- 50 393 الآيات 51- 58 394 الآيتان 59 و 60 395 الآيات 61- 64 396 الآيات 65- 67 398 الآيتان 68 و 69 399 الآيات 70- 73 400 الآيات 74- 79 401 الآيات 80- 82 402 الآيات 83- 86 403 الآيات 87- 89 404 سورة الدخان الآيات 1- 6 407 الآيات 7- 12 408 الآيات 13- 16 412 الآية 17 415 الآيات 18- 22 416 الآيات 23- 28 417 الآيات 29- 31 418 الآيات 32- 36 419 الآية 37 420 الآيتان 38 و 39 421 الآيات 40- 47 422 الآيات 48- 54 423 الآيات 55- 59 424 سورة الجاثية الآيات 1- 6 426 الآيات 7- 13 427 الآيات 14- 16 428 الآيات 17- 19 429 الآيات 20- 22 430 الآيتان 23 و 24 431 الآيات 25- 31 433 الآيات 32- 35 434 الآيتان 36 و 37 435 سورة الأحقاف الآيات 1- 4 437 الآيتان 5 و 6 438 الآيتان 7 و 8 439 الآية 9 440 الآية 10 441 الآيتان 11 و 12 443 الآيات 13- 15 444(8/558)
الآية 16 445 الآيات 17- 19 446 الآيتان 20 و 21 448 الآيات 22- 25 449 الآية 26 450 الآيتان 27 و 28 451 الآيات 29- 32 452 الآيات 33- 35 461 سورة محمد صلى الله عليه وسلم الآيتان 1 و 2 464 الآيتان 3 و 4 465 الآيات 5- 10 469 الآيات 11- 15 470 الآيات 16- 18 471 الآية 19 472 الآية 20 473 الآية 21 474 الآيات 22- 24 475 الآيتان 25 و 26 476 الآيات 27- 31 477 الآيات 32- 35 478 الآيتان 36 و 37 479 الآية 38 480 سورة الفتح الآية 1 482 الآية 2 484 الآيات 3- 6 485 الآيات 7- 9 486 الآية 10 487 الآية 11 492 الآيات 12- 14 494 الآية 15 495 الآيتان 16 و 17 496 الآية 18 497 الآيات 19- 21 499 الآيتان 22 و 23 500 الآية 24 501 الآية 25 502 الآية 26 504 الآية 27 505 الآية 28 508 الآية 29 509(8/559)
سورة الحجرات الآية 1 515 الآية 2 517 الآية 3 518 الآيتان 4 و 5 519 الآية 6 522 الآية 7 524 الآيتان 8 و 9 526 الآية 10 529 الآية 11 530 الآية 12 534 الآية 13 538 الآية 14 541 الآية 15 543 الآية 16 544 الآيتان 17 و 18 545(8/560)
[المجلد التاسع]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
وتسمى سورة (الباسقات) . وهي مكية بالإجماع. وآيها خمس وأربعون آية.
قال ابن كثير: وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح، وقيل: من الحجرات. وأما ما يقوله العوام أنه من (عمّ) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم. والدليل ما رواه أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده. فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة (ق) بيانه:
ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء.
وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان.
وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.
وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.
ثم بعد ذلك الحزب المفصل، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعيّن أن أوّله سورة (ق) .(9/3)
وروى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثيّ: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد؟ قال: ب (ق) و (اقتربت) .
وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يخطب بها كل جمعة.
وفي رواية: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب. انتهى.(9/4)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
ق هو حرف من حروف التهجي المفتتح بها أوائل السور، مثل: ص، ون، والم، وحم، ونحوها. علم على السورة، على الصحيح من أقوال، كما تقدم مرارا.
تنبيه:
قال ابن كثير: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض يقال له (جبل قاف) . وكأن هذا- والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم، مما لا يصدّق ولا يكذب.
وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة، مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم. فكيف بأمة بني إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفّاظ والنقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «1» (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوّزه العقل. فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه البطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل.
وقد أكثر كثير من السلف المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب، تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة.
ثم ردّ ابن كثير، رحمه الله، ما قيل من أن المراد من ق قضي الأمر والله! كقول الشاعر:
قلت لها قفي فقالت قاف
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 50- باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم 1624، عن ابن عمرو.(9/5)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أي: إني واقفة، بأن في هذا نظرا، لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف. انتهى.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 2]
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي: لأن جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملك، أو من جلدتهم. وهو كما قال أبو السعود- إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: والقرآن المجيد، أنزلناه إليك، لتنذر به الناس.
حسبما ورد في صدر سورة الأعراف، كأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول، وأقربه إلى التلقي بالقبول.
وقيل: التقدير: والقرآن المجيد، إنك لمنذر. ثم قيل بعده إنهم شكوا فيه، ثم أضرب عنه. وقيل: بل عجبوا، أي لم يكتفوا بالشك والرد، بل جزموا بالخلاف، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة. وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد، كأنه قيل: ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له، ولكن لجهلهم.
فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم، وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن. وإضمارهم أولا، للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم. وإظهارهم ثانيا، للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه. أو عطف لتعجبهم من البعث، على تعجبهم، من البعثة. على أن هذا إشارة إلى مبهم، يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 3]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجيب، وتأكيد للإنكار. والعامل في (إذا) مضمر غنيّ عن البيان، لغاية شهرته، مع دلالة ما بعده عليه. أي: أحين نموت ونصير ترابا نرجع، كما ينطق به النذير والمنذر به. مع كمال التباين بيننا وبين الحياة،(9/6)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
حينئذ ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 4]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي: ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم.
وهو ردّ لاستبعادهم، وإزاحة له. فإن من عمّ علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى. وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا. وقيل: المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم.
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ قال أبو السعود: أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ من التغير. والمراد: إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها، بعلم من عنده كتاب محيط، يتلقى منه كل شيء. أو تأكيد لعلمه تعالى بها، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 5]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ وهو القرآن، لَمَّا جاءَهُمْ أي من غير تأمّل وتفكّر.
قال الزمخشري: إضراب أتبع الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق، الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات، في أول وهلة من غير تفكّر ولا تدبّر. وكونه أفظع، للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مضطرب. يعني. اختلاف مقالتهم فيه، من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه، تعنتا وكبرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 6]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي هؤلاء المكذّبون بالبعث، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم، إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها أي رفعناها بغير عمد، وَزَيَّنَّاها أي بالنجوم، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. قال ابن جرير: يعني وما لها من صدوع وفتوق. كقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ،(9/7)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
[الملك: 3- 4] ، أي كليل عن أن ترى عيبا أو نقصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 7]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت، حفظا لها من الاضطراب، لقوة الجيشان في جوفها، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف، بَهِيجٍ أي حسن المنظر، يبتهج به لحسنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 8]
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي لتبصر وتذكّر كل عبد منيب راجع إلى ربه، مفكّر في بدائع صنعه. وتَبْصِرَةً وذِكْرى منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى. أو بفعل مقدر. أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 9 الى 11]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أي أشجارا ذوات أثمار، وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي الزرع المحصود من البرّ والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر، لأنه المقصود بالذات.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء، النخل طوالا، أو حوامل. من (أبسقت الشاة) إذا حملت، فيكون من (أفعل) فهو (فاعل) . والقياس (مفعل) فهو من النوادر كالطوائح واللواقح، في أخوات لها شاذة. وإفرادها بالذكر مع دخولها في جَنَّاتٍ لبيان فضلها بكثرة منافعها. وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية، مع ما فيه من مراعاة الفواصل. لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي متراكم بعضه فوق بعض. رِزْقاً لِلْعِبادِ أي لرزقهم. قال أبو السعود: علة لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا. وفي تعليله بذلك، بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير،(9/8)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار، أهم من تمتعه به من حيث الرزق. وقيل: رِزْقاً مصدر من معنى أَنْبَتْنا، لأن الإنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أي أرضا جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار. كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي خروجهم أحياء من القبور. شبه بعث الأموات ونشرهم، بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض، بعد وقوع المطر عليها، ف كَذلِكَ خبر الْخُرُوجُ. أو مبتدأ فالكاف بمعنى (مثل) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش قَوْمُ نُوحٍ قال أبو السعود: استئناف وارد لتقرير حقية البعث، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم السلام عليها، وتعذيب منكريها.
وَأَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر كانوا عنده. يقال إنهم قوم شعيب عليه السلام. ويقال غير ذلك، كما تقدم في سورة الفرقان. وَثَمُودُ وهم الذين جادلوا صالحا، وقتلوا الناقة. وَعادٌ وهم الذين جادلوا هودا في أصنامهم. وَفِرْعَوْنُ وهو الذي جادل موسى فيما أرسل به. قال الرازي: ولم يقل (وقوم فرعون) لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه، والمستبد بأمره. وَإِخْوانُ لُوطٍ وهم الذين جادلوا في إتيان الرجال. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الغيضة من الشجر، المجادلون شعيبا في الكيل والوزن. وَقَوْمُ تُبَّعٍ قال المهايمي: المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين. ومضى الكلام على ذلك في الحجر والدخان. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي كل من هذه الأمم، وهؤلاء القرون، كذبوا رسولهم، ومن كذب رسولا، فكأنما كذب جميع الرسل، كقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ، وإنما جاءهم رسول واحد، فهم في نفس الأمر، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم- أفاده ابن كثير- وهو توجيه لجمع الرسل. وإفراد ضمير كَذَّبَ مراعاة للفظ كُلٌّ فإنه مفرد وإن كان جمعا معنى. فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر، وهو العذاب والنقمة.
