الشيطان ويحكم الله آياته إلخ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه، واختيارهم من خاصة أوليائه! فلندع هذا الهذيان، ولنعد إلى ما نحن بصدده.
ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله، ليبين له سنته فيهم.
وذلك بعد أن قال: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [الحج: 42] ، إلى آخر الآيات ثم قال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:
49- 52] ، إلخ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم. ثم تبعه الأمر الإلهيّ بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعيم. وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك. وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة- هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم. وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون. فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادّون أمانيه، ويحولون بينه وبين ما يبتغي، بما يلقون في سبيله من العثرات. فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا، يجب أن تفسر الآية. وذلك يكون على وجهين:
الأول- أن يكون (تمنّى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) وهو معنى قد يصح. وقد ورد استعمال اللفظ فيه قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله ... تمنّي داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل على المعنى المفهوم من قولك (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه، ولا يكون قد أراده. أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه. وذلك من عمل(7/264)
المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه. ويكون المعنى: وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا حدّث قومه عن ربّه، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم، قام في وجهه مشاغبون، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه. ويتقوّلون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس، ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا، ويجاهدون في الحق، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة. فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنّة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء العقول، بتلك الشبه والوساوس، فينطلقون وراءها. ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة، فيتخذونها سندا يعتمدون عليها في جدلهم. ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به، فتخبت وتطمئن له قلوبهم. والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقرّ بالعقل في قرارة اليقين. وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهيّ أو إلى القرآن، وهو أجلّها، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين. هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا. وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم. ولم يجعل للوهم عليها سلطانا، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم. وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم، فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب. لا تستقر عقولهم عليه، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه. حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقوا حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب، القتل أو الأسر. ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر.
فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة. وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. ما أقرب هذه الآيات في(7/265)
مغازيها، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7] ، وقد قال بعد ذلك إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
[آل عمران: 116] ، ثم قال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران: 12] ، إلخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى. فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم. والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم. فيقولون آمنا به كلّ من عند ربنا، فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم. وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي إليهم الشيطان، ويصرفهم عن مرامي البيان، ويميل بهم عن محجة الفرقان. وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد، لن يغني عنهم من الله شيئا.
فستوافيهم آجالهم، وتستقبلهم أعمالهم. فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم.
فسيغلبون في هراشهم. وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه. وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران، لا مدخل لها في آيات سورة الحج، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات وَما أَرْسَلْنا إلى آخرها، على تقدير أن (تمنّى) بمعنى (قرأ) وأن (الأمنية) بمعنى (القراءة) والله أعلم.
الوجه الثاني في تفسير الآيات- أن التمني على معناه المعروف. وكذلك الأمنية. وهي أفعولة بمعنى المنية. وجمعها. أمانيّ كما هو مشهور. قال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون. قال: والتمني سؤال الرب.
وفي الحديث (إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه)
وفي رواية (فليكثر) قال ابن الأثير: (التمني) تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون. وقال أبو بكر: تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إليّ. وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبيّ ليدعو قوما إلى هدي جديد، أو شرع سابق شرعه لهم، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا(7/266)
أو جاء به غيره إن كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه، إلا وله أمنية في قومه. وهي أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا من دائهم بدوائه، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه. وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته. وتصديقهم برسالته، منه على طعامه الذي يطعم، وشرابه الذي يشرب، وسكنه الذي يسكن إليه. ويغدو عنه ويروح علينا. وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى، والمكان الأسمى. قال الله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] ، وقال وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] ، وقال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] ، وفي الآيات ما يطول سرده، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه، إلى نور ما جاء به. وما من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية، ألقى الشيطان في سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات. ووسوس في صدور الناس. وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس، فثاروا في وجهه، وصدوه عن قصده، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه. فإذا ظهروا عليه، والدعوة في بدايتها،.
وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار، ظنوا الحق من جانبهم، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه، فتنة لهم.
غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم، أو من المستضعفين فيهم، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان. وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله. ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله. أنصار الباطل في كل زمان، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان، والغرور بالزخارف.
والزهو بكثرة المعارف. وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم. فإذا دعا إلى الحق داع، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله، بخلوصها من هذه الشواغل. وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته، قام أولئك المغرورون يقولون ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ [هود: 27] ، فإذا استدرجهم الله على سنته، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا، افتتن الذين(7/267)
في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم. ولكن الله غالب على أمره. فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها، وينشئ من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلتهم عزة، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] ، وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه، ووعد له بأنه سيكمل له دينه، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 2] ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:
214] .
هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية. يدل عليه ما سبق من الآيات، ويرشد إلى سياق القصص السابق في قوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الحج:
42] ، إلخ. وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح.
وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز. وإني أنقله بحروفه، وما هو بالبعيد عن هذا بكثير. قال (بعد ذكر أمانيّ الأنبياء في أممهم، وطمعهم في إيمانهم، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني) :
ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة: 253] ، فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة، الموجبة لكفره. وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى) أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبيّ. وإلقاء الشيطان فيها، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة، ويبقي ذلك عزّ وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به. فخرج من(7/268)
هذا أن الوساوس تلقى أولا في قلوب الفريقين معا، غير أنها لا تدوم على المؤمنين، وتدوم على الكافرين. انتهى.
وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه، تتبين الأحق بالترجيح. ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه، كما قاله القاضي البيضاويّ وغيره. ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ. يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء، ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة. وما يقال في المخرج عن ذلك، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم. ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم. إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح. وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق. وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت. ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض. أو هو اسم الكركيّ أو طائر يشبهه والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسموأل وفردوس وقرطاس وعلابط) معناه الشاب الأبيض الجميل. وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة (الغرنوق) كما يسمى به ضرب من الشجر. ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات.
ويقال (لمة غرانقة) و (غرانقية) أي ناعمة تفيئها الريح. أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ. ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام. فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين، ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام. فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] . انتهى كلام الأستاذ رحمه الله.
وممن جزم بوضع هذه القصة جزما باتّا، الإمام ابن حزم رحمه الله، حيث قال في كتابه (الملل) في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله: استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في وَالنَّجْمِ إِذا هَوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم (وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى) ثم قال بعد: وأما الحديث الذي فيه (الغرانيق) فكذب بحت موضوع. لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد. وأما قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ(7/269)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
الآية، فلا حجة لهم فيها. لأن الأمانيّ الواقعة في النفس لا معنى لها. وقد تمنى النبيّ صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب، ولم يرد الله عزّ وجلّ كون ذلك. فهذه الأمانيّ التي ذكرها الله عزّ وجلّ لا سواها، وحاشا لله أن يتمنى نبيّ معصية. وبالله تعالى التوفيق.
وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق. انتهى، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 55]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك وجدال من التنزيل الكريم، لما طبع على قلوبهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة بَغْتَةً أي فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي يوم لا يوم بعده. كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيما. والمراد به الساعة أيضا. كأنه قيل (أو يأتيهم عذابها) فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل. أفاده أبو السعود. أي لأنه بمعنى (شديد) لا مثل له في شدته. وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى: لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة، فيلاقون حسابهم عند ربهم. أو إن امتد بهم الزمن، ومادّهم الأجل، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم. يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر. فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة. بل يسلبون ما كان لديهم، ويساقون إلى مصارع الهلكة، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 56]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ أي وحده، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بالمجازاة، ثم فسر الحكم(7/270)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
بقوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 57 الى 59]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أي في الجهاد أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي من الجنة ونعيمها وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابيّ على أن المقتول والميت في سبيل الله سواء في الفضل. أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة. وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (فمن مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين. واقرءوا ما شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى حَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 60]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي ومن جازى ظالما بمقدار ظلمه، ولم يزد في الاقتصاص منه، ثم تعدى عليه الظالم ثانيا، لينصرن الله ذلك المظلوم. وإنما سمي الابتداء بالعقاب، الذي هو الجزاء، للازدواج والمشاكلة. أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعريض بالحث على العفو والمغفرة. فإنه تعالى مع كمال قدرته، لمّا كان يعفو ويغفر، فغيره أولى بذلك. وتنبيه على قدرته على النصر. إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
فظهر سر مطابقة (العفوّ الغفور) لهذا الموضع.(7/271)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 62]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ذلك النصر بسبب أنه قادر. ومن آيات قدرته البالغة، إيلاج أحد الملوين في الآخر، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ندّ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء. بل هو المصنوع. أي فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وأن الله هو ذو العلوّ على كل شيء، والعظيم الذي كل شيء دون عظمته، فلا أعلى منه ولا أكبر. ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر، تقريرا لألوهيته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 65]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعلها معدّة لمنافعكم وَالْفُلْكَ أي وسخر لكم البحر، حتى أن الفلك تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي بتيسيره لمنافعكم وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بمشيئته وقدرته. أي ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك، رحمة بكم، فاشكروا آلاءه وحده إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي في آلائه وآياته المذكورة، وما أبان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته، لا إله إلا هو. وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمنه قوله تعالى:(7/272)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 66]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود للنعم، بعبادة غير بارئها. أو إشراكه معه، مع أنه هو الخالق لكل ذلك، والقادر عليه، وغيره لا يملك شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 67]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا أي وضعنا مَنْسَكاً أي شريعة ومتعبدا هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة، وعدم وحدته، أو في أمر ما جئتهم به، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله. لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها، وحياتها ومنشئها. ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك عنه. أو معناه: ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به. فلا تضرك منازعتهم. وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك، لاستقرار الأمر على شرعتك. لأنها الطريق القويم.
هذا، وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، لخير أو شر. يقال (إن لفلان منسكا يعتاده) يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر. وقد اختلف أهل التأويل في معنى (النسك) هنا، فقيل: عيدا.
وقيل: إراقة الدم (ثم استظهر) أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى. لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إراقة الدم في هذه الأيام، أي فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم (أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله) ؟ انتهى.
وعليه، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى جَعَلْنا الجعل القدريّ لا التشريعيّ. كما قال: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[البقرة: 48] ، أي هؤلاء إنما(7/273)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته. فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق. وهذا كقوله تعالى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ [القصص: 87] ، أشار له ابن كثير. ونقل الرازيّ عن ابن عباس، في رواية عطاء، أن المراد بالمنسك الشريعة والمنهاج. قال: وهو اختيار القفال، لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] ، وهو الذي آثرناه أولا لظهوره فيه. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 68 الى 71]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي من ضرورة العقل أو استدلاله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي يدفع عنهم ما يراد بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 72 الى 74]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار أو الفظيع من التهجم(7/274)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
والبسور. أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب. قال في (فتح البيان) : وكذلك أهل البدع المضلة، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة، مخالفا لما اعتقده من الباطل، رأيت في وجهه من المنكر، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ، النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ «أي بيّن» مَثَلٌ أي حال مستغرب فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروه حق تدبره. فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه متعاونين. وتخصيصه الذباب، لمانته وضعفه واستقذاره. وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين. حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها، صورا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله، ولو اجتمعوا لذلك وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي هذا الخلق الأقل الأذل، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا ضَعُفَ الطَّالِبُ أي الصنم يطلب ما سلب منه وَالْمَطْلُوبُ أي الذباب بما سلب. وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف. ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف. فإن الذباب حيوان وهو جماد. وهو غالب وذلك مغلوب.
وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم، وبالمطلوب معبوده. قيل: وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم. فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل. واختار الوجه الأول الزمخشريّ. لما فيه من التهكم، بجعل الصنم طالبا على الفرض تهكما وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد، وذلك حيوان بخلافه.
وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب. وقوله تعالى ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قادر وغالب. فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به. أو لقويّ بنصر أوليائه، عزيز ينتقم من أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 76]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)(7/275)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أي فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته. ولا وجه لقولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] ، قال أبو السعود: كأنه تعالى. لما قرر وحدانيته، في الألوهية، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بيّن أن له عبادا مصطفين للرسالة، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم، إلى عبادته عزّ وجلّ. وتقدمه بنحوه البيضاويّ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما عملوه وما سيعملونه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي لأنه مالكها. فلا يسأل عما يفعل، من الاصطفاء وغيره، وهم يسألون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 77]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي صلّوا. وعبر عن الصلاة بهما، لأنهما أعظم أركانها. أو اخضعوا له تعالى، وخروا له سجدا، لا لغيره وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي تحرّوه. كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
تنبيهات:
الأول- لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة. واختلفوا في السجدة الثانية- هذه- فروي عن عمر وعليّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا: في الحج سجدتان. وبه قال ابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما
روي «1» عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما. أخرجه الترمذيّ وأبو داود
. وعن عمر بن الخطاب «2» أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في (الموطأ) وذهب قوم إلى أن في الحج سجدة واحدة، وهي الأولى، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن
__________
(1) أخرجه أبو داود في: سجود القرآن، 1- باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، حديث رقم 1402.
وأخرجه الترمذي في: الجمعة، 54- باب ما جاء في السجدة في الحج.
(2) أخرجه في الموطأ في: 15- باب الأمر بالوضوء لمن مسّ القرآن، حديث رقم 13.(7/276)
المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوريّ وأبي حنيفة ومالك. بدليل أنه قرن السجود بالركوع. فدل ذلك أنه سجدة صلاة، لا سجدة تلاوة- كذا في (لباب التأويل) أي لأن المعهود في مثله من كل آية، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة، بالاستقراء نحو وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] ، وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال.
وما روي من الحديث المذكور، قال الترمذيّ رحمه الله: إسناده ليس بالقويّ.
وكذا قال غيره كما في (شرح الهداية) لابن الهمام.
قال الخفاجيّ: لكن يرد عليه ما في (الكشف) أن الحق أن السجود حيث ثبت، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة. بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله. فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة. ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها، لما ثبت من الرواية فيه.
الثاني- قال في (اللباب) اختلف العلماء في عدّة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة. لكن الشافعي قال: في الحج سجدتان. وأسقط سجدة (ص) . وقال أبو حنيفة في الحج سجدة. وأثبت سجدة (ص) وبه قال أحمد، في إحدى الروايتين عنه. فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود. يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس. وبه قال مالك.
فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة. يدل عليه ما
روي عن أبي الدرداء «1» أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: في القرآن إحدى عشرة سجدة. أخرجه أبو داود
وقال:
إسناده واه. ودليل من قال (في القرآن خمس عشرة سجدة) ما
روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة. منها ثلاث في المفصل. وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود «2» .
وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقْرَأْ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أخرجه مسلم «3»
. انتهى.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الجمعة، 47- باب ما جاء في سجود القرآن.
(2) أخرجه في: السجود، 1- باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن، حديث رقم 1401.
(3) أخرجه الترمذي في: الجمعة، 50- باب ما جاء في السجدة في اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.(7/277)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
والخمس عشرة: في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وص، وحم، السجدة، والنجم، والانشقاق، واقرأ.
والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن، في أصح الأقوال. سمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره.
الثالث- سجود التلاوة سنة للقاري والمستمع. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.
لقول ابن عمر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته. رواه الشيخان «1» .
وقال عمر «2» : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. رواه البخاري وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 78]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ عامّ في جهاد الكفار والظلمة والنفس. و (حق) منصوب على المصدرية. والأصل (جهادا فيه حقا) فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة. وعن الرضيّ: إن (كلّ) و (جدّ) و (حقّ) إذا وقعت تابعة لاسم جنس، مضافة لمثل متبوعها لفظا ومعنى، نحو (أنت عالم كلّ عالم) أو (جدّ عالم) أو (حق عالم) أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرّق في الكل. وأن ما سواه باطل أو هزل. وقوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه ولنصرته. وفيه تنبيه
__________
(1) أخرجه البخاري في: سجود القرآن، 8- باب من سجد لسجود القارئ، حديث رقم 592.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 103.
(2)
أخرجه البخاري في: سجود القرآن، 10- باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، حديث رقم 593 ونصه: «يا أيها الناس إنا نمرّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب. ومن لم يسجد فلا إثم عليه» .(7/278)
على المقتضى للجهاد والداعي إليه. لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته. وهي بما ذكر. ولأن من قرّ به العظيم، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه، بترك ما لا يرضاه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي في جميع أمور الدين من ضيق، بتكليف ما يشق القيام به. كما كان على من قبلنا، فالتعريف في (الدين) للاستغراق. قال في (الإكليل) : هذا أصل القاعدة (المشقة تجلب التيسير) مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ منصوب على المصدرية، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج. بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم. أو على الإغراء بتقدير (اتبعوا أو الزموا) أو الاختصاص بتقدير (أعني) ونحوه. أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله. فيكون مجرورا بالفتح، أفاده الشهاب. قال القاضي وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية. أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته. فغلبوا على غيرهم.
وقال القاشاني: معنى أبوّته كونه مقدما في التوحيد، مفيضا على كل موحد، فكلهم من أولاده. وقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة. والجملة مستأنفة. وقيل: إنها كالبدل من قوله هُوَ اجْتَباكُمْ ولذا لم يعطف وَفِي هذا أي القرآن. أي فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل: الضمير ل (إبراهيم) عليه السلام.
قال القاضي: وتسميتهم ب (مسلمين) في القرآن، وإن لم يكن منه، كان بسبب تسميته من قبل، في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] ، أي لدخول أكثرهم في الذرية. فجعل مسميا لهم مجازا. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أي بأنه قد بلغكم رسالات ربكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي: وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وثقوا به، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر.(7/279)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المؤمنون
سميت بهم لاشتمالها على جلائل أوصافهم ونتائجها، في أولها وفي قوله:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] ، إلى قوله: سابِقُونَ أفاده المهايميّ. وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ [المؤمنون: 64] ، إلى قوله: مُبْلِسُونَ وآيها مائة وثماني عشرة.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم «1» وغيرهما عن عبد الله بن السائب قال: صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة الصبح. فاستفتح سورة المؤمنون. حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى، أخذته سعلة فركع.
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 411.
وأخرجه البخاري تعليقا في: الأذان، 106- باب الجمع بين السورتين في الركعة.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 163.(7/280)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي دخلوا في الفوز الأعظم الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي متذللون مع خوف وسكون للجوارح، لاستيلاء الخشية والهيبة على قلوبهم وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. أي عن الفضول وما لا يعني من الأقوال والأفعال، معرضون في عامة أوقاتهم، لاستغراقهم بالجد وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي للتجرد عن رذيلة البخل.
قيل: السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة؟ وجوابه: إن الذي فرض بالمدينة إنما هو النصب والمقادير الخاصة. وإلا فأصل التفضل بالعفو مشروع في أوائل البعثة، فلا حاجة إلى دعوى إرادة زكاة النفوس من الشرك والعصيان، لعدم التبادر إليه وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لأنه الحق المأذون فيه فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور: من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين. وأنه من الملومين. ومن العادين. ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم. فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها، أيسر من بعض ذلك. وقد أمر الله تعالى نبيا أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم. وأن يعلمهم أنه مشاهد(7/281)
لأعمالهم، مطلع عليها، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الأمر بغضّه مقدما على حفظ الفرج. فإن الحوادث مبدؤها من النظر. كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر. ثم تكون نظرة، ثم تكون خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة. ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه:
اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة. ويلازم الرباط على ثغورها. فمنها يدخل عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تبيرا.
الثاني- روي عن الإمام أحمد أنه قال: لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنى.
واحتج
بحديث عبد الله «1» بن مسعود أنه قال: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال:
أن تجعل لله ندّا وهو خلقك قال قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك
. والنبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل. فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندّا.
وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه. وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره. فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق. فالزنى بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثما وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذا فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب عليه، لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثما وجرما من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جارا له، انضاف إلى ذلك سوء الجوار، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى. وذلك من أعظم البوائق.
وقد ثبت عن النبيّ «2» صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته
. فالزنى بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار. فإن كان الجار أخا له، أو قريبا من أقاربه، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم، فيتضاعف الإثم. فإن كان الجار غائبا في طاعة الله، كالصلاة وطلب العلم والجهاد، تضاعف الإثم. فإن اتفق أن تكون المرأة رحما منه، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها.
__________
(1) أخرجه البخاري في: تفسير القرآن، 2- سورة البقرة، 3- باب قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، حديث 1962.
(2) أخرجه البخاري في: الأدب، 39- باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث قم 2326، عن أبي شريح. [.....](7/282)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
فإن اتفق أن يكون الزاني محصنا، كان الإثم أعظم. فإن كان شيخا كان أعظم إثما وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة، تضاعف الإثم.
وعلى هذا، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان.
الثالث- أجمع المسلمون على أن حكم التلوّط مع المملوك كحكمه مع غيره، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى:
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد. فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه.
وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره. في الإثم والحكم. أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في (الجواب الكافي) . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 8 الى 11]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي قائمون عليها بحفظها وإصلاحها.
والآية تحتمل العموم في كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا، من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم. ولذا عدت الخيانة في الأمانة من آيات النفاق في الحديث المشهور «1» وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يحافظون عليها. وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدّوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وليس هذا تكريرا لما وصفهم به أولا. فإن الخشوع في الصلاة، غير المحافظة عليها. وتقديم الخشوع اهتماما به. حتى كأن الصلاة، لا يعتد بها بدونه، أو لعموم هذا له. وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة، تعظيم لشأنها أُولئِكَ أي الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ أي الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لا يخرجون منها أبدا.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الإيمان، 24- باب علامة المنافق، حديث رقم 31، عن أبي هريرة.(7/283)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
ثم أشار تعالى إلى مبدأ خلقه الإنسان وتقليبه في أطوار شتى، حتى نما كاملا، وإلى ما خلقه من عالم السماء والأرض، وسخره لمنافعه، ليشكر مولاه ويعبده، كما أمره وهداه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ابتدأنا خلقه مِنْ سُلالَةٍ أي خلاصة مِنْ طِينٍ أي تراب خلط بماء فصار نباتا فأكله إنسان فصار دما ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً أي بأن خلقناه منها، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية فِي قَرارٍ أي مستقر، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه مَكِينٍ أي متمكن لا يمجّ ما فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 14]
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن، على هيئات وأوضاع مخصوصة، تقتضيها الحكمة فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي جعلناه محيطا بها ساترا لها كاللباس ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي بتمييز أعضائه وتصويره، وجعله في أحسن تقويم فَتَبارَكَ اللَّهُ أي تعاظم قدرة وحكمة وتصرفا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المقدّرين. ف (الخلق) بمعنى التقدير كقوله:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
لا بمعنى الإيجاد. إذ لا خالق غيره، إلا أن يكون على الفرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 15 الى 17]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات لَمَيِّتُونَ أي لصائرون إلى الموت.(7/284)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
قال المهايميّ: والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل، ولذلك سيبعثه كما قال ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي من قبوركم للحساب والمجازاة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها.
قال بعض علماء الفلك (في تفسير هذه الآية) : أي سبعة أفلاك، للسبع سموات، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار. قال: فبذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسيّ ينقسم إلى سبع طرائق، خلاف طريق الأرض الذي يعيّنه قوله تعالى فَوْقَكُمْ فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريبا، إلى منتهى فلك نبتون، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار. كل قسم تجري فيه سماء بما معها. ويسمى هذا الطريق فلكا. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي عن ذلك المخلوق، الذي هو السموات، أو جميع المخلوقات. فالتعريف على الأول، عهديّ. وعلى الثاني استغراقيّ. أي ما كنا مهملين أمر الخلق، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة، وتعلقت به المشيئة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 18]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18)
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارّا فيها، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي إزالته بالتغوير وبغيره، كما قدرنا على إنزاله. ففي تنكير (ذهاب) إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.
قال الزمخشري: فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، ويقيّدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها، إذا لم تشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 19 الى 20]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ(7/285)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً
بالنصب عطف على (جنات) وقرئت مرفوعة على الابتداء. أي ومما أنشئ لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل بفلسطين، أو بين مصر وأيلة (بفتح الهمزة) محل معروف يسمى اليوم (العقبة) وهو على مراحل من مصر. قاله الشهاب و (الشجرة) شجرة الزيتون، نسبت إلى الطور لأنه مبدؤها. أو لكثرتها فيه تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي ملتبسة بالدهن المستصبح به وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي وبإدام يغمس فيه الخبز ف (الصبغ) كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام. ويختص بكل إدام مائع، يقال (صبغ اللقمة: دهنها وغمسها) وكل ما غمس فقد صبغ. كذا في (المصباح) و (التاج) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي تعتبرون بحالها وتستدلون بها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي من الألبان وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ أي في ظهورها وأصوافها وشعورها ونتاجها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ أي بخلقه وتسخيره وإلهامه. فله الحمد.
قال الزمخشري: والقصد بالأنعام أي الإبل، لأنها هي المحمول عليها في العادة. وقرنها بالفلك التي هي السفائن، لأنها سفائن البر.
قال ذو الرمة:
سفينة برّ تحت خدّي زمامها قال الشهاب: وجعل الإبل سفائن البر معروف مشهور. وهي استعارة لطيفة وقد تصرفوا فيها تصرفات بديعة. كقول بعض المتأخرين:
لمن شحر قد أثقلتها ثمارها ... سفائن برّ والسّراب بحارها
ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، تأثره بقصص بعثة الرسل لعلوّ كلمته، فقال سبحانه:(7/286)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 25]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا أي الداعي إلى عبادة الله وحده. بدعوى الرسالة منه إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: 78] ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي إرسال رسول لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي من السماء ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل ما يدعو إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له. قال الرازيّ: واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة، لركاكتها ووضوح فسادها. وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لأنه من جنس الملك. وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات. فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا. بل جعل الرسول من جملة البشر أولى. لما مرّ بيانه في السور المتقدمة. وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته، فهذا واجب على الرسول. وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزّهون عن ذلك. وأما قولهم ما سَمِعْنا بِهذا فهو استدلال بعدم التقليد، على عدم وجود الشيء. وهو في غاية السقوط. لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء. فعدمه من أن يدل على عدمه؟ وأما قولهم بِهِ جِنَّةٌ فقد كذبوا. لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم فَتَرَبَّصُوا بِهِ فضعيف. لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة، وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته. لأن الدولة لا تدل على الحقيقة. وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر. ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور، لا جرم تركها الله سبحانه، انتهى.(7/287)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 الى 30]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قالَ أي بعد ما أيس من إيمانهم رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص.
عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء، ويراعى من الاختلال والزيغ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية، على طريق التمثيل، وقيل: المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا. بناء على أن المراد بالعين البصر، وأنه يسمى البصر عينا لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به. من باب تسمية الشيء باسم محله. وباسم ما هو قائم به.
قال الإمام ابن فورك في (متشابه الحديث) - بعد حكاية نحو ما تقدم-: وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عزّ وجلّ من الوصف له بالعين. فمنهم من قال: إن المراد به البصر والرؤية. ومنهم من قال: إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع.
وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه. انتهى.
ومذهب السلف أن الصفات يحتذي فيها حذو الذات، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل. وقوله تعالى وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا كيف تصنع فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة. كقولهم (حمي الوطيس) . و (التنور) كانون الخبز حقيقة. وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء، للآية مجازا فَاسْلُكْ فِيها أي فأدخل في الفلك مِنْ كُلٍّ أي من كل أمة زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي في الدعاء لهم بالنجاة، عند مشاهدة هلاكهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي في بحر الهلاك، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي أي في السفينة أو منها مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي لمن أنزلته منزل قربك إِنَّ(7/288)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
فِي ذلِكَ
أي فيما فعل بنوح وقومه لَآياتٍ أي يستدل بها ويعتبر أولو الأبصار وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويدّكر. كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 15] ، و (إن) مخففة على الأصح- وقيل نافية. واللام بمعنى (إلا) والجملة حالية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 31]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد أو ثمود. قال الشهاب: ليس في الآية تعيين لهؤلاء. لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأيده في (الكشف) بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما. وعليه أكثر المفسرين. ومن ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها. كما صرح به في هذه السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 32 الى 41]
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36)
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ أي نعّمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي لعزة أنفسكم، بالتذلل لمثلكم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ(7/289)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
أي من الأجداث أحياء كما كنتم هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ تكرير لتأكيد البعد. أي بعد الوقوع أو الصحة لما توعدون من البعث إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعض ويولد بعض. لينقرض قرن ويأتي قرن آخر. ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي العقوبة الهائلة، أو صيحة ملك بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي كغثاء السيل فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم. إخبار أو دعاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 45]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي وقتها الذي عين لهلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي متواترين، واحدا بعد واحد كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي في الإهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم، إن خيرا وإن شرّا.
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة ملزمة للخصم. والمراد به الآيات نفسها. عبر عنها بذلك على طريقة العطف، تنبيها على جمعها لعنوانين جليلين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 46 الى 48]
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا أي عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان، وتحريرهم من تلك العبودية لهم وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي متمردين(7/290)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ أي المغرقين في البحر.
فائدة:
قال الزمخشريّ البشر يكون واحدا وجمعا بَشَراً سَوِيًّا
[مريم: 17] ، لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون: 47] ، فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ [مريم: 26] ، و (مثل) و (غير) يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:
140] ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] ، ويقال أيضا: هما مثلاه وهم أمثاله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف: 194] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 49 الى 50]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ أي قومه يَهْتَدُونَ أي إلى طريق الحق، بما فيها من الشرائع والأحكام وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أي دلالة على قدرتنا الباهرة. لأنها ولدته من دون مسيس. فالآية أمر واحد نسب إليهما. أو المعنى: وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها وَآوَيْناهُما أي جعلنا مأواهما أي منزلهما إِلى رَبْوَةٍ أي أرض مرتفعة، ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: ذات ثمار وماء. يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها وَمَعِينٍ أي وماء معين ظاهر جار. من (معن الماء إذا جرى) أو مدرك بالعين (من عانه) إذا أدركه بعينه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 51]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كلّ وعهده. فدخل فيه عيسى دخولا أوليّا. أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة. وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم. واحتجاجا على الرهابنة في رفض الطيبات. وقوله(7/291)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا. فإنه الذي به سعادة الدارين. وقوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي ذو علم لا يخفى عليّ منها شيء. فأنا مجازيكم بجميعها، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 52]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي ملة واحدة، وهي شريعة الإسلام. إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده.
كقوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ، (فالأمة) هنا بمعنى الملة والدين وَأَنَا رَبُّكُمْ أي من غير شريك فَاتَّقُونِ أي فخافوا عقابي، في مفارقة الدين والجماعة. قيل: إنه اختير على قوله: (فاعبدون) الواقع في سورة الأنبياء، لأنه أبلغ في التخويف، لذكره بعد إهلاك الأمم، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة، أو لقصة عيسى عليه الصلاة والسلام، لا ابتداء كلام. فإنه حينئذ لا يفيده. إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة. كذا في (العناية) .
ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 53 الى 54]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي جعلوا دينهم بينهم قطعا وفرقا منوعة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئن النفس، معتقد أنه على الحق فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي في جهالتهم، ومشيهم مع هواهم، ونبذهم كتاب الله حَتَّى حِينٍ أي إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه. وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة، لأنهم مغمورون فيها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 55 الى 56]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي نعطيهم إياه، ونجعله مددا لهم مِنْ مالٍ وَبَنِينَ(7/292)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ
أي كلّا. لا نفعل ذلك. بل هم لا يشعرون أصلا. كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور، ليتأمّلوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم. وهم يحسبونه معاجلة فيما لهم فيه إكرام. ثم بين سبحانه من له المسارعة في الخيرات من أوليائه وعباده، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي من خوف عذابه حذرون وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي شركا جليّا، ولا خفيّا وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوه من الصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي من رجوعهم إليه تعالى، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق، أو غفلت عنه من الآداب أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة. كما في قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران:
148] ، وقوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم، خلا أنه غيّر الأسلوب، حيث لم يقل أولئك نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بل أسند المسارعة إليهم، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم. وإيثار كلمة (في) على كلمة (إلى) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات. لا أنهم خارجون عنها، متوجهون إليها، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] الآية أفاده أبو السعود.
وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي إياها سابقون. أي ينالونها قبل الآخرة، حيث عجلت لهم في الدنيا، فتكون اللام لتقوية العمل. كما في قوله تعالى هُمْ لَها عامِلُونَ [المؤمنون: 63] ، وقيل: المراد بِالْخَيْراتِ الطاعات. والمعنى: يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة. وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس، والله أعلم، وقوله تعالى:(7/293)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 62 الى 63]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة، سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات، ببيان سهولته، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة. أي سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها. أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين، ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم. فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين، فلا عليهم، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم، أفاده أبو السعود، وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وهو كتاب الأعمال. كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ أي الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم هُمْ لَها عامِلُونَ أي معتادون لا يزايلونها.
تنبيه:
أغرب الإمام أبو مسلم الأصفهانيّ فيما نقله عنه الرازيّ، فذهب إلى أن قوله تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ... إلى آخر الآية، من تتمة صفات المؤمنين المشفقين. كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون، ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق وهم لا يظلمون.
بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة، وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ. أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه. إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل. ثم إنه تعالى رجع.
قال الرازيّ: وقول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن ردّ الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين، كان أولى من ردّه إلى ما بعد منه، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته، بأن قلبه في غمرة، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو ردّه، وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر. انتهى.(7/294)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
وبعد فإن نظم الآية الكريمة يحتمل لذلك. ولكن لم يرد وصف الغمرة في حق المؤمنين أصلا بل لم يوصف بها إلا قلوب المجرمين، كما تراه في الآيات أولا.
فالذوق الصحيح ورعاية نظائر الآيات، يأبى ما أغرب به أبو مسلم أشد الإباء. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 64]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي متنعميهم بِالْعَذابِ أي بالانتقام، مثل أخذهم يوم بدر إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يصرخون باستغاثة أو الآية. كقوله تعالى:
ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً [المزمل: 11- 13] . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 65 الى 67]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67)
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي يقال لهم تبكيتا لهم: لا تجأروا، فإن الجؤار غير نافع لكم إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تعرضون عن سماعها أشد الإعراض مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالبيت الحرام والذي سوغ الإضمار، شهرتهم بالاستكبار به، وأن لا مفخر لهم إلا أنهم قوّامه. وجوز تضمين (مستكبرين) معنى (مكذبين) والضمير للتنزيل الكريم. أي مكذبين تكذيب استكبار. ولم يذكروا احتمال إرجاع الضمير (للنكوص) إشارة إلى زيادة عتوهم، وأنهم يفتخرون بهذا الإعراض ولا يرهبون مما ينذرون به، كقوله: وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: 7] ، وليس ببعيد. فتأمل. سامِراً تَهْجُرُونَ يعني أنهم يسمرون ليلا بذكر القرآن وبالطعن فيه، وتسميته سحرا وشعرا ونحو ذلك. وهو معنى (تهجرون) من (الهجر) بالضم، وهو الفحش في القول. أو معناه تعرضون. من (الهجر) بالفتح.
تنبيه:
قال أبو البقاء: (سامرا) حال أيضا وهو مصدر. كقولهم (قم قائما) وقد جاء من المصادر على لفظ اسم الفاعل نحو العاقبة والعافية. وقيل: هو واحد في موضع الجميع. انتهى.(7/295)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
فيكون واحدا أقيم مقام الجمع. وقيل هو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب. قال الشهاب: وعلى كونه مصدرا فيشمل القليل والكثير أيضا، باعتبار أصله. ولكن مجيء المصدر على وزن (فاعل) نادر. وقرئ (سمّرا) بضم وتشديد.
(سمّار) بزيادة ألف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 68]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي القرآن، ليعلموا أنه الحق المبين، فيصدقوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي من الهدى والحق، فاستبدعوه واستبعدوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال. مع أن المجيء بما لم يعهد، لا يوجب النفرة. لأن المألوف قد يكون باطلا، فتقتضي به الحكمة التحذير منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 69 الى 70]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون بما أرسل به. وهذا توبيخ آخر يشير إلى عظيم جهالتهم، بأنهم ما عرفوا شأنه ولا دروا سر ما بعث به مما يؤسف له. كما قال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس: 30] ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، أو جن يخبلونه. وهذا توبيخ آخر، فيه تعجيب من تلونهم في الجحود، وتفننهم في العناد، ثم أشار إلى أنه لم يحملهم على ذلك إلا أنفتهم للحق كبرا وعتوّا بقوله بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي لما فيهم من الزيغ والانحراف.
قال القاشانيّ: ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفأوا نورها بالرين والطبع، على مقتضى قوى النفس والطبع، واشتد احتجابهم بالغواشي الظلمانية عن نور الهدى والعقل، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد، والعدل فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه، للتقابل بين النور والظلمة، والتضادّ بين الباطل والحق، وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به.(7/296)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 74]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي ولو كان ما كرهوه من الحق الذي هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله عليه، موافقا لأهوائهم المتفرقة في الباطل، الناشئة من نفوسهم الظالمة المظلمة، لفسد نظام الكون لانعدام العدل الذي قامت به السماوات والأرض، والتوحيد الذي به قوامهما فلزم فساد الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك، وفيه من تنويه شأن الحق، والتنبيه على سموّ مكانه، ما لا يخفى بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ إضراب عن توبيخهم بكراهته، وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها. أي ليس هو مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا. أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 168- 169] ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بالنكوص عنه. وأعاد الذكر تفخيما. وأضافه لهم لسبقه. وفي سورة الأنبياء ذِكْرِ رَبِّهِمْ [الأنبياء: 42] ، لاقتضاء ما قبله له أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي جعلا على أداء الرسالة، فلأجل ذلك لا يؤمنون فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي عطاؤه وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي منحرفون. قال القاشانيّ: الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه، هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس، ووجود المحبة في القلب. وشهود الوحدة. والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات، وعن القدس بالرجس، إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة، والركون إلى الكثرة. فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده. فهو في واد وهم في واد. وقال الزمخشريّ: قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم، واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام، الذي هو الصراط المستقيم. مع إبراز المكنون من(7/297)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون، بعد ظهور الحق، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 75]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
قال ابن جرير: أي ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضر الجوع والهزال لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يعني في عتوهم وجرأتهم على ربهم يَعْمَهُونَ يعني يترددون. وأشار ابن كثير إلى معنى آخر فقال:
يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم، بأنه لو أزاح عنهم الضر، وأفهمهم القرآن، لما انقادوا له، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] ، وقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:
27- 28] الآية. فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون، لو كان كيف يكون.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 76]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
قال ابن جرير: أي ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا، وأنزلنا بهم بأسنا وسخطنا، وضيقنا عليهم معايشهم، وأجدبنا بلادهم، وقتلنا سراتهم بالسيف فما استكانوا لربهم. أي فما خضعوا لربهم فينقادوا لأمره ونهيه، وينيبوا إلى طاعته.
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشا بسني الجدب، إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن قال: إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء، فإنما هي نقمة. فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية. ولكن استقبلوها بالاستغفار، وتضرعوا إلى الله. وقرأ هذه الآية وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.(7/298)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 77]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعني ما نزل بهم من القتال والقتل يوم بدر، أو باب المجاعة والضر، وهو ما روي عن مجاهد واختاره ابن جرير إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي حزنى نادمون على ما سلف منهم، في تكذيبهم بآيات الله، في حين لا ينفعهم الندم والحزن. ثم أشار تعالى إلى قدرته على البعث بآياته المبصرة في الأنفس والآفاق، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 78]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي نعمة الله في ذلك، بصرفها لما خلقت له. وهو أن يدرك.
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه الواحد
والقلة في الآية هذه ونظائرها، بمعنى النفي، في أسلوب التنزيل الكريم. لأن الخطاب للمشركين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 79 الى 81]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وبثكم بالتناسل فيها وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة، بعد تفرقكم إلى موقف الحساب وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي أي خلقه، أي يجعلهم أحياء، بعد أن كانوا نطفا أمواتا، ينفخ الروح فيها، بعد الأطوار التي تأتي عليها وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بالطول والقصر.
فهو متوليه ولا يقدر على تصريفهما غيره أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: إن من أنشأ ذلك ابتداء من غير أصل، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم. ثم بين تعالى أنهم لم يعتبروا بآياته، ولا تدبروا ما احتج عليهم من الحجج الدالة على قدرته على فعل كل ما يشاء، بقوله: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي من الأمم المكذبة رسلها.(7/299)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 82 الى 83]
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي أحياء، كهيئتنا قبل الممات لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطروه في كتبهم، مما لا حقيقة له:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 85]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعلمون أن من ابتدأ ذلك، قدر على إعادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 86 الى 87]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي عقابه على شرككم به، وتكذيبكم خبره وخبر رسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 88 الى 89]
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ أي يغيث من أراد، ممن قصد بسوء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء، فيدفع عنه عذابه وعقابه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي تخدعون عن توحيده وطاعته، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة ف (السحر) مستعار للخديعة. وتكرير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لاستهانتهم، وتجهيلهم، لكمال ظهور الأمر.(7/300)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قال في (الإكليل) : قال مكيّ: في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 90 الى 94]
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في دعواهم أن له ولدا ومعه شريكا مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لأنه يجب أن يتخالفا بالذات، وإلا لما تصوّر العدد- والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه، ويستبد به، ويظهر بينهم التحارب والتغالب، فيفسد نظام الكون، كما تقدم بيانه في آية لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي من العذاب. أي إن كان لا بد من أن تريني. لأن (ما) و (النون) للتأكيد رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي نجني من عذابهم. وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب، وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به. وردّ لإنكارهم إياه واستعجالهم به، استهزاء. وتكرير النداء، لإظهار زيادة الابتهال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 95 الى 100]
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ أي من العذاب لَقادِرُونَ أي: وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالخلة التي هي أحسن(7/301)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
الخلال. وهو العفو الصفح السَّيِّئَةَ يعنى أذى المشركين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي فسيرون جزاءه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي وساوسهم المغرية على الباطل والشرور والفساد، والصدّ عن الحق وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي يحضروني في حال من الأحوال حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب، وعاين وحشة هيئات السيئات، تمنى الرجوع، وأظهر الندامة، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك. وقوله تعالى كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ يعني قوله (ربّ ارجعون) إلخ هُوَ قائِلُها أي لا يجاب إليها ولا تسمع منه، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة. والآية نظيرها قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] ، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي حائل يحول بينهم وبين الرجعة، يلبثون فيه إلى يوم القيامة.
لطيفة:
الواو في (ارجعون) قيل لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى، وردّه ابن مالك بأنه لا يعرف أحدا يقول (رب ارحموني، ونحوه) لما فيه من إيهام التعدد. مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه. كما في ضمير المتكلم. وقيل إنه لتكرير قوله (ارجعني) كما قيل في (قفا) و (أطرقا) إن أصله (قف قف) على التأكيد، وبه فسر قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] ، قال الشهاب: فيكون من باب استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة، بقطع النظر عن معناه، وهو كثير في الضمائر. كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في (كفى به) حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى، ومن لفظ إلى آخر. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنه غيّر الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر. فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل، قائما مقامه في التأكيد، من غير تجوز فيه ولابن جني في (الخصائص) كلام يدل على ما ذكرناه.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : آية 101]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي لشدة الهول من هجوم ما شغل(7/302)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
البال حتى زال به التعاطف والتآلف، إذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34- 37] ، ونفي نفع النسب، إذا دهم مثل ذلك معروف.
كما قال:
لا نسب اليوم ولا خلّة ... اتّسع الخرق على الراقع
وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا، لعظم الفزع وشدة مآبهم من الأهوال، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال، فتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم، وجليّ أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ، كما دل عليه قوله فَإِذا أي فوقت القيام من القبور وهو المطلع يشتغل كل بنفسه. وأما ما بعده فقد يقع التساؤل، كما قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] و [الطور: 25] ، لأن يوم القيامة يوم ممتد. ففيه مشاهد ومواقف. فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه.
تنبيه:
روى هنا بعض المفسرين أخبارا في نفع النسب النبويّ. وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين، أو في مسانيد من التزم الصحة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 102 الى 104]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي رجحت حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال، ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك، فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير واجب
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرقها. وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء. فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وَهُمْ فِيها كالِحُونَ أي مشوهون، قبيحو المنظر. ويقال لهم تعنيفا وتوبيخا:(7/303)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 106]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106)
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا أي ملكتنا شِقْوَتُنا أي التي اقترفناها بسوء اختيارنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي عن الحق، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب، قال أبو السعود: وهذا، كما ترى، اعتراف منهم، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية، فمع أنه باطل في نفسه، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم- يردّه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 107 الى 110]
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي أخرجنا من النار، وارجعنا إلى الدنيا. فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي، فإنا متجاوزون الحدّ في الظلم. ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا، ولما وعدوا الإيمان والطاعة قالَ اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا فيها كخسء الكلاب وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب، فإنه لا يرفع ولا يخفف. ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ أي بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.
ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم، وأنهم انتفعوا بما آذوهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 111 الى 114]
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)(7/304)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قالَ أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي شيئا ما. أو لو كنتم من أهل العلم.
والجواب محذوف، ثقة بدلالة ما سبق عليه. أي لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها، كما علمتم اليوم ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها.
قال الرازيّ: الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا. ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء، ولا إعادة. فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون، سألهم: كم لبثتم في الأرض؟ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا، فهو يسير، بالإضافة إلى ما أنكروه. فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا. من حيث أيقنوا خلافه. فليس الغرض مجرد السؤال، بل ما ذكر.
قال الزمخشريّ: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا، بالإضافة إلى خلودهم، ولما هم فيه من عذابها. لأن الممتحن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة إليها. أو لأنهم كانوا في سرور. وأيام السرور قصار، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن، وصدّقهم الله في تقالّهم لسني لبثهم في الدنيا، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها. وقرئ (فسل العادين) والمعنى: لا نعرف من عدد تلك السنين، إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. لما نحن فيه من العذاب، وما فينا أن نعدها، فسل من فيه أن يعدّ، ويقدر أن يلقى إليه فكره. وقيل: فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المؤمنون (23) : الآيات 115 الى 118]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي بغير حكمة، حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي للجزاء فَتَعالَى اللَّهُ أي تعاظم عما تصفون، لأنه الْمَلِكُ الْحَقُّ أي المتصرف وحده، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته. والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي العظيم المجيد. وقرئ(7/305)
بالرفع وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قال ابن جرير: أي: ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودا آخر لا حجة لما بما يقول ولا بينة. فإنما حساب عمله السيّئ عند ربه. وهو موفيه جزاءه إذا قدم عليه. فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله، عنده، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم، قال الزمخشريّ: وقوله لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ كقوله: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: 151] ، وهي صفة لازمة، نحو قوله يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] ، جيء بها للتوكيد، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء. كقولك (من أحسن إلى زيد- لا أحق بالإحسان منه- فالله مثيبه) .
قال في (الانتصاف) : إن كان صفة، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله، كقوله بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: 151] ، فنفى إنزال السلطان به، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان، لا منزل ولا غير منزل.
وقال الرازيّ: نبه تعالى بالآية، على أن كل ما لا برهان فيه، لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد. انتهى.
ثم أمر تعالى نبيّه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه، بقوله وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته.(7/306)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النور
سميت به لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهيّ، بالتمثيل المفيد كمال المعرفة الممكنة لنوع الإنسان، مع مقدماتها، وهي أعظم مقاصد القرآن- قاله المهايميّ، وهي مدنية. وقال القرطبيّ: إن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور: 58] ، إلخ مكية وهي أربع وستون آية.(7/307)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
سُورَةٌ أَنْزَلْناها خبر محذوف. أي هذه السورة. والتنكير للتفخيم وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيّا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرونها فتعملون بموجبها. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله، في تفسير هذه الآيات: هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه. ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود. وبيّن فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنين. كل منهما يشهد أربع شهادات بالله. ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان. سواء كان في منزله أو ولايته. ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه. إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، فليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله. وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه. ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة. كالصلاة والجهاد ونحوهما. ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء. وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء. فإن حفظ الحدود بتقوى الله، يجعل لصاحبه نورا. كما قال تعالى:
اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ... [الحديد: 28] الآية. فضدّ النور الظلمة، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال لمؤمنين بأعمال الكفار. وأهل البدع والضلال. فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ [النور: 39] الآية، إلى قوله: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ ... [النور: 40] الآية، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة. وظلم العبد نفسه من الظلم. فإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا(7/308)
في الرزق، وبغضا في قلوب الخلق. كما روي ذلك عن ابن عباس، يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، وأعمال الكفار بالظلمة. والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله. والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي. كما لا يصير مؤمنا إذا كان معه بعض فروع الإيمان. ولغضّ البصر اختصاص بالنور كما
في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذيّ «1» : أن العبد إذا أذنب.. الحديث.
وفيه: فذلك الرّان الذي ذكر الله. وفي الصحيح «2» : إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة. والغين حجاب رقيق أرقّ من الغيم، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين، فلا يكون نكتة سوداء. كما أنها إذا أزيلت لا تصير رينا. وقال حذيفة: إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء.
فكلما ازداد العبد إيمانا، ازداد قلبه بياضا، وفي خطبة الإمام أحمد، في الرد على الزنادقة: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى. يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى.. إلخ. وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا. كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ [فاطر: 19- 20] ، وقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ [هود: 24] ، وقال: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً
[البقرة: 17] الآيات، وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده، يظهر في الآخرة، كما قال تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ.. [الحديد: 12- 15] الآية، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة، كما في سورة النور عقيب أمره بغض البصر والتوبة. وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء. وقال في سورة الحديد يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى قوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 12- 15] ، فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به، ويطلبون الاقتباس من نورهم، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم.
كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17] الآية.
وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 83- سورة المطففين، حدثنا قتيبة، حدثنا الليث.
(2) أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 41.(7/309)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 2]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها. أي كل من زنى من الرجال والنساء، فأقيموا عليه هذا الحد. وهو أن يجلد، أي يضرب على جلده مائة جلدة، عقوبة لما صنع وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به، من إقامة الحد عليهما، على ما ألزمكم به إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب. فإن من كان بذلك مصدقا، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه، خوف عقابه على معاصيه وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله، قال ابن جرير: العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة.
قال ابن تيمية عليه الرحمة: فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين. وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه. لأن المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة. كما
في الأثر: (من أذنب سرا فليتب سرا. ومن أذنب علانية فليتب علانية)
وليس من الستر الذي يحبه الله، كما
في الحديث (إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها. فإذا أعلنت ولم تنكر، ضرت العامة)
فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن. ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة. كما روي عن الحسن وغيره، لأنه لما أعلن استحق العقوبة. وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته. ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس. فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته. قال الحسن: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس. و (الفجور) اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح، يدل السامع له على فجور قلب قائله. ولهذا استحق الهجرة، إذا أعلن ببدعة أو معصية، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله. بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه. فإن هجره نوع تعزير له. فإذا أعلن السيئات، أعلن هجره، وإذا أسر أسرّ هجره، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات، كقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] ، وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: 10] ، وقوله:
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء:(7/310)
40] ، وقد روي عن عمر أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به أخوه إلى أميرها عمرو بن العاص ليحده، جلده سرا، فبعث إليه عمر ينكر عليه. ولم يعتدّ بذلك حتى أرسل إلى ابنه، فأقدمه المدينة وجلده علانية، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد، ولا ضربه بعد الموت، كما يزعمه الكذابون.
وقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموما وفي الفواحش خصوصا. فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده، رقّ به وظن أن هذا من رحمة الخلق. وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان. وترك للتناهي عن المنكر. وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط، وفي الباطن منافقة على دين قومها. لا تقلي عملهم كما قلاه لوط. وكما فعل النسوة بيوسف. فإنهن أعنّ امرأة العزيز على ما دعته إلى من فعل الفاحشة معها ولهذا قال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف: 33] ، وذلك بعد قولهن إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب. فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى: إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] ، وفي الصحيحين «1» ومن حديث أبي هريرة (العينان تزنيان) إلخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة. ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة. ومنهم من يقبل وينظر. وكل ذلك حرام. وقد نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة، بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما دونه من هجر؟ ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقلاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث. والمحب، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه، فليس دواؤه في ذلك، لأنه مريض. والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه، فأخذتنا به رأفة، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى:
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] ، أي فيها الشفاء والبرء
__________
(1) أخرجه أبو هريرة في: الاستئذان، 12- باب زنى الجوارح دون الفرج، حديث 2372.(7/311)
من ذلك. بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته. ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه. بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء. فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه، أعقبه ذلك مرضا عظيما لا يتخلص منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء. ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي. وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية أدوية نافعة. وهي من رأفة الله بعباده، الداخلة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء:
107] ، فمن ترك هذه الرحمة النافعة، لرأفة بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير. ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة. وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه.
وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم، فوجد كبيرهم مرارته، فترك شربه. ونهى عن سقيه للباقين. ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبا له. إما لقرابة أو مودة أو إحسان، أو لما يرجوه منه، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب. ويتأوّل «1»
(إنّما يرحم الله من عباده الرّحماء)
وليس كما قال. بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه. بل
قد ورد «2»
(لا يدخل الجنة ديوث)
فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها، لم يكن مريدا للعقوبة عليها. فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الآية. في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله. المبنيّ على محبته ومحبة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله. فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله. والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها. فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة، زيّن له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار،. وإن رآه مائلا إلى الشدة، زيّن له الشدة في غير ذات الله، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الجنائز، 33- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» ، حديث رقم 682، عن أسامة بن زيد.
(2) أخرجه النسائي في: الزكاة، 69- باب المنان بما أعطى، عن ابن عمر، ونصه: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث.. إلخ.(7/312)
يحبه. ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به. فالأول مذنب والثاني مسرف. وفليقولا جميعا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا [آل عمران: 147] ، الآية. وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله، وينهى عما يبغضه الله. ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه.، فتارة تغلب عليه الشدة وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] ، والنظر والمباشرة، وإن كان بعضه من اللمم، فإن دوام ذلك وما يتصل به، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه. بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك. كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] الآية. ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط. وقد جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الحدود فيما
رواه أبو داود من حديث ابن عمر «1»
(من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضادّ الله في أمره. ومن خاصم في باطل، وهو يعلم، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال)
. فالشافع في الحدود مضادّ لله في أمره. فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي، وجماع ذلك كله قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] ، وقوله:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما
في الصحاح «2»
(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
إلخ. ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم. ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه. خلافا للخوارج والمعتزلة. ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد، يرحم من وجه آخر، فيحسن إليه ويدعى له.
وهذا الجانب أغلب في الشريعة، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى.
ففي الصحيح «3»
(إن رحمتي تغلب غضبي)
وقال:
__________
(1) أخرجه أبو داود في: 23- الأقضية، 14- باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، حديث رقم 3597.
(2) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، 30- باب النهي بغير إذن صاحبه، حديث رقم 1220، عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في: التوحيد، 55- باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، حديث 1509، عن أبي هريرة.(7/313)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] ، وقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98] ، فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه. وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته. ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين. وقال تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ [النساء: 15] الآية، وفي الحديث «1» بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت، والسبيل للنساء خاصة. ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريبا، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة. كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم. ومنهم من يوجبهما جميعا. كما «2» فعل بشراحة الهمدانية، حيث جلدها ثم رجمها. وقال:
جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيّه. رواه البخاريّ. والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة. ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:
16] ، فإن الأذى يتناول الصنفين. وأما الإمساك فيختص بالنساء، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجل ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج، لأن ظهورها يسبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن، وقوله: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ، دل على شيئين: على نصاب الشهادة وعلى أن الشهداء على نسائنا منا. وهذا لا نزاع فيه. وأما شهادة الكفار بعضهم على بعض ففيها روايتان عن أحمد. الثانية أنها تقبل. اختارها أبو الخطاب. وهو قول أبي حنيفة. وهو أشبه بالكتاب والسنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة أهل ملة على ملة، إلا أمتي)
فمفهومه جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض. ولكن فيه: أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم، لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وفي آخر الحج مثلها وفي البخاري «3» من حديث أبي سعيد (يدعى نوح) الحديث. وكذلك فيهما «4» من حديث أنس، شهادتهم على
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحدود، حديث 12.
(2) أخرجه البخاري في: الحدود، 21- باب رجم المحصن، حديث رقم 2513.
(3) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 3- باب قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ حديث رقم 1578.
(4) أخرجه البخاري في: الجنائز، 86- باب ثناء الناس على الميت، حديث رقم 723.
وأخرجه مسلم في: الجنائز، حديث 60.(7/314)
الجنازتين خيرا وشرا،
فقال (أنتم شهداء الله في أرضه)
الحديث. ولهذا، لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة، بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقية التي جعلها الله لأهل السنة، قال فيهم (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) واستدل من جوّز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة: 106] الآية، قالوا: دلت على قبول شهادتهم على المسلمين. ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى. ثم نسخ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى، والتنبيه على الأقوى. كما نص عليه أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف. ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها. كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. حتى نص أحمد على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة. فالكفار الذي لا يختلط بهم المسلمون أولى، والله أمرنا أن نحكم بينهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم «1» رجم الزانيين من اليهود، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم. ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك. وفي تولي بعضهم مال بعض، نزاع، فهل يتولى الكافر العدل في دينه، مال ولده الكافر؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه. وقوله تعالى: فَآذُوهُما أمر.
بالأذى مطلقا، ولم يذكر صفته ولا قدره. ولفظ (الأذى) يستعمل في الأقوال كثيرا.
كقوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمران: 111] ، والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء. فالمذنب لا يزال يؤذي وينهى ويوبخ إلا أن يتوب. وأدنى ذلك هجره. فلا يكلم بالكلام الطيب. وهذه محكمة فمن أتى الفاحشة وجب إيذاؤه بالكلام الزاجر إلى أن يتوب. وليس ذلك محدودا بقدر ولا صفة. إلا ما يكون زاجرا له داعيا إلى حصول المقصود، وهو توبته وصلاحه. وعلّقه تعالى على التوبة والإصلاح، فإذا لم يوجدا، فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودا. فأما من تاب بترك الفاحشة ولم يصلح، فتنازعوا: هل من شرط التوبة صلاح العمل؟ على قولين. وهذه تشبه قوله فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] ، فعلق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح. مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكفّ
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحدود، 24- باب الرجم في البلاط، حديث رقم 704، عن ابن عمر. [.....](7/315)
عنهم. ثم إن صلوا وزكوا، وإلا عوقبوا على ترك الفعل. لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه. ويكون الأمر فيه موقوفا على التمام. وكذلك التائب من الفاحشة.
وهذه الآية مما يستدل به على التعزير بالأذى. والأذى، وإن كان كثيرا يستعمل في الكلام، فليس مختصّا به.
كقوله لمن بصق في القبلة «1» (إنك قد آذيت الله ورسوله)
وكذا
قوله في حق فاطمة «2»
(ويؤذيني ما آذاها)
وقوله «3»
لمن أكل البصل (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)
وهل يكون من توبته اعترافه بالذنب؟
فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد وكذب الشهود أو ثبت بشهادة شهود. فيه نزاع.
فذكر أحمد أنه لا توبة لمن جحد. واستدل بقصة عليّ بن أبي طالب: أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة، فاعترف منهم ناس فتابوا. فقبل توبتهم. وجحد جماعة فقتلهم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة «4»
(فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه)
فمن أذنب سرا فليتب سرا، كما
في الحديث «5»
(ومن ابتلي بشيء من هذه القاذروات فليستتر)
إلخ،
وفي الصحيح «6»
(كل أمتي معافى إلا المجاهرون)
الحديث. فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة. ومع الجحود لا تظهر التوبة. فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب. ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورا، فإن هذا أظهر حال الضالين، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم. ومن أذاه منعه، مع القدرة، من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة. وأما بدون القدرة، فليفعل المقدور عليه. ولم يعلق الأذية على استشهاد أربعة، وليس هذا من حمل المطلق على المقيد. لأن ذلك لا بد أن يكون فيه الحكم واحدا، مثل الإعتاق. فإذا كان متفقا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم، وتقييدها إلى المرافق في الوضوء، فلا يحمل. ولم يحمل الصحابة والتابعون المطلق على المقيد في قوله تعالى:
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الصلاة، 22- باب في كراهية البزاق في المسجد، حديث رقم 481 عن أبي سهلة الشائب بن خلاد.
(2) أخرجه البخاري في: النكاح، 109- باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف، حديث رقم 538 عن المسور بن مخرمة.
(3) أخرجه مسلم في: المساجد، حديث رقم 74.
(4) أخرجه البخاري في: المغازي، 34- باب حديث الإفك، حديث 1266، عن عائشة.
(5) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الحدود، رقم 12، عن زيد بن أسلم.
(6) أخرجه البخاري في، الأدب، 60- باب ستر المؤمن على نفسه، حديث قم 2335، عن أبي هريرة.(7/316)
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23] ، وقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] ، قالوا: الشرط في الربائب خاصة. قالوا: أبهموا ما أبهم الله. والمبهم هو المطلق. والمشروط فيه هو المقيد.
لكن تنازعوا: هل الموت كالدخول؟ على قولين. وذلك لأن الحكم مختلف، والقيد ليس متساويا في الأعيان. فإن تحريم جنس، ليس مثل تحريم جنس يخالفه. كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير، لما كان أجناسا، فليس تقييد الدم بالمسفوح موجبا تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحا. وهنا القيد قيد الربيبة بدخول أمها.
والدخول بالأم لا يوجد مثله في حليلة الأب وأم المرأة. إذ بالدخول في الحليلة، بها نفسها. وفي أم المرأة ببنتها. وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصاب الشهادة. بل لما ذكر الله في آية الدّين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ [البقرة: 282] ، وفي الرجعة رَجُلَيْنِ [الطلاق: 2] ، أقروا كلا منهما على حاله. لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع. كما أن إقامة الحد في الفاحشة والقذف بها اعتبر فيه أربعة، فلا يقاس بذلك عقود الأثمان والأبضاع، وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام:
جلد ثمانين، وترك قبول شهادتهم أبدا، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النور:
4- 5] الآية. والتوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف، وترفع الفسق بلا تردد.
