بسم الرحمن الرحيم
سورة الحجر
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ [الحجر: 80] ، إلى قوله: ما كانُوا يَكْسِبُونَ الدال على مؤاخذتهم لمجرد تكذيب الرسل والإعراض عن آيات الله، بأدنى وجوه المؤاخذة، مع غاية تحصنهم. ففيه غاية تعظيم الرسل والآيات. وهو من أعظم مقاصد القرآن: أفاده المهايميّ. وهي مكية وآياتها تسع وتسعون.(6/327)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
الر تقدم الكلام في مثله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ الإشارة إلى الر لأنه اسم للسورة أي تلك السورة العظيمة آيات الكتاب الكامل وآيات قرآن عظيم الشأن، مبين للحكم والأحكام ولسبيل الرشد والغي. من (أبان) المتعدي. أو الظاهر معانيه أو أمر إعجازه، وكونه آية قاهرة من (أبان) اللازم. أو الإشارة إلى آيات السورة أو إلى جميع آيات القرآن. وتعريف الكتاب للتعظيم والتفخيم، كتنكير (قرآن) . وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 2]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بظهور دينه. وأنه سوف يأتي أيام يتمنى الكافرون بها، أن لو سبق لهم الإسلام فكانوا من السابقين. لما يرون من إعلاء كلمة الدين وظهوره على رغم الملحدين. لأن من تأخر إسلامه منهم، وإن ناله من الفضل ما وعد به الحسنى، ولكن لا يلحق السابقين لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً [الحديد: 10] ، وفيه تثبيت للنبيّ صلى الله عليه وسلم على الصدع بالدعوة والصبر عليها، لما أن العاقبة له. وإنما جيء بصيغة التقليل، جريا على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك. ترفعا واستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 3]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي بدنياهم وتنفيذ شهواتهم وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي(6/328)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
يشغلهم عن التوبة والتذكير، أمل استقامة الحال. وأن لا يلقوا إلا خيرا في المآل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي لمن تكون له العقبى.
قال الزمخشري: فيه تنبيه.
ثم بيّن تعالى سر تأخير عذابهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 4]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل مقدّر ليتأمّل في أسباب الهلاك ليتخلص عنها، وذلك بما قام من الحجة عليها، بتقدم الإنذار وتكرّره على سمعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 5]
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي لا تهلك قبله وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي عنه، للزوم الحجة وارتفاع الأعذار. ثم أخبر تعالى عن عتوهم في كفرهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 6]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أي يا أيها المدعي ذلك! إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا. أو في دعواك تنزيل الذكر. أو نادوه بذلك استهزاء وتهكما. أو هو من كلامه تعالى تبرئة له عما نسبوه إليه من أول الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 7 الى 8]
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك كقوله: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ(6/329)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
نَذِيراً
[الفرقان: 7] ، وقول فرعون: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53] .
ثم أشار إلى جواب مقالهم، وردّ مقترحهم بقوله تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي عليهم فيأتونهم ويشاهدونهم إِلَّا بِالْحَقِّ أي الحكمة التي جرت بها السنّة الإلهية وهو العذاب وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي مؤخّرين. كقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: 21- 22] .
ثم أشار إلى ردّ إنكارهم التنزيل مع تسلية وبشارة عظيمة، بقوله تعالى
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 9]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من كل من بغى له كيدا. فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقّيّته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغما عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [الصف: 8] ، وفي إيراد الجملة الثانية اسمية، دلالة على دوام الحفظ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أي رسلا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرقهم وطوائفهم.
جمع (شيعة) وهي الفرقة المتفقة على مذهب وطريقة. و (الأولين) نعت لمحذوف. أي الأمم. أو الكلام. من إضافة الصفة للموصوف. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي كما يفعله هؤلاء المشركون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 13]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ أي الذكر المنزل فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين(6/330)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
وقوله: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالذكر. حال من ضمير (نسلكه) أي مكذّبا مستهزأ به غير مقبول.
قال الزمخشري: كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام. تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. وقيل الجملة بيان لما قبلها. وجوّز في ضمير (نسلكه) أن يعود إلى الاستهزاء والتكذيب المعلوم.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ استئناف جيء به تكملة للتسلية، وتصريحا بالوعيد والتهديد. أي قد مضت السنة فيهم من هلاكهم. وزهوق باطلهم، ونصر الرسل، وغلبة جنود المؤمنين عليهم، واستعمارهم ديارهم. ثم بيّن تعالى أنهم لا يتركون الاستهزاء بالرسل وإن أتتهم الآيات التي تشبه الملجئة لقوة عنادهم وبغيهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 14 الى 15]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المستهزئين باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا أي فصاروا طول نهارهم فِيهِ يَعْرُجُونَ أي يصعدون مستوضحين لما يرونه فيها من العجائب لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي حيّرت أو حبست من الإبصار، وما نراه شيء نتخايله لا حقيقة له بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.
قال الناصر في (الانتصاف) : المراد، والله أعلم، يعني من الآيتين، إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها.
كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين. فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء.
كلّ على علم وفهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:
422] ، ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن. فأعلمهم الله تعالى من الآن. وهم في مهلة وإمكان، أنهم ما كفروا إلا على علم. معاندين باغين غير معذورين، والله أعلم. ولذلك عقبه تعالى بقوله وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ الآية، أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة، وذلك بأن يفتح لهم باب في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارا.(6/331)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
وإلى ذلك الإشارة بقوله فَظَلُّوا لأن الظلول إنما يكون نهارا. لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا وسحرنا محمد. وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها. فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم، كما فهم غيرهم من المصدقين، لأن ذلك كله حاصل لهم. وإنما بهم العناد واللدد والإصرار، لا غيره. والله أعلم.
ثم بيّن تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 18]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً جمع (برج) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الأثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية.
وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها. فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة وَزَيَّنَّاها أي السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية لِلنَّاظِرِينَ أي إلى حركاتها وأضوائها. أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ أي اختلس السَّمْعَ أي من الملائكة السماوية فَأَتْبَعَهُ أي تبعه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ أي لهب محرق ظاهر، فيرجع أو فيحترق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : آية 19]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان، أو بمعنى مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون.
وقد ذكر الشريف المرتضى في (الدرر) : أن العرب استعملته بهذا المعنى، كقول عمر ابن أبي ربيعة.
وحديث ألذّه هو مما ... تشتهيه النّفوس يوزن وزنا(6/332)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 20 الى 21]
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما، مما تقتضيه ضرورة الحياة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي من الأنعام والدواب وما أشبهها. قال القاضي: وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين، مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا يكون كذلك، على كمال قدرته وتناهي حكمته والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد، بما أنعم عليهم في ذلك، ليوّحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك وقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه.
شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء، المعدّة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم، استعارة تمثيلية. أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. استعارة مكنية. ومعنى نُنَزِّلُهُ أي نوجده ونخرجه في عالم الشهادة. والقدر المعلوم الأجل المعين له، حسبما تقتضيه الحكمة، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 22 الى 23]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23)
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أي تلقح السحاب أي تجعلها حوامل بالماء. وذلك أن السحاب بخار يصير، بإصابته الهواء البارد، حوامل للماء. قاله المهايمي: فاللواقح، عليه، جمع (ملقح) بحذف الزوائد. أو تلقح الشجر بجري مائها فيه أو تنميته ليثمر ويزهو. وجوّز كون اللواقح جمع (لاقح) وهي الناقة الحامل. فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها. كما يشبه ما لا تكون كذلك ب (العقيم) فيقل: ريح عقيم. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي بقادرين على إيجاده وإنزاله. و (الخزن) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة، كما مرّ. أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه، من سهول وجبال وعيون وآبار، بل هو تعالى وحده الذي حفظه(6/333)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذابا ورحم العباد بسقياه وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي: وارث، استعارة من (وارث الميت) لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه: واجعله الوارث منا. كذا في (الكشاف) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 24 الى 25]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي من تقدم ولادة وموتا. ومن تأخر من الأولين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر. لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه، بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه. وفي تكرير قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا من كمال التأكيد ما لا يخفى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ أي الأولين والآخرين على كثرتهم إِنَّهُ حَكِيمٌ أي يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة عَلِيمٌ أي بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: 139] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس مصوّت مِنْ حَمَإٍ صفة لصلصال. أي كائن من طين متغير مسود مَسْنُونٍ أي مصوّر من (سنة الوجه) وهي صورته. أو مصبوب، من (سنّ الماء) صبّه. أي مفرغ على هيئة الإنسان. كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثم صيّره جسدا ولحما ونفخ فيه من روحه وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الإنسان.
مِنْ نارِ السَّمُومِ أي من نار الريح الشديد الحرّ.
قال أبو السعود: ومساق الآية، كما هو، للدلالة على كمال قدرته تعالى، وبيان(6/334)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
بدء خلق الثقلين. فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر، وهو قبول الموادّ للجمع والإحياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 29]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي عدلت خلقته وأكملتها وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي تحية له وتعظيما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 30 الى 33]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
يعني: وقد خلقتني من نار فأنا خير منه. كما صرح به في آية غيرها. وفي تكرير قوله: مِنْ صَلْصالٍ إلخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول، ليكون كابحا من جماح غوايته، وشدّة تمرده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 34 الى 38]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من زمرة الملائكة المعززين فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود من كل خير وكرامة. فإن من يطرد يرجم بالحجارة. أو شيطان يرجم بالشهب. وهو(6/335)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
وعيد يتضمن الجواب عن شبهته. فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون.
أفاده أبو السعود.
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي الجزاء. وهو يوم القيامة قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو يوم البعث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 39 الى 41]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أي المعاصي فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك.
وقرئ بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها.
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه. وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي، فيتبعونك كما قال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 44]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قهر على الإغراء.
إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي المطبوعين على الغواية وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قال المهايمي: لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة، لغلبتها عليهم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ أي الغواة جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي حزب معين مفرز من غيره، حسبما يقتضيه استعداده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوها أي يقال لهم ادخلوها بِسَلامٍ أي(6/336)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
سالمين أو مسلما عليكم آمِنِينَ أي من الآفات والزوال وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي حقد كان في الدنيا، لبعضهم على بعض إِخْواناً حال من فاعل ادْخُلُوها أو الضمير في (آمنين) عَلى سُرُرٍ أي مراتب عالية مُتَقابِلِينَ لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم. فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ لسرمدية مقامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 52]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي لمن تاب وآمن وعمل صالحا وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أي لمن لم يتب من كفره. والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له. وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ أي عن نبئه. والضيف كالزّور، يقع على الواحد والجمع.
قال في الكشاف: عطف وَنَبِّئْهُمْ على نَبِّئْ عِبادِي ليتخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون. وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 53 الى 56]
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي مع مسّ الكبر بأن يولد لي، والكبر مانع منه فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قال الزمخشري: هي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني. أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصوّر في العادة. فبأي شيء تبشرون؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء. لأن البشارة بمثل هذا، بشارة بغير شيء.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي الآيسين من ذلك. قالَ وَمَنْ(6/337)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ
يعني لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله تعالى. والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
قالَ أي إبراهيم. بعد أن ذهب عنه الروع فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم الخطير الذي لأجله أرسلتم، سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي إلى إهلاكهم. يعنون قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين مع الكفرة، لتهلك معهم. وإسناد التقدير لهم مجازيّ من باب قول خواصّ الملك (دبرنا كذا وأمرنا بكذا) وإنما يعنون دبر ملك وأمر. هذا إذا كان (قدرنا) بمعنى أردنا وقضينا. وإن كان بمعنى علمنا، فلا غرو في علم الملائكة ذلك، بإخباره تعالى إياهم به.
ومن الناس من يجعل (قدرنا) من كلامه تعالى، غير محكيّ عن الملائكة. قال في (الانتصاف) وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 64]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم ولا أدري من أي الأقوام أنتم وما أقدمكم.
وقال المهايميّ: أي يخاف منكم تارة وعليكم أخرى. والظاهر أنه قال ذلك لهم، بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم. كما فصل في سورة هود قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي العذاب الذي كنت تتوعدهم به، فيمرّون به، ويكذّبونك وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي اليقين مع هلاكهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ.(6/338)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 67]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ أي فاذهب بهم في الليل بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في طائفة منه وهي آخره وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي يستأصلون عن آخرهم، حال كونهم داخلين في الصبح وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي مدينة لوط، وهي سدوم يَسْتَبْشِرُونَ أي بأضيافه، طمعا فيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 68 الى 77]
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي بالإساءة إليهم. فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ، قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن أن تجير أحدا منهم أو تدفع عنهم أو تمنع بيننا وبينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد.
وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرّض له. فأوعدوه وقالوا:
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: 167] ، أفاده الزمخشري.
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ تقدم الكلام عليه في سورة هود، مفصلا لَعَمْرُكَ قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم اعترض به تعبا من شدة غفلتهم وتكريما للمخاطب إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم يَعْمَهُونَ أي يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم. ولما لم يسمعوا منه، النصيحة المبقية لهم، أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة العذاب(6/339)
مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس فَجَعَلْنا أي من تلك الصيحة المحرّكة للأرض عالِيَها سافِلَها قال المهايمي لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي طين متحجر، لرجمهم على لواطهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي الناظرين بطريق في الآيات وَإِنَّها يعني مدينة قوم لوط المدمّرة لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي ثابت يسلكه الناس، لم يندرس بعد، وهم يبصرون تلك الآثار.
قال الزمخشري: وهو تنبيه لقريش. كقوله: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: 137- 138] .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي في هلاكهم لعبرة لهم.
تنبيهان:
الأول- قال ابن القيّم: في (أقسام القرآن) : أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف السلف فيه نزاعا- أن هذا، يعني قوله تعالى لَعَمْرُكَ قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الربّ عزّ وجلّ بحياته.
وهذه مزية لا تعرف لغيره.
ولم يوفق الزمخشري لذلك. فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط. وإنه من قول الملائكة.
فقال: هو على إرادة القول. أي قالت الملائكة للوط عليه السلام:
لَعَمْرُكَ ... الآية وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب، لا أهل التعطيل والاعتزال.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَعَمْرُكَ أي حياتك: قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبيّ غيره. والعمر والعمر واحد. إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف، لكثرة دور الحلف على ألسنتهم. وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة. فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به، لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم. ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات. فهو أهل أن يقسم به. والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات. ثم قال ابن القيّم: وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة، لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل:(6/340)
سكران: سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران؟
الثاني- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في الفراسة.
أخرج الترمذيّ من حديث أبي سعيد مرفوعا: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «1» . ثم قرأ هذه الآية.
وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام، جريا على طريق إياس بن معاوية. انتهى.
وقد أجاد الكلام في الفراسة، الراغب الأصفهانيّ في كتاب (الذريعة) حيث قال في الباب السابع: وأما الفراسة، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله.
وربما يقال: هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله. وقد نبه الله تعالى على صدقها بقول: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75] ، وقوله:
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [البقرة: 273] ، وقوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:
30] ، ولفظها من قولهم (فرس السبع الشاة) فكأن الفراسة اختلاس المعارف. وذلك ضربان: ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه، وذلك ضرب من الإلهام، بل ضرب من الوحي. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله «2» : «المؤمن ينظر بنور الله»
وهو الذي يسمى صاحبه المروّع والمحدّث.
وقال عليه الصلاة والسلام (إن يكن في هذه الأمة محدّث، فهو عمر) «3» .
وقيل في قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] الآية: إنما كان وحيا بإلقائه في الروع، وذلك للأنبياء كما قال عز وجلّ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193- 194] ، وقد يكون بإلهام في حال اليقظة وقد يكون في حال المنام. ولأجل ذلك
قال عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) «4» .
والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية. ومن عرف ذلك كان ذا فهم
__________
(1) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، 15- سورة الحجر، 6- باب حدثنا محمد بن إسماعيل.
(2) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، 15- سورة الحجر، 6- باب حدثنا محمد بن إسماعيل، عن أبي سعيد الخدريّ، من حديث.
(3) أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، 6- باب مناقب عمر بن الخطاب، أبي حفص القرشيّ، العدويّ، رضي الله عنه، الحديث رقم 1628 عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاريّ في: التعبير، 2- باب رؤيا الصالحين، الحديث رقم 2536، عن أنس بن مالك.(6/341)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
ثاقب بالفراسة. وقد عمل في ذلك كتب. من تتبع الصحيح منها، اطلع على صدق ما ضمنوه. والفراسة ضرب من الظن. وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال: الظن بتقلب القلب. والفراسة بنور الرب. ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] و [ص: 72] ، كان ممن وصفه بقوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] ، وكان ذلك النور شاهدا، أصاب فيما حكم به. ومن الفراسة
قوله عليه الصلاة والسلام في المتلاعنين: (إن أمرهما بيّن، لولا حكم الله) «1» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 81]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (إن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. أي: وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. وهم قوم شعيب عليه السلام.
كانوا يسكنون أيكة، وهي بقعة كثيرة الأشجار، فظلموا بأنواع من الظلم، من شركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان. فبعث الله إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي بعذاب الظلة، وهي سحابة أظلتهم بنار تقاذفت منها، فأحرقتهم وَإِنَّهُما يعني قرى قوم لوط والأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي طريق واضح. وقد كانوا قريبا من قوم لوط، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان. ولهذا لما أنذرهم شعيب قال: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني ثمود، كذبوا صالحا عليه السلام. ومن كذب واحدا من الأنبياء عليهم السلام، فقد كذب الجميع. لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار. و (الحجر) واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه. معروف. يجتازه ركب الحج الشاميّ.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني بالآيات ما دلهم على صدق دعوى نبيّهم. كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء. وكانت تسرح
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الطلاق، 31- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت راجما بغير بينة
، حديث رقم 2163. عن ابن عباس. [.....](6/342)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
في بلادهم. لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] ، فلما عتوا وعقروها، قال: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 82 الى 87]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي من حوادث الدهر فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح من اليوم الرابع. وفي سورة الأعراف: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: 78] أي الزلزلة وهي من توابع الصيحة. أو هي مجاز عنها.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال لما جاء أمره تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة الثابتة، التي لا تقبل التغير. وهي الاستدلال بها على الصانع وصفاته وأسمائه وأفعاله ليعرفوه فيعبدوه، بحيث لا يلائم استمرار الفساد. ولذلك اقتضت الحكمة إرسال الرسل مبشرين ومنذرين. وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي فيجزي كلا بما كانوا يعملون فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي عاملهم معاملة الصفوح الحكيم، كقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] .
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة. فإنه الخلّاق الذي لا يعجزه خلق شيء، العليم بما تمزّق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] .
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال الرازي إنه تعالى لما صبّره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خصه بها. لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
(والسبع المثاني) هو القرآن كله كما قاله ابن عباس في رواية طاوس. لقوله(6/343)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] ، والواو في قوله: وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لعطف الصفة كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
و (السبع) يراد بها الكثرة في الآحاد. كالسبعين في العشرات. و (المثاني) جمع مثنى بمعنى التثنية أو الثناء. فإنه تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه. أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز. أو مثن على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.
وقد روي عن بعض السلف تفسير السبع بالسور الطوال الأول، وهذا لم يقصد به. إلا أن اللفظ الكريم يتناولها، لا أنها هي المعنيّة. كيف لا وهذه السورة مكية وتلك مدنيات؟ كالقول بأنها الفاتحة سواء. وأما
حديث «1» : (الحمد لله ربّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) عند الشيخين،
فنعناه أنها من السبع، لعطف قوله (والقرآن العظيم الذي أوتيته) ولو كان القصر على بابه، لناقضه لمعطوف. لاقتضائه أنها هو لا غيره. وبداهة بطلانه لا تخفى.
وسر الإخبار بأنها السبع، كون الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. كما بينه الإمام مفتي مصر في (تفسير الفاتحة) فراجعه. هذا ما ظهر لي الآن في تحقيق الآية.
وللأثريّ الواقف مع ظاهر ما صح من الأخبار، الجازم بأن السبع في الآية هي الفاتحة لظاهر الحديث- أن يجيب عن القصر بأن المراد بالمعطوف القرآن بمعنى المقروء، لا بمعنى الكتاب كله. والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 88 الى 90]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ يعني: قد أوتيت النعمة العظمى، التي كل نعمة وإن عظمت، فهي إليها حقيرة. وهي القرآن العظيم. فعليك
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 1- سورة الفاتحة، 1- باب ما جاء في فاتحة الكتاب، حديث 1961، عن أبي سعيد بن المعلّى.(6/344)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
أن تستغني ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به، من زخارف الدنيا وزينتها، أصنافا من الكفار متمنيا لها. فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفي التعبير عما أوتوه (بالمتاع) إنباء عن وشك زوالها عنهم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لعدم إيمانهم، المرجوّ بسببه تقوّي ضعفاء المسلمين بهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم. وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر المظهر للعذاب لمن لم يؤمن كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين. أو إنذارا مثل ما أنزلنا. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح عليه السلام، الذين تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله فأخذتهم الصيحة، كما مر. فالاقتسام من (القسم) لا من القسمة.
وهذا التأويل اختاره ابن قتيبة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 91 الى 93]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء جمع (عضة) يعنى كفار مكة. قالوا:
سحر. وقالوا: كهانة. وقالوا: أساطير الأولين. وهو مبتدأ خبره فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي من التقسيم فنجازيهم عليه. وجوز تعلق (كما) بقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أي لنسألنهم أجمعين مثل ما أنزلنا. فيكون (كما) رأس آية و (المقتسمون) حينئذ، إما من تقدم، أو المشركون. ويعنى بالإنزال عليهم إنزال الهداية التي أبوها. وجوّز جعل الموصول مفعولا أول للنذير، أو لما دلّ عليه من أنذر. أي النذير. أو أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير، مثل ما أنزلنا على المقتسمين. وجوّز جعل (كما) متعلقا بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب الذين جزءوا القرآن إلى حق وباطل. حيث قالوا: قسم منه حق موافق لما عندنا. وقسم باطل لا يوافقه. أو القرآن هو مقروؤهم. أي قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه. فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه.
والله أعلم.(6/345)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 94 الى 96]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أمر من (الصدع) بمعنى الإظهار والجهر، من (انصداع الفجر) . أو من (صدع الزجاجة) ونحوها وهو تفريق أجزائها. أي: افرق بين الحق والباطل وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي الذين يرومون صدك عن التبليغ، فلا تبال بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي حفظناك من شرّهم، فلا ينالك منهم ما يحذر. وهذا ضمان منه تعالى، له صلوات الله عليه، لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى. كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وصفهم بذلك، تسلية له عليه الصلاة والسلام. وتهوينا للخطب عليه، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى، التي هي أكبر الكبائر، التي سيخذلون بسببها. كما قال: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة أمرهم. وقد جوّز في الموصول أن يكون صفة (للمستهزئين) ومنصوبا بإضمار فعل. ومرفوعا بتقدير (هم) . وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبودا آخر. وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عنى به ما عجله من إهلاكهم. كما روى ابن إسحاق عن عروة: أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر.
وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم: من بني أسد أبو زمعة، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه.
فقال: اللهم! أعم بصره وأثكله ولده
. ومن بني زهرة الأسود. ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة. ومن بني سهم العاص بن وائل.
ومن خزاعة الحارث. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ إلى قوله: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ،
قال ابن إسحاق عن عروة، إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت. فقام وقام رسول الله إلى جنبه. فمر به الأسود فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه. ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله. كان أصابه قبل ذلك بسنتين. فانتقض به فقتله.
ومرّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار يريد الطائف.
فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه ومرّ به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله
. انتهى.(6/346)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ومثله ما
رواه ابن مسعود: قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة.
وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة: فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد. فجاءت فاطمة فطرحته عنه. فلما انصرف قال: اللهم! عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأميّة بن خلف وعقبة بن أبي معيط «1» .
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجر (15) : الآيات 97 الى 99]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ لما ذكر تعالى أن قومه يهزئون ويسفهون، أعلمه بما يعلمه سبحانه منه، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون: لأن الجبلّة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن. وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة. كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ، وقال: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر، استنزال الإمداد الربانيّ بالنصر والمعونة. لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] و [الأنفال: 46] ، وقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] .
وقد روي في شمائله صلوات الله عليه أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، تأويلا لما ذكر.
قال أبو السعود: وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية. وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام.
ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام، والإشعار بعلة الحكم، أعني الأمر بالتسبيح والحمد. والمراد من (الساجدين) المصلين. من إطلاق الجزء على
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، 69- باب إذا ألقي على ظهر المصلّي قذر أو جيفة، حديث 179.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، 39- باب ما لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين، حديث 107.(6/347)
الكل. و (اليقين) : الموت. فإنه متقين اللحوق بكل حيّ مخلوق. وإسناد الإتيان إليه، للإيذان بأنه متوجه إلى الحيّ طالب للوصول إليه. والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا.
كقوله تعالى في سورة مريم: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31] .
وقيل: المراد ب (اليقين) تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده. ولا ريب أنه من المتيقن. إلا أن إرادة الموت منه، أولى. يدلّ له قوله تعالى إخبارا عن أهل النار:
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر: 43 و 47] ، وما
في الصحيح عن أم العلاء، امرأة من الأنصار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أم العلاء: رحمة الله عليك، أبا السائب! فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير «1» .
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ على أن العبادة، كالصلاة ونحوها، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، كما
في صحيح البخاري «2» عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: صلّ قائما. فإن لم تستطع فقاعدا. فإن لم تستطع فعلى جنب.
ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة.
فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل. فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم، أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا، مع هذا، أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الجنائز، 3- باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كنفه، الحديث رقم 666.
(2) أخرجه البخاريّ في: تقصير الصلاة، 17- باب صلاة القاعد، حديث رقم 611.(6/348)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ النحل: 68] ، المشير إلى أنه لا يبعد أن يلهم الله عزّ وجلّ بعض خواص عباده، أن يستخرجوا الفوائد الحلوة الشافية من هذا الكتاب. بحمل كلماته على مواضع الشرف. وعلى المعاني المثمرة، وعلى التصرفات العالية. مع تحصيل الأخلاق الفاضلة وسلوك سبيل التصفية والتزكية. وهذا أكمل ما يعرف به فضائل القرآن ويدرك به مقاصده. قاله المهايمي.
وقال بعضهم: تسمية السورة بذلك تسمية بالأمر المهمّ. ليتفطن الغرض الذي يرمى إليه. ك (الجمعة) لأهمّيّة الاجتماع الأسبوعي وما ينجم عنه من مصالح الأمور العامة، والحديد لمنافعه العظيمة. و (النحل) . و (العنكبوت) . و (النمل) . للتفطن لصغار الحيوانات الحكيمة الصنائع. وهكذا. وسيأتي طرف من حكمة النحل وأسراره عند آيته في هذه السورة.
وهي مكية. واستثنى ابن عباس آخرها. وعن الشعبيّ إلا قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ [النحل: 126] ، الآيات وعن الشعبيّ: إلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ [النحل: 41] ، الآيات. وآياتها مائة وثمان وعشرون.
وعن قتادة: تسمى سورة النعم. وذلك لما عدد الله فيها من النعم على عباده.(6/349)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرر في غير ما آية، أن المشركين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو إهلاكهم. كما فعل يوم بدر، استهزاء وتكذيبا بالوعد. فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي ما توعدونه مما ذكر.