قال ابن جرير: إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيبا منه بذلك مشركي قريش، وإعلاما منه لهم أنهم إن(9/9)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه محلّ بهم من العذاب مثل الذي أحل بهم. أي فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه، وتهديد لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 15]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي: أفعجزنا عن الإبداء، حتى نعجز عن الإعادة، فالهمزة للإنكار. قال الشهاب: العي هنا بمعنى العجز، لا التعب. قال الكسائي:
تقول (أعييت) من التعب و (عييت) من انقطاع الحيلة، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح، وإن لم يفرق بينهما كثير. و (الخلق الأول) هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض، لأن خلق الإنسان متأخر عنه.
ويدل له آية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ... [الأحقاف: 33] الآية.
وقوله: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر، يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، فلا وجه لإنكارهم للثاني، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس، لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.
لطيفة:
قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاثة: لم عرّف الخلق الأول، ونكّر اللبس، والخلق الجديد؟
فاعلم: أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه، ومنه تعريف الذكور في قوله وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49] ، ولهذا المقصد عرف الخلق الأول، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى. أي إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول، على عظمته، فالخلق الآخر أولى أن لا يعيى به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.
وأما التنكير فأمره منقسم: فمرة يقصد به تفخيم المنكر، من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرة يقصد به التقليل من المنكر، والوضع منه. وعلى الأول سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 85] ، وقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة: 9] و [الحجرات: 3] ، وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ(9/10)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
[الطور: 17] ، وهو أكثر من أن يحصى. والثاني: هو الأصل في التنكير، فلا يحتاج إلى تمثيله. فتنكير (اللبس) من التعظيم والتفخيم، كأنه قال: في لبس أيّ لبس.
وتنكير (الخلق الجديد) للتقليل منه، والتهوين لأمره، بالنسبة إلى الخلق الأول.
ويحتمل أن يكون للتفخيم، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي تحدّث به نفسه، وهو ما يخطر بالبال. وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ تمثيل للقرب المعنوي، بالصورة الحسية المشاهدة. وقد جعل ذاك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ، الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام، إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.
قال الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم، لتنزّهه عن القرب المكاني، إما تمثيلا، وإما من إطلاق السبب وإرادة المسبب، لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى: أنه تعالى أعلم بأحواله، خفيّها وظاهرها، من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد، لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج. وخص هذا لأن به حياته، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل: العرق. شبه بواحد الحبال. فإضافته للبيان أو لامية، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته، فإضافته كلجين الماء.
تنبيه:
تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم، بجعل (نحن) كناية عن الملائكة، وعبارته: يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال: ومن تأوله على العلم، فإنما فرّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه يقل (وأنا أقرب إليه) وإنما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ كما قال في المحتضر وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:
85] ، يعني: ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن، بإذن الله عزّ وجلّ.(9/11)
وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله، جل وعلا، لهم على ذلك. فللملك لمّة من الإنسان، كما أن للشيطان لمة. ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره، بما ورد في الآية بعدها.
والوجه الأول أدق وأقرب، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ، ما لا يخفى حسنه. وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولا. كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه، لاحتمال إرادة التعظيم ب (نحن) كما هو شائع، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيما للملك، لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد، من قال في تفسير الآية كالقاشاني- ما مثاله: وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ. ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود، من حيث هو وجود، ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. انتهى كلام القاشاني. ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف، لأن لهؤلاء اصطلاحا معروفا، وهم أول من يتبرأ من الحلول والاتحاد، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما، في كتاب (دلائل التوحيد) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب. فارجع إليه، واستغفر لمصنفه.
أقول: رأيت ابن كثير بعد، مسبوقا بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه (شرح حديث النزول) : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام، كقوله تعالى:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] .
فهو سبحانه قريب ممن دعاه. وكذلك ما في الصحيحين «1» عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، وإنما تدعون سميعا قريبا. إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) . فقال: إن الذي تدعونه
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، 131- باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، حديث رقم 1423.
وأخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 44- 47.(9/12)
أقرب إلى أحدكم، لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: 61] ، ومعلوم أنه قوله: قَرِيبٌ مُجِيبٌ مقرون بالتوبة والاستغفار. أراد به، قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب. ومعلوم أنه لا يقال مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى، وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب، لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه. واسمه العليم، لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوما تعلق بكل شيء. وأما قوله تعالى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فالمراد به قربه إليه بالملائكة. وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف. قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. وقد قال طائفة وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بالعلم. وقال بعضهم:
بالعلم والقدرة والرؤية. وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة، ولكن بعض الناس، لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب، مثل لفظ المعية. وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: في آية وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، هو معهم بعلمه، مع علوّه على عرشه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين، لم يخالفهم فيه أحد.
ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال: هو فوق عرشه، وهو قريب من كل شيء، بل قال: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وقال: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة:
186] .
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ... الآية.
ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته، فإنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، وهم لم يشكّوا في ذلك، ولم يسألوا عنه، وإنما عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب.
وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم، لكونه هو(9/13)
المقصود، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده. وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول، بأنه قريب من كل شيء، بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف، وكثير من الخلف، لكن لم يقل أحد منهم إن نفس ذاته قريب من كل موجود. وهذا المعنى يقرّ به جميع المسلمين، من يقول إنه فوق العرش، ومن يقول إنه ليس فوق العرش.
ثم قال: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد، ومن الميت. ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة، فسروا ذلك بالعلم والقدرة، كما في لفظ المعية. ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي بملائكتنا، في الآيتين: وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يجعل لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهما.
ثم قال: وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ لا يجوز أن يراد به مجرد العلم، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره، لا يقال إنه أقرب إليه من غيره، بمجرد علمه به، ولا بمجرد قدرته عليه. ثم إنه سبحانه عالم بما يسرّ من القول، وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه، فإنه حبل الوريد قريب إلى القلب، ليس قريبا إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] ، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم، سياق الآية، فإنه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، فأخبر أنه يعلم وسواس نفسه.
ثم قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فأثبت العلم، وأثبت القرب، وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر، وقيد القرب بقوله إِذْ يَتَلَقَّى ...
الآية.
وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف. وذلك أن الذين يقولون إنه في كل مكان، وإنه قريب من كل شيء بذاته، لا يخصون بذلك شيئا دون شيء، ولا يمكن مسلما أن يقول إن الله قريب من الميت دون أهله، ولا أنه قريب من حبل الوريد دون(9/14)
سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان، وهو في أهل الميت، كما هو في الميت، فكيف يكون أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه، وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة، فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى ... الآيتين. فقيد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان، كما قال ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ... [ق: 18] الآية. ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 83- 84] ، فإن هذا إما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكة، ولا البشر. وأيضا فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل هي في مكان، أو قيل قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص، كما في قوله وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده.
وهذا المحتضر قد يكون كافرا وفاجرا، أو مؤمنا ومقربا. ولهذا قال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 88- 94] . ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقرب منه، دون من حوله، وقد يكون حوله قوله مؤمنون. وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] ، وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [الأنفال: 50] ، وقال وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] ، وقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] ، وقال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11] . ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ(9/15)
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
وهذا كقوله سبحانه: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: 3] ، وقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] ، وقال: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة: 17- 19] ، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه، دل على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة. فإن صيغة (نحن) يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربهم، فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم، فكان لفظ (نحن) هنا هو المناسب. وكذلك قوله:
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ فإنه سبحانه يعلم ذلك، وملائكته يعلمون ذلك، كما
ثبت في الصحيحين «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة.
فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.
ثم قال: وقوله: وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك، يعلمون ما توسوس به للعبد نفسه، كما قال أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] ، فهو يسمع، ومن يشاء من ملائكته. وأما الكتابة، فرسله يكتبون كما قال هاهنا: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ، وقال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] ، وأخبر بالكتابة (نحن) لأن جنده يكتبون بأمره، وفصّل في تلك الآية بين السماع والكتابة، لأنه يسمع بنفسه، وأما كتابه الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون. فقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مثل قوله: نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى:
51] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه الله. وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الرقاق، 31- باب من همّ بحسنة أو بسيئة. حديث 2435، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 207.(9/16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 17]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. ف (إذ) ظرف (لأقرب) وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما، ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي إلزام الحجة في الأخرى، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.
وقال القاشاني: بين تعالى بهذه الآية أقربيّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة، كما
قال أمير المؤمنين عليه السلام: هو مع كل شيء، لا بمقارنة، إذ الشيء به ذلك الشيء، وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه
. أي: يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية، للجزاء.
ثم قال: والمتلقي القاعد عن اليمين، هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة. وإنما قعد عن يمينه، لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية، والآراء الشيطانية والوهمية، والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال، لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة، وهي التي تلي البدن، ولأن الفطرة الإنسانية خيّرة بالذات، لكونها من عالم الأنوار، مقتضية بذاتها، وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال، وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال من كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح، أي التنزيه عن الغواشي البدنية، والهيئات الطبيعية، بالرجوع إلى مقره الأصليّ، وسنخه الحقيقيّ، وحاله الغريزي، لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ، بالنور الأصليّ والاستغفار، أي التنوّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية، بالنور الوارد كما روي أن كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين(9/17)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
لصاحب اليسار: دعه سبع ساعات، لعله يسبح أو يستغفر! انتهى.
وقد كثر في كلام القاشانيّ رحمه الله تأويل الملك بالقوة الحاثة على الخير، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء. قال بعض الحكماء: هذا الشيء الذي أودع فينا ونسميه قوة وفكرا، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا، ويسمي أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ، والعلم الواسع.
وقد سبق الغزاليّ إلى هذا المعنى، وعبّر عنه بالسبب وقال: إنه يسمى ملكا، فإنه، في شرح عجائب القلب من كتاب (الإحياء) ، بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم، قال: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسببا لخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا.. إلخ. والبحث كله غرر، تجدر مراجعته.