والأكثر قالوا: ترفع المنع من قبول الشهادة. وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة لم يرجم، كما
في الصحيح «1»
(إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها به، فقد صدق عليها)
فجاءت به على النعت المكروه.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)
فقيل لابن عباس: هذه التي
قال فيها (لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها)
فقال: لا. تلك امرأة كانت تعلن السوء في الإسلام فقد أخبر أنه لا يرجم أحدا إلا ببينة، ولو ظهر على الشخص السوء. ودل الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك، ولم تكن بينة. وكذلك ثبت عنه في الجنازة لما أثنوا عليها شرّا، والأخرى خيرا.
فقال (أنتم شهداء الله في أرضه)
وفي المسند عنه «2» أنه قال (يوشك أن تعلموا أهل الجنّة من أهل النّار) قالوا يا رسول الله! وبم ذاك؟ قال بالثناء الحسن وبالثناء السيّئ فقد جعل الاستفاضة حجة وبينة في هذه الأحكام
. ولم يجعلها حجة في الرجم. وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 24- سورة النور، 3- باب ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، حديث رقم 1296، عن ابن عباس.
(2) أخرجه في المسند بالصفحة رقم 3/ 416.(7/317)
الوصية في السفر. وكذلك تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا أدّوها قبل التفرق، في إحدى الروايتين. وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة أو الصبي في لحاف، أو بيت مرحاض، أو محلولي السراويل، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك، من وجود اللحاف فقد خرج عن العادة إلى مكانهما أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره، فرآه فأطفأه فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل. فإن لم يكن ما يستخفي به إلا ما شهد به الشاهد، كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به فهذا باب عظيم النفع في الدين. وهو مما جاءت الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا، أو إقرار مسموع. وهذا خلاف ما تواترات به السنّة وسنة الخلفاء الراشدين. وما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر. ويدل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية. ففيها دلالات: إحداها أنه لم يأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بكل نبأ إذ من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين. ومنه ما يباح فيه ترك التبين. ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس، لأنه علل بخشية الإصابة، بجهالة. فلو كان كل ما أصيب بنبإ كذلك، لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق.
بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبإ كذلك لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق، بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبإ العدل الواحد لا ينهى عنه مطلقا.
وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات. فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك. فإنها نزلت بإخبار واحد. أن قوما قد حاربوا بالردة أو نقض العهد.
وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت. فيجوز إصابة القوم إذا. فكيف خبر العدل مع دلالة أخرى؟ ولهذا كان أصح القولين، أن مثل هذا لوث في القسامة فإذا انضاف أيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه. وقوله بِجَهالَةٍ جعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم. فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور. وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن كما قال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] ، وقال: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، وأيضا علل بخوف الندم وهو إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب كما
في السنن «1»
(ادرءوا الحدود بالشبهات. فإن الإمام، أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الحدود، 2- باب ما جاء في درء الحدود، عن عائشة ونصه: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» إلخ.(7/318)
يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)
فإذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا، فإنه لا يندم ولا يكون فيه خطأ. وقد ذكر الشافعيّ وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين: أحدهما الزنى، والثاني المخنّث «1» ، فيما
روت أم سلمة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها: إن فتح الله لكم الطائف غدا، أدلك على ابنة غيلان. فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرجوهم من بيوتكم) . أخرجاه
،
وفي لفظ (لا يدخل هؤلاء عليكم)
وفي رواية (أرى هذا يعرف مثل هذا. لا يدخلن عليكم بعد اليوم)
وقال ابن جريج: هو هيت. وقال غيره: هنب. وقيل: ماتع. وذكر بعضهم أنهم ثلاثة: نهم وهيت وماتع.
ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى. إنما كان تخنيثهم لينا في القول، وخضابا في الأيدي والأرجل، ولعبا كلعب النساء. وفي السنن: أنه أمر بمخنث فنفي إلى النقيع.
فإذا كان الله أمر بإخراج هؤلاء من البيوت، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه، شر من هؤلاء: وهو أحق بالنفي. فإن المخنث فيه فساد للرجال والنساء. لأنه إذا تشبه بالنساء، فقد يعاشرنه وهو رجل، فيفسدهن. ولأنها إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل وتعاشر الصنفين. وقد تختار مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال.
وأما إفساده للرجال فهو أن يمكنهم من الفعل به، بمشاهدته وعشقه فإذا خرج إلى بلد ووجد هناك من يفعل به، فهنا يكون نفيه بحبسه في مكان ليس معه غيره فيه.
وإن خيف خروجه، قيد إذ هذا هو معنى نفيه. ولهذا تنازع العلماء في نفي المحارب: هل هو طرده بحيث لا يأوي إلى بلد، أو حبسه، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا؟ فعن أحمد ثلاث روايات: الثالثة أعدل وأحسن. فإن نفيه بحيث لا يأوي إلى بلد لا يمكن، لتفرق الرعية واختلافهم واختلاف هممهم. وحبسه قد لا يمكن لأنه يحتاج إلى مؤونة. وروي أن هنبا لما اشتكى الجوع أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته، والذي جاءت به الشريعة من النفي هو نوع من الهجرة وليس كنفي الثلاثة «2» الذين خلفوا، ولا هجرهم. فإنه لم يمنعهم من مشاهد الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها. وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضا. فمن كانت مخالطته تضر، استحق
__________
(1) أخرجه البخاري في: اللباس، 62- باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، حديث رقم 1927.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، 9- سورة التوبة، 18- باب: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حديث 132.(7/319)
الإخراج من بينهم، لأنه مضرة بلا مصلحة. فإن الصبيّ إذا رأى صبيا يفعل شيئا تشبه به. والاجتماع بالزناة واللوطية: فيه أعظم الفساد والضرر على الرجال والنساء والصبيان. فيجب أن يعقب اللوطيّ والزاني بما فيه تقريعه وإبعاده. وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها. وكذلك هجران الدعاء إلى البدع وهجران الفساق وهجران من يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم. وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه فإنه يعاقب بهجرهم له، لما لم يخالطهم في البر. فمن لم يهجر هؤلاء كان تاركا للمأمور فاعلا للمحذور. فهذا ترك المأمور من الاجتماع. وهذا فعل المحذور منه. فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه. وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك، يفعل بحسب الاستطاعة. فإن لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين، جاهد من يقدر على جهاده. وإذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين، عاقب من يقدر على عقوبته. فإذا لم يكن النفي والحبس عن جميع الناس، كان النفي والحبس على حسب القدرة. ويكون هو المأمور به، فالقليل من الخير، خير من تركه. ودفع بعض الشر خير من تركه كله. وكذلك المتشبهة بالرجال تحبس، كحالها إذا زنت فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة.
وممّا يدخل في هذا: أن عمر نفى نصر ابن حجاج من المدينة إلى البصرة، لما شبب به النساء. وكان أولا قد أمر بأخذ شعره ليزيل جماله الفاتن، فلما رآه من أحسن الناس وجنتين، غمه ذلك فنفاه إلى البصرة. فهذا لم يصدر منه ذنب يعاقب عليه، لكن كان في النساء من يفتتن به، فأمر بإزالة جماله الفاتن. فإن انتقاله من وطنه مما يضعف همته وبدنه ويعلم أنه معاقب. وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه. وليس من باب المعاقبة. وقد كان عمر ينفي في الخمر إلى خيبر، زيادة في عقوبة شاربها. ومن أقوى ما يهيج الفاحشة. إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش، وإن كان القلب في عافية، جعل فيه مرضا، كما قال بعض السلف: الغناء رقية الزنى. ورقية الحية هي التي تستخرج بها الحية من جحرها. وقية العين والحمة ورقية الزنى. أي تدعو إليه وتخرج من الرجل الأمر الخبيث. كما أن الخمر أم الخبائث. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وقال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64] ، واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء، كما قاله من قاله من السلف، وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك.
فإن هذه الأصوات توجب انزعاج القلوب والنفوس الخبيثة إلى ذلك، وتوجب حركتها(7/320)
السريعة واضطرابها. حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة. والنفس متحركة. فإن سكنت فبإذن الله، وإلا فهي لا تزال متحركة. وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس، لا تزال تتحرك عليه.
وفي الحديث المرفوع (القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا)
وفي الحديث الآخر «1»
(مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض، تحركها الريح)
وفي البخاريّ عن ابن عمر «2» : كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا، ومقلب القلوب)
ولمسلم «3» عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا إلى طاعتك)
وفي الترمذي «4» : كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك) قيل: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به. فهل تخاف علينا؟ فقال (نعم. القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ يقلبها كيف يشاء)
انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا الآية، وجوب الحد على الزاني والزانية، وأنه مائة جلدة. أي في البكر كما بينته السنة.
واستدل بعمومه من أوجب المائة على العبد والذميّ وعلى المحصن، ثم يرجم.
فأخرج أحمد عن عليّ أنه أتى بمحصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، ثم قال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل الخوارج بالآية على أن حد المحصن الجلد دون الرجم. قالوا: لأنه ليس في كتاب الله. واستدل أبو حنيفة بها على أنه لا تغريب، إذ لم يذكره. وفي الآية رد على من قال: إن العبد إذا زنى بحرة يرجم. وبأمة يجلد. وعلى من قال: لا تحد العاقلة إذا زنى بها مجنون، والكبيرة إذا زنى بها صبيّ، أو عكسه، لا يحدّ. وعلى من قال: لا حد على الزاني بحربية أو بمسلمة في بلاد الحرب أو في عسكر أهل البغي. أو بنصرانية مطلقا. أو بأمة امرأته. أو محرم. أو من استدخلت ذكر نائم. واستدل بعمومها من أوجبه على المكره والزاني بأمة ولده والميتة.
قال ابن الفرس: ويستدل بقوله فَاجْلِدُوا على أنه يجرد عن ثيابه. لأن الجلد
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 408.
(2) أخرجه البخاري في: الأيمان والنذور، 3- باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 2487.
(3) أخرجه مسلم في: القدر، حديث 17. عن عبد الله بن عمرو بن العاص. [.....]
(4) أخرجه الترمذي في: القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن، عن أنس.(7/321)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
يقتضي مباشرة البدن. وبقوله مِائَةَ جَلْدَةٍ على أنه لا يكتفي بالضرب بها مجموعة ضربة واحدة، صحيحا كان أو مريضا. وفي قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ الحث على إقامة الحدود والنهي عن تعطيلها. وأنه لا يجوز العفو عنها للإمام ولا لغيره، وفيه ردّ على من أجاز للسيد العفو. فاستدل بالآية من قال: إن ضرب الزنى أشد من ضرب القذف والشرب. وفي قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما إلخ، استحباب حضور جمع، عند جلدهما. وأقله أربعة عدد شهود الزنى. وقيل: عشرة، وقيل ثلاثة وقيل: اثنان. انتهى.
وتقدم عن ابن جرير أن الطائفة تصدق بالواحد، لغة. فتذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 3]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
لما أمر الله بعقوبة الزانيين، حرم مناكحتهما على المؤمنين، هجرا لهما ولما معها من الذنوب كقوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] ، وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر، مثله بقوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء: 140] ، وهو زوج له قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] ، أي عشراءهم وأشباههم.
ولهذا يقال: (المستمع شريك المغتاب) ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر. وكان فيهم جليس لهم صائم، فقال ابدءوا به في الجلد ألم يسمع قول الله تعالى فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140] ، فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم المنكر، يكون مجالسهم مثلا لهم، فيكف بالعشرة الدائمة:
(والزوج) يقال له: العشير. كما
في الحديث «1»
(ويكفرن العشير)
وأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك. أما المشرك فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها. وأما الزاني ففجوره يدعوه إلى ذلك، وإن لم يكن مشركا. وفيها دليل على أن الزاني ليس بمؤمن مطلق الإيمان. وإن لم يكن مشركا كما
في الصحيح (لا يزني
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحيض، 6- باب ترك الحائض الصوم، حديث 215، عن أبي سعيد الخدري.(7/322)
الزاني حين يزني وهو مؤمن)
وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح الزانية إلا زان أو مشرك. ثم قال تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فعلم أن الإيمان يمنع منه. وأن فاعله إما مشرك وإما زان، ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك. وذلك أن المزاناة فيها فساد فراش الرجل وفي مناكحتها معاشرة الفاجرة دائما. والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه. وهذا موجود في الزاني. فإنه إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها، كما قال الشعبيّ: من زوج كريمته من فاسق، فقد قطع رحمها. وهذا مما يدخل على المرأة ضرارا في دينها ودنياها. فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش.
ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم. فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزاني الذي يقصّر في حقوقها، ويعتدي عليها، ولهذا اتفقوا على اعتبار الكفاءة في الدين، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة. واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك. فإن من نكح زانية فقد رضي لنفسه بالقيادة والدياثة. ومن نكحت زانيا فهو لا يحصن ماءه، بل يضعه فيها وفي غيرها من البغايا. فهي بمنزلة المتخذة خدنا. فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة. وهذا لا يحفظ ماءه. والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [النساء: 24] ، وهذا مما لا ينبغي إغفاله. فإن القرآن قد قصّه وبينه بيانا مفروضا. كما قال تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء. وفيه آثار عن السلف. وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه، وقد ادعى بعضهم أنها منسوخة بقوله:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 24] ، وزعموا أن البغيّ من المحصنات. وتلك حجة عليهم، فإن أقل ما في الإحصان العفة. وإذا اشترط فيه الحرية، فذاك تكميل للعفة والإحصان. ومن حرم نكاح الأمة لئلا يرقّ ولده، فكيف يبيح البغيّ الذي يلحق به من ليس بولده؟ وأين فساد فراشه من رقّ ولده؟ وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء وهذا حجة عليهم. فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح، فهو زان. وكذلك من وطئها زان. فإن ذم الزاني بفعله الذي هو الزنى. حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم كانت العقوبة للزاني دون قرينه. والمقصود أن الآية تدل على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة. وأن ذلك حرام على المؤمنين. وليس هذا مجرد كونه فاجرا، بل لخصوصية كونه زانيا. وكذلك في المرأة. ليس بمجرد فجورها، بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيا كما جعله زانيا إذا تزوج زانية. وهذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم(7/323)
الزنى. وإلا إن كانا مشركين، فينبغي أن يعلم ذلك. ومضمونه أن الزاني لا يجوز إنكاحه حتى يتوب. وذلك يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة الزانية لا تحصن فرجها.
ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه. فمن نكح زانية فهو زان، أي تزوجها.
ومن نكحت زانيا فهي زانية، أي تزوجته. فإن كثيرا من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني، فتكون خدنا له لا يأتي غيرها، فإن الرجل إذا كان زانيا لا يعف امرأته فتتشوق إلى غيره فتزني كما هو الغالب على نساء الزاني ومن يلوط بالصبيان. فإن نساءهم يزنين ليقضين إربهن وليراغمن أزواجهن. ولهذا يقال: عفوا تعف نساؤكم. وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم. فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها. فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية، رضي بأن تزني امرأته.
والله سبحانه قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة. فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر. فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيا فقد رضيت عمله، وكذلك الرجل. ومن رضي بالزنى فهو بمنزلة الزاني، فإن أصل الفعل هو الإرادة. ولهذا في الأثر «1» من غاب عن معصية فرضيها كان كمن شهدها.
وفي الحديث «2»
«المرء على دين خليله»
وأعظم الخلة خلة الزوجين. وأيضا، فإن الله تعالى جعل في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته، أعظم من غيرته على نفسه أن يزني. فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغيا وهو ديوثا، كيف يكره أن يكون هو زانيا؟ ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعفّ عن الزنى، فإن الزنى له شهوة في نفسه. والديوث له شهوة في زنى غيره. فإذا لم يكن معه إيمان يكره من زوجته ذلك، كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنى؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزني، استحل أعظم الزنى. ومن أعان على ذلك فهو كالزاني. ومن أقر عليه، مع إمكان تغييره، فقد رضيه. ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني. إذ لا يمكنه منعها. فإن كيدهن عظيم. ولهذا جاز له، إذا أتت بفاحشة مبينة، أن يعضلها لتفتدي. لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه. فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب. ولا يسقط المهر بمجرد زناها. كما دل عليه
قوله «3» صلى الله عليه وسلم للملاعن «لما قال مالي» قال: لا مال لك عندها إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الملاحم، 17- باب الأمر والنهي، حديث 4345، عن العرس بن عميرة الكندي.
(2) أخرجه الترمذي في: الزهد، 45- باب حدثنا محمد بن بشار عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في: الطلاق، 53- باب المتعة التي لم يفرض لها، عن ابن عمر، حديث 2164.(7/324)
كاذبا عليها فذاك أبعد وأبعد لك منها لأنها إذا زنت قد تتوب. لكن زناها يبيح إعضالها حتى تفتدي إن اختارت فراقه، أو تتوب.
وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته، إلا إذا أعجبه ذلك الغير. فلا يزال يزني بما يعجبه، فتبقى امرأته بمنزلة المعلقة. لا هي أيّم ولا ذات زوج. فيدعوها ذلك إلى الزنى، ويكون الباعث لها مقابلة زوجها على وجه القصاص. فإذا كان من العادين لم يكن قد أحصن نفسه.
وأيضا فإن داعية الزاني تشتغل بما يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدنا، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها. وعلى هذا، فالمساحقة زانية، كما
في الحديث: (زنى النساء سحاقهن)
والذي يعمل عمل قوم لوط زان، فلا ينكح إلا زانية أو مشركة. ولهذا يكثر في نساء اللوطية من تزني، وربما زنت بمن يتلوط به مراغمة له وقضاء لوطرها. وكذلك المتزوجة بمخنث ينكح كما تنكح، هي متزوجة بزان، بل هو أسوأ الشخصين حالا. فإنه مع الزنى صار ملعونا على نفسه للتخنيث، غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط. وفي الصحيح «1» أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. وكيف يجوز لها أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة. وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها. فإذا لم يكن له غيرة على نفسه، ضعفت غيرته على امرأته وغيرها. ولهذا يوجد من كان مخنثا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطيّ، كانت على دينه، فتكون زانية، وأبلغ. فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه. فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها.
ولفظ الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ يتناول هذا كله بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه. وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ. وأدنى من ذلك أن يكون بطريق القياس، كما بيناه في حد اللوطيّ وغيره. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله. وكله تأييد لما ذهب إليه الإمام أحمد من أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغيّ، ما دامت كذلك، فإن تابت صح العقد عليها، وإلا فلا. وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحدود، 33- باب نفي أهل المعاصي والمخنثين، حديث 2289، عن ابن عباس.(7/325)
العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة. لقوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كما فضّله تقيّ الدين.
وقد روى هنا الحافظ ابن كثير آثارا مرفوعة وموقوفة، كلها مؤكدة لهذا. ثم قال بعدها: فأما الحديث الذي
رواه النسائي «1» عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة من أحب الناس إليّ، وهي لا تمنع يد لامس. قال.
(طلقها) قال: لا صبر لي عنها. قال (استمتع بها)
. فقال النسائي: هذا الحديث غير ثابت. وعبد الكريم أحد رواته ضعيف الحديث ليس بالقويّ. وقال الإمام أحمد: هو حديث منكر. وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا. وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم. فقال: وقيل: سخية تعطي. وردّ هذا بأنه لو كان المراد لقال:
لا ترد يد ملتمس. وقيل: المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثا، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح البقاء معها. لأن محبته لها محققة. ووقوع الفاحشة منها متوهم، فلا يصار إلى الضرر العاجل للتوهم الآجل. والله أعلم. انتهى.
لطيفة:
سر تقديم (الزانية) في الآية الأولى و (الزاني) في الثانية: أن الأولى في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع. والثانية في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة. والأصل في النكاح الذكور، وهم المبتدئون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم، لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفّاء من الذكور والإناث، من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا، زجرا لهم عن الفاحشة، ولذلك قرن الزنى والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى، فاستعظمه وتلا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ، انتهى كلام الناصر في (الانتصاف) ومراد السلف بالكراهة، ما تعرف بالكراهة التحريمية. فيقرب بذلك مذهب المالكية.
__________
(1) أخرجه النسائي في: النكاح، 12- باب تزويج الزانية.(7/326)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ثم بيّن تعالى حكم جلد القاذف للمحصنة، وهي الحرة البالغة العفيفة، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون بالزنى الْمُحْصَناتِ أي المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي يشهدون على ما رموهن به فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أي كل واحد من الرامين. وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع. وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي في أي واقعة كانت، لظهور كذبهم وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي القذف وَأَصْلَحُوا أي أعمالهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي بقبول توبتهم وعفوه عنهم.
تنبيهات:
الأول: قال ابن تيمية: ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم (منا) ولا (ممن نرضى) ولا (من ذوي العدل) ولهذا تنازعوا: هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟
على قولين: أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعا. فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة. ولو لم تشهد المرأة، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن، أو يخلى سبيلها؟ فيه نزاع. فلا يلزم من درء الحد عن القاذف، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد. والحدود تدرأ بالشبهات. وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثا درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير محصن، مثل أن يكون مشهورا بالفاحشة، لم يحد قاذفه حد القذف. ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة. وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد. ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين. لكن يقال لم يقيّدهم بالعدالة، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج(7/327)
إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] الآية، وقوله: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
[الأنعام: 152] ، وقوله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ [البقرة: 283] ، وقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [البقرة: 282] ، وقوله وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ [المعارج: 33] ، فهم يقومون بها بالقسط لله، فيحصل مقصود الذي استشهدوه.
والوجه الثاني- كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا. فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء. وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله:
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] الآية. لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره. وأما الفاسقان فصاعدا. فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع. وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك.
ويحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة. ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد، لا في آية الزنى، ولا في آية القذف. بل قال: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد، ولم يأمر به عند خبر الفاسقين. فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد. ولهذا قال العلماء: إذا استراب الحاكم في الشهود، فرّقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم. انتهى.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : ذهب الجمهور إلى أن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل. ويزول عنه اسم الفسق. سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا روى البيهقيّ عن ابن عباس في هذه الآية: فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل. وتأولوا قوله تعالى أَبَداً على أن المراد ما دام مصرّا على قذفه. لأن (أبد كل شيء) على ما يليق به. كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن المراد ما دام مصرّا على الكفر. وبالغ الشعبيّ فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه، سقط عنه. وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة.
فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق، وأما شهادته فلا تقبل أبدا. وقال بذلك بعض التابعين. انتهى.
قال الزمخشريّ: والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط. كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم، وردّوا(7/328)
شهادتهم وفسّقوهم. أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا، فإن الله يغفر لهم، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسّقين. انتهى.
وأخرج البخاريّ في صحيحه في (كتاب الشهادات) في باب شهادة القاذف والسارق والزاني، عن عمر رضي الله عنه أنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا، بقذف المغيرة بالزنى، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة. ولم يبتّ زياد الشهادة.
ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وفي رواية قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل. ومن لم يفعل، لم أجز شهادته. فأكذب شبل نفسه ونافع. وأبى أبو بكرة أن يرجع.
قال المهلب: يستنبط من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته. لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها.
الثالث: قال الرازيّ: اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون؟
قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه.
فقال الإصطخريّ: يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله. وقال أبو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله (كذبت) كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل. ندمت على ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
الرابع: قال الرازيّ في قوله تعالى: وَأَصْلَحُوا قال أصحابنا: إنه بعد التوبة، لا بدّ من مضيّ مدة عليه في حسن الحل، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته. ثم قدّروا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة، التي تتغير فيها الأحوال والطباع.
كما يضرب للعنّين أجل سنة. وقد علق الشرع أحكاما بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما. انتهى.
وقال الغزاليّ في (الوجيز) : يكفيه أن يقول: تبت ولا أعود. إلا إذا أقر على نفسه بالكذب، فهو فاسق، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول: تبت. فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته. انتهى.
وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته، ولو على أثر الحدّ.(7/329)
قال الحافظ ابن حجر: روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال: رأيت رجلا جلد حدّا في قذف بالزنى. فلما فرغ من ضربه أحدث توبة. فلقيت أبا الزناد فقال لي: الأمر عندنا بالمدينة إذا رجع القاذف عن قوله، فاستغفر ربه، قبلت شهادته وعلّقه البخاريّ.
الخامس: ننقل هنا ما أجمله السيوطيّ في (الإكليل) مما يتعلق بأحكام الآية.
قال رحمه الله: في هذه الآية تحريم القذف، وأنه فسق، وأن القاذف لا تقبل شهادته، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي عفيفة. ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف. ويصرح بذلك قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وفيها أن الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال، لا أقل. ولا نساء. وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين. واستدل بعموم الآية من قال: يحدّ العبد أيضا ثمانين. ومن قال: يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده. واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحدّ لنفسه. لأنه لم يرم أحدا واستدل بها من قال: إن حد القذف من حقوق الله، فلا يجوز العفو عنه. انتهى.
ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تحقيقا في بحث قبول الشهادة بعد التوبة، جديرا بأن يؤثر. قال رحمه الله: وقوله تعالى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً نصّ في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبدا. واحدا كانوا أو عددا. بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير. وكان الذين قذفوا عائشة عددا، ولم يكونوا واحدا لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل، بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فقدت، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها، ولم تكن فيه.
فلما رجعت لم تجد أحدا فمكثت مكانها. وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش.
فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها. ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة. كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة، وقصة عائشة.
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين. ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور. فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ شهادة أحد منهم، ولا المسلمون بعده لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها. ومن لم يتب حينئذ، فإنه(7/330)
كافر مكذب بالقرآن. وهؤلاء ما زالوا مسلمين. وقد نهى الله عن قطع صلتهم. ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة.
وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة. لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول:
أرد شهادة من حدّ في القذف. وهؤلاء لم يحدوا. والأولون يجيبون بأجوبة: أحدها- أنه قد روي في السنن أنهم حدوا. الثاني أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا يقولون به. الثالث- أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا: قد يكون القاذف صادقا وقد يكون كاذبا. فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف. فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه. ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد. فإن الله عزّ وجلّ هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلى، فإذا كانت شهادتهم مقبولة، فغيرهم أولى. وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار، في شأن المغيرة، دليل على الفصلين جميعا. لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه وردّ شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما. والثالث، وهو أبو بكرة، مع كونه من أفضلهم، لم يتب فلم يقبل المسلمون شهادته. وقد قال عمر: تب أقبل شهادتك. لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبدا، ثم قال بعد ذلك وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فمعلوم أن قوله هُمُ الْفاسِقُونَ وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة.
وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة. وإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته وكان من الصالحين، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها. ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين.
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة. وبالجملة، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة، وهذا أمر عظيم. وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيّا، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله. والصدق(7/331)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
في شهادته وخبره. وكثيرا ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات. كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيرا. لكن يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها.
فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الحديث «1» المتفق على صحته «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة..» الحديث.
فالصدق مستلزم للبر، كما أن الكذب مستلزم للفجور. فإذا وجد الملزوم، وهو تحري الصدق، وجد اللازم وهو البر. وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق. وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم. وإذا انتتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه. وبعدم فجوره على صدقه. فالعدل الذي ذكروه من انتفى فجوره. وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة. وإذا انتفى ذلك فيه، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور. والفاسق هو من عدم بره، وإذا عدم بره عدم صدقه. ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور. فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب. انتهى.
ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجهم خاصة، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 7]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي بالزنى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما رماها به من الزنى وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنى. فيسقط عنه حد القذف، ويجب عليها الحد وهو الرجم. إلا إن لاعنت أيضا. كما قال سبحانه:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 69- باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، حديث 2340، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 105.(7/332)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 8 الى 10]
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي الدنيويّ وهو الرجم أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ أي الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي لحرجتم وشق عليكم كثير من أموركم، ولكن لرحمته ولطفه، شرع لكم من الفرج والمخرج، ما أنزله وأحكمه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة، أن يلاعنها كما أمر الله عزّ وجلّ. وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به. فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين. أي فيما رماها به من الزنى. والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. فإذا قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء. وحرمت عليه أبدا. ويعطيها مهرها. ويتوجه عليها حد الزنى. ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. أي فيما رماها به. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
الثاني-
روي في الصحيح «1»
أن ذلك وقع في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأن رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قضى الله فيك وفي امرأتك. وتلا عليه ما نزل من هذه الآية.
فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصح أيضا أنها قد وقعت لرجلين سمّيا. وقد اختلف شراح الصحيح في معنى ما روي من أنها نزلت فيهما معا.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الطلاق، 30- باب التلاعن في المساجد، حديث 279، عن سهل بن سعد.(7/333)
وإذا راجعت ما كتبناه في (المقدمة) في معنى سبب النزول، زال الإشكال فارجع إليه.
الثالث- قال السيوطي في (الإكليل) : هذه الآية أصل في اللعان،. ففيها أن شرطه سبق قذف. وأنه إنما يكون بين الزوجين لا بين الرجل وأجنبية ولا السيد وأمته. واستدل بعمومها من قال بلعان الكفار والعبيد والخصيّ والمجبوب والمحدود في القذف والأعمى والأخرس، ومن الصغيرة التي لا تحمل والآيسة. واستدل بقوله:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ من قال لا لعان إذا أقام البينة على زناها وبقوله فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ من قال: إن اللعان شهادة لا يمين. وقوله أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إلخ فيه أن صيغته أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين، أربعا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فاستدل به من لم يجز إبدال أشهد (بأحلف أو أقسم ونحوه) أو الله (بالرحمن ونحوه) أو زاد (بعلم الله ونحوه) ومن لم يوجب زيادة (الذي لا إله إلا هو) ومن لم يجز إسقاط (إني لمن الصادقين) ولا أبدلها (بما كذبت عليها ونحوه) ولا الاكتفاء بدون أربع، خلافا لأبي حنيفة، في اكتفائه بثلاث شهادات. ولا تقديم اللعنة على الشهادة، أو توسطها، أو إبدالها بالغضب. وقوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ الآية، فيه أن لعانه يوجب على المرأة حد الزنى وأن لها دفعه بأن تقول أربع مرات. أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إلخ. وفيه أيضا أنه لا يجوز لها أن تبدل أشهد (بأحلف) أو الغضب (باللعنة) إلى آخر ما تقدم. واستدل به على أنه لا يجوز تقديم لعانها على لعانه. انتهى.
الرابع: اعلم أن الحد الواجب بالزنى نوعان: جلد ورجم. فالجلد حد البكرين الحرّين إذا زنيا. فيجلد كل واحد منهما مائة جلدة. وفي تغريبهما سنة، وتغريب الزاني وحده كذلك، خلاف. نعم، إذا رآه الإمام مصلحة فلا خلاف في إمضائه.
والرجم حد الزانيين المحصنين. والإحصان عبارة عن البلوغ والعقل والحرية والدخول في النكاح الصحيح. فلا يقتل بالسيف، بل ينكل بالرجم، لا بصخرة تدفف، ولا بحصيات تعذب، بل بحجارة معتدلة، كما في (الوجيز) وقد اعترض جماعة الخوارج على تشريع الرجم في الإسلام وقالوا: إن الله لم يأمر به في كتابه العزيز.
فالذي ورد في عقاب الزنى في القرآن حكمان. أحدهما قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ(7/334)
فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
[النساء: 15- 16] ، وهذا الحكم قد نسخ- أي بيّن- بالحكم الثاني وهو قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] ، هذه حجة الخوارج. أما حجة الإجماع فهي ورود الآثار الصحيحة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم المحصن، وفعله. وروي لذلك جملة أحاديث وأحكام عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كذا في كتاب (المقابلات) وسبقه الرازيّ في (تفسيره) فطوّل النفس في سوق شبهة الخوارج، وأجاب عنها بما ملخصه: أن الآية المذكورة مخصوصة بالبكر، خصصها الخبر المتواتر بالرجم، وتخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد جائز.
فأولى بالمتواتر. وثانيا- قال- إنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح. فلعل المصلحة التي تقتضي وجوب الرجم، حدثت بعد نزول تلك الآيات. انتهى.
قال صاحب (المقابلات) : إن الشريعة الإسلامية متفقة مع الشرع العبري في أغلب أحكام الزنى، ولم يرد في الديانة المسيحية نص صريح ينسخ حكم اليهودية في الزنى. ولكن يروى عن عيسى عليه السلام، ما يؤخذ منه ضمنا، عدم إمكان إقامة حد الرجم. لأنه اشترط براءة الراجمين من كل عيب، وأمر الزانية، التي اعترفت بين يديه، بالتوبة والاستغفار. أما حكم الزنى في القوانين الحديثة فيخالف مخالفة كلية لحكم الشريعة الغراء، وحكم التوراة والإنجيل انتهى كلامه.
وفقنا الله لحفظ حدوده، وجنبنا محارمه بمنه وكرمه.
التنبيه الرابع: من مباحث اللفظ في الآية أن يقال: قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع ب (تواب رحيم) فعلام فصلت هنا ب (تواب حكيم) مع أن التوبة مع الرحمة، فيما يظهر؟ (والجواب) أن الله عزّ وجلّ حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها. وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده. وذلك حكمة منه. ففصلت هذه الآية ب (تواب حكيم) إثر بيان الحكم. جمعا بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية، وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة. فافهم ذلك. أشار له ابن الأثير في (المثل السائر) .
ثم أشار تعالى إلى نبأ الإفك، وتبرئة عائشة رضي الله عنها، بقوله سبحانه:(7/335)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بأبلغ ما يكون من الكذب، وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك. والمراد به ما أفك به الصديقة، أم المؤمنين رضي الله عنها؟
فاللام للعهد ويجوز حمله على الجنس. قيل: فيفيد القصر، كأنه لا إفك إلا هو. وفي لفظ (المجيء) إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي جماعة منكم، خبر (إن) و (منكم) نعت لها. وبه أفاد الخبر.
وقوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ مستأنف، والهاء ضمير الإفك أو القذف.
والخطاب لرسول الله صلوات الله عليه، ولآل الصديق رضي الله عنهم، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين. تسلية لهم من أول الأمر. وقوله تعالى: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ زيادة في التسلية والتكريم. أي لا تظنوه يلحق تهمة بكم أو يوقع نقيصة فيكم، بل قد جرّ لكم خيرا عظيما.
قال الزمخشريّ: ومعنى كونه خيرا لهم، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم. لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة. وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية، كل واحدة منها مستقلة، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه. وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة. وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاؤه، وذلك الذم في الدنيا إلى يوم القيامة، والجلد ثمانين. ولعذاب الآخرة أشد وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي قام بعظمه وإشاعته، بعد ابتدائه بالخوض فيه، وهو رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلا إلى الغميزة.
روى الطبري عن ابن زيد قال: أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أبيّ ابن سلول الخبيث. هو الذي ابتدأ هذا الكلام وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقود بها. والعذاب العظيم يعم عذابي الدارين، كما قلنا.(7/336)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 12]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، قال الشهاب: وهذا من بديع الكلام. وقد وقع في القرآن كثيرا. وهو بحسب الظاهر يقتضي أن. كل واحد يظن بنفسه خيرا، وليس بمراد. بل أن يظن بغيره ذلك.
وتوجيهه أنه مجاز لجعله اتحاد الجنس كاتحاد الذات ولذا فسر قوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، ب (لا تقتلوا من كان من جنسكم) أو يجعلهم كنفس واحدة، فمن عاب مؤمنا فكأنما عاب نفسه، ويجوز أن يقدر فيه مضاف. أي: ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر. وقال الكرماني
في حديث (أموالكم عليكم حرام)
إنه كقولهم (بنو فلان قتلوا أنفسهم) أي قتل بعضهم بعضا، مجازا أو إضمارا للقرينة الصارفة عن ظاهره. و (لولا) تحضيضية بمعنى (هلا) وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هذا الذي سمعناه، من رمي أم المؤمنين، إفك مبين جلّي لمن عقل وفكر فيه. قال العلامة الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل (لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم) ؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة؟ وعن الضمير إلى الظاهر؟
قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات. وليصرح بلفظ (الإيمان) دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق مؤمن على أخيه، ولا مؤمنة على أختها، قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن، إذا سمع قالة في أخيه، أن يبني الأمر فيها على الظن، لا على الشك. وأن يقول بملء فيه- بناء على ظنه بالمؤمن الخير-:
هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحته. كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا يدل من الأدب الحسن الذي قلّ القائم به والحافظ له.
وليتك تجد من يسمع فيسكت، ولا يشيع ما سمعه بأخوات! انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 13]
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13)
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وشريعته المؤسسة على الدلائل الظاهرة المستيقنة هُمُ الْكاذِبُونَ أي(7/337)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
الكاملون في الكذب، المشهود عليهم بذلك. قال الزمخشري: وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدّوا في دفعه وإنكاره. واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل به، إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المؤمنين. فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيبة حبيب الله؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 14]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي لعوجلتم بالعقاب، بسبب ما خضتم فيه من الإفك. ولكنه واسع الفضل والرحمة. يمهل المذنب للتوبة، ويحلم عنه للأوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 15]
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أي وقت تلقّي بعضكم من بعض بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي لا تبعة له ولا عقوبة على مشيعه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي والحال أنه عظيم في الوزر واستجرار العذاب. قال المهايمي: لأن الجراءة على رسول الله وعلى أوليائه، تشبه الجراءة على الله تعالى. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان. وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم، من غير ترجمة عن علم به في القلب. كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] . انتهى. أي فالقيد ليس تأكيدا صرفا، (كنظر بعينه) بل ليفيد نفيه عما عداه. وقيل إنه توبيخ، كما تقول (قاله بملء فيه) فإن القائل ربما رمز، وربما صرّح وتشدّق. وقد قيل هذا في قوله: بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آل عمران: 118] وقيل: فائدته ألا يظن أنه كلام نفسي. فهو تأكيد لدفع المجاز. والسياق يقتضي الأول. كذا في (العناية) .(7/338)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 16]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ أي تكذيبا لمشيعيه ما يَكُونُ لَنا أي ما يصح لنا بوجه ما أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي تنزيها لك، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء. فإنه بهتان عظيم يستحيل صدقه. قال الزمخشري: كلمة (سبحانك) للتعجب من عظم الأمر. فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك، أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه. ثم كثر حتى استعمل في كل متعجّب منه. أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيّه عليه السلام فاجرة. انتهى.
فعلى الأول، هو من المجاز المتفرع على الكناية، وهو كثير. وقد ذكره النووي في (الأذكار) وكذا (لا إله إلا الله) تستعمل للتعجب أيضا. وأما الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقام التعجب فلم ترد ولم تسمع في لسان الشرع. وقد صرح الفقهاء بالمنع.
وإنما وقع من العوامّ وبعض المحدثين كقوله:
فمن رأى حسنه المفدّى ... في الحال صلّى على محمّد
وعلى الثاني، هو حقيقة. كذا في (العناية) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 17 الى 18]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الاتّصاف بالإيمان يصدّ عن كل مقبح وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها. أي ينزلها كذلك مبينة، ظاهرة الدلالة على معانيها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
ثم أشار تعالى إلى تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيّئ، فعلق بذهنه منه شيء، ألا يتكلم به ولا يذيعه، بقوله سبحانه متوعدا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 19]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)(7/339)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهي الفرية والرمي بالزنى ونحوه، كاللواط وما عظم فحشه فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا أي من الحدّ وغيره، مما يتفق من البلايا الدنيوية وَالْآخِرَةِ أي من عذاب النار وَاللَّهُ يَعْلَمُ أي ما في القلوب من الأسرار والضمائر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبه عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 20]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تكرير للمنّة، بترك المعاجلة بالعقاب، للدلالة على عظم الجريمة. وحذف الجواب وهو مستغني عنه بذكره مرة. وهو (لمسّكم) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي بإشاعة الفاحشة وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى أي ما طهر من دنسها مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ من عباده بإلهامه التوبة والإنابة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الزمخشري: (يأتل) من (ائتلى) إذا حلف، افتعال من الأليّة وهو القسم وقيل من قولهم (ما ألوت جهدا) إذا لم تدخر منه شيئا. ويشهد للأول قراءة الحسن (ولا يتأل) والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصّروا في أن يحسنوا إليهم، وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها،(7/340)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
فليعودوا عليهم بالعفو والصفح. وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم وسيأتي سبب نزولها فيمن عني بها.
ثم بيّن تعالى وعيد القاذفين للبريئات، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 24]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ أي العفائف عن الفاحشة، النقيات القلوب عنها الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا بالذم والحد وردّ الشهادة إلا إذا تابوا وَالْآخِرَةِ أي حيث يلعنهم ثمة الملائكة ومن شاء الله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها أو بظهور آثار ما عملوه عليها. بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه.
وذلك بكيفية يعلمها الله. فهو استعارة. ورجع الأول لقوله: قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ، فظاهره الحقيقة، وحمله على الثاني بعيد. قيل:
سيأتي في (يس) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] ، والختم على الأفواه ينافي شهادة الألسنة. والجواب أن الختم على الأفواه معناه المنع عن التكلم بما يريده وينفعه، بحسب زعمه، اختيارا. كالإنكار والاعتذار، أو أن هذا في حال، وذلك في حال، أو كل منهما في حق قوم غير الآخرين، أو هذا في حق القذفة، وذاك في حق الكفرة- وليس بشيء- إذ لا منافاة فالسر في التصريح بالألسنة هنا، وعدم ذكرها هناك، أن الآية لما كانت في حق القاذف بلسانه، وهو مطالب معه بأربعة شهداء، ذكر هنا خمسة أيضا، وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه، جزاء له من جنس فعله. كذا في (العناية) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 25]
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تشهد عليهم بما ذكر يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ أي جزاءهم الْحَقَّ أي الواجب الثابت وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي المظهر للأمور كما هي في أنفسها. ثم أشار تعالى إلى ما يؤكد التبرئة من شاهد العرف والعادة، في أنه لا يضم الشكل إلا إلى شكله، ولا يساق الأهل إلا إلى أهله، بقوله سبحانه:(7/341)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 26]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
الْخَبِيثاتُ أي من النساء لِلْخَبِيثِينَ أي من الرجال وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي بحيث لا يكاد يتجاوز كلّ واحد إلى غيره.
و (الطيب) ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود. قال أبو السعود: وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة. واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة. وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك.
واعلم أن ما اشتملت عليه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب، لا تفي بها مجلدات. إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك، نقتبسه من أهم المراجع، تتميما لما أجملناه في تأويلها.
فالأول: أن نبأ الإفك كان في غزوة المريسيع (تصغير مرسوع، بئر أو ماء لخزاعة) وكانت في شعبان سنة خمس. وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه. وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، فأغار عليهم، فسبى ذراريّهم وأموالهم. وكانت عائشة رضي الله عنها قد خرجت معه، عليه الصلاة والسلام، في هذه الغزوة، بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه. فلما رجعوا من الغزوة، نزلوا في بعض المنازل.
فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقدا لأختها كانت إعارتها إياه. فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها. فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها، فظنوها فيه، فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها. وأيضا، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج، لم ينكروا خفته. ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال. فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد، فإذا ليس لها داع ولا مجيب.
فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول(7/342)
صفوان بن المعطل (بفتح الطاء المشددة سلمى ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام) : إنا لله وإنا إليه راجعون. زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن.
فلما رآها عرفها. وكان يراها قبل نزول الحجاب. فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها. وما كلمها كلمة واحدة. ولم تسمع منه إلا استرجاعه. ثم سار بها يقودها حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به. ووجد الخبيث عدو الله ابن أبيّ متنفسا. فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه. فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه. وكان أصحابه يتقربون إليه. فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم. ثم استشار أصحابه في فراقها، فأشار عليه عليّ رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها، تلويحا لا تصريحا.
وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. فعلي، لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء. وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها، ما هي فوق ذلك وأعظم منه، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا.
وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا.
وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله. ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه- قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه، امرأة خبيثة بغيا.
فمن ظن به سبحانه هذا الظن، فقد ظن به السوء. وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها. كما قال تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ فقطعوا قطعا لا يشكون فيه، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة.
فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به. وهلا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، كما قاله فضلاء الصحابة؟ فالجواب: أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله(7/343)
هذه القصة سببا لها، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة. ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها. لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدّرها وقضاها، ويظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده. ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا. ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبودية المرادة من الصدّيقة وأبيها. وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها، والافتقار إلى الله، والذل له، وحسن الظن به، والرجاء له. ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق. ولهذا وقّت لهذا المقام حقه، لما قال لها أبوها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت:
والله! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي.
وأيضا، فكان من حكمة حبس الوحي شهرا، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها.
وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع. فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصديق، وأهله وأصحابه، والمؤمنون. فورد عليهم ورود الغيث على الأرض، أحوج ما كانت إليه. فوقع منهم أعظم موقع وألطفه. وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء. فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحكم وأضعافها، بل أضعاف أضعافها.
وأيضا، فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم، وكرامتهم عليه. وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه، بل يكون هو وحده المتولي لذلك، الثائر لرسوله وأهل بيته.
وأيضا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى. والتي رميت زوجته فلم يكن يليق أن يشهد ببراءتها. مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بها سوءا قط، وحاشاه وحاشاها. ولذلك لما استعذر من أهل الإفك،
قال: من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي؟ والله! ما علمت على أهلي إلا خيرا
. ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا. وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فكان عنده(7/344)
من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين. ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه. حتى جاءه الوحي بما أقرّ عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه.
ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك، فحدوا ثمانين ثمانين. ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبيّ، مع أنه رأس الإفك. فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة. والخبيث ليس أهلا لذلك. وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة. وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه. ولم يكن يذكره بين المؤمنين. وقيل: حد القذف حق الآدميّ، لا يستوفي إلا بمطالبته: وإن قيل إنه حق لله فلا بدّ من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبيّ. وقيل: بل ترك حدّه لمصلحة هي أعظم من إقامته.
كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا. وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام. فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم. فلم يؤمن إثارة فتنة في حده، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها. فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. وهؤلاء من المؤمنين الصادقين، تطهيرا لهم وتكفيرا. وترك عدو الله ابن أبيّ إذا فليس هو من أهل ذاك- هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) وهو خلاصة الروايات في هذا الباب.
ثم قال رحمه الله: ومن تأمل قول الصديقة، وقد نزلت براءتها، فقال لها أبوها:
قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله- علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها. وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجديدها التوحيد، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له. ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، قالت ما قالت. إدلالا للحبيب على حبيبه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال، فوضعته موضعه. ولله! ما كان أحبها إليه حين قالت: لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي. ولله! ذلك الثبات والرزانة منها، وهو أحب شيء إليها، ولا صبر لها عنه، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا. ثم صادفت الرضاء منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه، والسرور برضاه وقربه، مع شدة محبتها له. وهذا غاية الثبات والقوة. انتهى.(7/345)
وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر. ورواه من التابعين عشرة كما في (فتح الباري) وذلك في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها. ما بين مطول وموجز. ومن الثاني ما
أخرجه الإمام «1» أحمد عن أم رومان قالت: بينا أنا عند عائشة، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بابنها وفعل. فقالت عائشة: ولم؟ قالت: إنه كان فيمن حدث الحديث قالت: وأيّ حديث؟ قالت: كذا كذا. قالت: وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت وبلغ أبا بكر؟ قالت: نعم. فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها. فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض. قالت: فقمت فدثرتها. قالت:
فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: فما شأن هذه؟ فقلت: يا رسول الله أخذتها حمى بنافض. قال:
فلعله في حديث تحدث به؟ قالت: فاستوت عائشة قاعدة، فقالت: والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني. فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] .
قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عذرها. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر. فدخل فقال: يا عائشة! إن الله تعالى قد أنزل عذرك. فقالت: بحمد الله لا بحمدك. فقال لها أبو بكر: تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم.
قالت: وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر. فحلف ألّا يصله.
فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22] ، إلى آخر الآية. فقال أبو بكر: بلى، فوصله. تفرد به البخاري «2» .
المطلب الثاني: قال في (الإكليل) في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور: 11] ، نزلت في براءة عائشة مما قذفت به. فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء: قذف عائشة كفر. لأن الله سبح نفسه عند ذكره. فقال: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور: 16] ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد. وفي قوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] ، تحريم ظن السوء، وأنه لا يحكم بالظن. وإن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر. وأن القاذف مكذب
__________
(1) أخرجه في المسند بالصفحة رقم 6/ 367.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، 24- سورة النور: حديث 1266، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم 56.(7/346)
شرعا، ما لم يأت بالشهداء. وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ [النور: 19] الآية، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه. أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان، قال من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا، وأخرج عن عطاء قال: من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقا.
وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا، أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل يتكلم عنده في الرجل، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه.
وفي قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22] الآية.
النهي عن الحلف ألا يفعل خيرا، وأن عن حلف من يمين فرأى غيرها خيرا منها، يستحب له الحنث. وفيه الأمر بالعفو والصفح.
واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 23] الآية، نزلت في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، يقتل قاذفهن، إذا لم يذكر له توبة، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة انتهى.
وقال ابن كثير: ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها، والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات، ويدخل فيهن أمهات المؤمنين دخولا أوليّا، لا سيما من كانت سبب نزولها، وهي عائشة.
قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي. والله أعلم.
الثالث- قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين. فلا تكون خبيثة لطيّب. فإنه خلاف الحصر. وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيّب لخبيثة، فإنه خلاف الحصر. إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين. فلا يبقى خبيثة لطيّب ولا طيّب لخبيثة.
وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين. فلا يبقى طيّبة لخبيث. فجاء الحصر من الجانبين، موافقا لقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] الآية. ولهذا قال من قال من السلف (ما بغت امرأة نبيّ قط) فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك.(7/347)
ولهذا لما صارت شبهة، استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم في طلاقها. إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة،
وقد روي «1»
أنه (لا يدخل الجنة ديوث)
وهو الذي يقر السوء في أهله، ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها. حتى
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «2» : أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن،. ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجا، أن يلاعن، لأجل ما أمر به من الغيرة، ولأنها أفسدت فراشه، وإن حبلت من الزنى، فعليه اللعان، لئلا يلحق به من ليس منه
. ومضت السنّة بالتفريق بينهما، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج. لأن أحدهما ملعون أو خبيث. فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطّيب.
وفي صحيح مسلم «3» من حديث عمران في الناقة التي لعنتها المرأة، أنه أمر فأخذ ما عليها وأرسلت. وقال: لا تصحبنا ناقة ملعونة. ولما اجتاز بديار ثمود قال «4» : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين. لئلا يصيبكم ما أصابهم
. فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب.
وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي. لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عزّ وجلّ، وأقل ذلك أن يكون منكرا لظلمهم، ماقتا لهم شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان. كما في قوله «5» : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إلخ. وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [التحريم: 11] الآية، وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار. وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين: أحدهما: أن يكون مكرها عليها. والثاني: أن يكون في ذلك مصلحة دينية، راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة. وفي الحقيقة: المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما.
وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
__________
(1) أخرجه النسائي في: الزكاة، 69- باب المنان بما أعطى.
(2) أخرجه البخاري في: النكاح، 107- باب الغيرة.
(3) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 80. [.....]
(4) أخرجه البخاري في: الصلاة، 53- باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، حديث 284، عن ابن عمر.
(5) أخرجه مسلم في: الإيمان. حديث 78، عن أبي سعيد.(7/348)
[النحل: 106] ، وقال تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النور: 33] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] ، إلى قوله:
غَفُوراً وقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النساء: 75] ، فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة. والمناكحة في أصل اللغة المجامعة. فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك.
حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك. وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد، وهو المعاشرة المقررة للصداق، كما أفتى به الخلفاء. وآخر ذلك اجتماع المباضعة. وهذا، وإن اجتمع بدون عقد نكاح، فهو اجتماع ضعيف، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى: الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ودل أيضا على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص. مثل قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] . أي نظراءهم وأشباههم. والزواج أعمّ من النكاح المعروف. قال تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى،: 50] ، وقال مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] ، وقال وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] ، وقال وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] ، وقال وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: 8] . وقال:
إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن: 14] ، وإن كان في الآية نصّ في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها. فمعنى ذلك: في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء: 111] الآية. تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان: 1] ، الآيتين. فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله.
ويدل عليه
الحديث الذي في السنن (لا تصاحب إلا مؤمنا. ولا يأكل طعامك إلا تقيّ) «1»
وفيها (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) «2»
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد) «3»
إلى قوله
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الزهد، 56- باب ما جاء في صحبة المؤمن، عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه الترمذي في: الزهد، 45- باب حدثنا محمد بن بشار عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في: العتق، 17- باب كراهية التطاول على الرقيق، حديث رقم 1088 و 1089، عن أبي هريرة وزيد بن خالد.
وأخرجه مسلم في: الحدود، حديث رقم 32 و 33.(7/349)
(ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير)
والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله.
قال أحمد: إن لم يبعها كان تاركا لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم. والإماء اللاتي يفعلن هذا، يكون عامتهن للخدمة. فكيف بأمة التمتع؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه، فكيف بالزوجة الزانية؟ والعبد نظير الأمة، بدليل
قوله «1» صلى الله عليه وسلم (لعن الله من آوى محدثا)
فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثا. سواء كان إحداثه بالزنى أو السرقة، أو غير ذلك، وسواء كان الإيواء بملك اليمين، أو نكاح، أو غير ذلك، لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر. والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه، بالنكاح وغيره. قال تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] ، وكذلك المرأة التي زنى بها الرجل، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح. كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار. لكن إذا أراد أن يمتحنها. هل هي صحيحة التوبة؟ فقال ابن عمر: يراودها. فإن أجابته لم تصح توبتها. وإن لم تجبه فقد تابت. ونص عليه أحمد. وقيل: هذا فيه طلب الفاحشة. وقد تنقض التوبة. وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك. ويزين لهما الشيطان، لا سيما إن كان يحبها وتحبه، وقد ذاقته وذاقها. ومن قال بالأول قال: الأمر الذي يقصد به امتحانها، لا يكون أمرا بما نهى الله عنه.
ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرّض. والتعريض للحاجة جائز بل واجب في مواضع كثيرة. وأما نقضها، فإذا جاز أن تنقض التوبة معه، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها. وأما تزيين الشيطان له الفعل. فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة. فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحدا، وقد ذكر عنه الفجور، وقيل إنه تاب، أو كان ذلك مقولا صدقا أو كذبا، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره، وكذلك إذا أراد أن يولّي أحدا ولاية، امتحنه، كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى، لما أعجبه سمته. فقال له:
قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين. فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك؟ فبذل له مالا عظيما. فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية. وكذلك في المعاملات. وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا، أو قيل عنهم الفجور، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه. ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس، وتارة بالجرح والتعديل، وتارة بالاختبار والامتحان.
__________
(1) أخرجه البخاري في: فضائل المدينة، 1- باب حرم المدينة، حديث رقم 95، عن علي بن أبي طالب.(7/350)
ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظّم الله الفاحشة، عظم ذكرها بالباطل- وهو القذف. فقال بعد ذلك وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] الآية. ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن. ثم ذكر قصة أهل الإفك وبيّن ما في ذلك من الخير للمقذوف، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين. لأن دليله كذب ظاهر. ثم أخبر أنه قول بلا حجة فقال: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ. فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور: 13] ، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به. وقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: 15] . فهذا بيان لسبب العذاب. وهو تلقي الباطل بالألسنة، والقول بالأفواه.
وهما نوعان محرمان: القول بالباطل والقول بلا علم. ثم قال سبحانه: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور:
16] . فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف. ففي الأول قوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم «1»
(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)
وقوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] ، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به
وفي الصحيح قوله «2» لعائشة (ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا) ؟
فهذا يقتضي جواز بعض الظن، كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر.
وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم، لقوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة، ما لم يجعله في شيء من المعاصي. لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط. وجعل العقوبة على القاذف بها ثماني جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد. ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين، كما
قال عليّ: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري
. وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الوصايا، 8- باب قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
(2) أخرجه البخاري في: الأدب، 59- باب ما يكون من الظن، حديث رقم 2334، عن عائشة.(7/351)
وحد الشرب ثمانون، وحد المفتري ثمانون. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [النور: 19] .
وهذا ذم لمن يحب ذلك. وذلك يكون بالقلب فقط، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح. وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها. محبة لوقوعها في المؤمنين، إما حسدا أو بغضا، أو محبة للفاحشة. فكل من أحب فعلها، ذكرها. وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها. وكذلك ذكرها غيبة محرم، سواء كان بنظم أو نثر.
وكذلك التشبه بمن يفعلها، منهي عنه مثل الأمر بها. فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة. فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين. أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون.
فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة. ومن ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان: 6] الآية. قيل: أراد الغناء. وقيل: أراد قصص ملوك الكفار. وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية، فهو من الطاعة. وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة، فهو من المعصية، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة، مثل النهي عنها وعنهم، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم- فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى. كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين. وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة. فقال تعالى:
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [النمل: 54] ، إلخ. في مواضع، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه، وليس من باب القذف واللمز. ثم توعدوه بإخراجه من القرية.
وهذا حال أهل الفجور، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه. وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى. حيث أمر بنفي الزاني والمخنث. فمضت السنة، بنفي هذا وهذا. وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب. وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 23] ، إلى قوله: فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 34] ، وما ذكره بعده من قول يوسف: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف: 50] ، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى. وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] الآية، ومع هذا، فمن(7/352)
الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك. حتى قال بعض السلف: كل ما حصلته في سورة يوسف أنفقته في سورة النور. وقد قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] ، وقال: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التوبة:
124] الآيات. فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصدّ عن سبيل الله، ومنه سماع كلام أهل البدع، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات. والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] ، وقوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: 224] . وقوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشعراء: 221] ، وما بعدها، وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان: 6] ، وقوله مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 67] ، وقوله:
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف: 146] ، وقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 116] ، ومثل هذا كثير في القرآن، فأهل المعاصي كثير في العالم، بل هم أكثر، كما قال تعالى:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 67] الآية، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما يعلمه إلا الله، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم. فهم أعداء الرسل وأندادهم. فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة. ويجاهدونهم عليها. وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة. ويجاهدون من يفعلها. قال تعالى:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] الآية. ثم قال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 71] الآية، وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء: 76] ، ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر والنهي عن المنكر. والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف. والنهي(7/353)
عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه. وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر. فإن حب الشيء وفعله، وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر. فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض، ولا فعل ولا ترك. لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علما مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصّلا. ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها. فكما أنّا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها. بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها. وكل منهما معصية. فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية. وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملا. فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره. وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك. وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها، وإلى دفع أهوائهم.
وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك. ولا يكون ذلك إلا بالصبر، كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3] ، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها. وبيان ما فيها من الفساد. فإن الإنكار بالقلب واللسان، قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه، نحو قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مريم: 88- 89] الآيات. وهذا كثير جدا. فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم. إما كافر وإما فاجر. وليس منهم من هو بعكسه. ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك. وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله. وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدنى الإيمان، كما
قال صلى الله عليه وسلم «1»
(من رأى منكم منكرا) إلى قوله: (وذلك أضعف الإيمان)
وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه. ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (وذلك أضعف الإيمان)
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 78، عن أبي سعيد الخدري.(7/354)
فيمن رأى المنكر. فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر، ولم يكرهه، لم يكن هذا الإيمان موجودا في القلب في حال وجوده ورؤيته، بحيث يجب بغضه وكراهته، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا. وإذا لم يكن المنكر موجودا لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات، قد يعرض عنها كثير من الناس، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين. وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران: بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله، ولا يحب أن يأمر به، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال. وقد قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] . وقال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة: 24] الآية. قال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22] الآية. وكثير من الناس، بل أكثرهم، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات. فربما مالوا إليها تارة، وعنها أخرى. فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة. ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة، تاركا للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدوّ على ذلك، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء: 77] ، إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء:
85] ، والشفاعة: الإعانة. إذ المعين قد صار شفيعا للمعان. فكل من أعان على برّ أو تقوى كان له نصيب منه. ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه. وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين. كما قال تعالى قبل ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71] ، إلى(7/355)
قوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: 76] ، ومن هاهنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره. والفرق بين المؤمن البر وبين الكافر الفاجر. فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله. والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [القلم: 51] الآية. وقال: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [محمد: 20] ، وقال:
ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وقال: فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [المائدة: 71] ، وقال تعالى في حق المؤمنين وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: 73] ، وقال في حق الكفار فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر:
49] ، والآيات في هذا كثيرة جدّا. وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة. قال تعالى:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131] ، وفي آخر الحجر. وقوله فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [التوبة:
55] الآية، وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النور: 30] الآية، وقال:
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 28] الآية، وقال أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] الآيات، وقال قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 101] الآية، وقال أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [سبأ: 9] الآية. وكذلك قال الشيطان: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال: 48] ، وقال فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ [الشعراء: 61] الآيات.
وقال: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا [الأنفال: 43] ، الآيات. فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها، منهي عنه. والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به. وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك، فمأمور به. وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة. فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظرا مأمورا به. إما للاعتبار وإما لبغض ذلك. والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه. وكذلك المولاة والمعاداة. وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه، وهو يظن أنه نظر عبرة. وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي(7/356)
[التوبة: 49] ، فإنها نزلت في الجدّ بن قيس لما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم. فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول. وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، داخل في هذا. بل يكون عذابه أشد. فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة. وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل. فكيف إذا اقترن؟
بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا. ومن رضي عمل قوم حشر معهم. كما حشرت امرأة لوط معهم. ولم تكن تفعل فاحشة اللواط. فإنه لا يقع من المرأة. ولكن لما رضيت فعلهم، عمّها معهم العذاب. فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها، مثل القواد. لما يحصل له من رئاسة أو سؤدد أو سحت يأكله. وكذلك أهل الصناعات التي تنفق، مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها، بخلاف ما إذا كانت قليلة. ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهى عن طاعته، منهيّ عنه محرّم. كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] ، أي ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك. وقال في الخمر والميسر: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: 91] ، أي يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر، كما هو الواقع. فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما. فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع. والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام. والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام. ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش. ما لا يكثر من غيرها، حتى ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه. وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه. ويدعو شرب الخمر. إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك. لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء. وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار، سقوهم الخمر، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به. وأيضا فالخمر تصدّ الإنسان عن علمه وتدبيره. فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من(7/357)
المفاسد داخل في قوله تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:
91] ، وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولهذا
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «1»
(ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (إصلاح ذات البين. فإن فساد ذات البين هي الحالقة. لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)
وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك. وأيضا فالعداوة والبغضاء شر محض، لا يحبهما عاقل. بخلاف المعاصي فإن فيها لذة. والنفوس تريدها، والشيطان يدعو إليها، ليوقعها في شرّ لا تهواه. والله سبحانه قد بيّن ما يريد الشيطان بالخمر والميسر، ولم يذكر ما يريده الإنسان. ثم قال في سورة النور لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21] ، وكذلك في البقرة، نهى عن اتباع خطواته، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع. وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله لا علم. وقال فيها: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة: 268] ، فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة: 268] ، وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] ، وقال عن نبيّه يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] الآية، وقال عن أمته يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104] ، وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي. وكذلك المعروف، تارة يخصه بالأمر، وتارة يقرن به غيره.
كقوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] الآية، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب. كلفظ (الفقير والمسكين) . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعمّ كل ما كرهه الله ونهى عنه. واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه. وإذا قرن المنكر بالفحشاء، فالفحشاء مبناها على المحبة. والمنكر هو الذي تنكره القلوب. فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه. فإن
__________
(1) أخرجه الترمذي في: القيامة، 56- باب حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم البنداري، عن أبي الدرداء.(7/358)
الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس. وكذلك البغي، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس. ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء. ومنشؤه من قوة الغضب. ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها. فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر. وأما الإشراك والقول على الله بلا علم، فإنه منكر محض. ليس في النفوس ميل إليهما. بل إنما يكونان عن عناد وظلم. فهما منكر محض بالفطرة وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور: 21] ، سواء كان الضمير عائدا إلى الشيطان أو إلى المتّبع. فإن من أتى ذلك، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له. وإن كان الآتي هو الآمر. فالأمر بالفعل أبلغ من فعله. فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه.
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان. والمغنّي هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى. وكذلك من اتباع خطوات الشيطان، القول على الله بلا علم. كحال أهل البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين. ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة. وأمره بالعفو. فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة، وإيتاء المساكين واجب، ومعونة المهاجرين واجبة، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه: كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب.
وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.
فإنه قد ثبت في الصحيح «1» عن عائشة في قصة الإفك، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة. وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر. وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم. والنهي يقتضي التحريم. فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل، كان الفعل واجبا، لأن الحلف على ترك الجائز جائز. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الشهادات، 15- باب تعديل النساء بعضهن بعضا، حديث 1266، من حديث الإفك الطويل.(7/359)
الرابع- قال الزمخشري: لو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة، رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه- ما أنزل فيه، على طرق مختلفة وأساليب مفتنّة. كل واحد منها كان في بابه ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ [النور: 23] ، إلى قوله تعالى: هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ لكفى بها. حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا. وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة. وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا.
وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك، أن الله هو الحق المبين. فأوجز في ذلك وأشبع وفصّل وأجمل وأكد وكرر، بما لم يقع في وعيد المشركين، عبدة الأوثان، إلا ما هو دونه في الفظاعة. وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة. وكان يسأل عن تفسير القرآن.
حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك. ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف: 26] ، وبرأ موسى «1» من قول اليهود فيه، بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظركم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين.
ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلقّ ذلك من آيات الإفك. وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه.
(فإن قلت) إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل: المحصنات؟ (قلت) :
فيه وجهان: أحدهما- أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن، فهذا الوعيد لاحق به. وإذا أردن وعائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول
__________
(1) أخرجه البخاري في: الغسل، 20- باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، حديث رقم 201، عن أبي هريرة.(7/360)
الله صلى الله عليه وسلم، كانت المرادة أولا والثاني- أنها أم المؤمنين، فجمعت. إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى.
قال الناصر: والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم، وعيد من وقع في عائشة، على أبلغ الوجوه، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه. وهذا معنى قول زليخا ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ [يوسف: 25] ، فعمّمت وأرادت يوسف، تهويلا عليه وإرجافا. والمعصوم من عصمه الله تعالى. انتهى.
الخامس: قال الإمام ابن تيمية في (منهاج السنة) ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما
في الصحيحين «1» عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»
. والثريد هو أفضل الأطعمة، لأنه خبز ولحم. كما قال الشاعر:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثّريد
وذلك أن البر أفضل الأقوات. واللحم أفضل الإدام، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره.
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم)
فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبر سيد الأقوات، ومجموعهما الثريد، كان الثريد أفضل الطعام.
وقد صح من غير وجه
عن الصادق المصدوق أنه قال (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) «2»
وفي الصحيح «3» عن عمرو بن العاص قال: قلت:
«يا رسول الله! أي النساء أحب إليك؟ قال (عائشة) قلت: ومن الرجال؟ قال (أبوها)
__________
(1) أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: 30- باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث 1606، عن أبي موسى الأشعري، حديث 1768، عن أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث 70، عن أبي موسى. وحديث 79، عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه البخاري في: الأطعمة، 25- باب الثريد، حديث 1606، عن أبي موسى الأشعري. [.....]
(3)
أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» حديث رقم 1722
.(7/361)
قلت: ثم من؟ قال: (عمر) وسمى رجالا»
. وهؤلاء يقولون:
قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة: ما أبدلني الله خيرا منها
: إن صح معناه ما أبدلني خيرا لي منها: فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها. فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة، وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين. فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة. فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئا، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة. فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه. لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك. ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا، وأكثر جهادا بنفسه وماله. كحمزة وعليّ وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم، هم أفضل ممن كان يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم. كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما. وفي الجملة، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه. لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها، وإن نساءه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين.
وقد ثبت في الصحيح «1»
أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة، لما يعلمون من محبته إياها. حتى أن نساءه غرن من ذلك. وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له «2» :
نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة: فقال لفاطمة: أي بنية أما تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه، الحديث في الصحيحين «3»
وفي الصحيحين
__________
(1) أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 30- باب فضائل عائشة رضي الله عنها، حديث 1258، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 82.
(2) أخرجه البخاري في: الهبة، 8- باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض، حديث 1258، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 83.
(3) أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 30- باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث 1519، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 90.(7/362)
أيضا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة! هذا جبريل يقرأ عليك السلام قالت: وعليه السلام ورحمة الله
. ترى ما لا نرى. ووهبت «1» سودة بنت زمعة يومها لعائشة رضي الله عنهما، بإذنه صلى الله عليه وسلم. وكان في مرضه «2» الذي مات فيه
يقول: أين أنا اليوم؟ استبطاء ليوم عائشة. ثم «3» استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، فمرض فيه
. وفي «4» بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها. وكانت «5» رضي الله عنها مباركة على أمته. حتى قال أسيد بن حضير، لما أنزل الله آية التيمم بسببها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة. وقد كانت «6» نزلت آية براءتها قبل ذلك، لما رماها أهل الإفك. فبرأها الله من فوق سبع سموات، وجعلها من الصّينات. وبالله التوفيق. انتهى.
وأغرب الإمام ابن حزم، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء، نساؤه صلى الله عليه وسلم.
معلوم أن عائشة فضلاهن، وقد أسهب في ذلك في كتابه (الملل) فارجع إليه.
السادس- قال القاشاني رحمه الله تعالى: إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها. وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية، وتوريطه في المهالك الهيولانية، والمهاوي الظلمانية، على حسب تفاوت مبادئها، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف. كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ. وبالعكس لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة. فلما كانت الفضيلة أشرف، كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ، والإفك رذيلة القوة الغضبية. فبحسب شرف الأولى على الباقيتين، تزداد رداءة رذيلتها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/ 68، عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 30- باب فضائل عائشة رضي الله عنها، حديث 521، عن عائشة.
(3) أخرجه البخاري في: فرض الخمس، 4- باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 152، عن عائشة.
(4) أخرجه البخاري في: فرض الخمس، 4- باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حديث 521، عن عائشة.
(5) أخرجه البخاري في: التيمم، 1- باب قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، حديث 230، عن عائشة.
(6) أخرجه البخاري في: 64- كتاب المغازي، 34- حديث الإفك، حديث رقم 1266، عن عائشة.(7/363)
وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا، وترقيه إلى العالم العلويّ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات، واكتسابه للخيرات والسعادات- إنما يكون بها. فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة، حصلت الشقاوة العظمى، وحقت العقوبة بالنار. وهو الرين والحجاب الكلي.
ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية، من السبعية والبهيمية؟ وأبعد بما لا يقدر قدره، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطانا، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين، يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع، وكل حيوان أرجى صلاحا، وأقرب فلاحا من الشيطان. ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 221- 222] ، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان. فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه،. فيكون أخس منه وأذل، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة، ملعونا في الدنيا والآخرة، ممقوتا من الله والملائكة. تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها. خبيث الذات والنفس. متورطا في الرجس. فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين. كما قال تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل. انتهى.
السابع- في سر قرن الزنى بالشرك في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] ، وتحقيق القول في الآية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات. من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدّا. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة، أكثرهم شركا. فكلما كان الشرك في العبد أغلب. كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:
24] ، فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها. بل هو من أعلى أنواع التعبّد. ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه، صار تتيّما. والتتيّم التعبد. فيصير العاشق عابدا لمعشوقه. وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابّه، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور. كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عزّ وجلّ. يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه. ويتقرب إليه ما(7/364)
لا يتقرب إلى الله. وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله. ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى. فيصير آثر عنده من ربه حبّا وخضوعا وذلّا وسمعا وطاعة، ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. والزنى واللواطة كمال لذته، إما يكون من العشق. ولا يخلو صاحبهما منه. وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد. بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده. فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين. ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث فإذا الصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب. وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا. ولهذا قال المسيح، فيما رواه الإمام أحمد في (كتاب الزهد) لا يكون البطالون من الحكماء. ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3] .
والصواب القول بأن هذه الآية محكمة. يعمل بها لم ينسخها شيء. وهي مشتملة على خبر وتحريم. ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة. والذي أشكل منها على كثير من الناس، واضح بحمد الله تعالى. فإنهم أشكل عليهم قوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] ، هل هو خبر أو نهي أو إباحة؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة. وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة، فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف. وإباحة له نكاح المشركات والزواني، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا. فلما أشكل عليهم ذلك. طلبوا للآية وجها يصح حملها عليه. فقال بعضهم: المراد من النكاح الوطء والزنى. فكأنه قال: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة. وهذا فاسد. فإنه لا فائدة فيه. ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك. فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية. فأي فائدة في الإخبار بذلك. ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه.، ثم قالت طائفة: هذا عام اللفظ خاص المعنى. والمراد به رجل واحد «1» وامرأة واحدة. وهي عناق وصاحبها، فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 24- سورة النور، 1- حدثنا عبد بن حميد، عن عبد الله بن عمرو.(7/365)
وهذا أيضا فاسد. فإن هذه الصورة المعينة، وإن كانت سبب النزول، فالقرآن لا يقتصر به على محالّ أسبابه. ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها. وقالت طائفة: بل الآية منسوخة بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] ، وهذا أفسد من الكل. فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين. ولا تناقض إحداهما الأخرى. بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى، وحرم نكاح الزانية، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم. فأين الناسخ والمنسوخ في هذا؟ (فإن قيل) : فما وجه الآية؟ قيل:
وجهها، والله أعلم. أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط. كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة. والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه. والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به. فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله، أو لا يلتزمه. فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه، ونكح ما حرم عليه، لم يصح إنكاح. فيكون زانيا، فظهر معنى قوله لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وتبين غاية البيان. وكذلك حكم المرأة. وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل. فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغي. فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه. ولهذا إذا بالغوا في سبّ الرجل قالوا (زوج قحبة) فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك. فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية. والله الموفق.
ومما يوضح التحريم.، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم. وعدوّه من جملة نعمه عليهم، فالزنى يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ. وأيضا، فإن الزانية خبيثة، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة، والمودة خالص الحب، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب، زوجا له؟ والزوج سمي زوجا من الازدواج فالزوجان، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا. فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتوادّ.
فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة. فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة، وقد وطئها الزاني البارحة؟ وقال: ما الزاني لا حرمة له. فهب أن الأمر كذلك، فماء الزوج له حرمة(7/366)
فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات. وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا. وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد. فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة. بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا. كاملا بالتوبة.
وطهرا لبدنه بالماء. وقول اللوطية أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] ، من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] ، وقوله سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [المائدة: 59] ، وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنّي تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها، فصبر الموحد المتبع للرسول، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
إذا لم يكن بدّ من الصبر، فاصطبر ... على الحقّ. ذاك الصبر تحمد عقباه
لطيفة:
كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري، صاحب (الروض) إلى أبيه، وقد قطع نفقته:
لا تقطعن عادة برّ، ولا ... تجعل عتاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح ... يحط قدر النّجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى ... وعوتب الصدّيق في حقّه
فأجابه أبوه شرف الدين بقوله:
قد يمنع المضطرّ من ميتة ... إذا عصى بالسّير في طرقه
لأنه يقوى على توبة ... توجب إيصالا إلى رزقه
لو لم يتب من ذنبه مسطح ... ما عوتب الصّديق في حقّه
ولما فصّل تعالى الزواجر عن الزنى، وعن رمي العفائف عنه. بيّن من الزواجر ما عسى(7/367)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
يؤدي إلى أحدهما. وذلك في مخالطة الرجال بالنساء، ودخولهم عليهن، وفي أوقات الخلوات، وفي تعليم الآداب الجميلة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستعلموا وتستكشفوا الحال. هل يراد دخولكم أم لا؟ من (الاستئناس) وهو الاستعلام. من (آنس الشيء) إذا أبصره ظاهرا مكشوفا. أو المعنى: حتى يؤذن لكم فتستأنسوا. من (الاستئناس) الذي هو خلاف الاستيحاش. لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له، مجازا أو استعارة. وجوّز أن يكون من (الإنس) والمعنى: حتى تعلموا هل فيها إنسان؟. وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي ليؤمنهم عما يوحشهم ذلِكُمْ أي الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ أي من الدخول بغتة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتتعظوا وتعملوا بموجبه فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي من الآذنين فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم. ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها.
قال الزمخشري: وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك. فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب. انتهى.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا، كالنساء والولدان، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس، ولذا قال تعالى: هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أطهر مما لا يخلو عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب، من دنس الدناءة. وأنمى لمحبتكم.(7/368)
قال الزمخشري: وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس.
لطيفة:
قال ابن كثير: قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: ارجع. فأرجع وأنا مغتبط. انتهى. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
أي فيجزيكم على نيتكم الحسنة، في الزيارة، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد.
ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير، والكون فيه، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى. واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام. والأقلّ على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية.
وأجاب الأكثرون، بأن الواو لا تفيد ترتيبا، واستدل بها من قال: له الزيادة في الاستئذان على ثلاث، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته. انتهى.
وقال ابن كثير: ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره،
وفي الصحيحين «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح)
وأخرج «2» الجماعة عن جابر قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي. فدققت الباب، فقال (من ذا) فقلت: أنا قال (أنا، أنا) كأنه كرهه.
وإنما كرهه، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها. وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه ب (أنا) فلا يحصل به المقصود الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية. وعن ابن مسعود قال: عليكم
__________
(1) أخرجه البخاري في: الديات، 23- باب من اطلع في بيت قوم فقأوا عينه، فلا دية له، حديث 2526، عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في: الاستئذان، 17- باب إذا قال من ذا؟ فقال أنا، حديث 1076.(7/369)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
الإذن على أمهاتكم. وعن طاوس قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم. وكان يشدد النكير في ذلك. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا. قال ابن كثير: وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله، ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا.
ثم بيّن تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 29]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا أي بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة، بل ليتمتع بها كائنا من كان، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي منفعة وحاجة وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل، لفساد أو اطلاع على عورات.
أفاده أبو السعود.
ثم أرشد سبحانه إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 30]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أى عن الإفضاء بها إلى محرم، أو عن الإبداء والكشف ذلِكَ أي الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر للنفس وأتقى للدين إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ أي بأفعالهم وأحوالهم. وكيف يجيلون أبصارهم، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم. فعليهم، إذ عرفوا ذلك، أن يكونوا منه(7/370)
على تقوى وحذر، في كل حركة وسكون. أفاده الزمخشري.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرحال وتحريم كشفها. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: كل شيء في القرآن من (حفظ الفرج) فهو من الزنى، إلا هذه الآية والتي بعدها، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة. انتهى.
وليس بمتعيّن. وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى. أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء.
الثاني- إن قيل: لم أتى ب (من) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5] ، لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري، وهو قليل بالنسبة لما عداه. فجعل كالعدم ولم يقيد به. مع أنه معلوم من الآية الأخرى. بخلاف ما يطلق فيه البصر، فإنه يباح في أكثر الأشياء، إلا نظر ما حرم عن قصد. فقيّد (الغض به) ومدخول (من) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي. وقيل: إن الغض والحفظ عن الأجانب. وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم، وبعضه جائز. بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول (من) فيه. كذا في (العناية) .
الثالث- سر تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، كما قال الحماسي:
وكنت، إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما، أتعبتك المناظر
ولأن البلوى فيه أشد وأكثر. ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه. فبودر إلى منعه. ولأنه يتقدم الفجور في الواقع، فجعل النظم على وفقه.
الرابع- غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب. وفيه حسم لمادتها قبل حصولها. فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. ومن أطلق لحظاته، دامت حسراته.
كلّ الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النّار من مستصغر الشّرر
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (الجواب الشافي) : في غض البصر عدة منافع:(7/371)
أحدها- امتثال أمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده. وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى. وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة، إلا بامتثال أوامر ربه. وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
الثاني- أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه، إلى قلبه.
الثالث- أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعيّة على الله، فإن إطلاق البصر يفرّق القلب ويشتته ويبعده من الله، وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر. فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه.
الرابع- أنه يقوي القلب ويفرحه. كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامس- أنه يكسب القلب نورا. كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر. فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] ، ثم قال إثر ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] . أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه. وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان. فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة. فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب. فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
السادس- أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب. وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتّباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال- لم تخطئ له فراسة.
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله. ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه، فإذا غض بصره عن محارم الله، عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله. ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة، والفراسة الصادقة المصيبة التي، إنما تنال ببصيرة القلب. وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة. فقال تعالى:(7/372)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] ، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل، وعمه البصيرة يسكر القلب، كما قال القائل:
سكران: سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران؟
وقال الآخر:
قالوا: جننت بمن تهوى فقلت لهم: ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
السابع- أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة. ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة، كما
في الأثر (الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله)
. وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها. وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه. كما قال الحسن:
إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن المعصية لا تفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته. والذل قرين معصيته، فقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ، وقال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] ، والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن. وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ، أي من كان يريد العزة فليطبها بطاعة الله وذكره، من الكلم الطيب، والعلم الصالح. وفي دعاء القنوت (إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت) «1» . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه.
وله من العز بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه. وله من الذل بحسب معصيته.
الثامن- أنه يسدّ على الشيطان مدخله من القلب. فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه، يزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه. ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة. فيصير القلب في اللهب،. فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الوتر، 5- باب القنوت في الوتر، حديث رقم 1425. [.....](7/373)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات. فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب. فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، وأودعت أرواحهم فيه، إلى حشر أجسادهم، كما أراها الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في المنام في «1» الحديث المتفق على صحته.
التاسع- أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها. وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها. فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه، قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: 28] ، وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
العاشر- أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر.
وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده. فإذا فسد القلب فسد النظر. وإذا فسد النظر فسد القلب. وكذلك في جانب الصلاح. فإذا خربت العين وفسدت، خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ. فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه. وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر، تطلعك على ما وراءها. انتهى.
ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال. وزاد في أمرهن، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبل لهن، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 31]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
__________
(1) أخرجه البخاري في: التعبير، 48- باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، عن سمرة بن جندب، حديث رقم 501.(7/374)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم. قال الزمخشريّ: النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار. ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبيّ إلى ما تحت سرته إلى ركبته. وإن اشتهت غضت بصرها رأسا. ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك. وغض بصرها من الأجانب أصلا، أولى بها وأحسن. ومنه
حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة «1» رضي الله عنها قالت: «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة. فأقبل ابن أم مكتوم. وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب.
فدخل علينا. فقال: احتجبا. فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا! قال:
أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذيّ
وصححه وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال الزمخشري: الزينة ما تزينت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب. فما كان ظاهرا منها، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب، فلا بأس بإبدائه للأجانب. وما خفي منها كالسوار والخلخال، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر. لأن هذه الزّين واقعة على مواضع من الجسد، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء. وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن. فنهى عن إبداء الزّين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها، لا مقال في حله- كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة، شاهدا على أن النساء حقهنّ أن يحتطن في سترها ويتّقين الله في الكشف عنها.
(فإن قلت) : لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج.
فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح. وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها. وخاصة الفقيرات منهن. وهذا معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها يعني: إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور. انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : فسر ابن عباس قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها بالوجه والكفين، كما أخرجه ابن أبي حاتم. فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة
__________
(1) أخرجه أبو داود في: اللباس، 34- باب وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ، حديث رقم 4112.
وأخرجه الترمذي في: الأدب، 29- باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال.(7/375)
وكفيها، حيث لا فتنة. ومن قال: إن عورتها ما عداهما. وفسره ابن مسعود بالثياب، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال. أخرجه ابن أبي حاتم أيضا.
فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها، وجعلها كلها عورة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي وليسترن بمقانعهن، شعورهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن، بإلقائها على جيوبهن أي مواضعها، وهي النحر والصدر.
قال الزمخشري: كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها. وكنّ يسدلن الخمر من ورائهن، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها. ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور، تسمية بما يليها ويلابسها، ومنه قولهم (ناصح الجيب)
لطيفة:
قال أبو حيان: عدّي (يضربن) ب (على) لتضمنه معنى الوضع. وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين. و (الخمر) جمع خمار يقال (لغة) لما يستر به.
وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها. ومنه (اختمرت) المرأة و (تخمرت) .
و (الجيب) ما جيب، أي قطع من أعلى القميص. وهو ما يسميه العامة طوقا. وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها، فليس من كلام العرب. كما ذكره ابن تيمية. كذا في (العناية) ثم كرر النهي عن إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور، بقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج. لكن بكراهة على المشهور.
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب (إحكام النظر) : عن أصبغ، لا بأس به، وليس بمكروه. وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع. ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى، فحديث لا يصح. لأن فيه (بقية) وقد قالوا (بقية أحاديثه غير نقية) ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك. وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق، في ذلك ما هو معروف.
وقوله تعالى: أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أي لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم. فإن آباءهن أولياؤهن الذين يحفظونهن عما يسوءهن. وآباء بعولتهن يحفظون على أبناءهم ما يسوءهم. وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات، وهم منهن. وأبناء(7/376)
بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم. وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء.
وبنوهم أولياء بعدهم. وكذا بنوا أخواتهن، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة. تعيرهم بنسبته إلى العمة. هذا ما أشار له المهايمي.
وأجمل ذلك الزمخشري بقوله: وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم.
ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب. وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقوله تعالى أَوْ نِسائِهِنَّ قيل: هن المؤمنات. أخذا من الإضافة. فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. وقيل: النساء كلهن. فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض.
قال في (الإكليل) : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم. وروى ابن أبي حاتم عن عطاء أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات.
وقال الرازيّ: القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأولى.
وقوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أي لاحتياجهن إليهم. فلو منع دخولهم عليهن اضطررن. قاله المهايميّ. وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء. وإليه ذهب قوم.
قالوا: لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن.
واحتجوا أيضا بما
رواه أبو داود «1» عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها. قال: «وعلى فاطمة ثوب، إذا قنعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها، لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس. إنما هو أبوك وغلامك» .
وجاء في (تاريخ ابن عساكر) أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة.
وقد كان وهبه النبيّ صلوات الله عليه لابنته فاطمة. فربّته ثم أعتقته، ثم كان، بعد مع معاوية على عليّ. نقله ابن كثير، فاحتمل أن يكون هو هو. والله أعلم.
وذهب قوم إلى أنه عنى بذلك الإماء المشركات، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات. قالوا: وسرّ إفراد الإماء مع شموله قوله أَوْ نِسائِهِنَّ لهن
__________
(1) أخرجه أبو داود في: في العبد ينظر إلى شعر مولاته، حديث 4106.(7/377)
الإعلام بأن المراد من في صحبتهن من الحرائر والإمام لظهور الإضافة في (نسائهن) بالحرائر. كقوله: شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [البقرة: 282] ، فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن، والقول الأول أقوى. لأن الأصل هو العمل بالعامّ حتى يقوم دليل على تخصيصه. لا سيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج. وهذا الذي قطع به الشافعيّ وجمهور أصحابه.
قال في (الإكليل) : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر. واستدل من أباحه بقراءة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
وقوله: أَوِ التَّابِعِينَ أي الخدام لأنهن في معنى العبيد غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أي الحاجة إلى النساء مِنَ الرِّجالِ كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصيّ. وقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يفهموا أحوالهن، لصغرهم. فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ.
كما في (الإكليل) .
قال الزمخشريّ: (يظهروا) إما من (ظهر على الشيء) إذا اطلع عليه، أي لا يعرفون ما العورة، ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من (ظهر على فلان) إذا قوي عليه و (ظهر على القرآن) أخذه وأطاقه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.
و (الطفل) مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع. ومثله (الحاج) بمعنى الحجاج. وقال الراغب: إنه يقع على الجمع.
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بعضهم بقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا إلخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال، لعدم ذكرهما في الآية. أخرج ابن المنذر عن الشعبيّ وعكرمة، قالا: لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال.
وقال الرازيّ: القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وهو قول الحسن البصريّ. قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب. وقال في سورة الأحزاب: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الأحزاب: 55] الآية، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم. وقد ذكروا هاهنا. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة.
ثم قال: في قول الشعبيّ من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر.(7/378)
ثم أشار تعالى إلى أن الزينة، كما يجب إخفاؤها عن البصر، يجب عن السمع، إن كانت مما تؤثر فيه ميلا، بقوله سبحانه:
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ أي الأرض لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ أي عن الأبصار مِنْ زِينَتِهِنَّ كالخلخال. وهذا نهي عما كان يفعله بعضهن. وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به. فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن، ويوهم أن لهن ميلا إليهم.
قال الزمخشريّ: وإذ نهين عن إظهار صوت الحليّ بعد ما نهين عن إظهار الحليّ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحليّ أبلغ وأبلغ. قيل: وإذا نهي عن استماع صوت حليهن. فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى. وهذا سدّ لباب المحرمات، وتعليم للأحوط الأحسن، لا سيما في مظانّ الريب وما يكون ذريعة إليها.
تنبيه:
قال ابن كثير: يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستورا، فتحركت بحركة، لتظهر ما خفي منها. ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها.
فروى الترمذيّ «1» عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عين زانية. والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا»
. يعني زانية.
قال: ومن الباب عن أبي هريرة. وهذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي.
وروى الترمذيّ «2» أيضا عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة، لا نور لها»
. ومن ذلك أيضا، نهيهن عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج.
فروى أبو داود «3» عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق. عليكن بحافات الطريق. فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به
. وقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أي ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه، فإن مقتضى إيمانكم ذلك
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الأدب، 35- باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة.
(2) أخرجه الترمذي في: الرضاع، 13- باب ما جاء في كراهية خروج النساء في الزينة.
(3) أخرجه أبو داود في: الأدب، 168- باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق، حديث 5272.(7/379)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بسعادة الدارين. ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة، أمر بالنكاح. فإنه، مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع، خير مزجرة عن ذلك. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 32]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم، والخطاب للأولياء والسادات و (الأيامى) جمع أيّم. من لا زوجه له أو لا زوج لها. يكون للرجل والمرأة. يقال: آم وآمت وتأيّما، إذا لم يتزوجا، بكرين كانا أو ثيبين.
قال أبو السعود: واعتبار الصلاح في الأرقاء، لأن من لإصلاح له منهم، بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه، ويشفق عليه، ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة، من بذل المال والمنافع. بل حقه ألا يستبقيه عنده. وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، فلأن الغالب فيهم الصلاح. على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم. فإذا عزموا النكاح، فلا بد من مساعدة الأولياء لهم إذ ليس عليهم في ذلك غرامة، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم. عاجلة أو آجلة: وقيل: المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه. وقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين. أي لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة.
فإن في فضل الله عزّ وجلّ غنية عن المال. فإنه غاد ورائح. يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب. أو وعد منه سبحانه بالإغناء. لكنه مشروط بالمشيئة. كما في قوله تعالى:
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28] ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي غنيّ ذو سعة، لا يرزؤه إغناء الخلائق، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته. عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة. انتهى كلام أبي مسعود.
تنبيهات:
الأول- الأمر في الآية للندب. لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه. وقد(7/380)
يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك.
وفي (الإكليل) : استدل الشافعيّ بالأمر على اعتبار الوليّ. لأن الخطاب له، وعدم استقلال المرأة بالنكاح. واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط، ونكاح العبد الحرة. واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته.
الثاني- قدمنا أن قوله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مشرط بالمشيئة. فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد، وكم من متزوج فقير. والتقييد بالمشيئة بدليل سمعي، وهو الآية المتقدمة. أو إشارة قوله تعالى: عَلِيمٌ حَكِيمٌ لأن مآله إلى المشيئة. أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال الناصر في (الانتصاف) : ولقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغني بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة. فمن مستغن به، ومن فقير، كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم؟.
فالجواب، وبالله التوفيق: إن فائدة ربط الغنى بالنكاح، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبّب، جلّ وعلا. حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما. وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام، لنفاد المال. وقد يقدر الإملاق مع عدمه، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام. والواقع يشهد لذلك بلا مراء. فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر، مرتبطات بمسبباتها، ارتباطا لا ينفك- ليست على ما يزعمونه. وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب. غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة. وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح. لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار. وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه، ولا يؤثر أيضا الخلوّ عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتّر عليه. وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس. فمعنى قوله حينئذ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ الآية، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله. فعبر عن نفي كونه مانعا، من الغنى،(7/381)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
بوجوده معه. ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك. فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] ، فإن ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة. ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت، فلا مانع. فعبّر عن نفي المانع بالانتشار، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع. والله أعلم.
فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه. انتهى.
الثالثة- (في الإكليل) : استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة، لأنه قال (يغنهم الله) ولم يفرق بينهم.
ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح، إلى ما هو أولى لهم، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 33]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحا، أي أسبابه، أو استطاعة نكاح أي تزوج. فهو على المجاز، أو تقدير المضاف. أو المراد (بالنكاح) ما ينكح به.
قال الشهاب: فإن (فعالا) يكون صفة بمعنى مفعول. ككتاب بمعنى مكتوب. واسم آلة كركاب لما يركب به. وهو كثير. كما نص عليه أهل اللغة. وقوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله، لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم.
وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء. وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر. حيث أمر أوّلا بما يعصم من الفتنة، ويبعد عن مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام. ثم(7/382)
بالحمل على النفس الأمارة بالسوء، وعزفها عن الطموح الى الشهوة عند العجز عن النكاح، إلى أن يرزق القدرة عليه. أفاده الزمخشري.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته. واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة.
ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم، مع الرق، رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك، ليصيروا أحرارا فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار:
فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي الكتابة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ حرصا على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم، وحبا بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية. والمكاتبة أن يقول السيد: كاتبتك. أي جعلت عتقك مكتوبا على نفسي، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا. ويقبل العبد ذلك، فيصير مالكا لمكاسبه ولما يوهب له، وإنما وجب معه الإمهال، لأن الكسب لا يتصور بدونه. واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعا. وقوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي كالأمانة، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق. والقدرة على الكسب والصلاح، فلا يؤذى أحدا بعد العتق. وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم. وفي حكمه، حط شيء من مال الكتابة. ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية مشروعية الكتابة. وأنها مستحبة. وقال أهل الظاهر: واجبة لظاهر الآية. وأن لندبها أو وجوبها، شرطين: طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة.
ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية، بقوله سبحانه: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي إماءكم، فإنه يكنى بالفتى والفتاة، عن العبد والأمة،
وفي الحديث «1»
(ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل. عبدي وأمتي)
وقوله تعالى: عَلَى الْبِغاءِ أي الزنى. يقال: بغت بغيا وبغاء، إذا عهرت. وذلك
__________
(1) أخرجه البخاري في: العتق، 17- باب كراهية التطاول على الرقيق، حديث 1251، عن أبي هريرة.(7/383)
لتجاوزها إلى ما ليس لها. وقوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى، وإخراج ما عداها من حكمه، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور، وقصورهن في معرفة الأمور، الداعية إلى المحاسن، الزاجرة عن تعاطي القبائح، انتهى كلام أبي السعود. أي وحينئذ فلا مفهوم للشرط، وهذا كجواب بعضهم: إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن.
والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب. كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق. ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق، لا جرم لم يكن لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229] ، مفهوم. ومن هذا القبيل قوله وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:
101] ، والقصر لا يختص بحال الخوف. ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب.
فكذا هاهنا انتهى.
قال أبو السعود: وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح، ما لا يخفى. فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه، وفضلا عن أمرهن به، أو إكراههن عليه. لا سيما عند إرادتهن التعفف. وإيثار كلمة (إن) على (إذا) مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك. فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع؟ وقوله تعالى: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا قيد للإكراه، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم، كما قبله. جيء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير، لأجل النزر الحقير.
أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال. يعني من كسبهن وأولادهن.
وقوله تعالى: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارة، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة، أي وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على ما ذكر من البغاء. فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لهن. كما وقع في مصحف ابن مسعود. وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم. وكما ينبئ عنه قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ(7/384)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
أي كونهن مكرهات. على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم (إن) وخبرها، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة. وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى، إذا قرأ هذه الآية يقول: لهن، والله! لهن، والله! وفي تخصيصهما (بهن) وتعيين مدارهما، مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية، كأنه قيل: لا للمكره. ولظهور هذا التقدير، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط. فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالا، أو معهن، إخلال بجزالة النظم الجليل، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل. وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية.
وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة. وإما لغاية تهويل أمر الزنى، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة، لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة، مع قيام العذر في حقهن. فما حال من يكرههن في استحقاق العذاب؟
انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى:
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى. وأن المكره غير مكلف ولا آثم. وأن الإكراه على الزنى يتصور. وإن مهر البغيّ حرام. وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له.
ثم حذّر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه، مما بينه أشد البيان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 34]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب. ومنه ما ذكر قبل، من النهي عن الإكراه.
فلا يخفى المراد منها وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي خبرا عظيما عن الأمم الماضية وما حل بهم، بظلمهم وتعدّيهم حدود الله وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم. كما قال تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا(7/385)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
لِلْآخِرِينَ
[الزخرف: 56] ، أي عبرة يعتبرون بها. وإيثار (المتقين) لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم، فإنهم الفائزون. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي منوّرهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار. فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثرة. كما يطلق السبب على مسببه. أو مدبرهما، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير (نور القوم) لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازا. أو استعارة استعير (النور) بمعنى المنور، للمدبر، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء. أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره- كما قاله الغزالي- فيكون أطلق عليه تعالى مجازا مرسلا باعتبار لازم معناه.
قال أبو السعود: وعبر عن المنوّر بالنور، تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير.
وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره. كما أن النور نيّر بذاته وما عداه مستنير به. وأضيف (النور) إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للدلالة على سعة إشراقه.
أو المراد بهما العالم كله مَثَلُ نُورِهِ أي صفة نوره العجيبة الشأن. قال أبو السعود:
أي نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين. كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين. وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء: 174] ، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، والحسن، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى: كَمِشْكاةٍ أي كصفة كوّة- طاقة- غير نافذة في الجدار، في الإنارة والتنوير فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب- شديد الإضاءة- وقيل: المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل، والمصباح الفتيلة المشتعلة الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي متلألئ وقّاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أي كثيرة المنافع، بأن رويت فتيلته بزيتها زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.(7/386)
أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط، ولا غربية تقع عليها عند الغروب. ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها. كصحراء أو رأس جبل. فزيتها أضوأ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه نُورٌ عَلى نُورٍ أي ذلك النور الذي عبر به عن القرآن، ومثلت صفته العجيبة بما فصل عن صفة المشكاة. نور عظيم كائن على نور كذلك. ف (نور) خبر مبتدأ محذوف، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكة للتمثيل، وتصريح لما حصل منه، وتمهيد لما يعقبه. وليس معنى نُورٌ عَلى نُورٍ نور واحد فوق آخر مثله، ولا مجموع نورين اثنين فقط، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر. فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة، كان أضوأ له وأجمع لنوره. بخلاف المكان الواسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر. والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة. وكذلك الزيت وصفاؤه. وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا، مرتبة أخرى عادة. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي لهذا النور الثاقب العظيم الشأن، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيّته.
قال أبو السعود: وإظهاره في مقام الإضمار. لزيادة تقريره، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عزّ وجلّ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي ليدنو لهم المعقول من المحسوس، توضيحا وبيانا. ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن، بنور المشكاة وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي فلا يخفى عليه شيء.
وفيه وعد ووعيد. لأن علمه تعالى، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة- آية النور- من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة.
منها (مشكاة الأنوار) للإمام الغزالي، وقد نقل عنه الرازي في (تفسيره) هنا جملة سابغة الذيل. ورأيت للإمام ابن القيم في كتابه (الجيوش الإسلامية) ما يجمل إيراده، تعزيزا للمقام واستظهارا بزيادة العلم.
قال رحمه الله: سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا. واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ، قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد فسر بكونه منوّر السموات والأرض، وهادي(7/387)
أهل السموات والأرض. فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض. وهذا إنما هو فعله.
وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين. إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. فالأول كقوله عزّ وجلّ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] ، فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى، إذا جاء لفصل القضاء. ومنه
قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور: «أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت» .
وفي الأثر الآخر: أعوذ بوجهك- أو بنور وجهك- الذي أشرقت له الظلمات
. فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله. كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي (معجم الطبرانيّ) و (السنة) له و (كتاب عثمان الدارمي) وغيرها، عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه. وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض. وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.
وفي صحيح «1» مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .
وفي صحيح «2» مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل رأيت ربك؟ قال: نور، أنّى أراه»
. فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: معناه كان ثمة نور، وحال دون رؤيته نور، فأنى أراه؟ قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورا. وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال:
نورانيّ أراه. على أنها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة. وهذا خطأ لفظا ومعنى.
وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وكان قوله (أنّى أراه) كالإنكار للرؤية، حاروا في الحديث، ورده بعضهم باضطراب
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 293.
(2) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 291.(7/388)
لفظه، وكل هذا عدول عن موجب الدليل. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب (الرؤية) له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربّه ليلة المعراج. وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك. وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة. فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عزّ وجلّ. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما. ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه:
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (حجابه النور)
فهذا النور، والله أعلم. النور المذكور في
حديث أبي ذرّ رضي الله عنه (رأيت نورا) .
ثم قال ابن القيم: وقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن. كما قال أبيّ بن كعب وغيره: وقد اختلف في الضمير في (نوره) فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم. أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: مفسره المؤمن. أي مثل نور المؤمن.
والصحيح أن يعود على الله تعالى. والمعنى: مثل نور الله سبحانه في قلب عبده. وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور- وهو وجه الكلام- يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى. إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه. ويضاف إلى العبد.
إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة. وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار. الهادي لنوره من يشاء. والقابل: العبد المؤمن. والمحل: قلبه.
والحامل: همته وعزيمته وإرادته. والمادة: قوله وعمله. وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن، بما أناله من نوره، ما تقرّ به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم. وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان: إحداهما طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف.
وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن. فتأمل صفة المشكاة، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء، قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدريّ في صفائها وحسنها. ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث(7/389)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محميّة بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار. فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به. والطريقة الثانية، طريقة التشبيه المفصل. فقيل: المشكاة صدر المؤمن، والزجاجة قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها. وكذلك قلب المؤمن. فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة. فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه. تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء. وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى، ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى. ويقوم بالحق لله تعالى. وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها. والمصباح هو نور الإيمان في قلبه. والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد منها. والنور على النور، نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب. فينضاف أحد النورين إلى الآخر، فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر. ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به. فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي. فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة. بل يتصادقان ويتوافقان. فهذا علامة النور على النور. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي أمر أن تعظم عن اللغو، أو ترفع بالبناء قدرا. ويتلى فيها اسمه، ولا يعبد فيها غيره، لأنها شيدت على اسمه جل شأنه. والظرف صفة (لمشكاة) أو (لمصباح) أو (لزجاجة) أو متعلق ب (توقد) أو(7/390)
بمحذوف. أي سبحوه في بيوت. أو ب (يسبح) . ولفظ (فيها) تكرار للتوكيد.
قال أبو السعود: لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام، ومبادئها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب، وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح، حيث مثل بنور المشكاة- عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاعتداء وعدمه، والمراد بالبيوت، المساجد كلها يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ يعني قبل طلوع الشمس وَالْآصالِ جمع أصيل وهو العشي قبل غروب الشمس رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي بالتسبيح والتحميد وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي المال الذي يتزكى مؤتيه من دنس الشح ورذيلة البخل، وتطهر نفسه ويصفو سره يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ
أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع. كما في قوله تعالى وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ اللام متعلقة ب (يسبح) أو (لا تلهيهم) أو بمحذوف يدل عليه السوق. أي يفعلون ما يفعلون مما ذكر، ليجزيهم. وفي آخر الآية تقرير وتنبيه على كمال القدرة، ونفاذ المشيئة، وسعة الإحسان، لأن (بغير حساب) كناية عن السعة.
والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدّهم.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات. وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد. وفي قوله رِجالٌ إشارة إلى أن الأفضل للنساء الصلاة في قعر بيوتهن. كما صرح به الحديث، إلا في نحو العيدين لحديث «1» : ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وقوله لا تُلْهِيهِمْ الآية، فيه أن التجارة لا تنافي الصلاة. لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر: فيكم نزلت رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ الآية. وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك. انتهى. وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحيض، 23- باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، حديث 223، عن أم عطية.(7/391)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عطف على ما ينساق إليه ما قبله. كأنه قيل: الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف، والذين كفروا أَعْمالُهُمْ أي التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب كَسَرابٍ وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس، وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري بِقِيعَةٍ بمعنى القاع، وهو المنبسط من الأرض. أو جمع قاع (كجيرة) في (جار) يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي لا محققا ولا متوهما. كما كان يراه من قبل، فضلا عن وجدانه ماء، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل. وقوله تعالى:
وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي وجد عقاب الله وجزاءه عند السراب، أو العمل. وفي التعبير بذلك زيادة تهويل. وقيل: المعنى وجده محاسبا إياه. فالعندية بمعنى الحساب، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده. قيل: هذه الجملة معطوفة على لَمْ يَجِدْهُ ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو (لم يجد ما عمله نافعا) .
قال الشهاب: ويحتمل أن يكون بيانا لحال المشبه به، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه. ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب.
والمعنى: وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب، فوفاه ما كتب له، من لا يؤخر الحساب- كان الكلام متناسبا. واختار الثاني أبو السعود حيث قال: هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط، كما هو شأن الظمآن. ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلا. فليست الجملة معطوفة على لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا. كما في قوله تعالى وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فإن قيل: لم خص (الظمآن) بالذكر، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك؟
فكان الظاهر (الرائي) بدله. وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ إلخ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به. وهو أبلغ. لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق. ونحوه ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
[آل عمران: 117] ، إلخ،(7/392)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية. يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة، ومآلها الخيبة، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر، سرابا يحسبه شرابا، فينتظم عطف (وجد الله) أحسن انتظام كما نوّروه. كذا في (الكشف) الثالثة- قال الشهاب: وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قوله مالك بن نويرة:
لعمري إني وابن جارود كالّذي ... أراق شعيب الماء والآل يبرق
فلما أتاه، خيّب الله سعيه ... فأمسى يغضّ الطرف عيمان يشهق
ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 40]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي متراكم بعضه على بعض مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أي متكاثفة متراكمة. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي وجعلها بمرأى منه، قريبة من عينه لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي:
ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن، فما له هداية ما. وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ والجملة تقرير للتمثيل قبل، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك، قال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] .
لطيفة:
قال ابن كثير: هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار. كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريّا ومائيا. وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم، في سورة الرعد، مثلين مائيّا وناريّا.
ثم قال: أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء. فمثلهم كالسراب. والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم، الذين لا يعقلون. فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب. بل كما يقال في المثل للجاهل (أين تذهب؟ قال:(7/393)
معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري) انتهى.
وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم، وليس بمتعين. ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، في (الجيوش الإسلامية) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد. قال: انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال. فإن الناس قسمان:
أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئا له حاصل فينتفع به. وهي كسراب بقيعة إلخ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره، ولم يعارضوها بالشبهات. وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات.
فلا هم في علمهم، من أهل الخوض الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ [الذاريات: 11] ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون. وفي ضلالهم يتهوكون. وفي ريبهم يترددون. مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر:
56] ، أوجبه لهم اتباع الهوى، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.
القسم الثاني- أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم. الذين قال الله تعالى فيهم إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم: 23] ، وهؤلاء قسمان: أحدهما، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال. فهؤلاء أهل الجهل المركب، الذين يجهلون الحق ويعادونه، ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله. وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون. فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهكذا هؤلاء. أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه. ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان، كما هو حال من أمّ السراب فلم يجده ماء. بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين. سبحانه وتعالى. فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل الذر. وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا. إذ لم يكن خالصا(7/394)
لوجهه، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة، كذلك هباء منثورا. فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه. و (السراب) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري و (القيعة) و (القاع) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد. فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله، بسراب يراه المسافر في شدة الحر، فيؤمّه، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى. فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش، بدت لهم كالسراب. فيحسبونه ماء. فإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب، فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما، فقطع أمعاءهم. وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه. كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: 103- 104] ، وهم الذين عنى بقوله: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 33] ، وهم الذين عنى بقوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] .
القسم الثاني من هذا الصنف، أصحاب الظلمات. وهم المنغمسون في الجهل.
بحيث قد أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا. فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى: كَظُلُماتٍ جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور. فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، يتقلب في خمس ظلمات: قوله: ظلمة. وعمله ظلمة. ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة. وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم. وحاله مظلم. وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور، جدّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم(7/395)
وقوله تعالى: فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ اللجيّ العميق. منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه. وقوله تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ تصوير لحال المعرض عن وحيه. فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره، بتلاطم أمواج ذلك البحر، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض. والضمير الأول قوله: يَغْشاهُ راجع إلى البحر، والضمير الثاني في قوله: مِنْ فَوْقِهِ عائد إلى الموج. ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب. فها هنا ظلمات: ظلمة البحر الّلجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله إِذا أَخْرَجَ من في هذا البحر يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها واختلف في معنى ذلك. فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية. وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته. فكأنه قال لم يقارب رؤيتها بوجه.
قال هؤلاء: (كاد) من أفعال المقاربة. لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات. فإذا قيل: كاد يفعل، فهو إثبات مقاربة الفعل. وإذا قيل: لم يكد يفعل، فهو نفي لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا دالّ على أنه إنما يراها بعد جهد شديد. وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات: قالوا: لأن (كاد) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت. وإذا نفت أثبتت. فإذا قلت: (ما كدت أصل إليك) فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة. فهذا إثبات للوصول.
وإذا قلت (كاد زيد يقوم) فهي نفي لقيامه. كما قال تعالى وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19] .
ومنه قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [القلم: 51] ، وأنشد بعضهم في ذلك لغزا:
أنحويّ هذا العصر! ما هي لفظة ... جرت في لساني جرهم وثمود؟
إذا استعملت في صورة النفي أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقالت فرقة ثالثة، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة، يقتضي نفي خبرها. كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى، فهي عنده تنفي الخبر. سواء كانت منفية أو مثبتة. (فلم يكد زيد يقوم) أبلغ عنده في النفي من (لم يقم) واحتج بأنها إذا نفيت- وهي من أفعال المقاربة- فقد نفيت مقاربة الفعل. وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة(7/396)
اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه. واعتذر عن مثل قوله تعالى فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] ، وعن مثل قوله (وصلت إليك وما كدت أصل) و (سلمت وما كدت أسلم) بأن هذا وارد على كلامين متباينين. أي: فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له، فالأول يقتضي وجود العمل، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.
وذهبت فرقة رابعة إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل. سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي، فإن كانت بصيغة المستقبل، كانت لنفي الفعل ومقاربته. نحو قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] ، فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.
والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال. ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه. وإنما استفيد من لوازم معناها.
فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل، لم يكن واقعا، فيكون منفيا باللزوم. وأما إذا استعملت منفية، فإن كانت في كلام واحد، فهي لنفي المقاربة. كما إذا قلت (لا يكاد البطال يفلح) و (لا يكاد البخيل يسود) و (لا يكاد الجبان يفرح) ونحو ذلك.
وإن كانت في كلامين، اقتضت وقوع الفعل، بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك: فهذا التحقيق في أمرها.
والمقصود إن قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها، فكيف يراها؟ قال ذو الرمة:
إذا غيّر النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى في حبّ ميّة يبرح
أي لم يقارب البراح. وهو الزوال، فكيف يزول؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولا، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد. فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمله ورجاه. شبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج: الذي قد غشيه السحاب من فوقه. فيا له تشبيها ما أبدعه! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح،(7/397)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم. وكل واحد من السراب والظلمات، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم. فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها. وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه، التي تلقاها من مشكاة النبوة. فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع، لأوليائه وأعدائه. انتهى. كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته، وظهور أمره وجلالته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 41]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ينزهه ويقدسه وحده، أهلوهما وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي يصففن أجنحتهن في الهواء كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي كل واحد مما ذكر، قد هدى وأرشد إلى طريقته ومسلكه، في عبادة الله عزّ وجلّ. فالضمير في (علم) لكل. أو للفظ الجلالة، كالضمير في صلاته وتسبيحه.
قال الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات، فارجع إليه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 42]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي هو الإله الحاكم المتصرف فيهما، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلّا له، وإليه يوم القيامة، مصير الخلائق، فيحكم بينهم، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا.(7/398)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 43]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي يسوقها برفق. ومنه البضاعة المزجاة، يزجيها كل أحد. أي يدفعها لرغبته عنها، أو لقدرته على سوقها وإيصالها ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بضم بعضه إلى بعض. فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وهي فرجه ومخارج القطر منه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ قال ابن كثير: يحتمل المعنى: فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء. ويحتمل المعنى:
فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع. ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم. انتهى.
وخلاصته أن الضمير إما للأقرب، على الثاني، أوله ولما قبله، على الأول.
لطيفة:
قد ذكرت (من) الجارّة في الآية ثلاث مرات. فالأولى ابتدائية اتفاقا. والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية، على جعل مدخولها بدلا مما قبله بإعادة الجار. والثالثة فيها هذه الأقوال. وتزيد برابع، وهو أنها لبيان الجنس. والتقدير: ينزل من السماء بعض جبال، التي هي البرد.
يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي لمعانه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يخطفها لشدته وقوته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 44]
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفا له. أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد، لانتظام معايشهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.(7/399)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 46]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ كل حيوان يدب على الأرض من ماء، وهو جزء مادته. أو ماء مخصوص هو النطفة، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة. وقيل: مِنْ ماءٍ متعلق ب (دابة) وليست صلة (لخلق) فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحياة. وتسمية حركتها مشيا، مع كونها زحفا، بطريق الاستعارة أو المشاكلة وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما ذكر وغيره، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو صراط تلك الآيات، صراط الحق والهدى والنور.
وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا.
ثم أشار إلى ما كان يقع من المنافقين من أثر النفاق، تحذيرا من صنيعهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 50]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي دعوى الإيمان وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي في قلوبهم. ثم برهن عليه بقوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي كتابه وَرَسُولِهِ أي سنته وحكمه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن المجيء إليه وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أي الحكومة لهم، لا عليهم يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي مسرعين طائعين. وقوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا(7/400)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
أي في الحكم فيظلموا فيه. قال أبو السعود:
إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور. وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم، والمتوقعة منهم. وترديد المنشئية بينها. فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة و (أم) من الأمور الثلاثة، بل هو منشئيتها له. كأنه قيل: أذلك، أي إعراضهم المذكور، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام، مع ظهور حقيتها؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة، التي كل واحد منها كفر ونفاق.
ثم بيّن اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم، بقوله تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين رسخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم. فالإضراب انتقالي.
والمعنى: دع هذا كله، فإنهم هم الكاملون في الظلم، الجامعون لتلك الأوصاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 52]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع، وتحريم الامتناع، واستحباب أن يقول: سمعنا وأطعنا. انتهى.
ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه، وذلك إقسامهم الكاذب، ليستدل به على إيمانهم الباطن، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 53]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)(7/401)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
أي بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم لَيَخْرُجُنَ
أي مجاهدين. و (جهد) منصوب على الحالية. أو هو مصدر (لأقسموا) من معناه. وهو مستعار من (جهد نفسه) إذا بلغ وسعها. أي أكدوا الأيمان وشدّدوها قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا. فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة، لا تنكرها النفس. إذ لا حرج فيها.
فأطيعوا بالمعروف من غير حلف، كما يطيع المؤمنون. وقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة. أي أنها قول بلا عمل. إذ عرف كذبكم في أيمانكم. كما قال تعالى يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة: 96] ، الآية وقال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16] ، الآية فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: 11- 12] ، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي من الأعمال الظاهرة والباطنة، التي منها الأيمان الكاذبة، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 54]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تولوا عن الإطاعة فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ أي كلفه من أداء الرسالة. فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه.
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أي لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم. فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى. وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ البيّن بنفسه، أو الموضح لما أمرتم به.
ولما تضمن قوله تعالى: تَهْتَدُوا إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم، استأنف التصريح به تقريرا له، بقوله سبحانه:(7/402)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 55]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم. أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المؤمنة برسلها. التي أهلك الله عدوّها، وأورثها أرضها وديارها. كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين، بعد إهلاك الجبابرة وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي فليجعلن دينهم ثابتا مقررا، مرفوع اللواء، ظاهرا على غيره، قاهرا لمن ناوأه.
قال أبو السعود: وفي إضافة (الدين) إليهم. وهو دين الإسلام، ثم وصفه بارتضائه لهم، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه، وفضل تثبيت عليه وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في فسقهم. حيث كفروا تلك النعمة العظيمة. وجسروا على غمطها.
تنبيه:
في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه- ما لا يخفى. فقد أنجز الله وعده، وأظهرهم على جزيرة العرب، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب. ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : الآيات 56 الى 57]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ معطوف على (أطيعوا الله) وما اعترض بينهما(7/403)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
كان تأكيدا، أو على مقدر يستدعيه السوق. أي: فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا. أو فلا تكفروا وأقيموا. إلخ. ثم كرر طاعة الرسول، تأكيدا لوجوبها، بقوله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي معجزين لله تعالى، بل مدركون وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام، ومن الترغيب والترهيب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من العبيد والجواري وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي هي ثلاث عورات لكم. إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختلّ فيها التستّر عادة، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا. فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن. ولا عليهم جناح من الدخول بدونه، بعد هذه الأوقات، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته. وذلك لأنهم طوافون عليكم، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا. أو بعضكم يطوف على بعض.
قال الزمخشري: يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام. فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدّى إلى الحرج. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن.
تنبيه:
في الآية إقرار ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت(7/404)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الظهيرة. وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز. كذا في (الإكليل) .
وقال الرازي: الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين: أحدهما بقوله تعالى:
ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 59]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ أي الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة مِنْكُمُ أي من الأحرار، دون المماليك، فإنهم باقون على الرخصة الْحُلُمَ أي حدّ البلوغ بالاحتلام، أو بالسنّ الذي هو مظنة الاحتلام فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي في سائر الأوقات أيضا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: 27] .
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاثة.
فإذا اعتاد الأطفال ذلك، ثم خرجوا عن حدّ الطفولة، بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
وهذا مما الناس منه في غفلة. وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن. وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ.
وسأله عطاء: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، وإن كانت في حجرك تمونها.
وتلا هذه الآية.
وعنه: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله. وقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] ، فقال ناس: أعظمكم بيتا. وقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء: 8] . كذا في (الكشاف) .(7/405)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
تنبيه:
قال في (الإكليل) : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ. وأن البلوغ يكون بالاحتلام. وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان، كالأجانب.
انتهى.
وقال التقي السبكي في (إبراز الحكم، في شرح حديث رفع القلم) : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل. ويدل لذلك قوله تعالى:
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا
الحديث «1»
(وعن الصبيّ حتى يحتلم) وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس
. قال: والآية أصرح.
فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم.
وورد أيضا عن علي رضي الله عنه، رفعه (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل) «2» رواه أبو داود
. والمراد بالاحتلام خروج المني.
سواء كان في اليقظة أم في المنام، بحلم أو غير حلم. ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم، أطلق عليه الحلم والاحتلام، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني، فلا حلم له.
ثم قال:
وقوله في الحديث (حتى يحتلم)
دليل البلوغ بذلك. وهو إجماع.
وهو حقيقة في خروج المني بالاحتلام، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناما.
أو منقول فيما هو أعم من ذلك، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني، إن أطلقناه عليه منقولا عنه. ولكونه فردا من أفراد الاحتلام. انتهى.
وفي (القاموس) : الحلم (بالضم) والاحتلام: الجماع في النوم. والاسم الحلم كعنق. انتهى.
وقال الراغب: سمي البلوغ حلما، لكون صاحبه جديرا بالحلم: أي الأناة والعقل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 60]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحدود، 22- باب لا يرجم المجنون. من قول علي لعمر.
(2) أخرجه أبو داود في: الوصايا، 9- باب ما جاء متى ينقطع اليتم، حديث رقم 2873.(7/406)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد، لكبرهن اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه، لرغبة الأنفس عنهن فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي الظاهرة مما لا يكشف العورة، لدى الأجانب. أي يتركن التحفظ في التستر بها. فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي مظهرات لزينة خفية. يعني الحليّ في مواضعه المذكورة في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو المعنى غير قاصدات بالوضع، التبرج. ولكن التخفف إذا احتجبن إليه وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي من وضع تلك الثياب خَيْرٌ لَهُنَّ لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة. ولذا يلزمهن، عند المظنة، ألا يضعن ذلك. كما يلزم مثله في الشابة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي فيسمع مقالهن مع الأجانب، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب. وفيه من الترهيب ما لا يخفى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 61]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي في القعود عن الغزو، لضعفهم وعجزهم. وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91] ، وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده، مردود بأن المراد أن كلّا من الطائفتين منفيّ عنه الحرج. ومثال هذا- كما قال الزمخشريّ- أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان. وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر. قلت له: ليس على المسافر حرج أن يفطر، ولا عليك، يا حاجّ أن تقدم الحلق عن النحر. يعني أنه إذا كان في العطف غرابة، لبعد الجامع في بادئ النظر، وكان الغرض بيان حكم حوادث(7/407)
تقاربت في الوقوع، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء، والإفتاء، كان ذلك جامعا بينها، محسنا للعطف، وإن تباينت.
قال الشهاب: وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده.
لأن ملائمته لما بعده قد عرف وجهها. وأما ملائمته لما قبله فغير لازمة، إذ لم يعطف عليه. انتهى.
وقيل: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم، فيطعمونهم منها. فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك. وخافوا أن يلحقهم فيه حرج. وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق، لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] ، فقيل لهم: ليس على الضعفاء، ولا على أنفسكم، يعني عليكم، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين، حرج في ذلك.
وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم. ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر. والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه، فيضيق على جليسه.
والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف.
وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم. فكانوا يتحرجون. فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
هذا ما ذكروه. ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك، ونفي الحرج عنه كله.
ولا يستلزم نفي الحرج عن مؤاكلة المريض على هذه الأوجه الأخر، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب، وغدت الأنفس تعافه. بل يراد به حضوره مع الصحيح على مائدة، واختصاصه بقصعة على حدة. وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع. وقوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي بيوت أزواجكم وعيالكم. أضافه إليهم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفرّاء.
وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم. فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الولد كسب والده، ماله كماله.
قال صلى الله عليه وسلم «1»
«إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» .
__________
(1) أخرجه النسائي في: البيوع، 1- باب الحث على الكسب، عن عائشة.(7/408)
قال: والدليل على هذا، أنه تعالى عدّد الأقارب ولم يذكر الأولاد. لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة، كان الذي هو أقرب منهم أولى. انتهى.
وعليه، فلا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد، كما في قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] .
وفي (الكشف) : فائدة إقحام النفس، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء- حرج.
وقيل إنه على ظاهره. والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه.
قال الشهاب: وهو حسن. ولا يرد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد، لأنه داخل في قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ. انتهى.
أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعني أموال المرء، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح كونها في يده وحفظه أَوْ صَدِيقِكُمْ أي أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا. وكذلك الخليط والقطين والعدو.
كذا في (الكشاف) .
قال الناصر: وقد قال الزمخشري: إن سرّ إفراده في قوله تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100- 101] ، دون الشافعين، والتنبيه على قلة الأصدقاء، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له، ويشفع في حقه من لا يعرفه، فضلا عن أن يكون صديقا.
ويحتمل في الآيتين، أن يكون المراد به الجمع. فلا كلام. ويحتمل أن يراد الإفراد، فيكون سرّه ذلك. والله أعلم.
قال الزمخشري: يحكى عن الحسن أنه دخل داره. وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا، وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم. يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم.(7/409)
وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ منه ما شاء. فإذا حضر مولاها فأخبرته، أعتقها سرورا بذلك.
وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما: من عظم حرمة الصديق، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصديق أكبر من الوالدين. إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات. فقالوا فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100- 101] . وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح. وربما سمج الاستئذان وثقل. كمن قدم إليه طعام، فاستأذن صاحبه في الأكل منه. انتهى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أي مجتمعين أو متفرقين. روي أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف، لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض. فأبيح لهم ذلك.
وقال قتادة: كان هذا الحيّ من بني كنانة، يرى أحدهم أن مخزاة عليه، أن يأكل وحده في الجاهلية. حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه. واشتهر هذا عن حاتم لقوله:
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
قال الشهاب: وفي الحديث (شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده) والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا، بيان لأنه لا إثم فيه، ولا يذم به شرعا، كما ذمّت به الجاهلية.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم، قرابة ودينا. قاله الزمخشري.
أشار رحمه الله، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها، لشدة الاتصال كقوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ويحتمل أن المسلم، إذا ردت تحيته عليه، فكأنه سلم على نفسه. كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله، كأنه قاتل نفسه. وأما إبقاؤه على ظاهره لأنه إذا لم يكن في البيت أحد، يسره أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله(7/410)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
الصالحين. كما روي عن ابن عباس- فبعيد غير مناسب لعموم الآية. كذا في (الشهاب) .
وقال الناصر: في التعبير عنهم، بالأنفس، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة، وأن ذلك إنما كان، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه، لاتحاد القرابة.. فليطب نفسا بانبساط فيها تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ثابتة بأمر، مشروعة من لدنه مُبارَكَةً أي مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها طَيِّبَةً أي تطيب بها نفس المستمع كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين.
ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 62]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الزمخشري: أراد عزّ وجلّ أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه. فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله. وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره. وذلك مع تصدير الجملة (بإنما) وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول، أحاطت صلته بذكر الإيمانين.
ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وضمنه شيئا آخر. وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال المؤمنين وتسلّلهم لواذا.
ومعنى قوله: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصب أن يأذن له.(7/411)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس. فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز. وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهم، أو تضامّ لإرهاب مخالف، أو تسامح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ (أمر جميع) . وفي قوله:
وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أنه خطب جلل، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة، يظاهرونه عليه ويعاونونه، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم، في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال، مما يشق على قلبه، ويشعث عليه رأيه فمن ثم غلّظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط، ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ وذكر الاستغفار للمستأذنين، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدّثوا أنفسهم بالذهاب، ولا يستأذنوا فيه.
وقيل: نزلت في حفر الخندق. وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل، ولا يتفرقون عنهم، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام. إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن. على حسب ما اقتضاه رأيه.
تنبيه:
استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوّضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم. وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض. وهي مبسوطة في الأصول، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 63]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر، فدعاكم، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه. ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، قال الزمخشري.
وكذا قال ابن الأثير في (المثل السائر) أي إذا حضرتم في مجلسه، فلا يكن(7/412)
حضوركم كحضوركم في مجالسكم. أي لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه، والزموا معه الأدب.
وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر. منهم ابن أبي الحديد حيث قال في (الفلك الدائر) : إن المعنى المتقدم، وإن دلت عليه قرينة متقدمة، كما قال ابن الأثير- ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا. ولعله الأصح. وهي أن يراد بالدعاء الأمر. يقال: دعا فلان قومه إلى كذا، أي أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ، أي ندبكم. وقال سبحانه: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ [نوح: 7] ، أي أمرتهم وندبتهم والقرينة المتأخرة قوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ انتهى. وكذا قال المهايمي: أي لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى. لأنه واجب الطاعة. لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعوّ.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي ينسلون قليلا قليلا. (واللواذ) الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا. يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة، واستتار بعضهم ببعض. و (لواذا) حال. أي ملاوذين.
هذا، وقيل معنى الآية: لا تجعلوا نداءه وتسميته، كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرة. ولكن بلقبه المعظم. مثل: يا نبيّ الله! ويا رسول الله! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.
وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق. وتكلف بعضهم لربطه بما قبله، بأن الاستئذان يكون بقولهم: يا رسول الله! إنا نستأذنك. ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه. والأول أظهر وأولى كما في (العناية) .
نعم، في التنزيل عدة آيات، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير، وجعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه. كآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] الآية، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] ، إلى قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي يعرضون عنه ولا يأتون به. فضمن (المخالفة) معنى الإعراض والصدّ. أو عن صلته. وقيل:(7/413)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
إذا تعدى (خالف) ب (عن) ضمن الخروج. وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله، كما قاله الراغب أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي محنة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة أو فيهما.
تنبيه:
استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته، وأصول دينه. فما وافق قبل، وما خالف رد على قائله وفاعله، كائنا من كان. كما
ثبت في الصحيحين «1» عنه صلوات الله عليه وسلامه (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)
واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب. فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين. قيل: هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله: عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وقد جوّزا فيه مع إرادتهما معا. وتفصيل البحث في (الرازي) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النور (24) : آية 64]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها المكلفون من المخالفة والموافقة، والنفاق والإخلاص. وإنما أكد علمه ب (قد) لتأكيد الوعيد.
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي فلا يخفى عليه خافية. لأن الكل خلقه وملكه. فيحيط علمه به ضرورة. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] .
__________
(1) أخرجه البخاري في: الاعتصام، 20- باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. [.....](7/414)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفرقان
الجمهور على أنها مكية. وعن الضحاك: مدنية. وعن بعضهم: مكية إلا ثلاث آيات وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ إلى رَحِيماً [الفرقان: 68- 70] .
قال المهايمي: سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان، الذي هو التمييز بين الحق والباطل. والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره، وآياتها سبع وسبعون.(7/415)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.
يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها، لما أنزله من الفرقان، كما قال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الكهف: 1- 2] الآية.
قال الزمخشري: (البركة) كثرة الخير وزيادته. ومنها تَبارَكَ اللَّهُ وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه، في صفاته وأفعاله.
والْفُرْقانَ مصدر فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال.
ألا ترى إلى قوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ، انتهى.
قال الناصر: والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني. لأنه في أثناء السورة بعد آيات وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] ، قال الله تعالى كَذلِكَ أي أنزلناه مفرقا كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم-. كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد. انتهى.
قال أبو السعود: وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردّا على النصارى، والكناية في (ليكون) للعبد أو للفرقان. و (النذير) صفة بمعنى منذر، أو مصدر بمعنى الإنذار، كالنكر مبالغة.(7/416)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 2]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي أحدثه إحداثا مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه.
كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة. وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة. بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما، ومصلحته مطابقا لما قدر له، غير متجاف عنه.
ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة، تأثره بالبرهنة عليهما، وتضليل المخالفين فيهما، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 3]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أي لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلا وبعثه ثانيا. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها. وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء. أفاده القاضي.
قال الشهاب: قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار، إما بيانا لحاصل المعنى، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال. كما في قوله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 5]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)(7/417)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً أي بجعل الصدق إفكا، والبريء عن الإعانة معينا وَزُوراً أي باطلا لا مصداق له، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي ما سطروه، كتبها لنفسه وأخذها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تلقى عليه ليحفظها بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما.
قال ابن كثير: وهذا الكلام، لسخافته وكذبه وبهته منهم، يعلم كل أحد بطلانه. فإنه قد علم بالضرورة: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره. وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته. وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث با (لأمين) لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، ورموه بهذه الأقوال، التي يعلم كل عاقل براءته منها.
وحاروا بما يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر. وتارة يقولون: شاعر. وتارة يقولون: مجنون. وتارة يقولون: كذاب، قال الله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 48] و [الفرقان: 9] ، وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 6]
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الخفيّ فيهما. إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى. ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره. وفي طيّه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبيّ عليه الصلاة والسلام، مع ما يتقولونه ويفترونه، لا يعزب عن علمه. فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم، وسموق حقه وظهور أمره إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم، مع استيجابهم إياها.
أي فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته. أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم. لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر. هذا ما يستفاد من (الكشاف) ومن تابعه، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله.
وقال ابن كثير: قوله تعالى إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً دعاء لهم إلى التوبة والإنابة،(7/418)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم سبحانه إلى التوبة، والإقلاع عما هم فيه، إلى الإسلام والهدى. كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 73- 74] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] ، قال الحسن البصريّ: انظروا إلى هذا الكرم والجود. قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 7]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7)
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها لشئونه كما نمشي. قال الزمخشري: يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش. أي فيخالف حاله حالنا. قال أبو السعود: وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم، وقصور أنظارهم على المحسوسات. فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأمور نفسانية. كما أشير إليه بقوله تعالى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز، إن لم يرفد بملك، فقالوا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 8]
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي من السماء يستظهر به، ولا يحتاج إلى طلب المعاش،(7/419)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
ويكون دليلا على صدقه. ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه، فقالوا أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي بستان يرتزق منه وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً
أي مغلوبا على عقله. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 9]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها.
والتعجب منها. أي انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي القدح في نبوّتك، بأن يجدوا قولا يستقرّون عليه.
أو فضلّوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه.
قال ابن كثير: كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال، حيثما توجه.
لأن الحق واحد، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا.
ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 10]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا. وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور. ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال. وليصدع بأن الأمر مبنيّ على النظر والاستدلال، لا ما يلهي المشاعر والخيال. مما يتطرق إلى الشغب فيه الجدال، فسبحان الحكيم المتعال. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 11]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ إضراب انتقاليّ عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى، للتخلص إلى بيان ما لهم في(7/420)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
الآخرة بسببها، من فنون العذاب، بقوله وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي نارا شديدة الاستعار، أي التوقد والالتهاب.
وقيل: هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ على معنى: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا. فإن جراءتهم على التكذيب بها، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها، أعجب من القول السابق.
ويجوز أن يتصل بما يليه، كأنه قيل: بل كذبوا بالساعة، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟.
ثم وصف تعالى السعير بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 12]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي إذا كانت بمرأى منهم (أي قريبة منهم) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم، حقيقة أو تمثيلا. و (من) في قوله مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة، حين رأتهم، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة. فيه مزيد تهويل لأمرها. أفاده أبو السعود. و (التغيّظ) إظهار الغيظ وهو أشد الغضب، وقد يكون مع صوت كما هنا.
شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، وهو صوت يسمع من جوفه، تصريحا أو مكنيا أو تمثيلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 13 الى 14]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً أي هلاكا. أي نادوه نداء المتمني الهلاك. ليسلموا مما هو أشد منه. كما قيل: أشد من الموت ما يتمنى معه الموت. فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً لكثرة أنواعه المتوالية. فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين. أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحدا. أو كثرته كناية عن دوامه. لأن(7/421)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32- 33] ، وقيل: وصف الثبور بالكثرة، لكثرة الدعاء أو المدعوّ به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 15 الى 16]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي حقيقا أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه. وما في (على) من معنى الوجوب، لامتناع الخلف في وعده تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 18]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أي الله تعالى للمعبودين، تقريعا لعبدتهم أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي عن السبيل بأنفسهم، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد قالُوا سُبْحانَكَ تعجبا مما قيل لهم. لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء. أو تنزيها له عن الأنداد ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليّا غيرك، أو (من أولياء) أي أتباعا للعبادة وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم. وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة. أي ما أضللناهم. ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم، ليعرفوا حقها ويشكروها. فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر، أي ذكرك. أو التذكر في آلائك، والتدبر في آياتك، فجعلوا أسباب الهداية، بسوء اختيارهم، ذريعة إلى الغواية- أفاده أبو السعود وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي هالكين. ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم، بقوله:(7/422)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 19]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي المعبودون، أيها الكفرة بِما تَقُولُونَ أي في قولكم إنهم آلهة. أو في قولكم هؤلاء أضلونا فَما تَسْتَطِيعُونَ أي ما تملكون صَرْفاً أي دفعا للعذاب عنكم بوجه ما وَلا نَصْراً أي لأنفسكم من البوار وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيها المكلفون، كدأب هؤلاء نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً. ثم أجاب عن شبههم السابقة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 20]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي ليحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة. وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم. فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: 109] ، وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء: 8] .
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافا لمن كرهها لهم.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً قال الزمخشريّ: هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق. بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل. يقول: وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم، أيها الناس، ببعض. والمعنى أنه ابتلى المرسلين(7/423)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
بالمرسل إليهم. وبمناصبتهم لهم العداوة. وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل. ونحوه وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] ، وفي قوله تعالى: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً زيادة تسلية وعدة جليلة. أي هو عالم فيما يبتلي به وغيره، فلا يضق صدرك. فإن في صبرك سعادة وفوزا في الدارين.
ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة، وإبطالها، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 21]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي الرجوع إليه بالبعث والحشر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي للرسالة، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أَوْ نَرى رَبَّنا أي فيخبرنا بذلك لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في شأنها حتى تفوّهوا بمثل هذه العظيمة وَعَتَوْا أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً أي بالغا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الربانيّ من غير توسط الرسول والملك. ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 22]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي عند الموت أو في القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً أي كما كانوا يقولون عند لقاء العدوّ وشدة النازلة حِجْراً أي أسال الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا ومَحْجُوراً تأكيد ل حِجْراً وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراما عليكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 23]
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة،(7/424)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
ويرونه من مكارمهم فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي مثل الغبار المنثور في الجوّ، في حقارته وعدم نفعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 24 الى 25]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم. فيخرب العالم بأسره. و (الباء) بمعنى (مع) أي مع السحب الجوية أو بمعنى (عن) أي تنفطر عن الغمام الذي يسوّد الجو ويظلمه، ويغم القلوب مرآه وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا فيحيطون بالخلائق في المحشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 26 الى 29]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي فلا يدعيه ثمّ غيره. ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أي تشتد حسراته وتتصاعد زفراته يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني من أضلّه عن الذكر، وصده عن سبيل الله لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي القرآن، أو موعظة الرسول إِذْ جاءَنِي، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي مبالغا في إضلاله، يعده ويمنيه في الدنيا، ما يحسّره عليه في العقبى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 30]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
وَقالَ الرَّسُولُ أي إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا، معرضا عنه. وجملة وَقالَ الرَّسُولُ عطف على(7/425)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ وما بينهما اعتراض، سيقت لانتظام ما قالوه، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور، وجلبوه من الكدور، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين.
تنبيه:
الآية، وإن كانت في المشركين، وإعراضهم هو عدم إيمانهم، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به، والأخذ بآدابه. الذي هو حقيقة الهجر. لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك. إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها. ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.
ومن (فوائد) الإمام ابن القيم رحمه الله. قوله في هذه الآية: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها.
فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
قال: وكل هذا داخل في هذه الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى.
وفي (الإكليل) : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه. وكذا قال أبو السعود: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى. فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل لهم العذاب ولم ينظروا. ثم ذكر تعالى ما يكون أسوة لنبيه، وتسلية له، ووعدا بالنصرة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 31]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً أي إلى ما يبلغك ما تتمناه وَنَصِيراً أي لك على كل من يناوئك. ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم، بقوله:(7/426)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي دفعة واحدة في وقت واحد. وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة الحمقاء بقوله كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة. فإن ما يتواتر إنزاله لذلك، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة، من نزوله مرة واحدة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي فصلناه تفصيلا بديعا، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده.
قال القاشانيّ: الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه، وأن يصير ملكة لا حالا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي الذي يقمع تلك الصفة. كما قال بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18] ، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بيانا وهداية، عناية بك وبما أرسلت من أجله، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد.
تنبيه:
يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة، كنزول بقية الكتب جملة. ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة، صحيح.
فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له. والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له، وليس عليه أثارة من علم، ولا يصححه عقل. فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت. لمقدار مكث النبيّ. إذ ما دام بين ظهراني قومه، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة. ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه. وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك. وما كل كلام معرّض به.
وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص، وتعنت متفنن فيه. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 34 الى 36]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا وَلَقَدْ آتَيْنا(7/427)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم فرعون وقومه. والآيات الخوارق التسع. أي فذهبا إليهم. فأرياهموها فكذبوها فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي بالإغراق في البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 37 الى 39]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني نوحا. وجمع تعظيما لرسالته. أو هو ومن تقدمه عليهم السلام أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً وَعاداً يعني قوم هود وَثَمُودَ بالصرف وعدمه. قراءتان. على معنى الحي أو القبيلة وَأَصْحابَ الرَّسِّ اسم بئر. ونبيهم قيل: شعيب، وقيل: غيره. ويروي هنا بعضهم آثارا منكرة لا تصح. كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله. فلا يحل الجراءة على روايتها، ولا تنزيل الآية عليها. لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم. ومثله يحظر الخوض فيه. وَقُرُوناً أي أقواما بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي إهلاكا عظيما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 40]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أي في مرورهم، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله؟
وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر، عند مشاهدة ما يوجبه بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي كفرة، لا يتوقعون عاقبة وجزاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 42]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42)(7/428)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أي يستهزئون قائلين ذلك. والإشارة للاستحقار. لأن كلمة (هذا) تستعمل له. وعائد الموصول محذوف. أي بعثه. و (رسولا) حال منه إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي أنه كاد ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليّا، لولا أن ثبتنا عليها.
قال الزمخشريّ: فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا جواب منه تعالى لآخر كلامهم. وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال. ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 43]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا تعجيب للنبيّ صلوات الله عليه من شناعة حالهم، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشريّ: من كان في طاعة الهوى في دينه، يتبعه في كل ما يأتي ويذر، ولا يتبصر دليلا، ولا يصغي إلى برهان، فهو عابد هواه وجاعله إلهه. فيقول تعالى لرسوله: هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى؟
أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام؟ وتقول لا بد أن تسلم، شئت أو أبيت. ولا إكراه في الدين. وهكذا كقوله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 44]
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي منهم. لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها، والنفرة مما يضرها. وهؤلاء عطّلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق، ويميز بها بين الخير والشر. ثم أشار(7/429)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
تعالى إلى بعض دلائل التوحيد، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 45]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا على حاله، من الطول والامتداد. من (السكنى) أو غير متقلص من (السكون) بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتا في مكان، زائلا ومتسعا ومتقلصا. فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه، على حسب ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 46 الى 47]
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47)
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي أزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه قَبْضاً يَسِيراً أي على مهل، قليلا قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها.
وفي هذا القبض اليسير، شيئا بعد شيء، من المنافع ما لا يعدّ ولا يحصر. ولو قبض دفعة واحدة، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي ساترا كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي زمان انتشار لطلب المعاش.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 48 الى 49]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً أي ناشرات للسحاب وفي قراءة (بشرا) بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين، أي مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.
وهي استعارة بديعة. استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت. كقوله: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ(7/430)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
بِرَحْمَةٍ مِنْهُ
[التوبة: 21] ، وجعلها بين يديه تتمة لها. لأن البشير يتقدم المبشّر به. ويجوز أن تكون تمثيلية. و (بشرا) من تتمة الاستعارة، داخل في جملتها. ومن قرأ (نشرا) كان تجريدا لها. لأن النشر يناسب السحاب وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي مطهرا، لقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] . وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء.
قال القاضي: وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه، وتتميم للمنة فيما بعده.
فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم بذلك أولى لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي بإنبات النبات وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً قال الكرخيّ: خص الأنعام بالذكر، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر. ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض. فإنها سبب لحياتها وتعيشها، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 50 الى 52]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا أي ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي كفران النعمة وجحودها وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي نبيّا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة. لكن لم نشأ ذلك، فلم نفعله. بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] ، إجلالا لك وتعظيما، وتفضيلا لك على سائر الرسل.
وقال المهايميّ: أي لكن لم نشأ. لأنه يقتضي تفرق الأمم وتكثر الاختلافات.
فجعلنا الواحد نذيرا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم. والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر. ولا تطعهم فيما يريدونك عليه. وأراد بهذا النهي، تهييجه وتهييج المؤمنين، وتحريكهم. أي إثارة غيرته وغيرتهم. وإلا فإطاعته لهم غير متصوّرة.(7/431)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
وقال أبو السعود: كأنه نهي له، عليه الصلاة والسلام، عن المداراة معهم، والتلطف معهم. أي لأن في ذلك إضعافا للحق وتغشية عليه. وطول أمد في سريانه.
ولذا قال وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن وما نزل إليك من الحق جِهاداً كَبِيراً أي لا يخالطه فتور، بأن تلزمهم بالحجج والآيات، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات، لتتزلزل عقائدهم، وتسمج في أعينهم عوائدهم. وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين، ودعوتهم إلى الحق بقوة، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة. فإن الحق يتضح بالأدلة. كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 53]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة قامع للظمإ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي بليغ الملوحة وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر وَحِجْراً مَحْجُوراً أي منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة.
لطيفة:
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية، بمعنى يصلها بالآية قبلها، في أسلوب غريب. قال رحمه الله في قوله تعالى وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً: يؤثر في بواطنهم فيكون كَبِيراً يفوق ما يؤثر في الظواهر (و) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها؟ قيل: غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين. وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ هُوَ الَّذِي مَرَجَ أي جاور الْبَحْرَيْنِ اللذين بينهما غاية الخلاف إذ هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق، القاطعة عطش الطلب وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي مبالغ في الملوحة. وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّا لأهل الذوق (و) أما لأهل النظر فقد جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي مانعا من الخلط. وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي(7/432)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
لا جواب عنها، كما أنه جعل بينهما حِجْراً أي منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر مَحْجُوراً أي ممنوعا أن يمنع. وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج، قيل: ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب. وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالا، في قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 54]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً أي كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم فَجَعَلَهُ أي البشر نَسَباً أي أصلا أو فرعا أو حاشية لقوم وَصِهْراً أي لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره، فيعتقد باطلهم حقّا. كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي وهو وإن صعب إزالته، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير، قدير على إزالته. كما قدر في النسب والصهر. فلا يبالي المؤمنون لهما. انتهى كلام المهايميّ رحمه الله.
وهو منزع في باب الإشارة غريب، أثرناه عنه للطافته. وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب، أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان وفلانة بنت فلان. وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن، فظاهر. ونظيره قوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: 39] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 55]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا للشيطان على عصيان ربه. والمراد بالكافر الجنس، فهو إظهار في مقام الإضمار، لنفي كفرهم عليهم، ولرعاية الفواصل الكريمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 56 الى 57]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)(7/433)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة المفهوم من أَرْسَلْناكَ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي يتقرب إليه بالإيمان والطاعة. أي إلى رحمته أو جنابه. فاتخاذ السبيل، مراد به لازم معناه. لأن من سلك طريق شيء، قرب إليه، بل وصل.
قال الزمخشريّ: مثال إِلَّا مَنْ شاءَ والمراد: إلّا فعل من شاء. واستثنائه عن الأجر قول ذي شفقة عليك، قد سعى لك في تحصيل مال: (ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه) فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب. ولكن صوّره هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين:
إحداهما- قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله. كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابا، فإني أطلب الثواب.
والثانية- إظهار الشفقة البالغة، وأنك إن حفظت مالك اعتدّ بحفظك ثوابا ورضي به، كما يرضى المثاب بالثواب.
ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. انتهى.
والاستثناء على هذا متصل ادعاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 58]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي في دفع شرهم ومكرهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي عليما لا يعزب عنه منها شيء، فيجزيهم عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 59]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي من أيامه تعالى، أو أيام الخلق، قولان للسلف ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي علا فوقه علوّا يليق بجلاله المقدس. وتقدم تفسيره الرَّحْمنُ مرفوع على المدح. أي هو الرحمن، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ، كما قرئ بالجرّ. وقيل: الموصول مبتدأ والرحمن خبره.(7/434)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
وقيل: الرحمن بدل من المستكن في اسْتَوى وقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه أوجه: منها (الباء) في (به) صلة (اسأل) ومنها أنها صلة (خبيرا) و (خبيرا) مفعول (اسأل) أي فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته. أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته.
وعليه ففائدة سؤاله هو تصديقه وتأييده.
قال الشهاب: ويصح تنازعهما- أي اسأل وخبيرا- في الباء. وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب. وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية. وقد ذكره السعد في أواخر (شرح المفتاح) وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات. انتهى. ومنها أن الباء للتجريد. كقولك رأيت به أسدا. أي برؤيته. أي اسأل بسؤاله خبيرا والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا.
قال في (الكشف) : وهو أوجه، ليكون كالتتميم لقوله الَّذِي خَلَقَ، إلخ فإنه لإثبات القدرة، مدمجا فيه العلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 60]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي من المسمى به؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه. أو الاستفهام للتعجب والاستغراب، تفننا في الإباء. أي وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها، وتقرع آذننا بالإذعان لها. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ أي الأمر بالسجود، المراد به الإذعان بالإيمان نُفُوراً أي استكبارا عن الإيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 61]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61)
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي نجوما أو هي البروج الاثنا عشر، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وهي الشمس وَقَمَراً مُنِيراً أي مضيئا بالليل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 62]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)(7/435)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي يشكر على النعمة فيهما، من السكون بالليل والتصرف بالنهار. ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 64]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي هينين. أو مشيا هينا. أي بسكينة وتواضع. لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون تبعا لهم أشرا وبطرا. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل قالوا كلاما فيه سلام من الإيذاء والإثم. سواء كان بصيغة السلام كقولهم (سلام عليكم) ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح. كظم للغيظ.
دفعا بالتي هي أحسن وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة، كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17- 18] ، وقوله تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: 16] الآية، وقوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، و (البيتوتة) لغة، الدخول في الليل. يقال: بات يفعل كذا يبيت ويبات، إذا فعله ليلا. وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقا. إلا أن الحقيقة أولى، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا. ولذلك قال السلف: في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله.
وفي قوله لِرَبِّهِمْ إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم. لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله وَقِياماً جمع قائم أو مصدر أجري مجراه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 65 الى 66]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي هلاكا(7/436)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
دائما. والمراد من قولهم ذلك، فزعهم منها، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى، واعتصامهم بالسبب الأقوى. لا مجرد قلقلة اللسان، بلا تأثر من الجنان.
فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى، ويتعوذوا به من سعيرها، إلا لعلمهم بسوء حالها.
ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه. ولذا قال تعالى إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع استقرار وإقامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 67]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي لم يجاوزوا الحدّ في الإنفاق، ولم يضيّقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلا ولؤما. بل كانوا في ذلك متوسطين، وخير الأمور أوسطها.
قال الزمخشريّ: وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير. وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] ،
وروى الإمام أحمد «1» عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من فقه الرجل رفقه في معيشته»
وأخرج أيضا عن ابن مسعود «2» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد»
وروى البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة» .
وعن الحسن: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وسمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف. فقال: لا إسراف في الخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 70]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
__________
(1) أخرجه في المسند 5/ 194.
(2) أخرجه في المسند 1/ 447، والحديث رقم 4269.(7/437)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يشركون بعبادة ربهم أحدا، فالدعاء بمعنى العبادة وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها بمعنى حرّم قتلها. ومنه الوأد وغيره إِلَّا بِالْحَقِّ أي المزيل لحرمتها وعصمتها وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ما ذكر من هذه القبائح العظام يَلْقَ أَثاماً أي يجد في الآخرة جزاء إثمه يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا محتقرا جامعا لعذابي الجسم والروح إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
قال الحافظ ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل. ولا تعارض بين هذه وآية النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: 93] الآية، فإن هذه، وإن كانت مدنية، إلا أنها مطلقة. فتحمل على من لم يتب. لأن هذه مقيدة بالتوبة. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48 و 116] الآية، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل. كما ذكر مقررا من قصة الذي «1» قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث. ثم قال:
وفي معنى قوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قولان: أحدهما- أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية:
هم المؤمنون. كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات.
فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وكذا قال سعيد بن جبير:
أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين.
وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وكذا قال الحسن: أبدلهم بالعمل السيء العمل الصالح. وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وبالفجور إحصانا، وبالفكر إسلاما.
القول الثاني: إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح، حسنات. وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى، ندم واسترجع واستغفر. فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار. انتهى.
ولا بن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين) في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن، لا بأس بإيراده، لعظم فائدته.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 54- باب حدثنا أبو اليمان، حديث رقم 1629، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم 46.(7/438)
قال رحمه الله (بعد شرحه
لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله
) : وهاهنا مسألة، هذا الموضع أخص المواضع ببيانها. وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحا، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب، لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه، من المفسرين وغيرهم، قديما وحديثا. فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة قال ابن عطية: يجعل أعمالهم، بدل معاصيهم الأولى طاعة، فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن. ورد على من قال هو في يوم القيامة. قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم «1» من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين، بدل سيئاته حسنات. وذكره الترمذيّ والطبريّ. وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية.
قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو. انتهى.
وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه.
وقال الثعلبيّ: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك، محاسن الأعمال في الإسلام. فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين، قتل المشركين. وبالزنى، عفة وإحصانا.
وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم، حسنات يوم القيامة وأصل القولين، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟
فمن قال إنه في الدنيا، قال هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها.
وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها، فأما أن تنقلب حسنة فلا.
فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مرضية؟
قالوا: وأيضا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا [آل عمران: 193] ، وقوله وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى: 25] ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 314.(7/439)
53] ، والقرآن مملوء من ذلك
وفي الصحيح «1» من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال:
سمعته يقول (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: ربّ! أعرف قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته) .
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل.
فهذا الحديث المتفق عليه، والذي تضمن العناية بهذا العبد، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة. ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة. فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها.
وقد قال الله في حق الصادقين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 35] ، فهولاء خيار الخلق. وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون. وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها. وأما السيئات، أن تلغى ويبطل أثرها. قالوا: وأيضا، فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب، لكان أحسن حالا من الذي لم يرتكب منها شيئا. وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه. وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئة له؟ قالوا: وأيضا فكما أن العبد، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها. فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، لم ننازعكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابا وجوديا. واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة، بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة. وهذا إنما يكون في
__________
(1) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، حديث رقم 1201.
وأخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم 52.(7/440)
السيئة المحققة. وهي التي قد فعلت ووقعت. فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة. قالوا: ولهذا قال تعالى: سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فأضاف السيئات إليهم، لكونهم باشروها واكتسبوها. ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم، لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا: وأيضا، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم. فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 59] ، وأما ما كان من غير الفاعل، فإنه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] ، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم. وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدل عليه ما
رواه مسلم «1» في صحيحه عن أبي ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آخر أهل جنة دخولا الجنة. وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة»
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة. فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة، بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات.
قالوا: وأيضا فالجزاء من جنس العمل. فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدلها الله من صحف الحفظة، حسنات جزاء وفاقا.
قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر، على صحة قولكم، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات، قد عذب عليها في النار، حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على سيئاته. فزال أثرها بالعقوبة. فبدل مكان كل سيئة منها حسنة. وهذا حكم غير ما نحن فيه. فإن الكلام في التائب من السيئات، لا فيمن مات مصرّا عليها غير تائب. فأين أحدهما من الآخر؟
__________
(1) أخرجه في: كتاب الإيمان، حديث رقم 314.(7/441)
قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة، فحق.
وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة، التي لولا الحسنة لحلت محلها.
قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب. ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها، مقارنا لكسبهم إياها بفضله؟.
قالوا: وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم. فإن الله خالق أفعال العباد. فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا، وهم المبدلون لها فعلا وكسبا.
قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال. فهذا حق، وبه نقول، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف، بحسنات جعلت موضعها. فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما. فقد أدلى كل منهما بحجته، وأقام بينته. والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما. فأرشد الله من أعان على هدى، فنال به درجة الداعين إلى الله، القائمين ببيان حججه ودينه. أو عذر طالبا منفردا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق. فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره، وألا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه، فقد رضي بالدون. وحصل على صفقة المغبون.
ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع، فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأوائها وشدتها، فهو والله الفوز المبين، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فالصواب، إن شاء الله في هذه المسألة، أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة. والحسنة إنما هي أمر وجوديّ يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهيّ. وذلك الكف والحبس أمر وجوديّ وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا، ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب، لكان(7/442)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ وهذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا، فالتائب من الذنوب التي عملها، قد قارن كل ذنب منها، ندما عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب. وقد محت التوبة أثر الذنب، وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة، قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلت مكانها. فهذا معنى التبديل. لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة. وعلى هذا، فقد زال بحمد الله الإشكال. واتضح الصواب. وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.
وأما حديث أبي ذر، وإن كان التبديل فيه في حق المصرّ الذي عذب على سيئاته، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته. فإن الذنوب التي عذب عليها المصرّ، لما أزال أثرها بالعقوبة، بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها، مع العقوبة، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة. فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة، حسنات، فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات، أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة. لأن التوبة فعل اختياريّ أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه، وأما العقوبة، فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره، بل يفعل الله. ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره.
انتهى كلامه رحمه الله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 71]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيّا عنده، مكفرا(7/443)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
للخطايا، محصلا للثواب. قرره الزمخشريّ.
والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولا وفعلا، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح. فليتفطن لمعنى هذه الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان، أو تخشع بأركان، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 73]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يحضرون الباطل. يقال (شهد كذا) أي حضره. ف (الزور) مفعول به بتقدير مضاف أي محالّه. و (يشهدون) من الشهادة.
فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور. وقد أشار الزمخشريّ للوجهين بقوله: يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطّائين، فلا يحضرونها ولا يقربونها، تنزها عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه. لأن مشاهدة الباطل شركة فيه. ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب وجوده، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه. ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور. انتهى وهي الكذب متعمدا على غيره.
قال المبرد في (الكامل) : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور؟ فقال: لا، إنما آية شهادة الزور وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي اتفق مرورهم بأهل اللغو، وهو كل ما ينبغي ويطرح، مرّوا معرضين عنهم، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55] ، ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن (كراما) جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي(7/444)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
وعظوا بها وخوفوا لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي بل أكبّوا عليها سامعين بآذان واعية، مجتلين لها بعيون راعية. وإنما عبر بنفي الضد، تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة، المستعار لها (الخرور) على تلك الحالة استعارة بديعة. لما فيها من إسقاطهم عن الإنسانية إلى البهيمية، بل إلى أدنى منها، لأنها تسمع وتبصر، وقد نفيا عنهم.
وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم، آيات عديدة. ولذا قال قتادة فيهم: هم قوم عقلوا عن الله، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصريّ: فقد قال:
كم من رجل يقرؤها، ويخر عليها أصم أعمى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : آية 74]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي أولادا وحفدة، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل. و (قرة العين) إما من القر وهو البرد. لأن دمعة السرور باردة، ولذا قيل في ضده (أسخن الله عينه) أو من القرار لعدم النظر لغيره، وجوز في (من) أن تكون بيانية وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات. وقوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي أئمة. اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس، مع رعاية الفواصل. أي يقتدى بنا في الخير. أو هداة دعاة إلى الخير. فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا. قال في (الإكليل) : في الآية طلب الإمامة في الخير. وفي (العجائب) للكرمانيّ: قال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب. انتهى.
وكذا قال الزمخشريّ، عن بعضهم: إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين، يجب أن تطلب ويرغب فيها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(7/445)
أُوْلئِكَ إشارة إلى المتصفين بما ذكر. خبر ل (عباد الرحمن) أو مبتدأ خبره يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا أي على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات، والدأب على الخيرات، واجتناب المحظورات. و (الغرفة) الدرجة العالية من المنازل في الجنة وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي تحييهم الملائكة وتسلم عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا ويسلم عليه. والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً لسلامة أهلها عن الآفات، وخلودهم أبد الآباد.
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده. فالدعاء بمعنى العبادة، كما مرّ.
ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم، أو يتصور، وقد وجد منهم ما ينافيه، بقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي بما جاءكم من الحق. أي وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصرّ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (اللزام) مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة. أي فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم، أو الأمر الجليل، أمر الرسالة، لازما وثابتا. يفتح من الحق رتاجا. وتدخل الناس في دين الله أفواجا. ولقد صدق الله وعده. ونصر عبده وأعز جنده. هزم الأحزاب وحده. نسأله تعالى خير ما عنده.(7/446)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشعراء
وهي مكية، إلا قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء:
224- 227] ، إلى آخرها. وقوله: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 197] ، فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة، وكان شعراؤه صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة، رضي الله عنهم.
وقال الداني: روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.
وقال المهايميّ: سميت هذه السورة بها، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن، انتهى.
يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه. عما افتروا عليه من أنه شاعر فالسورة على هذا كلها مكية، ردّا لفريتهم.
ولما كان لفظ (الشعراء) عامّا، جاز حمله على ما حكوه لشموله له، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح ذلك وهي مائتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير: وقع في تفسير مالك المرويّ عنه، تسميتها (الجامعة) .(7/447)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1)
طسم سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف، وهو أظهر من رفعه على الابتداء، أو النصب بتقدير: اقرأ ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 2]
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الإشارة إلى السورة، وما فيها من معنى البعد للتفخيم، ومحله الرفع على الابتداء، خبره ما بعده أو بدل مما قبله. والمراد ب (الكتاب) القرآن. وب (المبين) الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه. ومن (أبان) بمعنى بان- أو المبين للحق من الباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 3]
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
لَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لعدم إيمانهم.
و (لعل) للإشفاق. أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 4]
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي ملجئة لهم إلى الإيمان، قاسرة عليه فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي منقادين، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة(7/448)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
الله تعالى حتما، فلا وجه للطمع فيه، والتألم من فواته. قاله أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 5]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي مكذبين، استهزاء وإصرارا على ما كانوا عليه من الكفر. وتقديم نظير الآية في أول سورة الأنبياء، وتحقيق معنى قوله تعالى (محدث) فتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 6]
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة، وظهور أعلامه، وبقاء أيامه، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم، ونزول الصّغار وقتئذ بدارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 7]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي صنف مرضيّ كثير المنافع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 8]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر، وعدم تدبرهم في هذه الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 9]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حلّ بفرعون وقومه، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه، بقوله تعالى:(7/449)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 13]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، أَلا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي في أداء الرسالة، في بسطة من المقال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي ليوازرني ويشدّ به عضدي. والمفعول محذوف، أي ملكا أو جبريل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 14 الى 15]
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ وهو قتل القبطيّ، المبسوط في غير هذه السورة فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا أي لا تخف إنك من الآمنين فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ مزيد تسلية لهما، بكمال الحفظ والنصرة.
قال أبو السعود: مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم، مبالغة في الوعيد بالإعانة.
انتهى.
ولو قيل هو كناية عن ذلك، كان أولى. لجواز بقاء المعنى الحقيقيّ معها، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 16 الى 17]
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17)
ْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 19]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ(7/450)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
يعني قتل القبطي. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي بنعمتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 20]
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل.
أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 21]
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أي تقتلوني على القتل الخطأ، فنجاني الله منكم، وزادني إنعاما فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي حكمة أو نبوة وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي لإبطال دعواك الربوبية، واستئصال شبه ما عليه قومك من الوثنية. وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 22]
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ إبطال لمنته عليه في التربية، ببيان أنها في الحقيقة نقمة. لأنه كان اتخذ بني إسرائيل عبيدا مسخرين في شؤونه، مذللين لأموره، مقهورين لعسفه. وموسى عليه السلام، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم، إلا أنه لما كان منهم، فكأنه وصل إليه، وحلّ به، كما قيل (وظلم الجار إذلال المجير) أي لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم، وما أنا إلا عضو منهم. وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية، والقسوة البالغة، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب، والمخرج العجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 25]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25)
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أي لهذا النبأ العجيب، وهو توحيد المعبود.(7/451)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
وإنما عدّه جديرا بأن يتعجبوا منه، لأنهم، على ما حققه المؤرخون، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلوّا أربوا على كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس والقمر، والنجوم، والأشخاص البشرية، والحيوانات، حتى الهوامّ، وأدنى حشرات الأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 26 الى 28]
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي شيئا ما، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون.
تنبيه:
ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة، لا يقر بخالق، ولا يعترف بمعبود لظاهر قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ، وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.
قال ابن كثير: ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط.
فإنه لم يكن مقرّا بالصانع، حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.
وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.
وعليه فمعنى قوله (ما علمت لكم من إله غيري) أي مطاع عظيم، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية، من طلب الاكتناه، وتعجبه من جوابه، ثم رميه بالجنون، ثانيا، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها، والصدع بما يؤلم عظمته، ويغمز جبروته وهذا هو الذي أذهب إليه، فإن القوم(7/452)
بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.
قال الرازيّ: السؤال ب (ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة، أو بشيء من أجزائها، أو بأمر خارج عنها، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها، فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا لأن كل مركب، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه.
وكل واحد من أجزائه فهو غيره فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود، إلا بلوازمه وآثاره.
ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود، وهو هذا العالم المحسوس، وهو السموات والأرض وما بينهما.
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما. فأما قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال، إلا هذا الجواب.
ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق، قال فرعون لمن حوله أَلا تَسْتَمِعُونَ وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية، وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.(7/453)
وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ، فهذا المذكور، إما أن يكون معرّفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه، وهو محال.
والثاني محال، لأن العلم بأنه أمر ما، يلزمه اللازم الفلانيّ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربّا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فأجاب موسى عليه السلام بأن قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين، واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم، ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول، إليه. فقال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.
فقال موسى عليه السلام رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب، لا يتم إلا بتدبير مدبر، وأما قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فكأنه عليه السلام قال: إن كنت من العقلاء، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك، إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته، وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
ثم قال الرازيّ: وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ(7/454)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
فَوْقَ عِبادِهِ
[الأنعام: 18] ، أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي، هي غير معقولة للبشر، انتهى.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنّحل) في الكلام في المائية: ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار: لا يعلمها غيره. قال ابن حزم: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق، أن له مائية هي إنيّته نفسها، وإنه لا جواب لمن سأل: ما هو البارئ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام إذ سأله فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تامّا لا نقص فيه، لما حمده الله تعالى.
ثم قال: هاهنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا هاهنا أيضا شيء غير هذا، إلا ما علمنا ربنا تعالى، من سائر أسمائه، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه.
قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عزّ وجلّ، وواجب في غيره، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينا أننا نعلم الله عزّ وجلّ حقّا، ولا نحيط به علما. انتهى ملخصا.
ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 39]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)(7/455)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ قرئ بهمز وبدونه، وهما لغتان. يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته. والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي شرطا يحشرون السحرة، أي يجمعونهم عندك يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي لرؤية ما يعارض معجزة موسى. وكان خامر فؤادهم عجب منها واندهاش. والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 40 الى 46]
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي تبتلع ما موّهوا به إفكا وزورا فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي على وجوههم منقادين له بالإيمان، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر. وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية، فإن هؤلاء السحرة. لتبحرهم في علم السحر، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام، وأنه معجزة. فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان، لفرقهم بين المعجزة والسحر. قاله القاضي شهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 47 الى 51]
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)(7/456)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي فعلمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم. أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حقّ.
فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي جانبين متخالفين.
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه، شهادة على حقيّته، إلى ثوابه ورحمته راجعون، فننقلب خير منقلب، شهداء سعداء إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من أظهر الإيمان كفاحا، مجاهرة بالحق بلا تقية. ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه. وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه، فأتاه الإذن الإلهيّ به، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 52]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي سر بهم ليلا، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 53]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ أي حين أخبر بسراهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين لعسكره، قائلين ما يقلل به الأعداء في أعين الجنود:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 54 الى 58]
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58)(7/457)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل الخارجين لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني: المنازل الحسنة والمجالس البهية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 59]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
كَذلِكَ إشارة إلى مصدر، أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر، أو هو خبر لمحذوف، أي الأمر كذلك.
قال الشهاب: وإذا قدر (الأمر كذلك) فالمراد تقريره وتحقيقه، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ. قال الشهاب: هو استعارة أي ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان. وكأن العاقبة، لما كانت لهم، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 60]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي لحقوهم وقت شروق الشمس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 61 الى 63]
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقاربا رأى كل واحد منهما الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون قالَ كَلَّا أي لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي لطريق النجاة منهم. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أي فضربه فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير.(7/458)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 64 الى 68]
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
وَأَزْلَفْنا أي قرّبنا ثَمَّ أي حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ يعني قوم فرعون، أي قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي بإطباقه عليهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لعبرة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به. منهم من بقي على كفره كبقية القبط. ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل. وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه. ووعد له ووعيد لمن عصاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 74]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على مشركي العرب نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي ما الذي تدعونه وتلجئون إليه. وكان عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم، أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي مثل عبادتنا يعبدون، فقلدناهم.
قال أبو السعود: اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرّة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 75 الى 81]
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)(7/459)
قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي أفأبصرتم، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه أنتم وسلفكم. فإنهم بغضائي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه وليّ في الدنيا والآخرة، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لما خلق له. والموصول صفة ل (رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا- غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله أبو السعود.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسيّ كثيرا.
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79] ، وقال: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف: 82] ، وكقول الجن في آية: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] ، ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان، وقد أضافه تعالى إلى نفسه، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف) : بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عامّ لا يخص، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا. فاقتضى العلوّ في الأدب مع الله تعالى، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض، أخبر عن وقوعه بتّا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض، فلما كان قد يتفق وقد لا، أورده مقرونا(7/460)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
بشرط إذا فقال: وَإِذا مَرِضْتُ وكان ممكنا أن يقول والذي يمرضني فيشفيني، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة، إلا لذلك. انتهى.
قال أبو السعود: وأما الإماتة، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء، بدءا وإعادة، وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله تعالى: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ على أن الموت، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 82]
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي الجزاء. وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدّها بالنسبة لمقامه الكريم.
قال أبو السعود: ذكره عليه الصلاة والسلام هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافيا لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر، وتنبيها لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها، فإن حاله عليه السلام، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته، في الغاية القاصية، حيث كانت بتلك المثابة. فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر، وفنون المعاصي والخطايا؟.
وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع أنها إنما تغفر في الدنيا، لأن أثرها يومئذ يتبيّن، ولأن في ذلك تهويلا له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم تغفر، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه، حمله ذلك على مناجاته، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 84]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي حكمة، أو حكما بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبيّ ذو حكم وحكمة. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي وفقني لأنتظم في سلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق.(7/461)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى:
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:
108- 110] .
قال القتيبيّ: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكني العرب به عن الكلمة. وعليها حمل قول الأعشى:
إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو، لا عجب منها ولا سخر
وجوّز أن يكون المعنى: واجعل لي صادقا من ذريتي، يجدّد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد. وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولذا
قال صلى الله عليه وسلم «1» : «أنا دعوة أبي إبراهيم»
، فالكلام بتقدير مضاف. أي صاحب لسان صدق. أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 85 الى 86]
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي أي بهدايته وتوفيقه للإيمان. كما يلوح به تعليله بقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ أي طريق الحق.
قال الحافظ ابن كثير. قوله وَاغْفِرْ لِأَبِي إلخ.. كقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم: 41] ، وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] ، إلى قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة: 5] ، إلى قوله: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 87 الى 89]
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تلحق بي ذلّا وهوانا يومئذ
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 127، عن العرباض بن سارية، بهذا النص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عبد الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك. دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين»
.(7/462)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. ولا بنوه، وإن كانوا غاية في القوة. فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون في الدنيا، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سليم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة.
قال الزمخشريّ:
وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم. ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا أن يكون حجة. ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عزّ وعلا، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه، إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته. ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين. ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها. والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 94]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي الضالّين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره.
وَقِيلَ لَهُمْ توبيخا على شركهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي يدفعون العذاب عنكم، أو يدفعونه عن أنفسهم، لأنهم وآلهتهم وقود النار. وهو قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أي الآلهة وَالْغاوُونَ أي وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم.
قال الزمخشريّ: والكبكبة تكرير الكب- وهو الإلقاء على الوجه- جعل(7/463)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 95 الى 98]
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أي متبعوه من العصاة أَجْمَعُونَ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي في العبادة، مع أنكم أعجز مخلوقاته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 99]
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي رؤساؤهم، كما في آية رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 100 الى 101]
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء. لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله. وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. فما أغنوا عنهم شيئا. كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قال [الزخرف: 67] ، الزمخشريّ: و (الحميم) من الاحتمام وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من (الحامة) بمعنى الخاصة.
وهو الصديق الخاص. وفيه معنى الحدة والسخونة. كأنه يحتدّ ويحمى، لحماية خليله ورعايته، والقيام بمهماته. وهذا هو الذي قيل (إنه أعز من بيض الأنوق) وإنه اسم بلا مسمى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 102 الى 104]
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي(7/464)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
ذلِكَ
أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم لَآيَةً أي لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وتقدم ما قاله الزمخشريّ في بديع سياقها وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر قوم إبراهيم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أي بإنزال الكتب وإرسال الرسل، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 111]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل، لاتفاقهم في أصول الشرائع. وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده. أو لأن المراد بالجمع الواحد إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا. فإن الشرف لديهم بالمال والنشب. والحسب والنسب، لا بالأخلاق الفاضلة. والملكات الكاملة. التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه. ثم اعتناقه والمحافظة عليه.
وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين. إذا قام عليهم ناصح أمين. إذ لا مال يطغيهم. ولا جاه يلهيهم. وذلك من العناية الربانية فيهم.
قال الزمخشريّ: وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم. وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال (ضعفاء الناس) قال (ما زالت أتباع الأنبياء كذلك) وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 112]
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112)
قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة. أي وما عليّ إلا الظاهر والله يتولى السرائر.(7/465)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 113 الى 118]
إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي ما حسابهم على أعمالهم، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي المشتومين أو المرميين بالحجارة قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا.
قال الزمخشريّ: الفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم. لأنه يفتح المستغلق.
كما سمي فيصلا لأنه يفصل بين الخصومات. وفي (التهذيب) : الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك. قال الأشعر الجعفيّ:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ... فإنّي عن فتاحتكم غنيّ
وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 119 الى 128]
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عادٌ وهم قوم هود عليه السلام الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي مكان مرتفع، بكسر الراء وفتحها آيَةً أي علامة(7/466)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
تَعْبَثُونَ أي ببنائها لا للحاجة إليها. بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة. ولهذا أنكر عليهم ذلك. لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة. واشتغال بما هم في غنى عنه. وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل، وصرف للأموال في غير ما خلقت له، من النظر للنفس والأهل والدين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 129]
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ أي منازل وقصورا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدّين البصيرين بالعواقب، الصالحين المصلحين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 130]
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي تأخذون بالعنف والشدة، كبرا وعتوّا. يقال (بطش به) أي أخذه بالعنف والسطوة، وتناوله بشدة عند الصولة، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 131 الى 134]
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
فَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما آمركم به من التوبة والإيمان وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 135]
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي إن لم تقوموا بواجب شكرها عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي في الدنيا والآخرة.(7/467)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 136]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136)
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي: فإنا لن نرعوي عما نحن عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 137]
إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
إِنْ هذا أي ما هذا الذي نحن عليه إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي عادتهم. كانوا يدينون به ويعتقدونه. فنحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين.
كانوا يلقفون مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 138 الى 146]
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي على ما نحن عليه من الأعمال فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي بريح صرصر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي من الموت والزوال والعذاب.
قال الزمخشريّ: يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه. وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدعة. وقوله تعالى فِي ما هاهُنا أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم. ثم فسره بقوله:(7/468)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 147 الى 153]
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ أي لطيف لين وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي بطرين. وقرئ (فرهين) وهو أبلغ. وقيل: فاره من (فره) بالضم، بمعنى حذق. وفره صفة من (فره) كفرح، بمعنى أشر وبطر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي الذين سحروا حتى غلب على عقولهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 154 الى 166]
ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166)
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي نصيب من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لعظم ما تسيئون.
قال الزمخشريّ: عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب. لأن الوقت إذا عظم بسببه، كان موقعه من العظم أشد فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي الموعود، وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(7/469)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي مجاوزون حدّ الحكمة في ترك محل الحرث، الحافظ للنسل، الذي به حفظ النوع البشريّ، وإيثار ما لم يخلق لذلك، شرها في الشهوة الحيوانية، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية.
ونقل السيوطيّ في (الإكليل) عن محمد بن كعب القرظيّ، أن معنى الآية:
تذرون مثله من المباح. فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها. انتهى.
وخالفه غيره. فاستدل بها على حظره. وبيانه كما في (الكشاف) و (حواشيه) أنّ (من) إمّا تبيين لما خلق، أو للتبعيض. ويراد به العضو المباح منهن، تعريضا بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم. ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى. وتقريره في (الانتصاف) أن (من) لو كانت بيانا لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج. ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران.
وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر. ولو كان الأمر كذلك، لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع. وكان إما الأفصح أو المتعين. وقد اجتمعت العامة- عامة القراء- على القراءة به مرفوعا ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة، أو في الجواز أصلا. فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد. فتعين حمل (من) على البعضية. فيكون المنكر عليهم أمرين. كل واحد منهما مستقل بالإنكار: أحدهما إتيان الذكران. والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى، رغبة في إتيانهن في غيره.
وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير. انتهى.
ومثله من دقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبوابا، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم، أعمّ مما ذكره ومن غيره. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 167]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي عن تقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من قريتنا عنفا، إذ لا تجانسنا.(7/470)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 168 الى 169]
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي المبغضين غاية البغض. أي فأنا أرغب في الخروج عن دياركم، والراحة من مجاورتكم، لبغضي لعملكم، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار. ولذا أتبعه بقوله رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من شؤمه وغائلته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 170 الى 172]
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته. كما بينت في آيات فِي الْغابِرِينَ أي مقدّرا كونها من الباقين في العذاب. لأنها كانت راضية بعمل قومها.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : كثيرا ما ورد في القرآن، خصوصا في هذه السورة، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة. ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع. كقول فرعون لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] ، وقولهم: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ [الشعراء: 136] ، وقولهم: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] ، وقوله: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [الشعراء: 168] ، وقوله تعالى في غيرها: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [التوبة: 87] ، وكذلك ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة: 86] ، وأمثاله كثيرة والسر في ذلك، والله أعلم، أن التعبير بالفعل، إنما يفهم وقوعه خاصة.
وأما التعبير بالصفة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فإنه يفهم أمرا زائدا على وقوعه. وهو أن الصفة المذكورة، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به. كأنها لقب. وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة.
واعتبر ذلك لو قلت (رضوا بأن يتخلفوا) لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير. وانظر إلى المساق وهو قوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت لقبا لا حقا به. وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك.
فتأمله واقدره قدره ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه.(7/471)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 173 الى 176]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي عظيما غير معهود، هلكوا به فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ وهم أهل مدين. ووهم من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام: فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون (مدين) أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد.
قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء.
ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء.
فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
تنبيه:
قال أبو عمرو: وكتب في جميع المصاحف (ليكة) في الشعراء و (ص) ، بلام من غير ألف قبلها. وفي الحجر وق (الأيكة) ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة، من غير همز قبلها ولا بعدها. ونصب التاء غير منصرف. والباقون (الأيكة) بإسكان اللام وهمز وصل قبله، وهمزة قطع مفتوحة بعده، وجر التاء. وحمزة وصلا ووقفا على أصله. وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسيّ وغيره، بأنه لا وجه للفتح. لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح. أي فإن العرب تقول في الأحمر (الحمر ولحمر) وإثبات الألف واللام في (الأيكة) في سائر القرآن يدل- كما قال الزجاج- على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل، بمنزلة قولهم (لحمر) وقرئ (ليكة) بالجر على الإضافة في غير السبع. لكن قال الزمخشريّ: هو الوجه. ومن قرأ بالنصب، وزعم أن ليكة، بوزن ليلة، اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه. وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ. كما يكتب أصحاب النحو- لأن ولولي- على هذه الصورة، لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل. والقصة واحدة. على أن (ليكة) اسم لا يعرف. انتهى.(7/472)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 177 الى 181]
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي حقوق الناس بإعطائهم ناقصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 182 الى 183]
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السويّ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم. قال الزمخشريّ: وهو عام في كل حق ثبت لأحد، أن لا يهضم. وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه، ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه، إلا بإذنه تصرفا شرعيّا. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 184 الى 186]
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186)
وَاتَّقُوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي: وذوي الجبلة الأولين، وهم من تقدمهم من الخلائق قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما تدّعيه من النبوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 187 الى 188]
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قطعا منها. قرئ (كسفا) بسكون السين(7/473)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
وتحريكها. وكلاهما جمع (كسفة) إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي من الكفر والمعاصي، وبما تستوجبون عليها من العذاب، بإسقاط كسف أو غيره مما يشاؤه إذا جاء أجلكم، فإليه الحكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 189]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
فَكَذَّبُوهُ أي فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي لحلول العقاب فيهم، من جنس ما سألوه من إسقاط السماء قطعا عليهم. فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم، وأظلمت الجوّ فوقهم، وغشيهم العذاب وأحاط بهم. و (الظلة) بالضم لغة، الغاشية، وما أطبق وستر من فوق.
قال الحافظ ابن كثير: ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن. كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق. ففي (الأعراف) ذكر أنهم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: 91] ، وذلك لأنهم قالوا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88] ، فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وفي سورة هود قال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] ، ذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] ، قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء. فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية، على وجه التعنت والعناد. فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 190 الى 191]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي على أخذه العصاة بمقتضى أعمالهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي الغالب على تعذيب من شاء بما شاء، الرحيم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يكون للناس على الله حجة.(7/474)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة، في أول كل قصة وآخرها، ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها؟
وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان. ولأن هذه القصص طرقت بها أذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 195]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وَإِنَّهُ أي ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية، أو القرآن المتضمن لها لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزل منه حقا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ أي جبريل عليه السلام عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي منتظما في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة، والمنقبة الفاضلة. وهي الرسالة الإلهية بالإنذار، إزالة للأعذار بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي واضح المعنى جليّ المفهوم، ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة. والجار متعلق ب (نزل) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 196 الى 197]
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي في كتبهم. مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها. فكفى بذلك شهيدا على صدقه أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي علامة على تنزيله الحق أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها، كما قال تعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 53] .(7/475)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 198 الى 209]
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم قراءة فصيحة، انفتق لسانه بها، خرقا للعادة، لكفروا به كما كفروا. ولتمحّلوا لجحودهم عذرا.
ولسموه سحرا، لفرط عنادهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مكّنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به، في قلوبهم وأنفسهم. وقررناه فيها لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي وهو ما هو، عياذا به منه أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي من طوال الأعمار وطيب المعايش وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى أي رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 213]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ردّ لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي الاستماع عن الملائكة لَمَعْزُولُونَ لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق عليهم، لخباثة نفوسهم بالذات، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية(7/476)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ في الدارين، عذاب تعديد الوجهة، واضطراب الفكر، وضعف الشبهة، وتوهين العقل في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 214 الى 219]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي الأدنين. وإنه لا يخلص أحدا منه إلا إيمانه بربه عزّ وجلّ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام «1» لما نزلت عليه: «يا فاطمة ابنة محمد! يا صفية ابنة عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئا. أنقذوا أنفسكم من النار» .
وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير. فراجعه. وقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليّن جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
أي من النوم إلى التهجد وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي المصلين. أي تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلا وجمعا وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 220 الى 222]
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي لما تقوله وبما تنويه هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 26- سورة الشعراء، باب عشيرتك الأقربين، حديث رقم 1320، عن أبي هريرة.(7/477)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
أي (تتنزل) وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله.
وحيث كان المقام النبويّ منزها عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.
قال القاشانيّ: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ تقرير لقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : الآيات 223 الى 226]
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)
يُلْقُونَ أي الأفّاكون السَّمْعَ أي إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقى الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مرّ من بيان أحوالهم المضادّة لأحواله عليه الصلاة والسلام.
والمعنى أن الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم (أي يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم) الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استشهاد على أن الشعراء إنما(7/478)
يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حدّ معيّن، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلوّ في الثناء والهجاء.
لطيفة:
في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها- لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزّهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الإنسية، مستقرّا على المنهاج القويم، مستمرّا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكّت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدّا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون- على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد «1» في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عديّ بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات، 4/ 140، في ترجمة عدي بن نضلة.(7/479)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
ألا هل أتى الحسناء أنّ خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنّتني دهاقين قرية ... ورقّاصة تحثو على كلّ مبسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم
لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدّم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني ذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدّم
وأيم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك) .
فلما قدم على عمر. بكّته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.
فلم يذكر أنه حدّه على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمّه عمر ولامه على ذلك وعزله به.
وحكى الزمخشريّ عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفضّ أغلاق الختام
فقال: وقد وجب عليك الحدّ. فقال: يا أمير المؤمنين! قد درأ الله عني الحدّ بقوله وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.
ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الشعراء (26) : آية 227]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي في شعرهم، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة وَانْتَصَرُوا أي بشعرهم على عدوّهم بأن هجوه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي فكان هجاؤهم على(7/480)
سبيل الانتصار ممن يهجوهم، جزاء وفاقا. قال الله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء: 148] ، وقال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] ، قال ابن كثير:
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان «1» : «اهجهم، أو قال هاجهم، وجبريل معك»
ويروي الإمام أحمد «2» عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» .
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآية، ذم الشعر، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم، انتصارا. انتهى.
وحكى الزمخشريّ عن عمرو بن عبيد، أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر. فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.
الثاني-
ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون.
قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: أنتم
. قال ابن كثير: لكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع، وعمل صالحا، وذكر الله كثيرا، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيّئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال: عبد الله بن الزبعرى، لما أسلم:
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، 6- باب ذكر الملائكة، حديث رقم 1517، عن البراء.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم 153.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 456.(7/481)
يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت، إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيّ ... ومن مال ميله مثبور
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، كان من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمّه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقوله تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد، لما في (سيعلم) من تهويل متعلقه. وفي (الذين ظلموا) من إطلاقه وتعميمه. وفي (أي منقلب ينقلبون) من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.(7/482)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النمل
قال المهايميّ: سميت بها، لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدا، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.(7/483)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ الإشارة إلى نفس السورة. والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل. أي تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلوّ الشأن.