والتعبير عنه ب أَمْرُ اللَّهِ للتفخيم والتهويل. وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه، منوط بحكمه النافذ وقضائه الغالب. وإتيانه عبارة عن دنوّه واقترابه، على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع. أو عن إتيان مباديه القريبة، على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات. والآية كقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] ، وقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] ، وقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ. وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] ، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه، من الأوثان والأنداد، الذي أفضى بهم إلى الاستهزاء والعناد، واعتقاد أنها شفعاؤهم إذا جاء الميعاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 2]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ردّ لاستبعادهم النبوة، بأن ذلك سنة له تعالى. ولذا ذكر صيغة الاستقبال كقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] ، وقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] ، والروح هو الوحي، الذي من جملته القرآن. لقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا(6/350)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
[الشورى: 52] ، والتعبير عنه بالروح على نهج الاستعارة. فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل ومِنْ أَمْرِهِ بيان للروح، أو حال منه، أو صفة، أو متعلق ب (ينزل) و (من) للسببية وأَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح. أي أخبروهم بالتوحيد والتقوى. فقوله فَاتَّقُونِ من جملة المنذر به. أو هو خطاب للمستعجلين، على طريقة الالتفات، والفاء فصيحة أي إذا كانت سنته تعالى ذلك، فاتقون، بما ينافيه من الإشراك وفروعه، من الاستعجال.
قال الزمخشري: ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو، بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره. من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه، وجر أثقاله وسائر حاجاته. وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه. ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالحكمة كما تقدم تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي مهينة ضعيفة فَإِذا هُوَ بعد تكامله بشرا خَصِيمٌ مُبِينٌ أي مخاصم لخالقه مجادل. يجحد وحدانيته ويحارب رسله. وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ أي لمصالحكم وهي الأزواج الثمانية المفصلة في سورة الأنعام.
قال الزمخشري: وأكثر ما تقع على الإبل.
فِيها دِفْءٌ أي ما يدفئ أي يسخن به من صوف أو وبر أو شعر، فيقي البرد وَمَنافِعُ أي من نسلها ودرّها وركوب ظهرها وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي زينة حِينَ تُرِيحُونَ أي تردّونها من مراعيها إلى مراحها (بضم الميم) وهو مقرّها في دور أهلها بالعشيّ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي تخرجونها بالغداة إلى المراعي.
قال الزمخشري: منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها. لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها لأن الرعيان، إذا روحوها بالعشيّ، وسرحوها بالغداة، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، أنست أهلها(6/351)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وفرحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس، ونحوه: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: 8] ، يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الأعراف: 26] .
فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
انتهى.
ثم أشار إلى فائدة جامعة للحاجة والزينة فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 7 الى 8]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بكسر الشين المعجمة وفتحها. وقراءتان وهما لغتان في معنى (المشقة) أي لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حيث سخرها لمنافعكم. ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة، فقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على (الأنعام) لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً عطف محل (لتركبوها) فهي مفعول له أو مصدر لمحذوف. أي وتتزينوا بها زينة، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل (تركبوها) أو مفعوله. أي متزينين بها أو متزينا بها. وسر التصريح باللام في المعطوف عليه، دون المعطوف، هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصليّ في الأصناف، هو الركوب:
وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب. فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل. تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين. وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب. والله أعلم. كذا في (الانتصاف)
تنبيه:
استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل. قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل.
قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزا، لكن ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه وأجاب المجوّزون لأكلها، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب، لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها، لا ينافي غيره.(6/352)
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضا لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل لدلت على تحريم الحمر الأهلية. وحينئذ لا يكون ثم حاجة لتجديد التحريم لها، عام خبير. وقد قدمنا أن هذه السورة مكية.
والحاصل أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن هذه الآية متمسّكا للقائلين بالتحريم، لكانت السنّة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل، أحاديث منها ما
في الصحيحين «1» وغيرهما من حديث أسماء قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا، فأكلناه.
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذيّ «2» وصححه والنسائي «3» وغيرهم من جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه.
وثبت أيضا في الصحيحين «4» من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل.
وأما ما
أخرجه أبو داود «5» والنسائي «6» وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير
، ففي إسناده صالح بن يحيى. فيه مقال. ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ. على أنه يمكن أن يكون متقدما على يوم خيبر، فيكون منسوخا. كذا في (فتح البيان) .
وفي (الإكليل) : أخذ المالكية، من الاقتران المذكور، ردّا على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها. أي الخيل. وقوله تعالى:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي من المخلوقات في القفار والبحار. وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار. أو لاستحضار الصورة.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الذبائح والصيد، 24- باب النحر والذبح، حديث 2202.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح.
(2) أخرجه الترمذيّ في: الأطعمة، 5- باب ما جاء في أكل لحوم الخيل.
(3) أخرجه النسائي في: الصيد والذبائح، 29- باب الإذن في أكل لحوم الخيل.
(4) أخرجه البخاريّ في: المغازي، 38- باب غزوة خيبر، حديث 1909 وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث رقم 36.
(5) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، 25- باب في أكل لحوم الخيل، حديث رقم 3788.
(6) أخرجه النسائي في: الصيد والذبائح، 30- باب تحريم أكل لحوم الخيل.(6/353)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 9]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.
في الآية فوائد:
الأولى: قال ابن كثير: لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبّه على الطرق المعنوية الدينية. وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية. كقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] ، وقال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ
[الأعراف: 26] .
ولما ذكر تعالى، في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه. فبيّن أن الحق منها موصلة إليه. فقال: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ. كقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] . وقال:
هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] ، انتهى. وقوله سبحانه: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى.
الثانية- قال أبو السعود: (القصد) مصدر بمعنى الفاعل. يقال سبيل قصد وقاصد. أي مستقيم. على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. أي حقّ عليه سبحانه وتعالى، بموجب رحمته ووعده المحتوم، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق، الذي هو التوحيد. بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه. أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل. قاله أبو البقاء. أي عليه، عزّ وجلّ، تقويمها وتعديلها. أي: جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق. لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج (سبحان من صغّر البعوض وكبّر الفيل) وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة. وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لا حب يهتدى بمناره. وعلم يستضاء بناره. وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين. وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق. الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق. الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك(6/354)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
الأدلة المفضية إلى معالم الهدى. المنحّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى.
الثالثة- الضمير في وَمِنْها جائِرٌ للسبيل. فإنها تؤنث. أي: وبعض السبيل مائل عن الحق، منحرف عنه، لا يوصل سالكه إليه. وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها، المندرج كلها تحت الجائر. كقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] .
قال أبو السعود، بعد ما تقدم أي: وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد- وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب. لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة. فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى. لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته. بل هو مخلّ بحكمته، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، بحسب الاستعداد. وإليه أشير بقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد، هداية موصلة إليه البتة، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين، لفعل ذلك. ولكن لم يشأه.
لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها. ولا حكمة في تلك المشيئة. لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف، وإليه ينسحب الثواب والعقاب، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال، التي بها نيط الجزاء.
ولما كان أشرف أجسام العالم السفليّ، بعد الحيوان، النبات، تأثر ما مرّ من الإنعام بالأنعام والدواب، التي يستدل بها على وحدته تعالى، بذكر عجائب أحوال النبات، للحكمة نفسها. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 11]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ يسكن حرارة العطش وَمِنْهُ شَجَرٌ أي ومنه يحصل شجر. والمراد به ما ينبت من الأرض، سواء كان له ساق أو لا، فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم يُنْبِتُ أي الله عزّ وجلّ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ أي الذي فيه قوت الإنسان وَالزَّيْتُونَ أي الذي فيه إدامه(6/355)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ أي اللذين فيهما، مع ذلك، مزيد التلذذ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي يخرجها بهذا الماء الواحد، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها.
ولهذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإنبات ما فصّل لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي دلالة وحجة على وحدانيته تعالى. كما قال سبحانه أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل: 60] .
قال أبو السعود- وأصله للرازيّ في شرح كون ما ذكره حجة-: فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع. ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواصّ والطبائع، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر، لا إلى نهاية. مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية، بالنسبة إلى الكل- علم أن من هذه أفعاله وآثاره، لا يمكن أن يشبهه شيء، في شيء من صفات الكمال. فضلا عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة. تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 12]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات وَالنُّجُومُ ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر. وقوله تعالى: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ حال من الجميع. على معنى جعلها مسخرات. لأن في التسخير معنى (الجعل) فصحت على أنه تجريد.
أو على أن التسخير لهم نفع خاص.
فمعناه نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له، مما هو طريق لنفعكم. ف (سخر) بمعنى (نفع) على الاستعارة أو المجاز المرسل. لأن النفع من لوازم(6/356)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
التسخير. أو على أن (مسخرات) مصدر ميميّ، منصوب على أنه مفعول مطلق.
وسخرها مسخرات، على منوال ضربته ضربات أو يجعل قوله: مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجاديّ. لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار.
وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما. ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بالرفع مبتدأ وخبر، وما قبله بالنصب إِنَّ فِي ذلِكَ أي تسخير ما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ولما نبه تعالى على معالم السموات، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة، والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وما فيها من المنافع والخواص، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 13]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
وَما ذَرَأَ عطف على قوله تعالى وَالنُّجُومُ رفعا ونصبا، على أنه مفعول (لجعل) أي وما خلق لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي من حيوان ونبات مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
ثم نبه تعالى ممتنا على تسخيره البحر، وتعداد النعم به، إثر امتنانه بنعم البر، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 14]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا هو السمك.
قال الزمخشريّ: ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله، خيفة الفساد عليه.
قال الناصر: فكأنّ ذلك تعليم لأكله، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا(6/357)
طريّا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون. والله أعلم.
انتهى.
قال الشهاب: ففيه إدماج لحكم طبّيّ. وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخلّلا، كما توهم. انتهى.
أقول: الأظهر في سر وصفه بالطراوة، هو التنبيه على حسنه ولطفه، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه، سبحانه، في خلقه إياه، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر، مع اشتراكهما في الحيوانية.
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساؤكم، والإسناد إليهم لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية. ولأنهن إنما يتزيّن بها من أجلهم. فكأنها زينتهم ولباسهم. أو معنى (تلبسون) تتمتعون وتلتذون. على طريق الاستعارة والمجاز. ولو جعل من مجاز البعض لصح. أي تلبسها نساؤكم.
قال الناصر: ولله درّ مالك رضي الله عنه، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها. وذلك مقدر بالزائد على الثلث، لحقه فيه بالتجمل. فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له. فعبّر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء.
قال الشهاب: فإن قلت الظاهر أن يقال تحلونهن أو تقلدونهن كما قال:
تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النّظيم
وهي للنساء دون الرجال. قلت أما الأول فسهل. لأن المراد لازمه. أي تحلونهن. والثاني، على فرض تسليمه، هم يتمتعون بزينة النساء، فكأنهم لابسون.
وإذا لم يكن تغليبا، فهو مجاز، بمعنى: تجعلونها لباسا لبناتكم ونسائكم. ونكتة العدول، أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم. فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى. انتهى.
وناقش صاحب (فتح البيان) ما قدروه في الآية حيث قال: وظاهر قوله تعالى:
تَلْبَسُونَها أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء. ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله تَلْبَسُونَها بقولهم: تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم. وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ(6/358)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
والمرجان، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة. فإن ذلك ممنوع. ورد الشرع بمنعه، من جهة كونه تشبها بهنّ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجانا. انتهى.
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها. واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حليا بلبس اللؤلؤ. لأنه تعالى سماه (حليا) واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء. فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر. أنه سئل: هل في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا. هي كما قال:
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. انتهى.
قال في (فتح البيان) : وفي هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه:
أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم.
وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف. ولم يرد في الجواهر، على اختلاف أصنافها، ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ أي السفن مَواخِرَ فِيهِ أي جواري جمع (ماخرة) بمعنى جارية. وأصل معنى (المخر) الشق لأنها تشق الماء بمقدمها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ عطف على محذوف. أي لتنتفعوا بذلك لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من سعة رزقه، بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
قال أبو السعود: ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر، من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة، مع أحمال ثقيلة، في مدة قليلة، من غير مزاولة أسباب السفر. بل من غير حركة أصلا. مع أنها في تضاعيف المهالك. وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر، للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 15 الى 16]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب وَأَنْهاراً أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى آخر. رزقا للعباد وَسُبُلًا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى غيرها، حتى في الجبال. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا(6/359)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
فِيها فِجاجاً سُبُلًا
[الأنبياء: 31] ، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي بها إلى مآربكم وَعَلاماتٍ أي دلائل يستدل بها المسافرون من جبل ومنهل وريح، برّا وبحرا، إذا ضلوا الطريق وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أي في الظلام برّا وبحرا. والعدول عن سنن الخطاب إلى الغيبة للالتفات. وتقديم (بالنجم) للفاصلة. وتقديم الضمير للتّقوّي. وهذا أولى من دعوى الزمخشري أن التقديم للتخصيص بقوم هم قريش لكونهم أصحاب رحلة وسفر. وذلك لأن الخطاب في الآيات السابقة عامّا فكذا يكون في لاحقها.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : هذه الآية أصل لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 18]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ أي كل شيء، لا سيما تلك المصنوعات العظيمة المذكورة، وهو الله الواحد الأحد كَمَنْ لا يَخْلُقُ أي شيئا ما، وهو ما يعبدون من دونه، وهذا تبكيت للمشركين وإبطال لإشراكهم بإنكار أن يساويه ويستحق مشاركته، ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك، بل على إيجاد شيء ما.
وزعم الزمخشريّ ومتابعوه أن قضية الإلزام أن يقال: (أفمن لا يخلق كمن يخلق) ثم تكلموا في سره. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران: 36] ، فجدد به عهدا. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي فتعرفوا فساد ذلك. فإنه لوضوحه لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر.
ثم نبه، سبحانه وتعالى. على كثرة نعمه عليهم وإحسانه بما لا يحصى، إشارة إلى أن حق عبادته غير مقدور، بقوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي حيث يتجاوز عن التقصير في أداء شكرها، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم. ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. قاله الزمخشريّ.
ولحظ ابن جرير أن مغفرته تعالى ورحمته لهم، إذا تابوا وأنابوا. أي فيتجاوز عن تقصيرهم بشكرها الحقيقيّ. ولا يعذبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى طاعته.(6/360)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
لطيفة:
قال أبو السعود: كان الظاهر إيراد هذه الآية، عقيب ما تقدم من النعم المعددة، تكملة لها على طريقة قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] ، ولعلّ فصل ما بينهما بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ [النحل: 17] ، للمبادرة إلى إلزام الحجة، وإلقاء الحجر، إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل، التي هي أدلة الوحدانية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 19 الى 21]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي من أعمالكم وسيجزيكم عليه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي فإنّى تستحق الألوهية، وقد نفي عنها أخص صفاتها؟ فإنها ذوات مفتقرة إلى الإيجاد. أو المعنى: أن الناس يخلقونها بالنحت والتصوير. وهم لا يقدرون على نحو ذلك. فهم أعجز من عبدتهم. كما قال الخليل عليه السلام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات:
95- 96] ، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم ما ينافي الألوهية بقوله: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل. وقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ تأكيد أو تأسيس. لأن بعض الأموات مما يعتريه الحياة، سابقا أو لاحقا. كأجساد الحيوان، والنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانا. فذا احترز عنه بقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ أي لا يعتريها الحياة أصلا. فهي أموات على الإطلاق، حالا ومآلا وَما يَشْعُرُونَ أي تلك الأصنام المعبودة أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى يكون بعثها. وقد روي، أنها تبعث، ويجعل فيها حياة، فتبرأ من عابديها. ثم يؤمر بها وبهم جميعا إلى النار.
وجوز عود الضمير إلى عابديها. أي: وما تشعر الأصنام متى يبعث عبدتهم تهكما بحالها. لأن شعور الجماد محال. فكيف بشعور ما لا يعلمه إلا الله؟ وفيه إشعار بأن معرفته وقت البعث من لوازم الألوهية، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 23]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تصريح بالمدعى، وتمحيض للنتيجة، غب إقامة الدليل.(6/361)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
كما أفاده أبو السعود فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي لوحدانيته تعالى، جاحدة لها، كما أخبر عنهم، متعجبين من ذلك بقوله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ، وقال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:
45] ، وقوله تعالى: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي عن عبادته تعالى: لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي عن التوحيد، وهم المشركون. أو عن الحق مطلقا فيتناول هؤلاء. وهذا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 25]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي لم ينزل شيئا. إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين، استمدها منها. كما قال تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] ، لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم، وبعض أوزار من أضلوهم. كقوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13] ، فاللام في قوله: لِيَحْمِلُوا لام العاقبة. لأن ما ذكر مترتب على فعلهم ولا باعثا إما مجازا. وإما حقيقة، على معنى أنه قدّر صدوره منهم ليحملوا. وقد قيل: إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة. والمعنى: إن ذلك متحتم عليهم. فيتم الكلام عند قوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كذا في (العناية) . وقوله تعالى:
بِغَيْرِ عِلْمٍ قال الزمخشري: حال من المفعول: أي: من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه، وإن لم يعلم، لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. فجهله لا يعذره أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي: ألا بئس ما يحملون. ففيه وعيد وتهديد.(6/362)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 26]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي بأنبيائهم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و (الإتيان) يتجوز به عن (الإهلاك) كقوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] ، ويقال أتي فلان من مأمنه. أي جاءه الهلاك من جهة أمنه. وأتى عليه الدهر: أهلكه وأفناه. ومنه الأتوّ. وهو الموت والبلاء. يقال أتى على فلان أتوّ أي موت أو بلاء يصيبه. وقد جوز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم.
كالمحكي عن قوم لوط وصالح. عليهما السلام، فيما تقدم. أو مجازه على طريق التمثيل، لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، للإيقاع بالرسل عليهم السلام، وفي إبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله إياها أسبابا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانا وعمّدوه بالأساطين. فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا. ووجه الشبه: أن ما عدوه سبب بقائهم، عاد سبب استئصالهم وفنائهم. كقولهم: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبا. وقوله: مِنْ فَوْقِهِمْ متعلق ب (خر) . و (من) لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من (السقف) مؤكدة. وقيل: إنه ليس بتأكيد. لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط: إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه وَأَتاهُمُ الْعَذابُ أي الهلاك والدمار مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحتسبون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 27]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلّهم ويهينهم بعذاب الخزي. لقوله تعالى:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وفيه تقريع وتوبيخ بالقول، واستهزاء بهم. إذ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة، بناء على زعمهم، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله يُخْزِيهِمْ أي ما لهم لا(6/363)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
يحضرونكم ليدفعوا عنكم! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا.
فهو كقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] ، وقيل: حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم الأنبياء أو العلماء، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ أي الفضيحة والعذاب عَلَى الْكافِرِينَ أي المشركين به تعالى. ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وإنما قال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هذا شماتة بهم. وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول. وتقريرا لما كانوا يعظونهم، وتحقيقا لما أوعدوهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 29]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم، بأنهم يلقون السلم، أي ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقّة. والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وأصل الإلقاء في الأجسام. فاستعمل في إظهار الانقياد. إشعارا بغاية خضوعهم واستكانتهم.
وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. على الاستعارة. وقوله تعالى:
ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ منصوب بقول مضمر، حال. أي قائلين ذلك. أو هو تفسير (للسلم) الذي ألقوه، لأنه بمعنى القول. بدليل الآية الأخرى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل: 86] ، كما يقولون يوم المعاد وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] ، ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدّرا خلودكم.
قال ابن كثير: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم. وينال أجسادهم، في قبورها. من حرّها وسمومها. فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في(6/364)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أجسادهم، وخلدت في نار جهنم، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] ، وقوله: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس المقيل والمقام لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبّر، للإشعار بعليته لثوائهم فيها. ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فجحدوا رحمته وكفروا نعمته- تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 30]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وهم المؤمنون ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي لمن أحسن عمله، مكافأة في الدنيا بإحسانهم. ولهم في الآخرة ما هو خير منها. فقوله: فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق ب حَسَنَةٌ كتعلقه ب أَحْسَنُوا. قال الشهاب: والحسنة التي في الدنيا الظفر وحسن السيرة وغير ذلك. وهذه الآية كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، وقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] ، وقال تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: 198] ، وقال: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى: 17] ، ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله:
وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 31 الى 32]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كقوله(6/365)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] ، كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار، في مقابلة أولئك، بقوله سبحانه الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لتدخل أرواحكم الجنّة فإنها في نعيم برزخيّ إلى البعث. أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ... [فصلت: 30] الآيات، ثم أشار إلى تقريع المشركين، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
ْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
أي لقبض أرواحهم بالعذاب وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي العذاب المستأصل. أو يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال ذلِكَ
أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والاستهزاءعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي فتمادوا في ضلالهم حتى ذاقوا بأس الله ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
فيما أحلّ بهم في عذابه الآتي بيانه. وذلك لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي توعدتهم به الرسل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 36]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)(6/366)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه واعتذارهم عنه بالاحتجاج بالقدر، تكذيبا للرسول صلوات الله عليه وطعنا في الرسالة وذلك قولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، مما لم ينزل الله به سلطانا ثم أعلم تعالى مشاكلتهم لمن تقدمهم، بقوله:
لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي من الشرك والتحريم، متمسكين بمثل هذه الشبهة.
قال ابن كثير: مضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه. قال الله تعالى رادا عليهم شبههم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم. بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة، أي في كل قرن وطائفة من الناس، رسولا. وكلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو ما يعبد من دونه سبحانه. فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم. ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وكما أخبر هنا في هذه الآية. فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية. لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله. وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيها. أي لأنها من سر القدر الذي حظر الخوض فيه. ثم إنه تعالى أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا، بعد إنذار الرسل، بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ الآية. وقد تقدم لنا في سورة الأنعام نقل ما للأئمة في مثل هذه الآية. ونسوق هنا أيضا ما قرأته للإمام ابن تيمية، عليه الرحمة، في أول الجزء الثاني من (منهاج السنة) مما يتعلق بالآية، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضا. فإن الآية من معارك الأفهام. فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ(6/367)
الأوهام. قال عليه الرحمة: هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه. فإن كثيرا من الناس، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال: حتى يقدّر الله ذلك، أو يقدّرني الله على ذلك، أو حتى يقضي الله ذلك. وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرّم الله قال: الله قضاه عليّ بذلك، ونحو هذا الكلام. والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة. باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين. والمحتجّ به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه. بل يطلب منه ما له عليه، ويعاقبه على عدوانه عليه. وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم. فكأنك تعلم فسادها بالضرورة. وإن كانت تعرض كثيرا للكثير من الناس.
حتى قد يشك في وجود نفسه. وغير ذلك من المعارض الضرورية. فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب، وغير ذلك. وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك. ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة. ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله. فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة، وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله، ولم يحتج بالقدر. وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به- لم يحتج بالقدر. بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم، احتج بالقدر. ولهذا لما قال المشركون: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، قال الله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 149] ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرّا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا- لم يقبلوا منه هذه الحجة. ولا هو يقبلها من غيره. وإنما يحتج بها المحتج دفعا للّوم بلا وجه. فقال الله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله، وأنه مصلحة ينبغي فعله إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فإنه لا علم عندكم بذلك، إن تظنون ذلك إلا ظنا وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وتفترون. فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم. ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدّره. فإن مجرد المشيئة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل. ولا حجة لأحد على أحد ولا عذرا لأحد. إذا الناس كلهم مشتركون في القدر. فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق(6/368)
والكاذب والعالم والجاهل والبرّ والفاجر. ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال ما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم. وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده، والإيمان به لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره، لم يقبله منه. بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل من يريد تركا لحقهم، أو ظلما. فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره، واحتجوا بالقدر. فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حقّ ربهم ومخالفة أمره، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم.
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ بن جبل! أتدري ما حقّ الله على عباده؟ حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ حقهم عليه أن لا يعذّبهم «1» .
فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم. ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم، يفرّون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس. فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا. بل يعتمدون عليه، لعدم الهدى والعلم. وهذا أصل شريف، من اعتنى به علم منشأ، الضلال والغيّ لكثير من الناس. ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي، كثيرا ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع. فإن كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها. فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى. وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها. فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص. وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة. فإذا اتبعوا العلم، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى. كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى [طه: 123] ، وقد ذكر الله تعالى
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 1- باب ما جاء في دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، حديث 1371، وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 50.(6/369)
هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى:
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 20] ، فتبين أنه لا علم لهم بذلك، إن هم إلا يخرصون، وقال في سورة الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] ، إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، ثم أثبت القدر بقوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية. وكلاهما حق وقال في النحل: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] فبيّن سبحانه وتعالى- أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به. ليس حجة لهم. فلو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم. ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة. بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن. كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة. بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب. كما
ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أحب إليه العذر في الله. من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. ولا أحد أحب إليه المدح من الله. من أجل ذلك مدح نفسه. ولا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» «1» .
فبين أنه سبحانه يحب المدح وأن يعذر ويبغض الفواحش، فيحبّ أن يمدح بالعدل والإحسان. وألّا يوصف بالظلم. ومن المعلوم أنه من قدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا. وبيّن لهم وأزاح علتهم، ثم تعدّوا حدوده وأفسدوا أمورهم، كان له أن يعذبهم وينتقم منهم. فإذا قالوا: أليس الله قدّر علينا هذا؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا. قيل لهم: أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به، يبيّن أن ما فعلتموه كان حسنا، أو كنتم معذورين فيه. فهذا الكلام غير مقبول منكم. وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار. ولو أن وليّ أمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد، فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه، وكان وليّ الأمر قد أرسل جندا يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق، فرأوا
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 20- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله
، حديث رقم 2518، عن المغيرة.
وأخرجه مسلم في: اللعان، حديث رقم 17.(6/370)
ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا- لكن يحسن منه أن يعاقب الأولين لتفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم به، ولو قالوا له: أنت لم تعلمنا أنك تبعث بعدنا جندا حتى يحترز المال منهم، قال: هذا لا يجب عليّ، ولو فعلته لكن زيادة إعانة لكم. لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظون الودائع والأمانات.
وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن يدعى فيهم ظالما. وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند. لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين. والله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى، حكم عدل في كل ما جعله. ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته. فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم.، كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم. وإذا خلق أمورا أخرى، فإذا فرّطوا واعتدوا بسبب خلقه الأمور الأخرى، كان عادلا حكما في خلق هذا وخلق هذا، والأمر بهذا والأمر بهذا. وإن كان لم يمدّ الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان،. لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة، لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح، فإن الضدين لا يجتمعان. والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل، لدعم اتباع الحق الذي بينه العلم. فإن الإنسان حيّ حساس متحرك بالإرادة. ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء الحارث وهمّام)
فالحارث الكاسب العامل. والهمّام المتحرك الهمّ.
والهمّ مبدأ الإرادة والقصد. فكل إنسان حارث همام. وهو المتحرك بالإرادة. وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور. فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد. فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه.
كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور. فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب. والحيّ مفطور على حب ما ينفعه ويلائمه، وبغض ما يكرهه ويضره. فإذا تصوّر الشيء الملائم النافع، أراده وأحبه. وإن تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه. لكن ذلك التصوّر قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا. فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع، وهو المصلحة وهو الذي يلائمه، كان على الهدى والحق. وإذا لم يكن معه علم بذلك، كان متبعا للظن وما تهوى نفسه. فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة، أخذ يحتج بالقدر، حجة لدد وتفريج، لا حجة اعتماد على الحق والعلم. فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر، إلا لعدم العلم بما هو عليه الحق. وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرّا بأن ما هو عليه ليس معه به علم. وإنما تكلم بغير علم. ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه. ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة. فإما أن يكون جاهلا،(6/371)
فعليه أن يتبع العلم. وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه، فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه. فتبيّن أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] انتهى.