لطيفة:
قَعِيدٌ كجليس، بمعنى مجالس، لفظا ومعنى. وإنما أفرد رعاية للفواصل، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كقوله:
فإني وقيّار بها لغريب
وقيل: يطلق (فعيل) للواحد والمتعدد، كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] ، وضعف بأنه ليس على إطلاقه، بل إذا كان (فعيل) بمعنى (مفعول) بشروطه، وهذا بمعنى (فاعل) ، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على (فعيل) بمعنى (مفعول) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 18]
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي ملك يرقب عمله، عَتِيدٌ أي حاضر.
ولما ذكر استبعادهم للبعث، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي، فقال سبحانه:(9/18)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 19]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي شدّته المحيّرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل بِالْحَقِّ أي بالموعود الحق، والأمر المحقق، وهو الموت، فالباء للملابسة. أو بالموعود الحق من أمر الآخرة، والثواب والعقاب الذي غفل عنه، فالباء للتعدية. أي أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحوالها الباطنة، وأظهرتها عليه.
قال الشهاب: السكرة استعيرت للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلّا منهما مذهب للعقل، فالاستعارة تصريحية تحقيقية. ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية. وإثبات السكرة لها، تخييل. ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تفرّ. والجملة على تقدير القول. أي يقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار. وهل المشار إليه بذلك، الحق أو الموت؟ قال الطيبي: إن اتصل قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ.. إلخ بقوله فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وما معه، فالمشار إليه بذلك الحق، والخطاب للفاجر. أي جاءك أيها الفاجر الحق الذي أنكرته. وإن اتصل بقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ... إلخ، فالمشار إليه الموت. والالتفات لا يفارق الوجهين. والثاني هو المناسب، لقوله: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ بعده، وتفصيله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 20 الى 21]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: نفخة البعث ذلِكَ أي النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي وقت تحقق الوعيد، بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ قال ابن جرير: أي سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وهل هما ملكان، أو ملك جامع للوصفين، أو الأول ملك، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه، أو سائق من أعمالها، إلى مكان جزائها، وشهيد من أجزائها؟ أقوال:(9/19)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
وقال القاشاني: أي سائق من علمه، وشهيد من عمله، لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره، وما اختاره بعلمه. والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء، وحكمه بملاءمته له، سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه، وأغراه عليه وهمه وقوّاه أو أمرا علويّا روحانيّا بعثه عليه عقله، ومحبته الروحانية، وحرّضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه، وشاهده بالميل الغالب عليه، والحب الراسخ فيه.
والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه، وينطق عليه كتابه بالحق، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 22]
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ في المخاطب بهذا، أقوال ثلاثة:
أحدها- أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي، تنويها بمنة الإعلام بذلك، والتعريف به، ثم شدة نفوذ البصر به، والوقوف على غوامضه، بعد خلوّ الذهن عنه رأسا. والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك، فبصرك اليوم حديد، نافذ قويّ، ترى ما لا يرون، وتعلم ما لا يعلمون. ومثله آية ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] .
وثانيها- أنه الكافر، وأن الكلام على تقدير القول. أي: يقال له لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال، فكشفنا عنك غطاءك، بأن جلينا لك، ذلك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك. ومثله عن الكفار آية أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم: 38] ، وآية وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: 12] .
وثالثها- أنه الإنسان مطلقا، لقوله وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البرّ والفاجر، ورأى كل ما يصير إليه.
وعوّل ابن جرير في الأولوية على الثالث.(9/20)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله، أو غشاوة غطى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئا. فإذا كان يوم القيامة تيقظ، وزالت الغفلة عنه وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.
وقال القاشانيّ في تأويل الآية: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا لاحتجابك بالحس والمحسوسات، وذهولك عنه، لاشتغالك بالظاهر عن الباطن فَكَشَفْنا عَنْكَ بالموت غِطاءَكَ المادّي الجسمانيّ، الذي احتجبت به فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي إدراكك لما ذهلت عنه، ولم تصدق بوجوده، قويّ تعاينه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 23]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
وَقالَ قَرِينُهُ أي قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدم، أو الشيطان الذي قيض له مقارنا له يغويه، وهو الأظهر- كما اعتمده الزمخشري- لآية نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] ، ويشهد له قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ [ق: 27] ، هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي هذا شيء لديّ حاضر معدّ محفوظ. والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه. أي هذا ما لديّ عتيد لجهنم هيأته بإغوائي لها.
وقال القاشاني: وَقالَ قَرِينُهُ أي من شيطان الوهم الذي غرّه بالظواهر، وحجبه عن البواطن. هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ مهيأ لجهنم. أي ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية، وأنه ملكه، واستعبده في طلب اللذات البدنية، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 24]
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، على أنهما ملكان، لا ملك جامع للوصفين، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد، وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل، وتكريره على أنه أصله: ألق، ألق، ثم حذف الفعل الثاني، وأبقى ضميره مع الفعل الأول، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر. أو الألف(9/21)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
بدل من نون التأكيد، لأنها تبدل ألفا في الوقف، فأجرى الوصل مجراه- أوجه ذكروها-.
وقال ابن جرير: أخرج الأمر للقرين، وهو بلفظ واحد، مخرج خطاب الاثنين.
وفي ذلك وجهان من التأويل:
أحدهما- أن يكون القرين بمعنى الاثنين، كالرسول، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع. فردّ قوله: أَلْقِيا إلى المعنى.
والثاني- أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول. وهي أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين، فتقول للرجل: ويلك! ارحلاها، وازجراها، كما قال:
فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجترّ شيحا
وقال أبو ثروان:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا
وسبب ذلك منهم، أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه، اثنان. وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة. فجرى كلام الواحد على صاحبيه. ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلا: يا صاحبيّ، يا خليليّ. انتهى.
و (الكفّار) المبالغ في جحده وحدانية الله تعالى، وما جاء به رسوله صلوات الله عليه.
و (العنيد) المعاند للحق، وسبيل الهدى، لا يسمع دليلا في مقابلة كفره. وقد زاد على العناد بوصف:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 25]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي الكليّ، وهو الإسلام. أو المال. واستصوب ابن جرير أنه هنا كل حق وجب لله أو لآدميّ في ماله، لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه مُعْتَدٍ أي متجاوز الحد في الاعتداء على الناس، بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلما، كما قال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.(9/22)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
مُرِيبٍ أي شاكّ في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل.
وقال القاشانيّ: الخطاب في أَلْقِيا للسائق والشهيد اللّذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية، وغيابة جب الطبيعة الظلمانية، في نيران الحرمان. أو لمالك. والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل، كأنما قال: ألق، ألق، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية. ويقوّي الأول:
أنه عدد الرذائل الموبقة، التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم، ووقوعهم في نيران الجحيم، وبيّن أنها من باب العلم والعمل. والكفران ومنع الخير، كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية، لانهماكها في لذاتها، واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها، ومن حقها أن تذكره، وتبعث على شكره، ومكالبتها عليها، لفرط ولوعها بها، فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة، ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه، وغلبتهما عليه، وتعمقه فيهما، الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة. والعنود والاعتداء، كلاهما من إفراط القوة الغضبية، واستيلائها، لفرط الشيطنة، والخروج عن حد العدالة. والأربعة من باب فساد العمل. والريب والشرك. كلاهما من نقصان القوة النطقية، وسقوطها عن الفطرة، بتفريطها في جنب الله، وتصورها عن حد القوة العاقلة. وذلك من باب فساد العلم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 26]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: عبد معه معبودا آخر من خلقه فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أي عذاب جهنم.
لطيفة:
الموصول إما مبتدأ مضمن معنى الشرط، وخبره فَأَلْقِياهُ أو مفعول لمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ أو بدل من (كل كفار) فيكون (فألقياه) تكريرا للتوكيد. قيل على الأخير: إنه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف. وأجيب: بأنه من باب (وحقك ثم حقك) نزل التغاير بين المؤكد والمؤكد، والمفسّر والمفسّر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي. ولو جعل (العذاب الشديد) نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله، على أنه من باب(9/23)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] ، كان حسنا.
قال الشهاب (بعد نقله ما ذكر) : قال ابن مالك في (التسهيل) : فصل الجملتين في التأكيد ب (ثم) إن أمن اللبس، أجود من وصلهما. وذكر بعض النحاة الفاء. وذكر الزمخشريّ في (الجاثية) الواو أيضا. واتفق النحاة على أنه تأكيد اصطلاحيّ، وكلام أهل المعاني في إطلاق منعه غير سديد. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 27]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ قَرِينُهُ أي قرين هذا الإنسان الكفار المناع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا، متبرئا منه رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي بالإرابة ومنع الإسلام، وجعل إله آخر معك وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي في طريق جائر عن سبيل الهدى، جورا بعيدا بنفسه.
قال القاشاني: وقول الشيطان ما أَطْغَيْتُهُ ... إلخ كقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] ، لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد، بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية، والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية، لم يقبل وسوسة الشيطان، وقبل إلهام الملك.
فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب من نور الفطرة، واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة. انتهى.
وقال ابن جرير: وإنما أخبر تعالى عن قول قرين الكافر له يوم القيامة، إعلاما منه عباده، تبرّأ بعضهم من بعض يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 28]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي لا تختصموا اليوم في دار الجزاء، وموقف الحساب، فلا فائدة في اختصامكم، وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني، وخالف أمري ونهيي في كتبي، وعلى ألسن رسلي.
قال القاشاني: النهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاءه، بل عدم فائدته،(9/24)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
والاستماع إليه. كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي. وقد ثبت وصح تقديم الوعيد، حيث أمكن انتفاعكم به، لسلامة الآلات، وبقاء الاستعداد، فلم تنتفعوا به، ولم ترفعوا لذلك رأسا، حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم، ورانت على قلوبكم، وتحقق الحجاب، وحق القول بالعذاب. انتهى.