وآيات كتاب عظيم المقدار، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار. هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي هو هدى من الضلالة، وبشرى برحمة الله ورضوانه، لمن آمن وعمل صالحا من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأيقن بالآخرة، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
لطيفة:
تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في (الكشاف) .
ولصاحب (الانتصاف) وجه آخر قال: لما كان أصل الكلام (وهم يوقنون بالآخرة) ثم قدم المجرور على عامله، عناية به، فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطرّى ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدما: ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها، بعد ما يوجب التطرية. فأقرب منها أن الشاعر قال:
سل ذو وعجّل ذا وألحقنا بذا ... الشّحم، إنّا قد مللناه بخلّ
والأصل (وألحقنا بذا الشحم) فوقع منتصف الرجز أو منتهاه (على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل) عند اللام. وبنى الشاعر على أنه لا بد، عند المنتصف أو المنتهى، من وقيفة ما. فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرّف وآلة التعريف. فطرّاها ثانية. فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرّر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير.(7/484)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
ثم قال: فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل. والله أعلم.
ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي مددنا لهم في غيّهم، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذّبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] ، أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي أشد الناس خسرانا للنجاة وثواب الله. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليّها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] ، والجملة مستأنفة، سقيت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذلّ معانديه، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي حين قفل من مدين إلى مصر، وأضلّ الطريق إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي رأيتها سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة مقتبسة لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تتدفئون به فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أبيّ (تباركت الأرض ومن حولها) وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر دينيّ فيها، وهو تكليم الله موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها(7/485)
ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف) .
وقال السمين: (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد ب (من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي من قدرته وسلطانه في النار. وقيل: المراد به موسى والملائكة.
وكذلك قوله: وَمَنْ حَوْلَها وقيل المراد ب (من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.
ولذا قال الزمخشريّ: والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما من أرض الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 71] ، وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا.
ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد قضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.
وقال القرطبيّ: هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] .
وعن ابن عباس: لم تكن تلك النار نارا، وإنما كانت نورا يتوهج.
وعنه: هي نور رب العالمين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)
ثم قرأ أبو عبيدة: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها.
قال ابن كثير: وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم «1» من حديث عمرو بن مرّة وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من
__________
(1) أخرجه في: الإيمان، حديث رقم 295.(7/486)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العليّ العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسموات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير.
وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 9 الى 12]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سرّ بديع.
وهو الإشارة الجملية إلى روح إرساله عليه السلام. أي: أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد، الحكيم في البعثة والإرسال، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلا واضحا على أنه القادر على كل شيء، بقوله وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابا وَلَّى أي من الخوف مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع على عقبه من شدة خوفه يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم.
وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام، من وكزه القبطيّ والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشريّ حيث قال: يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما كما قال موسى رَبِّ(7/487)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا، آتاه إياها، بقوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي آفة كبرص فِي تِسْعِ آياتٍ أي غيرها تؤتاها، إذا جحد فرعون رسالتك. وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دما. وإصعاد الضفادع على أرض مصر. وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملا.
وإرسال الجراد عليهم. والوباء الشديد. وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور.
وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد. وتغشيتهم بظلام كثيف، على ما روي، وفي تِسْعِ أوجه: أحدها أنها حال ثالثة. أي تخرج آية في تسع آيات. والثاني أنها متعلقة بمحذوف، أي اذهب في تسع. والثالث أن يتعلق بقوله: وَأَلْقِ عَصاكَ وَأَدْخِلْ يَدَكَ أي في جملة تسع آيات. و (في) بمعنى (مع) إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا بها إلى فرعون وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن الحدود، في الكفر والعدوان. وهذا تعليل للإرسال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 13 الى 16]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أي ظاهرة بينة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها أي كذبوا بها بألسنتهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي عرفت أنفسهم أنها آيات يقينا، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين ظُلْماً أي للآيات، بتسميتها سحرا كقوله: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 9] ، ولقد (ظلموا بها) وَعُلُوًّا أي تكبرا عن الانقياد لموسى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي من إهلاكهم بالإغراق، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي بالقضاء بين الناس، وحكمة باهرة وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي العلم والحكمة والنبوة أو الملك وَقالَ أي تحدثا بنعمة الله وتنويها بمنته يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي فهم صوته وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي البين الظاهر. وهو قول وارد على(7/488)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
سبيل الشكر والمحمدة. كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 17 الى 25]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له عساكره مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ أي رأتهم متوجهين إلى واديها يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بمكانكم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أي تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها. وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة، فيما بين أصناف المخلوقات، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه الأمور، وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها. قاله أبو السعود وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ
__________
(1) أخرجه أبو داود في: السنة، 13- باب في التخيير بين الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حديث رقم 4673.(7/489)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
أي ألهمني شكرها وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة تبين عذره فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي فلبث في الغيبة أمدا غير طويل فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ وهي مدينة بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي سرير تجلس عليه، هائل مزخرف بأنواع الجواهر وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا أي هلّا يسجدوا. كما قرئ بذلك. وجوّز بعضهم أن يكون معمولا لما قبله. أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع (أن) أو أن تكون (لا) مزيدة، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة. والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى، أو محكية عن قول الهدهد. واستظهر الزمخشريّ الثاني. قال: لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض. وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض، جلت قدرته ولطف علمه. ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النّظّار بنور الله، مخايل كل مختص بصناعة أو فن من العلم، في روائه ومنطقه وشمائله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : آية 26]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء. فما أصغر عرشها في جنب عظمته! وما أضعف معبودها- الشمس- في جانب قدرته!.
تنبيه:
هذه السجدة من عزائم السجدات. قال الزمخشريّ: لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها. وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك.(7/490)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 32]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
قالَ أي سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي حسن مضمونه وما فيه إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي لا تتكبروا عليّ، وأتوني منقادين لأمري قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي لا أبتّ أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبدّ بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 33 الى 35]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي في العدد والعدد وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي نجدة وبلاء في الحرب وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك. فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك قالَتْ أي مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوّها، بأن القتال إنما يؤثر إذا لم يغلب على الظن دخول العدوّ في قرية العدوّ. وألا تعيّن الانقياد. وذلك معنى قولها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي عنوة وقهرا أَفْسَدُوها أي أخربوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تأكيد لما وصفت من حالهم، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة. وقيل تصديق لها منه تعالى وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلا بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد. من غير اختلال لشرفنا. ثم انتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه، حتى أعمل على حسب ذلك.(7/491)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 40]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أي المرسلون منها قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ أي من الملك والحكمة والنبوة خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلا عن الهدية بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي إذا أهدي إليكم مثلها، أو أهديتم مثلها، تفرحون استكثارا أو افتخارا ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ أي مهانون قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة، أم أكفر بالمعصية والمخالفة. وقوله تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ كقوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] و [الجاثية: 15] ، وكقوله وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم: 44] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 42]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوا متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي لمعرفته فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال المهايميّ: لم تقل (هو هو) خوفا من(7/492)
التكذيب، مع نوع من التغيير. ولا (لا) خوفا من التجهيل.
وقال الزمخشريّ: لم تقل (هو هو) ولا (ليس به) وذلك من رجاحة عقلها.
حيث لم تقطع في المحتم. أي: فأتت ب (كأن) الدالة على غلبة الظن.
قال الشهاب: وهذا إشارة إلى أن (كأن) ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك.
وهو مشهور فيها.
وقد أبدى صاحب (الانتصاف) فرقا بين (كأن) و (هكذا) في التشبيه.
وعبارته: وفي قولها (كأنه هو) وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول (هكذا هو) - نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما (أعني اسم الإشارة والمضمر) واقع على الذات المشبهة.
وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها (هكذا هو) بمطابقته للسؤال.
فلا بد في اختيار كَأَنَّهُ هُوَ من حكمة. فنقول: حكمته، والله أعلم، أن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول (هو هو) وتلك حال بلقيس. وأما (هكذا هو) فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة، لمطابقتها لحالها، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام، شكرا لله على فضلهم عليها، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها كَأَنَّهُ هُوَ والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضى، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير: أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم إلخ. وقيل: إنه من كلام بلقيس، موصولا بقولها كَأَنَّهُ هُوَ، لا من كلام سليمان، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها، فقالت: أوتينا العلم إلخ. أي لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.
أو المعنى: علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.
قال ابن كثير: ويؤيد الأول، أي أنه من كلام سليمان، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي، والله أعلم. وقوله تعالى:(7/493)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 43 الى 44]
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
وَصَدَّها أي وكان صدها عن الهداية ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ أي القصر، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به لَمَّا رَأَتْهُ
أي صحنه سِبَتْهُ لُجَّةً
أي ماء عظيما كَشَفَتْ
أي للخوض فيه نْ ساقَيْها، قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي مملّس نْ قَوارِيرَ
أي من الزجاج الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
أي متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.
تنبيهات:
الأول- روى كثير من المفسرين هاهنا أقاصيص لم تصحّ سندا ولا مخبرا. وما هذا سبيله، فلا يسوغ نقله وروايته.
قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له، ما مثاله: قلت: بل هو منكر غريب جدا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم.
ثم قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة.
الثاني- أشير في (التوراة) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي أنها تؤدّي له(7/494)
الجزية، وإن كان ملكه محصورا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه السلام، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه، ودهشتها مما رأته وتحققته، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.
وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه، ومهيمن عليه، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.
الثالث- مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة، أن في قوله تعالى:
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان، فأنشد:
تفقد الإخوان مستحسن ... فمن بداه نعم ما قد بدا
سنّ سليمان لنا سنّة ... وكان فيما سنّة مقتدى
تفقّد الطير على ملكه ... فقال: ما لي لا أر الهدهدا
وأن في قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كِتابٌ كَرِيمٌ استحباب ختم الكتب، لقول السّدّي: كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي(7/495)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
أَمْرِي
المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.
ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيّها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 47]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي فريق مؤمن وفريق كافر. يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له. كقوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف: 75- 76] ، قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة. أي لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنا أي تطيرنا أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي من المؤمنين.
وقد كانوا، لشقائهم، إذا أصيبوا بسوء قالوا: هذا من قبل صالح وصحبه قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله. وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. قاله الزمخشريّ.
قال الشهاب: لما كان المسافر من العرب إذا خرج مرّ به طائر سانحا، وهو ما وليه بميسرته، أو بارحا وهو ما وليه بميمنته- تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني.
ونسبوا الخير والشر إلى الطائر. ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته. أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة. ومنه (طائر الله، لا طائرك) بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي مفتونون بضلالكم وكفركم. لا ترون حسنا إلا ما يوافق هواكم، ولا شؤما إلا يخالفه. ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب صالح عليه السلام، وما آل بهم الأمر، بقوله سبحانه:(7/496)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 48 الى 52]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم وعادتهم الإفساد، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله فِي الْأَرْضِ الدال على عموم فسادهم. وهو صفة (رهط) أو (تسعة) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين، بالله الذي هو أعظم المعبودين لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلنّه ليلا. قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض وَأَهْلَهُ أي من آمن معه. ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي الطالب ثأره علينا ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا مكان هلاك الأهل، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة، فضلا عن مكانه، فضلا عن مباشرته وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي ونحلف إنا لصادقون. أو: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا وَمَكَرُوا مَكْراً أي بهذه الحيلة وَمَكَرْنا مَكْراً أي بأن جعلناها سببا لإهلاكهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أي خالية ساقطة. لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم. وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 53 الى 59]
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)(7/497)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني صالحا عليه السلام ومن معه وَكانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي قبحها ومضادّتها لحكمه تعالى وحكمته أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محالّ الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون فعل الجاهلين سفها وعمى عن العاقبة فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجسا. قالوه استهزاء فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي هائلا غير معهود فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ قال الزمخشريّ: أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عزّ وجلّ، وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين.
ثم قال: معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثا، لينبّهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورّط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف: 52] ، مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.(7/498)
ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر. ثم قال: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.
لطيفة:
قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) في هذه الآية: كلمة (السلام) هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي (الحمد لله) ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا. وعلى هذا، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلها النصب محكيّة بالقول.
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.
وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلم.
وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.
ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول: قم وذهب زيد، ولا اخرج وقعد عمرو.
ويجاب على هذا بأن جملة الطلب، قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه.
وهذا نظير قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
فقوله: وَما تُغْنِي الْآياتُ ليس معطوفا بالقول وهو (انظروا) بل معطوف على الجملة الكبرى.
على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [الأنبياء: 112] ، وقوله: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118] .
والمقصود أنه على هذا القول، يكون الله سبحانه قد سلّم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. انتهى. وقوله تعالى:(7/499)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 60 الى 63]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إضراب وانتقال، من التبكيت تعريضا، إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي: بل من خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ أي بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله آخر كائن مع الله، الذي ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى، في ضمن النفي الكليّ على الطريقة البرهانية، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي عن طريق الحق. أو به تعالى غيره. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقرا لمن عليها، يتمتعون بمنافعها وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أي برزخا مانعا من الممازجة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي في الوجود، أو في إبداع هذه البدائع بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك، مع كمال ظهوره أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى، اسم مفعول من (الاضطرار) الذي هو افتعال من (الضرورة) وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي الالتجاء والاستناد.
قال ابن كثير: ينبّه تعالى أنه المدعوّ عند الشدائد، الموجود عند النوازل، كما قال تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] ،(7/500)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
وقال تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل: 53] ، وهكذا قال هاهنا أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ، أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.
وقال ابن القيم في (الجواب الكافي) : إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف انكسارا بين يدي الرب وذلّا له وتضرعا ورقة، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
ثم ساقها ابن القيم مسندة.
ثم قال: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده، كاف في حصول المطلوب، كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.
وقوله تعالى: وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي كل ما يسوءه مما يضطر فيه وغيره وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكناها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشريّ: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وهي المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 64 الى 65]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)(7/501)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد الموت بالبعث. فإن قيل: هم منكرون للإعادة، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها، جعلوا كأنهم معترفون بها، لتمكنهم من معرفتها- فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها، فالكلام بالنسبة إليه وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت.
أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا، يدل على أن معه تعالى إلها. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى، فإنهم لا يدعونه صريحا. وفي إضافة (البرهان) إلى ضميرهم، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهانا. وأنّى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أي فإنه المتفرد بذلك وحده، كما قاله: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام:
59] ، في آيات لا تحصى. والاستثناء منقطع، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض، أو متصل، على أن المراد ممن في السموات والأرض، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازا مرسلا أو استعارة. فإنه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى ينشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : آية 66]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ قال السمين: فيه وجهان: أحدهما- أن (في) على بابها، و (ادّارك) وإن كان ماضيا لفظا، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعا.
كقوله أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] .
وعلى هذا ف (في) متعلق ب (ادّارك) .
والثاني- أن (في) بمعنى الباء. أي بالآخرة.
وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك (علمي بزيد كذا) انتهى.
والوجه الثاني على الاستفهام. أي بل هل ادّارك علمهم فيها، أي بلغ وانتهى؟
كلا. وقد قرئ (بل أءدرك) بهمزتين، (بل ءاأدرك) بألف بينهما، (أم أدرك) و (أم تدارك) .
قال الرازيّ: وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام(7/502)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.
وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطيّ والمهايميّ. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقاليّ. وقرروه بما فيه خفاء ودقة.
ويبعده ما ذكرنا من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي في عماية وجهل كبير.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعملون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه ب (من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 70]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي من القبور لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء،(7/503)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
كقوله تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 76]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي بالعذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي لحقكم أو دنا لكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي من العذاب، فحصل لهم القتل ببدر. ولعذاب الآخرة أمرّ. قال الزمخشريّ: و (عسى) و (لعلّ) و (سوف) في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده.
وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم، ووثوقهم أن عدوّهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم.
فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي لأن حقيقة الترجّي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله الشهاب وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي لذو إفضال وإنعام عليهم، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلونها وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي وما من خافية فيهما، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البيّن، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل، على طريق الاستعارة، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع، كالسجل إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعوّل من أنبائهم عليه، ومردّ ما اختلفوا فيه إليه.(7/504)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 77 الى 81]
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق، المذعنون له إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ أي بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته وَهُوَ الْعَزِيزُ أي فلا يردّ قضاؤه الغالب في انتقامه من المبطلين الْعَلِيمُ أي بالفصل بينهم وبين المحقّين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه، وبالمضيّ في دعوته وانتظار الوعد الحق، بقوله: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي الأبلج الذي لا ريب فيه.
قال الزمخشريّ: وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين، الذين هم أولياؤه وحزبه، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية، كآية وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] ، تسلية عما كان يهمه من إيمانهم، بقوله سبحانه إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ قال الزمخشريّ: شبّهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم، لانتفاء جدوى السماع، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء، إلا الله عزّ وجلّ. فإن قلت: ما معنى قوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ؟ قلت: هو تأكيد لحال الأصمّ. لأنه إذا تباعد عن الداعي، بأن يولّي عنه مدبرا، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.
وإيراد قوله وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إثر ما تقدم، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا، إلّا من شأنه الإيمان بها. وقوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ تعليل لإيمانهم بها.(7/505)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق. وقيل: معناه مخلصون، من قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] ، يعني جعله سالما لله خالصا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : آية 82]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ اعلم أن في هذا الوعيد وجوها من التأويل:
الأول- أنه دنيويّ، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه، عليهم. والمعنى أنّ أولئك الصم عن سماع الآيات، العمي عن النظر فيها، الجاحدين لها، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم. ويظهروا على عدوّهم. وذلك بأن تدبّ إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربى، تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدكّ أعلامهم. فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد. وسعيهم في الأرض الفساد. فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح. وقائد الفلاح والنجاح، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جنده لهم الغالبون. وقد صدق الله وعده. وأعز جنده.
والوجه الثاني- أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه. يختص خروجها بحين القيامة، قال بعضهم: والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى. وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا. قال: فليس المراد من قوله دَابَّةً الفرد، بل النوع. كما في قولك (أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم) أي ديدانا كثيرة، من نوع واحد مخصوص.
وقد روي فيها أحاديث وآثار كثيرة، لم يصحح البخاريّ منها شيئا، لاضطراب متونها وضعف رجالها. وأمثل مأثورها ما
أخرجه مسلم «1» عن عبد الله بن عمرو مرفوعا (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس
__________
(1) أخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم 118. [.....](7/506)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا) .
ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب. ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعيّ الثبوت.
الوجه الثالث- نقله الراغب في مفرداته قال: وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب. فتكون الدابة جمعا، اسما لكلّ ما يدبّ. نحو (خائنة) جمع خائن. انتهى.
ولعل الآية كقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ [الأنبياء: 96- 97] ، فإن يأجوج ومأجوج كالدابة، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض- فهو مثل في الكثرة. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 84]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه. كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله فَوْجاً، فإن الفوج الجماعة الكثيرة. أفاده الزمخشريّ حَتَّى إِذا جاؤُ أي إلى المحشر قالَ أي ليفضحهم في هذا اليوم المشهود أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي أي الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه. ومؤكدة للإنكار والتوبيخ. أي أكذبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات، فيما سلف في الموضعين، هي الآيات القرآنية. لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها. لا نفس الساعة وما فيها. أفاده أبو السعود أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بها. أو ماذا كان عملكم؟ هل هو إلا الفساد والإفساد؟ وصد السبيل عن العباد؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم. كما قال تعالى:(7/507)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 85 الى 89]
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ أي مدلوله وهو العقاب الموعودون به عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ليبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ أي حضروا الموقف بين يديه داخِرِينَ أي صاغرين وَتَرَى الْجِبالَ عطف على (ينفخ) داخل في حكم التذكير تَحْسَبُها جامِدَةً أي ثابتة في أماكنها وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي في تخلل أجزائها وانتفاشها. كما في قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] ، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أي فيجازيهم عليه.
تنبيه:
ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير. قالوا: المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، حينما يبيد الله تعالى العوالم، كما قال:
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ: 20] ، وكما قال: وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10] ، وقال: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] .
وقال بعض علماء الفلك: لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه، لعدة وجوه:
الأول- أن قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها ما يحصل يوم القيامة. وكذلك قوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، على أن محل هذه الآية على المستقبل، مع أنها صريحة في إرادة الحال، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها.(7/508)
الثاني- أن سير الجبال للفناء يوم القيامة، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ، أي من الملائكة.
فما معنى قوله إذن وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً؟.
الثالث- أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، إذا رآه أحد شعر به. لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان، فيحسّ بحركتها. وهذا ينافي قوله تعالى تَحْسَبُها جامِدَةً أي ثابتة. أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها. وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة. فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا. وهذا شيء يراه كل واقف عندها.
الرابع- ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة، لورود آية أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً المذكورة قبلها في نفس هذا السياق، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه. ولذلك ختم هذه الآية بقوله إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ فذكر هذه الأشياء في هذا السياق، هو كذكر الدليل مع المدلول، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم. فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها.
وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. كلامه.
وقال العلامة المرجانيّ في مقدمة كتابه (وفيّة الأسلاف، وتحيّة الأخلاف) في بحث علم الهيئة، ما مثاله:
ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ الآية. فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية. وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مرّ السحاب في سرعة السير والحركة. قال:
وقوله صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة لنفسها. وهو مضمون الجملة السابقة.
يعني أن هذا المرور هو صنع الله. كقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ [النساء: 122] ، صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ، ثم (الصنع) هو عمل الإنسان، بعد تدرّب فيه وتروّ(7/509)
وتحري إجادة. ولا يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وقوله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ كالبرهان على إتقانه، والدليل على إحكام خلقته، وتسوية مروره على ما ينبغي. لأن إتقان كل شيء، يتناول إتقانه.
فهو تثنية للمراد وتكرير له، كقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] ، قال: وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد، وأنحاء من المبالغة. فمن ذلك تعبيره (بالصنع) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة. وإضافته إليه تعالى تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله. ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور. ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور. ثم التقييد بالحال، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما. فإن قوله تعالى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من المفعول به، وهو الجبال. ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال.
فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام. وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الإجرام إذا كانت في سمت واحد. فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير. على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع وإحكام. قال: والعجب من حذاق العلماء المفسرين، عدم تعرضهم لهذا المعنى، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء. مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية، على ما شحنوا بها كتبهم. وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى، ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار، كائنا ما كان، وهو العليّ الكبير، وعلى ما يشاء قدير.
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ الآية.
اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان. ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن.
وفائدته هنا، التنبيه على سرعة تقضّي الآجال ومضيّ الآماد. والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد. فإن انقضاء الأزمان، وتقضي الأوان، إنما هو بالحركة اليومية المارّة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان. وهذا(7/510)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
المرور. وإن لم يكن مبصرا محسوسا، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره، بمنزلة المحسوس المبصر فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] ، فيكون هذا معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، مخصوصة به، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء.
فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة. إذ ليس هو من (الصنع) في شيء. بل هو إفساد أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم، وإهلاك بني آدم. كلام المرجانيّ.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ أي لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونا وفتح الميم، على أنه ظرف (لآمنون) أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في (يومئذ) عوض عن جملة محذوفة، أي يوم إذا جاءوا بالحسنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النمل (27) : الآيات 90 الى 93]
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الشرك والمعاصي إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها. وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك، حيث آمنهم من خوف، وأجلّهم في أعين القبائل، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم، إجلالا لهذا البيت. وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها، من عبادته تعالى وحده، وسعيهم بالإصلاح وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا. فهو خالق كل شيء ومليكه وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي ممن أسلم وجهه لله، لا لغيره.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي عليكم، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اتبع ما فيه من توحيد(7/511)
الله، ونفي الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه، لا إليّ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزيغه طريق الهدى، ولم يتبعني، فلا عليّ. وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما هدانا لهذا الدين، ومنّ علينا بصراطه المستقيم سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] ، وقوله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي من الشرك والتكذيب ونصب المكايد. بل هو شهيد رقيب، جل جلاله وعظم نواله، ولا إله غيره.(7/512)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة القصص
سميت به لاشتمالها على قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] ، الدالة على أن من هرب من مكان الأعداء، إلى مكان الأنبياء اعتبارا بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء- أمن من الهلاك. وهذا أيضا من أعظم مقاصد القرآن، مع اشتمالها على ما لا يشتمل عليه غيرها من أنباء موسى، أفاده المهايميّ.
والسورة مكية كلها. وقيل إلّا من قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله الْجاهِلِينَ [القصص: 52- 55] ، فقد أخرج الطبرانيّ عن ابن عباس أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشيّ الذين قدموا وشهدوا وقعة أحد.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [القصص: 85] الآية، لما روي من نزولها بالجحفة حين الهجرة إلى المدينة. والله أعلم. وهي ثمان وثمانون آية، بالاتفاق.(7/513)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
طسم تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي نقرأ عليك، بواسطة الروح الأمين، تلاوة ملتبسة بالحق. كما قال تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] ، ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود، بقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي تكبر وتجاوز الحد في الطغيان، في أرض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا وأصناما في استخدامه وطاعته يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وذلك إماتة لرجالهم، وتقليلا لعددهم، كيلا يكثروا فينازعوه الملك إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي المتمكنين في الإفساد وقهر العباد.
ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 5 الى 8]
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)(7/514)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي:
لملك عدوّهم. كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ إلى قوله يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي بالتصرف فيها تصرف الملوك وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ أي من أولئك المستضعفين ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي من هلاكهم وذهاب ملكهم، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أي إثر ولادته في تلك الشدّة أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي من أولئك الذباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر، وهو النيل وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي في هلاكهم على يديه.
قال أبو السعود: واللام لام العاقبة. أبرز مدخولها في معرض العلة، لالتقاطهم.
تشبيها له في الترتب عليه، بالغرض الحامل عليه إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي مجرمين فعاقبهم الله بأن ربّى عدوّهم، ومن هو سبب هلاكهم، على أيديهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 11]
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ أي لفرعون، حين أخرجته من التابوت قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بما سيكون وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من العقل. لما دهمها من فرط الجزع، وأطار عقلها من الدهش، لما بلغها وقوعه في يد فرعون إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي بأمره وقصته، وأنه ولدها لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لولا أن ألهمناها الصبر. شبه بربط الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن. ومعنى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بوعد الله. وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص: 7] .(7/515)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قال الزمخشريّ: ويجوز، وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبنّاه. إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت. لولا أنّا طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله، لا بتبنّي فرعون وتعطفه وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اتّبعي أثره لتنالي خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ بضم النون وسكونها. أي: عن بعد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي أنها تتعرف حاله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 12 الى 17]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصّها أثره. و (المراضع) جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك (التاء) لاختصاصه بالنساء. أو جمع (مرضع) بفتح الميم مصدر ميميّ، جمع لتعدد موادّه. أو اسم موضع الرضاع، وهو الثدي فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي في رضاعه وتربيته فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي برؤيته وَلا تَحْزَنَ أي بفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي كمال قوته، وَاسْتَوى أي اعتدل مزاجه آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام، ما تدرج به إلى ما قدّر له من الرسالة، بقوله سبحانه وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي مصر آتيا من قصر فرعون عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشاءين فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتنازعان هذا أي الواحد مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل وَهذا أي الآخر مِنْ عَدُوِّهِ أي ممن خالفه في دينه وهم(7/516)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
القبط فَاسْتَغاثَهُ أي سأله الإغاثة الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ لكونه مظلوما عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ لكونه ظالما. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين فَوَكَزَهُ مُوسى أي ضربه بجمع كفّه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه، من قتله. وسماه ظلما واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي بقتله فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف. أي أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة، لأتوبنّ ولا أظاهر المجرمين. وأن يكون استعطافا كأنه قال: رب! اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة. فلن أكون، إن عصمتني، ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيليّ المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشريّ.
قال الناصر: لقد تبرأ عليه السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. يروى أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة، أو برى لهم قلما، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 23]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي الاستقادة أو الأجناد. فَإِذَا الَّذِي(7/517)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
أي استعانه فقتل من أجله منازعه القبطيّ يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيثه من قبطيّ آخر قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي بمخاصمتك الناس مع عجزك، وجرّك إليهم مالا تحمد عقباه فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي لموسى وللإسرائيليّ، وهو القبطيّ قالَ أي ذلك العدوّ وهو القبطيّ، لا الإسرائيليّ كما وهم يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أي بين الناس بالقول والفعل.
قال الزمخشريّ: الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى أي يسرع لفرط حبه لموسى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون بسببك لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ أي من حدّ مملكتهم إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي لحوق الطالبين قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ أي جعل وجهه تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي فلا يلحقني فيه الطالبون وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً أي جماعة كثيفة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أي مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تمنعان مواشيهما عن الماء، لوجود من هو أقوى منهما عنده، فلا تتمكنان من السقي قالَ ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما في الذود قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، عجزا عن مساجلتهم، وحذرا من مخالطة الرجال وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي فيعجز عن الخروج والسقي. أي ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو، وقد أضعفه الكبر، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 24 الى 25]
فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
فَسَقى لَهُما أي فسقى غنمهما، لأجلهما من غير أجر ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ أي الذي كان هناك، من شدة الحرّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون(7/518)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
بمعونة المقام فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا، فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بالخروج عن حدّ ولايتهم، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 26 الى 28]
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اجعله أجيرك ليرعى غنمك، فإنه حقيق بذلك إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي خير من أردت جعله أجيرا، القويّ على العمل المؤتمن فيه.
قال الزمخشريّ: وقولها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوّته وأمانته. انتهى.
قال الناصر: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال، من المدح الخاص.
وأبقى للحشمة. وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القويّ. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا أمينا: يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه.
انتهى. قالَ إِنِّي أُرِيدُ أي لقوتك وأمانتك، ما يقوّي المودة ويجذب القلوب أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي، هي مهرها عليك، ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي فهو من عندك بطريق التفضل وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ أي بإلزام أتم الأجلين وإيجابه سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في حسن المعاملة ولين(7/519)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
الجانب والوفاء بالعهد قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذاك الذي عاهدتني عليه، لا نخرج عنه جميعا أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ أي أتممت فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي بطلب الزيادة على ثمان، أو الخروج بالأهل قبل عشر وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد وحفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 31]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
فَلَمَّا قَضى أي أتم مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي من الطريق، من ضوئها، أو ممن عندها أَوْ جَذْوَةٍ مثلثة الجيم، وقد قرئ بها كلها، أي عود فيه شيء مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون فَلَمَّا أَتاها أي قرب منها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ أي جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ أي المبارك. يقال: يمن فهو ميمون وأيمن. وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد، لأن ألفاظ التنزيل وآية يفسر بعضها بعضا. وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس، وبقعته بالمباركة، والمعنى واحد. وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ أي التي بورك مكانها بالتجلي الإلهيّ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ أي حية صغيرة، في سرعة الحركة وَلَّى مُدْبِراً أي أعرض بوجهه عنها. جاعلا ظهره إليها وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي من المخاوف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 32 الى 35]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)(7/520)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها فيه تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أي يدك مِنَ الرَّهْبِ أي الخوف. قرئ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون. قال ابن أسلم وابن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير: والظاهر أن المراد أعم من هذا. وهو أنه أمر عليه السلام، إذا خاف من شيء، أن يضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما استعمل أحد ذلك، على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخفّ إن شاء الله تعالى. وبه الثقة. فَذانِكَ إشارة إلى العصا واليد بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي فيكون أحسن بيانا. ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي معينا يُصَدِّقُنِي أي لنشاط قلبي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: تصديق أخيه، ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة. فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك. لا لقوله صدقت. فإن سحبان وباقلا يستويان فيه. أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه. فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه، إسنادا مجازيا. انتهى. قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي سنقويك به ونعينك.
قال الشهاب: والشد التقوية، والعضد من اليد معروف. فهو إما كناية تلويحية عن تقويته، لأن اليد تشد بشدة العضد، والجملة تشتد بشدة اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم. أو استعارة تمثيلية. شبّه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي غلبة ومهابة(7/521)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
في قلوبهم أو حجة فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أي بإيذاء، فضلا عن القتل بِآياتِنا متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا. أو ب (نجعل) أي نسلطكما بها أو بمعنى (لا يصلون) أي تمتنعون منهم بها. أو قسم، جوابه (لا يصلون) مقدر. أو صلة ل (الغالبون) في قوله أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ وتقدمه، إما للفاصلة أو للحصر.
أي الغالبون عليهم، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 38]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38)
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي مبتدع لم يسبق له نظير. أو تفتريه على الله بنسبته له، وأنت تعلمته من غيرك، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب وَما سَمِعْنا بِهذا أي السحر أو ادعاء النبوة، أو بأن للعالم إلها يرسل الرسل بالآيات فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي كائنا في أيامهم. قال الشهاب: وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات، وإن كان عهد يوسف قريبا منهم. أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضا وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ قال المهايميّ: معناه: كفى دليلا على كونها آيات، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير. مع أن ما جئت به هدى. والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى. فإن لم تعترفوا بكونه هدى، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ويعلم ذلك بالعاقبة، فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة. لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار. وهي العاقبة المحمودة. والمراد ب (الدار) الدنيا. وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان. وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة، لأنه ظالم، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولا استدراجا، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة.
وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم. وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة. ونهاية أعدائه وضيعة وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ(7/522)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
غَيْرِي
هذا حكاية لتمرده وعتوّه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة. كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] ، وكما قال تعالى عنه فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 23- 26] ، يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلنا بذلك. فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي نارا، فأتخذ منه آجرّا.
قال الزمخشريّ: ولم يقل (اطبخ لي الآجرّ وأتخذه) لأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة. وهامان وزيره ومدبّر رعيته فَاجْعَلْ لِي أي من الآجرّ صَرْحاً أي قصرا رفيعا إلى السماء لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى يعني العليّ الأعلى، تبارك وتعالى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي في دعواه الألوهية، والعلوّ لباري الأرض والسموات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 39 الى 43]
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ أي بدعوى الألوهية لنفسه، ونفيها عن الله تعالى، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه، وادعاء العلم الكليّ لنفسه مع جهله بربه وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بل بالفساد وردّ الحق، والصدّ عن سبيل الله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بضم الياء وفتحها قراءتان فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي يلعنهم كل مؤمن يسمعهم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي من المطرودين، المبعدين وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا للقلوب وَهُدىً أي إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها(7/523)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
وَرَحْمَةً أي بالإرشاد إلى العمل الصالح لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي فيتعظون به ويهتدون بسببه.
ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحيا من علّام الغيوب، ببيان أنه ما فصّل من هذه الأنبياء لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم، وكلاهما معلوم الانتفاء، فتحقق صدق الإيحاء. وذلك قوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة إِذْ قَضَيْنا أي قدرنا وأنهينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي أمر الإرسال والإنباء وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي بين زمانك وزمان موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي أمد انقطاع الوحي، واندرست معالم الهدى، وعم الضلال والبغي والردى، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي لك، وموحين إليك تلك الآيات. أي ما كان الإنباء بها إلا وحيا مصدره الرسالة وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وقت ندائنا موسى وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره، لرحمة عظيمة كائنة منّا لك وللناس لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي من نذير في زمان الفترة، بينك وبين عيسى لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بإنذارك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 48]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)(7/524)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الكفر والفساد فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي بها.
وجواب لَوْلا الأولى محذوف، ثقة بدلالة الحال عليه. أي ما أرسلناك. لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق. ولذا أرسلناك قطعا لمعاذيرهم.
قال الزمخشريّ: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدي، وتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب. وهذا من الاتساع في الكلام، وتصيير الأقل تابعا للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي من قلب العصا حية، وفلق البحر، وغيرهما من الآيات. تعنتا وعنادا، كما قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] ، وما أشبه ذلك. وقوله: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ رد عليهم، وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا، لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق. أي أو لم يكفر أبناء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم وهم القبط، بما أوتي موسى من الكتاب قالُوا أي في موسى وهارون عليهما السلام (ساحران) تَظاهَرا أي تعاونا. وقرئ سِحْرانِ أي ذوا سحرين أو جعلوهما سحرين مبالغة وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبيّ صلوات الله عليه، هي الآيات النفسية العلمية، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره، جريا على سنة الارتقاء. فإن النوع الإنساني كان، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة. وكان لا بد له في هذا الطور من معلّم ومرشد، كما في الأطوار الأخرى، أرسل الله إليه رسولا يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى. وأن لا يأخذ شيئا إلا بدليل وبرهان، يوصل إلى العلم. فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوّته ورسالته نفسه الكريمة، وما جاء به من النور والهدى، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. وقد بسط هذا في مواضعه. وهذا معنى قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 49 الى 55]
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)(7/525)
قُلْ أي لهؤلاء الجاحدين: قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين. والذكرى التي تزع النفوس عن الشر، وتحملها على الخير. بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين. فإن يك هذا سحرا، ولديكم ما هو أهدى فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ أي ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنهما سحران مختلقان. أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما.
قال أبو السعود: ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته. لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين، أمر بيّن الاستحالة. فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام. انتهى.
أي لا للشك والتردد.
قال الشهاب: وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم. وهذا كما يقول المدلّ: إن كنت صديقك القديم، فعاملني بالجهل. وكذا في إيراد كلمة (إن) مع امتناع صدقهم، نوع تهكم بهم فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فلم يأتوا بذلك الكتاب، ولم يتابعوا الكتابين فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي الزائغة من غير برهان وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ الاستفهام إنكاري للنفي. أي لا أحد أضل منه.
كيف لا؟ وهو أظلم الظلمة. بتقديم هواه على هدى الله. كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.
قال الرازيّ: وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال. انتهى. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي أنزلنا عليهم القرآن متواصلا، بعضه إثر بعض، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ، حسبما تقتضيه(7/526)
الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وقرئ (وصّلنا) بالتشديد والتخفيف الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أي القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزوله مُسْلِمِينَ أي منقادين له، لما عندنا من المبشّرات به. أو على دين الإسلام، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر من النعوت يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ يعني مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن بِما صَبَرُوا أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى من نابذهم وَيَدْرَؤُنَ أي يدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي بالحكمة الطيبة، ما يسوؤهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي للبؤساء والفقراء، وفي سبيل البرّ والخير، فرارا عن وصمة الشحّ، وتنبها لآفاته. وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره أَعْرَضُوا عَنْهُ أي تكريما للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفا للسمع عن سقط باطلهم وَقالُوا أي لهم لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي بطريق التوديع والمتاركة وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة حلم من المؤمنين لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم. قال الرازي: قال قوم: نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وهو بعيد. لأن ترك المسافهة مندوب. وإن كان القتال واجبا.
تنبيه:
قال ابن كثير عن سعيد بن جبير: إنها نزلت في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي. فلما قدموا النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1- 2] ، حتى ختمها. فجعلوا يبكون وأسلموا.
وقال محمد بن إسحاق في (السيرة) : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه. ورجال من قريش في أنديتهم. حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش. فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب.(7/527)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخبر الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم. لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.
قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أيّ ذلك كان.
قال: ويقال، والله أعلم، إن فيهم نزلت هذه الآيات الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ.
قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم. والآيات اللاتي في سورة المائدة ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً [المائدة: 82] ، إلى قوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 58]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي القابلين للهداية. لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.
تنبيه:
روى البخاري «1» في (صحيحه) في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 28- سورة القصص، 1- باب قوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، حديث 717.(7/528)
وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. فقال: أي عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله! لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] ، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] .
قال ابن كثير: وهكذا رواه مسلم «1» في صحيحه والترمذي «2» أيضا من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم، عن أبي هريرة. والإمام أحمد من حديثه أيضا، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبيّ وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام. انتهى.
وقال ابن حجر في (فتح الباري) : لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب. انتهى. وقدمنا مرارا معنى قولهم نزلت الآية في كذا. فانظر المقدمة، وغير موضع بعدها.
ثم ذكر تعالى من تعنتهم، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل، فيما رواه النسائي، قوله سبحانه: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ أي ونخالف العرب نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي مكة. فرد عليهم تعالى بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أي: ألم نعصمهم من عدوّهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن، لحرمة البيت الحرام، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي جهلة لا يتفكرون. ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ أي منهم. إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم. وموصوف (قليلا) المستثنى، إما (زمان) أي إلا
__________
(1) أخرجه في: الإيمان، حديث 39.
(2) أخرجه في: التفسير، 28- سورة القصص.(7/529)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلا المارّة يوما أو بعض يوم. وإما (مكان) أي إلا مكانا قليلا يصح لسكنى البعض، واندثر الباقي. أو (مصدر) أي سكنا قليلا من شؤم معاصيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 59 الى 62]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي الناطقة بالحق. ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب. وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعيا بالفساد، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي فهو مما يتمتع ويتزين به أياما قلائل. وهي مدة الحياة المقتضية وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ أي متاعا وزينة في نفسه، لخلوّه عن شوائب الألم وَأَبْقى لأنه أبدي لا يزول أَفَلا تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي بإيمانه وعمله الصالح فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب.
قال الشهاب: وقد غلب لفظ (المحضر) في القرآن في المعذّب. وإليه أشار الزمخشريّ، وصرح به في البحر وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 63 الى 68]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)(7/530)
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب وثبت مقتضاه. وهو لحوق الوعيد بهم. والمراد بهم، رؤساء الضلال، وقادة الكفر والفساد رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي أضللناهم. قال أبو السعود: ومرادهم بالإشارة، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم. وأنهم غير قادرين على إنكاره وردّه أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أضللناهم بالوسوسة والتسويل، كما ضللنا باختيارنا، وإيثار ما يفنى على ما يبقى تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ أي من الكفر والشرك والمعاصي. أو منهم ومما اختاروه ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي بل كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ليشفعوا لكم فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم. وأصله (فعموا عن الأنباء) لكنه عكس مبالغة. قال الشهاب: ففيه استعارة تصريحية تبعية. استعير العمى لعدم الاهتداء.
فهم لا يهتدون للأنباء. ثم قلب للمبالغة. فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم. وضمن معنى الخفاء. فعدّى ب (على) . ففيه أنواع من البلاغة: الاستعارة والقلب والتضمين.
والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل. أو ما يعمّها وغيرها من كل ما يمكن الجواب به فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب. أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم.
ثم إن هذا العيد لاحق للمصرّ فَأَمَّا مَنْ تابَ أي من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي أن يفلح عند الله. و (عسى) من الكرام تحقيق.
ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه. كأنه قال: فليطمع أن يفلح. قال الزمخشري وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ أي بمقتضى مشيئته وعنايته، ما يريد ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي في ذلك. بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
قال الزمخشري: الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير، وبمعنى المتخير. كقولهم (محمد خيرة الله من خلقه) والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده. ولذا قال: سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئا ولا تختار.(7/531)
تنبيه:
للإمام ابن القيّم في مقدمة (زاد المعاد) مقالة في هذه الآية الكريمة، جديرة بأن تؤثر عنه. قال رحمه الله: وبعد. فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات. قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ وليس المراد هاهنا بالاختيار، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك. وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى. وهذا الاختيار داخل في قوله:
يَخْلُقُ ما يَشاءُ فإنه لا يخلق إلا باختياره. وداخل في قوله تعالى: ما يَشاءُ فإن المشيئة هي الاختيار. وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء. فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام اختيار قبل الخلق. فهو أعم وأسبق. وهذا أخص وهو متأخر.
فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق. وأصح القولين أن الوقف التام على قوله:
وَيَخْتارُ ويكون ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ نفيا. أي ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده. فكما أنه هو المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه. فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحالّ رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له. وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه. وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل، إلى أن (ما) في قوله تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة وهي مفعول (يختار) أي ويختار الذي لهم الخيرة. وهذا باطل من وجوه:
أحدها- أن الصلة حينئذ تخلو من العائد. لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم (كان) و (لهم) خبره. فيصير المعنى: ويختار الذي كان الخيرة لهم. وهذا التركيب محال من القول. فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا، ويكون التقدير:
ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه. أي ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره.
قيل: هذا يفسد من وجه آخر. وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد. فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ونظائره. ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت، ونحوه.
الثاني- أنه لو أريد هذا المعنى لنصب (الخيرة) وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول. فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم الخيرة. أي الذي كان هو عين الخيرة لهم. وهذا لم يقرأ به أحد البتة. مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.
الثالث- أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن(7/532)
يكون الخيرة لهم. ثم ينفي. هذا سبحانه عنهم، ويبيّن تفرده بالاختيار، كما قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:
31- 32] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه. وأخبر أن ذلك ليس إليهم. بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم. وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل، على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح. وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات. وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل. فهو القاسم ذلك وحده لا غيره. وهكذا هذه الآية. بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار. فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ، أي الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة، دون غيره.
الرابع- أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه، حتى نزه نفسه عنه. فتأمله فإنه في غاية اللطف.
الخامس- إن هذا نظير قوله في الحج: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 73- 74] ، ثم قال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الحج: 75- 76] ، وهذا نظير قوله في القصص وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [القصص: 69] ، ونظير قوله في الأنعام اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ، فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محالّ اختياره، بما خصصها به بعلمه، بأنه يصلح له دون غيرها فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى دائرا عليه. والله أعلم.
السادس- إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً(7/533)
فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ
فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل) فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص، المشهور أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله وصدق رسوله. فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبها على ما وراءه، دالّا على ما سواه. فخلق الله السموات سبعا. فاختار العليا منها فجعلها مستقرّ المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه. وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السموات. ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيل والتخصيص، مع تساوي مادة السموات، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار. ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها.
وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه.
ومن هذا اختياره من الملائكة، المصطفين منهم على سائرهم. كجبريل وميكائيل وإسرافيل. وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم. واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم. واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم. ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم. ثم اختار منهم بني كنانة بن خزيمة. ثم اختار من ولد كنانة قريشا. ثم اختار من قريش بني هاشم. ثم اختار من بني هاشم، سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين. واختار منهم السابقين الأولين.
واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان. واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها. واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.
ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها. وهي البلد الحرام. فإنه سبحانه اختاره لنبيّه، وجعله مناسك لعباده. وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين،(7/534)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا. وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لقطته للتملك.
بل للتعريف ليس إلا. ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر كما في (السنن) . وأفضل الشهور شهر رمضان. وعشره الأخير أفضل الليالي. وليلة القدر أفضل من ألف شهر. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام. انتهى ملخصا.
وقد أوسع المقال وجوّد الاستدلال. فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه. وقوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ أي تنزيها لله الذي لا يزاحم اختياره اختيار وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 69 الى 71]
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ أي تخفي صُدُورُهُمْ أي من الكيد المكر وَما يُعْلِنُونَ أي من الأقوال والأفعال وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي لأنه المولى للنعم كلها في الدارين وَلَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته.
ويحكم عليه بموجب إرادته وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بالبعث للجزاء قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ أي هذا الكلام الحق، سماع تدبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 72 الى 76]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)(7/535)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ أي هذه المنفعة فتقوموا بشكرها وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنا أي وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي نبيّا يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ، فَقُلْنا أي لكل أمة من تلك الأمم هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبيّ، كما قال تعالى: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ أي غاب عنهم غيبة الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون فَبَغى عَلَيْهِمْ أي بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغرور وتعززه برؤية زينة نفسه وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي من الأموال المدخرة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ أي مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه لَتَنُوأُ أي تثقيل بِالْعُصْبَةِ أي الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ أي بزخارف الدنيا فرحا يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.(7/536)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 77 الى 78]
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ أي اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة الدَّارَ الْآخِرَةَ أي بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب.
وتجعله زادك إلى الآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك وَأَحْسِنْ أي إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أي بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي بطرق التجارة أو المكاسب أَوَلَمْ يَعْلَمْ أي مما سمع بالتواتر أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ أي الكثيرة، بحيث صارت سنة له مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً أي بالأموال والأتباع وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)(7/537)
فَخَرَجَ أي قارون باغيا عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي مغترّا بالنظر فيها قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي جريا على سنن الجبلة البشرية، من الرغبة في السعة واليسار يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ أي مما تتمنونه لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها أي هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم. أو الجنة. أو السيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح إِلَّا الصَّابِرُونَ أي على الطاعات عن الشهوات، وعلى زمام النفس أن تجري في أعقاب المزخرفات. و (ويلك) في الأصل دعاء بالهلاك. والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني، مجازا. وهو منصوب على المصدرية فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ أي المشتملة على أمواله الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بدفع العذاب عنه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي بقوة نفسه وما له وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي من شقيّ وسعيد وَيَقْدِرُ أي يقبض. فلا دلالة في البسط على السعادة. ولا في القبض على الشقاوة. بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة توجب البسط، ولا لهوان يقتضي القبض لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بعدم إيتائه متمنانا لَخَسَفَ بِنا أي كما خسف به وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي بعدم إيتائه متمنانا لَخَسَفَ بِنا أي كما خسف به وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لنعمة الله، في صرفها في غير سبيلها. أو المكذبون برسله اغترارا بزخارفهم.
فائدة:
في (ويكأن) مذاهب:
الأول- أن (وي) كلمة برأسها. وهي اسم فعل، معناها أعجب. أي أنا.
والكاف للتعليل. و (أن) وما في حيزها مجرورة بها. أي أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ. وقياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيّ.
الثاني- أنه مركب من (وي) للتعجب (وكأن) للتشبيه. والمعنى: ما أشبه الأمر أن الله يبسط. أي ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقا إلى آخر، أمر قارون وما شوهد من قصته. والأمر مأخوذ من الضمير. فإنه للشأن. والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال، أنه لتحققه وشهرته، يصلح أن يشبه به كل شيء. كما أشار إليه في الكشف.
الثالث- قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه. إلا أنه ذهب منها معناه. وصارت للخبر واليقين. وهذا أيضا يناسبه الوقف على (وي) .
الرابع- زعم الهمداني في (الفرائد) أن مذهب سيبويه والخليل أن (وي)(7/538)
للتندم. و (كأنّ) للتعجب. والمعنى: ندموا متعجبين في أن الله يبسط إلخ.
قال الشهاب: وكون (كأن) للتعجب، لم يعهد.
الخامس- ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من (ويك) بمعنى (ويلك) فخفف بحذف اللام. والعامل في (أن) اعلم، المقدر. والكاف على هذا ضمير في محل جرّ. وهذا يناسب الوقف على الكاف. وقد فعله أبو عمرو.
السادس- أن (ويك) كلمة برأسها. والكاف حرف خطاب. ويقرب هذا مما قبله. قال أبو البقاء: وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد.
والثاني- أن تقدير (وي) اعلم، لا نظير له، وهو غير سائغ في كل موضع. انتهى.
السابع- أن (ويكأن) كلها كلمة مستقلة بسيطة. ومعناها ألم تر. وربما نقل ذلك عن ابن عباس. ونقل الفرّاء والكسائيّ أنها بمعنى (أما ترى إلى صنع الله) وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى (رحمة لك) في لغة حمير. ولم يرسم في القرآن إلا (ويكأن) و (ويكأنه) متصلة في الموضعين. فعامة القراء اتبعوا الرسم. والكسائيّ وقف على (وي) وأبو عمرو على (ويك) .
وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين. وعندي أنها مركبة من (وي) للتعجب و (كأن) التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة. والوقف على (وي) .
ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة، لأن الكتابة- كما قال ابن كثير- أمر وضعيّ اصطلاحيّ، والمرجع إلى اللفظ العربي.
وقد اتفق اللغويون على أن (وي) كلمة تعجب. يقال (ويك) و (وي لزيد) وتدخل على (كأن) المخففة والمشددة، ومن شواهد الأولى قول الشاعر:
سالتاني الطلاق. أن رأتاني ... قلّ مالي. قد جئتماني بنكر
وي كأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته، بله الاستعمال إلى هذه الأجيال.
قال ابن كثير: وقد ذكر هاهنا إسرائيليات، أضربنا عنها صفحا. ونحن تأسينا به، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويّه، الموقوف والضعيف الذي سوّدت به الصحف.
ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون، من حال خلص عباده، بقوله سبحانه:(7/539)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي غلبة وتسلطا بسوء وتكبّر وَلا فَساداً أي بظلم وعدوان وصدّ عن سبيل الله تعالى وَالْعاقِبَةُ أي النهاية الحميدة لِلْمُتَّقِينَ أي الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشري، قدس الله روحه: لم يعلق الموعد بترك العلوّ والفساد. ولكن بترك إرادتهما، وميل القلوب إليهما. كما قال: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 113] ، فعلق الوعيد بالركون.
وعن عليّ رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه. فيدخل تحتها.
وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني ها هنا. وعن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطّمّاع من يجعل العلوّ لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4] ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [القصص: 77] ، ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون، فله تلك الدار الآخرة. ولا يتدبر قوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ كما تدبره عليّ والفضيل وعمر رضي الله عنهم. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ
معناه: فلا يجزون إلا.. إلخ. فوضع فيه الموصول والظاهر، موضع الضمير، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، ولزيادة تبغيض السيئة إلى قولب السامين. ومعنى قوله: إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي مثله. وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها. ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة. وهو معنى قوله: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها كذا في الكشاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 86]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)(7/540)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك تلاوته على الناس، وتبليغه إليهم، وصدعهم به لَرادُّكَ أي بعد الموت إِلى مَعادٍ أي مرجع عظيم. وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. فتنوينه للتعظيم. ووجهه- كما في (العناية) - أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر. لأنه ابتداء العود إلى الحياة، ورده إلى ما كان عليه فجعل معاده عظيما لعظمة مقامه فيه.
وقال ابن كثير: المعاد هو يوم القيامة. يسأله عما استرعاه من أعباء النبوّة. كما قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] ، وقال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] ، وقال وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر: 96] وعن ابن عباس روايات: إلى يوم القيامة. إلى الموت. إلى الجنة أخرجت عنه من طرق. كما أسنده ابن كثير.
والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: (لرادك) إلى مكة كما أخرجك منها. وعن الضحاك قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة. فنزلت الآية.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيّا، والله أعلم.
ثم قال: ووجه الجمع بين هذه الأقوال، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح، الذي هو عند بن عباس أمارة على اقتراب أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم. كما فسر ابن عباس سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر ابن الخطاب ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر بن عباس تارة أخرى قوله تعالى: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ بالموت.
وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت. وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس. ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق. انتهى.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعني نفسه الكريمة. أي بما يستحقه من المثوبة وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني المشركين. أي بما يستحقونه من العذاب. والجملة تقرير للوعيد السابق وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي ما كنت تظن، قبل(7/541)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
إنزال الوحي إليك، أن الوحي ينزل عليك إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم. ولكن نابذهم وخالفهم. وحكى الكرماني في (الغرائب) أن معناه: فلا تكن بين ظهرانيهم، وأنه أمر بالهجرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القصص (28) : الآيات 87 الى 88]
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي عن تبليغها بعد إنزالها، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم. فإن الله معك، ومعل كلمتك ومؤيد دينك. ولذا قال: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى عبادته وحده لا شريك له وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
قال القاضي: هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم.
أي لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه. فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك. فلا تكن ممن يفعله. أو المراد نهي أمته، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم. كذا في (العناية) .
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي إياه و (الوجه) يعبر به عن الذات كما قال كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن:
26- 27] ، وفي قوله تعالى: هالِكٌ وجوه: حمله على المستقبل، أو هو عرضة للهلاك والعدم، أو هالك في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتيا بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالا. والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي.
لأن وجود غيره كلا وجود. إذ هو في كل آن قابل للعدم. وعن مجاهد والثوريّ (إلا وجهه) أي ما أريد به وجهه. حكاه «1» البخاري في (صحيحه) .
قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا، لست محصيه ... ربّ العباد، إليه الوجه والعمل
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 28- سورة القصص.(7/542)
قال ابن كثير: وهذا القول لا ينافي القول الأول. فإن هذا إخبار عن كل الأعمال، بأنها باطلة، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. انتهى.
وفيه بعد وتكلف يذهب رونق النظم، وماء الفصاحة. لا سيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضا. والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه. وتلك لا تحتمل ذاك المعنى، فكذا هذه لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.(7/543)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العنكبوت
سميت بها لاستشمالها على آية مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] ، الآية، المشير إن من اعتمد على قوة الأصنام وحفظها عن العذاب كالعنكبوت، اعتمدت على قوة بيتها التي لا تحتمل مسّ أدنى الحشرات والرياح، وحفظها عن الحر والبرد. وهذا أتمّ في الدعوة إلى التوحيد الذي هو أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.
وهي مكيّة. واستثني من أولها إلى قوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 11] ، وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ [العنكبوت: 60] ، الآية ويقال إنها آخر ما نزل بمكة. وآيها تسع وستون. قال الداني: متفق عليه.(7/544)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وأظهروا القول بالإيمان، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم. لتمييز المخلص من غير المخلص. كما قال لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] ، وكقوله:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] ، وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] ، وكل هذه الآيات وأمثالها مما نزل بمكة في تثبيت قلوب المؤمنين، وتصبيرهم على ما كان ينالهم.
من أذى المشركين وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من أتباع الأنبياء عليهم السلام، بضروب من الفتن من أعدائهم، كما دوّن التاريخ اضطهادهم. أي فصبروا وما وهنوا لما أصابهم حتى علت كلمة الله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم آمَنَّا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أي فيه: وذلك بالامتحان.
فإن قيل: يتوهم من صيغة الفعل أن علمه حدث، مع أنه قديم. إذ علمه بالشيء قبل وجوده وبعده، لا يتغير. يجاب بأن الحادث هو تعلق علمه بالمعلوم بعد حدوثه.(7/545)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
وقال الناصر: فائدة. ذكر العلم ها هنا، وإن كان سابقا على وجود المعلوم هو التنبيه بالسبب على المسبب. وهو الجزاء كأنه قال تعالى: (ليعلمنهم فليجازينهم بحسب علمه فيهم) .
وقال المهايمي: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ أي يظهر علمه عند خلقه بصدق إيمان الَّذِينَ صَدَقُوا فيه، بدلالة ثباتهم عليه عند المصائب وَلَيَعْلَمَنَّ أي وليظهر علمه بكذب دعوى الْكاذِبِينَ لئلا يشهدوا عنده بإيمان الكاذبين، فينسب في تعذيبهم إلى الظلم. وليثق المؤمنون بمحبة الصادقين، ويستظهروا بها، ويحذروا عن مكر الكاذبين. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 4 الى 7]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أي يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الذي يحكمونه حكمهم مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي في الجنة من رؤيته، والفوز بكرامته فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ وهو الموت لَآتٍ أي فليبادر ما يصدق رجاءه ويحقق أمله من الثبات والتواصي بالحق والصبر والرغبة فيما عنده تعالى. أو المعنى: من كان يرجو لقاء الله، من كل من صدق في إيمانه، وأخلص في يقينه، فاعلم أن أجل الله لآت. وهو الوقت الذي جعله أجلا وغاية لظهور النصر والفتح وعلوّ الحق وزهوق الباطل. أي فلا يستبطئنّه.
فإنه آت بوعد الله الحق وقوله الصدق. ولم أر من ذكره ولعله أنسب بقرينة السياق والسباق. والله أعلم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي السميع لأقوالهم العليم بضمائرهم وأحوالهم وَمَنْ جاهَدَ أي في الصبر على البلاء والثبات على الحق مع ضروب الإيذاء فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي لأنه يمهد لنفسه، ما يجني به ثمرة غرسه إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم.(7/546)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرناه أمرا مؤكدا بإيلاء والديه فعلا ذا حسن عظيم وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي في الشرك، إذا حملاك عليه. ومعنى ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا علم لك بإلهيته. قال القاضي:
عبر عن نفيها بنفي العلم بها، للإيذان بأن ما لم يعلم صحته، لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه. فكيف بما علم بطلانه؟ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك. فأجازيكم حق جزائكم. فيه التحذير من متابعتهما على الشرك والحث على الثبات والاستقامة في الدين، بذكر المرجع والوعيد.
وقد روي أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم، قالت أمه: يا سعد! بلغني أنك قد صبأت. فو الله! لا يظلني سقف بيت من الضحّ والريح.
وإن الطعام والشراب عليّ حرام، حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها. فأبى سعد. وبقيت ثلاثة أيام كذلك. فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه. فنزلت هذه الآية، والتي في لقمان، والتي في الأحقاف. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان
. وروى الترمذي عن سعد «1» قال: نزلت فيّ أربع آيات. فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت، أو تكفر. فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها. فنزلت هذه الآية.
قال ابن كثير: وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا.
وقال الترمذي: حسن صحيح وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال.
قال الزمخشري: والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 29- سورة العنكبوت، حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى.(7/547)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] ، وقال في إبراهيم عليه السلام وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أو المعنى: في مدخل الصالحين وهي الجنة. وهذا نحو قوله تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء: 69] ، الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : آية 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي جعل ما يصيبه في الصرف عن الإيمان من ضروب الإيذاء، بسببه، مثل عذاب الله في الشدة والهول، فيرتد عن الدين. مع أن مقتضى إيمانه أن يصبر ويتشجع ويتلقى ما يناله في الله بالرضا، يرى العذاب فيه عذوبة والمحنة منحة. فإن العاقبة للتقوى وسعادة الدارين لأهلها وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي من التلبيس والإخلاص. وهذه الآية كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج: 22] ، إلى قوله ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [الحج: 12] ، وكقوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 141] ، وقال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ [المائدة: 52] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 11 الى 13]
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي بإخلاصهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ثم بين(7/548)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
تعالى حمل كفار قريش لمن آمن على الكفر بالاستمالة، بعد بيان حملهم لهم عليهم بالأذية، بقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث، فتبعتها علينا وفي رقابنا.