وله تتمة سابغة الذيل لا بأس بالوقوف عليها.
وقال القاشاني في هذه الآية: إنّما قالوا ذلك عنادا وتعنّتا عن فرط بالجهل وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم. إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا، لم يشأ الله ذلك، لم يمكن وقوعه. فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى، فلم يبق مشركا، قال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وقوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
[النحل: 35] ، أي في تكذيب الرسل بالعناد انتهى.
وقال الإمام مفتي مصر في تفسير سورة العصر، من هذا البحث ما مثاله:
فالعقل والشرع والحس والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله. وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات، إنما هو نسبتها إليه. ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه. مما قام عليه الدليل بل كاد يصل إلى البداهة كذلك. ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى. وأنه إن شاء سلبنا من القدرة والاختيار ما وهبنا. فهو أمر نشاهده كل يوم. ندبّر شيئا، ثم يأتي من الموانع من تحقيقه ما لم يكن في الحسبان. ونتناول عملا ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه.
كل ذلك لا نزاع فيه. شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل. ولا شبهة فيه عند الملّيّين فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه، وأن يقرّر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده. ويعلم بما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه. وليس عليه بعد ذلك أن يرفع بصره إلى ما وراءه. فقد نعى الله على المشركين قولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، ووردت الأحاديث متواترة المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره. فلو صبر العبد حق الصّبر، لوقف عند ما حد الله له، ولم ينزع بنفسه إلى تعدي حدود الله التي ضربها لعباده. ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا. وإلا خرجت من الصابرين، وخضت في القدر مع الخائضين. ومن ثار به الهوس فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له، فقد خالف كتاب الله وعصى رسول الله. وقد أقول (واعتمادي على الله فيما أقول) إن(6/372)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
من يقول ذلك. يخرج عن دين الله، ويعطل شرع الله، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك. انتهى.
وقال في موضع آخر: الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين.
وقد جاء الكتاب الكريم بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه. وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، فلا يسوغ لأحد منا، وهو يدّعي أنه مؤمن بالقرآن، أن يحتج بما كان يحتج به المشركون. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 37 الى 38]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي من يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ينصرونهم في الهداية، أو يدفعون العذاب عنهم. ثم بيّن تعالى نوعا آخر من أباطيلهم. وهو إنكارهم البعث بقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جاهدين فيها ف جَهْدَ مصدر في موقع الحال لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أنه يبعثهم، فيبتّون القول بعدمه! وإنه وعدا عليه حقّ، فيكذبونه- وذلك لجهلهم بشئون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال. وبما يجوز عليه وما لا يجوز: وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه. وعلى أن البعث مما يقتضيه الحكمة. أفاده أبو السعود.
ثم ذكر حكمته تعالى في المعاد، وحشر الأجساد يوم التناد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 39 الى 40]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو الحق، وأنهم كانوا على الضلالة قبله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ أي في أباطيلهم. لا سيما في أيمانهم بعدم(6/373)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
البعث. ولذا تقول لهم الزبانية يوم القيامة: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: 14] ، ثم بين عظيم قدرته. وأنه لا يعجزه شيء مّا بقوله سبحانه إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فيوجد على ما شاء تكوينه كقوله تعالى:
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50] ، وقوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] .
قال الزمخشري: (قولنا) مبتدأ و (أن نّقول) خبره و (كن فيكون) من (كان) التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له:
أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك، لا يتوقف. وهذا مثل. لأن مرادا لا يمتنع عليه.
وأن وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل. ولا قول ثمّ. والمعنى: إن إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة. فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو في شق المقدورات.
انتهى.
قال الشهاب: فسقط ما قيل: إنّ (كن) إن كان خطابا مع المعدوم فهو محال.
وإن كان مع الموجود كان إيجادا للموجود. وفي الآية كلام لطيف مضى في سورة البقرة، فارجع إليه.
ثم أخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين الذين فارقوا الدار والأهل والخلّان، رجاء ثوابه وابتغاء مرضاته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 41]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي مخلصين لوجهه، أو في حقه، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم، وذلك مخافة الفتنة وفرارا إليه تعالى بدينهم، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلا سوى صغار أبنائهم، وهي أول هجرة في الإسلام. ويؤيده كون السورة مكية.
أو هم مهاجرة المدينة، أخبر به قبل وقوعه أو بعده، إلا أنها ألحقت بالمكية.
وقوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي أوذوا وأريد فتنتهم عن الدين لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني بالغلبة على من ظلمهم، وإيراثهم أرضهم وديارهم وَلَأَجْرُ(6/374)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
يعني مضطهديهم وظالميهم. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه، يقول: خذ بارك الله لك فيه. هذا ما وعدك الله في الدنيا. وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم وصفهم تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 42 الى 44]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
الَّذِينَ صَبَرُوا أي على ما أوذوا في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي فلا يخشون أحدا غيره. والوصفان المذكوران: الصبر والتوكل، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق، والمدافع عنه، أن يكونا خلقا له. إذ لا ظفر بغاية إلا بهما. ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله، واصطفائه برسالته، قيل في درء شبهتهم وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني أهل الكتاب أو علماء الأخبار. ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء. فالذكر، إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة، كقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ [يس: 69] ، أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة. وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم. واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعاميّ. وفي ذلك بحث طويل في (إيقاظ الهمم) للفلّاني فارجع إليه إن شئت. وأشار إلى طرف منه في (فتح البيان) .
وقوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق. والجارّ متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي أرسلناهم. أو ب (ما أرسلنا) . أو ب (نوحي) أو ب (لا تعلمون) ، على أن الشرط للتبكيت والإلزام وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن المذكّر والموقظ من سنة الغفلة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أي مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين. أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين. ولذا تأثره بقوله:(6/375)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 45]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات التي قصّت عنهم. فهي صفة لمصدر محذوف أو مفعول ل (مكروا) بتضمينه معنى (عملوا) أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من جهة لا يعلمون بها، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 46 الى 48]
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي سعيهم في المعايش واشتغالهم بها فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا يعجزون ربهم على أي حال كانوا أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي توقع للهلاك ومخافة له، فإنه يكون أبلغ وأشد. أو ننقّص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا. يقال: تخوفه: تنقصه وأخذ من أطرافه فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة. ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته، جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه، بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي جسم قائم له ظلّ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي يرجع شيئا فشيئا عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أي عن جانبي كل واحد منها، بكرة وعشيّا سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون. وغلب في جمعها من يعقل، فأتى بالواو. أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء. فهو إما تغليب أو استعارة: وكذا ضمير (هم) أيضا لأنه مخصوص بالعقلاء.
فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه، ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة.
لطيفة:
لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف. وملخصه أنه نظر إلى الغاية فيهما. لأن ظل الغداة يضمحلّ بحيث لا يبقى منه إلا اليسير. فكأنه(6/376)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
في جهة واحدة. وهو في العشيّ على العكس، لاستيلائه على جميع الجهات.
فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق (سجدا) المجاور له. كما أفرد الأول لمجاورة ضمير (ظلاله) وقدّم الإفراد لأنه أصل أخف. و (عن اليمين) متعلق ب (يتفيأ) أو حال. كذا في (العناية) .
ثم بين سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 49]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ أي الملائكة، مع علوّ شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ أي عن عبادته والسجود له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 50]
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي من الطاعات والتدبير.
واستدل بقوله مِنْ فَوْقِهِمْ على ثبوت الفوقية والعلوّ، له تعالى. وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبيّ كتاب (العلوّ) وابن القيم كتاب (الجيوش الإسلامية) وغيرهما.
وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في (مناهج الدولة) فليرجع إليها. وكلهم متفقون على أنه علوّ بلا تشبيه ولا تمثيل. وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 51]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إعلام بنهيه الصريح عن الإشراك. وبأمره بعبادته وحده، وإنما خصص هذا العدد لأنه الأقل، فيعلم انتفاء ما فوقه بالدلالة. فإن قيل: الواحد والمثنى نص في معناهما، لا يحتاج معهما إلى ذكر العدد، كما يذكر مع الجميع. أي في نحو رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص، فلم ذكر العدد فيهما؟ أجيب بأن العدد(6/377)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
يدل على أمرين: الجنسية والعدد المخصوص. فلما أريد الثاني صرّح به للدلالة على أنه المقصود الذي سيق الكلام وتوجه له النهي دون غيره. فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو: نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله:
فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها الكلام
وقيل: ذكر العدد للإيماء بأن الاثنينيّة تنافي الألوهية. فهو في معنى قوله:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ، فلذا صرح بها، وعقبت بذكر الوحدة التي هي من لوازم الألوهية.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل الضمير للمعبود بحق المراد من الجلالة على طريق الاستخدام.
وقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ معطوف على قوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ أو على قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل: إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على أسلوب:
علفتها تبنا وماء باردا
أي: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ ولم يسمعوا ما قال الله؟. ولا يخفى تكلفه. وفي قوله فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ التفات عن الغيبة، مبالغة في الترهيب. فإن تخويف الحاضر مواجهة، أبلغ من ترهيب الغائب، لا سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 52 الى 55]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معطوف على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر، أو مستأنف. وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي العبادة لازمة له وحده. ولزومها له ينافي خوف الغير، إذ يقتضي تخصيصه تعالى بالرهبة والخشية، وهذا كقوله:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] .
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي وهو مالك النفع والضر. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ(6/378)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
أي فمن فضله وإحسانه ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي لا تتضرعون إلا إليه، لعلمكم أنه لا يقدر على كشفه إلا هو سبحانه. والجؤار: رفع الصوت. يقال: جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، وأصله صياح الوحش.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيتها منه. وكذا بنسبة الضر إلى الغير، وإحالة الذنب في ذلك عليه، والاستعانة في رفعه به. وذلك هو كفران النعمة، والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي من نعمة الكشف عنهم. واللام للعاقبة والصيرورة فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي وبال ذلك الكفر. وفيه إشعار بشدة الوعيد، وأنه إنما يعلم بالمشاهدة، ولا يمكن وصفه، فلذا أبهم.
وللقاشانيّ وجه آخر قال: أو فسوف تعلمون، بظهور التوحيد، أن لا تأثير لغير الله في شيء. ثم بيّن تعالى من مثالب المشركين قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 57]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ. أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي: من أنها آلهة يتقرب إليها. ومرّ نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام: 136] الآية، فانظر تفصيلها ثمّة وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ
هذا بيان لعظيمة من عظائمهم، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن بنات لله، فنسبوا له تعالى ولدا ولا ولد له. واجترءوا على التفوه بمثل ذلك وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد، وهو البنات. وهم لا يرضونها لأنفسهم لأنهم يشتهون الذكور، أي يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات. وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ أي عن إفكهم وقولهم. وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: 21- 22] . وقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما(6/379)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
[الصافات: 151- 154] . ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها، بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار أو دام النهار كله مُسْوَدًّا أي متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة. وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة، كناية أو مجازا. وَهُوَ كَظِيمٌ أي مشتد الغيظ على امرأته لأنه، بزعمه، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء حتى أنه يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجله وخوف التعبير به.
ثم يفكر فيما يصنع به، وهو قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه على هوان وذلّ، لا يورّثه ولا يعتني به، ويفضل ذكور ولده عليه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي يخفيه ويدفنه فيه حيّا أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي حيث يجعلون الولد، الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم، لله تعالى وتقدس.
ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 60]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي مثل من ذكرت مساوئهم مَثَلُ السَّوْءِ أي صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهة الإناث ووأدهن، خشية الإملاق، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشحّ البالغ. ووضع الموصول موضع الضمير، للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف العالي الشأن، وهو الغنيّ عن العالمين. والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين:
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه، مع ظلمهم، بقوله:(6/380)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 62]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله تعالى: مِنْ دَابَّةٍ أي لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معين تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له، ويصرّ من يصرّ فيزداد عذابا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي المسمي لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي ينسبون إليه ما يَكْرَهُونَ أي من البنات ومن الشركاء. وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم. وهو تكرير لما سبق، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى:
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي يجعلون لله ذلك، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، إن كان ثم معاد. كما قصه تعالى عنهم بقوله وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] ، يعني جمع هؤلاء بين عمل السوء وتمنّي المحال، بأن يجازوا على ذلك حسنا.
وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة، لما جدّدت، مكتوبا (تعملون السّيّئات وتجزون الحسنات. أجل. كما يجتنى من الشوك العنب) وأَنَّ لَهُمُ إلخ بدل من (الكذب) أو بتقدير بأن لهم.
قال الشهاب: قوله تعالى: قوله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ من بليغ الكلام وبديعه كقولهم: (عينها تصف السحر) أي ساحرة. وقدها يصف الهيف، أي هيفاء.
قال أبو العلاء المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
ثم ردّ كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي معجّلون إليها ومقدّمون. من (الفرط) وهو السابق إلى الورد. يقال: أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. أو متروكون منسيّون في النار. من (أفرطته) بمعنى تركته(6/381)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
ونسيته، على ما حكاه الفراء. كقوله تعالى فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف: 51] . وقرأ نافع (مفرطون) بكسر الراء. اسم فاعل من (أفرط) إذا تجاوز أي متجاوز الحدّ في معاصي الله. وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من (فرّط في كذا) إذ قصر. ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [فصلت: 50] . وقال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف: 35- 36] .
ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم، ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 64]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي من الكفر والتكذيب والعناد فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي قرينهم، يغويهم. أو المراد باليوم يوم القيامة. والوليّ بمعنى الناصر. وجعله ناصرا فيه، مع أنهم لا ينصرون، مبالغة في نفيه، وتهكم، على حدّ (عتابه السيف) وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل، وكل ما يتنازع فيه وَهُدىً أي للقلوب وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 66]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)(6/382)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي المزن ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بالنبات والزرع، بعد جدبها ويبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي هذا التذكير، ويعقلون وجه دلالته وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش من الثفل وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ أي سهل المرور في حلقهم.
بيّن تعالى آيته في الأنعام بما ذكر، ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالأولوهية. وليستدل به أيضا على الحشر. فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب. فقلب الطين نباتا وعشبا، ثم تبديله دما في جوف الحيوان، ثم تحويله إلى لبن، أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة. وإنما ذكّر الضمير في بطونه هنا، وأنثه في سورة المؤمنين، لكون الأنعام اسم جمع، فيذكر ويفرد ضميره، باعتبار لفظه. ويؤنث ويجمع باعتبار معناه.
وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 67]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة، ومنّته في المشروب منها والمطعوم. و (السّكر) مصدر سمي به الخمر. فهو بمعنى السّكر كالرّشد والرّشد.
قال الفراء: السّكر الخمر نفسها. والرزق الحسن الزبيب والتمر وما أشبههما، ولا يقال: الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟ لأنّ هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة. وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة. وأجاب الرازي بجواب ثان.
وهو: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع. وخاطب المشركين بها. والخمر من أشربتهم. فهي منفعة في حقهم.
قال: ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها. وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السّكر رزقا حسنا. ولا شك أنه(6/383)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال: الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة.
وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن كثير: دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور.
وفي (فتح البيان) قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر. كما في (الكشاف) قالوا: إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم. وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. انتهى.
وليس هذا موضع بسط ذلك. قال ابن كثير: وقد ناسب ذكر العقل هاهنا في قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإنه أشرف ما في الإنسان. ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها. انتهى.
ولما بين تعالى أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، دلائل قاهرة وبينات باهرة، على أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا مختارا حكما- أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 69]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ المراد من الوحي الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات. وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال.
والشجر. وبيوت الناس، حيث يعرشون أي يبنون العروش، جمع (عرش) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش. وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة: الجبال والشجر وبيوت الناس. وأكثر بيوتها ما كان في الجبال وهو المتقدم في الآية ثم في الشجر دون ذلك ثم في الثالث أقل.(6/384)
فالنحل إذا نوعان: جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس. وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا. ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أوّلا. فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت.
وأكلت من الثمرات. ثم أوت إلى بيوتها. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل ثمرة تشتهيها، حلوها ومرها. فالعموم عرفيّ، أو لفظ (كل) للتكثير. أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز. لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات، الأكل منها. لأن الأمر للتخلية والإباحة.
لطيفة:
إنما أوثر (من) في قوله تعالى: مِنَ الْجِبالِ إلخ، على (في) دلالة على معنى التبعيض. وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشري:
قال الناصر: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض (من) المتعلقة باتخاذ البيوت. بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها. فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض. لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت (ثم) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أي شيء شئت. فتوسط (ثم) لتفاوت الحجر والإطلاق.
فسبحان اللطيف الخبير.
وقوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أو على حقيقتها. أي إذا أكلت الثمار في المواضع النائية فاسلكي راجعة إلى بيوتك. سبل ربك. لا تتوعّر عليك ولا تضلين فيها. و (ذللا) جمع ذلول، حال من (السبل) أي مذلّلة ذللها الله لك وسهلها.
فهي تسلك من هذا الجوّ العظيم. والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة. ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة. وقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ استئناف، عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى، تعديدا للنعم، وتنبيها على العبر، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف. وسمي العسل شرابا، لأنه يشرب مع الماء وغيره مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ(6/385)
أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر، لاختلاف ما يؤكل من النّور أو مزاجها فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض. وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين. وقلّ معجون من المعاجين، لم يذكر الأطباء فيه العسل. وقد قام الآن مقامه السكر، لكثرته بالنسبة إليه.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال:
اسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فقال: يا رسول الله! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا. قال: اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله! ما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك. اذهب فاسقه عسلا. فذهب فسقاه عسلا فبرأ «1» .
قال ابن كثير: قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات. فلما سقاه عسلا وسكر حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالا، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، وهو مصلحة لأخيه. ثم سقاه فازداد التحليل والدفع. ثم سقاه فكذلك. فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، استمسك بطنه، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي (العناية) للشهاب هنا، قصة عن طبقات الأطباء، فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه، وانفراده بألوهيته. وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء، من وراء البيداء، فتقع على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا، وتلفظه شرابا.
قال الحجة الغزالي (في الإحياء) : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا. وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل. وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء. ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الطب، 4- باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ حديث 2251.
وأخرجه مسلم في: السلام، حديث رقم 91.(6/386)
من النجاسات والأقدار، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة- لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك. وشهوات نفسك في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك. وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه. فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة.
وشكل النحل مستدير مستطيل. فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة. ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة. فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة. ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير.
ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل، على صغر جرمه، ذلك. لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه. ليهنأ عيشه فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه. وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية. وربما هلك الملسوع. وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج. وفي طبعه أيضا النظافة. فلذلك يخرج رجيعه من الخلية لأن منتن الريح. وهو يعلم زماني الربيع والخريف. والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا. يطلبه حيث كان. ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة. وإذا قلّ العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفا على نفسه من نفاده لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور. وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا. قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفنى العسل، ويعلم النشيط الكسل.
والنحل يسلخ جلده كالحيات. وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة، ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح. وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن بأخثاء البقر. وفي طبعه أنه متى طار من الخلية، يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه. كذا في (حياة الحيوان) .(6/387)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب (الحكمة في خلق المخلوقات) : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه، قتل أحدهما الآخر. وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق. لأنهما إذا كانا أميرين، وسلك كل واحد منهما فجّا، افترق النحل خلفهما. ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار. فيستحيل في أجوافها عسلا. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد، من شراب فيه شفاء للناس.
كما أخبر سبحانه وتعالى. وفيه غذاء وملاذ العباد. وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها. وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس. ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها، لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل.
وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
قال أبو السعود: ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل. أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك. وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع: الأولى سنّ النشوء والنماء. والثانية سن الوقوف وهي سن الشباب. والثالثة سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة. والرابعة سن الانحطاط الكبير وهي سنّ الشيخوخة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 71]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي أنشأكم من العدم ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أضعفه وأردئه وهو الهرم. وقوله تعالى: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام(6/388)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
للصيرورة والعاقبة. أي فيصير، إن كان عالما، جاهلا. فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته.
قال في (العناية) : وكونه غير عالم بعد علمه، كناية عن النسيان. لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه، فلا يعلم بعد ما علم. أو العلم بمعنى الإدراك والتعقل، والمعنى لا يترقى في إدراك عقله وفهمه لأن الشاب في الترقي. والشيخ في التوقف والنقصان.
وفي (الكشاف) : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان. وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا. وقيل لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول. و (شيئا) منصوب على المصدرية أو المفعولية. وجوز فيه التنازع بين (يعلم) و (علم) وكون مفعول (علم) محذوفا لقصد العموم. أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي: جعلكم متفاوتين فيه، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا أي في الرزق، وهم الملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي بمعطيهم إياه فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فيستووا مع عبيدهم في الرزق.
والآية مثل، ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء. أي أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم. ولا تجعلونهم فيه شركاء. ولا ترضون ذلك لأنفسكم. فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم؟ كما قال في الأخرى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الروم: 28] ، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم. فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 72 الى 74]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)(6/389)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي في جنسكم وشكلكم إناثا أزواجا لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً أي بنات وأولاد أولاد وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو منفعة الأصنام وشفاعتها وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ أي في إضافة نعمه إلى الأصنام، أو في تحريم ما أحل لهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي من مطر أو نبات و (شيئا) نصب على المفعولية من (رزق) إن كان مصدرا. وإن جعل اسما للمرزوق ف (شيئا) بدل منه بمعنى قليلا. و (من السموات) متعلق ب (يملك) على كون الرزق مصدرا. أو هو صفة ل (رزقا) وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي أن يتملكوه. أو لا استطاعة لهم أصلا. أو الضمير للمشركين. أي ولا يستطيعون، مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد؟
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي فلا تجعلوا له أندادا وأمثالا. والضرب للمثل فيه معنى الجعل. والأمثال جمع (مثل) بكسر فسكون على هذا، وقيل جمع (مثل) بفتحتين والآية استعارة تمثيلية للإشراك به. حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه، بمنزلة ضارب المثل. فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة، وذاتا بذات.
كما أن ضارب المثل كذلك. فكأنه قيل: ولا تشركوا. وعدل عنه لما ذكر، دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا. وفي لفظة (الأمثال) لمن لا مثال له، نعي عظيم على سوء فعلهم. كذا في (شرح الكشاف) .
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه. ولو علمتموه لما جرأتم عليه، فهو تعليل للنهي. أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه. ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك، عقبه بالكشف لذي البصيرة، عن حالهم في تلك الغفلة، وحال من تابعهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 75]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني أن مثل هؤلاء في(6/390)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
إشراكهم، مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك يتصرف في ماله كيف يشاء. ولا مساواة بينهما. مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى. فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات. وإيثار قوله: وَمَنْ رَزَقْناهُ إلخ على (مالكا) للتنبيه على أن ما بيده، هو من فضل الله ورزقه، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر، ليكون عاملا بأمر الله فيه.
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما هدى أولياءه. وأنعم عليهم من التوحيد. أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام. أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها، مع أنه في غاية ظهورها ونهاية وضوحها.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 76]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي أخرس لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أي مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي ثقيل على ما يلي أمره، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس، بحثّهم على العدل الشامل لجميع الفضائل.
وَهُوَ أي في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على سيرة صالحة ودين قويم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله.
قال الأزهري: ضرب تعالى مثلا للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء، فهو كلّ على مولاه. لأنه يحمله إذا ظعن فيحوّله من مكان إلى مكان. فقال الله تعالى: هل يستوي هذا الصنم الكل، ومن يأمر بالعدل؟ استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جلّ جلاله. انتهى.
وإليه أشار الزمخشري بقوله: وهذا مثل ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على(6/391)
عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية. وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. انتهى.
وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع، يمنع من حملها على الوثن. وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. انتهى.
وقد يقال في جوابه بأن الأوصاف الأول، وإن كانت ظاهرة في الإنسان (والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن: لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما، لما فيه من صفات النقص. وأما الوصف في قوله عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فكقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56] ، فصح الحمل.
ثم رأيت للإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال، في بحث أمثال القرآن، في هذين المثلين ما صورته:
فالمثل الأول: يعني قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الآية، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء. ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا. يمينه ملأى لا يغيضها نفقة. سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء إليّ ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا.
والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء. لأنه لا خير عنده. فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد. فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 73- 74] ، ثم قال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقا حسنا. والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه(6/392)
فذكره ابن عباس منبها على إرادته. لا أن الآية اختصت به. فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن. فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق. بل وهو أبكم القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير. ولا يقضي لك حاجة، والله سبحانه حيّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له، راض به آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل،. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه.
وهم المجاورون له عند يمينه، على منابر من نور. وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني. وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه. كما في الحديث الصحيح «1» : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل في قضاؤك. فقضاؤه هو أمره الكوني: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، فلا يأمر إلا بحق وعدل. وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل.
وإن كان في المقضيّ المقدّر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضيّ. والقدر غير المقدّر. ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قوله رسوله شعيب:
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هود: 56] ، وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها نظير قوله (ناصيتي بيدك) وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ نظير قوله (عدل فيّ قضاؤك) فالأول ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل. فهو على الحق في أقواله وأفعاله. فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما به ولا يؤخذ بغير ذنبه. ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا. ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره. ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 391 والحديث رقم 3712. [.....](6/393)
العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به.
ثم حكي عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقال فرقة: هي مثل قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] ، وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقال فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه. وهؤلاء إن أرادوا أنّ هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم. وإن أرادوا أنّ حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مردّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه، فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته. وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية. وقد فرق شعيب بين قوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود: 56] ، وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56] .
فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39] ، وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في(6/394)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله، وبالله التوفيق.
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء: إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق. انتهى بحروفه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 77]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون، أو لاستبطائهم الساعة. أو لبيان كماله في العلم والقدرة، تعريضا بأن معبوداتهم عريّة منهما. فأشار إلى الأول بقوله:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه. أو غيبهما هو يوم القيامة. فإن علمه غائب عن أهلها، لم يطلع عليه أحد منهم، وأشار إلى الثاني بقوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ و (الساعة) الوقت الذي تقوم فيه القيامة. و (اللمح) النظر بسرعة. أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها (أو هو أقرب) من ذلك، أي أسرع زمانا. بأن يقع في بعض زمانه. وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى. وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل له، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى، وأن ما يذكر بعض منها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 79]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً عطف على قوله تعالى:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وقوله تعالى:(6/395)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أفاده أبو السعود. و (شيئا) منصوب على المصدرية أو مفعول (تعلمون) والنفي منصبّ عليه. أي لا تعلمون شيئا أصلا من حق المنعم وغيره.
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ أي فتدركون به الأصوات وَالْأَبْصارَ فتحسون المرئيات وَالْأَفْئِدَةَ أي العقول لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها والمشي على السنن الكونية. ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ أي مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ أي ما يمسكهن في الجوّ من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل، إلا هو سبحانه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال الحجة الغزالي في الحكمة في خلق المخلوقات، في حكمة الطير، في هذه الآية، ما مثاله:
اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران. ولم يخلق فيه ما يثقله. وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه فقسم لكل عضو منه ما يناسبه. فإن كان رخوا أو يابسا أو بين ذلك، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله. وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه. أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه. وجعل جلد ساقيه غليظا متقنا جدا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد. وكان من الحكمة، خلقه على هذه الصفة. لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء. فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه.
فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصا للطيران. وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها. إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره. وكثيرا ما يعان بطول المنقار أيضا مع طول العنق، ليزداد مطلبه عليه سهولة.
ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه. وخلق صدره ودائره ملفوفا على عظم كهيئة نصف دائرة، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران. وجعل لكل جنس من الطير منقارا يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك. فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم. ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا محكما. ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر. ومنه طويل المنقار جعله صلبا شديدا(6/396)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
شبه العظم وفيه ليونة، وما هي في العظم، لكثرة الحاجة إلى استعماله. وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان. وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصبا منسوبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش. وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد. ومعونة متخللة الهواء للطيران. وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه، لكثرة دعاء الحاجة إليه. وجعل في سائر بدنه ريشا غيره كسوة ووقاية وجمالا له.
وجعل في ريشه من الحكمة، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كأن أيسر انتفاض يطرد عنه بلله فيعود إلى خفته. وجعل له منفذا واحدا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه.
فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا وشمالا. فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها. وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته. ولما كان طعامه يبتلعه بلعا بل مضغ، جعل لبعضه منقارا صلبا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية. وصار يزدرد ما يأكله صحيحا. وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنا يستغنى به عن المضغ وثقل الأسنان. واعتبر ذلك بحبّ العنب وغيره.
فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحا وينسحق في أجواف الطير. ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد لئلا يثقل عن الطيران. فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوّق عن النهوض للطيران. أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة؟ انتهى ملخصا.
ثم بين تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته، بقوله، عطفا على ما مرّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 80]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً أي موضعا تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها، أو من الوبر والصوف والشعر أيضا. فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو(6/397)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
الجلود مجاز عن المجموع تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم. لا يثقل عليكم ضربها.
أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا. قيل: والأول أولى. لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر. وأما المستوطن فغير مثقل وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أي وجعل لكم من أصواف الضّأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش. والمتاع ما يتخذه للتجارة. وقيل هما بمعنى. ومعنى (إلى حين) أي إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى. أو إلى أن تموتوا.
تنبيه:
استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية. واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقا ولو من غير مذكاة. كذا في (الإكليل) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 81]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ أي من الشجر والجبال والأبنية وغيرها ظِلالًا أي أفياء تستظلون بها من حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي بيوتا ومعاقل وحصونا تستترون بها وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ جمع سربال وهو كل ما يلبس من القطن. والكتان والصوف ونحوها. وإنما خص الحرّ، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر. أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب، لشدته بأكثر بلادهم وخصوصا قطّان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب. قيل: يبعده ذكر وقاية البرد سابقا في قوله: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [النحل: 5] وهو وجه الاقتصار على الحرّ هنا، لتقدم ذكر خلافه وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كالدروع من الحديد والزرد ونحوها.
التي يتقى بها سلاح العدوّ في الحرب كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى، وتؤمنو به وحده.(6/398)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
قال أبو السعود: وإفراد النعمة، إما لأن المراد بها المصدر، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل. وقرئ (تسلمون) بفتح اللام أي من العذاب أو الجراح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 82 الى 84]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي التي عددت، وأنها بخلقه ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم هي من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ.
ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله:
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو نبيّها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35- 36] ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم العتبى. أي إزالة عتب ربهم وغضبه. (والعتبى) بالضم الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب.
يقال: استعتبه أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته. والعتب لومك الرجل على إساءة كانت له إليك. والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه، فإذا لم يطلب العتاب منه، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 85 الى 86]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يؤخرون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ يعني أوثانهم التي عبدوها قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ(6/399)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ
أي أربابا أو نعبدها فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة، تنزيها لله عن الشرك.
أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم.
قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام. وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم. فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام. وهذه الآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] ، وقال تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81- 82] ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 87]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87)
وَأَلْقَوْا أي وألقى الذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
أي من أنّ لله شركاء، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى. فإن قيل: قد جاء إنكارهم كقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] والجواب: (كما قال القاشاني) : إن ذلك بحسب المواقف.
فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه. ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، حين زالت الهيئات ورقت، وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى، فيعترف وينقاد. هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد، والله أعلم.(6/400)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 88 الى 89]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان، كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26] ، وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو نبيّهم وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي اذكر ذلك اليوم، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابا، لهول المطلع.
وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 41- 42] . وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ مستأنف. أو حال بتقدير (قد) .
قال الرازي: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، أنه تعالى لما قال وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ بيّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا. فلا حجة لهم ولا معذرة.
وقال ابن كثير في وجه ذلك: إن المراد، والله أعلم، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] ، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93] ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ، قالُوا لا عِلْمَ لَنا، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] . وقال تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] . أي إن الذي أوجب عليك تبليغ(6/401)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو متجه حسن. انتهى.
و (التبيان) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة لتكثير الفعل والمبالغة فيه. أي تبيينا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم وَهُدىً أي هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله وَرَحْمَةً أي له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد، ونجاته من العذاب، وبشارة له بالسعادة الأبدية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 90]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أي فيما نزله تبيانا لكل شيء بِالْعَدْلِ وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم. وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه وَالْإِحْسانِ أي التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن يعفو عنه وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها كالزنى وَالْمُنْكَرِ أي كل ما أنكره الشرع وَالْبَغْيِ أي العدوان على الناس يَعِظُكُمْ أي بما يأمركم وينهاكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتّعظون بمواعظ الله، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن، لخير وشر، هذه الآية.
وروى الإمام أحمد «1» : أن عثمان بن مظعون مرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته. فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له ألا تجلس؟ فقال: بلى. فجلس. ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه: قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا.
وعن عكرمة أن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 318، والحديث رقم 2922.(6/402)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له: يا ابن أخي! أعد عليّ.
فأعادها. فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبّون عليّا، كرم الله وجهه، في خطبهم. فلما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أسقط ذلك منها وأقام هذه الآية مقامه. وهو من أعظم مآثره.
قال الناصر: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات، لا حظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعليّ باغ. حيث
يقول صلى الله عليه وسلم «1» لعمار (وكان من حزب عليّ) : تقتلك الفئة الباغية.
فقتل مع علي يوم صفين. انتهى.
ولما فيها أيضا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى، وكونها أجمع آية لاندراج ما ذكر فيها. والله أعلم.
ثم بين تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 91]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.
روى ابن جرير عن بريدة قال: نزلت في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم. كان من أسلم بايع النبيّ على الإسلام، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقضوها بعد توكيدها بالأيمان.
أي لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، مما يلتزمه المرء باختياره. كالمبايعة على الإسلام. وعهد الجهاد وما التزمه من نذر وما أكده بحلف.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الصلاة، 63- باب التعاون في بناء المسجد، حديث رقم 295.
وأخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم 70.(6/403)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وعلى هذا، فتخصيص اليمين بالذكر، للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية. و (التوكيد والتأكيد) ، لغتان فصيحتان. والأصل الواو، والهمزة بدل منها.
والواو في قوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا للحال من فاعل تَنْقُضُوا أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا. ومعنى كَفِيلًا شهيدا رقيبا. و (الجعل) مجاز.
فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا. قال الشهاب: ولو أبقى (الكفيل) على ظاهره، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله، كما يقال (من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب- لكان معنى بليغا جدّا. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ كالتفسير لما قبله. وفيه ترغيب وترهيب.
تنبيه:
في الآية الحث على البرّ في الأيمان. وجليّ أنها فيما فيه طاعة وبرّ وتقوى.
وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها. وقد دل عليه ما
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين «1» أنه قال: إني، والله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها
. (و
في رواية: وكفّرت عن يميني
) . فالحديث في معنى، والآية في معنى آخر. فلا تعارض، كما وهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 92]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقض. أي لا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها، بعد أن أحكمته وأبرمته، فجعلته أنكاثا، أي أنقاضا، جنونا منها وحمقا.
ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمّل، داخل في زمرة النساء. بل في أدناهن، وهي الخرقاء.
وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في (ولا تكونوا) أي لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها، حال كونكم متخذين أيمانكم
__________
(1) أخرجه مسلم في: الأيمان، حديث 7- 10.(6/404)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
مفسدة بينكم أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أي سبب أن تكون جماعة، كقريش، هي أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة كالمؤمنين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم تغترّون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيتميز المحق من المبطل، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب. وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام.
تنبيه:
قال أبو علي الزجاجي، من أئمة الشافعية: في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا، من إبطال الدور. لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه. نقله في (الإكليل)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 93]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي حنيفة مسلمة وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا، سؤال تبكيت ومجازاة، لا استفسار وتفهم. وهو المنفي في غير هذه الآية. أو في موقف دون موقف كما مر.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 94]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ تصريح بالنهي عنه، بعد أن نهى عنه ضمنا، لأخذه فيما تقدم قيدا للمنهي عنه، تأكيدا عليهم ومبالغة في قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي فتزل أقدامكم عن محجة الحق، بعد رسوخها فيه وَتَذُوقُوا السُّوءَ أي ما يسوءكم في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ أي بصدودكم عن الوفاء، أو بصدكم غيركم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي في الآخرة.(6/405)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
لطيفة:
تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ وأشار في (البحر) إلى نكتة أخرى: قال: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا. وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله:
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] ، أي لكل واحدة منهن متكئا. ولما كان المعنى: لا يفعل هذا كل واحد منكم، أفرد قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال وَتَذُوقُوا مراعاة للفظ الجمع.
قال الشهاب: هذا توجيه للإفراد من جهة العربية، فلا ينافي النكتة الأولى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 95]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا من الدنيا يسيرا. وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنّونهم، إن ارتدوا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من ذوي العلم والتمييز. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 96]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف. أي ما عندكم مما تتمتعون به، يفرغ وينقص. فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه، وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له. فإنه دائم لا يحول ولا يزول وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ أي على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بجزاء أحسن من أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 97]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ(6/406)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحا. وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله، من ذكر أو أنثى، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة.
قال المهايمي: أي فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه، ولا يبطل تلذذه إعساره. إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته. والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه إذ يزداد حرصا وخوف فوات. ويجزون بالأحسن في الآخرة. فلا يقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا. بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى. انتهى.
وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء. وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له.
والاستكانة إلى معبود واحد. والتنوّر بسر الوجود الذي قام به، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها. هذا في الدنيا. وأما في الآخرة، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.
لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه. ويفسد القلوب بدسائسه. أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه، عند تلاوة القرآن، من وسوسته. لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه. وقد بينت آية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 52] ، أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبيّ على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها السعادة البشر، أنه يحول عنها الأنظار ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله.(6/407)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان، ليحق الحق ويبطل الباطل. فلما كانت هذه عادته، ولها من الأثر ما لها، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه.
ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم. أي تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته. وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات، فليس له عليهم سلطان. فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه. لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره. و (الرجيم) من أوصاف الشيطان الغالبة. أي الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب. والضمير في (به) لربهم والباء للتعدية. أو للشيطان والباء للسببية أي بسببه وغروره ووسوسته. ورجح باتحاد الضمائر فيه.
وأشار بعضهم إلى أن المعنى أشركوه في عبادة الله تعالى، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته.
تنبيه:
في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها. وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر. وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة وأن لا يمنع من التدبر والتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 102]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، فتبديل الآية رفعها بآية أخرى.
والأكثرون على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظا أو حكما بآية أخرى غيرها، لحكمة باهرة أشير إليها بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به. وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء(6/408)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
المتقدمين. كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية، بآية أخرى نفسية علمية، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ، لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه. فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف. فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب.
وكون الكتاب بيّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم.
وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول، أن السورة مكية. وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه.، وللبحث تفصيل في موضع آخر. وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا إلخ [البقرة: 23] ، وقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] ، والمقصود أنه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، ردّا للحق، وعنادا للهدى، وتوليا للشيطان، وتعبّدا لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ واعتراض قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله: قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام. أضيف إلى القدس وهو الطهر.
كما يقال (حاتم الجود وزيد الخير وخبر السوء ورجل صدق) والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخيّر والخبر السيء والرجل الصادق. وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به. والمقدس المطهر من الأدناس البشرية وإضافة (الرب) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية. وقوله بِالْحَقِّ أي متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره، وقوله تعالى: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الحق ونبذ وساوس الشياطين. وفي قوله تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 103]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.(6/409)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن، بشر. يعنون رجلا أعجميا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة. ربما يتحدث معه النبيّ صلى الله عليه وسلم أحيانا. وإنما لم يصرح باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر، كائنا من كان. ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير بيّن. وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين. ذو بيان وفصاحة. ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل، وما حواه من العلوم، فضلا أن ينطق به، فضلا أن يكون معلما له! وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 104 الى 105]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تهديد لهم على كفرهم بالقرآن، بعد ما أماط شبهتهم وردّ طعنهم فيه. وقوله تعالى: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ردّ لقولهم إنما أنت مفتر. وقلب للأمر عليهم، ببيان أنهم هم المفترون لا هو. يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يخاف عقابا يردعه عنه، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ويدخل فيهم قريش دخولا أوليا. أي الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر. أو الكاملون فيه. لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل. ولا يخفى ما في الحصر، بعد القصر، من العناية بمقامه صلوات الله عليه. وقد كان أصدق الناس وأبرّهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا. معروفا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا ب (الأمين محمد) . ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم «1» أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويذهب فيكذب على الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: بدء الوحي، 6- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، والحديث طويل ينبغي الوقوف عليه.(6/410)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
تنبيه:
في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش.
والدليل عليه أن كلمة إِنَّما للحصر. والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله، وإلا من كان كافرا. وهذا تهديد في النهاية.
وروي «1»
أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. ثم قرأ هذه الآية أفاده الرازي
. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ، أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ.
لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد، بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله. فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا أي طاب به نفسا واعتقده، استحبابا للحياة الدنيا الفانية، أي إيثارا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولا. وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانيا.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: 56- ما يكره من الكلام، حديث 19.(6/411)
وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا. ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم، وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامسا بكونهم هم الغافلين، بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها! قال الرازي: ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال:
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.
تنبيهات:
الأول: (من) في قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ موصول مبتدأ خبره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وقوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً رجوع إلى صدر الآية وحكمها، بأسلوب مبيّن لمن كفر، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.
الثاني: استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه. إلّا ما استثنى. أفاده السيوطي في (الإكليل) .
الثالث:
روي عن ابن عباس: أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذّبه المشركون حتى يكفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرها. ثم جاء معتذرا. قال ابن جرير: أخذ المشركون عمارا فعذّبوه. حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد.
وقال ابن إسحاق: إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من(6/412)
أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين. فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش. وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ. يفتنونهم عن دينهم. فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه. ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح. يخرجه أمية بن خلف، إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة. ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره. ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول (وهو في ذلك البلاء) : أحد. أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، رضي الله عنهم، إذا حميت الظهرة يعذبونهم برمضاء مكة. فيمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم. والله! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة. حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم، مما يبلغون من جهده.
وقد ذكر ابن هشام في (السيرة) في بحث (عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة) غرائب في هذا الباب، فانظره.
قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي، إبقاء لمهجته. ويجوز له أن يأبى. كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم، وهم يفعلون به الأفاعيل، وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: والله! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة أنه أسرته الروم. فجاءوا به إلى ملكهم. فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفه عين، ما فعلت. فقال: إذا أقتلك.(6/413)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
فقال: أنت وذاك. فأمر به فصلب. وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى. ثم أمر به فأنزل. ثم أمر بقدر فأحميت. وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى. فأمر به أن يلقى فيها. فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه فقال: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة. تلقى في هذا القدر الساعة. فأحببت أن يكون لي، بعدد كل شعرة في جسدي، نفس تعذب هذا العذاب في الله.
وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما. ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال أما هو فقد حلّ لي. ولكن لم أكن لأشمّتك فيّ. فقال له الملك: فقبّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين قال، فقبّل رأسه. وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة. وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة. مهانين في قومهم، وافقوهم على الفتنة ظاهرا، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاقّ الجهاد. أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة، أي إجابتهم إليها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما فرط منهم.
ويرحمهم بالجزاء الحسن.
والجارّ في قوله: لِلَّذِينَ متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير، والخبر ل (إنّ) الأولى. والثانية مكررة للتأكيد. أو للثانية وخبر الأولى مقدر، وشمل قوله هاجَرُوا من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة. ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك. كما شمل قوله: جاهَدُوا في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه. أو قاتلوا في سبيل الله ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين، قيل: الآية مدنية، وقوله تعالى:(6/414)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 111]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها منصوب ب (رحيم) أو ب (اذكر) واليوم يوم القيامة. ومعنى تُجادِلُ أي تحاجّ وتسعى في خلاصها. لا يهمها إلا ذاتها وشأنها. ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي من خير وشر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضا بالجوع والخوف. ومعنى قوله تعالى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم. فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا. فأنزل الله بهم نقمته. فيدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا، أو لقوم معينين، وهم أهل مكة. والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معنية، إذ لا يلزم وجود المشبه به. أو معينة من قرى الأولين. وقد ضمن (ضرب) معنى (جعل) و (مثلا) مفعول ثان و (قرية) مفعول أول.
قال أبو السعود: وتأخير (قرية) مع كونها مفعولا أول، لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها. إذ التأخير عن الكل مخلّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها. ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده، وتشوقا إليه. لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه. فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل. فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن. والمراد بالقرية أهلها مجازا، أو بتقدير مضاف. ومعنى كونها آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً أنه لا يزعجها(6/415)
خوف. و (الرغد) الواسع. و (الأنعم) جمع نعمة.
وفي قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم، باللباس الغاشي للابس. فاستعير له اسمه، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة، لمطلق الإيصال، المنبئة عن شدة الإصابة، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة، على نهج التجريد. فإنها لشيوع استعمالها في ذلك، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة.
قال ابن كثير: هذا مثل أريد به أهل مكة. فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف. كما قال تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] ، وهكذا قال هاهنا ويَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي هنيئا سهلا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي جحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم. كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ
[إبراهيم: 28- 29] ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها من كل مكان. وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوا إلا خلافه. فدعا «1» عليهم بسبع كسبع يوسف. فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم. فأكلوا العلهز:
(هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر) وقوله وَالْخَوْفِ وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة، من سطوته وسراياه وجيوشه.
وجعل كل ما لهم في دمار وسفال. حتى فتحها الله عليهم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم. وامتن به عليهم في قوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. [آل عمران: 164] الآية. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا [الطلاق: 10] ، وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة: 151] ، إلى قوله: وَلا تَكْفُرُونِ وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بدّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا، ورزقهم بعد العيلة.
وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاريّ، تعليقا، في: الدعوات، 58- باب الدعاء على المشركين، عن ابن مسعود.(6/416)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم. وهو مأذون بأكله، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 114]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الحرث والأنعام حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي تريدون عبادته فاستحلوها، فإن عبادته في تحليلها.
واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده.
ثم ذكر ما حرمه عليهم، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 115]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم غيره تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي أجهد إلى ما حرم الله غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أي متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فلا يؤاخذه بذلك.
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية. فأغنى إعادته.
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم. في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 116 الى 117]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ(6/417)
الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم، بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله. ف (الكذب) مفعول (تقولوا) وقوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من (الكذب) واللام صلة للقول. كما يقال: لا تقل للنبيذ إنه حلال، أي في شأنه وحقه. فهي للاختصاص. وفيه إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان، لا حكم مصمم عليه. أو هذا حَلالٌ مفعول (تقولوا) و (الكذب) مفعول (تصف) واللام في لِما تَصِفُ تعليلية و (ما) مصدرية. ومعنى تصف تذكر. وقوله: لِتَفْتَرُوا بدل من التعليل الأول. أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، أي لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة. وليس بتكرار مع قوله: لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا، وذلك لإثبات الكذب على الله.
فهو إشارة إلى أنهم، لتمرنهم على الكذب، اجترءوا على الكذب على الله، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه. وعلى هذا الوجه- كون الكذب مفعول (تصف) - ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، لجعله عين الكذب.
ترقى عنها إلى أن خيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة، حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها، ف (تصف) بمعنى توضح. فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب. فالتعريف في الكذب للجنس. كأنّ ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته وعليه قول المعرّى:
سرى برق المعرّة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
ونحوه (نهاره صائم) إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص، لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه. و (وجهها يصف الجمال) لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه، الذي يعرف منه. حتى كأنه يصفه ويعرّفه، كقوله:
أضحت يمينك من جود مصوّرة ... لا بل يمينك منها صوّر الجود
فهو من الإسناد المجازيّ. أو نقول: إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال.
فهو استعارة مكنية. كأنه يقول: ما بي هو الجمال بعينه. ومثله ورد في كلام العرب والعجم. هذا زبدة ما في (شروح الكشاف) .(6/418)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
وما في الآية أبلغ من المثال المذكور، لما سمعت. أفاده في (العناية) . واللام في لِتَفْتَرُوا لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية. إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا، بل لأغراض أخر يترتب عليها ما ذكر. وجوز كونها تعليلية، وقصدهم لذلك غير بعيد. وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الآية. وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد به لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب. وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم، كما قال: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعيّ أو حلل شيئا مما حرم الله. أو حرّم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهّيه.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل. فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا.
قال في (فتح البيان) : صدق رحمه الله. فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية. أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة.
وأخرج الطبرانيّ عن ابن مسعود قال: عسى رجل يقول: إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا. فيقول الله عزّ وجلّ: كذبت. أو يقول: إنّ الله حرم كذا أو أحلّ كذا:
فيقول الله له: كذبت.
قال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه. ويقال في المسائل الاجتهادية: إني أكره كذا وكذا، ونحو ذلك.
ولما ذكر تعالى ما حرمه علينا من الميتة والدم إلخ، بيّن ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم مما ليس فيه أيضا شيء مما حرمه المشركون، تحقيقا لافترائهم بأن ما حظروه لا سند له في شريعة سابقة ولا لاحقة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 119]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)(6/419)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي في سورة الأنعام في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما [الأنعام: 146] الآية، وَما ظَلَمْناهُمْ أي فيما حرّمنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فاستحقوا ذلك. كقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء: 160] ، وقد سلف لنا ما ذكروه في تفسيرها مما يجيء هنا، فتذكر. قالوا: في الآية تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم.
فإن هذه الأمة لم يحرم عليها إلّا ما فيه مضرة لها. وغيرهم قد يحرم عليهم ما لا ضرر فيه، عقوبة لهم بالمنع، كاليهود. ثم بين تعالى عظيم فضله في قبول توبة من تاب من العصاة بقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا أي العمل فيما بينهم وبين ربهم إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ثم نوه تعالى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، دعاء لهم إلى سلوك طريقته في التوحيد، ورفض الوثنية، وتبرئة لمقامه، مما كانوا يفترون عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 121]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي إماما يقتدى به، كقوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] ، أو كان وحده أمة من الأمم، لاستجماعه كمالات لا توجد في غيره قانِتاً لِلَّهِ أي خاشعا مطيعا له، قائما بما أمره حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شاكِراً لِأَنْعُمِهِ أي قائما بشكر نعم الله عليه، مستعملا لها على الوجه الذي ينبغي، كقوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] ، أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به اجْتَباهُ أي اختاره واصطفاه للنبوّة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، على شرع مرضي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 122 الى 123]
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)(6/420)
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي من الذكر الجميل. كما قال: وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] ، ومن الصلاة والسلام عليه، كما قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 108- 109] ، ومن تمتيعه بالحظوظ ليتقوى على القيام بحقوق العبودية وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المتمكنين في مقام الاستقامة، بإيفاء كل ذي حق حقه، الذين لهم الدرجات العليا في الجنة.
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين، شرفناه وكرمناه بأمرنا، باتباعك إياه في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع. كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها. لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها. فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع، وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.
قاله القاشانيّ.
وفي (الإكليل) استدل أصحابنا بهذه الآية على وجوب الختان، وما كان من شرعه، ولم يرد به ناسخ.
لطيفة:
قال الزمخشري: في ثُمَّ هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من الكرامة، وأجلّ ما أولي من النعمة، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة، من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
قال الناصر: وإنما تفيد ذلك ثُمَّ لأنها في أصل وضعها لتراخي المعطوف عليه في الزمان. ثم استعملت في تراخيه عنه في علوّ المرتبة، بحيث يكون المعطوف على رتبته وأشمخ محلّا مما عطف عليه. فكأنه بعد أن عدّد مناقب الخليل عليه السلام، قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا، وأرفع رتبة، وأبعد رفعة، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم الأميّ، الذي هو سيد البشر، متبع لملة إبراهيم، مأمور باتباعه بالوحي، متلوّا أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا.
لكن نصيب النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر. على ما مهدناه. وقوله تعالى:(6/421)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 124]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اليهود، فرض عليهم تقديسه وإراحة أنفسهم ودوابّهم فيه من الأعمال. فاعتدوا فيه واحتالوا لحلّه.
قال القاشاني: أي ما فرض عليك، إنما فرض عليهم. فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك، بل اتباع إبراهيم، وقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بالمجازاة على اختلافهم، يعني إفسادهم وزيغهم عن طريق الحق.
ثم بين تعالى أدب الدعوة إلى دينه الحق، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 125]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ أي بالمقالة المحكمة الصحيحة. وهو الدليل الموضح للحق، المزيح للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي العبر اللطيفة والوقائع المخيفة، ليحذروا بأسه تعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق واللين وحسن الخطاب، من غير عنف. فإن ذلك أبلغ في تسكين لهبهم. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي عليك البلاغ والدعوة بالصفة المبينة فلا تذهب نفسك، على من ضلّ منهم، حسرات، فإنه ليس عليك هداهم. لأنه هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه. فيجازي كلّا منهما بما يستحقه. أو المعنى:
اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة. فإن الله تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعداده المكتسب. وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلّي. فما شرعه لك في الدعوة، هو الذي تقتضيه الحكمة. فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلّ قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ على الحث على الإنصاف في(6/422)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل، وأن لا غرض سواه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : آية 126]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي الزموا سيرة العدالة، لا تجاوزوها. فإنها أقل درجات كمالكم. فإن كان لكم قدم في الفتوة، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة، فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم، وعارضوه بالعفو مع القدرة، واصبروا على الجناية، فإنه لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال:
(لهو خير لّكم) بل قال: لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر. فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب.
فلم يتكدر بظهور صفة النفس. وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه. فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس. وتنكسر سورة غضبه فيصلح. وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب، بأكثر مما جنى عليكم، فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها. فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
أفاده القاشانيّ.
تنبيهات:
الأول: في (الإكليل) : قال ابن العربيّ: في الآية جواز المماثلة في القصاص.
خلافا لمن قال: لا قود إلا بالسيف. ويستدل بها لمسألة الظفر. كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعيّ أنهما استدلا بها عليها. ولفظ النخعيّ: سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم؟ قال: إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه. ثم قرأ هذه الآية. ولفظ ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئا، فخذوا مثله.
قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير. فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق.
الثاني:
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة. وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد(6/423)
أحد، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثّل به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين رجلا منهم. فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله الآية هذه، إلى آخر السورة.
قال الحافظ ابن كثير: هذا مرسل وفيه مبهم لم يسمّ.
ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه، حين استشهد. فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه. وقد مثّل به. فقال: رحمة الله عليك. إن كنت لما علمت، لوصولا للرحم فعولا للخيرات. والله لولا حزن من بعدك عليك، لسرّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع (أو كلمة نحوها) . أما والله! على ذلك لأمثلنّ بسبعين كمثلتك.
فنزلت هذه الآية. فكفّر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه، وأمسك عن ذلك.