وعن ابن عباس: أنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 29]
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ قال ابن جرير: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فلا أعذب أحدا بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
وقال القاشاني: وَما أَنَا بِظَلَّامٍ حيث وهبت الاستعداد، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة، واستبدال ما يفنى بما يبقى.
تنبيهات:
الأول- ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته، إذ لا مانع منها. وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.
قال القاشانيّ: هذه المقاولات كلها معنوية، مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب، عند ارتسام مثاله في الخيال. فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان. وإنكار الشيطان إياه، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه: الوهمية والعقلية، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه: كالغضبية والشهوية مثلا. ولهذا قال: لا تَخْتَصِمُوا ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية، كان أصل التخاصم بينهما. وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر، لتوقع نفع أو لذة، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلا، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب، تدارءا، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى(9/25)
الآخر، لاحتجابهما عن التوحيد، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه، لمحبة نفسه. ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبيّ عليه السلام: ورأيت أهل النار يتعاورون. وصوّب عليه السلام قوله. انتهى.
الثاني إن قلت: لم طرحت الواو من جملة قالَ قَرِينُهُ وذكرت في الأولى؟
قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون.
فإن قلت: أين المقاولة؟ قلت: لما قال قرينه هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ وتبعه قوله: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وتلاه لا تَخْتَصِمُوا علم أن ثمّ مقاولة من الكافر، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين: هذا ما لديّ عتيد، قال الكافر: ربّ هو أطغاني، فلما قال الكافر ذلك، قال القرين: ما أطغيته، فلما حكى قول القرين والكافر كأن قائلا يقول: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال لا تختصموا لديّ. وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه ما قاله له- هذا ملخص ما في الكشاف-.
الثالث- جوز قوله تعالى: بِالْوَعِيدِ أن تكون الباء زائدة في المفعول، وأن يكون حالا من الفاعل أو المفعول، والباء للملابسة، أو المعية، والمعنى: قدمت هذا القول موعدا لكم به، أو حال كون القول ملتبسا بالوعيد، أو من لا تَخْتَصِمُوا على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به. أي: لا تختصموا عالمين به. وذلك لتصح الحالية، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم.
الرابع- دل قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى، كما لا إخلاف في ميعاد الله. وهذا يرد على المرجئة، حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف، لا يحقق الله شيئا منه، وقالوا: الكريم إذا وعد أنجز ووفّى، وإذا أوعد أخلف وعفا- أفاده الرازيّ-.
ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى، والخلف في أخباره- تقدس عن ذلك- مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة، إلا أن يتاب منه، أو يشاء تعالى العفو عنه.
الخامس- ذكروا في سر المبالغة في بِظَلَّامٍ وجوها:(9/26)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
منها- أن (فعّالا) قد ورد بمعنى (فاعل) ، فهذا منه.
ومنها اعتبار كثرة الخلق.
ومنها- أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم، إن عظيما فعظيم، وإن قليلا فقليل. فما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه، قدس ذاته عما يتوهم مخذول، والعياذ بالله، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 30]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال ابن جرير: فيه لأهل التأويل قولان:
الأول- أن معناه: ما من مزيد. فعن مجاهد قال: وعدها الله ليملأنها فقال:
هلا وفّيتك؟ قالت: وهل من مسلك؟!.
الثاني- معناه: زدني أي: فالاستفهام على الأول إنكاريّ. معناه النفي، وأيد بآية لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] و [السجدة: 13] ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وعلى الثاني تقريريّ، دلالة على سعتها. بحيث يدخلها من يدخلها، وفيها فراغ وخلوّ. كأنه يطلب الزيادة.
فإن قيل: الوجه الثاني، وهو كونها فيها فراغ، مناف لصريح النظم من قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.. الآية، قلت لا منافاة بينهما كما توهم، لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها، وإن كان فيها فراغ كثير. كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها، ليس فيها دار خالية، مع ما بينها من الأبنية والأفضية. أو هذا باعتبار حالين.
فالفراغ في أول دخول أهلها فيها، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.
تنبيه:
ذهب جماعة إلى أن المقاولة في الآية مجاز على طريق الاستعارة التمثيلية، وأن جهنم لشدة توقدها وزفيرها. وتهافت الكفرة والعصاة، وقذفهم فيها كأنها طالبة للزيادة.(9/27)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
وآخرون إلى أن ذلك حقيقة.
قال الناصر في (الانتصاف) : إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه. وكيف نفرض، وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك؟ منها هذا، ومنها لجاج الجنة والنار، ومنها اشتكاؤها إلى ربها، فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا، فظواهر يجب حملها على حقائقها، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر، ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة، والعقل يجوّز، والظواهر قاضية بوقوع ما جوّزه العقل. وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه. ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة، لا تسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق. وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق. انتهى.
قال الشهاب: وهو كلام حسن، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا. انتهى.
ولا تنس ما قلناه مرارا من أن اللغة لا تنحصر في الحقيقة، وأن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، كما أوضحه السيوطي في (المزهر) والجرجاني في (أسرار البلاغة) . وفي شواهد العرب الكثيرة ما يؤيد المجاز، ولا محذور فيه، عدا عن كونه أبلغ، كما قرروه. وبالجملة فالنظم الكريم يحتملها- والله أعلم-.
و (يوم) منصوب ب (ظلّام) أو بمضمر، نحو: اذكر وأنذر. و (المزيد) إما مصدر كالمحيد، أو اسم مفعول كالمبيع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 31]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت وأدنيت لِلْمُتَّقِينَ أي للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته، بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه غَيْرَ بَعِيدٍ أي مكانا غير بعيد. فهو صفة للظرف قام مقامه، أو حال من الجنة. وتذكيره لأنه صفة مذكر. أي: شيئا غير بعيد.
أو تأويل الجنة بالبستان. أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث، فعومل معاملته، وأجري مجراه. وعلى كل فهو للتأكيد، ودفع التجوز، فلا يقال بعد ذكر كونها قربت، لا يحتاج إلى كونها غير بعيدة.(9/28)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 32]
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
هذا أي الثواب أو الإزلاف ما تُوعَدُونَ أيها المتقون لِكُلِّ أَوَّابٍ أي راجع عن معصية الله إلى طاعته، تائب من ذنوبه حَفِيظٍ أي حافظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.
وقال القاشانيّ: أي محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي، كي لا يتكدر بظلمة النفس و (لكل) بدل من (للمتقين) بإعادة الجار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 33]
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف الله في سره. وقال القاشانيّ: أي من اتصف بالخشية، وصارت الخشية مقامه. و (من) بدل بعد بدل، أو خبر لمحذوف.
أي هم من خشي. أو مبتدأ خبره ما بعده بتأويل (يقال لهم ادخلوها.. إلخ) وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه، راجع مما يكرهه تعالى إلى ما يرضيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 34 الى 35]
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي يقال لهم ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي مما تشتهيه نفوسهم، وتلذه أعينهم وَلَدَيْنا مَزِيدٌ أي مما لا يخطر على بالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 36]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء المشركين من قريش مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة، كعاد وفرعون وثمود فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها. قال امرؤ القيس:(9/29)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
لقد نقّبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي هل كان لهم، بتنقيبهم في البلاد، من معدل عن الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق. والضمير على هذا في (نقبوا) للقرن الذين هم أشد بطشا. وجوز عوده لهؤلاء المشركين. أي ساورا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟.
قال ابن جرير: وقرأت القراء قوله فَنَقَّبُوا بالتشديد وفتح القاف، على وجه الخبر عنهم. وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ فَنَقَّبُوا بكسر القاف، على وجه التهديد والوعيد. أي طوفوا في البلاد وترددوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 37]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاك القرون التي أهلكت من قبل قريش لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الآمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحل بهم مثل الذي حلّ بهم من العذاب.
أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى للأخبار، عن هذه القرون التي أهلكت، بسمعه.
وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر القلب، متفهم لما يخبر به عنهم، غير غافل ولا ساه.
على أن (شهيد) من الشهود، وهو الحضور. والمراد: المتفطن، لأن غير المتفطن كالغائب، فهو استعارة أو مجاز مرسل. أو (شهيد) بمعنى شاهد، وفيه مضاف مقدر. أي: شاهد ذهنه. أو هو من الشهادة، والمراد: شاهد بصدقه، أي: مصدق له، لأنه المؤمن الذي ينتفع به. أو هو كناية عن المؤمن- نقله الشهاب-.
لطيفة:
قيل: (أو) لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع، أو إلى فقيه ومتعلم، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده، وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته، وأزال الموانع بأسرها. وفي تنكير (القلب) وإبهامه، تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر، كلا قلب.(9/30)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 38]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي إعياء.
قال قتادة: أكذب الله اليهود وأهل الفري على الله، وذلك أنهم قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 39 الى 40]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني: المشركين من إنكار البعث والتوحيد والنبوة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي أعقاب الصلوات. والمراد بالتسبيح إما ظاهره، وهو قرين التحميد، أو هو الصلاة، من إطلاق الجزء، أو اللازم على الكل، أو الملزوم. فالصلاة قبل الطلوع، الصبح.
وقبل الغروب، الظهر والعصر. ومن الليل، العشاآن والتهجد. وأدبار السجود. النوافل بعد المكتوبات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : الآيات 41 الى 42]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي استمع، أي لما أخبرك به من أهوال القيامة. يوم ينادي مناديها من كل مكان قريب، بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء.