قال ابن كثير: كما يقول القائل افعل كذا وخطيئتك في رقبتي. قال الله تعالى تكذيبا لهم وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وهي أوزار أنفسهم وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي وأوزارا أخر مع أوزار أنفسهم. يعني أوزار الإضلال والحمل على الكفر والصدّ عن سبيل الله. كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ، وفي الصحيح «1» (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا) وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي من الأكاذيب والأباطيل. ثم بين تعالى افتتان الأنبياء بأذية أممهم، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار، تأكيدا الإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء، وحثا لهم على الصبر تأسيا بالأنبياء، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 19]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً أي هذه الحادثة الهائلة موعظة
__________
(1) أخرجه مسلم في: العلم، حديث 16. عن أبي هريرة.(7/549)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
لِلْعالَمِينَ وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي كذبا، في تسميتها آلهة وشركاء لله، وشفعاء إليه إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الذي يزيل كل لبس وما عليه أن يصدقه قومه أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إرشاد إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه مع وضوح دليله، وذلك بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين. فالذي بدأ هذا، قادر على إعادته. فإنه سهل عليه، يسير لديه. فقوله تعالى: ثُمَّ يُعِيدُهُ عطف على (أو لم يروا) لا على (يبدئ) لعدم وقوع الرؤية عليه. فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياسا على الابتداء. وقد جوز العطف على (يبدئ) بتأويل (الإبداء) بإبداء ما يشاهده، كالنبات وأوراق الأشجار وغيرهما. والإعادة بإنشائه تعالى كل سنة، مثل ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما. فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه من غير ريب. فيصحّ حينئذ العطف.
قال الشهاب: لكنه غير ملاق لما وقع في غير هذه الآية.
قال: وبهذا التقرير سقط ما قيل: إن أريد بالرؤية العلم فكلاهما معلوم. وإن أريد الإبصار فهما غير مرئيين. مع أنه يجوز أن يجعل ما أخبر به الله تعالى لتحققه، كأنه مشاهد إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكره، وهو الإعادة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 20 الى 24]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)(7/550)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتّى. فإن ترتيب النظر على السير في الأرض، مؤذن يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي الخلق الآخر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي بعد النشأة الثانية، وهم المنكرون لها وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وهم المؤمنون بها وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي بالتواري في الأرض، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها، لو استطعتم الرقيّ فيها. أو القلاع الذاهبة فيها. فيكون المراد بالسماء ما ارتفع. وقيل: المعنى (ولا من في السماء) فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير (ولا من في السماء بمعجزه) والجملة معطوفة على جملة (أنتم بمعجزين) وفيه تكلف وضعف صناعي وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي يدافع عنكم ما يراد بكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة، بقوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 25 الى 29]
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً(7/551)
أي تتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع. كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف:
38] ، وقال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:
67] ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
تنبيه:
قال السمين: في (ما) من قوله تعالى: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ثلاثة أوجه:
أحدها- أنها موصولة بمعنى (الذي) والعائد محذوف، وهو المفعول الأول وأَوْثاناً مفعول ثان. والخبر (مودة) في قراءة من رفع. والتقدير: إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة، أي ذو مودة، أو جعل نفس المودة مبالغة. ومحذوف على قراءة من نصب (مودة) أي: الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم، أو يكون عليكم، لدلالة قوله: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ.
والثاني- أن تجعل (ما) كافة، و (أوثانا) مفعول به. و (الاتخاذ) ها هنا متعد لواحد. أو لاثنين، والثاني هو (من دون الله) فمن رفع (مودة) كانت خبر مبتدأ مضمر، أي هي مودة أي ذات مودة. أو جعلت نفس المودة مبالغة. والجملة حينئذ صفة ل (أوثانا) أو مستأنفة. ومن نصب كان مفعولا له، أو بإضمار (أعني) .
الثالث- أن تجعل (ما) مصدرية، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول.
أي: أن سبب اتخاذكم أوثانا مودة، فيمن رفع (مودة) ويجوز أن لا يقدر، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة. ومن القراء من رفع (مودة) غير منونة وجرّ (بينكم) ومنهم من نصب (مودة) منوّنة ونصب (بينكم) ومنهم من نصب (مودة) منونة وجرّ (بينكم) . فالرفع تقدم. والنصب تقدم أيضا فيه وجهان. وجوّز ثالث، وهو أن يجعل مفعولا ثانيا عن المبالغة والإضافة، للاتساع في الظرف.
ونقل عن عاصم أنه رفع (مودة) غير منونة ونصب (بينكم) وخرجت على إضافة (مودة) للظرف. وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن.
وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خبرا ل (ما) إن كانت اسمية. وهو وجه لم يتعرض له المعربون هنا، ولا مانع منه.
وعبارته:
إنما اتخذتم من دون الله، شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم (في الحياة الدنيا) أو: إن كل ما اتخذتم من دون الله، شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا، أو: إن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة الدنيا. أو لمودة بينكم في هذه، على القراءتين.(7/552)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
ثم قال: والمعنى أن المودة قسمان: مودة دنيوية، ومودة أخروية. والدنيوية منشؤها النفس، والأخروية منشؤها الروح. فكل ما يحب ويودّ من دون الله، لا لله ولا بمحبة الله، فهو محبوب بالمودة النفسية. وهو هوى زائل، كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج. فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج، تلاشت وبقي التضادّ والتعاند، بمقتضى الطبائع، لقوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ الآية. ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن.
وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية. وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء، لتناسب الصفات، وتجانس الذوات، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب. فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة، بخلاف تلك. انتهى.
فَآمَنَ لَهُ أي صدق إبراهيم فيما دعاه إليه لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ أي من أرض قومي إِلى رَبِّي أي لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي ولدا ونافلة، بمباركة الذرية وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لتحاشي الطباع عنها. ثم فصّلها بعد الإجمال، لزيادة تنفير النفوس منها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث. أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي ما لا يليق من الأقوال والأفعال فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 30 الى 33]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)(7/553)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أي الذين يفسدون كل برهان عقليّ ونقليّ، وكل حكمة إلهية وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي بالبشارة بالولد والنافلة، وهم الملائكة. بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه قالُوا أي لإبراهيم عليه السلام إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي بتنزيلهم الرجال منزلة النساء، وقطع السبل، وفعل المنكر وترك المعروف قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب أو القرية وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا أي المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بشأنهم ذرعه، أي طاقته وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي ممّا يصيبهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 34 الى 38]
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا عظيما من جهتها بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني قصتها العجيبة، أو آثارها الخربة وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي توقعوه، وما سيقع فيه من فنون الأهوال وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي بالبغي على أهلها، كنقص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، فإن عاقبة ذلك الدمار فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي بلدهم أو منازلهم جاثِمِينَ أي هلكى ميتين وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام،(7/554)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
فإنهم أوضحوا السبل، فلم يكن لهم في ذلك عذر، ولكنهم لم يفعلوا، عنادا وكبرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 39 الى 40]
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين الله سبحانه. بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميرا. ولذا قال فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي ريحا عاصفا، فيها حصاء، وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ كمدين وثمود وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي يفعل ما يوجب ذلك، من البغي والفساد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي تعتمد على قوته وتظنه محيطا بها، دافعا عنها الحرّ والبرد وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أي لأنه لا يحتمل مسّ أدنى الحيوانات وأضعف الرياح. ولا يدفع شيئا من الحرّ والبرد. وهذا مثلهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي شيئا ما. أو إن أولياءهم أو هي من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم، وإنه بلغ الغاية فيه، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد. وعلى هذا فقوله: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ تذييل يعرّف الغرض من التشبيه. وقوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إيغال في تجهيلهم. لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة. وإما أن يكون من(7/555)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
تشبيه المفرد، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود. وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بالياء والتاء في (تدعون) قراءتان. و (ما) إما استفهامية منصوبة ب (يدعون) و (من) الثانية للتبيين. أو نافية و (من) مزيدة. و (شيء) مفعول (تدعون) أو مصدرية بمعنى الدعوة و (شيء) مصدر بمعناه أيضا. أو موصولة مفعول ل (يعلم) ومفعول (يدعون) عائده المحذوف. والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل. وعلى الآخرين وعيد لهم. أفاده القاضي وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي ليقرب ما بعد من أفهامهم. فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام وَما يَعْقِلُها أي يدرك حسنها وفوائدها إِلَّا الْعالِمُونَ أي الراسخون في العلم الكاملون فيه. وعن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها، إلا أحزنني. لأني سمعت الله تعالى يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي محقّا مراعيا للحكم والمصالح، مقدسا عن أن يقصد به باطلا.
فالباء للملابسة، والجار والمجرور حال. وهذا كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدخان: 38] ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 45 الى 46]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي تقربا إلى الله تعالى بقراءته، وتحفظا لألفاظه، واستكثارا لما في تضاعيفه من المعاني. فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي تكون سببا للانتهاء عن ذلك. ففيه تجوز في الإسناد. فإن قلت: كم من مصلّ يرتكب ولا تنهاه صلاته! قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله، المستحق بها الثواب، أن يدخل فيها مقدما للتوبة النصوح متقيا، لقوله تعالى:
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح. ثم يحوطها بعد(7/556)
أن يصليها، فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.
عن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. أفاده الزمخشريّ. وقوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ قال الزمخشري: أي: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ، وإنما قال (ولذكر الله) ليستقل بالتعليل. كأنه قال: وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما، أكبر. فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ولذكر الله إياكم برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. انتهى. ف (ذكر) على الأولين مصدر مضاف للمفعول. وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل، والمفعول محذوف. والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات. وفي الأخير قوله (من ذكركم) .
وقال الرازي: لما ذكر تعالى أمرين، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة، بيّن ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة، تنبشون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم. لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم. وأما الصلاة فكذلك. لأن الله يعلم ما تصنعون. وهذا أحسن صنعكم.
فينبغي أن يكون على وجه التعظيم. وفي قوله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مع حذف بيان ما هو أكبر منه، لطيفة. وهي أن الله لم يقل: أكبر من ذكر فلان، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة. إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال: هذا الجبل أكبر من هذا الجبل. فأسقط المنسوب كأنه قال (ولذكر الله له الكبر لا لغيره) وهذا كما يقال في الصلاة (الله أكبر) أي له الكبر لا لغيره. انتهى.
ولما بيّن تعالى طريقة إرشاد المشركين، ونفع من انتفع، وحصول اليأس ممن امتنع، بيّن طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالخصلة التي هي أحسن. وهي اللين والأناة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي بالاعتداء، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف، لتنكبهم عن جادة اللطف. وهذا كما قال تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ(7/557)
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
[النساء: 148] ، وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون له خاصة. وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
قال ابن كثير: يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا يقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا. ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلا. ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط. وهو أن يكون منزلا، لا مبدلا مؤوّلا. وروى البخاري «1» عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم.
وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون. وهذا الحديث تفرد به البخاري.
وروى الإمام أحمد «2» عن أبي نملة الأنصاري مرفوعا: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله. فإن كان حقّا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم. ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان. لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل. وما أقل الصدق فيه. ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحا.
روى البخاري «3» عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث. تقرؤونه محضا لم يشب.
وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيّروا، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا، والله! ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري «4» : وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري. أخبرني حميد
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الاعتصام، 25- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» ، حديث 1966
. (2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/ 136.
(3) أخرجه في: الشهادات، 29- باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة عبرها، حديث رقم 1300.
(4)
أخرجه البخاري في: الاعتصام، 25- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» ، حديث 2595.(7/558)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
ابن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة. وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب.
وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد. لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة. لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة. ومع ذلك، وقرب العهد، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله عز وجل. ومن منحه الله علما علم بذلك كل بحسبه. ولله الحمد والمنة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 47 الى 48]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي: مثل ذلك الإنزال، أنزلنا إليك الكتاب. أي أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ أي العرب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لما يكفل سعادة الدارين في شرائعه وقضاياه، على أميّ لم يعرف بالقراءة والتعلم، خارق للعادة. وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي، ونفي للتجوز في الإسناد إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت ممن يخط ويقرأ، لقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده، من كتب مأثورة عن الأنبياء.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. وفيها ردّ على من زعم أنه كتب. انتهى.
وقال ابن كثير: وهذه صفته في الكتب المتقدمة. كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ، الآية. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده. بل كان له كتّاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم، من متأخري الفقهاء، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه، أنه(7/559)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فإنما حمله على ذلك رواية «1» في صحيح البخاري (ثم أخذ فكتب) وهذه محمولة على الرواية الأخرى (ثم أمر فكتب) ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه. أنه كتب ذلك على وجه المعجزة. لا أنه كان يحسن الكتابة. وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. انتهى.
وقال الشهاب: وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة، أبو ذرّ الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة. وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منبه. ولما قال أبو الوليد ذلك، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف. فأجابوا بما يوافقه.
وأن معرفة الكتابة بعد أميّته لا تنافي المعجزة. بل هي معجزة أخرى، لكونها من غير تعليم.
ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح «2»
(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)
وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله (كتب) فمعناه أمر بالكتابة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 49 الى 50]
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
بَلْ هُوَ أي القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي العلماء به وحفاظه. وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور، يتلوه أكثر الأمة ظاهرا. بخلاف سائر الكتب. فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة (صدورهم
__________
(1) أخرجه في: الشروط، 15- باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، حديث 881 و 882 عن المسوّر بن مخرمة ومروان.
(2)
أخرجه البخاري في: الصوم، 13- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكتب ولا نحسب» ، حديث 968، عن ابن عمر
.(7/560)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
أناجيلهم) . كذا في الكشاف. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو يملك إنزالها، ولو شاء لفعل وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته، لا الإتيان بما تقترحونه. ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب، غنية عن كل آية مقترحة. لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية، إلى الآيات العلمية، وفاقا لسنة الترقي، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 الى 56]
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أي آية مغنية عما اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أي وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه، وكابر حسه إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة لَرَحْمَةً أي لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق وإلى صراط مستقيم وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي تذكرة لقوم، همهم الإيمان دون التعنت قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب. يعني. كفى علمه بذلك. وجوز أن يكون المعنى شهيدا بصدقي بالتأييد والحفظ، أي هو شاهد على ما جئت به، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي.
قال ابن كثير: أي فلو كنت غير محقّ، لانتقم مني، كما قال تعالى(7/561)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47] ، وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به. ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات. انتهى يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا يخفى عليه حالي وحالكم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي استهزاء وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى أي لكل عذاب أو قوم، وهو وقته المعين له فيهما لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أي عاجلا وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أي فجأة في الدنيا. كوقعة بدر. فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين. أو في الآخرة عند نزول الموت بهم يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي ستحيط بهم. أي يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة. أو هي كالمحيطة بهم. لأن كل آت قريب.
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاءه يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه، لإيذائه في الله واضطهاده في جانبه، أن يهاجر عنها إلى بلد ما، يقدّر أنه فيه أسلم قلبا، وأصح دينا، وآمن نفسا. وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة، كيلا يفتنه الكافرون. أو يعرض نفسه للتهلكة، وقد جعل له منها مخرج. وكون أرض الله واسعة، مذكور للدلالة على المقدر. وهو كالتوطئة لما بعده. لأنها مع سعتها، وإمكان التفسح فيها، لا ينبغي الإقامة بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده. كما قيل:
وكل مكان ينبت العز طيب وقال آخر:
إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي، وكلّ العالمين أقاربي
وقد روى الإمام «1» أحمد عن الزبير: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البلاد بلاد الله والعباد عباد الله. فحيثما أصبت خيرا فأقم
. ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها، عند ملكها النجاشيّ رحمه الله. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
__________
(1) أخرجه في مسنده 1/ 166. حديث رقم 1420.(7/562)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
الباقون إلى المدينة المنورة، عملا بالآية الكريمة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 57 الى 61]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى. أو تسلية للمهاجر إلى الله، وتشجيع له، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها. فلا المقام بأرضه يدفعه، ولا هجرته عنه تمنعه. وفيه استعارة بديعة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم، مرّه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا أي على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه، من الفقر والضيعة، بقوله سبحانه وَكَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي يقيّض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم. فهو الميسّر والمسهّل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه. فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى، بل خيره عامّ وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنّى وجدوا. وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار. وهذا معنى ما
ورد مرفوعا (سافروا تصحوا وتغنموا) رواه البيهقيّ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي اعترافا بأنه المنفرد بخلقها فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحده، ويشركون بها ما لا يضر ولا ينفع. وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك.(7/563)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 62 الى 64]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي فيفعل بعلمه، ما تقتضيه حكمته. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده. وأنه أظهر حجتك عليهم. والمعنى: احمد الله عند جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نعم لا تحصى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليه، ويعبدون غيره. وقوله: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها، وكونها في سرعة زوالها، وتقضّي أمرها، كما يلهّى ويلعب به الصبيان، ثم يتفرقون عنه. ولا ثمرة إلا التعب. ففي الحصر تشبيه بليغ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي دار الحياة الخالدة. ففيه مضاف مقدر. و (الحيوان) مصدر سمّي به ذو الحياة، في غير هذا المحل. وإيثاره على (الحياة) لما فيه من المبالغة. لأن (فعلان) بالفتح في المصادر الدالة على الحركة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة. وهذا جواب الشرط المقدر، لعلمه من السياق. وكونها للتمني بعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 67]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الدعاء. لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي من نعمة النجاة وربح التجارة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة ذلك حين يعاقبون(7/564)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أَوَلَمْ يَرَوْا أي أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي لا يغزى أهله، ولا يغار عليهم، مع قلتهم وكثرة العرب وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي يختلسون قتلا ونهبا وسبيا أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أي: أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، يكفرون خيره، ويشركون معه غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة العنكبوت (29) : الآيات 68 الى 69]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني الرسول أو الكتاب أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي موضع إقامة، جزاء افترائهم وكفرهم. بلى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين، من أجلنا ولوجهنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا. وذلك بالطاعات والمجاهدات وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي: أعمالهم بالنصر والمعونة.
تم الجزء السابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن وفيه:
(30- سورة الروم، 31- سورة لقمان، 32- سورة السجدة، 33- سورة الأحزاب، 34- سورة سبأ، 35- سورة فاطر، 36- سورة ياسين، 37- سورة الصافات، 38- سورة ص، 39- سورة الزمر، 40- سورة غافر، 41- سورة فصلت، 42- سورة الشورى، 43- سورة الزخرف، 44- سورة الدخان، 45- الجاثية، 46- سورة الأحقاف، 47- سورة محمد صلى الله عليه وسلم، 48- سورة الفتح، 49- سورة الحجرات) .(7/565)
فهرس الجزء السابع
سورة الكهف الآيات 1- 3 4 الآية 4 5 الآيتان 5 و 6 6 الآيات 7- 10 7 الآيات 11- 13 8 الآية 14 9 الآيتان 15 و 16 10 الآية 17 11 الآية 18 12 الآية 19 13 الآية 20 14 الآية 21 15 الآية 22 18 الآيتان 23 و 24 22 الآيتان 25 و 26 24 الآية 27 26 الآية 28 29 الآية 29 30 الآيات 30- 34 32 الآيتان 35 و 36 33 الآيتان 37 و 38 34 الآيات 39- 41 35 الآيتان 42 و 43 36 الآية 44 37 الآية 45 38 الآية 46 39 الآيتان 47 و 48 40 الآية 49 41 الآيتان 50 و 51 42 الآيتان 52 و 53 43 الآيات 54- 56 44 الآيتان 57 و 58 45 الآيتان 59 و 60 46 الآيات 61- 63 47 الآيات 64- 68 48 الآيات 69- 72 49(7/567)
الآيات 73- 76 50 الآيتان 77 و 78 51 الآيات 79- 82 52 الآيات 83- 86 64 الآيات 87- 90 65 الآيات 91- 95 66 الآيات 96- 98 67 الآيات 99- 101 78 الآية 102 79 الآيات 103- 109 80 الآية 110 82 سورة مريم الآيات 1- 4 84 الآيتان 5 و 6 85 الآيات 7- 9 86 الآيتان 10- 11 87 الآيات 12- 16 88 الآيات 17- 20 89 الآيتان 21 و 22 90 الآيات 23- 25 91 الآيات 26- 28 92 الآيات 29- 36 93 الآيتان 37 و 38 97 الآيات 39- 42 99 الآيات 43- 45 100 الآيتان 46 و 47 101 الآيتان 48 و 49 102 الآيات 50- 55 103 الآيات 56- 58 104 الآية 59 105 الآيات 60- 63 106 الآيات 64- 66 107 الآيات 67- 70 108 الآيات 71- 73 109 الآيات 74- 76 110 الآيات 77- 80 111 الآيات 81- 83 112 الآيات 84- 87 113 الآيات 88- 93 114 الآيات 94- 97 115 الآية 98 116 سورة طه الآيات 1- 3 118 الآيات 4- 7 119(7/568)
الآيات 8- 12 120 الآيات 13- 15 121 الآيات 16- 18 122 الآيات 19- 24 123 الآيات 25- 37 124 الآيات 38- 40 125 الآيتان 41 و 42 126 الآيات 43- 46 127 الآيات 47- 52 128 الآية 53 129 الآيات 54- 60 130 الآيات 61- 63 131 الآية 64 133 الآيات 65- 71 134 الآيتان 72 و 73 135 الآيات 74- 76 136 الآيات 77- 79 138 الآيات 80- 82 139 الآيات 83- 85 140 الآيات 86- 88 141 الآيات 89- 93 142 الآيات 94- 97 143 الآية 97 144 الآية 98 145 الآيات 99- 103 146 الآية 104 147 الآيات 105- 109 148 الآيات 110- 114 149 الآيات 115- 117 150 الآيتان 118 و 119 151 الآيات 120- 123 152 الآيات 124- 127 153 الآيتان 128 و 129 164 الآية 130 165 الآية 131 166 الآية 132 167 الآية 133 168 الآيتان 134 و 135 171 سورة الأنبياء الآيتان 1 و 2 173 الآية 3 176 الآيات 4- 6 177 الآيتان 7 و 8 178 الآيتان 9 و 10 179(7/569)
الآيات 11- 16 180 الآيتان 17 و 18 181 الآيات 19- 21 182 الآية 22 183 الآيتان 23 و 24 187 الآيات 25- 27 188 الآيتان 28 و 29 189 الآية 30 190 الآية 31 191 الآيتان 32 و 33 192 الآيتان 34 و 35 193 الآيتان 36 و 37 194 الآيات 38- 41 195 الآيتان 42 و 43 196 الآيات 44- 45 197 الآيات 46- 49 198 الآيات 50- 52 199 الآيات 53- 57 200 الآيات 58- 63 201 الآية 64 202 الآيات 65- 67 203 الآيتان 68 و 69 204 الآيات 70- 73 205 الآيات 74- 77 206 الآيتان 78 و 79 207 الآية 80 211 الآيتان 81 و 82 212 الآيتان 83 و 84 213 الآيتان 85 و 86 214 الآيتان 87 و 88 215 الآيتان 89 و 90 219 الآية 91 220 الآيتان 92 و 93 221 الآيتان 94 و 95 222 الآيتان 96 و 97 223 الآيات 98- 103 224 الآيات 104- 107 225 الآيات 108- 112 227 سورة الحج الآية 1 230 الآيتان 2 و 3 231 الآيتان 4 و 5 232 الآيتان 6 و 7 233 الآيات 8- 10 234(7/570)
الآيتان 11 و 12 235 الآيتان 13 و 14 236 الآيات 15- 17 237 الآيتان 18 و 19 238 الآيات 20- 25 239 الآيات 26- 28 240 الآيات 29- 31 242 الآية 32 245 الآيتان 33 و 34 246 الآيتان 35 و 36 247 الآيتان 37 و 38 248 الآيتان 39 و 40 249 الآيات 41- 44 250 الآيتان 45 و 46 251 الآيتان 47 و 48 252 الآيات 49- 51 253 الآيات 52- 54 254 الآيتان 55 و 56 270 الآيات 57- 60 271 الآيات 61- 65 272 الآيتان 66 و 67 273 الآيات 68- 74 274 الآيتان 75 و 76 275 الآية 77 276 الآية 78 278 سورة المؤمنون الآيات 1- 7 281 الآيات 8- 11 283 الآيات 12- 17 284 الآيات 18- 20 285 الآيتان 21 و 22 286 الآيات 23- 25 287 الآيات 26- 30 288 الآيات 31- 41 289 الآيات 42- 48 290 الآيات 49- 51 291 الآيات 52- 56 292 الآيات 57- 61 293 الآيتان 62 و 63 294 الآيات 64- 67 295 الآيات 68- 70 296 الآيات 71- 74 297 الآيتان 75 و 76 298 الآيات 77- 81 299(7/571)
الآيات 82- 89 300 الآيات 90- 100 301 الآية 101 302 الآيات 102- 104 303 الآيات 105- 114 304 الآيات 115- 118 305 سورة النور الآية 1 308 الآية 2 310 الآية 3 322 الآيتان 4 و 5 327 الآيتان 6 و 7 332 الآيات 8- 10 333 الآية 11 336 الآيتان 12 و 13 337 الآيتان 14 و 15 338 الآيات 16- 19 339 الآيات 20- 22 240 الآيات 23- 25 241 الآية 26 342 الآيتان 27 و 28 368 الآيتان 29 و 30 370 الآية 31 374 الآية 32 380 الآية 33 382 الآية 34 385 الآية 35 386 الآيات 36- 38 390 الآية 39 392 الآية 40 393 الآيتان 41 و 42 398 الآيتان 43 و 44 399 الآيات 45- 50 400 الآيات 51- 53 401 الآية 54 402 الآيات 55- 57 403 الآية 58 404 الآية 59 405 الآية 60 406 الآية 61 407 الآية 62 411 الآية 63 412 الآية 64 414(7/572)
سورة الفرقان الآية 1 416 الآيات 2- 5 417 الآية 6 418 الآيتان 7 و 8 419 الآيات 9- 11 420 الآيات 12- 14 421 الآيات 15- 18 422 الآيتان 19 و 20 423 الآيات 21- 23 424 الآيات 24- 30 425 الآية 31 426 الآيات 32- 36 427 الآيات 37- 42 428 الآيتان 43 و 44 429 الآيات 45- 49 430 الآيات 50- 52 431 الآية 53 432 الآيات 54- 57 433 الآيتان 58 و 59 434 الآيات 60- 62 435 الآيات 63- 66 436 الآيات 67- 70 437 الآية 71 443 الآيتان 72 و 73 444 الآيات 74- 77 445 سورة الشعراء الآيات 1- 4 448 الآيات 5- 9 449 الآيات 10- 19 450 الآيات 20- 25 451 الآيات 26- 28 452 الآيات 29- 39 455 الآيات 40- 50 456 الآيات 51- 58 457 الآيات 59- 63 458 الآيات 64- 81 459 الآيات 82- 84 461 الآيات 85- 89 462 الآيات 90- 94 463 الآيات 95- 104 464 الآيات 105- 112 465 الآيات 113- 128 466 الآيات 129- 135 467(7/573)
الآيات 136- 146 468 الآيات 147- 166 469 الآية 167 470 الآيات 168- 172 471 الآيات 173- 176 472 الآيات 177- 188 473 الآيات 189- 191 474 الآيات 192- 197 475 الآيات 198- 213 476 الآيات 214- 222 477 الآيات 223- 226 478 الآية 226 479 الآية 227 480 سورة النمل الآيات 1- 3 484 الآيات 4- 8 485 الآيات 9- 12 487 الآيات 13- 16 488 الآيات 17- 25 489 الآية 26 490 الآيات 27- 35 491 الآيات 36- 42 492 الآيتان 43 و 44 494 الآيات 45- 47 496 الآيات 48- 59 497 الآيات 60- 63 500 الآيتان 64 و 65 501 الآية 66 502 الآيات 67- 70 503 الآيات 71- 76 504 الآيات 77- 81 505 الآية 82 506 الآيتان 83 و 84 507 الآيات 85- 89 508 الآيات 90- 93 511 سورة القصص الآيات 1- 8 514 الآيات 9- 11 515 الآيات 12- 17 516 الآيات 18- 23 517 الآيتان 24 و 25 518 الآيات 26- 28 519 الآيات 29- 32 520 الآيات 32- 35 521(7/574)
الآيات 36- 38 522 الآيات 39- 43 523 الآيات 44- 48 524 الآيتان 49 و 50 525 الآيات 51- 55 526 الآيات 56- 58 528 الآيات 59- 66 530 الآيات 66- 68 531 الآيات 69- 72 535 الآيات 72- 76 536 الآيات 77- 82 537 الآيات 83- 85 540 الآيتان 85 و 86 541 الآيتان 87 و 88 542 سورة العنكبوت الآيات 1- 3 545 الآيات 4- 7 546 الآيتان 8 و 9 547 الآيات 10- 13 548 الآيات 14- 19 549 الآيات 20- 24 550 الآيات 25- 29 551 الآيات 30- 33 553 الآيات 34- 38 554 الآيات 39- 44 555 الآيتان 45 و 46 556 الآيتان 47 و 48 559 الآيتان 49 و 50 560 الآيات 51- 56 561 الآيات 57- 61 563 الآيات 62- 67 564 الآيتان 68 و 69 565(7/575)
الجزء الثامن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الروم
قال المهايميّ: سميت بها لاشتمال قصتها على معجزة تفيد للمؤمنين فرحا عظيما، بعد ترح يسير. فتبطل شماتة أعدائهم. وتدل على أن عاقبة الأمر لهم. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مكية. وآيها ستون آية.(8/3)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام وفتح دمشق وبيت المقدس، الأولى سنة 613، والثانية سنة 614. أي قبل الهجرة النبوية بسبع سنين- فحدث أن بلغ الخبر مكة. ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب. ونحن وفارس وثنيون. وقد ظهر إخواننا على إخوانكم. ولنظهرنّ عليكم. فنزلت الآية، فتليت على المشركين.
فأحال وقوع ذلك بعضهم. وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص، إن وقع مصداقها. فلم يمض من البضع- وهو ما بين الثلاث إلى التسع- سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621. أي قبل الهجرة بسنة.
فدوّخها، واضطر ملكها للهرب. وعاد هرقل بالغنائم الوافرة. ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن. أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه، واستبان للجاحدين من نوره إشراقه. وفي ضمنه، أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله، وزهوق الباطل، وعلوّ الحق، وجعل المستضعفين أئمة، وإيراثهم أرض عدوّهم، إلى غير ذلك. وما ألطف ما قال الزبير الكلائيّ: رأيت غلبة فارس الروم. ثم رأيت غلبة الروم فارس. ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم. كل ذلك في خمس عشرة سنة- من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين- والأرض (كما قال الزمخشريّ) أرض العرب. لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب أي أقربها منهم، وهي أطراف الشام لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غلبة فارس(8/4)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
على الروم وَمِنْ بَعْدُ أي من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال: لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق، ومن بعد إفناء الخلق. والمعنى: أن كلا من كونهم مغلوبين أولا، وغالبين آخرا، ليس إلا بأمره وقضائه، وعلمه ومشيئته. كما قال تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] ، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أي تغليبه من له كتاب، على من لا كتاب له. وغيظ من شمت بهم من كفار مكة.
ويقال: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي من عباده على عدوّه وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القاهر الغالب على أمره، لا يعجزه من شاء نصره الرَّحِيمُ أي من نصره وتغليبه من يشاء وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي بحكمته تعالى، في كونه وأفعاله المحكمة، الجارية على وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 7 الى 8]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ أي التي هي المطلب الأعلى هُمْ غافِلُونَ أي لا يخطرونها ببالهم. فهم جاهلون بها تاركون لعملها.
لطائف:
قال الزمخشريّ: قوله تعالى يَعْلَمُونَ بدل من قوله (لا يعلمون) وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا.
وقوله ظاهِراً يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا. فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها. وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. انتهى.
وناقش الكرخيّ في إبدال يَعْلَمُونَ قال: إن الصناعة لا تساعد عليه. لأن بدل فعل مثبت، من فعل منفيّ لا يصح. واستظهر قول الحرفيّ أن يَعْلَمُونَ استئناف في المعنى.(8/5)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير ظاهِراً تقليلا لمعلومهم. وتقليله يقربه من النفي. فيطابق المبدل منه.
أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشريّ (وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا، من جملة الظواهر) .
أما قول أبي السعود: وتنكير ظاهِراً للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم، فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.
ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، ذكره لزيادة التصوير. إذ الفكر لا يكون إلا في النفس. والتفكر لا متعلق له، لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول (يتفكروا) لأنه يتعدى ب (في) أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بقول أو علم، يدل عليه السياق. أي:
ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا. وقال السمين: (ما) نافية. وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما- أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني- أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله بِالْحَقِّ للملابسة. أي ما خلقها باطلا ولا عبثا بغير حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة. وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي وبتقدير أجل مسمى، لا بدّ لها من أن تنتهي إليه. وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 9 الى 12]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ(8/6)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ
أي قلبوها للزراعة واستخراج المعادن وغيرهما، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي بالأبنية المشيدة.
والصناعات الفريدة، ووفرة العدد والعدد، وتنظيم الجيوش والتزيّن بزخارف أعجبوا بها، واستطالوا بأبهتها. ففسدت ملكاتهم، وطغت شهواتهم، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم، كما قال: وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم. فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي عملوا السيئات السُّواى أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم. والسُّواى تأنيث (الأسوأ) ، وهو الأقبح. كما أن (الحسنى) تأنيث (الأحسن) ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى أَنْ أي لأن كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد الموت بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى موقف الحساب والجزاء وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون متحيرين يائسين. يقال (أبلس) إذا سكت وانقطعت حجته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 13 الى 18]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي يجيرونهم من عذاب الله كما كانوا يزعمون وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى، حيث وقفوا على كنه أمرهم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز المؤمنون والكافرون في المحالّ والأحوال فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي يسرّون وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ لما ذكر الوعد والوعيد، تأثره بما هو(8/7)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وسيلة للفوز والنجاة، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والثناء عليه بصفاته الجميلة، وأداء حق العبودية، و (الفاء) للتفريع فكأنه قيل: إذا صحّ واتضح عاقبة المطيعين والعاصين، فقولوا: نسبح سبحان إلخ. والمعنى فسبحوه تسبيحا دائما. (وسبحان) خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده. أي الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته. وقوله تعالى وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وتقديمه على حِينَ تُظْهِرُونَ لمراعاة الفواصل. وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ معترض بينهما. والمراد بثبوت حمده فيهما، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلهما. قال أبو السعود: والإخبار بثبوت الحمد له ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده. وتوسيطه بين أوقات التسبيح، للاعتناء بشأنه، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما. كما ينبئ عنه قوله تعالى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ، وقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس: (تمسون) صلاة المغرب والعشاء. و (تصبحون) صلاة الفجر. و (عشيا) صلاة العصر و (تظهرون) صلاة الظهر. فإن قيل: لم غيّر الأسلوب في (عشيا) ؟
أجيب (كما قال أبو السعود) بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشيّ. كالمساء والصباح والظهيرة. ولعل السرّ في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس، وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها، والدخول فيها، كالأوقات المذكورة. فإن كلا منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا. أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة. كما مرّ في سورة النور. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 19 الى 21]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالنطفة والبيضة من الحيوان وَيُحْيِ الْأَرْضَ أي بالنبات(8/8)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ أي من قبوركم.
وقال المهايميّ: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، من طريق الإشارة وَمِنْ آياتِهِ أي الباهرة الدالة على قدرته على البعث أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي يعني أصلكم آدم عليه السلام. أو النطفة والمادة. أو على تقدير مضاف. أي ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي في الأرض انتشارا ملأ البسيطة وشمل الكرة. فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة. كل بحسبه. فسبحان من خلقهم وسيّرهم، وصرّفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي جنسكم أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضامّ والتعارف وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي توادّا وتراحما بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي أولي العلم كما قال: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] ،(8/9)
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي لاستراحة القوى وردّ ما فقدته وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي سماع تفهم واستبصار وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً أي من الصاعقة وَطَمَعاً أي في الغيث والرحمة. أو لتخافوا من قهر سلطانه، وتطمعوا في عظيم إحسانه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ أي بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب. وليس المراد بإقامتهما إنشاؤهما. لأنه قد بيّن حاله بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 22] ، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل. فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به. تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان: 10] الآية. بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8] ، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا، فقيل: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السموات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما. ثم إذا دعاكم. أي بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال:
أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها، وذلك قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: 108] ، انتهى.
لطائف:
الأولى- الدعاء. إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل. شبّه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه. أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.
الثانية- قوله تعالى مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب (دعا) كقوله: دعوته من أسفل(8/10)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الوادي فطلع إليّ، لا ب (تخرجون) لأن ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.
الثالثة- قال الكرخيّ: قال هنا إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وقال في خلق الإنسان ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] ، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر. وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج. فلم يقل هنا: (ثم) . انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقا وملكا وتصرفا كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد موتهم.
قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي من البدء. أي بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين. لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها. وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.
لطائف:
الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة ب (أن يعيد) .
الثانية- قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وقدمت في قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9 و 12] ؟ قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزّه. فقيل هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9 و 21] ، وإن كان مستصعبا عند كم أن يولد بين همّ وعاقر. وأما هاهنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبنيّ على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغيّر المعنى.
قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر. وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.
الثالثة- قال الزمخشريّ: فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ [الروم: 25] ، حتى كأنها فضلت على قيام السموات والأرض بأمره، ثم(8/11)
هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة. لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.
قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها ب (ثم) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها. وقوله (في الجواب) : إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص. فن الإعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السموات والأرض بأمره. وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة. فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء.
ويعود الإشكال. والمخلص، والله أعلم، جعل (ثم) على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب. وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا. وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب.
فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم.
انتهى.
وفي حواشي القاضي: إن (ثم) إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها. أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزمانيّ. والمراد عظمه في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه. فلا ينافي قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وكونه أعظم من قيام السماء والأرض، لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات. وهو المقصود من خلق الأرض والسموات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثريّ لا كلّي. كما صرح به الطيبيّ هنا. فلا امتناع فيما منعه. وهي فائدة نفيسة.
ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزمانيّ والرتبيّ كما في (شرح الكشاف) وقوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما. كالقدرة العامة والحكمة التامة. وذلك لأنّه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا. فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة. فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند. وقال الزجاج: المراد بالمثل قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فاللام فيه للعهد. فحمل المثل على ظاهره. وعلى ما ذكر أولا، هو مجاز عن الوصف العجيب. فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل. وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته الْحَكِيمُ الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.(8/12)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي يتبيّن به بطلان الشرك مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منتزعا من أحوالها. وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من العبيد والإماء مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي من الأموال وغيرها فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية تَخافُونَهُمْ أي تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم. وهو خبر آخر ل (أنتم) كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف بعضكم بعضا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر. والمعنى نفي مضمون ما فصّل من الجملة الاستفهامية. أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى.
فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يقين وبرهان فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي سبب صرف اختياره إلى كسبه. أي: لا يقدر على هدايته أحد وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي فقوّمه له، واجعله مستقيما متوجها له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ورعاية حقوقه وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد(8/13)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه حَنِيفاً أي مائلا عن كل ما سواه، إليه. قال المهايميّ: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث. ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة. لكن لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال ذلِكَ أي الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايميّ:
وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أنه مقتضى الفطرة. وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب. لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار. وقوله تعالى مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه بالتوبة والإنابة وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135] ، وهو حال من فاعل (الزموا) المقدّر ناصبا ل (فطرة) أو من فاعل (أقم) على المعنى. إذ لم يرد به واحد بعينه. أو لأن الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم ولأمته. أو على أنه على حذف المعطوف عليه. أي: أقم أنت وأمتك. والحال من الجميع وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي جعلوه أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقا.
قال القاشانيّ: يعني المفارقين الدين الحقيقيّ، المتفرقين شيعا مختلفة، كل حزب عند تكدّر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه. فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد. ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.
ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، مما يحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 36]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)(8/14)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه وحده دون شركائهم ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من تلك الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة. واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي كقوله تعالى فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي عاقبة تمتعكم ووباله أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة واضحة قاهرة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ أي تكلم دلالة. كما في قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] ، بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بإشراكهم. وهذا استفهام إنكار. أي: لم يكن شيء من ذلك وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من صحة وسعة فَرِحُوا بِها أي بطرا وفخرا، لا حمدا وشكرا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من المعاصي والآثام إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي ييأسون من روح الله.
قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلّا من عصمه الله تعالى ووفقه. فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر وقال ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] ، أي يفرح في نفسه، يفخر على غيره. وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود: 11] ، أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح «1» : عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : آية 37]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال الزمخشريّ: أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض. فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟
ولما بيّن تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:
__________
(1) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث رقم 64. [.....](8/15)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 39]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من البر والصلة. واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب. لأن (آت) أمر للوجوب. والظاهر من (الحق) بقرينة ما قبله أنه ماليّ، وهو استدلال متين وَالْمِسْكِينَ وهو الذي لا شيء له ينفق عليه. أو له شيء لا يقوم بكفايته وَابْنَ السَّبِيلِ أي السائل فيه، والذي انقطع به. وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي النظر إليه يوم القيامة. وهو الغاية القصوى. أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد. كما قال تعالى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل: 18- 20] ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي في الدنيا والآخرة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً أي مال ترابون فيه لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي ليزيد في أموالهم، إذ تأخذون فيه أكثر منه فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه. بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال. وذكر في تفسيرها معنى آخر، وهو أن يهب الرجل للرجل، أو يهدي له ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى. فليست تلك الزيادة بحرام. وتسميتها ربا مجاز، لأنها سبب الزيادة.
قال ابن كثير: وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه. إلا أنه نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة، قال الضحاك، واستدل بقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 6] ، أي لا تعط العطاء، تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل، يريد فضلها وإضعافها.
انتهى.
وأقول: في ذلك كله نظر من وجوه:
الأول- أن هذه الآية شبيهة بآية يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة:
276] ، وهي في ربا البيع الذي كان فاشيا في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال(8/16)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
البشريّ. فنعى عليهم حالهم، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه. ثم أكّد ذلك في مثل هذه الآية. مبالغة في الزجر.
الثاني- أن الربا، على ما ذكر، مجاز. والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع، أو العقل. ولا واحد منهما هنا، إذ لا موجب له.
الثالث- دعوى أن الهبة المذكورة مباحة، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية- بعيدة غاية البعد. لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصافّ المحرمات. ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية، كما تقرر في موضعه.
الرابع- زعم أن المنهيّ عنه هو الحضرة النبوية خاصة، لا دليل عليه إلّا ظاهر الخطاب. وليس قاطعا.
لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق. لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته، وحمله على المجاز لا يكون إلا بدليل، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل- لأنا نقول:
الأصل في التشريعات العموم، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص، وليس منه شيء هنا. وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعا. كآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ، وأمثالها.
الخامس- أن في هذا المنهيّ عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفّاء، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم، ما يبيّن أنه شامل لسائرهم. لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم. بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه، والمراد غيره، كما قالوه في كثير من الآي- لم يبعد. لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق، في سيرته الزكيّة. وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول، وعليه المعوّل. والله أعلم وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي مال تتزكون به من رجس الشح ودنس البخل تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي ذوو الأضعاف من الثواب. جمع (مضعف) اسم فاعل (من أضعف) إذا صار ذا ضعف، (بكسر فسكون) بأن يضاف له ثواب ما أعطاه. (كأقوى وأيسر) إذا صار ذا قوة ويسار. فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله. أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا. على أنه من (أضعف) والهمزة للتعدية، ومفعوله محذوف، وهو ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)(8/17)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قال القاضي: أثبت له تعالى لوازم الألوهية، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها. مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق. ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 43]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض وعلى ظهر السفن في لجج البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي من الآثام والموبقات ففشا الفساد وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اللام للعاقبة. أي ظهور الشرور بسببهم، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم، إرادة الرجوع. وقيل اللام للعلة، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه. كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:
30] ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أي فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ أي لا يقدر أحد على ردّه.
وقوله مِنَ اللَّهِ متعلق ب (يأتي) أو ب (مردّ) لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى، لتعلق إرادته بمجيئه. وفيه انتفاء رد غيره بطريق برهانيّ. وقيل عليه، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف. وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه. كما في الحديث (لا مانع لما أعطيت) يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون كالفراش المبثوث، أو فريق في الجنة وفريق في السعير كقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] .(8/18)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 44 الى 45]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره. قال الزمخشريّ: كلمة جامعة، لما لا غاية وراءه من المضارّ. لأن من كان ضارّه كفره، فقد أحاطت به كل مضرة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يسوّون منزلا في الجنة. أي يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 47]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ أي في البحر عند هبوبها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هذه تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له والوعيد لمن عصاه.
قال الزمخشريّ: في قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
تعظيم للمؤمنين. ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية. حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 50]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)(8/19)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ إما سائرا وواقفا، مطبقا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا تارة أخرى فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي المطر مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي لآيسين. قال الزمخشريّ: من قبله، من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها [الحشر: 17] ، ومعنى التوكيد فيه، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم. فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.
وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال: إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية من الإبلاس إلى الاستبشار.
قال الشهاب: وما ذكره ابن عطية أقرب. لأن المتبادر من القبيلة الاتصال.
وتأكيده دال على شدة اتصاله فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ أي العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 53]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً على الزرع فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي من تأثيرها فيه لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي من بعد اصفراره يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه. وفيه من ذمهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم- ما لا يخفى.
ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى، بقوله سبحانه فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي لما أن هؤلاء مثلهم، لانسداد مشاعرهم عن الحق وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قال أبو السعود: تقييد الحكم بما ذكر، لبيان كمال سوء حال الكفرة والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، نبوّ(8/20)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه. ولو كان فيهم إحداهما، لكفاهم ذلك. فكيف وقد جمعوهما؟ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون لما تأمرهم به من الحق.
تنبيه:
قال ابن كثير: وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، على توهيم «1» عبد الله بن عمر في رواية مخاطبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم.
حتى قال له عمر: يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول، منهم. ولكن لا يجيبون. وتأولته عائشة على أنه قال:
إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته، تقريعا وتوبيخا ونقمة.
ثم قال ابن كثير: والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة. من أشهر ذلك، ما
رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)
. انتهى.
وقال ابن الهمام: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بهذه الآية ونحوها. ولذا لم يقولوا: بتلقين القبر. وقالوا: لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه ميتا لا يحنث. وأورد عليهم
قوله صلّى الله عليه وسلّم في أهل القليب (ما أنتم بأسمع منهم)
وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها أنكرته. وأخرى بأنه من خصوصياته صلّى الله عليه وسلّم معجزة له. أو أنه تمثيل. كما روي عن علي كرم الله وجهه. وأورد عليه ما في مسلم «2» من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر، مقدمة للسؤال، جمعا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 55]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
__________
(1) الحديثان أخرجهما البخاري في: الجنائز، 87- باب ما جاء في عذاب القبر، حديث 726 و 727.
(2) أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم 71.(8/21)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قرئ بفتح الضاد وضمها. أي من أصل ضعيف هو النطفة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ يعني حال الطفولة والنشء قُوَّةً يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً أي بالشيخوخة والهرم يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي من الأشياء. ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الإنسان وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ أي الواسع العلم والقدرة. كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته، المستتبع انفراده بالألوهية وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ أي في الدنيا أو القبور. وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا. وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في (الكشاف) .
وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان. وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا. فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.
وقال الشهاب: المراد من قوله: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، تشابه حاليهم في الكذب وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم. لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل.
والغرض من سوق الآية وصف المجرمين بالتمادي في الباطل، والكذب الذي ألفوه.
انتهى.
وقيل: كان قسمهم استقلالا لأجل الدنيا، لما عاينوا الآخرة، تأسفا على ما أضاعوا في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 56 الى 57]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ردّا لما حلفوا عليه، وإطلاعا لهم على الحقيقة لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته إِلى يَوْمِ(8/22)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
أي أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالشرك، أو إنكار الربوبية، أو الرسالة، أو شيء لا يجب الإيمان به مَعْذِرَتُهُمْ أي بأنهم كفروا عن جهل. لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته، أو عن عناد وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يطلب منهم الإعتاب.
أي إزالة العتب بالتوبة والطاعة. لأنهما، وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي، فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس. أو من كل دليل على الأمور الأخروية. والحق يجري مجرى المثل في الظهور وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي مما اقترحوه أو غيرها لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي لا يؤمنون بها. ويعتقدون أنها سحر وباطل كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق. بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها. فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود فَاصْبِرْ أي على ما تشاهد منهم، من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي في قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: 171- 173] ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي لا يحملنك على الخفة والقلق الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها. فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين.(8/23)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة لقمان
سميت به لاشتمالها على قصته التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك والأمر بالأخلاق والأفعال الحميدة. والنهي عن الذميمة.
وهي معظمات مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. ويقال: إلا قوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ ... [لقمان: 27- 28] ، الآيتين. وآياتها أربع وثلاثون آية. وسيأتي الكلام على لقمان والخلاف فيه.(8/24)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة الناطق بها هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لإحسانهم، يعني ما عملوه من الحسنات. أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه، لإظهار فضلها وإنافتها على غيرها. والمراد بالزكاة، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقربا بالتصدق منه، وتزكية للنفس بإيتائه، من وصمة البخل والشح المردي لها. لا أنصباؤها المعروفة. فإنها إنما بيّنت بالمدينة أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تعريض بالمشركين. وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم. ليضلّوا أتباعهم عن الدين الحق. قال الزمخشريّ: و (اللهو) كل باطل ألهى عن الخير، وعما يعني. ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير، والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام. وما لا ينبغي، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه. ويؤثرونه على حديث الحق. وقوله تعالى بِغَيْرِ عِلْمٍ أي بما هي الكمالات ومنافعها، والنقائص ومضارّها وَيَتَّخِذَها هُزُواً الضمير للسبيل، وهو مما يذكر ويؤنث أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.(8/25)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 7 الى 10]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى أي أعرض عنها مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي ثقلا مانعا من السماع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الضمير للسموات. وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله بِغَيْرِ عَمَدٍ كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة. أو في محل الجر، صفة للعمد. أو بغير عمد مرئية. يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها، بقدرته. كذا في (الكشاف) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي من كل نوع من أنواعها وَأَنْزَلْنا أي لحفظكم وحفظ دوابّكم، وللرفق بكم وبدوابكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف من الأغذية والأدوية كَرِيمٍ أي كثير المنافع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 11 الى 12]
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
هذا أي ما ذكر من السموات والأرض، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم بما ذكر، إلى التسجيل عليهم بالضلال البيّن المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة، لاستحالة أن يفهموا منها شيئا، فيهتدوا به إلى العلم(8/26)
ببطلان ما هم عليه. أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه. ووضع الظاهر موضع ضميرهم، للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه.
ومتعدون عن الحدود. وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. أفاده أبو السعود.
ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة. كيف لا؟
والتوحيد أساس الحكمة، بقوله سبحانه وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية، آمرين له على لسان نبيّ أو بطريق الإلهام (على قول الجمهور أنه حكيم) أو الوحي (على قول عكرمة أنه نبيّ) أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي على ما أعطاك من نعمه، من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. كذا قاله المهايميّ. والأظهر أن (أن) مفسرة. فإن إتيان الحكمة في معنى القول. والشكر كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة. لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لعود ثمرات شكره عليه وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي غنيّ عن كل شيء. فلا يحتاج إلى الشكر. وحقيق بالحمد. بل نطق بحمده كل موجود.
تنبيه:
قال ابن كثير: اختلف السلف في لقمان. هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة، على قولين: الأكثرون على الثاني. ويقال إنه كان قاضيا على بني إسرائيل، في زمن داود عليه السلام. وما روي من كونه عبدا مسّه الرق، وينافي كونه نبيا. لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها. ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة، إن صح السند إليه. فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة. قال: كان لقمان نبيا.
وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفيّ. وهو ضعيف. والله أعلم. انتهى.
وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة، وكان حكيم شعب وثنيّ. وكان منبأ عن الله تعالى. وأغرب في تقريبه، بأن الفعل العربيّ وهو (لقم) معناه بالعبريّ بلع. والله أعلم.
وقد نظم السيوطيّ من اختلف في نبوته، فقال:
واختلفت في خضر أهل النقول ... قيل نبيّ أو وليّ أو رسول
لقمان، ذي القرنين، حواء، مريم ... والوقف في الجميع رأي المعظم(8/27)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
ثم قرن لقمان، بوصيته إياه بعبادة الله وحده، البرّ بالوالدين، كما قال تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: 23] ، وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم. وقال هاهنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 14]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي بالإحسان إليهما، لا سيما الوالدة. لأنه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي ضعفا فوق ضعف إلى الولادة. و (وهنا) حال من (أمه) أي ذات وهن. أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال. أي: تهن وهنا. وقوله عَلى وَهْنٍ صفة للمصدر. أي كائنا على وهن. أي تضعف ضعفا فوق ضعف. فإنها لا تزال يتزايد ضعفها. لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا وَفِصالُهُ أي فطامه فِي عامَيْنِ ثم فسّر الوصية بقوله سبحانه أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ أي بأن تعرف نعمة الإحسان وتقدره قدره. قال في (البصائر) : الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور. وحبه له. واعترافه بنعمته. والثناء عليه بها. وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر وبناؤه عليها. فإن عدم منها واحدة، اختلّت قاعدة من قواعد الشكر. وكل من تكلم في الشكر، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور. انتهي.
وقوله تعالى إِلَيَّ الْمَصِيرُ تعليل لوجوب الامتثال. أي إليّ الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر.
تنبيهات
الأول- قال الزمخشريّ: فإن قلت: قوله تعالى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين، ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا، وتذكيرا بحقها العظيم مفردا.(8/28)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
ومن ثم
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1»
(لمن قال له من أبرّ؟) : أمك ثم أمك ثم أمك. ثم قال بعد ذلك: ثم أباك
. وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه.
أحمل أمّي وهي الحمّاله ... ترضعني الدّرّة والعلالة
ولا يجازى والد فعاله الثاني- قال الحافظ ابن كثير: وقوله تعالى وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ كقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] ، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. لأنه قال في الآية الأخرى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] ، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا، ليذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه. كما قال تعالى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 24] .
الثالث- قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت:
المعنى في توقيته بهذه المدة، أنها الغاية التي لا تتجاوز. والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم، إن علمت أنه يقوى على الفطام، فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 15]
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي في إشراك ما لا تعلمه مستحقا للعبادة، تقليدا لهما.
وقال الزمخشريّ: أراد بنفي العلم به نفيه، أي لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 2- باب من أحق الناس بحسن الصحبة، حديث رقم 2309، عن أبي هريرة.(8/29)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
كقوله: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] .
قال في (الكشف) : ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده. كما مر في القصص. وإلا لقال ما ليس بموجود. بل أراد أنه بولغ في نفيه حتى جعل كلا شيء.
ثم بولغ في سلك المجهول المطلق.
قال الشهاب: وهذا تقرير حسن، فيه مبالغة عظيمة وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر. ومع ذلك يصحب معروفا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي بالتوحيد والإخلاص في الطاعات، وعمل الصالحات ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كناية عن الجزاء، كما تقدم نظائره.
قال القاضي: والآيتان، يعني وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ إلى قوله- تَعْمَلُونَ معترضتان في تضاعيف وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك. كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك. فإنهما، مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة، لا يجوز أن يطاعا في الإشراك.
فما ظنك بغيرهما؟ انتهى.
ثم بين تعالى بقية وصايا لقمان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 17]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان، إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر، في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة. أو حيث كانت في العالم العلويّ أو السفليّ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها ويحاسب عليها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي ينفذ علمه وقدرته في كل شيء خَبِيرٌ أي يعلم كنه الأشياء، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى: وَنَضَعُ(8/30)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
[الأنبياء: 47] الآية، وقوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 و 8] .
لطيفة:
قوله تعالى فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ الآية، من البديع الذي يسمى التتميم. فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة. وهو من وادي قولها (كأنه علم في رأسه نار) . يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أي بحدودها وفروضها وأوقاتها، لتكميل نفسك بعبادة ربك وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ لتكميل غيرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ أي من المحن والبلايا. أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الداعي إلى الحق معرّض لإيصال الأذى إليه. وهو أظهر. ويطابقه آية وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ، إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى الصبر. أو إلى كل ما أمر به مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه الله من الأمور. أي قطعه قطع إيجاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 18 الى 19]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض بوجهك عنهم، إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارا منك لهم، واستكبارا عليهم. ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم. كما جاء في الحديث «1» (ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء متكبرا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي معجب في نفسه فَخُورٍ أي على غيره وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي توسط بين الدبيب والإسراع وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص من رفعه، وأقصر، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس، إنكارهم على صوت الحمير. كما قال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
__________
(1)
أخرجه الترمذي في: البر والصلة، 45- باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر، ونصه: كل معروف صدقة. وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك، عن جابر بن عبد الله
.(8/31)
معللا للأمر على أبلغ وجه وآكده و (أنكر) بمعنى أوحش. من قولك (شيء نكر) إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، كما يقال في العرف للقبيح (وحش) وأصله ضد الأنس والألفة. فهو إما مجاز أو كناية.
قال الزمخشريّ: الحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به. فيقولون (الطويل الأذنين) كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عدّ في مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت منه الرحلة. فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا- مبالغة شديدة في الذم والتهجين. وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. انتهى.
تنبيه:
جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة. منها ما
رواه الإمام أحمد «1» عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه.
وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: يا بنيّ إياك والتقنع، فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار.
ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السريّ بن يحيى قال: قال لقمان لابنه:
يا بنيّ إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وعن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بنيّ! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام (يعني السلام) ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا. فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم. وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. نقله ابن كثير رحمه الله.
ثم نبه تعالى خلقه على نعمه الوافرة المستتبعة انفراده بالألوهية، فقال سبحانه:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 87.(8/32)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من النجوم والشمس والقمر، التي ينتفعون من ضيائها وما تؤثره في الحيوان والنبات والجماد بقدرته تعالى. وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سخرت له. وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار، ليستعملها من سخرت له فيما فيه حياته وراحته وسعادته وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي محسوسة ومعقولة. كإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل وَمِنَ النَّاسِ يعني الجاحدين نعمته تعالى مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في توحيده وإرساله الرسل بِغَيْرِ عِلْمٍ أي برهان قاطع مستفاد من عقل وَلا هُدىً أي دليل مأثور عن نبيّ وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي منزل من لدنه تعالى، بل لمجرد التقليد. و (المنير) بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يجادل.
والجمع باعتبار المعنى اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال، هي أسباب العذاب. كأنه يدعوهم إلى عين العذاب.
فهم متوجهون إليه حسب دعوته. ومن كان كذلك فإنّى يتبع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 29]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)(8/33)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في أعماله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب. وهو تمثيل لحال المؤمن المخلص المحسن، بحال من أراد رقيّ شاهق، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلّي منه وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي من الأعمال الظاهرة والباطنة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا ما. فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا يستحق العبادة فيهما غيره إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن العالمين، وهم فقراء إليه جميعا الْحَمِيدُ أي المحمود فيما خلق وشرع، بلسان الحال والمقال وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نفاده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي التي أوجد بها الكائنات، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه. والسبعة، إنما ذكرت، على سبيل المبالغة لا الحصر. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلا كخلقها وبعثها في سهولته إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي أمد قدره الله تعالى لجريهما، وهو يوم القيامة وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطا بما يأتي ويذر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : الآيات 30 الى 32]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(8/34)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص البارئ بها بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي بسبب أنه الحق، وجوده وإلهيته وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي بإحسانه في تهيئة أسبابه لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ أي عظيم الصبر على البأساء والضراء شَكُورٍ أي كثير الشكر للنعم، بالقيام بحقها وَإِذا غَشِيَهُمْ أي علاهم وأحاط بهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ أي كالسحب والحجب دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي التجأوا إليه تعالى وحده، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الضر فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال ابن كثير: قال مجاهد: أي كافر، كأنه فسر (المقتصد) هاهنا بالجاحد كما قال تعالى:
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقال ابن زيد: هو المتوسط في العمل. وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر: 32] الآية، فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل، أن يكون مرادا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر. ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك، كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم. انتهى وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أي غدّار، ناقض للعهد الفطريّ ولعقد العزيمة وقت الهول البحريّ كَفُورٍ أي مبالغ في كفران نعمه تعالى. لا يقضي حقوقها، ولا يستعملها في محابّه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 33]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أي ليس بمغن أحدهما عن الآخر شيئا، لانقطاع الوصل في ذلك اليوم الرهيب. قال أبو السعود: وتغيير النظم- في الثانية- للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى. وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة إِنَّ(8/35)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ
أي بالثواب والعقاب. لا يمكن إخلافه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة لقمان (31) : آية 34]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيامها وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي في وقته الذي قدره، وإلى محله الذي عينه في علمه وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي من ذكر أو أنثى، سعيد أو شقيّ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أي من خير أو شر وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي في بلدها أو غيره. لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك. وقد جاء الخبر تسمية هذه الخمس، مفاتح الغيب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي بما كان ويكون، وبظواهر الأشياء وبواطنها، لا إله إلا هو.(8/36)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة السجدة
سميت بها، لأن آية السجدة منها، تدل على أن آيات القرآن من العظمة بحيث تخرّ وجوه الكل، لسماع مواعظها، وتنزه منزلها عن أن يعارض في كلامه. وبشكره على كمال هدايته. وهذا أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ. وهي مكية، وآيها ثلاثون.
روى البخاريّ «1» في (كتاب الجمعة) عن أبي هريرة قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر، يوم الجمعة الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان.
ورواه مسلم «2» أيضا.
وروى الإمام أحمد عن جابر قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الم. تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك.
قال ابن كثير: تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الجمعة، 10- باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، حديث 522.
(2) أخرجه في: الجمعة، حديث رقم 65 و 66.(8/37)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الم تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي في كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي يتبعون الحق.
وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول، قبله صلّى الله عليه وسلّم. فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم صلّى الله عليه وسلّم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 5]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تقدم الكلام في ذلك ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي تتعظون بالقرآن فتؤمنوا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، من الملائكة وغيرها، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي يصعد إليه، أي مع الملك للعرض عليه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي مقدار صعوده على غير الملك، ألف سنة من سني الدنيا.