قال ابن كثير: وهذا إسناد فيه ضعف. لأن صالحا (أحد رواته) هو ابن بشير المريّ، ضعيف عند الأئمة. وقال البخاريّ: هو منكر الحديث.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمّن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا- ناسا سمّاهم- فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب.
أقول: بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول- في مقدمة التفسير- يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة- ولا إلى ما روي من هذه الآثار.
إذ به يتضح عدم التنافي. والتقاء الآثار مع الآية فتذكره.
الثالث: قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن. فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] . ثم قال فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] الآية. وقال وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45] ثم قال فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] انتهى.
ثم أكّد تعالى الأمر بالصبر، ليقوي الثبات والاحتمال، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق، بقوله:(6/424)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النحل (16) : الآيات 127 الى 128]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونته وتوفيقه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين، أي على كفرهم وعدم هدايتهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي في ضيق صدر مما يمكرون من فنون المكايد إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. تعليل لما قبله. أي فإنه تعالى كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم.
لأنه تعالى مع المتقين والمحسنين بالمعونة والنصر والتأييد، فيحفظهم ويكلؤهم ويظهرهم على أعدائهم. قال ابن كثير: هذه معية خاصة كقوله تعالى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا
[الأنفال: 12] . وقوله لموسى وهارون لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] . وأما المعية العامة فالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] . وقوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة: 7] .
قال أبو السعود: تكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه، من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى. وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث. كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة فيهم.
وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية. والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في زمرتهم دخولا أوليّا.
وإما هو صلى الله عليه وسلم ومن شايعه. عبّر عنهم بذلك، مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلتين.
وفيه رمز إلى أن صنيعه صلى الله عليه وسلم مستتبع لاقتداء الأمة به، كقول من قال لابن عباس رضي عنهما، عند التعزية بأبيه العباس:
اصبر نكن بك صابرين فإنّما ... صبر الرّعية عند صبر الرّاس
وبعد هذا البيت:
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعبّاس
قال ابن عباس: ما عزّاني أحد من تعزيته.
وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوص. قال: إنما الوصية من المال، فلا مال لي. وأوصيكم بخواتيم سورة النحل ...(6/425)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء
وتسمى سورة بني إسرائيل وسورة سبحان، ولم يحك خلاف في كونها مكية.
نعم استثنى بعضهم منها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] ، وآية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] ، إلى قوله تعالى إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، وآية قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الآية [الإسراء: 88] ، وقوله وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا.. الآية [الإسراء: 60] ، وقوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: 107] . لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.(6/426)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
يمجد تعالى نفسه بقوله سُبْحانَ وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره. وقوله تعالى الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي سيّره منه ليلا. و (أسرى) بمعنى (سرى) يقال: أسراه وأسرى به وسرى به. فهمزة (أسرى) ليست للتعدية. ولذا عدي بالباء.
وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في (أسرى) لإفادة السرعة في السير ولذا أوثر على (سرى) .
والإسراء سير الليل كله، كأسرى، فقوله تعالى لَيْلًا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود. مثل: أسعفت مرامه. مع أن الإسعاف قضاء الحاجة. أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر. وقد استظهره الناصر في (الانتصاف) قال: ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره، قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: 51] . فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد. فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين، وهو التثنية، مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ولو اقتصر على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له. والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية.
وقيل سرّ قوله لَيْلًا إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه. أي أنه كان في بعض الليل أخذا من تنكيره. فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا(6/427)
عرّفا كانا معيارا للتعميم، فلا تقول أرقت الليل، وأنت تريد ساعة منه، إلا أن تقصد المبالغة. بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك. فلما عدل عن تعريفه هنا، علم أنه لم يقصد استغراق السرى، وهذا هو المراد من البعضية. وجوز بعضهم أن يكون (أسرى) من (السراة) وهي الأرض الواسعة. وأصله من الواو. أسرى مثل أجبل وأتهم، أي ذهب به في سراة من الأرض، وهو غريب. وفي تخصيص الليل إعلام بفضله لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل. والمراد (بعبده) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ وانقياده لأوامره- ما لا يخفى.
والعبد، لغة، الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة، كالعبادة والعبودة.
قال ابن القيّم في (طريق الهجرتين) : أكمل الخلق أكملهم عبودية.
وأعظمهم شهودا. لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
ولهذا كان من
دعائه صلى الله عليه وسلم: أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك.
ثم قال: ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر. وكان
يقول: أيها الناس! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنّما أنا عبد.
وكان
يقول «1» : لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم. إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله.
وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي.
فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] . وقال وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] .
وفي حديث الشفاعة: أنّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فنال ذلك بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله له.
انتهى.
وقوله تعالى مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني مسجد مكة المكرمة. سمي حراما، كبلده، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره ولا كلئه. وقوله سبحانه إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مسجد بيت المقدس، وكان يعرف
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 48- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث رقم 1214.(6/428)
بهيكل سليمان لأنه الذي بناه وشيده والْأَقْصَى بمعنى الأبعد. سمي بذلك لبعده عن مكة، وقوله تعالى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أي جوانبه ببركات الدين والدنيا. لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار. فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها. فبركته إذن مضاعفة، لكونه في أرض مباركة، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى. والمساجد بيوت الله. ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم، فبورك فيه ببركتهم ويمنهم أيضا.
وقيل في خصائص (الأقصا) : إنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى. بيت نوّه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة. لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب. وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين. وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين.
لا تشدّ الرحال «1» بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه.
انتهى. ومن فضائله ما
رواه الإمام أحمد «2» والنسائي والحاكم صححه، عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا. فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة.
سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه.
وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه.
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد- يعني ببيت المقدس- خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك.
وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه. تجريدا لقصد الصلاة.
وقال الشيرازيّ في (عرائس البيان) كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى.
لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم. وهناك
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 6- باب مسجد بيت المقدس، حديث 379، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 415.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 176 والحديث 6644.
وأخرجه النسائي في: المساجد، 6- باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه.(6/429)
بقربه طور سينا وطور زيتا ومقام إبراهيم وموسى وعيسى في تلك الجبال، مواضع كشوف الحق. لذلك قال بارَكْنا حَوْلَهُ. انتهى.
والالتفات في: بارَكْنا لتعظيم ما ذكر، لأن فعل العظيم يكون عظيما.
لا سيما إذا عبّر عنه بصيغة التعظيم. والنكتة العامة تنشيط السامعين.
وقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إشارة إلى حكمة الإسراء. أي لكي نري محمدا صلى الله عليه وسلم من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدة بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية.
قيل: أراد تعالى أن يريه صلى الله عليه وسلم من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية. لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية. إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان. وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات. لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو. فشاء عزّ وجلّ أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة. إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين، كذا يستفاد من (التأويلات) لأبي منصور.
وما أحسن ما قاله ابن إسحاق: كان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه. فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثباتا لمن آمن بالله وصدق. وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين. فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد. حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي السميع لأقوال عباده وأفعالهم فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
تنبيهات:
الأول: دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء، وهو سير النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليلا. وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش فهذه الآية لا تدل عليه ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم. والكلام عليه ثمة.
الثانية: ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث، وأنه قبل هجرة بسنة.
قاله الزهري وابن سعد وغيرهما. وبه جزم النوويّ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه.
وقال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة.(6/430)
وفي (إنسان العيون) : أن تلك الليلة كانت ليلة سبع عشرة. وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الأول، وقيل: ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان، وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل: من رجب واختار هذا الأخير، الحافظ عبد الغنيّ المقدسي قال: وعليه عمل الناس. والله أعلم.
الثالث: في (زاد المعاد) لابن القيم: كان الإسراء مرة واحدة وقيل: مرتين، مرة يقظة ومرة مناما. وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين: مرة قبل الوحي لقوله
في حديث شريك (وذلك قبل أن يوحى إليه)
ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده. وكل هذا خبط وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات، جعلوه مرة أخرى. فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا؟!.
الرابع: قال القاضي عياض، عليه الرحمة، في (الشفا) : اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام. مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي. وإلى هذا ذهب معاوية. وحكي عن الحسن (والمشهور عنه خلافه) وإليه أشار محمد بن إسحاق.
وحجتهم قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ [الإسراء: 60] وما حكوا عن عائشة: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله (بينا أنا نائم) . وقول أنس: (وهو نائم في المسجد الحرام) وذكر القصة. ثم
قال في آخرها: (فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام) .
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة. وهذا هو الحق، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدريّ وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيّب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج. وهو دليل(6/431)
قول عائشة. وهو قول الطبريّ وابن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين. وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين.
وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس. وإلى السماء بالروح: واحتجوا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبيّ وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه. قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ثم اختلفت هاتان الفرقتان: هل صلى ببيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه. وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
ثم قال القاضي عياض: والحق في هذا والصحيح، إن شاء الله، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها. وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار. ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل، إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة. إذ لو كان مناما لقال (بروح عبده) ولم يقل (بعبده) وقوله:
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة. ولما استبعده الكفار ولا كذبوه. ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به. إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر. بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس (أو في السماء) على ما روى غيره، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال: ومن معك؟ فيقول: محمد. ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك.
وفي بعض هذه الأخبار: فأخذ، يعني جبريل. بيدي، فعرج بي إلى السماء إلى قوله: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره. قال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا رؤيا منام.
وعن الحسن فيه بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي. ذكر ذلك ثلاثا، فقال في الثالثة: فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد، فإذا بدابة. وذكر خبر البراق.(6/432)
وعن أم هانئ: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي تلك الليلة. صلى العشاء الآخرة ونام بيننا. فلما كان قبيل الفجر أهبّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا قال: يا أم هانئ! لقد صليت معكم العشاء الآخرة، كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه. ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترون. وهذا بيّن في أنه بجسمه.
وعن أبي بكر (من رواية شداد بن أوس عنه) أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به:
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك. فأجابه: أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى.
وعن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة-
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة. فتحمل على ظاهرها.
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي.
وعن أنس: أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم.
وعن أبي هريرة: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه. ونحوه عن جابر.
وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها.
ثم قال القاضي عياض (في إبطال حجج من قال إنها نوم) احتجوا بقوله:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا فسماها (رؤيا) . قلنا: قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ يرده لأنه لا يقال في النوم (أسرى) .
وقوله فِتْنَةً لِلنَّاسِ يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص. إذ ليس في الحلم فتنة ولا يكذب به أحد. لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة. على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية. فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك. وقيل غير هذا.
وأما قولهم: إنه قد سمّاها في الحديث مناما، وقوله
في حديث آخر: بين النائم واليقظان.
وقوله أيضا: وهو نائم. وقوله: ثم استيقظت- فلا حجة فيه. إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم. أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم. وليس في(6/433)
الحديث أنه كان نائما في القصة كلها إلا ما يدل عليه
(ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام)
فلعل قوله (استيقظت) بمعنى أصبحت. أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته. ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليلة. وإنما كان في بعضه. وقد يكون
قوله: (استيقظت وأنا في المسجد الحرام)
لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض، وخامر بطنه من مشاهدة الملإ الأعلى، وما رأى من آيات ربه الكبرى. فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام.
ووجه ثالث أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه. ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر، ورؤيا الأنبياء حق. تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا. قال: تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات.
ووجه رابع، وهو أن يعبر بالنوم هاهنا عن هيئة النائم من الاضطجاع. ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام: (بينا أنا نائم وربما قال مضطجع) وفي رواية هدبة عنه (بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجع) . وقوله في الرواية الأخرى (بين النائم واليقظان) فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا. وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم وذكر شق البطن ودنوّ الرب، الواقعة في هذا الحديث، إنما هي من رواية شريك عن أنس. فهي منكرة من روايته. انتهى كلام عياض. وبقيت له بقية من شاء فليراجعها.
الخامس: جملة الأقوال في الإسراء والمعراج. على ما حكاه ابن القيم في (زاد المعاد) ، ستة: بروحه وجسده وهو الذي صححوه. وقيل: كان ذلك مناما. وقيل بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما. وقيل كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة ومرة مناما. وقيل بل أسري به ثلاث مرات. وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق. وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه، فقيل هو غلط وقيل: الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة. والمراد قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام. وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن، نقل الأكثرون عنهم أنها رؤيا منام، وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة. قال رحمه الله: نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه(6/434)
ولم يفقد جسده. ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك. ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده. وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناما وإنما قالا: أسرى بروحه ولم يفقد جسده. وفرق بين الأمرين. فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة. فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب. وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. والذين قالوا عرج برسول لله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه. وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما. وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة. وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عزّ وجلّ. فيأمر فيها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض. فالذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة. ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم. لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى شق بطنه وهو حيّ لا يتألم كذلك عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة. ومن سواه صلى الله عليه وسلم، لا تنال ذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة. فالأنبياء إنما استقرت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان. وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت. وبعد وفاته استقرت في الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء.
ومع هذا فلها إشراف على البدن، وإشراق وتعلق به. بحيث يرد السلام على من سلم عليه. وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها. فرآه يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة. كما أنه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك وبدنه في ضريحه غير مفقود. وإذا سلم عليه المسلم، ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ولم يفارق الملأ الأعلى. ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا، فلينظر إلى الشمس في علوّ محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها. هذا، وشأن الروح فوق هذا. فلها شأن وللأبدان شأن. وهذه النار تكون في محلها، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها. مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم. فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف.
فقل للعيون الرّمد إياك أن تري ... سنا الشّمس فاستغشي ظلام اللّياليا
انتهى كلام ابن القيم.(6/435)
وقال العلامة سعدي في (حواشي البيضاوي) : والمعراج بروحه في اليقظة- وهو الذي أشار إليه ابن القيم- خارق أيضا للعادة. انتهى.
وتعقب العلامة القنوي له: بأنه نوع مراقبة وانسلاخ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط. لأنه فوقه بكثير. بل غيره كما تبين قبل. وبالجملة، فالذي فهمه الأكثرون من قول عائشة ومعاوية وحذيفة والحسن أن ذلك رؤيا منام. وما ذكره ابن القيّم من أنه إسراء بالروح- فيحتمله اللفظ المأثور عنهم.
ونظيره قول بعضهم: إن ذلك كان أمرا إعجازيا. والحقيقة أنه كشف روحانيّ.
وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم أن خالق العالم قادر على كل الممكنات. وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده صلى الله عليه وسلم ممكن. فوجب كونه تعالى قادرا عليه. وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة.
والمعجزات كلها كذلك. وفي (العقائد النسفية وحواشيها) : الخرق والالتئام على السموات جائز. لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة، فيصح على كلّ ما يصح على الآخر. فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام. وكذا الأجسام الفلكية. والله تعالى قادرا على الممكنات كلها. فيكون قادرا على الخرق في السموات، لأنه ممكن فيها. وفي الرازيّ براهين أخر. فانظرها.
جاء في كتاب (إظهار الحق) أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج، فبكّت بأن صعود الجسم العنصريّ إلى الأفلاك صرّحت به التوراة الموجودة لديهم في (أخنوخ) . وأنه نقل حيّا إلى السماء لئلا يرى الموت. كما في الفصل الخامس من سفر التكوين. وصرّحت في صعود (إليا) في الفصل الثاني من سفر الملوك. وفي إنجيل مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع المسيح عليه السلام إلى السماء. انتهى.
أقول: أخنوخ هو إدريس عليه السلام المنوّه به في قوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ، وإيليا نبيّ أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة. وتسمى الآن: سبسطيّة: من قسم الأرض المقدسة زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة. وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه. إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء. جانب نهر الأردن في بطاح أريحا. شاهده خليفته اليشاع النبيّ بعده. كذا في تاريخ الكتاب المقدس، و (إيليا) هو إلياس، و (اليشاع) هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد(6/436)
وقد نوّه بالأول في سورة الصفات بقوله تعالى: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ. أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... [الصافات: 123- 126] .
السادس: قيل: إن المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا. بشهادة التاريخ. وذلك لأن سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة. ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود. وبقي كذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس. نظر (تاريخ أبي الفداء) وغيره. فكيف أطلق عليه اسم المسجد؟ وأجيب: بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجدا. باعتبار ما كان عليه وما وضع له. كما أطلق المسجد على حرم مكة. وهو لم يكن يومئذ مسجدا. وإنما كان بيتا للأصنام.
لكن إبراهيم وإسماعيل، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة، كما بنى سليمان هيكله هذا لها، سمي مسجدا بهذا الاعتبار. أو يقال: إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما. وهو كونهما مسجدين للمسلمين.
السابع: في التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء. سئل الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه، عن رجل قال: ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر:
بل ليلة القدر أفضل. فأيهما المصيب؟
فأجاب: أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر. فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها. فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة، التي يظن أنها ليلة الإسراء، بقيام ولا غيره. بخلاف ليلة القدر فإنه
قد ثبت في الصحيحين «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قام ليلة القدر إيمانا
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: فضل ليلة القدر، 1- باب فضل ليلة القدر وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ... إلخ، حديث رقم 33، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، الحديث رقم 175.(6/437)
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه
وفي الصحيحين «1» عنه: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن.
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة، فهذا صحيح.
وليس إذا أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فضيلة في مكان أو زمان، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة، هذا إذا قدّر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه. والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي. ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم.
ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها. لا سيما على ليلة القدر. ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها. ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت. وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية. بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة، مدة مقامه بمكة. ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها. ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء. ومن خصّ الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات. كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله. وقد رأى عمر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكانا يصلّون فيه. فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا. فمن أدركته فيه الصلاة فليصل، وإلا فليمض. وقد قال بعض الناس: إن ليلة الإسراء في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر. وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء.
فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم. وليلة الإسراء في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل له.
انتهى نقله الشمس ابن القيم (في زاد المعاد) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: فضل ليلة القدر، 3- باب تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، حديث رقم 1025، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: الصيام، حديث رقم 219.(6/438)
الثامن: قال الشمس ابن القيم في (زاد المعاد) . اختلف الصحابة: هل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه تلك الليلة أم لا؟ فصحّ عن ابن عباس أنه رأى ربه. وصحّ عنه أنه قال:
رآه بفؤاده وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا: إن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النجم: 13- 14] ، إنما هو جبريل.
وصح عن أبي ذر أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه
. أي حال بيني وبين رؤيته النور.
كما
قال في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا. ولا قوله رآه بفؤاده.
وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى
. ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح. ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه.
وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله وقال: نعم، رآه حقا. فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بدّ. ولكن لم يقل أحمد إنه رآه بعيني رأسه. ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه.
ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده. فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه. وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] ، ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] ، والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل. رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. وقول ابن عباس هذا. هو مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده.
والله أعلم.
التاسع: قال الجاحظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) - بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس- وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعليّ وابن مسعود وأبي ذرّ ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبّة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الروميّ وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، أجمعين، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره، على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة. فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون. وأعرض عنه الزنادقة والملحدون.
انتهى.(6/439)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
وقد نقل الرازيّ عن بعض المعتزلة رده لجمل فيه- ساقها- صعب عليهم دركها. ولا إشكال فيها في الحقيقة بحمده تعالى. ولكن هم وأمثالهم ممن ضعفت عنايتهم بفن الحديث وغلب عليهم فن المعقول. ولقد فاتهم بسبب ذلك خير كثير. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يناقض المفعول أو الواقع، بوجه ما، يعلم ذلك الراسخون، وفوق كل ذي علم عليم.
وقد بقي ممن رواه من الصحابة. غير من تقدم- سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر. وأما من رواه من التابعين مرسلا فكثير. منهم الحسن بن الحسين عليهما السلام وكعب ومحمد بن الحنفية وعروة وسفيان الثوري والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. كما يعلم من مراجعة (الدرّ المنثور) للحافظ السيوطيّ.
وأما طرقه في الصحيحين. فقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : إنها تدور على أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه. فرواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة. وليس في أحاديث المعراج أصحّ منه. ورواه الزهريّ عنه عن أبي ذر. ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البنانيّ عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه. فإنه تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام، وبين ذكر التوراة والقرآن. وقال الرازيّ لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به، ذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه. وقال الشهاب في (العناية) : عقبت آية الإسراء بهذه، استطرادا بجامع أن موسى عليه الصلاة والسلام أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه. لأنه صح ثمة التكليم، وشرّف باسم الكليم مدمجا فيه تفاوت ما(6/440)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
بين الكتابين ومن أنزلا عليه. وإن شئت فوازن بين أَسْرى بِعَبْدِهِ. وآتَيْنا مُوسَى وبين هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ويَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. و (الواو) استئنافية أو عاطفة على جملة (سبحان الذي أسرى) إلخ لا على (أسرى) لبعده وتكلفه.
وضمير (وجعلناه) للكتاب أو لموسى و (لبني إسرائيل) متعلق ب (هدى) أو ب (جعلناه) ، وهي تعليلية.
وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم. لأنه تعالى أنزل على كل نبيّ أرسله، أن يعبده وحده لا شريك له، وقد قرئ: (ألا يتخذوا) بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل. والتقدير: جعلناه هدى لئلا يتّخذوا وقرئ بالتاء على الخطاب، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن (أن) بمعنى أي. وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي.
الثاني: أن (أن) زائدة، أي قلنا: لا تتخذوا.
الثالث: أن (لا) زائدة، زائدة والتقدير: مخافة أن تتخذوا. والوكيل والموكول إليه. أي المفوض إليه الأمور. وهو الرب. ف (فعيل) بمعنى مفعول. و (دون) بمعنى غير. و (من) زائدة. أو تبعيضية. وقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص أو النداء. وفيه تهييج وتنبيه على المنة. والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. وإيماء إلى علة النهي. كأنه قيل: لا تشركوا به فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد. وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه.
وفي التعبير ب (الذرية) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء، مناسبة تامة لما ذكر.
وذكر حملهم في السفينة، للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه. وقوله: عَبْداً شَكُوراً أي لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به. وقيل: إنه استطراد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 5]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي كتاب اللوح المحفوظ، أي حكمنا(6/441)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
فيه لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها. والإفساد بالكفر والمعاصي.
قال السمين: في تعدية (قضينا) ب (إلى) تضمينه معنى أنفذنا. أي أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم. ومتعلق القضاء محذوف. أي بفسادهم. وقوله: لَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء، أو جواب لقوله: وَقَضَيْنا لأنه ضمن معنى القسم. ومنه قولهم (قضاء الله لأفعلن كذا) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم، فيتلقيان بما يتلقى به القسم. و (مرتين) أي إفسادتين. منصوب على أنه مصدر (لتفسدن) من غير لفظه. وعدل عنه، لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي ولتستكبرن وتتعظمنّ عن طاعة الله تعالى، أو لتظلمن الناس فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي موعود أولى المرتين، أي وما وعدوا به في المرة الأولى، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي ذوي قوة وبطش في الحرب، شديد فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي مقضيّا لا صارف له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 6 الى 8]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي بعد هذه المؤاخذة الشديدة، رددنا، عند توبتكم، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل، عليهم: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي قوما ورهطا. جمع (نفر) أو اسم جمع له. وأصله من ينفر مع الرجل من قومه. وقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها بمثابة التعليل لما قبله. أي فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم، أحسنتم لأنفسكم، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير(6/442)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي مؤاخذة المرة الآخرة وعقوبتها. وقوله تعالى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ متعلق بجواب (إذا) المحذوف. أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أي ذواتكم بالإذلال والقهر.
قال الشهاب: عديت المساءة إلى الوجوه، وإن كانت عليهم، لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه. كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح. وكلوحه وسواده بالخوف والحزن. فالوجه، بمعنى الذات مجاز مرسل، أو استعارة تبعية. وقيل:
الوجوه بمعنى الرؤساء. وهو تكلف. واختير هذا على (ليسوؤكم) مع أنه أخصر وأظهر، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن، المدلول بقوله: وَلِيُتَبِّرُوا.
انتهى.
وقوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي الأقصى كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا أي يدمروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً أي عظيما فظيعا، والتتبير: التدمير. وكل شيء كسرته وفتّته فقد تبرته. ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله:
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي إذ أخلصتم للإنابة، وأحسنتم الأعمال، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم، لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة، ولذا قال: وَإِنْ عُدْتُمْ أي بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار عُدْنا أي إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا.
وَجَعَلْنا أي يوم القيامة جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب.
قال الشهاب: إن كان- (حصيرا) - اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه. وإن كان بمعنى حاصرا أي محيطا بهم، وفعيل بمعنى فاعل، يلزم مطابقته.
فإما لأنه على النسب. كلابن وتامر. أو لحمه على (فعيل) بمعنى (مفعول) . أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقيّ أو لتأويلها بمذكر. انتهى.
وقيل: حصيرا، أي بساطا كما يبسط الحصير. مثل قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ [الأعراف: 41] ، فهو تشبيه بليغ. والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض. كما قاله الراغب.
تنبيه:
روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه(6/443)
السلام. فلما ملك ابنه بعده، وذلك قبل المسيح بما ينيف على تسعمائة سنة، وقع من الاختلال في عهده ما أفضى إلى تقريره عبادة الأوثان. فعوجل بعد خمس سنين من ملكه بأخذ ملك مصر بيت المقدس وسلب كنوز هيكلها (المسجد الأقصى) ونهب ما فيها. ولما ساء تصرفه تمرد عليه شعبه وخلعوا طاعته. فانقسمت مملكته إلى قسمين: أحدهما دعى مملكة يهوذا وهي المؤلفة من سبطي يهوذا وبنيامين، بقيا خاضعين لابن سليمان.
وثانيهما: دعي مملكة إسرائيل وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة. وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام. خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك. فأقام في مملكته عجلين من ذهب. وأمر رعيته بعبادتهما.
ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين.
وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان. إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية. واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة.
وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشّور ففتح السامرة- بلدهم- وسباهم إلى أشّور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ولم يسمع ذكرهم بعد. ثم أرسل ملك أشّور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها. وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم. فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى. وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير. فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر (بختنصر) فسبى قسما من شعبه، وكان السبي الأول.
ثم قام، بعد ذلك الملك الشرير، ابنه. فسار على طريقة أبيه. فعاد إليه ملك بابل المذكور واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب. وسلب الهيكل. وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول.
ثم قام فيهم ملك أشرّ ممن تقدم- وهو آخر ملوكهم- وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس، وأسره إلى بابل، وأحرق المدينة والهيكل، وسبى كل شعب يهوذا، ما عدا مساكين الأرض، إلى بابل. وهذا هو السبي الثالث والأخير.
وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة. ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس. وجددوا عمارتها وقيام الهيكل. وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك فارس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير. وغلبت اليونان الفرس وجاء(6/444)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
الإسكندر إلى سورية فدخل بنو إسرائيل تحت حكم اليونان. وبعد وفاة الإسكندر انقسم ملكه إلى أربعة أقسام:
منها مملكة سورية ومصر. وكانت بينهما حروب متصلة. والإسرائيليون، لما كانوا بينهم، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية. واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية، وتمسكوا بديانة اليونانيين.
ثم استولى الرومانيين على فلسطين. وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم. وتملكوا بيت المقدس. وهدم تيطس، أحد ملوكهم، الهيكل إلى أساسه. وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم، إلى أن سارت هيلانة، أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح. وخربت الهيكل وأمرت أن تلقي فيه قمامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة. وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس. فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة.
وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ. ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية. لأنها بإيجازها غنية عنه، وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها، إلا أن أكثر المفسرين تطرفوا لبعض ما جريات اليهود هنا، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون، إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة.