قال القاضي: ولعله في الإعادة نظير (كن) في الإبداء، أي فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة، وإن لم يكن نداء وصوت.(9/31)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
وفي ورود الأمر مطلقا، ثم تبيينه بما بعده، تهويل وتعظيم للمخبر به، لما في الإبهام ثم التفسير، من التهويل والتفخيم لشأن المحدث عنه.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ أي صيحة البعث من القبور، والحشر للجزاء بِالْحَقِّ قال ابن جرير: يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.
ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي من القبور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 43]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي مصير الجميع يوم القيامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 44]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي فيخرجون منها مسرعين ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب، علينا سهل بلا كلفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ق (50) : آية 45]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني: مشركي مكة، من فريتهم على الله ورسوله، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث. وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط ومسيطر تقهرهم على الإيمان فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي بل إنما بعثت مذكرا ومبلغا، فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعد به من عصى وطغى، فإنه ينتفع به.
ومن دعاء قتادة: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعدك، يا بارّ يا رحيم!(9/32)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
قال المهايميّ: سميت بها لأنها مبدأ الخيرات، فأشبهت العناية الإلهية. وهي مكية. وآيها ستون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1)
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني: الرياح التي تذرو البخارات ذروا. أي نوعا من الذرو ليعقدها سحبا. أو النساء الولود، فإنهن يذرين الأولاد، مجازا شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وهو استعارة أيضا شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها.
والذَّارِياتِ اسم فاعل (ذرا) المعتل بمعنى فرّق وبدّد ما رفعه عن مكانه.
ويقال: أذرى أيضا. وأما (ذرأ) المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 2]
فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2)
فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي السحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك.
و (الوقر) بسكر الواو، كالحمل وزنا ومعنى. وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول.(9/33)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 3 الى 4]
فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي السفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب التي تجري في منازلها. ويُسْراً صفة مصدر محذوف. أو جريا ذا يسر فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً أي الملائكة التي تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة. أو الرياح يغسمن الأمطار بتصريف السحاب.
تنبيهات:
الأول- ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن عليّ رضي الله عنه: أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة.
واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى: فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والملائكة فوق الجميع، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.
واستظهر الرازيّ أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح، وأطال في ذلك.
واللفظ متسع بجوهره للكل- والله أعلم-.
الثاني- فائدة (الفاء) إن قيل إنها صفات الرياح، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود. فإن الذاريات تنشئ السحاب. فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل إنها أمور أربعة، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ.
الثالث- ذكر الرازيّ في الحكمة في القسم وجوها:
أحدها- أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبيّ صلى الله عليه وسلم غالبا في إقامة الدليل، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وأنه يغلبنا بقوة الجدل، لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل، ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني لعمله بطريق الجدل، وعجزي عن ذلك.
وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول: والله! إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول، إن(9/34)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
ذلك تقرير بقوة علم الجدل، فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالأيمان، وترك إقامة البرهان.
ثانيها- أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع. ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر من الأيمان بكل شريف، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا.
وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا، وإلا لأصابه شؤم الأيمان، ولناله المكروه في بعض الأزمان.
ثالثها- أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها، كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان. مثاله قول القائل لمنعمه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك. فيذكر النعم، وهي سبب مفيد لدوام الشكر، ويسلك مسلك القسم. كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة.
فإن قيل: فلم أخرجها مخرج الأيمان؟ نقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف، يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر، فبدأ بالحلف، وأدرج الدليل في صورة اليمين، حيث أقبل القوم على سماعه، فخرج لهم البرهان المبين، والتبيان المتين، في صورة اليمين. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ جواب القسم و (ما) موصولة أو مصدرية. والموعود هو قيام الساعة، وبعث الموتى من قبورهم. و (صادق) بمعنى صدق. فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب (عيشة راضية) . وَإِنَّ الدِّينَ أي الجزاء على الأعمال. إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر لَواقِعٌ أي لحاصل. قال قتادة: وذلك يوم القيامة، يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 9]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب.
و (الحبك) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء، إذا ضربته الريح.(9/35)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
وكذلك حبك الشّعر: آثار تثنّيه وتكسّره. و (الحبك) بضمتين جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب. أو حبيكة كطريقة وطرق. قال زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النّجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك
ويقال: ما أملح حباك هذه الحمامة! وهو الخط الأسود على جناحها.
وعن الحسن: (ذاتِ الْحُبُكِ) أي النجوم قال: حبكت بالخلق الحسن، حبكت بالنجوم. وذلك لأنها تزين السماء، كما يزين الثوب الموشّى تحبيكه، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازا بالاستعارة.
وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة، بمعنى محبوكة، أي: مربوطة.
فمعنى (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة. فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الأفرنج أنهم مكتشفوها. وعليه، في إحدى معجزات القرآن العلمية. انتهى.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض. قال ابن زيد: يتخرصون يقولون: هذا سحر ويقولون: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُؤْفَكُ أي يصرف عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه.
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتنافي أغراضها، بالطرائق للسموات في تباعدها، واختلاف غاياتها.
ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 13]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي لعن الآخذون بالتخمين، مع ترك دلائل اليقين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة، وترك الشبهات الواهية ساهُونَ أي غافلون عما أتاهم، وعما نزل إليهم، بالانهماك في اللذات البدنية، واستئثار الحظوظ العاجلة يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى يوم الجزاء، ويوم(9/36)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
يدين الله العباد بأعمالهم يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون. وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه. ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه.
قال القاضي: جواب للسؤال. أي يقع يوم هم على النار يفتنون، أو هو يوم هم.. إلخ، وفتح (يوم) لإضافته إلى غير متمكن، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 14]
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي مقولا لهم: ذوقوا عذابكم الذي طلبتموه، بل الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي حصوله في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 19]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الله بطاعته، واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال ابن جرير: أي عاملين ما أمرهم به ربهم، مؤدين فرائضه. وقال غيره: أي قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ، راضين به.
وهذا هو الوجه. ولذا قال ابن كثير: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر، لأن قوله تبارك وتعالى آخِذِينَ حال من قوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون، آخذين ما آتاهم ربهم. أي من النعيم والسرور والغبطة.
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ يعني: في الدنيا مُحْسِنِينَ أي قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم، كما بينه بقوله سبحانه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى، بنشاط.
روى ابن جرير عن أنس في الآية أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.(9/37)
وعن محمد بن عليّ: كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة.
وعن مطرّف: قلّ ليلة أتت عليهم، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.
وعن الحسن قال: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال: لست من أهل هذه الآية.
وعن الضحاك: أن الوقف على قوله تعالى كانُوا قَلِيلًا أي أن المحسنين كانوا قليلا ثم ابتدئ فقيل مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ و (ما) نافية. أي لا يهجعون.
قال ابن كثير: هذا القول فيه بعد وتعسف.
لطيفة:
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم، وترك الاستراحة.
وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما) لأنها تدل على القلة. وبالجملة. ففي الآية استحباب قيام الليل، وذم نومه كله. والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال القاضي: أي أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
قال الرازيّ: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجّدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، فيستغفرون من التقصير. وهذا سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير. واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره، ويمنّ به. وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه تعالى، لما بين أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع، قال يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبيّنها في جواب سؤال: وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع،. ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار، في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.
ثم قال: والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم: ربنا اغفر لنا.
وطلب المغفرة بالفعل، أي بالأسحار. يأتون بفعل آخر طلبا للغفران، وهو الصلاة.
والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. انتهى.(9/38)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها. والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار، الإشارة إلى أنه ركنها المهم في التهجد، بل وفي غيره، فيكون من إطلاق الجزء على الكل. وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها. كالركوع والسجود وبين السجدتين وآخر الصلاة، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن- وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.
لطيفة:
قال الزمخشريّ في (أساس البلاغة) إنما سمي (السحر) استعارة، لأنه وقت إدبار الليل، وإقبال النهار، فهو متنفس الصبح. انتهى.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي الفقير المتعفف الذي يظن غنيا، فيحرم الصدقة.
قال قتادة: هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفه، وفقير متعفف ولكليهما عليك حق، يا ابن آدم.
وفي الصحيح «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للسائل حق وإن جاء على فرس. ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجهه.
ويدخل في (المحروم) كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف. ولذا عوّل عليه الأكثر.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما، أو يقرون بها ضيفا، أو يحملون بها كلّا.
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، لكثرة الآيات الواضحة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 20]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 2- سورة البقرة، 48- باب لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، حديث رقم 788، عن أبي هريرة.(9/39)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي عبر وعظات لأهل اليقين، وهم الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس، وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، عبرا وآيات عظاما، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته، جل جلاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 21]
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها، في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب، ولا لسان بليغ.
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكير والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشيّ:
وإذا نظرت تريد معتبرا ... فانظر إليك، ففيك معتبر
أنت الذي تمسي وتصبح في ال ... دّنيا وكلّ أموره عبر
أنت المصرّف كان في صغر ... ثم استقلّ بشخصك الكبر
أنت الذي تنعاه خلقته ... ينعاه منه الشّعر والبشر
أنت الذي تعطى وتسلب، لا ... ينجيه من أن يسلب الحذر
أنت الذي لا شيء منه له ... وأحقّ منه بما له القدر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 22]
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ يعني ب (السماء) المزن، وب (الرزق) المطر، فإنه سبب الأقوات. والمراد ب ما تُوعَدُونَ العذاب السماويّ، لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها. والخطاب لمشركي مكة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 23]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر(9/40)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم. والضمير في (إنه) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق، أو أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أو إلى ما تُوعَدُونَ ويؤيد الأخير ما تأثره من أنباء وعيد المكذبين، وبدأ منها بنبإ قوم لوط، لأن قراهم واقعة في ممرهم إلى فلسطين للاتجار، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ يعني: الملائكة الذي دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشريّ: فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي. وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى، أو أنهم في أنفسهم مكرمون.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ أي سلام عليكم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم لا أعرفكم. وهو كالسؤال منه عن أحوالهم، ليعرفهم. فإن قولك لمن لقيته:
أنا لا أعرفك! في قوة قولك: عرف لي نفسك وصفها.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم في خفية من ضيوفه. ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفّه ويعذره- قاله الزمخشريّ- وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد: أنه لا يقال راغ، إلا إذا ذهب على خفية وأنه يقال روّغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمنا. قال الناصر: وهو من هذا المعنى، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى. ومن مقلوباته (غور الأرض) والجرح. وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى. انتهى.