قال ابن كثير: أي يتنزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرضين. كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ(8/38)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
[الطلاق: 12] الآية. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 9]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
ذلِكَ أي المدبر عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن العباد وما يكون وَالشَّهادَةِ أي ما علمه العباد وما كان الْعَزِيزُ أي الغالب على أمره الرَّحِيمُ أي بالعباد في تدبره الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أحكم خلق كل شيء. لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي ضعيف ممتهن. والسلالة الخلاصة. وأصلها ما يسلّ ويخلص بالتصفية ثُمَّ سَوَّاهُ أي قوّمه في بطن أمه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي جعل الروح فيه، وأضافه إلى نفسه تشريفا له وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي خلق لكم هذه المشاعر، لتدركوا بها الحق والهدى قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي بأن تصرفوها إلى ما خلقت له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 12]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
وَقالُوا أي كفار مكة أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي نجدد بعد الموت بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب كافِرُونَ أي جاحدون.
قال أبو السعود: إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا قُلْ أي بيانا للحق وردّا على زعمهم الباطل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي يقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي بالبعث للحساب والجزاء.(8/39)
فائدة:
قال ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) في هذه الآية: مذهب جمهور أصحابنا أن الروح جسم لطيف بخاريّ يتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية، ينفذ في العروق، حالّة فيها. وكذلك للقلب، وكذلك للكبد.
وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه. لولا ذلك لتعذر عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب، لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين. في وقت واحد.
قال أصحابنا: ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل.
قالوا: وكيفية القبض، ولوج الملك من الفم إلى القلب، لأنه جسم لطيف هوائي، لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة، فيخالط الروح، التي هي كالشبيهة بها، لأنها بخاريّ. ثم يخرج من حيث دخل، وهي معه.
وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه وهو حضور الأجل.
فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء. فالتزموا ذلك، وقالوا: ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسامّ الماء، فإن فيه مسامّ ومنافذ وفي كل جسم. على قاعدتهم في إثبات المسامّ في الأجسام.
قالوا: ولو فرضنا أنه لا مسامّ فيه، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا، كما يلجه الحجر والسمك، وغيرهما. وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره. وقوة الملك أشدّ من قوة الريح. انتهى.
والأولى الوقوف، فيما لم تعلم كيفيته، عند متلوّه وعدم مجاوزته، أدبا عن التهجم على الغيب وتورعا عن محاولة مالا يبلغ كنهه، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه، وهم الخيرة والأسوة، والله أعلم.
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي مطأطئوها من الحياء والخزي، لما قدمت أيديهم رَبَّنا أي يقولون ربنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي علمنا ما لم نعلم، وأيقنا بما لم نكن به موقنين فَارْجِعْنا أي إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أي مقرّون بك وبكتابك ورسولك والجزاء.(8/40)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 13 الى 14]
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي تقواها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي في القضاء السابق لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي سبق القول حيث قلت لإبليس، عند قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:
39- 40] ، فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84- 85] ، أي فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم. بل منعناه من أتباع إبليس الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغيّ والفساد. ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها. فلما لم يختاروا الهدى، واختاروا الضلالة، لم يشأ إعطاءه لهم. وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرّة، وهم المعنيّون بما سيأتي من قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا [السجدة:
15] الآية. فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى، في الحقيقة، سوء اختيارهم، لا تحقق القول. أفاده أبو السعود. فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإقرار به، والإيمان بصدق موعوده، وعاملتموه معاملة المنسيّ المهجور إِنَّا نَسِيناكُمْ أي جازيناكم جزاء نسيانكم. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الموبقات. والتكرير للتأكيد والتشديد. وتعيين الفعل المطويّ، للذوق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا خَرُّوا سُجَّداً لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، وذلك تواضعا لله وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي عن الانقياد لها، كما يفعله(8/41)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
الجهلة من الكفرة الفجرة. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم. والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم، وهم المتهجدون بالليل يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي داعين له خَوْفاً من عذابه وَطَمَعاً في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من المال يُنْفِقُونَ أي في وجوه البرّ والحسنات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 17 الى 20]
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي ما ذخر وأعدّ أي لهؤلاء الذين عددت مناقبهم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي مما تقرّ به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الأعمال الصالحة أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي كافرا جاحدا لا يَسْتَوُونَ أي في الآخرة بالثواب والكرامة. كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة. ثم فصّل مراتب الفريقين بقوله أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا أي ثوابا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وكقوله تعالى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها [الحج: 22] ، كناية عن دوام عذابهم واستمراره وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي يقال لهم ذلك، تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم، وتقريعا وتوبيخا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 21 الى 22]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ أي أهل مكة مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي عذاب الدنيا والجدب والقتل والأسر دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعني عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي(8/42)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
يتوبون عن الكفر أي يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي جحدها وكفر بها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 24]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أي لقاء الكتاب الذي هو القرآن. وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي تلقي مثله، أي فلا تكن في مرية من كونه وحيا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب. ولقّيناه من الوحي مثل ما لقيناك. فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.
ونهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الشك، المقصود به نهي أمته. والتعريض بمن صدر منه مثله وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي من الضلالة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا لَمَّا صَبَرُوا أي على العمل به والاعتصام بأوامره وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ أي يصدقون أشد التصديق وأبلغه.
والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدى لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية. ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان، فغيروا وبدلوا، سلبوا ذلك المقام، وأديل عليهم انتقاما منهم. وتلك سنته تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:
11] ، ففي طي هذا الترغيب، ترهيب وأي ترهيب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 25 الى 27]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)(8/43)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي يتبين لكفار مكة كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الماضية بعذاب الاستئصال يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي منازلهم. كمنازل قوم شعيب وهود وصالح ولوط عليهم السلام. فلا يرون فيها أحدا ممن كان يعمرها ويسكنها. ذهبوا كأن لم يغنوا فيها. كما قال فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52] ، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فبما فعلنا بهم لَآياتٍ أي عبرا ومواعظ ودلائل متناظرة أَفَلا يَسْمَعُونَ أي أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جزر نباتها، أي قطع فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ يعني العشب والثمار والبقول أَفَلا يُبْصِرُونَ أي فيستدلون به على كمال قدرته ووجوب انفراده بالإلهية. وهذا كآية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 24- 25] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 29]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
وَيَقُولُونَ أي كفار مكة مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الانتصار علينا. استعجال لوقوع البأس الربانيّ عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لحلول ما يغشي الأبصار ويعمي البصائر. وظهور منار الإيمان وزهوق الفريق الكافر.
قال ابن كثير: أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والأخرى، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون، كما قال تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من ألفين. ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً [الشعراء: 118] ، وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ(8/44)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
[سبأ: 26] الآية، وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:
15] ، وقال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة السجده (32) : آية 30]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك وَانْتَظِرْ أي النصرة عليهم. فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي ما في نفوسهم. كقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] ، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التوبة: 98] ، أي وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى وأليم عذابه بهم.(8/45)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحزاب
سميت بها، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ.
وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبيّ بن كعب قال: لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) .
وقال ابن كثير: وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا.
والله أعلم. انتهى.
قلت: كان يصح هذا الاقتضاء، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح، فهو من الضعف بمكان.(8/46)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه، تعظيما له.
وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريما للمخاطب. ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم، والتعظيم باق كآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:
29] ، لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقينهم أن يسموه بذلك ويدعوه به. وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيما وتعظيما للتقوى نفسها، حيث أمر بها مثله. فإن مراتبها لا تنتهي. مع أن المقصود الدوام والثبات عليها. ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره، لأن سياق ما بعده لأمر يخصه. كقصة زيد رضي الله عنه وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا توافقهم على أمر. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم. فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين. لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي فهو أحق بأن تتبع أوامره ويطاع، لأنه العليم بعواقب الأمور وبالمصالح من المفاسد. والحكيم الذي لا يفعل شيئا، ولا يأمر به، إلا بداعي الحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 2 الى 4]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي أسند أمرك(8/47)
إليه، وكله إلى تدبيره. فكفى به حافظا موكولا إليه كل أمر ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ قال الزمخشريّ: أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: إن الله سبحانه، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها- وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانّا، موقنا شاكّا، في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له. لأن الأم مخدومة، مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان. وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل، وابنا له. لأن البنوة أصالة النسب، وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير.
ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. وهذا مثل ضربه الله في (زيد بن حارثة) وهو رجل من كلب سبي صغيرا. وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة. فلما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهبته له. وطلبه أبوه وعمه فخيّر. فاختار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه. وكانوا يقولون (زيد بن محمد) فأنزل الله هذه الآية. وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] .
والتنكير في (رجل) وإدخال (من) الاستغراقية على (قلبين) تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال. ولا لواحد منهم، قلبين البتة في جوفه.
وفائدة ذكر (الجوف) كالفائدة في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:
46] ، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلّي للمدلول عليه. لأنه إذا سمع به، صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى (ظاهر من امرأته) قال لها: أنت عليّ كظهر أمي. وكان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية.
فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة. وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.
قال الأزهريّ: وخصوا (الظّهر) ، لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت، فهو كناية تلويحية، انتقل من الظهر إلى المركوب، ومنه إلى المغشيّ. والمعنى:(8/48)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في (الكشف) .
وقوله تعالى ذلِكُمْ إشارة إلى كل ما ذكر. أي من كونه ليس لأحد قلبان، وليست الأزواج أمهات، ولا الأدعياء أبناء. أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك، أن يكون ابنا حقيقيا. فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أي الثابت المحقق في نفس الأمر وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 5]
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم. وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل وأحكم.
قال ابن كثير: هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء. فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة. وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري «1» عن ابن عمر قال: «إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما كنا ندعوه إلا (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» ، وأخرجه مسلم «2» وغيره. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك. ولهذا
قالت سهلة «3» بنت سهيل، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: «يا رسول الله! إنا ندعوا سالما ابنا. وإن الله قد أنزل ما أنزل. وإنه كان يدخل عليّ. وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أرضعيه تحرمي عليه..» الحديث.
ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ. وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عزّ وجلّ
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 2- باب ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ، حديث 2030.
(2) أخرجه في: فضائل الصحابة، حديث رقم 62.
(3) أخرجه مسلم في: الرضاع، حديث رقم 26.(8/49)
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء: 23] ، احترازا عن زوجة الدعيّ، فإنه ليس من الصلب.
فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا،
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين «1» : «حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب» .
فأما دعوة الغير ابنا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما
رواه الإمام أحمد وأهل السنن. إلا- الترمذيّ- عن ابن عباس رضي الله عنهما «2» : قال: «قدّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبينيّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» .
قال أبو عبيدة وغيره (أبينيّ) تصغير (ابني) وهذا ظاهر الدلالة. فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.
وفي مسلم «3» عن أنس قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنيّ» . ورواه أبو داود والترمذيّ.
انتهى كلام ابن كثير. وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ- نظر، لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما. وأما ما لا خطاب فيه سابقا، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمّى نسخا اصطلاحا. فاحفظه. فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالأخوّة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي أولياؤكم فيه. أي فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي. ويا أخي ويا مولاي وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في: الشهادات، 7- باب الشهادة على الأنساب والرضاع، حديث رقم 1285 عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: الرضاع، حديث رقم 1.
(2) أخرجه النسائي في: المناسك، 222- باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.
وأخرجه ابن ماجة في: المناسك، 62- باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار، حديث رقم 3025.
(3) أخرجه في: الآداب حديث رقم 31.(8/50)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان. أو سبق اللسان، لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي ففيه الجناح، لأن من تعمد الباطل كان آثما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لعفوه عن المخطئ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 6]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي في كل شيء من أمور الدين والدنيا.
فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها. وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب. وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه. ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصرفهم عنه. لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين. وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشريّ.
وهذا كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] ، وفي الصحيح: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن. وفيما عدا ذلك كالأجنبيات، ولذا قال ابن كثير: ولكن لا تجوز الخلوة بهن. ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. وإن سمى بعض العلماء بناتهن، أخوات المؤمنين. كما هو منصوص الشافعيّ رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم. وهل يقال لمعاوية وأمثاله، خال المؤمنين، فيه قولان: وعن الشافعيّ أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلّى الله عليه وسلّم:
أبو المؤمنين، فيه قولان: فصح عن عائشة المنع، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس(8/51)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
رضي الله عنهما، أنهما قرءا: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن. واستأنسوا عليه
بالحديث الذي رواه أبو داود «1» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطيب بيمينه»
. أفاده ابن كثير.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما فرضه، أو فيما أوحاه إلى نبيّه عليه السلام مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة ل (أولى) إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ أي إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم مَعْرُوفاً أي من صدقة ومواساة وهدية ووصية. فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ الآية، من ورّث ذوي الأرحام. انتهى.
وهو استدلال متين. وليس مع المخالف ما يقاومه. بل فهم كثيرون أن المعنيّ بها، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة، التي كانت بينهم. ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس: أن المهاجريّ كان يرث الأنصاريّ، دون قراباته وذوي رحمه. للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.
إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية. لا أنها خاصة بالمدعي فيها، كما أسلفنا بيانه مرارا كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي في القرآن. أو في قضائه وحكمه وما كتبه وفرضه، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 7]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
__________
(1) أخرجه في: الطهارة، 4- باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، حديث رقم 8. [.....](8/52)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق والتعاون والتناصر والاتفاق وإقامة الدين وعدم التفرق فيه. كما قال تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله وَمِنْكَ إلخ مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولي العزم.، وتقديم نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل. انتهى.
وقال في (الانتصاف) : وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله:
بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر
فأخّر ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليختم به تشريفا له.
وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام، على نوح ومن بعده في الذكر، أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلوّ، فكان تقديمه لذلك.
ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام، جرى ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.
وقد صرح بأولي العزم هنا وفي آية شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] . قال ابن كثير: فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا عظيم الشأن. وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادّين والمشاقّين، ما تزول منه الجبال، لولا الاعتصام بالصبر عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 8 الى 9]
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء.(8/53)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
ووضع الصادقين موضع ضميرهم، للإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه. وإنما السؤال لحكمة تقتضيه. أي ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم. أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] ، أو المصدقين لهم عن تصديقهم.
أفاده أبو السعود وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً أي لمن كفر من أممهم عذابا موجعا.
ونحن- كما قال ابن كثير- نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء.
وإن كذبهم من كذبهم من الجهة والمعاندين والمارقين والقاسطين. فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. أو ما أتى من الريح من طيور الجوّ وجراثيمه، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 10 الى 13]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي منتهى الحلقوم لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب. وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي أنواع الظنون المختلفة هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي أزعجوا أشد(8/54)
الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.
فائدة:
قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (الظنونا) بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الأحزاب: 66] ، ولام السبيل، في قوله فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] ، وصلا ووقفا، موافقة للرسم. لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك. وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها. وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف، فكذلك هذه الألف. وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالين. لأنها لا أصل لها. وقولهم (أجريت الفواصل مجرى القوافي) غير معتدّ به. لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا. والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها،. والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق. ولأنها كهاء السكت. وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا، أفاده السمين.
ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شبهة. تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكنّ صدورهم. لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدوّ لهم ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي من النصر إِلَّا غُرُوراً أي باطلا وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ وهي أرض المدينة لا مُقامَ لَكُمْ بضم الميم وفتحها، قراءتان. أي لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة أو نواحيها لغلبة الأعداء فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم من المدينة هاربين.
أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.
فائدة:
(يثرب) من أسماء المدينة. كما في الصحيح «1» : أريت في المنام دار هجرتكم. أرض بين حرتين. فذهب وهلي أنها هجر. فإذا هي يثرب (وفي لفظ:
المدينة) .
قال ابن كثير: فأما
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «2» عن البراء قال: قال
__________
(1) أخرجه البخاري في: المناقب، 25- باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم 1703.
(2) أخرجه في مسنده 4/ 285.(8/55)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة.
تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده ضعف. انتهى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي في الرجوع يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي عير حصينة يخشى عليها وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 الى 16]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)
وَلَوْ دُخِلَتْ أي يثرب عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها أي بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الرجعة إلى الكفر لَآتَوْها أي لفعلوها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً أي وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب. أي فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم. ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الخوف لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي عن الوفاء به قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لأنه لا يؤخر آجالهم ولا يطوّل أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم. ولهذا قال: وَإِذاً أي فررتم لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي في الدنيا بعد فراركم. أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخرويّ. فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 17 الى 19]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)(8/56)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يجيركم مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أي هلاكا أو هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهم المنافقون. قال الشهاب: و (قد) للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى. وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ أي من ساكني المدينة هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي القتال إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إتيانا قليلا. لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضنّاء بكم ظاهرا، إن لم يحضر خوف فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي في أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي كنظره أو كدورانه فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما. فأحرقوكم وآذوكم. وأصل (السلق) بسط العضو ومدة للقهر. كان يدا أو لسانا. ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي على فعله أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 الى 21]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود. وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي مرة أخرى يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرّون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم يَسْئَلُونَ أي القادمين عَنْ أَنْبائِكُمْ أي عما جرى لكم. ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في حدوث واقعة ثانية ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي رياء وخوفا من التعيير لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة، إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب. وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب. ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة. وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو مع الضعف يصابر(8/57)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي. ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي رضوان الله ورحمته وثواب اليوم الآخر ونجاته. فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن. إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لغاية قبحه وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة. أي ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده. فأدرك مواطن السّعادة ومهاوي الشقاوة. وعلم أن في الثبات على قتل العدوّ، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد.
مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين. ثم بيّن تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 22 الى 23]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه، في قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 214] ، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ظهر صدقهما فيما وعدانا به وَما زادَهُمْ أي هذا الخطب والبلاء، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم إِلَّا إِيماناً أي بالله ورسوله ومواعيدهما وَتَسْلِيماً أي لأمر الله ومقاديره مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ في الصبر والثبات، والقيام بما كتب عليهم من القتال، لإعلاء كلمة الحق، ومن العمل بالصالحات، ومجانبة السيئات فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي أدّى ما التزمه ووفى به، فقاتل مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، صادقا حتى قتل شهيدا.
قال الشهاب: أصل معنى (النحب) النذر. وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلّى الله عليه وسلّم حربا، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير (قضاء النحب) للموت، لأنه لكونه لا بد منه، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به. فيجوز أن يكون هنا حقيقة، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.(8/58)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي ما غيروا شيئا من العهد، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الأحزاب: 15] ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به. والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 24 الى 25]
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي في عهودهم بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أي كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود، بفضله ورحمته لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي نصرا لا غنيمة وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة.
بل تولى كفاية ذلك وحده. ولهذا
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده
، فلا شيء بعده وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا أي فلا يعارض قوته قوة شيء عَزِيزاً أي غالبا على أمره (ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق) قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة، في شوّال على أصح القولين. إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام المقبل وهي سنة أربع. ثم أخلفوه لأجل جدب السنة، فرجعوا. فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي. وخالفهم موسى بن عقبة وقال: بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في الصحيحين «1» أنه عرض على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه.
ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال: وصحّ أنه لم يكن
__________
(1) أخرجه البخاري في: المغازي، 29- باب غزوة الخندق، حديث رقم 1295 وأخرجه مسلم في: 33- الإمارة، حديث رقم 91.(8/59)
بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما- أن ابن عمر أخبر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ردّه لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا. وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها. والثاني- أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة. ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.
ثم قال ابن القيّم رحمه الله: وكان سبب غزوة الخندق، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة. يحرّضونهم على غزو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويوالونهم عليه. ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم.
فأجابتهم قريش. ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم. ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك. فاستجاب لهم من استجاب. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف. ووافاهم بنو سليم بمرّ الظهران. وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة. وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن. وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف. فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدوّ وبين المدينة. فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبادر إليه المسلمون. وعمل بنفسه فيه وبادروا. وهجم الكفار عليهم. وكان في حفره من آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به. وكان حفر الخندق أمام سلع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين. والخندق بينهم وبين الكفار.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة آلاف من المسلمين. فتحصن بالجبل من خلفه وبالخندق أمامهم.
وقال ابن إسحاق: خرج في سبعمائة. (وهذا غلط من خروجه يوم أحد) .
وأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. واستخلف عليها ابن أم مكتوم وانطلق حييّ بن أخطب إلى بني قريظة. فدنا من حصنهم. فأبى كعب ابن أسد أن يفتح له. فلم يزل يكلمه حتى فتح له. فلما دخل عليه قال: لقد جئتكم بعزّ الدهر. جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها، لحرب محمد. قال: قال كعب: جئتني، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه. فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ودخل مع المشركين في محاربته، فسرّ بذلك المشركون. وشرط كعب على حييّ أنه، إن لم يظفروا بمحمد، أن يجيء(8/60)
حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه. فأجابه إلى ذلك، ووفى له به. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر بني قريظة ونقضهم للعهد. فبعث إليهم السعدين وخوّات بن جبير وعبد الله بن رواحة ليعرفوه: هل هم على عهدهم أو قد نقضوه. فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فانصرفوا عنهم، ولحنوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا. فعظم ذلك على المسلمين.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين.
واشتد البلاء وتجهر النفاق. واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الذهاب إلى المدينة وقالوا: بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. وهمّ بنو سلمة بالفشل. ثم ثبّت الله الطائفتين. وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا. ولم يكن بينهم قتال. لأجل ما حال الله به من الخندق. بينهم وبين المسلمين. إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ وجماعة معه، أقبلوا نحو الخندق. فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه. وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع. ودعوا إلى البراز. فانتدب لعمرو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
فبارزه فقتله الله على يديه. وكان من شجعان المشركين وأبطالهم. وانهزم الباقون إلى أصحابهم. وكان شعار المسلمين يومئذ (حم لا ينصرون) ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما. وجرت المراوضة على ذلك. فاستشار السعدين في ذلك فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعا وطاعة. وإن كان شيء تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. لقد كنا نحن هؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا.
فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف. فصوّب رأيهما وقال: إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
ثم إن الله عزّ وجلّ، وله الحمد، صنع أمرا من عنده. خذل به بين العدوّ وهزم جموعهم، وفلّ حدّهم. فكان مما هيأ من ذلك، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر، رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت. فمرني بما شئت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما أنت رجل واحد. فخذّل عنا ما استطعت: فإن الحرب خدعة
. فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة. وكان عشيرا(8/61)
لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة! إنكم قد حاربتم محمدا. وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمدا، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل؟ يا نعيم! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش. قال لهم: تعلمون ودّي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه. وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم. فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت من شوّال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخفّ. فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه. ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم، والله! نعيم. فبعثوا إلى يهود: إنا، والله! لا نرسل إليكم أحدا. فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم، والله! نعيم.
فتخاذل الفريقان: وأرسل الله عزّ وجلّ على المشركين جندا من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد. فجعلت تقوّض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار. وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال وقد تهيأوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرهم برحيل القوم.
فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ردّ الله عدوّه بغيظه، لم ينالوا خيرا وكفى الله قتالهم.
فصدق وعده. وأعز جنده ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده.
ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة مؤيدا منصورا والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظّهر، أتى جبريل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة- وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا، فلا يصلّين العصر إلا ببني قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. وقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علىّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، برايته إلى بني قريظة. وابتدرها الناس. فسار عليّ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال:
لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى. قال: نعم. يا رسول الله؟ قال: لو رأوني لم يقولوا(8/62)
من ذلك شيئا. وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلّى الله عليك وسلّم. إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول فوهبهم له.
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فذاك إلى سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب. فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.
وكان رجلا جسيما جميلا. ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلّم: قوموا إلى سيدكم فقاموا إليه فأنزلوه.
قال ابن كثير: إعظاما وإكراما، واحتراما له، في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.
فلما جلس، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك. فاحكم فيهم بما شئت. وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمت.
قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا (في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إجلالا له) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراريّ والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. وفي رواية: لقد حكمت بحكم الملك (أي لأن هذا جزاء الخائن الغادر) وكان سعد أصيب يوم الخندق.
رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة. رماه في الأكحل.(8/63)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أكحله. وقال سعد: اللهم! إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدّر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.
ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة في دار. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حييّ بن أخطب وكعب ابن أسد رأس القوم. وهم ستمائة أو سبعمائة. وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 28]
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني قريظة. وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فرّوا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد مِنْ صَياصِيهِمْ أي حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف، جزاء وفاقا.
قال ابن كثير: لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا. فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون.
فكما راموا العز ذلوا. وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا. ولهذا قال تعالى:
فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.
روى الإمام أحمد «1» عن عطية القرظيّ قال: عرضت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة
__________
(1) أخرجه في المسند 4/ 310.(8/64)
فشكّوا فيّ. فأمر بي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ينظروا: هل أنبتّ بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبتّ. فخلّى عني، وألحقني بالسبي.
وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي: حسن صحيح وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ حصونهم وَأَمْوالَهُمْ أي نقودهم وأثاثهم ومواشيهم وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي أرضا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم.
وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادا. قال الزمخشري:
ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة. ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يا لله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح. فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.
وهذا ما حصل لليهود في الحجاز. فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر. ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتمّ عليهم ما تم. سنة الله في المفسدين. فإن الله لا يصلح أعمالهم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي زخارفها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ أي أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة ما يعطى للمرأة المطلّقة على حسب السعة والإقتار. من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعا لا وجوبا. وقوله تعالى: سَراحاً جَمِيلًا أي طلاقا من غير ضرار ولا بدعة.
وقد روي أنهن سألن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية.
ولما نزلت، بدأ صلّى الله عليه وسلّم بعائشة رضي الله عنها. وكانت أحبهن إليه. فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ثم اختار جميعهن اختيارها. قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن. ثم صفية بنت حييّ النضرية وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.
لطيفة:
قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: الصلاة وما(8/65)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
ملكت أيمانكم. ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيّه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ، ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة. وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 29 الى 30]
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي تردن رسوله. قال أبو السعود:
وذكر الله عزّ وجلّ، للإيذان بجلالة محله عليه السلام، عنده تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً أي لا يقدر قدره. ولما خيّرهن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واخترن الله ورسوله، أدبهن الله وهددهن، للتوقي عما يسوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويقبح بهن من الفاحشة. وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بيّن الشرع والعقل قبحها. إن قرئ بالفتح. أو مبيّنة قبحها بنفسها من غير تأمل، إن قرئ بالكسر يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي ضعفي عذاب غيرهن. قال القاضي: لأن الذنب منهن أقبح. فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك جعل حدّ الحرّ ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لعموم قدرته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 33]
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
وَمَنْ يَقْنُتْ أي يدم مطيعا مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي في إتيان الواجبات وترك(8/66)
المحرمات والمكروهات وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة وَأَعْتَدْنا لَها أي زيادة على أجرها المضاعف في الجنة، أو فيها وفي الدنيا رِزْقاً كَرِيماً أي حسنا مرضيّا يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
أي عند مخاطبة الناس. أي فلا تجبن بقولكن لينا خنثا، مثل كلام المريبات والمومسات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي ريبة وفجور وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي بعيدا من طمع المريب بجدّ وخشونة، من غير تخنيث. أو قولا حسنا مع كونه خشنا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي اسكنّ ولا تخرجن منها. من (وقر يقر وقارا) إذا سكن. أو من (قرّ يقر من باب ضرب) حذفت الأولى من راءى (اقررن) ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل. ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح. من (قررت أقر) من باب علم. وهي لغة قليلة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى. إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم. والتبرج، فسّر بالتبختر والتكسّر في المشي. وبإظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل.
وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها. وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط.
وكل ذلك مما يشمله النهي، لما فيه من المفسدة والتعرّض لكبيرة.
فائدة:
قيل الْأُولى بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن. فيستدل بذلك لمن قال: إن الأول لا يستلزم ثانيا.
قال في (الإكليل) : وهو الأصح عند العلماء. فلو قال: أول ولد تلدينه فأنت طالق، لم يحتج إلى أن تلد ثانيا. انتهى.
وقال الزمخشري: الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء. من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، أو ما قبله، إلى زمن عيسى. والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام. ويعضّده ما
روي «1» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي ذرّ، لما عيّر رجلا بأمه وكانت أعجمية: إنك امرؤ فيك جاهلية.
والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام، تشبه جاهلية الكفر قبله وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي بموافقة أمرهما ونهيهما. ثم
__________
(1) أخرجه البخاري في: الإيمان، 22- باب المعاصي من أمر الجاهلية، حديث رقم 28.(8/67)
أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي ما أمركنّ ونهاكنّ، ووعظكنّ، إلا خيفة مقارفة المآثم والحرص على التصوّن عنها بالتقوى. فالجملة تعليلية لأمرهنّ ونهيهن على سبيل الاستئناف.
قال الزمخشري: استعار للذنوب (الرجس) وللتقوى (الطهر) . لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس كما يتلوّث بدنه بالأرجاس. وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه. ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو على المدح. والمراد بهم من حواهم بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن كثير: وهذا نص في دخول أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أهل البيت هاهنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا. إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وأما قول عكرمة، إنها نزلت في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، ومن شاء باهلته في ذلك، فإن كان المراد أنهن كنّ سبب النزول دون غيرهن، فصحيح. وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر. فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك.
وأنه صلّى الله عليه وسلّم «1» جمع عليّا وفاطمة والحسن والحسين، ثم جللهم بكساء كان عليه. ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
. وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه. إلا أن الشيخين لم يصححاه، ولذا لم يخرجاه. وأما ما
رواه مسلم «2» عن حصين بن سبرة، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور.
فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله عز وجل ورغّب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكّركم الله في أهل بيتي. قالها ثلاثا. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم
- فإنما مراد زيد، آله الذين حرموا الصدقة. أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: المناقب، 60- باب فضل فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(2) أخرجه في: فضائل الصحابة، حديث رقم 36.(8/68)
قال ابن كثير: وهذا الاحتمال أرجح، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة، إن صحت. فإن في بعض أسانيدها نظرا. انتهى.
وقال أبو السعود: وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيرة، على كون نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما رضوان الله عليهم. وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء وتلاوته صلّى الله عليه وسلّم الآية بعده، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك. ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتدّ بها، لكونها في مقابلة النص. انتهى.
بقي أن الشيعة، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة عليّ رضي الله عنه، وإمامته دون غيره.
قال ابن المطهر الحلي منهم: وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ (إنما) وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وغيرهم ليس بمعصوم إلخ. وأجاب ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) بقوله: ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين: أحدهما- أن قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً كقوله ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] ، وكقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وكقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً [النساء: 26- 27] ، فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به. ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدّره، ولا أنه يكون لا محالة. والدليل على ذلك، أن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية قال (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)
فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير. فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء.
وهذا على قول القدرية أظهر. فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد. فليس في كونه تعالى مريدا لذلك، ما يدل على وقوعه.
وهذا الرافضي وأمثاله قدرية، فكيف يحتجون بقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ(8/69)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
على وقوع المراد؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض. فلم يقع مراده. وأما على قول أهل الإثبات، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه. وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره. الأولى مثل هؤلاء الآيات. والثانية مثل قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125] ، وقول نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود: 34] ، وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا.
ثم القدرية ينفون إراداته لما بيّن أنه مراد في الآيات التشريع. فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد. فلا يلزم أن يكون كائنا، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم. وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب. وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر.
وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه. ومما يبيّن ذلك، أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مذكورات في الآية. والكلام في لأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه. قال تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب: 30] ، إلى قوله: وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، فالخطاب كله لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد. لكن لما تبيّن ما في هذا من المنفعة التي تعمّهن وتعمّم غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه. بل هو متناول لأهل البيت كلهم. وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك. ولذلك خصهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء لهم. وهذا كما أن قوله:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108] ، نزلت بسبب (مسجد قباء) لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو (مسجد المدينة) وهذا يوجه ما
ثبت في الصحيح «1» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «هو مسجدي هذا»
. وثبت عنه في الصحيح «2» أنه كان يأتي قباء
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 415.
(2) أخرجه البخاري في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 3- باب من أتى مسجد قباء كل سبت، حديث 647، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 515.(8/70)
كل سبت ماشيا وراكبا. فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي قباء يوم السبت.
وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه. وعليّ وفاطمة والحسن الحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه. ولهذا خصهم بالدعاء. وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟ فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ومالك وغيرهم.
وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا
(آل محمد كل مؤمن تقي) رواه الخلال
، وتمام في (الفوائد) له. وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. وهو حديث موضوع. وبنى على ذلك طائفة من الصوفية. أن آل محمد هم خواص الأولياء. كما ذكر الحكيم الترمذيّ. والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته. وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد. وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم. لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. أحدهما- أنهن لسن من أهل البيت. ويروى هذا عن زيد بن أرقم. والثاني- وهو الصحيح أن أزواجه من آله. فإنه
قد ثبت في الصحيحين «1» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه علمهم الصلاة عليه: «اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته» .
ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته. وامرأة لوط من آله وأهل بيته. بدلالة القرآن. فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى. وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه. كما
ثبت في الصحيح «2» أنه قال: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليّ الله وصالح المؤمنين» .
فبيّن أن أولياءه صالح المؤمنين. وكذلك
في حديث آخر: «إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا»
. وقد قال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم: 4] ،
وفي الصحاح «3» عنه أنه قال: «وددت أني رأيت إخواني. قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني»
. وإذا كان كذلك، فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى. وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية. والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 10- باب حدثنا موسى بن إسماعيل، حديث 1590، عن أبي حميد الساعدي.
ومسلم في: الصلاة، حديث رقم 69.
(2) أخرجه البخاري في: الأدب، 14- باب يبلّ الرحم ببلالها، حديث 2315، عن عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في الإيمان، حديث رقم 366.
(3) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث رقم 39.(8/71)
ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. فإن كان فاضل منهم، كعليّ رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى. وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب.
فأولياؤه أعظم درجة من آله. وإن صلّى على آله تبعا، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه. الذين لم يصلّ عليهم. فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه. وهم أفضل من أهل بيته. وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء. أفضل منهن كلهن.
فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم بذلك يدل على وقوعه. فإن دعاءه مستجاب. قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس. فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر. ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دلّ على طهارتهم وعلى ذهاب رجسهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعوّ لهم وإذهاب الرجس عنهم. لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ. والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ. فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن. وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث. كالفواحش ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب. والتطهير من الذنب على وجهين، كما في قوله:
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4] ، وقوله: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] و [النمل: 56] ، فإنه قال فيها مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] ، والتطهير من الذنب إما بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] ، ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة. فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال. لكن هو سبحانه ينهى عنها، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها.
وفي الصحيح «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: اللهم! باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب. واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد.
اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
. وبالجملة، لفظ
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأذان، 89- باب ما يقول بعد التكبير، حديث 454، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 147.(8/72)
(الرجس) أصله القذر. ويراد به الشرك. كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] ، ويراد به الخبائث المحرّمة، كالمطعومات والمشروبات كقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
[الأنعام: 145] ، وقوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] ، وإذهاب ذلك إذهاب لكله. ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث. ولفظ (الرجس) عامّ يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلّم دعا بذلك. وأما قوله (وطهرهم تطهيرا) فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة. وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة. ويقول مثل ذلك في قوله فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] ، ونحو ذلك. والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق. كما إذا قيل: أكرم هذا، أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما. وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا. والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة، وترك ذلك في نظيرها. وكذلك لا يقال (هو طاهر) أو (متطهر) أو (مطهر) إذا كان متطهرا من شيء، متنجسا بنظيره. ولفظ (الطاهر) كلفظ (الطيب) قال تعالى: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النور: 26] ، كما قال الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: 26] ، وقد روي أنه قال لعمّار:
ائذنوا له. مرحبا بالطيب المطيب. وهذا أيضا كلفظ (المتقي) و (المزكي) قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس: 9- 10] ، وقال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] ، وقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] ، وقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النور: 21] ، وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب. فإن هذا، لو كان كذلك، لم يكن في الأمة متّق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين. كما قال إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء: 31] ، فدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم بأن يطهرهم تطهيرا، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك، فهو داخل في هذا. لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه.
وقد قال «1» :
__________
(1) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 204 عن عبد الله بن أبي أوفى. [.....](8/73)
«اللهم! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد» .
فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا، فقط طهره الله منه تطهيرا. ولكن من مات متوسخا بذنوبه، فإنه لم يطهر منها في حياته. وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس.
والنبيّ صلى الله عليه وسلّم، إذا دعا بدعاء، أجابه الله بحسب استعداد المحل. فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب، فإن هذا، لو كان واقعا، لما عذّب مؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة. بل يغفر الله لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسنات الماحية. ويغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة، وإن واحدة بأخرى، وبالجملة، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبيّ صلى الله عليه وسلّم، ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم، لا معصوم إلا النبيّ صلى الله عليه وسلّم. والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبيّ صلى الله عليه وسلّم والإمام. فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعوّ به للأربعة، متضمنا للعصمة التي يختص بها النبيّ صلى الله عليه وسلّم، والإمام عندهم. فلا يكون دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم له بهذا، العصمة، لا لعليّ ولا لغيره. فإنه دعا لأربعة مشتركين، لم يختص بعضهم بدعوة، وأيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية. بل وبالتطهير أيضا. فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب. ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا ولا عاصيا. ولا متطهرا من الذنوب ولا غير متطهر. فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات. وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر. كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر. والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل باختياره، إما الخير وإما الشر بتلك القدرة. وهذا الأصل يبطل حجتهم، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل، حيث دعا النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالتطهير. فإن قالوا: المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة. فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة.
والعصمة مطلقا التي هي فعل المأمور وترك المحظور، ليست مقدورة عندهم لله، ولا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة، ولا تاركا لمعصية. لا لنبيّ ولا لغيره. ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه، لا بإعانة الله وهدايته. وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة. كما تقدم. ولو قدر ثبوت العصمة، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة، والإجماع على انتفاء العصمة في غيرهم.
وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق. انتهى. وقوله تعالى:(8/74)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 34]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أمر لهنّ بأن يذكرن ولا يغفلن ما يقرأ في بيوتهن من آيات كتابه تعالى، وسنة نبيّه اللتين فيهما حياة الأنفس وسعادتها وقوام الآداب والأخلاق. وذكر ذلك مستوجب لتصوّر عظمته ومكانته وثمرة منفعته. وذلك يجرّ إلى العمل به. فمن تأوّل اذْكُرْنَ باعملن به، أراد ذلك تعبيرا عن المسبب باسم السبب. وجوّز أن يكون المعنى: اذكرن هذه النعمة حيث جعلتن أهل بيت النبوّة ومهبط الوحي، مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة، حثّا على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه. قال أبو السعود: والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها، مع كونه مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير. بخلاف النزول وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتلاوتهن وتلاوة غيرهن، تعليما وتعلما إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً أي يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك أمر ونهي.
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي المنقادين في الظاهر لحكم الله من الذكور والإناث وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي المصدقين بما يجب أن يصدق به في القلب وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ أي بإدامة شغف الجوارح في الطاعات وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول بمجانبة الكذب والعمل بتجريد الإخلاص لوجهه تعالى فلا يكون في طاعتهم رياء وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ أي على البأساء والضراء والنوائب، وعلى القيام بالعبادة والثبات عليها وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله(8/75)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
بقلوبهم وجوارحهم. و (الخشوع) السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع.
والحامل عليه الخوف منه تعالى ومراقبته وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ أي بالإحسان إلى الفقراء والبؤساء الذين لا كسب لهم ولا كاسب. فيعطون من فضول أموالهم طاعة لله وإحسانا إلى خلقه وإتماما للخشوع وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ أي الآتين بما طلب منهم من الصيام المورث للتقوى والرحمة على من يتضور جوعا ويتصبر فقرا وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ أي عن إبدائها وإراءتها، حياء وكفّا عن مثار الشهوة المحرمة أو عن الحرام والفجور وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أي بقلوبهم وألسنتهم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً أي بسبب ما عملوا من الحسنات المذكورة غفرانا لما اقترفوا من الصغائر لأنها مكفرة بذلك وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا وافرا في الجنة، وقوله تعالى:
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 36]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما صح لهما إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء، أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما ويعصوهما، لما في ذلك من المأثم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فيما أمرا أو نهيا فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي جار عن قصد السبيل، وسلك غير الهدى والرشاد.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة. فأبت لكونه مولى لا يماثلها في الشرف. فنزلت الآية فرضيت وتزوجها.
قال المهايمي: الظاهر أن الخطبة كانت بطريق الوجوب. ويحتمل أن تكون لا بطريق الوجوب، لكن اعتبار العار في مقابلة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصية، لما فيه من ترجيح قول أهل العرف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع كونه قول الله بالحقيقة.
وقال بعضهم: إنما عدّ التنزيل إباءها عصيانا، وكأنه أرغمها على زواجه، لما أوقع الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. وهو هدم تحريم زوجة المتبنّى، الفاشي في الجاهلية. كما سيأتي سياقه.(8/76)
وذكر أيضا أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وكانت أول من هاجر من النساء- بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، فزوجها زيدا- أي بعد فراقه زينب- فسخطت، فنزلت الآية، فرضيت.
وروى الإمام أحمد «1» عن أنس قال: خطب النبيّ صلى الله عليه وسلّم على جليبيب رضي الله عنه، امرأة من الأنصار إلى أبيها.
فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: نعم إذا. قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فأبت أشد الإباء. فقالت الجارية: أتريدون أن تردّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا:
صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال صلى الله عليه وسلّم: فإني قد رضيته. قال: فزوجها. ثم ذهب مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم في غزاة، فقتل
. ورؤي حوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة (وفي رواية: فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها) .
وذكر الحافظ ابن عبد البرّ في (الاستيعاب) أن الجارية لما قالت في خدرها:
أتردّون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمره، نزلت هذه الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ.
ولا يخفى شمول الآية لما ذكر ولغيره، إلا أن تأثر هذه الآية بقصة زيد وزوجه، الآتية، يؤيد أنها نزلت في زوجه زينب، لتناسق نظام الآيات حينئذ وظهور هذه الآية كالطليعة لهذه القصة الجليلة.
وقد قدمنا مرارا أن معنى قولهم (نزلت الآية في كذا) أنها مما تشمله لعموم مساقها. ولذا سأل طاوس ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه. وقرأ له هذه الآية.
قال ابن كثير: هذه الآية عامة في جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول. كما قال تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] ،
وفي الحديث: والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
. ولهذا شدّد في خلاف ذلك فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً، كقوله تعالى:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
__________
(1) أخرجه في مسنده: 3/ 136.(8/77)
لطائف:
الأولى- قالوا على الروايات السالفة: إن ذكر الله في الآية، مع أن الآمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلّم، للدلالة على أنه بمنزلة من الله، بحيث تعد أوامره أوامر الله تعالى.
أو أنه لما كان ما يفعله بأمره، لأنه لا ينطق عن الهوى، ذكرت الجلالة وقدمت للدلالة على ذلك. انتهى.
وهذا وقوف مع ما روي. وإلا فظاهر الآية يعم ما إذا قضى الله من كتابه، ورسوله في سنّته.
الثانية- الْخِيَرَةُ هنا مصدر، وذكروا أنه لم يجئ من المصادر على وزنه غير (طيرة) .
الثالثة- جمع الضمير الأول- وهو لهم- لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي. قال الشهاب: واعتبر عمومه، وإن كان سبب نزوله خاصا، دفعا لتوهم اختصاصه بسبب النزول. أو ليؤذن أنه كما لا يصح ما اختاروه مع الانفراد، لا يصح مع الجمع أيضا كيلا يتوهم أن للجمعية قوة تصححه.
انتهى.
وجمع الثاني- وهو ضمير من أمرهم- مع أنه للرسول صلى الله عليه وسلّم، أو له ولله تعالى، للتعظيم. هذا ما أشار له القاضي وغيره. مع أنه لا يظهر امتناع عوده على ما عاد عليه الأول، مع ترجيحه بعدم التفكيك فيه، على أن يكون المعنى: ناشئة من أمرهم.
والمعنى دواعيهم السابقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم. أو المعنى الاختيار في شيء من أمرهم، أي دواعيهم. وردّ هذا، بأنه قليل الجدوى، ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم.. أو واقعة في أمورهم. وهو بيّن مستغن عن البيان.
بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه صلى الله عليه وسلّم. أو متجاوزين عن آمره لتأكيده وتقريره للنفي. فهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول.
قال الشهاب: وهو كلام حسن. ثم أشار تعالى إلى ما منّ به على المسلمين من هدم تحريم زوجة الدعيّ والمتبنّى الذي كان فاشيا في الجاهلية، بما جرى بين زيد متبنّى النبيّ صلى الله عليه وسلّم وزوجه من الفراق. ثم تزويجه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم إياها، رفعا للحرج فيه. فقال تعالى:(8/78)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 الى 39]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي بالإسلام ومتابعة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وهو زيد بن حارثة وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة، وتزويجه بنت عمتك زينب بنت جحش.
قال ابن كثير: كان سيدا كبير الشأن جليل القدر، حبيبا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقال له (الحب) ويقال لابنه أسامة (الحب ابن الحب)
قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سرية إلا أمّره عليهم. ولو عاش بعده لاستخلفه. رواه الإمام أحمد «1»
. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي لا تطلقها وَاتَّقِ اللَّهَ أي اخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد يؤذي قلبها وارع حق الله في نفسك أيضا. فربما لا تجد بعدها خيرا منها. وكانت تتعظم عليه بشرفها، وتؤذيه بلسانها. فرام تطليقها متعللا بتكبرها وأذاها فوعظه صلى الله عليه وسلّم وأرشده إلى الصبر والتقوى وَتُخْفِي أي تضمر فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي من الحكم الذي شرعه. أي تقول ذلك، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، وأن لا منتدح عن امتثال أمر الله بنفسك، لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتي بعدك. وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلقة متبناه. وهذا معنى قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ أي قالتهم وتعييرهم الجاهليّ وَاللَّهُ أي الذي ألهمك ذلك وأمرك به أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ أي فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقدير شرعه، ثم زاده بيانا بقوله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجة بالزواج زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أي ضيق من العار في نكاح زوجات أدعيائهم
__________
(1) أخرجه في المسند: 6/ 227.(8/79)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي بموت أو طلاق أو فسخ نكاح. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي قضاؤه واقعا، ومنه تزويجك زينب ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي مأثم وضيق فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي كتبه له من التزوج وأباحه له وسن شريعة مثلي في وقوعه سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي الرسل عليهم السلام. وهو أن لا حرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. فإنه كان لهم الحرائر والسراري وتناول المباحات والطيبات وبهداهم القدوة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي قضاء مقضيّا. أي لا حرج على أحد فيما أحل له. ثم وصف شأنهم بقوله الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي أحكامه وأوامره ونواهيه ويصدعون بها وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يخافون قالة الناس ولائمتهم ولا يبالون بها في تشريعه ولا ريب أن سيّد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، حضرة نبينا صلى الله عليه وسلّم. كما علم من قيامه بالتبليغ بالقوة والفعل أبلغ قيام وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه.
وكافيا للمخاوف.
القول في تأويله قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ هذا دفع لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلى الله عليه وسلّم وسلم أبا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه، ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة.
فكان حكمه حكمهم. والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أي ولكن كان رسول الله مبلغا رسالاته وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء وكسرها، قراءتان. أي فهذا نعته وهذه صفته. فليس هو في حكم الأب الحقيقيّ، وإنما ختمت النبوة به، لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان وكل مكان. لأن القرآن الكريم لم يدع أمّا من أمهات المصالح إلا جلّاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها. فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من ادعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.(8/80)
تنبيهان في لطائف هذه القصة وفوائدها الباهرات:
الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة وزوجه زينب بنت جحش. ورواه البخاري «1» عن أنس في التفسير.
ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو. فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم منزل زيد بن حارثة. فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: أمسك زوجك واتق الله. فنزلت.
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السّدي. فساقها سياقا حسنا واضحا ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلّم بعد، أنها من أزواجه. فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله. وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه. وكان قد تبنى زيدا.
وعنده، من طريق علي زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن عليّ، قال: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلّم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك. قال الله تعالى: (قد أخبرتك أنّي مزوّجكها) ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الأحزاب: 37] .
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبريّ، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا أثارا، أحببنا أن نضرب عنها صفحا، لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.
الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا) في بحث أقواله صلّى الله
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 6- باب قوله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، حديث رقم 2032.
وأخرجه في: التوحيد، 22- باب: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث رقم 2032.
أخرجه 3/ 150.(8/81)
عليه وسلّم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلّم أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء، وهو يبطن خلافه
وقد قال عليه السلام «1» : «ما كان لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟» .
فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبيّ عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين. وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن عليّ بن حسين. أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه. فلما شكاها إليه زيد،
قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمسك عليك زوجك واتق الله
، وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.
وروى نحوه عمر بن قائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش. فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي لا بد لك أن تتزوجها. ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها. فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر. ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها،. لكان فيه أعظم الحرج.
وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته. ولم يزل يراها منذ ولدت. ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوّجها لزيد، وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وقال: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف. وإنما معناه الاستحياء. أي يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه. وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له. كما عتبة على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] ، الآية. كذلك قوله هاهنا. انتهى ملخصا.
الثالث- قال الإمام ابن حزم في (الفصل) يردّ على من استدل بمثل هذه الآية
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الحدود، 1- باب الحكم فيمن ارتد، حديث 4359.(8/82)
على جواز وقوع الصغائر من الأنبياء، ما مثاله: وأما قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ الآية فقد أنفنا من ذلك. إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج. مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره. وإنما خشي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الناس في ذلك خوف أن يقولوا ويظنوا ظنا، فيهلكوا. كما
قال عليه السلام «1» للأنصاريين: إنها صفية.
فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه إنما يخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا. وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم، بظن يظنونه به عليه السلام، هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب. وكان مراد الله عزّ وجلّ أن يبدي ما في نفسه، لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها، انتهى.
الرابع- للإمام مفتي مصر رحمه الله مقالة على هذه الآية. رأيت نقلها هنا تعزيزا لما سلف، وإيقافا من أسرار الآية على نخب ما وصف.
قال رحمه الله: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش. وهي بنت عمته صلّى الله عليه وسلّم أميمة بنت عبد المطلب. وقد خطبها الرسول على مولاه زيد بن حارثة. فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزلت آية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ [الأحزاب: 36] ، إلخ، فلما نزلت الآية قالا: رضينا يا رسول الله. فأنكحها إياه. وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام، وثلاثين صاعا من تمر.
كذا يروى.
فنحن من جهة، نرى أن زينب كانت بنت عمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت مع والدها لأول الأمر. حتى أنه اختارها لمولاه زوجة. مع إبائها وإباء أخيها. وعدّ إباءها هذا عصيانا. ولا زالت كذلك حتى نزل في شأنها قرآن. فكأنه أرغمها على زواجه، لما ألهمه الله من المصلحة لها وللمسلمين في ذلك. ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلّى الله عليه وسلّم، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه، ونضرة جدته، وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب. ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة. ولكنه لم يرغبها لنفسه، ورغبها لمولاه،
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأحكام، 21- باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، حديث رقم 1031.(8/83)
فكيف يمتد نظره إليها، ويصيب قلبه سهم حبها، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده أنعم عليه بالعتق والحرية؟ لم يعرف فيما يغلب على مألوف البشر، أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب، إلى أن تبلغ حد العشق، خصوصا إذا كان عشيره منذ صغره. بل المألوف زهادة الأقرباء بعضهم في بعض. متى تعوّد بعضهم النظر إلى بعض، من بداية السن إلى أن يبلغ حدّا منه يجول فيه نظر الشهوة. فكيف يظن أو يتوهم أن النبيّ الذي يقول الله له وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: 131] ، يخالف مألوف العادة، ثم يخالف أمر الله في ذلك؟ أم كيف يخطر بالبال أن من عصم الله قلبه عن كل دنيئة، يغلب عليه سلطان شهوة في بنت عمته، بعد أن زوجها بنفسه لعبد من عبيده؟ ومن جهة أخرى ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو الرؤوف الرحيم، لم يبال بإباء زينب ورغبتها عن زيد، وقد كان لا يخفى عليه أن نفور قلب المرأة من زوجها مما تسوء معه العشرة وتفسد به شؤون المعيشة. فما كان له- وهو سيد المصلحين- أن يرغم امرأة على الاقتران برجل وهي لا ترضاه، مع ما في ذلك من الضرر الظاهر بكل من الزوجين. لا ريب أننا نجد من ذلك هاديا إلى وجه الحق في فهم الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ذلك أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها، كان أمرا تدين به العرب وتعدّه أصلا يرجع إليه في الشرف والحسب. وكانوا يعطون الدعي جميع حقوق الابن، ويجرون له وعليه جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن، حتى في الميراث وحرمة النسب وهي عقيدة جاهلية رديئة. أراد الله محوها بالإسلام، حتى في الميراث وحرمة النسب وهي عقيدة جاهلية رديئة. أراد الله محوها بالإسلام، حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح ولا يجري من أحكامه إلا ماله أساس صحيح. لهذا أنزل الله وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:
4] ، ثم قال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 5] ، إلخ فهذا العدل الإلهي، أن لا ينال حقّ الابن إلا من يكون ابنا. أما المتبنّى واللصيق فلا يكون له إلا حق المولى والأخ في الدين. فحرّم الله على المسلمين أن ينسبوا الدعيّ لمن تبناه. وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئا من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا. وشدّد الأمر حتى قال وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: 5] ، فهو يعفو عن اللفظة تصدر من غير قصد بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني. أو ينادى شخص آخر بمثل ذلك. لا عن قصد التبنّي.
ولكنه لا يعفو عن العمد من ذلك، الذي يقصد منه الإلصاق بتلك اللحمة، كما كان معروفا من قبل. مضت سنة الله في خلقه، أن ما رسخ في النفس بحكم العادة،(8/84)
لا يسهل عليها التفصّي منه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، وجعل همته فوق المألوفات. فلا يطبيه (أي يستميله) إلا الحق. ولا يحكم عليه إلف، ولا يغلبه عرف. ذلك هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن يختصه الله بالتأسي به. لهذا، كان الأمر، إذا نهى الله عن مكروه كانت الجاهلية عليه، أو أحل شيئا كانت الجاهلية تحرّمه، بادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى امتثال النهي بالكف عن المنهيّ عنه، والإتيان بضده. وسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخفّ وزر العادة وتخلص العقول من ريب الشبهة. نادى صلّى الله عليه وسلّم «1» في حجة الوداع بحرمة الربا. وأول ربا وضعه ربا عمه العباس. حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم، على هذا السنن الإلهي كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر زينب، كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم كما دل عليه قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ إلخ فعمد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، على سنته، إلى خرق العادة بنفسه. وما كان ينبغي له، ولا من مقتضى الحكمة، أن يكلف أحد الأدعياء الأباعد عنه، أن يتزوج ثم يأمره بالطلاق ثم يأمر من كان قد تبناه أن يتزوج مطلقته. ففي ذلك من المشقة مع تحكم العادة وتمكن الاشمئزاز من النفوس، ما لا يخفى على أحد. فألهمه الله أن يتولى الأمر بنفسه في أحد عتقائه، لتسقط العادة بالفعل. كما ألغى حكمها بالقول الفصل.
لهذا أرغم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب أن تتزوج بزيد، وهو مولاه وصفيّه. والنبيّ يجد في نفسه أن هذا الزواج مقدمة لتقرير شرع، وتنفيذ حكم إلهيّ. وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يسلس قيادها، بل شمخت بأنفها وذهبت تؤذي زوجها وتفخر عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقا وأصرح منه حرية. لأنه لم يجر عليها رقّ كما جرى عليه فاشتكى منها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المرة بعد المرة. وهو عليه السلام مع علوّ مقامه يغلبه الحياء فيتّئد ويتمكّث في تنفيذ حكم الله ولا يعجل، فكان يقول لزيد أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 37] ، إلى أن غلب أمر الله على أمر الأنفة، وسمح لزيد بطلاقها بعد أن مضّه العيش معها. ثم تزوجها بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمزّق حجاب تلك العادة، ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقا دون مخالفتها كما قال:
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحج، حديث 147.(8/85)
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، وأكّد ذلك بالتصريح في نفي الشبهة بقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الآية. هذه هي الرواية الصحيحة والقولة الراجحة.
ثم قال: وأما ما
رووه من أن النبيّ مرّ ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب، فوقع منها في قلبه شيء، فقال: سبحان مقلب القلوب! فسمعت التسبيحة فنقلتها إلى زيد، فوقع في قلبه أن يطلقها
إلخ، ما حكوه- فقد قال الإمام أبو بكر بن العربيّ إنه لا يصح. وإن الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية، لم يقدروا مقام النبوّة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى العصمة كنهها. وأطال في ذلك، وأذكر من كلامه ما يؤيد ما ذكرنا في شأن هذه الروايات.
قال، بعد الكلام في عصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطهارته من العيب في زمن الجاهلية.
وبعد أن جاء الإسلام: وقد مهّدنا لك روايات كلها ساقطة الأسانيد. وإنما الصحيح «1» منها ما روي عن عائشة أنها قالت: لو كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فأعتقته أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ إلى قوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب: 37] ، وأن رسول الله لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، الآية. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا، يقال له (زيد ابن محمد) . فأنزل الله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 5] ، يعني أنه أعدل عند الله قال القاضي:
وما وراء هذه الآية غير معتبر. فأما قولهم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رآها، فوقعت في قلبه، فباطل.
فإنه كان معها في كل وقت وموضع. ولم يكن حينئذ حجاب. فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه، إلا إذا كان لها زوج؟ وقد وهبته نفسها وكرهت غيره. فلم يخطر بباله. فكيف يتجدد هوى لم يكن! حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة. وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131] ، والنساء أفتن الزهرات، وأنشر الرياحين، فيخالف هذا في المطلقات. فكيف في المنكوحات المحبوسات؟؟.
ثم ساق الكلام في نفس الآية على حسب ما صح في الواقعة. ولولا خوف
__________
(1) أخرجه البخاري في: التوحيد، 22- باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث 2032، عن أنس.(8/86)
التطويل لنقلت كلامه بحروفه. سبحان الله! كيف ساغ لقوم مسلمين أن يعتقدوا بمثل هذه الروايات، وقد علموا أنه الله لم يدع لنبيّه أن يعرض عن أبن أم مكتوم، ويتصدى لصناديد قريش طمعا في إسلامهم، حتى عاتبه على ذلك في قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ، إلى آخر الآيات، مع أن لم ينصرف عن الأعمى إلا لاشتغاله بما كان يعدّه في نفسه خيرا للدين، ولم يكن رغبة في جاه، ولا شرها إلى مال، ولا طموحا إلى لذة. فلو صحّت الرواية التي زعموها في شأن زينب، لكان العتاب على تلك التسبيحة، بمسمع من زينب، ثم على الزواج بعد الطلاق، كما أشار إليه في قصة داود عليه السلام. وما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم في علوّ مقامه ورفعة منزلته من النبوّة، لتطمح نفسه إلى التلذذ ببنت عمته وزوجة مولاه، ولا أن يسمعها ما يدل على شغفه بها، ولا أن تضعف عزيمته عن قمع شهوته وكبح جماحها. وما كان رب محمد يعلّل شهوته، ويرفّه من هواه فيما يخالف أمره، وهو الذي نهاه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس من زهرة الحياة الدنيا، ومن زهرتها النساء. تسامى قدر محمد عن ذلك، وتعالى شأن ربه عن هذا علوّا كبيرا. أما والله! لولا ما أدخل الضعفاء أو المدلّسون من مثل هذه الرواية، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه. فإن نص الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر، والتريث به. وأن الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهيّ الصادر إليه، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه. كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة. وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم. وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه، وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له، كما تقدم بيانه. ولم يكن يمنعه عن إبداء ما أبدى الله، إلا حياء الكريم، وتؤدة الحكيم، مع العلم بأنه سيفعل لا محالة، لكن مع معاونة الزمان.
ثم قال الإمام رحمه الله: أذكر لطيفة لبعض الأذكياء جرت بمحضر مني لدي أحد الأساتذة الأميركانيين، فجاء في الحديث ذكر قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] ، فقال الأميركي: حتى زينب زوجة زيد بن حارثة.
يشير بقوله هذا إلى تلك الحادثة، ويعرض بعشقه صلّى الله عليه وسلّم لزينب على ما زعموا، فقال له صاحبي: سبحان الله! إنكم تشتغلون بعلوم السموات والأرض، ولا تستعملون عقولكم في أقرب الأشياء إليكم. مع أنكم، في المشهور عنكم، من أشدّ الناس ولعا بالبحث في الأديان. إن الله أمر نبيه أن يتزوج زوجة من دعاه ابنا له، ليبيّن للناس(8/87)
بالفعل أنه ليس كل من لقب بالابن يكون على الحقيقة ابنا، فإن كان المسيح قد دعي في لسان الإنجيل ب (الابن) فليس هذا على الحقيقة، وإنما (الابن) الحقيقي من ولد من أبيه ولادة صحيحة، إن في ذلك لذكرى للعالمين. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
الخامس-
روى الإمام أحمد «1» ومسلم «2» والنسائيّ عن أنس قال: لما انقضت عدّة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها عليّ.
فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرها. فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب! أبشري. أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عزّ وجلّ. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليها بغير إذن. ولقد رأيتنا، حين دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أطعمنا عليها الخبز واللحم» .
قال الحافظ ابن حجر: وهذا أيضا من أبلغ ما وقع في ذلك: وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب. لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرا بغير رضاه. وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها. هل بقي منه شيء أم لا؟ وفيه استحباب فعل المرأة الاستخارة ودعائها عند الخطبة قبل الإجابة. وأن من وكل أمره إلى الله عزّ وجلّ، يسّر الله له ما هو الأحظّ له والأنفع دنيا وأخرى. انتهى. أي فقد حفظ الله شرفها أن يضيع بعد زواجها بمولى. فاختار لها ما شرّفها به وأسمى مكانتها، عناية منه ورحمة للأمة أيضا.
السادس- روى ابن جرير عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني لأدلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدّي وجدّك واحد: وإني أنكحنيك الله عزّ وجلّ من السماء. وإن السفير لجبريل عليه السلام.
وروى «3» البخاري بعضه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب كانت تفخر على أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات.
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 195.
(2) أخرجه في: النكاح حديث رقم 89.