وقد قدمنا في سورة يوسف أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع. ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها. وإنما يذكر موضع العبرة فيها. كما قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] .
ثم بيّن تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 9]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها أو للملة، أو للطريقة.(6/445)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قال الزمخشري: وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف بحذفه، من فخامة تفقد مع إيضاحه.
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي يبشر المخلصين في إيمانهم، وهم الذين يعملون الصالحات كلها، ويجتنبون السيئات أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 10 الى 11]
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث والجزاء على الأعمال أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي في الآخرة، وهو عذاب النار.
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي مثل دعائه بالخير وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا قال أبو السعود: الآية بيان لحال المهديّ إثر بيان حال الهادي. وإظهار لما بينهما من التباين. والمراد بالإنسان الجنس، أسند إليه حال بعض أفراده. أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه. فالمعنى، على الأول: أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير. ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم، وهو- أي بعض منه وهو الكافر- يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] ، ومن قال:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 70] ، إلى غير ذلك مما حكى عنهم- وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه، الموجبة له مجازا. كما هو ديدن كلهم.
وقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعني بالإنسان من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده. عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، متعاميا عن ضرره. أو مبالغا في العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة. ففيه نوع تهكم به. وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال.
وعلى الثاني: أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير. وهو في بعض أحيانه، كما عند الغضب، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر. وكان(6/446)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه. أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا. وكان الإنسان عجولا غير متبصرا لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية، التي كل منها برهان نيّر لا ريب فيه. ومنهاج بيّن لا يضل من ينتحيه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 12]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي جعلناهما، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي بجعلها مظلمة وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة.
والإضافة فيهما إما بيانية، أي الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار. وإما حقيقية.
وآية الليل والنهار نيّراهما. والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه. أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق. وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات. ذات أشعة تبصر بها الأشياء، فالإسناد في (مبصرة) مجازي إلى السبب العاديّ، أو تجوز بعلاقة السبب. وقوله تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ متعلق ب (جعلنا) أي لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام، أو الحساب الجاري في المعاملات، كالبيوع والإجارات. وفي العبادات، أي لتعرف مضيّ الآجال المضروبة لذلك. إذ لو لاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ. وفي الآية لف ونشر غير مرتب. انتهى.
وقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أي مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه. كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بيّنا.(6/447)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 15]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرّا، بحيث لا يفارقه أبدا. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق، لا ينفكّ عنه بحال.
قال الطبريّ: المعنى: وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر، اعتبروا أحوال الطير: وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجوّ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه.
قال الطبريّ: فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا أو كان سعدا يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق.
كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه. فكذلك. قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وحاصله- كما قاله الرزيّ- أن قوله: فِي عُنُقِهِ كناية عن اللزوم. كما يقال: (جعلت هذا في عنقك) أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال: (قلدتك كذا وطوقتك كذا) أي صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه (قلده السلطان كذا) أي صارت الولاية،(6/448)
في لزومها له، في موضع القلادة ومكان الطوق. ومنه يقال (فلان يقلد فلانا) أي يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. وقوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ أي نظهر له يَوْمَ الْقِيامَةِ أي البعث للجزاء على الأعمال كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً أي يجده مفتوحا فيه حسناته وسيئاته. ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي شهيدا بما عملت.
قال القاشانيّ: كِتاباً هيكلا مصورا يصوّر أعماله يَلْقاهُ مَنْشُوراً لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له:
اقْرَأْ كِتابَكَ أي اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية. سواء كان قارئا أو غير قارئ. لأن الأعمال هناك ممثّلة بهيئاتها وصورها، يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمىّ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها، نصب عينها، مفصلا لا يمكنها الإنكار.
وقوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ قال أبو السعود: فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي من اهتدى بهدايته، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه عنه، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي وَمَنْ ضَلَّ أي عن الطريقة التي يهديه إليها: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى مؤكد لما قبله للاهتمام به.
قال أبو السعود: أي لا تحمل نفسه حاملة للوزر، وزر نفس أخرى، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وأما ما يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها [النساء: 85] ، وقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ، من حمل الغير وزر الغير، وانتفاعه بحسنته، وتضرره بسيئته، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع، جزاء شفاعته، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة. وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون، إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.(6/449)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
وإنما خصّ التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنّتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، لإقامة الحجة وقطعا للعذر. والعذاب أعمّ من الدنيويّ والأخرويّ، لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] وقال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 8- 9] ، وكذا قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر: 71] ، وقال تعالى:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بيّنة. ولا يعذب أحدا إلا بذنبه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 16]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيويّ لانحصارها فيه. والمعنى: إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال أَمَرْنا مُتْرَفِيها
يعني متنعميها، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم فَفَسَقُوا فِيها
بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فوجب عليها، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد(6/450)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
الإعذار والإنذار بالرسل والحجج. فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف. وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا. كما جرى لبيت المقدس، لما انحرف اليهود عن شرعتهم، على ما قدمنا بيانه، وإنما خص المترفين، وهم الجبارون والملوك والرؤساء، بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل، لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم. ولأن توجه الأمر إليهم آكد. وإنما حذف مفعول أَمَرْنا
لظهور أن المراد به الحق والخير. لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه. وفي إيثار (القرية) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم، وطمس أثرهم، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدوّ. ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال: تَدْمِيراً
أي كليّا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع.
قال القاشانيّ: إن لكل شيء في الدنيا زوالا. وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته، فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام. فإذا جاء وقت إهلاك قرية، فلا بد من استحقاقها للإهلاك. وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله، واستعمالا لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدر منه، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذ وجب إهلاكهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 17]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح، كعاد وثمود وفرعون. ممن قصّت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص. والْقُرُونِ جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. وخص نُوحٍ ولم يقل (من بعد آدم) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب. ففيه تهديد وإنذار للمشركين.
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي لا يخفى عليه شيء منها. فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها.
والآية تدل- كما قال الزمخشريّ: على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتمّ، دل على أنه جازاهم بها.(6/451)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 19]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي. لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله، عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد.
أي ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك. أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة. ثم يصلي جهنم في الآخرة مذموما على قلة شكره لمولاه، وسوء صنيعه فيما سلف له. مدحورا مطرودا من الرحمة، مبعدا مقصيّا في النار. ومن أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء.
تنبيه:
قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما. والثانية لمن جعله يمنا وخيرا. وفي قوله تعالى: وَسَعى لَها سَعْيَها أي ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة، تبيين لقوله: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح. بفعل المأمور واجتناب المنهيّ عنه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 20 الى 22]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)
كُلًّا نُمِدُّ أي كل واحد من الفريقين. وقوله: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من(6/452)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
(كلّا) مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي فضله. فيرزقهما جميعا من رزقه إلى بلوغهما الأمد واستيفائهما الأجل. ما كتب لهما. ثم تختلف بهما الأحوال بعد الممات، وتفترق بهما بعد الورود المصادر. ففريق مريدي العاجلة، إلى جهنم مصدرهم. وفريق مريدي الآخرة، إلى الجنة مآبهم: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا لا يمنعه من عاص لعصيانه. والجملة كالتعليل لشمول الإمداد للفريقين انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي في الرزق في الدنيا وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لأن فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم أشار تعالى إلى ما به تنال درجات الآخرة من البراءة من الشرك، ومن الاعتصام بالإيمان وشعبه، بقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا أي لا تجعل معه شريكا في عبادته فتصير مذموما ملوما على الشرك، مخذولا من الله. يكلك إلى ذاك الشريك ولا ينصرك وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 160] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 24]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24)
وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. قال القاشاني: قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة، لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية، لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك. وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية. والرحمة والرأفة بالنسبة إليك. ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما، والله غنيّ عن ذلك. فأهم الواجبات بعد التوحيد، إذا، إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى. وإِمَّا هي (إن) الشرطية زيدت عليها (ما) تأكيدا لها.
وأَحَدُهُما فاعل (يبلغن) وكِلاهُما عطف عليه. ومعنى عِنْدَكَ هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلّا على ولدهما، ولا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه. وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا. وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه،(6/453)
في حال الطفولة. فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال. حتى لا يقول لهما، إذا أضجره ما يستقذر منهما، أو يستثقل من مؤنهما: أُفٍّ فضلا عما يزيد عليه. أفاده الزمخشريّ.
وقوله: وَلا تَنْهَرْهُما أي تزجرهم عما لا يعجبك، بغلظة وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما. ومعنى قوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ
تذلّل لهما وتواضع. وفيه استعارة مكنية وتخييلية. فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا، وأثبت له الجناح تخييلا، والخفض ترشيحا. و (خفضه) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية. أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح، والخفض ترشيح. و (الجناح) الجانب كما يقال (جناحا العسكر) وخفضه مجاز. كما يقال (ليّن الجانب) و (منخفض الجانب) وإضافة الجناح إلى الذل للبيان. لأن صفة مبيّنة. أي جناحك الذليل. وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر.
فكأنه جعل الجناح عين الذل. أو التركيب استعارة تمثيلية. فيكون مثلا لغاية التواضع. وسر ذكر الجناح وخفضه، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس. ومِنَ من قوله تعالى: مِنَ الرَّحْمَةِ ابتدائية على سبيل التعليل. أي من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له، غاية في الضراعة والمسكنة. فيرحمه أشد رحمة. كما قال الخفاجيّ:
يا من أتى يسأل عن فاقتي ... ما حال من يسأل من سائله؟
ما ذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي رب! تعطف عليهما برحمتك ومغفرتك، كما تعطفا عليّ في صغري، فرحماني وربياني صغيرا حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما.
قال الزمخشري: أي لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية. واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. والكاف للتعليل. أي لأجل تربيتهما لي.
قال الطيبيّ: الكاف لتأكيد الوجود. كأنه قيل: رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: 23] ، وهو وجه حسن.(6/454)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
تنبيه:
استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام، لأنه وقت فاضل. وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما، جملة ضممتها لكتابي (الأوراد المأثورة) . لا أزال أدعو لهما بما في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته، لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 25 الى 27]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي قاصدين للصلاح والبرّ دون العقوق فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم، والاستقامة على المأمور غَفُوراً أي لهم ما اكتسبوا. ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البرّ. والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق.
قيل: الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد. كأنه قيل: كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر؟ قفيل: إذا بنيتم الأمر على الأساس، وكان المستمر ذلك، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة، فلطف الله يحجز دون عذابه. ويجوز- كما قال الزمخشريّ- أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها.
ويندرج تحته الجاني على أبويه، التائب من جنايته، لوروده على أثره. ثم وصّى تعالى بغير الوالدين من الأقارب، بعد الوصية بهما، بقوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من صلته وحسن المعاشرة والبرّ له بالاتفاق عليه.
قال المهايميّ: لم يقل (القريب) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل. والإضافة، لما كانت لأدنى الملابسة، صدق (ذو القربى) على كل من له قرابة ما.
وَالْمِسْكِينَ أي الفقير من الأباعد. وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم. وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر المنقطع به. أي أعنه وقوّه على قطع سفره. ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة. فإن ذلك كله من حقه وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه(6/455)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
إحسانا إلى نفسك أو غيرك. أفاده المهايميّ. وفي (الكشاف) : كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها. فأمر الله بالنفقة في وجوهها. مما يقرب منه ويزلف.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي. وهذا غاية المذمة لأن لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة. كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم. وقوله: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل. قال أبو السعود: أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى، أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى، إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي. والإفساد في الأرض، وإضلال الناس، وحملهم على الكفر بالله وكفران نعمه الفائضة عليهم، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وتخصيص هذا الوصف بالذكر. من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها، من باب الكفران، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له. والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمل عتوّه. فإن كفران نعمة الربّ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان. انتهى.
وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 28]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي وإن أن أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الردّ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا، وعدهم وعدا جميلا. قال في (الكشف) : (ابتغاء) أقيم مقام فقدانه. وفيه لطف. فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم. وهو من وضع المسبب موضع السبب. فإن الفقد سبب للابتغاء.(6/456)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية الأمر بالقول الليّن عند عدم وجود ما يعطى منه، وفسّره ابن زيد بالدعاء. والحسن وابن عباس بالعدة. انتهى.
وظاهر، أن القول الميسور يشمل الكل. وذهب المهايميّ إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي. قال: أي وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم لئلا يقعوا في التبذير، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى، لما عرفت من عاداتهم، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم، إحسانا إليهم بدل العطاء. انتهى.
ولم أره لغيره. والنظم الكريم يحتمله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 29]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي بالتبذير والسرف. قال ابن كثير: أي لا تسرف في الإنفاق فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فَتَقْعُدَ أي فتبقى مَلُوماً يلومك الفقراء والقرابة مَحْسُوراً أي نادما، من (الحسرة) أو منقطعا بك لا شيء عندك من (حسرة السفر) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه.
وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه، بمن يده مغلولة لعنقه، بحيث لا يقدر على مدّها.
وفي الثانية، شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا. وهو ظاهر.
وجعل ابن كثير قوله تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً من باب اللف والنشر المرتب.
قال: أي فتقعد، إن بخلت، ملوما يلومك الناس ويذمونك. ويستغنون عنك كما قال زهير في المعلقة:
ومن كان ذا مال فيبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير.
وهي الدابة التي عجزت عن السير، فوقفت ضعفا وعجزا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 30]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسعه ويضيقه، حسب مشيئته(6/457)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
وحكمته إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي خبيرا ببواطنهم، بصيرا بظواهرهم.
قال المهايميّ: ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، لحفظ أرواحهم، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى، لذلك قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 31]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم. وهو وأدهم بناتهم. أي دفنهن في الحياة.
كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر، بالإنفاق عليهم إذا كبروا. فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ أي نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر، وقوله تعالى: وَإِيَّاكُمْ أي الآن بإغنائكم. وقوله تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ أي للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل كانَ خِطْأً كَبِيراً أي لإفضائه إلى تخريب العالم. وأي خطء أكبر من ذلك.
تنبيه:
دل قوله تعالى: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد، لا خوف العار كما زعموا. قال المبرّد في (الكامل) : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات. ولم يكن هذا في جميعها. إنما كان في تميم بن مرّ، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل.
ثم قال: ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ [الممتحنة: 12] ، فهذا خبر بيّن أنّ ذلك للحاجة. وقد روى بعضهم أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنّى أن تميما منعت النعمان الإتاوة. فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، فاستاق النعم وسبى الذراري. فوفدت إليه بنو تميم. فلما رآها أحب البقيا. فأناب القوم وسألوه النساء. فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلهن اختار أباها إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو ابن المشمرج. فنذر قيس ألا تولد له ابنة إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول: فعلناه أنفة، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن.
وقال ابن عباس رحمه الله (في تأويل هذه الآية) : وكانوا لا يورّثون ولا(6/458)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
يتخذون إلا من طاعن بالرمح ومنع الحريم، يريد الذكران. والخطأ كالإثم، لفظا ومعنى. ولما نهى عن قتل الأولاد، نهى عن قطع النسل بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 32]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي فعلة قبيحة متناهية في القبح. توجب النفرة عن صاحبه، والتفرقة بين الناس وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريقه. فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب. والسبب ممكن. وهو الصهر الذي شرعه الله، وقال المهايميّ: ساءَ سَبِيلًا لقضاء الشهرة التي خلقت لطلب النسل، بتضييعه. ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير، والتفرقة فقال تعالى مجده:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 33]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي قتلها وهي نفس الإنسان إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب الحق، فيتعلق ب لا تَقْتُلُوا أو حال من فاعل (لا تقتلوا) أو من مفعوله.
وجوز تعلقه ب (حرّم) أي حرّم قتلها إلا بالحق. وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قودا بنفس وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي ومن قتل بغير حق، مما تقدم، فقد جعلنا لوليّه، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه سُلْطاناً أي تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يسرف في القتل. أي فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية. كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة. وقوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي. والضمير للوليّ. يعني: حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 34]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)(6/459)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تتصرفوا في ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره وإصلاحه. وقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية جواز التصرف على الوجه الحسن: أي حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ أي العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا. والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي مطلوبا. يطلب من المعاهد الثبات عليه، وعدم إضاعته أو: صاحبه مسؤول عن نقضه إياه. والمعنى: لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 35]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أي أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السوي بلا اعوجاج ولا خديعة ذلِكَ خَيْرٌ أي لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل، وإيفاء الحقوق أربابها وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة ومآلا إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة. ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنويّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 36 الى 37]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبعه في قول أو فعل، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من (قفا أثره) إذا تبعه.
قال الزمخشري: والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا، لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده، انتهى.
ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل. وكشهادة الزور والقذف ورمي المحصنات الغافلات والكذب وما شاكلها إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا أي كان(6/460)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
صاحبها مسؤولا عما نسب إليها يوم القيامة. أو تسأل نفس الأعضاء لتشهد على صاحبها.
قال المهايمي: قدم السمع لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه. وأخر الفؤاد، لأن منتهى الحواس. ولم يذكر بقيتها لأنه لا يخالفها قول أو فعل.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي مختالا. أي مشية المعجب المتكبر. إذ لا يفيدك قوة ولا علوّا. كما قال سبحانه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها، وشدة وطأتك: وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لن تحاذيها بتطاولك ومدّ قامتك، كما يفعله المختال تكلفا، وفي هذا تهكم بالمختال، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها.
قال الناصر: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية، كفاية في الانزجار عنها. ولقد حفظ الله عوامّ زماننا عن هذه المشية. وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا. بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدّ طرفا من رئاسة الدنيا، إذا هو يتبختر في مشيه، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون. وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل، والله ولي التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 38 الى 39]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)
كُلُّ ذلِكَ أي المنهيّ عنه من قوله: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية: كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً قال المهايمي: أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك. وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق فهو في معنى الشرك، وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية، أحوج ما يكون المرء إليها. ومنع الحقوق بالبخل تفريط، والتبذير والبسط إفراط. وهما مذمومان، والذميم مكروه. والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها ... والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه. ونقض العهد مخلّ بنظام العالم.
وكذا اقتفاء ما لا يعلم. والتكبر من خواص الحق. وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي مما يحكم العقل بصحته، وتصلح النفس بأسوته.(6/461)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
قال المهايمي: أي من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه. وأنه رأس كل حكمة وملاكها. ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه.
قال أبو السعود: وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أوّلا حيث قيل: فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ورتب عليه هاهنا نتيجة في العقبى فقيل: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي بالجهل العظيم مَدْحُوراً أي مبعدا مطرودا من الرحمة. وفي إيراد الإلقاء، مبنيا للمفعول، جري على سنن الكبرياء، وازدراء بالمشرك وجعل له، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه، فيطرحها في التنور. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 40]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً.
خطاب للذين قالوا من مشركي العرب (الملائكة بنات الله) والهمزة للإنكار.
قال الزمخشريّ: والمعنى: أفخصكم ربكم، على وجه الخلوص والصفاء، بأفضل الأولاد وهم الذكور، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم، وهن البنات، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن. فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم. فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء، وأصفاها من الشوب، ويكون أردؤها وأدونها للسادات. وقوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة المحدثات. ثم بإيثاركم أنفسكم عليه، حيث تجعلون له ما تكرهون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ أي كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة، وبينا فيه من كل مثل لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم وَما يَزِيدُهُمْ أي التصريف المذكور إِلَّا نُفُوراً أي عن الحق وبعدا عنه، الذي يقربه وجوه البيان. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا(6/462)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
أي قل لهؤلاء المشركين (الزاعمين أن لله شركاء من خلقه، العابدين معه غيره، ليقربهم إليه زلفى) : لو كان الأمر كما تقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون الزلفى والطاعة لديه، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه. ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه. فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه. بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه. هذا ما اختاره ابن كثير، وسبقه إليه ابن جرير.
وحاصله: أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه. وفيه إشارة إلى قياس اقترانيّ تقريره هكذا: ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه. وكل من كان كذلك ليس إلها، فهم ليسوا بآلهة. وقيل: معنى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا أي لطلبوا إليه سبيلا بالمغالبة والممانعة، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض، على طريقة قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول. وقال أبو السعود: إنه الأظهر الأنسب لقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 43 الى 44]
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
سُبْحانَهُ فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم، من حيث لا يحتسبون. وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب، فليس مما يختص بهذا التقرير، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون. بل هو أمر يعتقدونه رأسا.
انتهى. ومعنى سُبْحانَهُ أي تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقا به وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً أي تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا. فإن مثل هذه الفرية والبهتان، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى.
قال الشهاب: وذكّر العلوّ، بعد عنوانه ب (ذي العرش) . في أعلى مراتب البلاغة. وقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي تنزّه الله، وتقدسه وتجلّه السموات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون.
وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ(6/463)
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً
[مريم:
90- 91] ، وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي لأنها بخلاف لغاتكم.
قال ابن كثير: وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، على أشهر القولين. ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام، والحصا، ممّا خرج في الصحيحين والمسانيد، مما هو مشهور. واختاره الراغب في (مفرداته) وقال: إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ودلالة قوله: وَمَنْ فِيهِنَّ بعد ذكر السموات والأرض لا يصح أن يكون تقديره (يسبح له من في السموات ويسجد له من في الأرض) لأن هذا من نفقهه، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره،. ثم يعطف عليه بقوله: وَمَنْ فِيهِنَّ والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار، لما ذكر من الدلالة. انتهى.
وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازيّ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية. ك (نطقت الحال) . فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود منزه عن الولد والشريك، كما يدل الأثر على مؤثره.
فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
قالوا: والخطاب في قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للمشركين. أي لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم. وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني، الإمام ابن حزم في كتابه (الملل والنحل) ولا بأس بإيراده، لما فيه من الغرائب.
قال رحمه الله في الرد على من قال: (إنّ في البهائم رسلا) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها. قال الله تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة: 179] ، وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق- الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه، والتصرف في الصناعات على اختلافها- الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم، بالخبر الصادق، الجن والملائكة. ثم قال رحمه الله وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزا لمثل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا(6/464)
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
ونحوه من الآيات. ولا حجة لهم فيه. لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عزّ وجلّ، مبدلا لكلماته، ما لم يأت نص في أحدهما، أو إجماع متيقن، أو ضرورة حسّ على خلاف ظاهره، فيوقف عند ذلك. ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عزّ وجلّ، أو كاذبا عليه وعلى نبيّه عليه السلام، نعوذ بالله من كلا الوجهين.
وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان (غير الإنسان والجن والملائكة) لا نطق له. نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات. وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسّه، وبينّا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا، فإنه ليس تمييزا. وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة- فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا. فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها. وأما معانيها فمختلفة، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا. لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى، ولو لاه ما عرفناه.
فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه، بيان ذلك: أن التسبيح عندنا إنما هو قول (سبحان الله وبحمده) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوامّ والشحرات والألوان لا تقول (سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل. فإذ لا شك في هذا، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك. فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء. فإذ قد صح هذا، فإن كل شيء في العالم بلا شك منزّه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث. وفي العالم شيء إلا وهو دالّ (بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعا لا يشبهه) على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك. وهذا المعنى حق لا ينكره موحد. فإن كان قولنا هذا متفقا على صحته. وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ والكافر الدهريّ شيء لا يشك في أنه شيء وهو لا يسبح بحمد الله تعالى(6/465)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
البتة فصح ضرورة أن الكافر يسبح، إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى. وإن تسبيحه ليس هو قوله (سبحان الله وبحمده) بلا شك. ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق. وهذا يقيني لا شك فيه.
فصح بما ذكرنا أن لفظة (التسبيح) هي من الأسماء المشتركة، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا. انتهى كلامه.
ومحصله نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان. وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره. إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه. فيرجع الخلاف لفظيا. وقد وافق العلم الحديث الآن- كما قاله بعض الفضلاء- على أن في الجماد أثرا من الحياة. وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء. وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب والدفع. والتأثر بالمؤثرات الخارجية، وتغير قوة التوازن، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة، طبقا لتراكيب محدودة. وإفراز مركبات كيماوية مختلفة. وبالجملة فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. مع كفرهم وقصورهم في النظر. ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم.
ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم، حينما يقرؤه عليهم الرسول، صلوات الله عليه، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 45]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي على هؤلاء المشركين جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي لا يصدقون بالبعث ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جزاء على الأعمال حِجاباً مَسْتُوراً أي من الجهل وعمى القلب. فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منّا لهم على كفرهم.(6/466)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
ومعنى كون الحجاب مستورا، أي عن العيون، فلا تدركه أبصارهم. وعن الأخفش: إن (مفعولا) يرد بمعنى (فاعل) كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم.
كما أن (فاعلا) يرد بمعنى (مفعول) كماء دافق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 46]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية كثيرة، جمع (كنان) أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما يمنعهم من استماعه. وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له.
قال أبو السعود: هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبيّ صلى الله عليه وسلم وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن الكريم، ومجّ أسماعهم له، جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال. وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه، إلا لمانع قويّ يعتري المشاعر فيبطلها. تنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مشفوع بذكره ذكره شيء من آلهتهم وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً أي هربا من استماع التوحيد. قال القاشانيّ:
لتشتّت أهوائهم، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم، من أصنام الجسمانيات والشهوات. فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة لتألفها بالكثرة واحتجابها بها. ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون، رؤساء قريش، بقوله متوعدا لهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 47 الى 48]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي(6/467)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
سحر، فجنّ فاختلط كلامه انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون فَضَلُّوا أي عن الحق والهداية بك فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه. وأن الله قد خذلهم عن إصابته.
أو المعنى فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد. كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً وهو ما بلي وتفتّت أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه. فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم.
فكيف، إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد فَسَيَقُولُونَ أي بعد لزوم الحجة عليهم مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها برفع وخفض، تعجبا واستهزاء وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ أي يوم يبعثكم فتنبعثون. قال القاضي: استعار لهما الدعاء والاستجابة. للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما. وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء. انتهى.
وقيل: إنهما حقيقة كما في آية: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق:
41] ، وفي قوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وجوه للمعربين. ككونه بدلا من (قريبا) على أنه ظرف. أو منصوب ب (يكون) أو بمقدر ك (اذكر) أو (تبعثون) وقوله تعالى:
بِحَمْدِهِ أي وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان. أو في الحياة الأولى، لاستقصاركم إياها، بالنسبة إلى الحياة الآخرة.(6/468)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 54]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)
وَقُلْ لِعِبادِي أي الذين آمنوا معك. إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب، كأمر البعث يَقُولُوا في النصيحة، الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي فلا يخاشنوا أحدا ولا يغلطوا بالقول إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر والمراء:
لتقع بينهم المضارّة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً وقوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ خطاب لهؤلاء المشركين من قريش. أي إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه. وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة.
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا إليك أمرهم. تقسرهم على الإيمان. وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا، تبلغهم رسالاتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 55]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا يخفى عليه شيء فيهما. فهو أعلم بهؤلاء ضرورة. وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل. لحاجة الخلق إليها.
وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته، ويختار لنبوّته. ويعلمه أهلا لها. وقوله تعالى:
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أي لاقتضاء علمه وحكمته ذلك. فإنه أعلم بمن في السموات والأرض وأحوالهم. فآتى موسى التوراة وكلمه. وعيسى الإنجيل وداود الزبور. فضلهم بما آتاهم على غيرهم. وقد آتى محمدا القرآن ففضله به على الأنبياء كافة. وقوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب، ففضلناه به. قيل: الآية ردّ عليهم إذ استبعدوا أن يكون صلى الله عليه وسلم نبيا، دون من يعدّونه عظيما بينهم في الغنى والجاه، وذكر من في السموات لإبطال قولهم:
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: 21] وذكر من في الأرض لرد قولهم: لَوْلا(6/469)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزخرف: 31] ، وتخصيص داود بالذكر، إشارة لتفضيل النبيّ صلى الله عليه وسلم كما دل عليه ما كتب فيه من أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه. وإيثار الزبور على الملك بيان لحيثية شرفه، وأن بما أوحي إليه من الكتاب والعلم، لا بالملك والمال، كذا قالوا. والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك. وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره. وإذ كان ذلك اختصاصا ربانيّا، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب، من علم أنه أرجحهم عقلا، وأكملهم فضلا، لختم نبوته، وهداية بريته، بمنهاجه وشرعته. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً.
أي قل لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه، عند ضر ينزل بكم، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعونهم آلهة؟ أي فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روى الطبريّ عن ابن عباس أن الآية عني بها قوم مشركون، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة. فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه. ويتقربون إليه بالأعمال. ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء، قوله سبحانه: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 79- 80] ، وفي قوله تعالى:(6/470)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إشارة إلى أن العبادة لا تتم إلا بالرجاء والخوف.
فبالرجاء تكثر الطاعات وبالخوف تقل السيئات. وقوله تعالى: مَحْذُوراً أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله. عياذا بالله منه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 58]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
إخبار بأنه حتم وقضى أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيّهم، إلا ويبيدهم، أو ينزل بهم من العذاب شديدة. وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود: 101] ، وقال تعالى:
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً [الطلاق: 9] . وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ [الطلاق: 8] الآيات. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 59]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي التي يقترحها قريش: إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم. كعاد وثمود. وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. فاستوجبوا الاستئصال. على ما مضت به السنّة الإلهية.
وقد قضينا أن لا نستأصلهم، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ أي أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم مُبْصِرَةً أي بينة، تبصر الغير برهانها فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفا للناس، ليعلموا السنّة الإلهية مع العاتين، فيتذكروا ويتوبوا.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم(6/471)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
الصفا ذهبا. وأن ينحّي الجبال عنهم فيزرعوا. فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا. فإن كفروا، هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. قال: لا بل استأني بهم «1» ، وأنزل الله قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ الآية.
ورواه النسائي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 60]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم. ومنه ما جرى منهم، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة، من الجحود والهزء واللغو. كما قال سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال الأكثرون:
يعني ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات. فلما ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذّبوا. وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا للمخلصين. فكانت فتنة، أي اختبارا وامتحانا، وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناما، لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام. وأجيب بأن قوله تعالى: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ يرده. لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذّب. وجاء في اللغة (الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقا) وهو معنى حقيقيّ لها.
وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى. وأنه كالقربى والقربة. وقيل: إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا، أو جار على زعمهم. أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة.
أو لوقوعها ليلا. أو لسرعتها. أفاده الشهاب.
وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه قال: أسري به صلى الله عليه وسلم عشاء إلى بيت المقدس فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات. ثم أصبح بمكة فأخبرهم أنه أسرى به إلى بيت المقدس. فقالوا له: يا محمد! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام.
وقال قوم: الآية في رؤياه صلى الله عليه وسلم التي رأى أنه يدخل مكة.
فروى البريّ عن ابن عباس. قال: يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أنه دخل مكة هو وأصحابه. وهو يومئذ بالمدينة. فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة. قبل الأجل: فرده المشركون. فقالت
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 258 والحديث رقم 2333.(6/472)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
أناس: قد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها. فكانت رجعته فتنتهم.
وذلك عام الحديبية. ثم دخل مكة في العام المقبل. وأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ
ولا يقال: إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، وتزلت عليه هذه الآية. ولكنه ذكرها عام الحديبية. لأنه كان إذ ذاك بمكة. فعلم أن دخوله بعد خروجه منها. كذا قيل.
وذهب بعضهم إلى أن كثيرا من السور المكية ضم إليها آيات مدنية، كما في (الإتقان) والطبّري رجح الأول وفاقا للأكثر. وقد قدمنا مرارا أن السلف قد يريدون بقولهم: (نزلت الآية في كذا) . أن لفظ الآية مما يشمل ذلك. لا أنه كان سببا لنزوله حقيقة. وعليه. فلا إشكال.
وقوله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عطف على الرؤيا، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 62- 65] الآيات، وفتنتهم فيها ما رواه الطبريّ عن ابن عباس وقتادة أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا- يعني النبي صلوات الله عليه أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر! فكذبوا بذلك. وفي رواية أن أبا جهل قال: أيخوفني بشجر الزقوم؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول: تزقموا، فما نعلم الزقوم غير هذا. والمراد بلعنها في القرآن، لعن طاعمها فيه، على أنه مجاز في الإسناد. أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم. فهو إما مجاز مرسل أو استعارة. وقوله تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ أي بذلك وبنظائره من الآيات فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي تماديا فيما هم فيه من الضلال والكفر.
قال المهايميّ: أي فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة. لقالوا إنه أجلّ من أحاط بأبواب السحر. فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيويّ. لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله. ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان.
وأنه وحزبه، لعتوهم وتمردهم عن الحق، في النار، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 62]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)(6/473)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي تحية وتكريما فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً كما قال في الآية الأخرى: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] ، قالَ أي جراءة على الرب وكفرا به أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأن أمرتني بالسجود له، لم كرمته عليّ؟ أو المعنى: أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي لأعمينّهم وأهلكنّهم بالإغواء، إلا المخلصين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 63 الى 65]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
قالَ اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً أي جزاء مكملا وَاسْتَفْزِزْ أي استخفف وأزعج مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي أن تستفزه فتخدعه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى الفساد. وعبّر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي صح عليهم. من الجلبة (بفتحات) وهي الصياح. و (الخيل) الخيالة أي ركبان الخيل مجازا. وأصل معنى الخيل الأفراس. (والرّجل) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس والمراد الأعوان والأتباع مطلقا.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه، بمغوار- بكسر الميم، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب- أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم. وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم- أي فالكلام استعارة تمثيلية مركبة. استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة. ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم، أو غلبته وتسخيره لهم. وجوز أن يكون التجوز في المفردات تجوزا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة. وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث والفساد بإغوائه.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ أي بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريما وتحليلا بما لا يرضى وَالْأَوْلادِ أي بالتفاخر فيهم(6/474)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
وتضليلهم بصبغهم غير صبغة الدين، ووأدهم ونحو ذلك مما يعصى الله بسببه وَعِدْهُمْ أي المواعيد الباطلة والأمانيّ الكاذبة من سلامة العاقبة ودوام الغلبة وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهو تزيين الباطل بزينة الحق إِنَّ عِبادِي أي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط بالإغواء وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي كفيلا لهم يتوكلون عليه ولا يلجئون في أمورهم إلا إليه. وهو كافيهم.
وقد أشار القاشانيّ إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف. وعبارته: تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام. لأن الاستعدادات متفاوتة. فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي استخفه بصوته، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة. ومن كان قويّ الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية، فليس له إلى إغوائه سبيل كما قال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية، غارزا رأسه في الأمور الدنيوية، شاركه في أمواله وأولاده، بأن يحرّضه على إشراكهم بالله في المحبة. بحبهم كحب الله. ويسوّل له التمتع بهم، والتكاثر والتفاخر بوجودهم. ويمنيه الأمانيّ الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة. وإن لم ينغمس، فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته، أجلب عليه بخيله ورجله. أي مكر به بأنواع الحيل. وكاده بصنوف الفتن. وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب. وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم. وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا، أغواه بالوعد والتمنية. وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون. انتهى.
ثم بين تعالى بعضا من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 66]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ أي يسيّر لكم السفن في البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه. والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حيث سهل لكم أسباب ذلك.
قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد(6/475)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
لذكر توحيدهم عند مساس الضرّ، تكملة لما مرّ من قوله: فَلا يَمْلِكُونَ الآية، وذلك قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 67]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67)
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي خوف الغرق: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه، إلّا إياه وحده. فإنكم لا تذكرون سواه. فطرة فطر الله الخلق عليها.
وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة. وقد استدل لكثير من الأصول بها، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى. كمسألة وجود الخالق وعلوّه، والمعاد وغيرها. وقوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ أي من الغرق:
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن التوحيد: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي بأنعم الله. والجملة كالتعليل للإعراض. قال الشهاب: وفيه لطف. حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم. وذكر أن جنس الإنسان مجبول على هذا. فلما أعرضوا أعرض الله عنهم. ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 68 الى 69]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي يغوّره بكم أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي ريحا ترمي بالحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي من يتوكل بصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي يقوّي دواعيكم لركوب البحر تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته، فتكسر السفينة وسط البحر فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي مطالبا بما فعلنا. مثل من يطالب على مغرق سوانا. وهذا كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] .(6/476)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 70]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما، وتحصيلها: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا أي عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: (على كثير) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه. قيل وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى. أعني الملائكة.
قال القاشانيّ: وأما أفضلية بعض الناس، كالأنبياء على الملائكة المقربين، فليست من جهة كونهم بني آدم. بل من جهة السر المودع فيهم المشار إليه بقوله:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] ، وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة. وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي
وذهب قوم إلى تأويل (الكثير) ب (الكل) كما أوّل (القليل) بمعنى (العدم) في قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] ، والمعنى: وفضّلناهم على الجمّ الغفير ممّن خلقنا أي جميع المخلوقات.
قال القاشانيّ: على أن تكون (من) للبيان والمبالغة في تعظيمه، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف. أي كثير وأي كثير، وهو جميع مخلوقاتنا. لدلالة (من) على العموم. ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر. والمسألة معروفة في كتب الكلام.
وقوله تعالى:(6/477)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 72]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. فيقال: يا أتباع فلان! يا أهل دين كذا وكتاب كذا وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير! ويا أصحاب كتاب الشر! قالوا: وفيه شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال القاشانيّ: أي نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه، سواء كان صورة نبيّ آمنوا به، أو إمام اقتدوا به، أو دين أو كتاب، أو ما شئت. على أن تكون (الباء) بمعنى (مع) . أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه، لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم.
ورجح ابن كثير، رحمه الله، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال، لقوله تعالى:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] ، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: 49] الآية، وقال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28- 29] ، وما رجحه رحمه الله هو الصواب. لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات، هو الرجوع إلى نظائرها. وقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ أي من هؤلاء المدعوين كِتابَهُ أي كتاب أعماله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين إصبعيك، أو هو أدنى شيء، فإن الفتيل مثل في القلة، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم: 60] .
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه في الدنيا. لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا(6/478)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
يمكنه الاهتداء بها. وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد. ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل: العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات، لفساد حاسته، مجاز في عمى البصيرة وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة. وقيل: هو حقيقة فيهما. وعليه جوز أن يكون (أعمى) الثاني أفعل تفضيل. لأنه من عمى القلب لا عمى البصر. ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله.
لطيفة:
قال الناصر: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى. أي فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه. ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه، ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك، غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا، على اختلاف التأويلين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 74]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إخبار عن تأييده تعالى رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه. فإن المشركين، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم، كادوا أن يفتنوه.
ولكن عناية الله وحفظه، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره. وقد روي أن ثقيفا قالوا لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها. فإن خشيت أن يسمع العرب: (لم أعطيتهم ما لم تعطنا) فقل: الله أمرني بذلك.
وروي أن قريشا قالوا: لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا: نؤمن بك إن تمس آلهتنا.
قال الإمام الطبريّ: يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر. وأن تكون غير ذلك. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان. فالأصوب الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له، ببيان ما عني بذلك منه.(6/479)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
قال الزجاج: معنى الكلام كادوا يفتنونك. ودخلت (أن) المخففة من الثقيلة و (اللام) للتأكيد. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنونك أي يخدعوك. ويصرفوك عن القرآن أي عن حكمه. وذلك لأن في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن. وقوله:
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم، وراض بشركهم. ثم قال: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم شَيْئاً قَلِيلًا وقوله شَيْئاً عبارة عن المصدر، أو ركونا قليلا.
وعن قتادة: لما نزلت هذه الآية. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين)
. ثم توعده في ذلك أشد التوعد، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 75]
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. و (الضعف) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله، ودل على إضمار العذاب، وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات. كقوله تعالى: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: 61] ، وقال: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] .
والسبب في تضعيف العذاب أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر. فكانت ذنوبهم أعظم. فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر. ونظيره قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] .
تنبيهات:
الأول: قال القفال رحمه الله (بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه) :
ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاعف نزولها فيه، لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه. فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1- 2] ، وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] ، وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة. فأنزل(6/480)
الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] ، ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: 52] ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب. وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه، وأن يزيلوه عن منهجه. فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم.
وعلى هذا الطريق، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات.
والله أعلم.
الثاني: قال القاضي: معنى قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ الآية، إنك كنت على صدد الركون إليهم، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم. لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها. ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.
الثالث: قال الزمخشريّ: في ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين، دليل بيّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة، مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله. فعلى المؤمن، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر. وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله.
الرابع: جاء في (حواشي جامع البيان) ما مثاله بالحرف: من الفوائد الجليلة في هذه الآية. أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما.
فإنها شعائر الكفر والشرك. وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت، تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شرك عندها وبها. فإن اللات- على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد- رجل كان يلتّ لهم السويق فمات. فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه. ولم يقولوا إن اللات خلقت السموات والأرض، بل كان شركهم باللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه، من النذور لها ولشرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها. وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا(6/481)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
مجرد مسّ آلهتهم. كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا.، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم. فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان. فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام، إلا فعلوه بالقبور. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
بل كثير منهم، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك. أو بمعتقدك الوليّ الفلاني تلكأ وأبى واعترف بالحق.
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: (ثالث ثلاثة) فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أيّ رزء للإسلام أشد من الكفر؟ وأيّ بلاء لهذا الدين أضرّ عليه من عبادة غير الله؟ وأيّ مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البيّن واجبا؟ فاللهم! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 76 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ أي ليزعجونك بمعاداتهم من مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ أي ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا قليلا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم. ونصبت نصب المصدر المؤكد. أي سنّ الله ذلك سنة وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تغييرا. ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم، إهلاكهم. سواء كان بالاستئصال، أو لا. قال ابن كثير:
وكذلك وقع. فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم، بعد ما اشتد أذاهم له، إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد. فأمكنه منهم، وسلطه عليهم، وأظفره بهم. فقتل أشرافهم وسبى سراتهم. ولهذا قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم. يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب. ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به. كما قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] .(6/482)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 78]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً لما ذكر تعالى، قبل، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم، وتأييده عليهم. ونظيره قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97- 98] ، وقوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: 130] ، وقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ، هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها. وأما معناها، فقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها. قال ابن تيمية: الدلوك الزوال عند أكثر السلف وهو الصواب. واللام للتأقيت. أي بيان الوقت بمعنى (بعد) وتكون بمعنى (عند) أيضا. وقيل: للتعليل. لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما غَسَقِ اللَّيْلِ فهو اجتماع الليل وظلمته. وأما قُرْآنَ الْفَجْرِ فهو صلاة الصبح. سميت قرآنا لأنه ركنها. كما سميت ركوعا وسجودا. فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهمّ. فيدل على وجوب القراءة فيها صريحا، وفي غيرها بدلالة النص والقياس. ومعنى مَشْهُوداً يشهده ملائكة الليل والنهار. ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة! ومن حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. والأكثرون على أن قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ منصوب بالعطف على (الصلاة) أي: وأقم صلاة الفجر. وجوّز بعض النحاة نصبه على الإغراء. أي: وعليك قرآن الفجر أو الزم.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا. وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا. وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر. قيل: هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر. والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء. فيدل على جواز(6/483)
الجمع مطلقا بين الأولين، وكذا بين الأخيرين. فالجواب: هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها. وأما في غيرها فلا وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها، إلا بعذر. قال الحافظ ابن كثير: قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم، مما تلقوه خلفا عن سلف، وقرنا بعد قرن، كما هو مقرر في مواضعه.
وقال العلامة أبو السعود: ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام. كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام. ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها، لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة. فبعضها متصل ببعض، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم، ينقطع أحدهما عن الآخر. ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات. انتهى.
والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس.
جاء في (رحمة الأمة) ما مثاله: وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة. ما لم يتخذه عادة. واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. انتهى.
وقد روى الشيخان «1» وغيرهما عن ابن عباس قال: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
ومن رواية لمسلم: صلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، من غير خوف ولا سفر. وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة. والمسألة شهيرة.
الثاني: قلنا إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس، ومنها قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: 114] ، فالطرف الأول صلاة الفجر فإن صلاة الفجر في النهار. فإن الصائم يصوم النهار. وهو يصوم من طلوع الفجر. والوتر تصلى بالليل
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «2» : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، 12- باب تأخير الظهر إلى العصر، حديث رقم 353 وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 55.
(2) أخرجه البخاريّ في: التهجد، 10- باب كيف كان صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم 314.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 147. [.....](6/484)
خفت الصبح فأوتر بركعة
. وإذا قيل: نصف النهار فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس. فهذا في هذا الموضوع، ولفظ (النهار) يراد به من طلوع الفجر، ويراد به من طلوع الشمس. لكن قوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة، بل ولا مستحبة. بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمس. وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه. فعلم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر. وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب.
فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه. ثم قال:
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فأجمل الغرب والعشاء في (زلف من الليل) . وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة.
وقال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ [النور: 58] ، فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء. فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم: 17- 18] ، فتبين أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض، حين المساء وحين الصباح وعشيّا وحين الإظهار. فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشيّ يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: 130] ، وفي الآية الأخرى: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ حق: [39- 40] ، فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر. وقبل غروبها هي العصر، وبذلك فسّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم
في الحديث «1»
المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، 16- باب فضل صلاة العصر، حديث 358.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 211.(6/485)
غروبها فافعلوا. ثم قرأ قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها
وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ مطلق في آناء الليل، يتناول المغرب والعشاء. أفاد ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في فتواه في (المواقيت الكبرى) .
الثالث: هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها. قال ابن تيمية. عليه الرحمة، في فتواه المتقدمة: وقت الصلاة وقتان. وقت الرفاهية والاختيار. ووقت الحاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما
في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : (وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله. ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس. ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق. ووقت العشاء إلى نصف الليل. ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس) وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن
. ولم يرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا. وسائر ما روي فعل منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث. والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر وآخره، وآخر وقت المغرب. وآخر وقت العشاء وآخر وقت الفجر.
فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إلى أن يصير ظلّ كل شيء مثليه، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه، ونقل عنه، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور، فهل آخر هذا أول هذا أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك؟ فيه نزاع. فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظل كل شيء مثليه، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد. وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما. والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس. وهو الرواية الثانية عن أحمد. كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو، مما عمل به النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بعد عمله بمكة. وهذا قول أبي
__________
(1) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 173.(6/486)
يوسف ومحمد. فلم يكن للعصر وقت متفق عليه. ولكن الصواب المقطوع به، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله. وليس مع القول الآخر نقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا صحيح ولا ضعيف. ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة. لمّا اعتادوا تأخير الصلاة، واشتهر ذلك، صار يظن من يظن أنه السنة. وقد احتج له بالمثل المضروب المسلمين وأهل الكتاب. ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر، الذي أوّله إذا صار ظل كل شيء مثليه.
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب. ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر. واتسع فيها وفيهما من وجهين: أحدهما تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدمها النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم عرفة. وكما كان يقدمها في سفرة تبوك. إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس.
وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمع تقديم. والثاني جمع تأخير، العصر فيها إلى الغروب.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «1» : من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر
. مع
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وقت العصر ما لم تصفرّ الشمس)
وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار. ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب. وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] ، وهذا مذهب مالك والشافعيّ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه وقيل: يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان. وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها. وهو قول أبي حنيفة أيضا
ففي الحديث الصحيح «2» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك الصلاة المنافق. يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)
. فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر.
فدل على المنع من هذا وهذا. فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا، علم أن الوقت وقتان. فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا. وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله. بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، 28- باب من أدرك من ركعة، حديث رقم 360 (عن أبي هريرة) . وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 161 و 162 و 163 و 164.
(2) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 195 عن أنس.(6/487)
كالحائض إذا طهرت والمجنون يفيق. والنائم يستيقظ. والناسي يذكر. ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال. ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب. مع أنه بيّن بقوله وفعله أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله. ما لم تصفر الشمس. فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها، وقت مع التمكن والرفاهية. ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه. وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس أنهم قالوا: (في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس) :
تصلي الظهر والعصر. وإذا طهرت قبل طلوع الفجر، صلت المغرب والعشاء. ولم يعرف عن صحابيّ خلاف ذلك. وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد.
وهذا مما يدل على أنه كان الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر. والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب. كما دل على ذلك السنة والقرآن- يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل- والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن. والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14] ، فلا موجب لخصوص التكبير عندهم. بل مطلق الذكر. وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ قط إلا بتكبير. ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير. ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر. لأن القرآن مطلق في الذكر. فيقال لهم: القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل. ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدّر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج: 77] ، مطلق. فهو الفرض.
والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد. فيفيد الوجوب دون الفرضية. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلّوا إلا بالفاتحة. ومع
قوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن) «1» .
و (إن كل صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج. فهي خداج. فهي خداج) «2» .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الأذان، 95- باب وجود القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، حديث رقم 460 (عن عبادة بن الصامت) .
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 34 و 35 و 36.
(2) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 40 و 41 عن أبي هريرة.(6/488)
ويقولون هذا يفيد الوجوب دون الفرضية. أو هذا خبر واحد فلا يقيد به مطلق القرآن. ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد. مع ما فيه من الإجمال، كقوله «1» لمّا بين المواقيت الخمسة
(الوقت ما بين هذين)
وقوله «2»
(ما بين هذين وقت)
دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة
قوله: (لا صلاة إلّا بأمّ الكتاب)
وقوله (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج)
وكذلك
قوله «3» صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها. فصلوا الصلاة لوقتها. ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة)
. ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية
بقوله: صلى الله عليه وسلم (فصلوا الصلاة لوقتها)
وهو الوقت الذي بيّنه لهم. والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل. ولا صلاة الليل إلى النهار. وإنّما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار. ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل. لأنهم سألوه عن الأمراء، أنقاتلهم؟ قال: (لا. ما صلوا) وهذه كانت صلاتهم.
ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال، وتفويت يوم الخندق منسوخ. وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت السنة في مواضع متعددة. وبعضها مما أجمع عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تبيّن أن الوقت المشترك وقت في حال العذر. كقول عمر بن الخطاب (الجمع بين الصلاتين، من غير عذر، من الكبائر) فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة: (فيمن طهرت في آخر النهار) : إنها تصلي الظهر والعصر. (وفيمن طهرت في آخر الليل) : إنها تصلي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة: مالك والشافعيّ وأحمد، وأما التفويت فلا يجوز بحال، فمن جوز التفويت في بعض الصور، فقوله ضعيف، وإن جوز الجمع. وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين: بين إباحة ما حرمه الله ورسوله، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله. فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت. فهذا الأصل ينظم كثيرا من المواقيت. وتفويت العصر إلى حين الاصفرار، وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا، لا يجوز إلا لضرورة، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل
__________
(1) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 178 عن أبي موسى.
(2) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 177 عن بريدة.
(3) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 239 عن أبي ذرّ.(6/489)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة.
وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره. وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار. بل إذا لم يجد الماء إلا فيه، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء. انتهى كلامه عليه الرحمة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 79]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أمر له بصلاة الليل، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي مِنَ وجهان: أحدهما أنها متعلقة ب (تهجد) أي تهجد بالقرآن بعض الليل.
والثاني أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه (فتهجد) أي قم من الليل أي في بعضه فتهجد بالقرآن. والتهجد ترك الهجود وهو النوم، و (تفعّل) يأتي للسلب ك (تأثّم وتحرّج) بمعنى ترك الإثم والحرج. قال الأزهري: المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم. وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له (متهجد) لإلقائه الهجود عن نفسه كما يقال للعابد (متحنث) لإلقائه الحنث عن نفسه.
انتهى.
ونقل عن ابن فارس: أن معناه صلّ ليلا. وكذا عن ابن الأعرابيّ قال: هجد الرجل وتهجد، إذا صلى بالليل. والمعروف الأول. والضمير في (به) للقرآن من حيث هو، لا بقيد إضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من (من) والباء بمعنى (في) أي تهجد في ذلك البعض. وقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس.
قال الزمخشريّ: وضع (نافلة) موضع (تهجدا) لأن التهجد عبادة زائدة. فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة، فريضة عليك خاصة دون غيرك. لأنه تطوع لهم. انتهى.
قال أبو السعود: ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر، مع تقدم وقتها على وقتها.
وقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه. وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والمشهور أنه(6/490)
مقام الشفاعة العظمى، للفصل بين الخلائق الذي يحمده فيه الأولون والآخرون. كما وردت به الأخبار الصحيحة «1» . ومعنى النظم الكريم على هذا: كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر، بالصلاة والعبادة، فسيبعثك ربك من بعد الموت الأكبر، مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس. وفيه تهوين لمشقة قيام الليل. أشار له أبو السعود.
تنبيه:
قال ابن جرير ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود، الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إياه، هو أن يجلسه معه على عرشه، رواه ليث عن مجاهد. وقد شنع الواحديّ على القائل به، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضا وعبارته- على ما نقلها الرازيّ- وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه:
الأول: أن البعث ضد الإجلاس، يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال:
بعث الله الميت، أي أقامه من قبره. فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد.
الثاني: أنه تعالى قال: مَقاماً مَحْمُوداً ولم يقل مقعدا. والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
الثالث: لو كان تعالى جالسا على العرش، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا. ومن كان كذلك فهو محدث.
الرابع: يقال: إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز، لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون (في كل أهل الجنة) : إنّهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين، لم يكن لتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بها مزيد شرف ورتبة.
الخامس: أنه إذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم. ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه. فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين. انتهى كلام الواحديّ.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 17- سورة الإسراء، حديث رقم 787، عن ابن عمر.(6/491)
وليته اطلع على ما كتبه ابن جرير حتى يمسك من جماح يراعه ويبصر الأدب مع السلف مع المخارج العلمية لهم. وهاك ما قاله ابن جرير رحمه الله (بعد ما نقل عن مجاهد قوله المتقدم) .
وأولى القولين بالصواب، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقام الشفاعة- ثم قال- وهذا وإن كان هو الصحيح في القول، في تأويل المقام المحمود، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين. فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قوله غير مدفوع صحته. لا من جهة خبر ولا نظر. وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين، بإحالة ذلك.
فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه، كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذا لم يكن هو لها مماسّا، وجب أن يكون لها مباينا. إذ لا فعّال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها، قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين- فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على الأرض (إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد. في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما) وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه. فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه أو على أرضه (إذ كان سواء على قولهم. عرشه وأرضه، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه) .