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي قد أنضجه شيا فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أي بأن وضعه بين أيديهم قالَ أَلا تَأْكُلُونَ أي منه. قال القاضي: وهو مشعر بكونه حنيذا. والهمزة فيه للعرض، والحث على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله أول ما وضعه. وللإنكار، إن قاله حينما رأى إعراضهم.(9/41)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي أضمرها، لظنه أنهم أرادوا به سوءا قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يبلغ ويكمل علمه فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي صيحة فَصَكَّتْ أي لطمت وَجْهَها أي تعجبا، على عادة النساء في كل غريب عندهن وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي عاقر ليس لي ولد قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي مثل الذي قلنا وأخبرنا به، قال ربك، فإنما نخبرك عن الله. فأقبلي قوله، ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة، ولا الجهل، بعدم قبولك للولادة. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
قالَ أي إبراهيم لضيفه فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم وشأنكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي مؤاخذتهم لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي رجما لهم على فعلهم الفاحشة مُسَوَّمَةً أي مرسلة، أو معلّمة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي المتعدّين حدود الله. الكافرين به فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في تلك القرية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة، وهم لوط وابنتاه عليهم السلام. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني بيت لوط عليه السلام وَتَرَكْنا فِيها أي في تلك القرية آيَةً أي علامة تدل على إهلاكهم الدنيويّ الدال على الأخرويّ لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي في الآخرة وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 40]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
وَفِي مُوسى عطف على (فيها) بإعادة الجار، لأن المعطوف عليه ضمير مجرور. أي وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه، آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه.
إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي ببرهان ظاهر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي(9/42)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
فأعرض عن الإيمان. والركن: جانب الشيء. ف (ركنه) جانب بدنه، فالتولي به كناية عن الإعراض. والباء للتعدية، لأن معناه ثنى عطفه. أو للملابسة. أو الركن فيه بمعنى الجيش، لأنه يركن إليه، ويتقوى به، والباء للمصاحبة أو للملابسة. وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فأغرقناهم في البحر هُوَ مُلِيمٌ
أي آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 41 الى 42]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي عادٍ أي وتركنا في عاد، قوم هود عليه السلام آية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ أي التي لا خير فيها من إنشاء مطر، أو إلقاح شجر. وهي ريح الهلاك.
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي الشيء الهالك. وأصل الرميم: البالي المفتت، من عظم أو نبات أو غير ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 43 الى 45]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
وَفِي ثَمُودَ أي وتركنا في ثمود، قوم صالح عليه السلام إِذْ قِيلَ لَهُمْ أي بعد عقرهم الناقة تَمَتَّعُوا أي في داركم حَتَّى حِينٍ يعني: ثلاثة أيام، كما بينته الآية الأخرى.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن امتثاله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني العذاب الحالّ بهم، المعهود وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي إليها. فإنها نزلت بهم نهارا.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي نهوض، فضلا عن دفاع عذاب الله وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 46]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)
وَقَوْمَ نُوحٍ قرئ بالجر عطفا على وَفِي ثَمُودَ أو المجرورات قبل.(9/43)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
وبالنصب مفعولا لمضمر دل عليه السياق والسباق. أي وأهلكنا قوم نوح. أو عطفا على مفعول أَخَذْناهُ
أو على محل وَفِي مُوسى مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي: مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 48]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48)
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي رفعناها بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون على الإيساع، كما أوسعنا بناءها. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها أي مهدناها ليتمتعوا بها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي لهم. وفي إيثار صيغة فاعل من (مهد على فرش) إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلا واسما، فيكون في أحدهما أرق وألطف وأفصح، فيؤثر على غيره في ظرف، ويؤثر عليه غيره في آخر. والمرجع الذوق- كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 49]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي ذكرا وأنثى، أو نوعين متقابلين.
قال ابن كثير: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض. وليل ونهار. وشمس وقمر. وبر وبحر. وضياء وظلام. وإيمان وكفر. وموت وحياة. وشقاء وسعادة. وجنة ونار. حتى الحيوانات والنباتات. انتهى. وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد، وعبارة ابن جرير:
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد: وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له، مخالفا في معناه. فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذلك قيل خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله: خلقه على قدرته على خلق ما يشاء، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين، فلا يجوز أن يوصف بالكمال، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة. انتهى.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال ابن جرير: أي لتذكّروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها(9/44)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
المشركون بالله، أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة، هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء، لا ما لا يقدر على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 50]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي فرّوا من عقابه إلى رحمته، بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته. قال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة، كأنه فر لمأمنه. فهو استعارة تمثيلية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحلّه بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 51]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قد أبان النذارة قال أبو السعود: وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكرير- كما قيل- بل بالنهي عن سببه، وإيجاب الفرار منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 54]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
كَذلِكَ أي كما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ يعني تقليدا لآبائهم، واقتداء لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف، ومشرع تعنتهم متحد. وقوله تعالى:
أَتَواصَوْا بِهِ إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء، فضلا عن التفوّه بها. أي أأوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه. وقوله تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك، وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصي وأشنع منه، من الطغيان الشامل للكل، الدالّ على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم، بمقتضى جبلته الخبيثة، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك- أفاده أبو السعود-.(9/45)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن مقابلتهم بالأسوإ كقوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: 48] ،. وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: 10] ، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي في إعراضهم، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر، وما عليك من حسابهم من شيء.
تنبيه:
قول بعض المفسرين هنا- فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي فأعرض عن مجادلتهم، بعد ما كررت عليهم الدعوة- بعيد عن المعنى بمراحل، لأن مجادلتهم مما كان مأمورا بها على المدى، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52] .
وكذا قول البعض في قوله تعالى: فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي في إعراضك بعد ما بلغت فإنه مناف للأمر بالذكرى بعد. فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية، لأنه المحاكي لنظائرها. وأقعد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر- كما قيل-: وخير ما فسرته بالوارد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 55]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
وَذَكِّرْ أي عظهم فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي من قدّر الله إيمانه، أو الذين آمنوا، فإنهم المقصودون من الخلق، لا من سواهم، إذ هم العابدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 56]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي لهذه الحكمة، وهي عبادته تعالى:
بما أمر على لسان رسوله، إذ لا يتم صلاح، ولا تنال سعادة في الدارين، إلا بها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : الآيات 57 الى 58]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بيان(9/46)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
لعظمته عزّ وجلّ، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة، وبواسطة كاسب عبيدهم، قدّر أرزاقهم والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما، بل هو الذي يرزقهم. وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 59]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد، ذَنُوباً أي نصيبا وافرا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية. وأصل (الذنوب) الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء. وهي تذكّر وتؤنّث، فاستعيرت للنصيب مطلقا، شرا كالنصيب من العذاب في الآية، أو خيرا كما في العطاء في قول عمرو بن شاس:
وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس من نداك ذنوب
وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب، فيعطى لهذا ذنوب، ولآخر مثله.
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل لأجله، فإنه لا بد آتيهم، ولكن في حينه، المؤخر لحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (51) : آية 60]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي أوعدوا فيه نزول العذاب بهم، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد. و (اليوم) إما يوم القيامة، أو يوم بدر.
قال أبو السعود: والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية.
والثاني هو الأوفق لما قبله، من حيث إنهما من العذاب الدنيوي- والله أعلم-.(9/47)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
قال المهايميّ: سميت به لأنه لما تضمن تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم، فيعظم الاهتمام بالعمل، لا سيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته. وهذا من أعظم مقاصد القرآن وهي مكية، وآيها تسع وأربعون.
روي الشيخان «1» ومالك عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
وروي البخاري «2» : عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني اشتكي! فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة. فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 52- سورة الطور، 1- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 465.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 174.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، 52- سورة الطور، 1- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 309.(9/48)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
وَالطُّورِ أي طور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى، صلوات الله عليه.
كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى.
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب. والمراد به القرآن، أو ما يعمّ الكتب المنزلة.
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ متعلق ب مَسْطُورٍ. أي وكتاب سطّر في ورق منشور يقرأ على الناس جهارا. و (الرق) الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أي الذي يعمر بكثرة غاشيته، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمّار والطائفين والعاكفين والمجاورين. وروي أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض. يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا.
والأول أظهر، لأنه يناسب ما جاء في سورة (التين) من عطف الْبَلَدِ الْأَمِينِ على طُورِ سِينِينَ والقرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته، وتماثلها كثيرا، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب.
قال المهايميّ: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه، ولأنه مظهر الوحي، ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين، ولأنه أجلّ الآيات وأكبرها. كما دل عليه آية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وآيات أخر.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء. وجعلها سقفا لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه.