(3) أخرجه البخاري في: التوحيد، 22- باب وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، حديث 2032، عن أنس(8/88)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
قال ابن القيّم في (زاد المعاد) : ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليّها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته. وتوفيت في أول خلافة عمر بن الخطاب.
وكان أولا عند زيد بن حارثة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبناه، فلما طلقها زوجه الله إياها، لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبّنوه. انتهى.
السابع- قالوا: لا ينقض عموم قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ بكونه صلّى الله عليه وسلّم أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم، لأنهم لم يبلغوا الحلم. ولو بلغوا لكانوا رجالا له، صلّى الله عليه وسلّم، لا لهم. انتهى.
وهذا من التعمق في البحث. وإلا فدلالة السياق أوضح من تخصيص الإضافة.
قال ابن كثير: لم يعيش له عليه الصلاة والسلام ولد ذكر، حتى بلغ الحلم. فإنه صلّى الله عليه وسلّم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها. فماتوا صغارا، وولد له صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم من مارية القبطية. فمات أيضا رضيعا. وكان له صلّى الله عليه وسلّم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، رضي الله عنهن أجمعين. فمات في حياته صلّى الله عليه وسلّم ثلاث. وتوفيت فاطمة بعده بستة أشهر. انتهى.
ثم أمر تعالى بكثرة ذكره، والعناية بشكره لما منّ به من هدايته، إلى نور شريعته حتى ينسى عار الكفر وجاهليته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 42]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ أي بما هو أهله من صنوف التحميد والتمجيد ذِكْراً كَثِيراً أي يعمّ الأوقات والأحوال. قال ابن عباس رضي الله عنهما.
إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة، إلا جعل لها حدّا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدّا ينتهي إليه. ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] ، وقال اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، أي بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في أول النهار وآخره، ليسري أثر التسبيح فيهما بقية النهار والليل. لأن ذكره وتسبيحه، يفيدان تنوير القلوب وقت خلوّها عن الأشغال.
قال الزمخشريّ: والتسبيح من جملة الذكر. وإنما اختصه من بين أنواعه(8/89)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبيّن فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته، عمّا لا يجوز عليه من الصفات والأفعال. ومثال فضله على غيره من الأذكار، فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه، من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره، تكثير الطاعات والإقبال على العبادات. فإن كل طاعة وكل خير، من جملة الذكر. ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا. وهي الصلاة في جميع أوقاتها. لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين. لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 43]
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين. فإن صلاته تعالى عليهم. مع عدم استحقاقهم لها وغناه عن العالمين، مما يوجب عليهم المداومة على ما يستوجبه تعالى عليهم من ذكره تعالى وتسبيحه.
أفاده أبو السعود.
وقال ابن كثير: هذا تهييج إلى الذكر. أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم.
كقوله عزّ وجلّ: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 151- 152] . انتهى.
والصلاة: الرحمة والعطف. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر، والتوفر على الصلاة والطاعة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمة الكفر والمعاصي والشبهات ومساوئ العادات إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان والسنّة والطاعة ومحاسن الأخلاق وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي حيث لم يتركهم يتخبطون في عمياء الضلالة والجهالة، بل أنار لهم السبل وأوضح لهم المعالم. وذكر الملائكة تنويها بشأنهم وشأن المؤمنين. وأن للملأ الأعلى عناية وعطفا وترحما، بالاستغفار والدعاء والثناء على الجميل. كقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا(8/90)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ
[غافر: 7- 9] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 44 الى 46]
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ أي يحيّون يوم لقائه، بالموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة، بسلام تبشيرا بالسلامة من كل مكروه وآفة، والإضافة إما من إضافة المصدر إلى المفعول، والمحيي لهم، إما الله جلّ جلاله، لقوله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ، تعظيما لهم وتفضلا منه عليهم، كما تفضل عليهم بصنوف الإكرام، وإما الملائكة لآية وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23- 24] ، أو من إضافة المصدر لفاعله.
أي تحية بعضهم بعضا بالسلام. وقد يستدل له بآية دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يعني الجنة وما حوته، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على من بعثت إليهم بالبلاغ وَمُبَشِّراً أي بالثواب لمن آمن وَنَذِيراً أي من النار لمن كفر وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى دينه وطاعته والإقرار بوحدانيته بِإِذْنِهِ أي بأمره ووحيه وَسِراجاً مُنِيراً أي يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدى بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 47 الى 49]
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي ثوابا عظيما وأجرا جزيلا وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي فيما يرجفون به ويعيبون من جاهليتهم(8/91)
وعوائدهم، بإلانة الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق وَدَعْ أَذاهُمْ أي إيصال الضرر إليهم، مجازاة لفعلهم. بل اعف واصفح. أو معناه: دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم. فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول، وإلى المفعول على الثاني وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي موكولا إليه، وكفيلا فيما وعدك من النصر، ودحر ذوي الكفر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي تزوجتموهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تستوفون عددها من إحصاء أقراء، ولا أشهر تحصونها عليهن فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين مال وَسَرِّحُوهُنَّ أي خلّوا سبيلهن بإخراجهن من منازلكم. إذ ليس لكم عليهن عدّة سَراحاً جَمِيلًا أي من غير ضرار ولا منع حق.
تنبيه:
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة. منها إطلاق النكاح على العقد وحده. وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منه. وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال. واستعمال القرآن، إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية. فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها. وقوله تعالى الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب. إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك، بالاتفاق. وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المسيّب والحسن البصريّ وزين العابدين، وجماعة من السلف بهذه الآية، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لقوله تعالى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فعقب النكاح بالطلاق. فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشافعيّ وأحمد وطائفة كثيرة من السلف والخلف. وأيّده ما
روي مرفوعا «1»
(لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن. وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.
وهكذا
روى ابن ماجة «2» عن عليّ والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل النكاح» .
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الطلاق، 7- باب في الطلاق قبل النكاح، حديث 2190.
(2) أخرجه في: الطلاق، 7- باب لا طلاق قبل النكاح، حديث 2049 و 2048.(8/92)
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها. فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت. ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى زوجها. فإنها تعتدّ منه أربعة أشهر وعشرا. وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضا. وقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها. قال تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] ، وقال عزّ وجلّ: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:
236] .
وعن ابن عباس: إن كان سمّى لها صداقا، فليس لها إلا النصف. وإن لم يكن سمّى لها صداقا، فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. انتهى.
وعليه، فالآية في المفوضة التي لم يسمّ لها. وقيل: الآية عامة. وعليه، فقيل الأمر للوجوب، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضا. ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء.
لطيفة:
قال الرازيّ: وجه تعلق الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى في هذه السورة، ذكر مكارم الأخلاق، وأدّب نبيّه على ما ذكرناه. لكن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيّه المرسل، فكلما ذكر للنبيّ مكرمة، وعلّمه أدبا، ذكر للمؤمنين ما يناسبه.
فكما بدأ الله في تأديب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذكر ما يتعلق بجانب الله، بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ، وثنّى بما يتعلق بجانب العامة بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الأحزاب: 45] ، كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: 41] ، ثم ثنّى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم، كما ثلث في تأديب النبيّ بجانب الأمة، ثلث في حق المؤمنين بما يتعلق بجانب نبيّهم، فقال بعد هذا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: 53] ، وبقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ. انتهى.(8/93)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 50]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن فإنها أجور الأبضاع. وإيتاؤها، إما إعطاؤها معجلة، أو تسميتها في العقد. وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره.
قال ابن كثير: كان مهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. وهو نصف أوقية فالجميع خمسائة درهم. إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشيّ رحمه الله تعالى أربعمائة دينار. وإلا صفية بنت حييّ فإنه اصطفاها من سبي خيبر ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها. رضي الله عنهن. انتهى.
وتقييد الإحلال له عليه الصلاة والسلام بإعطاء المهور، ليس لتوقف الحل عليه. ضرورة أنه يصح العقد بلا تسمية. ويجب مهر المثل أو المتعة على تقديري الدخول وعدمه. بل لإيثار الأفضل والأولى له عليه الصلاة والسلام. كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبيّة، في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها.
قال ابن كثير: أي وأباح لك التسرّي مما أخذت من المغانم. وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أي من مكة، إلى المدينة.
والتقييد لبيان الأفضل كما تقدم، ولهم في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، عدة أوجه. فيها اللطيف والضعيف. وعندي أن الإفراد والجمع تابع لمقتضى السبك والنظم ورقة التعبير ورشاقة التأدية. كما يدريه من يذوق طعم بلاغة القول، ويشرب(8/94)
من عين فصاحته. فالإفراد فيهما هنا أرق وأعذب من الجمع. كما أن في آية بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: 61] ، أمتن وأبلغ من الإفراد. ولكل مقام مقال ولكل مجال حال وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها.
أي يتزوجها ويرغب في قبول هبة نفسها بدون مهر. وقد سمى من الواهبات ميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية وأم شريك بنت جابر وخولة بنت حكيم رضي الله عنهن.
وفي البخاريّ «1» عن عائشة قالت: «كنت أغار في اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ [الأحزاب: 51] الآية- قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» .
وعن ابن عباس، أنه لم يكن عنده صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها له. أي أنه لم يقبل ذلك وإن كان مباحا له. لأنه مردود إلى إرادته. والله أعلم.
قال ابن القيّم: وأما من خطبها صلّى الله عليه وسلّم ولم يتزوجها، ومن وهبت نفسها له ولم يتزوجها، فنحو أربع أو خمس. وقال بعضهم: هن ثلاثون امرأة. وأهل العلم بالسيرة وأحواله صلّى الله عليه وسلّم، لا يعرفون هذا بل ينكرونه.
قال أبو السعود: وإيراده عليه الصلاة والسلام في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات، للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه السلام حسب اختصاصها به كما ينطبق به قوله تعالى خالِصَةً لَكَ أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا، فهي مصدر مؤكد، أو صفته أي هبة خالصة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي فإنهم لا تحل لهم الموهوبة إلا بوليّ ومهر، خوف أن يستسري النساء وينتشر الفحش بدعوى ذلك. قال قتادة: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل، بغير وليّ ولا مهر إلا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ أي في حلّها من الوليّ والشهود والمسمى وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي في حلها من توسيع الأمر فيها.
وقال السيوطي في (الإكليل) : فسر بالاستبراء، وليس له في القرآن ذكر إلا ها هنا.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 7- باب قوله ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء، حديث 2033.(8/95)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق. واللام متعلقة ب (خالصة) أو بفعل يفهم مما قبله. أي قد علمنا ما فرضنا عليهم. وأسقطناه عنك لرفع الحرج عنك والضيق، فيما اقتضته الحكمة والعناية بك وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي يغفر ما يعسر التحرز عنه، ويرحم فيما يوسع في مواقع الحرج.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 51]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)
تُرْجِي بهمز وغير همز. أي تترك وتؤخر مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك، فلا تتزوج بهن وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي تضم من تشاء منهن بالتزوج وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ أي اخترت تزوجها بعد إرجائها فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي في أن تضمها إليك. ومن رأى بعضهم أن الضمير في (منهن) يعود إلى الواهبات. قال الشعبيّ: كن نساء وهبن أنفسهن للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن. لم ينكحن بعده. منهن أم شريك. واستؤنس بحديث عائشة عن أحمد أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقول: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فلما أنزل الله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. ورواه البخاري «1» أيضا كما تقدم. وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: تطلّق وتخلّي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق. وعن قتادة أنها في القسم، وأن له أن يقسم لمن شاء، ويدعه لمن شاء. مع هذا فلم يكن صلّى الله عليه وسلّم يدع القسم. وقد احتج بالآية من ذهب إلى أن القسم لم يكن واجبا عليه صلّى الله عليه وسلّم. والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله. وأن ما روي مما ذكر، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده، أو من رأي ذهب إليه قائله. وقوله تعالى ذلِكَ أي ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك ورفع الحرج عنك فيه أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي تطيب أنفسهن، إن علمن أن ذلك من الله تعالى وَلا يَحْزَنَّ لمخالفة الإرجاء وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي لأنه
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير. 33- سورة الأحزاب، 7- باب قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، حديث رقم 2033، عن عائشة. [.....](8/96)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
حكم، كلهن فيه سواء، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا. وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى. فتطمئن به نفوسهن وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي بذات الصدور حَلِيماً أي ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر.
وروى الإمام أحمد «1» وأهل السنن «2» عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: «اللهم! هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» . يعني القلب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 52]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهن لك في الآية قبل. وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيّه صلوات الله عليه حيث لم يقل له (وحرم عليك ما وراء ذلك) كما خاطب المؤمنين بنظيره، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات.
ولم أر أحدا نبه على ذلك، فاحرص عليه فيه وفي أمثاله.
قال مجاهد في الآية: أي لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي فلك التسرّي بهن وإن كن كتابيات أو مشركات، لأنه ليس لهن ما للحرائر وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي حيث أحل ما أحل وحظر ما حظر للنبيّ وللأمة، في بيان لا خفاء معه وحكمة لا حيف معها. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلّى الله عليه وسلّم. وأن التسع نصابه كالأربع لغيره، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيّرهن. كما تقدم في الآية، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، لكنه لم يفعله إتماما للمنّة عليهن. ومنهم
__________
(1) أخرجه في المسند 6/ 144.
(2) أخرجه أبو داود في: النكاح، 38- باب في القسم بين النساء، حديث رقم 2134.
وأخرجه الترمذي في: النكاح، 24- باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، حديث رقم 1140.
وأخرجه النسائي في: عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض.
وأخرجه ابن ماجة في: النكاح، 47- باب القسمة بين النساء، حديث رقم 1921.(8/97)
من قال إنها محكمة. وكل ذلك لا برهان معه، وتفكيك للمعنى، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب. وقد وهم في هذا المعنى زياد- رجل من الأنصار- فرده أبيّ رضي الله عنه، إلى صواب المعنى. وذلك فيما رواه عبد الله ابن أحمد وابن جرير أن زيادا قال لأبيّ بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم توفّين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال له: إنما أحل الله له ضربا من النساء. فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ، - إلى قوله- إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ثم قيل له لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.
وروى الترمذيّ «1» عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، بقوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.
فحرم كل ذات دين غير الإسلام.
والمطلع على ما كتبوه هنا، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها. فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه.
تنبيه:
قال في (لباب التأويل) : في قوله تعالى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ دليل على جواز النظر من الرجل التي يريد نكاحها من النساء. ويدل عليه ما
روي عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل. أخرجه أبو داود «2» .
وروى «3» مسلم عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
قال الحميديّ:
يعني هو الصّغر.
وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة. فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
هل نظرت إليها؟ قلت: لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. أخرجه الترمذيّ «4»
وحسنه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 18- حدثنا عبد. حدثنا روح عن عبد الحميد.
(2) أخرجه في: النكاح، 18- باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، حديث 2082.
(3) أخرجه في: النكاح، حديث رقم 74.
(4) أخرجه في: النكاح 5- باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، حديث رقم 1087.(8/98)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن.
كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام. و (إلى) متعلق ب (يؤذن) بتضمين معنى الدعاء، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة، وإن تحقق الإذن. كما يشعر به قوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين وقته، وإدراكه.
قال ابن كثير: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفل. وهو الذي تسميه العرب الضيفن. وقد صنف الخطيب البغداديّ في ذلك كتابا في ذم الطفيليين. وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. انتهى.
وأقول: قد يكون معنى قوله غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ نهيا لهم أن يدخلوا- مع كونهم مأذونا لهم ومدعوين- قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظارا لنضج الطعام. فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلفا لكلام لا ضرورة له، وإطالة زمن الحجاب على نسائه. وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت. ولذلك قال تعالى وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أي إذا دعيتم إلى الدخول في وقته. فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده. ف (لكن) استدراك من النهي عن الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر. وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حينا ووقتا يجب أن يراعى زمنه، وهذا المنهيّ عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم(8/99)
والسنة المطهرة. وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغمّ نفس الداعي وأهله. ويذهب لهم جانبا من عزيز وقتهم عبثا إلا في سماع حديثهم البارد. وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا. فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم. وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر. وحينئذ فكلمة (غير) حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه. وهو أن يكون وقت الدعوة، لا قبله. والتقدير (إلّا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه) ولذا قيل: إنها آية الثقلاء. إذا علمت هذا، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية، وهو لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ومن قوله وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا لا من قوله غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لأنه في معنى خاص. وهو ما ذكرناه والله أعلم.
فائدة:
(الإني) مصدر. يقال أنى الشيء يأنى أنيا بالفتح. و (أنى) مفتوحا مقصورا.
(وإنى) بالكسر مقصورا. أي حان وأدرك. قال عمرو بن حسان:
تمخّضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام
ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي تفرقوا ولا تمكثوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على (ناظرين) أو مقدر بفعل. أي لا تمكثوا مستأنسين إِنَّ ذلِكُمْ أي المنهيّ عنه في الآية كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ أي لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من الإشارة إليكم بالانتشار وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحييّ، فأمركم به. ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه. وقرئ لا يَسْتَحْيِي بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبيّ، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام مَتاعاً أي شيئا يتمتع به فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر ذلِكُمْ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي من الخواطر الشيطانية، في الميل إليهن وإليكم. يعني ويجب التطهر عنه، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولذا قال وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي أن تفعلوا فعلا يتأذى به في حياته وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي أمرا عظيما(8/100)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
وخطبا هائلا، لا يقادر قدره. لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب حرمته حيّا وميتا، ما لا يخفى. ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 54]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي مما لا خير فيه، كنكاحهن على ألسنتكم، على ما روي عن بعض الجفاة أَوْ تُخْفُوهُ أي في نفوسكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة. وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد.
قال ابن كثير: أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده. لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين. واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته. هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين. مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله (من بعده) أم لا؟
فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره، والحالة هذه نزاعا والله أعلم. انتهى.
تنبيه:
في (الإكليل) : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين. بعد أن كان النساء لا يحتجبن. وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن. وفيها تحريم أذى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسائر وجوه الأذى. انتهى.
وقال ابن كثير: هذه آية الحجاب. وفيها أحكام، وآداب شرعية. وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه، كما
روى البخاريّ «1» عنه أنه قال: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب.
وكان يقول لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 8- باب قوله لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم، حديث رقم 267.(8/101)
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى. وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة (في قول قتادة والواقديّ وغيرهما) وزعم أبو عبيدة، معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.
وروى البخاريّ «1» عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون. فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام. فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس. ثم إنهم قاموا فانطلقوا. فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل. فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية.
ورواه مسلم «2» أيضا والنسائيّ.
وعن أنس أيضا قال: بني على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، بخبز ولحم.
فأرسلت على الطعام داعيا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو. فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحدا أدعوه. قال: ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله! بارك الله لك.
فتقرّى حجر نسائه كلهن. يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شديد الحياء. فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أو أخبر، أن القوم خرجوا. فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب. انفرد به البخاريّ.
وأخرج نحوه مسلم والترمذيّ. كما بسطه ابن كثير.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 8- باب قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، حديث رقم 2035.
(2) أخرجه في: النكاح، حديث 87.(8/102)
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به. فهو فرض عليهن بلا خلاف، في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها. ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في (الموطأ) أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها. وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصها.
انتهى.
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن. وقد كن بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحججن ويطفن. وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.
ومما يؤيده ما
رواه البخاريّ «1» في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها. وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عمر بن الخطاب. فقال: يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا.
فانظري كيف تخرجين.
قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن.
قال الكرمانيّ: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء- أي من البخاريّ- أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.
قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبويّ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب. ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 8- باب قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ حديث رقم 123.(8/103)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
للمشقة، ورفعا للحرج، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، مع أن الأمسّ به شرح الصحيح، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتحقيق المقام. زادنا الله من فضله علما، إنه هو العليم العلام.
ثم بين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 55]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ أي لا حرج ولا إثم عليهن، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمّين.
قال الطبريّ: وعني ب (إخوانهن وأبناء إخوانهن) إخوتهن. وأبناء إخوتهن.
وخرج معهم جمع ذلك، مخرج جمع فتى إذا جمع (فتيان) فكذلك جمع أخ إذا جمع (إخوان) وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع (فتية) .
تنبيهات:
الأول- قيل: إنما لم يذكر العم والخال، لأنهما بمنزلة الوالدين. ولذلك سمي العم أبا في قوله تعالى وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] ، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات. فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخؤولة. لما أنهن عمات لأبناء الإخوة، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل: لأنه كره ترك الاحتجاب منهما، مخافة أن يصفاهنّ لأبنائهما.
وهو رأي عكرمة والشعبيّ. كما أخرجه الطبريّ من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة والشعبيّ أنه قال لهما: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.
قال الشهاب: لكنه قيل عليه، إن هذه العلة، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما(8/104)
وهما يجوز لهما التزوج بها، جار في النساء كلهن، ممن لم يكن أمهات محارم.
فينبغي التعويل على الأول. انتهى.
والتحقيق في رده ما
رواه البخاري «1» في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس، بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل عليّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت له: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وما منعك أن تأذني؟ عمك. قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: ائذني له فإنه عمك، تربت يمينك.
قال عروة: فلذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب انتهى.
فبقوله صلّى الله عليه وسلّم «2»
«ائذني له فإنه عمك»
مع
قوله في الحديث الآخر «3»
«العم صنو الأب»
يرد على عكرمة والشعبيّ.
الثاني- قيل: أريد بقوله تعالى وَلا نِسائِهِنَّ المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل هو عامّ في المسلمات والكتابيات. وإنما قال وَلا نِسائِهِنَّ لأنهن من أجناسهن.
الثالث- استدل بعموم قوله تعالى وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.
الرابع- قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها، على تحريم نظرهما إليهن، فكانا لا يدخلان عليهن وَاتَّقِينَ اللَّهَ أي أن تتعدين ما حدّ لكنّ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازيّ: أي واتقينه عند المماليك. قال، ففيه دليل على أن
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 9- باب قوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، حديث 1283.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 9- باب قوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، حديث رقم 1283.
وأخرجه مسلم في: الرضاع، حديث 3- 6.
(3) أخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم 11.(8/105)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككنّ الحجاب لمن أبيح لكن تركه، وغير ذلك من أموركن، فاحذرن أن تلقينه. وهو شاهد عليكن بمعصيته وخلاف أمره ونهيه فتهلكن. قال الرازيّ: هذا التذييل في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال: إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض. فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 56]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال الرازيّ: لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، كمّل بيان حرمته. وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين: حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: 53] ، وحالة يكون في ملأ. والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى، أما في الملأ الأعلى فهو محترم. فإن الله وملائكته يصلون عليه. وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً انتهى.
وقد روى البخاريّ «1» عن أبي العالية قال: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة.
وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون يبرّكون. أي يدعون له بالبركة.
فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه. وبالجملة، فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه في التنزيل أو الأثر. وقد أطنب الإمام ابن القيّم في (جلاء الأفهام) في مبحث معنى الصلاة، وأطال فأطاب. فلينظر.
وفي البخاريّ «2» عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه قيل: يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه. فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم! صلي على
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 10- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ. [.....]
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، 10- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، حديث رقم 1591.(8/106)
محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وروى الإمام أحمد «1» وأبو داود والنسائيّ وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه، عن أبي مسعود البدريّ أنهم قالوا: يا رسول الله! أما السلام فقد عرفناه.
فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد. وذكره. ورواه الشافعيّ في مسنده عن أبي هريرة بمثله.
ومن هاهنا ذهب الشافعيّ رحمه الله، إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأخير. فإن تركه لم تصح صلاته. ووافقه الإمام أحمد في رواية. وقال به إسحاق بن راهويه والإمام ابن المواز المالكيّ وغيرهم. كما بسطه ابن القيم في (جلاء الأفهام) وابن كثير في (التفسير) وقد تقصّيا، عليهما الرحمة، أيضا الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها. فأوسعا. فليرجع إليهما.
تنبيهات:
الأول- تدل الآية على وجوب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مطلقا. لأن الأصل في الأمر للوجوب. فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة. ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس. وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة. ثم هي مستحبة في كل حال.
وآخرون إلى وجوبها كلما ذكر. وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب. قال ابن كثير: وهذا قول غريب. فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة. فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه. فمنه بعد النداء للصلاة،
لحديث «2»
(إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ)
الحديث ومنه عند دخول المسجد
لحديث «3»
(كان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمد وسلّم) . ثم قال: اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلّى على محمد وسلّم. ثم قال:
اللهمّ! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك
. ومنه الصلاة، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها، وتجب في الثاني. ومنه في صلاة الجنازة بعد
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 118.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، 7- باب ما يقول إذا سمع المنادي، حديث 390، عن أبي سعيد الخدري.
(3) أخرجه الترمذي في: الصلاة، 117- باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد، حديث 314.(8/107)
التكبيرة الثانية، لقول أبي أمامة: من السنة ذلك. وهذا من الصحابيّ في حكم المرفوع، على الصحيح. ومنه ختم الدعاء. فيستحب الصلاة فيه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن آكد ذلك دعاء القنوت. ومنه يوم الجمعة وليلتها. فيستحب الإكثار منها فيهما، ومنه في خطبة يوم الجمعة. يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها.
وهو مذهب الشافعيّ وأحمد. ومنه عند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم
لحديث (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) تفرد به أبو داود «1» وصححه النوويّ في (الأذكار) .
وعن الحسن بن الحسن بن عليّ أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تتخذوا قبري عيدا. ولا تتخذوا بيوتكم قبورا.
وصلوا عليّ حيثما كنتم. فإن صلاتكم تبلغني.
قال ابن كثير: فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة، فنهاهم.
وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر. فقال: يا هذا! ما أنت ورجل بالأندلس، منه إلا سواء. أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. وقد استحب أهل الكتاب أن يكرر الكاتب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلما كتبه.
وقد روي في حديث (من صلى عليّ في كتاب لم تزل الصلاة جارية له، ما دام اسمى في ذلك الكتاب)
. قال الحافظ ابن كثير: وليس هذا الحديث بصحيح. بل عدّه الحافظ الذهبيّ موضوعا. وقد ذكر الخطيب البغداديّ أنه رأى بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، كثيرا اسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة. قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا.
الثاني- الصلاة على غير الأنبياء، إن كانت على سبيل التبعية، كنحو: اللهم صل على محمد وآله وأزواجه، فهذا جائز إجماعا. وأما استقلالا فجوّزه قوم لآية هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] ، وآية أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 157] ، وآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: 103] ،
ولحديث «2»
كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:
__________
(1) أخرجه في: المناسك، 96- باب في زيارة القبور، حديث 2041.
(2) أخرجه البخاري في: الزكاة، 64- باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، حديث 800، عن عبد الله بن أبي أوفى.(8/108)
«اللهم! صل عليهم. فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم! صل على آل أبي أوفى» .
وكرهه قوم، لكون صيغة الصلاة صارت شعارا للأنبياء إذا ذكروا. فلا يلحق بهم غيرهم. فلا يقال: قال عمر صلى الله عليه. كما لا يقال قال محمد عز وجل. وإن كان عزيزا جليلا. لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم.
وقال ابن حجر: إن ذلك وقع من الشارع. ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه. ولم يثبت عنه إذن في ذلك. انتهى.
وقد يقال: كفى في المرويّ المأثور المتقدم إذنا.
والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب. على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر. ولا حظر هنا. فتدبر.
وأما السلام، فقال الجوينيّ: هو في معنى الصلاة. فلا يستعمل في الغائب.
ولا يفرد به غير الأنبياء. فلا يقال: عليّ عليه السلام. وساء في هذا الأحياء والأموات.
وأما الحاضر فيخاطب به. فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم. أو السلام عليك أو عليكم. وقد غلب- كما قال ابن كثير- على كثير من النساخ للكتب، أن يفرد عليّ رضي الله عنه بأن يقال (عليه السلام) من دون سائر الصحابة.
قال: والتسوية بينهم في ذلك أولى. انتهى.
والخطب سهل. ومن رأى المرويّ في هذا الباب، علم أن الأمر أوسع من أن يحرّج فيه. على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف، وفيه بحث في الأصول.
الثالث- قال النوويّ: إذا صلى على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فليجمع بين الصلاة والتسليم.
فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول (صلى الله عليه) فقط. ولا (عليه السلام) فقط.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة. وهي قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً فالأولى أن يقال صلّى الله عليه وسلّم تسليما.
انتهى.
الرابع- قال الرازيّ: إذا صلّى الله وملائكته عليه، فأي حاجة إلى صلاتنا؟
نقول: الصلاة عليه ليس لحاجته إليها. وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه، ولا حاجة له إليه. وإنما هو لإظهار تعظيمه منا، رحمة بنا، ليثيبنا عليه. ولهذا جاء في
الحديث (من صلى عليّ مرة، صلى الله عليه بها عشرا)
. انتهى.(8/109)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
وكان سبق لي، من أيام معدودات أن كتبت في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه، ما مثله: ويسنّ يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته والمنة باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله. ما ذاق عارف سرّ شريعته. وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته.
الخامس- قال الرازيّ: ذكر (تسليما) للتأكيد ليكمل السلام عليه. ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد، لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ انتهى.
وقيل: إنه من الاحتباك. فحذف (عليه) من أحدهما. و (المصدر) من الآخر.
قال القاضي: قيل معنى وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي انقادوا لأوامره. فالسلام من التسليم والانقياد.
السادس- قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد. فأمر به المؤمنون لصحتهما منهم. والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهم، دفعا للإيهام. والعلم عند الله. انتهى.
وقال الشهاب: قد لاح لي في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، نكتة سرية. وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه. فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم، فناسب التخصيص بهم والتأكيد. انتهى.
ولما أمر تعالى بالصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم التي هي الثناء عليه وتمجيده وتعظيمه، بيّن وعيد من لا يرعاها، بأن يجرأ على ضدها بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 57]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً أي ينالون فيه الهوان والخزي. والمقصود من الآية الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وذكر الله تعالى إنما(8/110)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
هو لتعظيمه، ببيان قربه، وكونه حبيبه، حتى كأنّ ما يؤذيه يؤذيه. كما أن من يطيعه يطيع الله. وقد روى الطبريّ عن ابن عباس أنها نزلت في الذين طعنوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حين اتخذ صفية بنت حييّ. وهذا في الحقيقة من أفراد ما تشمله الآية. بل لو قيل إنها عني بها من خاض في مسألة زينب، لكان أقرب، لتقارب الآيات في الباب الواحد، وتناسقها كسلسلة واحدة، في تلك المسألة التي كانت المقصود الأعظم من السورة بتمامها. كما لا يخفى على من تدبرها. وبالجملة، فاللفظ عامّ في كل ما يصاب به صلّى الله عليه وسلّم من أنواع المكروه. فيدخل المقصود من التنزيل دخولا أوليّا. وعلى هذا، فالأذية على حقيقتها. وقيل المراد بأذية الله ورسوله، ارتكاب ما لا يرضيانه، مجازا مرسلا. لأنه سبب، أو لازم له. وإن كان بالنسبة إلى غيره، فإنه كان في العلاقة وذكر الله والرسول على ظاهره. ومن جوّز إطلاق اللفظ الواحد على معنيين، كاستعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو في حقيقته ومجازه، فسر الأذية بالمعنيين باعتبار المعمولين. فتكون بالنسبة إليه تعالى، ارتكاب ما يكره مجازا، وإلى الرسول على ظاهره. فإن تعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل. فيجيء فيه الجمع بين المعنيين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 58]
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي بقول أو فعل بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بيّنا.
قال الزمخشريّ: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا. وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.
تنبيه:
في (الإكليل) : في هذه الآية تحريم أذى المسلم، إلا بوجه شرعيّ. كالمعاقبة على ذنب. ويدخل في الآية كل ما حرم للإيذاء. كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته. وقد نص الشافعيّ على تحريم أكل الإنسان مما يلي غيره، إذا اشتمل على إيذاء.(8/111)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعا (أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم) ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج عن قتادة في هذه الآية: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له. وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعه ذلك. حتى ذهب إلى أبيّ بن كعب. فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. والله! إنى لأعاقبهم وأضربهم. فقال له: إنك لست منهم. إنما أنت مؤدّب، إنما أنت معلّم.
انتهى.
قال الزمخشريّ: وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف؟
وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمة، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول. فرحمه الله ورضي عنه.
ولما بيّن تعالى سوء حال المؤذين، زجرا لهم عن الإيذاء، أمر النبيّ عليه الصلاة والسلام بأن يأمر بعض المتأذين منهم، بما يدفع إيذاءهم في الجملة من الستر والتميز، عن مواقع الإيذاء، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 59]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع (جلباب) كسرداب، وهو الرداء فوق الخمار، تتغطى به المرأة. وهو معنى قول بعضهم: جلبابها ملاءتها تشتمل بها. وقيل هو الخمار. قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه:
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى، عليهن الجلابيب
وقال آخر يصف الشيب:
حتّى اكتسى الراس قناعا أشهبا ... أكره جلباب لمن تجلببا
وقال الزمخشريّ: الجلباب ثوب واسع، أوسع من الخمار، ودون الرداء. تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضي الله(8/112)
عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. ثم قال: ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال إذا زلّ عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك. وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة. وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان. وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة. يقولون حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. ثم قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما معنى (من) في (من جلابيبهن) قلت:
هو للتبعيض. إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين: أحدهما- أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب. والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها. والثاني- أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها، لتتقنع حتى تتميز من الأمة. انتهى.
ومن الآثار في الآية، ما رواه الطبريّ عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذ خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، وبيدين عينا واحدة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان، من السكينة. وعليهن أكسية سود يلبسنها. وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهريّ:
هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب. لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: روي عن سفيان الثوريّ أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة. وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهنّ. واستدل بقوله تعالى: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ. انتهى.
الثاني- قال السبكيّ في (طبقاته) : استنبط أحمد بن عيسى، من فقهاء الشافعية، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات، من تغيير لباسهم وعمائمهم، أمر حسن. وإن لم يفعله السلف. لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم.
انتهى.(8/113)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
الثالث- قال الشهاب: قوله تعالى يُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول.
وهو خبر بمعنى الأمر، أو جواب الأمر، على حدّ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] ، انتهى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي لما سلف منهنّ من التفريط رَحِيماً أي بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 61]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي عن نفاقهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف إيمان، عن مراودة النساء بالفجور وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أي بأخبار السوء اللاتي يفترونها وينشرونها. كمجيء عدوّ وانهزام سريّة. وهكذا مما يكسرون به قلوب المؤمنين. وأصله التحريك. من (الرجفة) وهي الزلزلة. يسمى به الخبر المفترى، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت. أو لاضطراب قلوب المؤمنين به لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلطنك عليهم بما يضطرهم إلى الجلاء ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي في المدينة من قوة بأسك عليهم إِلَّا قَلِيلًا أي زمنا قليلا ريثما يستعدون للرحلة مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أي مبغضين لله وللخلق. لا يستريحون بالخروج. للصوق اللعنة بهم أينما وجدوا. أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي أسروا وبولغ في قتلهم لذلتهم وقلتهم. ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 62]
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي في المفترين والمؤذين الذين مضوا، إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا، أن يسلّط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم.
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لأنه لا يبدلها، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.
تنبيهات:
الأول- قال الشهاب: إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين، قوم مخصوصون، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات، على حدّ (إلى الملك(8/114)
القرم وابن الهمام) أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات. فعلى الأول، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين. وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض، كما مرّ في البقرة. والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم. لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل. فإنه لم يقع للمنافقين. وعلى الثاني، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين. كأهل الفجور. والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة. وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم. وهم اليهود.
انتهى.
الثاني- ذكروا أن معنى قوله تعالى: أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أنهم إذا خرجوا لا ينفكّون عن المذلّة، ولا يجدون ملجأ. بل أينما يكونون، يطلبون ويؤخذون ويقتلون. وعليه، فالجملة خبريّة. وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائيّة كقوله عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] و [الفتح: 6] ، وقوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ، كأنه قيل: أخذهم الله. أي أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشدّه. ولم أر أحدا تعرّض له. وقد أفاد ابن عطية، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء. لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، أي لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير.
الثالث- في (الإكليل) : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ في قوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم قوم كانوا يجلسون على الطريق، يكابرون المرأة مكابرة. فنزلت فيهم الآية إلى قوله: أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا قال: هذا حكم في القرآن، ليس يعمل به، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم. انتهى.
وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية. كما قدمنا. على أن للحاكم أن يفعل ذلك، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة. على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب. كما بسط ذلك النجم الطوفيّ في (رسالته) وأيدناه بما علقناه عليها.
الرابع- كتب الناصر في (الانتصاف) على قول الكشاف في قوله: إِلَّا قَلِيلًا أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم، ما مثاله: فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعيّ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر، على حسب الاجتهاد. انتهى.(8/115)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 63]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي يسألونك عن وقت قيامها. وكان المشركون في مكة يسألونه صلّى الله عليه وسلّم، عنها استعجالا على سبيل الهزء. وكذلك اليهود في المدينة أو غيرهم. لأن هذه السورة مدنية، وقد أرشده تعالى أن يردّ علمها إليه لاستئثاره تعالى به. فلم يطلع عليه نبيا ولا ملكا، وأن يبين لهم أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين وإسكاتا للممتحنين.
لطيفة:
تذكير (قريبا) باعتبار موصوفه، الخبر، أي شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم أو الوقت. أو أن (قريبا) ظرف منصوب على الظرفية، فإن (قريبا) و (بعيدا) يكونان ظرفين. فليس صفة مشتقة، حتى تجري عليه أحكام التذكير والتأنيث.
قال أبو السعود: والإظهار في حيز الإضمار، للتهويل وزيادة التقرير. وتأكيد استقلال الجملة. يعني أن قوله: وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له عليه السلام، غير داخل تحت الأمر، مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة للخلق، مرجوة المجيء عن قريب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 66]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أي أبعدهم من رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً أي نارا شديدة الاتّقاد في الآخرة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا أي حافظا يتولاهم وَلا نَصِيراً أي يخلصهم يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي تصرف من جهة إلى جهة، تشبيه بقطعة لحم في قدر تغلي. ترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو المعنى:
من حال إلى حال. فالمراد تغيير هيئاتها من سواد وتقديد وغيره.
قال الزمخشريّ: وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة. وناصب الظرف (يقولون) أو(8/116)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
(اذكر) أو (لا يجدون) أو (خالدين) أو (نصيرا) يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا أي فكنا ننجو من هذا العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 الى 69]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي بما زينوه لنا. قال الزمخشريّ:
وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي العذاب الذي آتيتناه، لأنهم ضلوا وأضلوا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي لعنا هو أشد اللعن وأعظمه. وقرئ (كثيرا) تكثيرا لأعداد اللعائن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلّم، من استحقاقه اللعنة في الدارين، تعريضا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب، التي سيقت السورة لأجلها، ختمها أيضا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام، بتنقصه تارة، وقلة الأدب معه طورا، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة. كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم. مما ينبئ عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته. فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ورماهم بأفانين العقوبات، ولحقتهم المخازي، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم، ونزه مقامه عن تنقيصهم، بأن حقق فضله، وأسمى منزلته، وآتاه الوجاهة- وهي العظمة والقرب- عنده. وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولحقهم الدمار، وشرح لنبيه صدره، ورفع له ذكره، وأعلى منزلته، وفخم وجاهته، ما تعاقبت الأدوار. ويقرب من هذه الآية، في المعنى والإشارة، قوله تعالى وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الصف: 5] ، وفيهما كلتيهما تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما. وكثيرا ما كان(8/117)
يقول صلّى الله عليه وسلّم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره: رحمة الله على موسى. لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
وقد روى المفسرون هاهنا آثارا. أحسنها ما
أخرجه البزار عن أنس مرفوعا: كان موسى رجلا حييّا. وأنه أتى الماء ليغتسل. فوضع ثيابه على صخرة. وكان لا يكاد تبدو عورته. فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة. يعنون أنه لا يضع ثيابه.
فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل. فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال. أو كما قال. فذلك قوله فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ورواه «1» البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة أيضا.
قال الرازيّ وحديث إيذاء موسى مختلف فيه- أي لكثرة الروايات فيه- مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة:
24] ، وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ، وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] ، إلى غير ذلك. فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم. انتهى.
وقال ابن كثير: يحتمل أن يكون كل ما روي مرادا. وأن يكون معه غيره.
انتهى. أي لعموم المعمول المحذوف. وما بيناه أولا، هو الأقرب. والله أعلم.
تنبيهات:
الأول- (الوجيه) لغة بمعنى السيد، كالوجه. يقال: هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه. أي أشرافه. وبمعنى ذي الجاه- والجاه القدر والمنزلة. مقلوب عن (وجه) فلما أخرت (الواو) إلى موضع (العين) وصارت جوها، قلبت (الواو) ألفا.
فصارت (جاها) . كذا في القاموس وشرحه.
الثاني- قال الزمخشريّ: (وجيها) أي ذا جاه ومنزلة عنده. فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة. كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقال ابن جرير: أي كان موسى عند الله مشفّعا فيما يسأل، ذا وجه ومنزلة عنده، بطاعته إياه. أي مقبولا ومجابا فيما يطلب لقومه من الله تعالى، عناية منه تعالى وتفضيلا.
الثالث- اتخذ العامة، وكثير من المتعالمين، وصف الوجاهة للأنبياء، ذريعة
__________
(1) أخرجه البخاري في: الغسل، 30- باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، حديث رقم 201.(8/118)
المطلب والرغبة منهم، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل، ولا يصدق على المعنى اللغويّ بوجه ما، وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فتيا، أبان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة. وذلك أنه سئل، رحمه الله، عمن يتوسل بالأنبياء، والأولياء، معتقدا أن النبيّ أو الوليّ يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحكام. وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام.
فقال امرؤ: إن هذا مخلّ بالعقيدة وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال. وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلّا الله تعالى. وإنه لا يدعى معه أحد سواه. كما قال تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] ، وإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان أعظم منزلة عند الله تعالى من جميع البشر، وأعظم الناس جاها ومحبة، وأقربهم إليه، ليس له من الأمر شيء، ولا يملك للناس ضرّا ولا نفعا ولا رشدا ولا غيره. كما في نص القرآن. وإنما هو مبلّغ عن الله تعالى. ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلّم، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته. وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه. ولا معنى للتوسل بنبيّ أو وليّ إلا باتباعه والاقتداء به. يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم، كقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ، وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] ، إلى غير ذلك من الآيات. هذا هو اعتقادي وهو الذي قلته للناس.
فإن كنتم ترون فيه خطأ فأرجو بيانه. وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة، لأدافع بذلك من أساء بي الظن.
فأجاب رحمه الله، بعد البسملة والحوقلة: اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح.
ولا يشوبه شوب من الخطأ. وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يعتقده. فإن الأساس الذي بنيت عليه رسالة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم هو هذا المعنى من التوحيد. كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:
1- 2] ، والصَّمَدُ هو الذي يقصد في الحاجات، ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم على ما يطلبون، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم. والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر. كما هو معروف عند أهل اللغة. فلا صمد إلا هو.
وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] ، وقد قال الشيخ محي(8/119)
الدين بن العربيّ، شيخ الصوفية، في صفحة 226 من الجزء الرابع من (فتوحاته) عند الكلام على هذه الآية: إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه. بل لله الحجة البالغة.
فلا يتوسل إليه بغيره. فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه. وقد أخبرنا الله أنه قريب. وخبره صدق. انتهى ملخصا.
على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات، ويسلكون طرقا من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس. ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين. فأيّ حالة تدعوهم إلى ذلك؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه (بدعة) في الدين وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به.
كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيما لقدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو الأنبياء أو الأولياء. مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم. وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم. وظنّ هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم، واختراع شؤون لهم مع الله، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح. هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن. لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت، وليس يخطر بالبال أن جبارا لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله. فكيف بالأنبياء والصديقين؟ إن لفظ (الجاه) الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل، مفهومه العرفيّ هو السلطة. وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه، ويقال فلان خلص فلانا من عقوبة الذنب بجاهه، لدى الأمير أو الوزير مثلا. فزعم زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى، إشراك جليّ لا خفيّ. وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغويّ، وهو المنزلة والقدر. على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها. لأنها ليست شيئا ينفع. وإنما يكون لذلك معنى، لو أوّلت بصفة من صفات الله، كالاجتباء والاصطفاء، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه. وإن كان (الآلوسيّ) بنى تجويز التوسل بجاه النبيّ خاصة على(8/120)
ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلّا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهّال. وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة. وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟
يقول بعض الناس: إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما
رواه الترمذيّ «1» بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: إن رجلا ضرير البصر أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك.
قال: فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه فيّ.
قال الترمذيّ: وهو حديث حسن صحيح غريب، ونقول أولا: قد وصف الحديث بالغريب، وهو ما رواه واحد. ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك. ولا وجه لابتعادهم عن العمل به، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي. كما قال عمر «2» رضي الله عنه، في حديث الاستسقاء: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا، قال ذلك، رضي الله عنه، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يقول (كنا نستسقي بنبيك) وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه، بل ويكون من الأعلى للأدنى، كما ورد في الحديث. وليس فيه ما يخشى منه، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى، والشريك في الدعاء شريك في العبودية، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] ، ثم المسألة داخلة في باب العقائد، لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز) ؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين، وقد نعاها عليهم في قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ
__________
(1) أخرجه في: الدعوات، 118- باب حدثنا محمود بن غيلان.
(2) أخرجه البخاري في: الاستسقاء، 3- باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا، حديث 572.(8/121)
شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، سورة يونس، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلا استعانة إلا به، وقد صرح الكتاب بأن أحدا لا يملك للناس من الله نفعا ولا ضرّا، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا. ثم البرهان العقليّ يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إرادتهم، بما يتخذه أهل الجاه عندهم، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك. ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة. ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده. فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن.
وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28] ، انتهى كلامه رحمه الله.
ثم راجعت (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام العلم تقيّ الدين ابن تيمية رضي الله عنه. فرأيته ذكر نحوا من ذلك، وعبارته: فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها، تعمّ الوسيلة في عبادته وفي مسألته. فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته.
ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره:
وقول عمر رضي الله عنه (إنا كنا، إذا أجدبنا، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا) معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته. ليس المراد به، إنا نقسم عليك به. أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه. كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك. ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض) فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه، لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس. مع علمهم أن السؤال به والإقسام به، أعظم من العباس.
فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات. وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فإن الحيّ يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى. فإنه طلب من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره. فعلّمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعاء أمره فيه، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيّه فيه.
فهذا يدل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن
قوله (أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة)
أي بدعائه وشفاعته. كما قال(8/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
عمر: كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ (التوجه) و (التوسل) في الحديثين بمعنى واحد. ثم
قال (يا محمد! يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم! فشفعه فيّ)
فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيّه.
وقوله (يا محمد! يا نبيّ الله!)
هذا وأمثاله نداء، يطلب به استحضار المنادى في القلب. فيخاطب المشهود بالقلب. كما يقول المصلّي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته.
والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا. يخاطب من يتصوّره في نفسه. وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به، فيه إجمال واشتراك. غلط تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة، يراد به التشبث به (في الأصل التسبب به) لكونه داعيا وشافعا مثلا. أو لكون الداعي محبّبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته. فلا يكون التوسل، لا شيء منه ولا شيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 70]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي في كل ما تأتون وما تذرون. لا سيما في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا أي في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً أي قويما حقا صوابا. قال القاشانيّ: (السداد) في القول، الذي هو الصدق والصواب، هو مادة كل سعادة، وأصل كل كمال. لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات. وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى.
لكنه أفرد بالذكر للفضيلة. كأنه جنس برأسه. كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 71]
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم. لأنه(8/123)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلا. وبه يصلح كل عمل وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. فإن الحسنات يذهبن السيئات وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي في الدارين.
وقال القاشانيّ: أي فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية، وهو الفوز العظيم.
تنبيه:
قال الزمخشريّ: المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والبعث على أن يسدّ قولهم في كل باب. لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. وهذا الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام. وإتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى.
ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره، مرادا آخر. وهو نهيهم أيضا عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما. إلا أن الذي يراعى أولا، هو ما كان التنزيل لأجله، وذلك ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 72]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا قال أبو السعود: لما بيّن عظم شأن طاعة الله ورسوله، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل- مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عنها ب (الأمانة) تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها. وأوجب عليهم تلقّيها بحسن الطاعة والانقياد.(8/124)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها. وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السموات وغيرها، بالعرض عليهنّ، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها- وعن عدم استعدادهنّ لقبولها، بالإباء والإشفاق منها، لتهويل أمرها وتربية فخامتها- وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية، التي أشدها وأعظمها ما فيهنّ من القوة والشدة. والمعنى: أن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام، التي هي مثل في القوة والشدة، مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين قبولها وأشفقن منها.
ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق، روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه. وقوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي عند عرضها عليه. إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق- أي تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة- وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطريّ، أو عن اعترافه بقوله (بلى) . وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل وغايته، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله- أي أنه كان مفرطا في الظلم، مبالغا في الجهل. أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة. أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا. وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : آية 73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة. على أن اللام للعاقبة. فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل، لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض- أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية. وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده. أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة. وتلافيهم لما(8/125)
فرط منهم من فرطات. قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة. والالتفات إلى الاسم الجليل أولا، لتهويل الخطب وتربية المهابة. والإظهار في موضع الإضمار ثانيا، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة. حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام، وإجادته في المقام. وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.
بقي في الآية لطائف نشير إليها:
الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين. وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.
وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعية والاختيارية، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وبعرضها، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره- وبحملها، الخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد. فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبين الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها. حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال:
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] ، وخانها الإنسان حيث لم يأت- وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا. وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله. كما يقال (ركبته الديون) وقرره الزمخشريّ بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها. لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حاملها. ألا تراهم يقولون (ركبته الديون) و (لي عليه حق) فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ومنه قولهم (أبغض حق أخيك) لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه. وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان) فأبين إلا أن يؤدينها. وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه(8/126)
ما يسعده مع تمكنه منه، وهو أداؤها. انتهى ملخصا.
الثانية- نقل ابن كثير آثارا عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا. وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة. ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بعد، أن يخلق الله فيها فهما لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها. ولذا عبر بالعرض، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها. انتهى.
قال الإمام ابن حزم في (الفصل) في الردّ على من جعل للجمادات تمييزا، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك. وهذا نص قوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف: 51] ، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] .
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها. وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها. فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.
قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) وسبقه الزمخشريّ حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم (لو قيل للشحم أين تذهب، لقال أسوّي العوج) وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال. ولكن الغرض أن السّمن في الحيوان مما يحسّن قبيحه. كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.
الثالثة- قال الرازيّ: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على(8/127)
الخيانة كاللازم، والأجر على الحفظ إحسان، والعدل قبل الإحسان.
الرابعة- ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث. منها
عن أبي هريرة مرفوعا: أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. رواه أبو داود «1» والترمذي «2» .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أربع، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا:
حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة. رواه الإمام أحمد «3»
والطبرانيّ وعن أبي هريرة «4» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمن سأل عن الساعة: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال: إذا وسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة.
الخامسة- قال ابن كثير: روى عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) أن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي.
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة: من حلف بالأمانة فليس منا، تفرد به أبو داود «5» .
أي لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته. وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام.
كما تقرر في موضعه. والله أعلم.
السادسة- سبق لي أن كتبت في الآية شيئا. في منتصف ربيع الأول سنة 1324، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية. ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.
أردت إثباته هنا تعزيزا للمقام، ونصه: في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع (ردّ العجز على الصدر) ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق. أبان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا وذلك في قوله تعالى:
__________
(1) رواه في: كتاب البيوع، 79- باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث 3535.
(2) أخرجه في: البيوع، 38- باب حدثنا أبو كريب، حديث 1264.
(3) أخرجه في المسند 2/ 177، والحديث رقم 6652.
(4) أخرجه البخاري في: العلم، 2- باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه، حديث 52.
(5) أخرجه في: الأيمان، 5- باب كراهية الحلف بالأمانة، حديث 3253. [.....](8/128)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب: 15- 16] ، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم. وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشدّ أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدوّ عليه ويثبط من يجرى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به وما أفظع ما ارتكب وما أعظم جريمته! وجليّ أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها. ففي أي مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار. فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، هي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة. وكان من أثرها السيّئ في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والإنسان هنا، المعنيّ به جنس المنافق الذي قصّ من نبئه ما قصّ. والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمرا ربّانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل. والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها لهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كلّ من خطر تحملها. وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن. مع أنهن أقوى أجساما وأعظم ثباتا وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها. وإن الإنسان، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها. واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل. وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال. فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: 88- 91] ، وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة. فإن أسلوبه في(8/129)
إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوب انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أولا، وفي تعيين زمانه وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الإنسان ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك- كله فلسفة لفظية، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلوّ بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه- ولن يجدوا إليه سبيلا ما دام هذا سبيلهم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(8/130)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة سبأ
سميت بها لتضمن قصتها آية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلوّ عن الآفة، وتبدّلها بالنقم، لمن كفر بالمنعم.. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.
قاله المهايميّ. وهي مكية. واستثني منها وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ: 6] الآية.
وروى الترمذيّ «1» عن فروة بن مسيك المراديّ قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث.
وفيه: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله! وما سبأ؟ الحديث.
قال ابن الحصار: هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.
قال: ويحتمل أن يكون قوله (وأنزل) حكاية عما تقدّم نزوله قبل هجرته.
أفاده في (الإتقان) وآيها أربع وخمسون.
__________
(1) أخرجه في: التفسير، 34- سورة سبأ، 1- حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد.(8/131)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ خلقا وملكا، وتصرفا بما شاء وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي في النشأة الآخرة. قال الشهاب: السموات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره. وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله الَّذِي إلخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولما قيّد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها. أو هو من باب الاحتباك. وأصله: الحمد لله إلخ في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها. فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة. وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة (يعلم) حالية وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته الْخَبِيرُ أي بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علما قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 2]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي من الأمطار والمياه والكنوز والدفائن والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها أي من الشجر والنبات وماء العيون والغلة والدواب وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ أي من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والمقادير وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة وأعمال العباد وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أي لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.(8/132)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 3]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكة لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أي ساعة الجزاء، إنكارا لها قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة. رد لكلامهم وتأكيد لما نفوه، باليمين بالله عزّ وجلّ عالِمِ الْغَيْبِ بالجرّ صفة، والرفع خبر محذوف. وقرئ (علّام) . بالجرّ. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد. لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته. لما أن في حكم.
الاستشهاد على الأمر. لا سيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى.
فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب لا يَعْزُبُ أي لا يغيب بضم الزاي وكسرها عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء وإن تناهى في الصغر. فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت. ثم يعيدها كما بدأها أول مرة، لسعة علمه وعظم قدرته، جلّ شأنه.
لطائف:
الأولى- عامة القرّاء على رفع أَصْغَرُ وأَكْبَرُ وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ والثاني النسق على مِثْقالُ. وعلى هذا فيكون قوله إِلَّا فِي كِتابٍ تأكيدا للنفي في لا يَعْزُبُ كأنه قال: لكنه في كتاب مبين. ويكون في محل الحال. وقرأ بعض السلف بفتح الراءين. وفيه وجهان:
أحدهما- أن (لا) هي لا التبرئة. بني اسمها معها. والخبر قوله إِلَّا فِي كِتابٍ.
والثاني- النسق على ذَرَّةٍ لامتناعه من الصرف.
الثانية- يشير قوله تعالى وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إلى أن مِثْقالُ لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا.
الثالثة- قال الكرخيّ: فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر (الأكبر) فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات(8/133)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان. وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، فاعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك. فإن الأكبر مكتوب فيه أيضا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 4]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله تعالى لَتَأْتِيَنَّكُمْ وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي عيش هنيء في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 5]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك. مُعاجِزِينَ أي مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ وهو أسوأ العذاب ومِنْ للبيان أَلِيمٌ بالرفع صفة (عذاب) ، وبالجرّ صفة ل (رجز) قراءتان. وقد جوّز في قوله وَالَّذِينَ سَعَوْا أن يكون مبتدأ، وجملة أُولئِكَ.. إلخ خبره وأن يعطف على الَّذِينَ قبله. أي ويجزي الذين سعوا. ويكون جملة أُولئِكَ التي بعده مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدّهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 6 الى 8]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)
وَيَرَى أي يعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي(8/134)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
أي دينه وشرعه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قريش هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم ترابا ورفاتا إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي فيما قاله أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي المتناهي أمره.
فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لمغرق في الجهالة. ومبعد أيّ بعد في الضلالة. ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 9]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء. والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة، أفاده الزمخشريّ. و (الكسف) بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر. وقرأ حفص (كسفا) بالفتح إِنَّ فِي ذلِكَ أي النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله لَآيَةً أي دلالة واضحة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى ربه مطيع له. فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى [يس: 81] . وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] . ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل والملك وسعة السلطان ووفرة الجند وكثرة العدد والعدد، ببركة إنابتهما وقيامهما بشكر الرب تعالى، عدة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيرا بقدرته على كل شيء، فقال تعالى:(8/135)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي رجّعي معه التسبيح ويا جِبالُ بدل من فَضْلًا أو من آتَيْنا بتقدير قولنا، أو قلنا يا جبال أوّبي معه وَالطَّيْرَ بالرفع والنصب، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوز انتصابه مفعولا معه وأن يعطف على فَضْلًا بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري: فإن قلت أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال وآتينا داود منا فضلا، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى. وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي دروعا واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها وَاعْمَلُوا صالِحاً أي وقلنا له ولأهله ذلك إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فأجازيكم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 12]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشيّ كذلك والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة، كما في القاموس وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب، أي أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه وَمِنَ الْجِنِّ أي الشياطين الأقوياء مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أي من رفيع المباني وإشادة القصور وغيرها بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمره تعالى: وَمَنْ يَزِغْ أي يعدل مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي النار. ثم فصل ما ذكر من عملهم بقوله تعالى:(8/136)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 13]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي مساكن ومجالس شريفة أو مساجد وَتَماثِيلَ أي صور ونقوش منوعة على الجدر والسقوف والأعمدة، جمع (تمثال) وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس: احتجت به فرقة في جواز التصوير، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا وَجِفانٍ كَالْجَوابِ أي وصحاف كالجوابي وهي الحياض الكبار. و (الجفان) جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة، ما يوضع فيه الطعام مطلقا. وقيل الجفنة أعظم القصاع. ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة. ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة. ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين.
ثم الصحيفة وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي قيل لهم: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه.
وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف. كما أن فيه وجوب الشكر. وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان. لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. وداود عليه السلام قد يدخل هنا في (آله) فإن آل الرجل قد يعمه وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، أكثر أوقاته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي على سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهي الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه التي ينسأ بها، أي يطرد ويؤخر فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي الشديد من الجري على رسمه لهم، والدأب عليه، لظنهم إياه حيّا.(8/137)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه، إثر بيان أحوال الشاكرين لها، ما فيه عظة واعتبار، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها فِي مَسْكَنِهِمْ أي في مواضع سكناهم، وهي باليمن يقال لها (مأرب) كمنزل من بلاد الأزد، في آخر جبال حضرموت. وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة، فإنها مدينة بلقيس، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ مساكنهم آيَةٌ على قدرته تعالى ومجازاته المسيء جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أي جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها. أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله: قيل لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ أي بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به، بقوله سبحانه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها وَرَبٌّ غَفُورٌ أي لمن شكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 16]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي سيل الأمر العرم، أي الصعب والمطر الشديد- أو الوادي- أو السّكر الذي يحبس الماء- أو هو البناء الرصين المبنيّ بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها. وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء، فانهال عليهم تيار مائه، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم. واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ أي ثمر مرّ، أو بشع لا يؤكل وَأَثْلٍ شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وهو شجر النبق. أي قلة لا تسمن ولا تغني من جوع. فهذا تبديل النعم بالنقم. لمن لم يشكر النعم، كما قال تعالى:(8/138)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 17]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي بشكر النعم، أو باتباع الرسل وتكذيب الحق والعدول إلى الباطل، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيّ والبلاد الآمنة والقرى المتواصلة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 18]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالزروع والثمار وحسن العمران وهي قرى بصنعاء كما قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومالك وغيرهم قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة، يرى بعضها من بعض لتقاربها. فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا بين قراها مقادير متساوية. فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة. ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدوّ ونحوه سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي لا تخافون في الليل أو النهار، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد، فلا ترون إلا الأمن. والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبيّ ونحوه. أو بلسان الحال. كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به. فالأمر للإباحة. وفي (في) إشعار بشدة القرب، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة سبإ (34) : آية 19]
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
فَقالُوا أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه. وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي حتى حل بهم ما حل فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي(8/139)
يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرّقناهم كل تفريق، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا. يقولون (تفرقوا أيادي سبا، وذهبوا أيدي سبا) بألف مقصورة.
قال الأزهري: العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع. لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز. وإن كان أصله مهموزا. والذهاب معلوم. والأيادي جمع أيد. والأيدي جمع يد. وهي بمعنى الجارحة، وبمعنى النعمة، وبمعنى الطريق، وهو المراد. قال في التهذيب: قولهم ذهبوا أيدي سبا، أي متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق. فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و (اليد) الطريق. يقال:
أخذ القوم يد بحر.. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة (ذهبوا أيدي سبا) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.
قال ابن مالك: إنه مركب تركيب خمسة عشر، مبنيّا على السكون. وفي (زهر الأكم، في الأمثال والحكم) أن سبا كانت أخصب بلاد الله. كما قال تعالى:
جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ. يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول. فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم. فاتخذوا سدّا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. فلما كفروا نعم الله تعالى، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء، وعبدوا الشمس، سلط الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق. وأباد خضراءهم. وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان. وخزاعة ببطن مرّ. والأوس والخزرج بيثرب. وآل جفنة بأرض الشام. وآل جذيمة الأبرش بالعراق.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس، أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: بل هو رجل ولد له عشرة. فسكن اليمن منهم ستة. وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.
قال ابن كثير: وإسناده حسن إلا ابن لهيعة.
روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله(8/140)