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي المملوء، أو الذي يوقد، أي يصير نارا، كقوله وَإِذَا(9/49)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
الْبِحارُ سُجِّرَتْ
[التكوير: 6] ، قال ابن جرير: والأول أولى. أعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض، لأن الأغلب معاني (السّجر) الإيقاد أو الامتلاء. فإذا كان البحر غير موقد اليوم، ثبتت له الصفة الثانية وهو الامتلاء، لأنه كل وقت ممتلئ. ولا تنس ما قدمنا في أوائل (الذّاريات) من أن هذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 7 الى 16]
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي يدفعه عن المكذبين فينقذهم منه إذا وقع. يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تضطرب وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء منثورا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بالحق الجاحدين له الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي من الاعتساف والاستهزاء يَلْعَبُونَ أي بآيات الله ودلائله يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يدفعون إليها بعنف. يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته فيه بإزعاج هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي يقال لهم ذلك أَفَسِحْرٌ هذا أي الذي وردتموه الآن. والفاء للسببية، لتسبب هذا عما قالوه في الوحي أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي كما كنتم لا تبصرون في الدنيا. قال الزمخشريّ: يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عميا عن الخبر. وهذا تقريع وتهكم. اصْلَوْها أي:
ذوقوا حرّ هذه النار فَاصْبِرُوا أي على ألمها أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران. الصبر وعدمه سواء عليكم إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم، وكفركم به.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ إلخ؟ قلت لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء، ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.(9/50)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ جمع (عيناء) وهي الواسعة العين، في حسن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 21]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أي اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي في الجنات والنعيم. والخطاب، لما كان مع الصحابة رضي الله عنهم، وهم واثقون بوعد الله، تمم لهم البشارة بالموعود به، بأنه ينال ذريتهم أيضا، إن اتبعوا آباءهم بإحسان، هذا هو المراد من الآية. وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به، إن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحا ولا تلويحا وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئا كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 22 الى 24]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي زدناهم وقتا بعد وقت، ما ذكر.
يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وباطله، ولا يفعلون ما يؤثم(9/51)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
به فاعله، كما كان في الدنيا. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي مصون في كنّ، فهو أنقى له، وأصفى لبياضه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 28]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، والتحدث بالنعمة، وذلك في مساءلة بعضهم بعضا عما مضى لهم في الدنيا. قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي خائفين من عذاب الله فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ يعني: عذاب النار. وأصل (السّموم) الريح الحارة التي تدخل المسامّ، فسميت بها نار جهنم، لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا، أعرف. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أي نعبده مخلصين له الدين إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي المحسن بمن دعاه الرَّحِيمُ أي لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 29]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29)
فَذَكِّرْ أي من أرسلت إليهم وعظهم فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ أي تتكهن فيما تدعو إليه وَلا مَجْنُونٍ أي له رئيّ من الجن يخبر عنه قومه ما أخبر عنه، كما يعتقده العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 30 الى 31]
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي حوادث الدهر أو الموت، لأن (المنون) قد يراد به الدهر، وريبه صروفه. وقد يراد به الموت، وريبه نزوله. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي: حتى يأتي أمر الله فيكم. والأمر للتهكم بهم والتهديد.(9/52)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 32 الى 34]
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أي عقولهم بهذا التناقض في القول، أَمْ أي بل هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي مجاوزن الحد في العناد، مع ظهور الحق أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق هذا القرآن من عند نفسه، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يريدون أن يؤمنوا حسدا وتقليدا، فلذلك يرمونه بتلك القرى. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي في الهداية بذاك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة. كقوله: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ [القصص: 49] ، إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي في زعمهم، فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض، في ميدان التساجل والتراسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال ابن جرير: أي أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة. وقد قيل: إن معنى ذلك أم خلقوا لغير شيء، كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، بمعنى: لغير شيء أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي أنفسهم، أو هذا الخلق، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، لأن للخالق الأمر والنهي أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أي بوعيد الله، وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي خزائن رزقه، فهم لاستغنائهم معرضون أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي الجبابرة المتسلطون أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ أي مرتقي إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي(9/53)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
الوحي، فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حق. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدق دعواه أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أي حيث جعلوا، لسفاهة رأيهم، الملائكة إناثا، وأنها بناته تعالى، مع أنه وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: 58] ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ أي من التزام غرامة مُثْقَلُونَ أي منه ما شاءوا، وينبئون الناس عنه بما أرادوا أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي بالرسول وما جاء به، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي الممكور بهم دونك، فثق بالله، وامض لما أمرك به أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ أي له العبادة على جميع خلقه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزيها له عن شركهم، وعبادتهم معه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 44]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ هذا جواب لمشركي قريش الذين كانوا يستعجلون العذاب، ويقترحون الآيات كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، إلى قوله: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: 90- 92] .
قال الزمخشريّ: يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم، لو أسقطناه عليهم لقالوا:
هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض، يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : الآيات 45 الى 46]
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
فَذَرْهُمْ أي يخوضوا ويلعبوا، ويلههم الأمل، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله، شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 47]
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي دون يوم القيامة، وهو إما عذاب القبر،(9/54)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
أو القحط، أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم- أقوال للسلف- واللفظ صادق بالجميع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي سنة الله في أمثالهم من الفجرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 48]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي الذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلغ رسالاته. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا قال ابن جرير: أي بمرأى منا، نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقال الشهاب: يعني أن العين، لما كان بها الحفظ والحراسة، استعيرت لذلك، وللحافظ نفسه، كما تسمى (الربيئة) عينا، وهو استعمال فصيح مشهور. ونكتة جمع (العين) هنا وإفرادها في قصة الكليم، عدا عن أنه جمع هنا لما أضيف لضمير الجمع، ووحد ثمة لإضافته الواحد، هو المبالغة في الحفظ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم، لأن المقصود تصبير حبيبه على المكايد ومشاقّ التكاليف والطاعة. فناسب الجمع، لأنها أفعال كثيرة، يحتاج كل منها إلى حارس بل حراس. بخلاف ما ذكر هناك من كلاءة موسى عليه السلام وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي من منامك.
روى الإمام أحمد «1» عن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: رب اغفر لي (أو قال: ثم دعا) استجيب له. فإن عزم فتوضأ ثم صلى، قبلت صلاته» . وأخرجه البخاريّ «2» في صحيحه وأهل السنن.
وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم قول: سبحان الله وبحمده، سبحان القدوس. و: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم أستغفر لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما. ولا تزغ قلبي بعد إذا هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وقيل: حين تقوم إلى الصلاة- روى مسلم «3» في صحيحه عن عمر، أنه كان
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 313.
(2) أخرجه في: التهجد، 21- باب حدثنا علي بن عبد الله، حديث رقم 634.
(3) أخرجه في: الصلاة، حديث رقم 52.(9/55)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
يقول في: ابتداء الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول ذلك. وعن مجاهد: حين تقوم من كل مجلس. وكذا قال عطاء وأبو الأحوص.
روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك- إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك- رواه الترمذيّ وصححه، وكذا الحاكم.
وأخرجه أبو داود والنسائيّ والحاكم عن أبي برزة الأسلميّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة، إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟! قال: كفارة لما يكون في المجلس!
وقد أفرد الحافظ ابن كثير لهذا الحديث جزءا على حدة، ذكر فيه طرقه وألفاظه، وعلّله، فرحمه الله.
ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق بالمواضع المذكورة كلها، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها، فإن السنة بيان للكتاب الكريم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطور (52) : آية 49]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] .
وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث. وقد جمعت ذلك معرّى عن أسانيدها في كتابي (الأوراد المأثورة) .
وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي: وسبحه وقت إدبارها، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق، بانتشار ضوء الصبح، وقد عنى ذلك إما فريضة الفجر أو نافلته، أو ما يشملها.
قال قتادة: كنا نحدّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر.
وقد ثبت في الصحيحين «1»
__________
(1) أخرجه البخاري في: التهجد، 27- باب تعاهد ركعتي الفجر، حديث 638.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 94 و 95.(9/56)
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل، أشدّ تعاهدا منه على ركعتي الفجر.
وفي لفظ لمسلم «1» : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
قال الزمخشريّ: وقرئ وَإِدْبارَ بالفتح، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.
تنبيه:
قال في (الإكليل) عن الكرمانيّ: إن بعض الفقهاء استدل به على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون. انتهى.
وهو استدلال متين.
__________
(1) أخرجه في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 96.(9/57)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
مكية. وآيها ثنتان وستون آية.
روى البخاريّ «1» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ. قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف
. ووقع في رواية غيره، تسمية غير أمية- كما بسطه ابن حجر في (الفتح) -.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2)
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أي إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. والخطاب لقريش. أي ما حاد عن الحق، ولا زال عنه. وَما غَوى أي ما صار غويّا، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى. وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغيّ. وذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان (صاحبهم) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة.
فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 3 الى 4]
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه. وفيه تعريض بهم أيضا إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وجملة (يوحى) صفة مؤكدة ل (وحي) رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار
__________
(1) أخرجه البخاري، في: التفسير، سورة النجم، 4- باب فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا، حديث 588.(9/58)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
التجددي. والضمير للقرآن، لفهمه من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه.
وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقا. واستدل على أن السنن القولية من الوحي، وقوّاه بما في (مراسيل) أبي داود عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها، كما يعلمه القرآن، واستدل أيضا على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم. والصواب هو الأول. أعني: كون مرجع الضمير للقرآن، لما ذكرنا، فإنه ردّ لقولهم (افتراه) والقرينة من أكبر المخصصات.
وجلىّ أنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول بالرأى في أمور الحرب، وأمور أخرى. فلا بد من التخصيص قطعا، وبأنه لا قوة في المراسيل، لما تقرر في الأصول. وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقا. لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا، لا نطقا عن الهوى. لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (متى ما ظننت كذا فهو حكمي) أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي، فيكون وحيا حقيقة، لاندراجه تحت الإذن المذكور، لأنه من أفراده. فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز. مع أنه يأباه قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] ، غير وارد عليه، بعد ما عرفت من تقريره- نقله في (العناية) عن (الكشف) - وتفصيل المسألة في مطولات الأصول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 5]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي علم محمدا صلى الله عليه وسلم ملك شديد قواه، يعني جبريل عليه السلام. كما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 19- 20] ، والْقُوى جمع قوة، بضم القاف. ومن العرب من يكسرها كالرّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحبا في جمع حبوة- نقله ابن جرير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 6 الى 7]
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7)
ذُو مِرَّةٍ بكسر الميم. أي متابة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيّره ونسيانه.
والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من (أمررت الحبل) إذا أحكمت فتله فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى قال الزمخشريّ: فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية.(9/59)
فالفاء- كما قال شراحه- سببية، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق. أو عاطفة على عَلَّمَهُ أي علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.
وقيل: (استوى) بمعنى (استولى) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور- حكاه القاضي-.
قال الشهاب: الأفق الناحية، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: فَاسْتَوى يعني جبريل عليه السلام- قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد.
ثم قال ابن كثير: وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد. وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق الأعلى، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء- كذا قال- ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال:
وهو كقوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا [النمل: 67] ، فعطف بالآباء على المكنيّ في كُنَّا من غير إظهار (نحن) فكذلك قوله: فَاسْتَوى وَهُوَ. قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النّبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصّف
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء، بل قبلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام، وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح. ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقرأ) ثم فترة الوحي فترة ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال، فكلما همّ بذلك ناداه جبريل من الهواء: يا محمد! أنت رسول الله حقّا، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه. وكلما طال عليه الأمر، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، قد سدّ عظم خلقه الأفق، فاقترب(9/60)
منه، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه اليه. انتهى.
أقول: قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية، وعبارته:
فَاسْتَوى فاستقام على صورته الذاتية، والنبيّ بالأفق الأعلى، لأنه حين كون النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ وكان من أحسن الناس صورة، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر، لم يفهم القلب كلامه، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا مرتين: عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته:
فَاسْتَوى وَهُوَ أي صاحبكم عند استواء نفسه، صار بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الروحانيّ. انتهى.
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته:
المشهور أن (هو) ضمير جبريل، وتقديره: استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ، فسدّ المشرق لعظمته. والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه: استوى بمكان، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا هاهنا، أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل: رأيت الهلال، فيقال له: أين رأيته؟ فيقول: فوق السطح. أي: إن الرائي فوق السطح، لا المرئيّ. و (المبين) هو الفارق، من (أبان) أي فرق. أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان، ومنزلة الملك، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى، وبلغ الغاية، وصار نبيّا، كما صار بعض الأنبياء نبيّا يأتيه الوحي في نومه، وعلى هيئته، وهو واصل إلى الأفق الأعلى، والأفق الفارق بين المنزلتين.(9/61)
فإن قيل: ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه، فإن قوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلى غير ذلك، وقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته؟ نقول: سنبيّن موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه، عند ذكر تفسيره.
فإن قيل: الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته، فسدّ المشرق. فنقول: نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية، حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول إن جبريل أرى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين، وبسط جناحيه، وقد ستر الجانب الشرقي وسدّه، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
انتهى كلام الرازيّ.
وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر، وعبارته:
فَاسْتَوى أي ارتفع جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علّم محمدا صلى الله عليه وسلم- قاله سعيد بن المسيّب وابن جبير-.
وقيل: فَاسْتَوى أي قام وظهر في صورته التي خلق عليها.
وقول ثالث: أن معنى فَاسْتَوى أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام.
الثاني- في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه.
وقول رابع: أن معنى فَاسْتَوى فاعتدل. يعني محمدا في قوّته، والثاني في رسالته- ذكره الماورديّ-.
وعلى الأول يكون تمام الكلام ذُو مِرَّةٍ، وعلى الثاني شَدِيدُ الْقُوى.
وقول خامس أن معناه فارتفع، وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- أنه جبريل ارتفع إلى مكانه، على ما ذكرناه آنفا.
الثاني- أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج.
وقول سادس: فَاسْتَوى يعني الله عز وجل. أي استوى على العرش- على قول الحسين- انتهى.
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية.(9/62)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 8 الى 9]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)
ثُمَّ دَنا أي ثم بعد استوائه، اقترب جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فَتَدَلَّى أي إليه.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو ثم تدلى فدنا، ولكنه حسن تقديم قوله دَنا إذ كان الدنو يدل على التدلي، والتدلي على الدنو.
كما يقال: زارني فلان فأحسن، وأحسن إليّ فزارني.
وقال الشهاب: التدلي مجاز عن التعلق بالنبيّ بعد الدنو منه، لا بمعنى التنزل من علوّ، كما هو المشهور. أو هو دنوّ بحالة التعلق، فلا قلب ولا تأويل ب (أراد الدنو) - كما في الإيضاح-.
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين. أي بقدرهما إذا مدّا أو أقرب. أو الضمير لجبريل. أي كأن قربه قدر ذلك.
قال الشهاب: وقاب القوس وقيبه: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به المقدار، فإنه يقدّر بالقوس، كالذراع.
وقد قيل: إنه مقلوب، أي قابى قوس، ولا حاجة إليه. فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله. إذا تحالفوا أخرجوا قوسين. ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقا للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معا ويرميان بهما سهما واحدا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه- كذا قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين- انتهى.
قال السمين: وقوله تعالى: أَوْ أَدْنى كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:
147] ، لأن المعنى: فكان بأحد هذين المقدارين في رأى الرائي. أي لتقارب ما بينهما، يشك الرائي في ذلك. فهو تمثيل لشدة القرب، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأى العين، ورأى الواقف عليه، كما مر في أَوْ يَزِيدُونَ فإن المعنى:
إذا رآهم الرائي يقول هم مائة ألف أو يزيدون.
وقيل: (أو) بمعنى (بل) أي بل أدنى.
و (أدنى) أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف. أي: أو أدنى من قاب قوسين. وقوله تعالى:(9/63)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 10]
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
حى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) فَأَوْحى أي جبريل إِلى عَبْدِهِ
أي عبد الله تعالى، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس، وغاية ظهوره. أو: فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه ما أَوْحى
أي مما أمره به. وفيه تفخيم للموحى به، إذ الإبهام يفيد التعظيم، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 11]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11)
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه. يعني: أنه رآه بعينه، وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق وقرئ ما كَذَبَ بالتشديد. أي صدقه ولم يشك أنه ملك ربانيّ، لا خيال شيطانيّ، كما قال وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] . وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما تقدم النقل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 12]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12)
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشانيّ: أي أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور، فلا مخاصمة حقيقة. انتهى. وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها، والإذعان لها، لقيام الدليل عليها. وبالجملة، فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئيّ، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 18]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17)
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)(9/64)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي مرّة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية الثانية هذه، لنفي الريبة والشك عنها أيضا. وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى أي موضع الانتهاء، أو الانتهاء. ف (المنتهى) : اسم مكان، أو مصدر ميميّ. وقد جاء في الصحيح أنها شجرة نبق في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها. وما يهبط به من فوقها، فيقبض منها.
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت (سدرة) لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة. لكن ورد في الحديث أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هجر، فهي على هذا حقيقة، وهو الأظهر- قاله الشهاب-.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها أرواح المقرّبين. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال القاشانيّ: أي من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. وَما طَغى أي ما تجاوز مرئيّة المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم وتمكّنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون الْكُبْرى صفة لآيات، ويكون المرئيّ محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربّه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
تنبيهات:
الأول- قدمنا في تفسير قوله تعالى: فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة. ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال(9/65)
تعالى ثمة: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 19- 23] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في (التكوير) . وسر الزيادة هو ارتقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في معارج الكمالات وقتا فوقتا. وسورة النجم مما نزل بعد التكوير، كما حكاه في (الإتقان) عن ابن عباس وغير واحد من السلف، فلذلك كان في (النجم) زيادة هذا التكريم والتفضيل. وحاصل المعنى:
أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم، جمّ المناقب، لأنه شديد القوى، ذو مرة، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق، ودنا إليه، وكان في غاية القرب منه، والتمكن من رؤيته، وتلقي الوحي عنه، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة، بل رآه نزلة ثانية، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة، فتوافق هذه الآيات لآيات (التكوير) وتفسير بعضها بعضا، أمر لا خفاء به عند المتدبر، وكله رد على المشركين المفترين، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل، وصدق ما يخبر به، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد- والله الموفق-.
الثاني- ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ...
إلخ إلى جبريل عليه السلام، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية: الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه- كما قالت عائشة وابن مسعود- والسياق يدل عليه، فإنه قال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة أي القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنا فتدلّى، فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قدر قوسين(9/66)
أو أدنى، وهو الذي رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، رآه على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. انتهى.
وروى البخاريّ «1» في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.
وروى الترمذي «2» عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق.
وأما ما وقع في
حديث شريك في البخاريّ «3»
من قوله: (دنا الجبّار رب العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)
، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم، نؤمن به. ونفوّض كيفيته إليه تعالى، كسائر أخبار الصفات.
قال ابن كثير: قد تكلّم كثير من الناس في رواية شريك، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال بعده وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل. وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل، أصح.
قال العماد بن كثير: وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة، هو الحق،
فإن أبا ذرّ قال: يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
وفي رواية: رأيت نورا- أخرجه مسلم «4» -.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إنما هو جبريل عليه السلام، كما ثبت ذلك في
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى بن وكيع، حديث رقم 1526. [.....]
(2) أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة النجم، 3- حدثنا ابن أبي عمر.
(3) أخرجه البخاري في: التوحيد، 37- باب قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم 1684، عن أنس بن مالك.
(4) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 291 و 292.(9/67)