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسّا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك. ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا. قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه ولا يباينه. وخلق الأشياء فماسّ العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه فهو مماسّ ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه. فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم(6/492)
موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه. كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء، غير موجبة له صفة الربوبية ولا مخرجته من صفة العبودية لربه. من أجل أنه موصوف بأنه مباين له، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف- على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها. هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى (مباين ومباين) لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودية، والدخول في معنى الربوبية فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن. فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد، من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه، فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده معه «حدثني» عباس بن عبد العظيم قال حدثنا يحيى بن كثير عن الجريري، عن سيف السدوسيّ عن عبد الله بن سلام قال، إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، على كرسي الرب، بين يدي الرب تبارك وتعالى. وإنما ينكر إقعاده إياه معه قيل: أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه؟ فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ ولا مباين، وبأي ذلك قال، كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره. وإن قال: ذلك غير جائز منه، خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام: إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها. وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله.
وأقول: لك أن تجيب أيضا عن إيرادات الواحديّ الخمسة، التي أفسد بها قول مجاهد. أما جواب إيراده الأول، فإن مجاهدا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس.
وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر.
وعن الثاني: بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة، معروف ذلك في اللغة.
وعن الثالث: بدفع اللازم المذكور، لأنه كما اتفق على أن له ذاتا لا تماثلها الذوات فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار، فإنه لا يماثل الصفات.
ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق.
وعن الرابع: بأنه مكابرة. إذ كل أحد يعرف- في الشاهد- لو أن ملكا استدعى جماعة للحضور لديه، ورفع أفضلهم على عرشه، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل.
وعن الخامس: بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه، إذ لا بعث لإصلاح المهمات(6/493)
في الآخرة، وإنما معنى الآية: إنه يرفعك مقاما محمودا. وذلك يصدق على ما قاله مجاهد وما قال الأكثر. فتأمل وأنصف. وقد أنشد الحافظ الذهبيّ في كتابه (العلوّ لله العظيم) للإمام الدّارقطنيّ في ترجمته، قوله:
حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده
وأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده
أمرّوا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
وقال الذهبيّ في كتابه المنوه به، في ترجمة (محمد بن مصعب) العابد شيخ بغداد ما مثاله: وقال المروذيّ سمعت أبا عبد الله الخفاف. سمعت ابن مصعب وتلا عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: نعم يقعده على العرش- ذكر الإمام أحمد محمد بن مصعب فقال: قد كتبت عنه. وأيّ رجل هو! قال الذهبيّ: فأما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نص، بل في الباب الحديث واه. وما فسر به مجاهد الآية، كما ذكرناه. فقد أنكره بعض أهل الكلام. فقام المروذيّ وقعد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابا وطرق قول مجاهد، من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد. وممن أفتى في ذلك العصر، بأن هذا الأثر يسلّم ولا يعارض. أبو داود السجستانيّ صاحب السنن وإبراهيم الحربيّ وخلق. بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل من رد هذا الحديث. وهو عندي رجل سوء متهم. سمعته من جماعة. وما رأيت محدثا ينكره. وعندنا إنما تنكره الجهمية. وقد حدثنا هارون بن معروف. ثنا محمد بن فضيل عن ليث، عن مجاهد في قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال:
يقعده على العرش. فحدثت به أبي رحمه الله فقال لم يقدّر لي أن أسمعه من ابن فضيل: بحيث إن المروذيّ روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا قد تلقته العلماء بالقبول. وقال المروذيّ: قال أبو داود السجستانيّ: ثنا ابن أبي صفوان الثقفي. ثنا يحيى بن أبي كثير. ثنا سلم بن جعفر، وكان ثقة، ثنا الجريريّ ثنا سيف السدوسي عن عبد الله ابن سلام، قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم حتى يجلس بين يدي الله عزّ وجلّ على كرسيه. الحديث. وقد رواه ابن جرير في تفسيره. (أعني قول مجاهد) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره. بحيث إن الإمام أبا بكر الخلّال قال في كتاب (السنة) من جمعه: أخبرني الحسن بن صالح العطار. عن محمد بن علي السراج. قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم(6/494)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
فقلت: إن فلانا الترمذيّ يقول: إن الله لا يقعدك معه على العرش. ونحن نقول: بل يقعدك. فأقبل عليّ شبه المغضب وهو يقول: بلى، والله! بلى، والله! يقعدني على العرش. فانتبهت. بحيث إن الفقيه أبا بكر أحمد بن سليمان النجاد المحدّث قال:
(فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء) : لو أن حالفا حلاف بالطلاق ثلاثا إن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش. واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت.
قال الذهبيّ: فأبصر، حفظك الله من الهوى، كيف آل الغلوّ بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردّون الأحاديث الصريحة في العلوّ. بل يحاول بعض الطغام أن يرد. قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] . انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 81]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي مدخلا حسنا مرضيّا بلا آفة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي مخرجا حسنا مرضيّا من غير آفة الميل إلى النفس، ولا الضلال بعد الهدى. ووَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي عزّا ناصرا للإسلام على الكفر، مظهرا له عليه.
وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي أي في هذه العبادات فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه. وقولك:
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي بمشاهدتك في هذه العبادات، وتخليتي عن الرياء والعجب، وتصفيتي بإخلاص العمل، وإخلاص طلب الأجر، ورؤية المنة لله، ورؤية التقصير فيها. وَأَخْرِجْنِي عنها مُخْرَجَ صِدْقٍ فلا تستعملني فيما يحبطها عليّ، ولا تردني على نفسي. وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق، أو وردت عليّ شبهة، فاجعل لي من لدنك، لا من عند فكري، سُلْطاناً أي حجة نَصِيراً ينصرني على ما ذكر. ليبقي عليّ عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود. انتهى واللفظ الكريم محتمل لذلك. ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه.
وَقُلْ أي استبشارا بقرب الظفر والنصر، وترهيبا للمشركين جاءَ الْحَقُّ(6/495)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
وهو الوعد بالسلطان النصير والإسلام ودولته وَزَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب وهلك. وهو الشرك وجولته إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت.
تنبيه:
سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة، ومبارحة مكة، وأنه تعالى أمر نبيّه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه، وإخراجه من بلده كذلك. وأن يجعل له حماية من لدنه، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء.
وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء، هو إرادة الخبر بحصول المدعوّ، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب. ولذلك عقبه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إعلاما بأن الأمر تم، والفرج جاء، ودحر الباطل ورجع إلى أصله، وهو العدم.
روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبّت على وجوهها. وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، بنحوه.
قال في (الإكليل) فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر.
ثم بيّن تعالى خسار المشركين، بإعراضهم عما يشفي أمراضهم المعنوية، وهو القرآن الكريم، ونجاح المؤمنين بالاستشفاء بهداه ورحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 82]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة. ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به، دون الكافرين. لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب. فهو لهم رحمة ونعمة. ولا يزيد الظالمين، بكفرهم وشركهم، إلا خسارا. أي إهلاكا. لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي، كفروا به، فزادهم خسارا إلى ما كانوا فيه قبل، ورجسا إلى رجسهم.
قال الشهاب: (الشفاء) استعارة تصريحية أو تخييلية. بتشبيه الكفر بالمرض.
و (من) بيانية. قدمت على المبيّن وهو (ما) اعتناء.(6/496)
تنبيه:
ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسّية لهذه الآية.
بحمل قوله شِفاءٌ على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه، وممن قرر ذلك الرازيّ. وعبارته: اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية.
وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر.
وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة. والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوّات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها. لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأعمال المحمودة. فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد- فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا- كان أولى. ويتأكد ما ذكرنا
بحديث: (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى)
وأما كونه رحمة للمؤمنين، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات والمبطلين، وهو الشفاء. ومنه مما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة، لا جرم بدأ الله تعالى، في هذه الآية، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في بحث الأدوية والأغذية المفردة، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف: (قرآن) : قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. والصحيح أن (من) هاهنا لبيان الجنس، لا للتبعيض.(6/497)
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] ، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية. وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يؤهّل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه- لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهما في كتابه. فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله. ومن لم يكفه فلا كفاه الله.
ثم قال في (حرف الكاف) : ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف. فانظره.
وذكر، قبل، في فاتحة الكتاب، من سرّ كونها شفاء، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي. وذكر أيضا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها. فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه وقد جرّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسيّة وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوّعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبّر الطبيعة ومصرّفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعاينها القلب البعيد منه، المعرض عنه. وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة، تعاونا على دفع الداء وقهره. فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبّها له وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه- أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية. ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.(6/498)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
وقد أسهب، عليه الرحمة، أيضا في كتاب (إغاثة اللهفان) في بيان تضمن القرآن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه، بما تنبغي مراجعته، ليزداد المريد علما.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 83]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى. بالإعراض عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مسّ شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان. فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة، ويشاهده قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم. فيشكر ويصبر. ويعلم أن المنعم يقدر فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا. ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعا وضجرا.
فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة. كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: 9- 11] .
قال الزمخشريّ: وَنَأى بِجانِبِهِ تأكيد للإعراض. لأن الإعراض عن الشيء أن يولّيه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره. أو أراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 84]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه، الحاصلة له من استعداد حقيقته، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة. من(6/499)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
قولهم (طريق ذو شواكل) وهي الطرق التي تتشعب منه لتشاكلها. أي تشابهها في الشكل. فسميت عادة المرء بها، لأنها تشاكل حاله. والدليل عليه قوله تعالى:
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أسدّ مذهبا وطريقة، من العاملين: عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس، فيجازيهما بحسب أعمالهما.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قال القاشاني: أي الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس، بالتشبيه ببعض ما شعروا به، والتوصيف. بل من عالم الأمر، أي الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون، لقصور إدراككم وعلمكم عنه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم- هذا ما قاله القاشانيّ- وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة، وتولد من أصل كأعضاء الجسد، حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق. فيكون الاقتصار في الجواب على قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] ، على قوله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: 24] ، إعلاما بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه، لا يعلمه إلا الله تعالى. وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان. وبملازمته له يبقى. كما أومأ إليه قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي علما قليلا تستعيدونه من طرق الحواس. وهو هذا القدر الإجماليّ.
قال الشهاب: والسؤال- على هذا- عن حقيقتها. والجواب إجماليّ بأنها من المبدعات من غير مادة. ولذا قيل: إنه من الأسلوب الحكيم. كما في قوله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: 189] ، إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم، وإنما يعلم منها هذا المقدار. فالمراد ب (الأمر) على هذا التفسير (قول كن) ولذا قالوا لمثله:
عالم الأمر. انتهى.(6/500)
قال أبو السعود عليه الرحمة: وليس هذا من قبيل قوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين.
سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق. بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكوينيّ من غير تحصل من مادة. وحكى، عليه الرحمة، قولا آخر وهو: أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلميّ لا الإيجادي، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه. أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. وعليه، ف (من) بيانية أو تبعيضية. ويكون نهيا لهم عن السؤال عنها، وتركا للبيان. وهذا رأي كثيرين. أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا من خلقه. فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود، بل غلا بعضهم وقال: إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين. إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية. فالاشتغال بالتفتيش عنه غلوّ فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان، وما كان كذلك فهو عناد.
وأجاب الخائضون في بحثها، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها. وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلا. إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم، أو لأن سؤالهم كان تعنتا. فإنها تطلق على معان: منها الراحة وبرد النسيم. وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك. فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور، قالوا: لم نرده، وإنما أردنا كذا.
ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة. ولا يتم الجواب في محل الخلاف. فأتى بالجواب مجملا على وجه يصدق على كلّ من ذلك مرموزا، ليعلمه العلماء بالله. واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم. لأن الأفهام لا تحتمله. خصوصا على طريقة الحكماء. إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري. فكيف يصدق به في حق الروح الإنسانيّ. بل قال بعض المدققين: إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه، من غير سبق مادة- وهو ما ذكرناه أولا- وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية. ومقنع لمن كان له في النزاع، إذا فصل، مطمع. وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلا له: فيكون قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي على أن(6/501)
السؤال عن حقيقتها- مطابقا. إلا أنه إجماليّ. أي من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر. وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك. إلا أنه تفصيليّ. وأيّا ما كان، فلم يترك بيانها، ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي كما قيل في الساعة، أو نحو ذلك. بل لو لم يكن السبيل لمعرفته، ولو بوجه ما، متيسّرا لكثير من الناس، لم يكن لأمره بالتفكر فيها، والتّبصر في أمرها، للاستدلال بها عليه، والتوصل بواسطة معرفتها إليه، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى- من فائدة. بل كان عبثا. فدل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: 8] ، وقوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] ، ونحو ذلك، أنها أمر تدركه العقول، وبه يكون إليه تعالى الوصول.
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى. وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما.
فمنهم الإمام ابن حزم. قال رحمه الله في كتابه (الملل والنحل) بعد سرد مذاهب شتى: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرّة بالمعاد، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان. عاقلة مميزة مصرّفة للجسد. قال: وبهذا نقول.
والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد. ثم قال: وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. فأما القرآن، فإن الله عز وجل قال: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] ، وقال تعالى:
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17] ، وقال تعالى:
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21] ، فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة. وقال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] . وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ، بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: 154] ، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: 169- 170] فصح أن الأنفس، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة، فيعذب. ومنها ما يرزق(6/502)
وينعم فرحا، ويكون مسرورا قبل يوم القيامة. ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء.
فصحّ أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان. ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس، فليست عرضا. وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به، فصح، ضرورة، أنها جسم.
وأما
من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «1»
(إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة)
وقوله صلى الله عليه وسلم «2»
، إنه (رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره)
فصح أن الأنفس مرئيّة في أماكنها،
وقوله عليه السلام «3»
(إن نفس المؤمن إذا قبضت، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا. ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا)
فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن، وهذه صفة الأجسام ضرورة.
وأما من الإجماع، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب. وهذه صفة الأجسام.
ثم قال: ومعنى قول الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.
إنما هو لأنّ الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا. وليس الروح كذلك. وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون (كن فكان) . فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد، وقد يقع الروح أيضا على غير هذا. فجبريل عليه السلام الروح الأمين. والقرآن روح من عند الله.
وقال ابن حزم أيضا، قبل ذلك، في بحث عذاب القبر: والذي نقول به في مستقر الأرواح، هو ما قاله الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ [الأعراف: 172] ، وقال تعالى:
__________
(1) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث رقم 121 عن عبد الله بن مسعود.
(2) أخرجه البخاري في: الصلاة، 1- باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، حديث 235، عن أبي ذر.
(3) أخرجه ابن ماجة في: الزهد، 31- باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث 4262، عن أبي هريرة.(6/503)
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الأعراف: 11] ، فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة، وهي الأنفس. وكذلك
أخبر عليه السلام «1»
(إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)
- وهي العاقلة، الحساسة- وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها- وهي مخلوقة مصورة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، على جميعهم السلام. وقبل أن يدخلها في الأجساد. والأجساد يومئذ تراب وماء. ثم أقرّها تعالى حيث شاء. لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة (ثمّ) التي توجب التعقيب والمهلة. ثم أقرها عز وجل حيث شاء. وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت. لا تزال يبعث منها الجملة، بعد الجملة. فينفخها في الأجساد المتولدة من المنيّ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء. كما قال تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة: 37- 38] ، وقال عز وجل:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [المؤمنون: 12- 14] ، الآية وكذلك
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم «2»
أنه (يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح)
فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء. ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا: أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة والسلام، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام. وذلك عند منقطع العناصر، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة.
وقد ذكر محمد بن نصر المروزيّ عن إسحاق بن راهويه، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه، وقال: على هذا أجمع أهل العلم.
ثم قال ابن حزم: ولا تزال الأرواح هنالك، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور. فتقوم الساعة، ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد. وهي الحياة الثانية. ويحاسب الخلق: فريق في الجنة وفريق في السعير، مخلدين أبدا. انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 2- باب الأرواح جنود مجندة، حديث رقم 1576، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب، حديث رقم 159، عن أبي هريرة. [.....]
(2) أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، 6- باب ذكر الملائكة، حديث 1514، عن عبد الله بن مسعود.(6/504)
فصل
ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، عليه الرحمة، قال في: (تفسير سورة الإخلاص) بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة. هل هي متحيزة أم لا؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت، على قول الجمهور الذين يقولون: هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحياة وغيرها. ولا جزءا من أجزاء البدن كالهواء الخارج منه. فإن كثيرا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن، أو جزء من أجزاء البدن. لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف. ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم.
ومخالف للأدلة، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام.
قال القاضي أبو بكر: أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض.
وبهذا نقول: إذا لم يعن بالروح النفس، فإنه قال: الروح الكائن في الجسد ضربان:
أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس. والنفس ريح ينبثّ به، والمراد بالنفس، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسامّ. وهذا قول الإسفرائينيّ وغيره. وقال ابن فورك: هو ما يجري في تجاويف الأعضاء. وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة.
أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها. فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة. ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة، وأن الروح عين قائمة بنفسها. تفارق البدن وتنعم، وتعذب. ليست هي البدن، ولا جزءا من أجزاءه كالنفس المذكور.
ثم الذين قالوا: إنها عين، تنازعوا: هل هي جسم متحيز؟ على قولين:
كتنازعهم في الملائكة. فالمتكلمون منهم يقولون: جسم. والمتفلسفة يقولون:
جوهر عقليّ ليس بجسم. وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات، هو مأخوذ من نفس الإنسان. فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت، وتتجرد عنه، سموها مفارقة مجردة. ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها. مفارقات ومجردات.
لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم. وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسما ولا قائما بجسم. لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير. والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلا. ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق.(6/505)
والجمهور يسمون ذلك روحا وهذا جسما- لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين. بل الجسم هو الجسد. وهو الجسم الغليظ، أو غلظه. والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة ولذلك لا تسمى جسما. فمن جعل الملائكة والأرواح جسما بالمعنى اللغويّ، فما أصاب في ذلك. وأما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك. وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه. وما قيل إنه هنا وهناك وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك.
ثم قال عليه الرحمة: وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول، وليس داخل العالم ولا خارجه- هو كلام باطل عند جماهير العقلاء. ولا سيما من يقول منهم، كابن سينا وأمثاله: إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية. وإنما تعرف الأمور الكلية. فإن هذا مكابرة ظاهرة. فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها.
فكيف يقال: إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية!؟ وكذلك قولهم:
إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف كتدبير الملك لمملكته- من أفسد الكلام. فإن الملك يدبر أمر مملكته، فيأمر وينهى. ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم.
والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه، وليس كذلك الروح والبدن. بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به. ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة. فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية. فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها.
وليس كذلك الروح والبدن. بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره.
وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل. فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته. ولا جريانها في البدن كجريان الدم.
فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر. بخلاف الروح والبدن. لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه. وتخرج منه وقت الموت. وتسلّ منه شيئا فشيئا. فتخرج من البدن شيئا فشيئا. لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبّرها. والناس لما لم يشهدوا(6/506)
لها نظيرا، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها. وهذا تنبيه لهم على رب العالمين، حيث لم يعرفوا حقيقته، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى. وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله. فإن الروح، التي هي بعض عبيده، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان. وتسجد تحت العرش. وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية. والإنسان. في نومه، يحس بتصرفات روحه تصرفات تؤثر في بدنه. فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات. فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية. وحركتها إلى العلوّ حركة انتقال من مكان. وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك. انتهى.
فصل
وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله: إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحسّ في هذه الأيام، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى. لا يصل العقل إلى إدراك كنهها. وإنها متصلة بهذا الجسد الطينيّ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه. وإنه كغلاف للسرّ الإلهي المسمى روحا.
ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح (هي صورة كالجسد) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص، إلى عالم غير هذا العالم. ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة (رونتجن) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له. وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعيّ فائدة كبرى. ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، رؤية حقيقية. انتهى. ملخصا.
تنبيه:
جميع ما قدمناه، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان.
قال ابن القيم في كتاب (الروح) : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف.
وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم. بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة،(6/507)
وهو ملك عظيم.
وقد ثبت في الصحيح «1» عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة، وهو متكئ على عسيب، فمررنا على نفر من اليهود. فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح؟ وقال بعضهم: لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه. وقال بعضهم: نسأله. فقام رجل فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلمت أنه يوحى إليه. فقمت. فلما تجلى عنه قال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية،
ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي.
وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس. وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم. فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة. فإن قيل: فقد روى أبو الشيخ عن السدّيّ عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبيّ. وليس على ديننا. ولا على دينكم. قالوا: فمن تبعه؟ قالوا: سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه. وأما أشراف قومه فلم يتبعوه. فقالوا: إنه قد أظلّ زمان نبيّ يخرج، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبيّ صادق. وإن لم يخبركم بهن فهو كذّاب. سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم. فإن قال لكم: هي من الله، فقولوا: كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه.؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية. يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله.
قيل: مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السديّ عن أبي مالك. وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد، كلها تخالف سياق السديّ.
وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: مر النبيّ صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود. وأنا أمشي معه. فسألوه عن الروح، قال فسكت.
فظننت أنه يوحى إليه. فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ يعني اليهود قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... الآية. وكذلك هي في قراءة عبد الله. فقالوا كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل. رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة.
وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: العلم، 47- باب قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. حديث رقم 106.(6/508)
أتت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. فأنزل الله عز وجل الآية
. فهذا يدل على ضعف حديث السدّي، وأن السؤال كان بمكة، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود. ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له، وما أنزل الله عليه. وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب. فإما أن تكون من قبل الرواة، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها. ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة، ثم قال: والروح في القرآن على عدة أوجه:
أحدها: الوحي، كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ، وقوله: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] ، وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح.
الثاني: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين، كما قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] .
الثالث: جبريل كقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193- 194] ، وقال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 97] ، وهو روح القدس، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102] .
الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله. وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ: 38] ، وإنها الروح المذكورة في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر: 4] .
الخامس: المسيح عيسى ابن مريم. قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] ، أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس، قال تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] ، وقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2] ، وقال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ، وقال: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93] ، وقال:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 7- 8] ، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .(6/509)
وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح. انتهى.
قال ابن كثير: رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي، أن هذه الآية مدينة. وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك المدينة. مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ انتهى.
وقد روى ابن جرير عن قتادة: أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام.
وحكاه عن ابن عباس.
أقول: الذي أراه متعينا في الآية، لسابقها ولا حقها، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن، وهو قريب من قول قتادة. ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنّة بكونه شفاء ورحمة، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا: قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقال تعالى:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] فكانوا إذا سمعوا الروح، وصدعوا بالإيمان به، يتعنتون في السؤال عنه، استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله، وأنه روح من لدنه، وإلقاء من أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: 53] وقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] ، أي بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته.
وذلك لأنهم قوم جاهليون، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة، للأمّية والجهالة الفاشيتين فيهم. كما أشير إليه بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم. وما هو في جنب معلومات لا تحصى، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب. والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف، يفسر بعضه بعضا.
وجميع ما ذكره المتقدمون، غير ما ذكرناه، جري مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة. وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود، لأنها لما كان لها وجوه من المعاني، ومنها ما سألوا عنه، ألقموا بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به، بقوله سبحانه:(6/510)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 86]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86)
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين: وإنما عبر عنه بالموصول، تفخيما لشأنه. ووصفا له بما هو في حيز الصلة، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي من يتوكل علينا برده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 87]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مشاء الذهاب به بل تولت حفظه.
قال الزمخشريّ: وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنّتين والقيام بشكرهما. وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي تفضله بالإيحاء والتعليم الربانيّ، والاصطفاء للرسالة، ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل، وأنه وحي ربانيّ، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 88]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقت عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا. وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك، مع طول الزمن، دليل قاطع على أنه ليس ما اعتيد صدوره عن البشر، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 89]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي رددنا وكررنا وبينّا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي(6/511)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
من كل معنى، هو كالمثل في غرابته وحسنه، ليتقرر ويرسخ في نفوسهم، ويزدادوا تدبرا وإذعانا. فكان حالهم على العكس، إذ لم يزدادوا إلا كفرا، كما قال سبحانه:
فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا.
ولما تبين إعجاز القرآن، وأنه الآية الكبرى، ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي تشقق لنا من أرض مكة عيونا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي بستان منهما فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح، لأنهم كانوا يردون بلاد الشام والعراق، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار.
قال ابن جرير فيما رواه، إنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا. ولا أقل مالا. ولا أشد عيشا منا. فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا.
وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق. ثم زادوا في الاقتراح فقالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا بالعذاب أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي ذهب: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي وحده حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أي كتابا من السّماء، فيه تصديقك قُلْ سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها له. والمراد به التعجب من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم. ولم يمكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها.(6/512)
تنبيه:
لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه، وبحكمته وجلاله. وبيان ذلك- كما في كتاب (لسان الصدق) - أن ما اقترحه قريش فيها (منه) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض. وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر، لمصالح يعلمها هو جلت عظمته. ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء. مع أن مثله لا تثبت به النبوة. فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء (ومنه) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً فإن إنزال السماء قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره. والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم (ومنه) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون. فلا يجوز طلبه، وليس من أنواع المعجز (ومنه) ما لا يصلح للأنبياء، ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ فإن هذا غير صالح للأنبياء. وليس بمعجز، لحصول مثله عند أشباه فرعون (ومنه) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ فيه- على ما ذكر في الرواية- من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد. فإن محمدا رسولي فآمنوا به.
والصعود في السماء لا مرية فيه، لأنهم قالوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ فلو كان، لكان عبثا. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل. والوحي مختص بالأنبياء، والكفار عنه معزولون. فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا. وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها، أو لأمر آخر. اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا. على أنهم بعد تلك الأقوال كلها قال قائل منهم:
وأيم الله! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأنعام: 111] ، فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه، هو ما أجاب به صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول. عليّ أن أبلغكم رسالات ربي(6/513)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
وأنصح لكم. وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إليّ. وذلك ما تحديتكم بالإتيان بسورة مثله في الهداية والإصلاح. كما أمرني ربي. ولا أقترح عليه، سبحانه، ما لا يجوز أن يكون. أو ما يكون فعله عبثا، لخلوّه عن الفائدة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 94]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكى تعنتهم أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي إلّا تعجبهم من بعثة إنسان رسولا. بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. كما قال تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] والآيات في ذلك كثيرة. ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته. حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته، لكانت رسلهم منهم، جريا على قضية الحكمة.
فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 95]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ أي على أقدامهم كما يمشي الإنس مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين في الأرض قارّين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد. ولما كنتم أنتم بشرا، بعثنا فيكم رسلا منكم. كما قال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] .
تنبيه:
في الآية إشارة إلى حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة. وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك، فمنّ على الخلق بالرسل وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة، وخلصهم من التخبط، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.(6/514)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 96]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي على أني بلغت ما أرسلت به إليكم، وإنكم كذبتم وعاندتم. وقرر الرازيّ أن المعنيّ بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن. أي كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز، شاهدا على صدقي. ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم، معشر المشركين، بعد هذا، يجب أن يكون الرسول ملكا، تحكم فاسد.
وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وما بعده من التعليل. ثم قال أبو السعود. وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة، وإبانة للمباينة.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي عالما بأحوالهم. فهو مجازيهم. وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 97]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ أي يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أي أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهره، وإنما أوثر ضمير الجماعة في (لهم) حملا على معنى (من) وأوثر في ما قبله الإفراد، حملا على اللفظ. وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق، وقلة سالكيه، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضّلّال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها كقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] وقال القاشانيّ: أي ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا. كقوله (كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون) إذ (الوجه) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها. أي على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان. وقوله تعالى عُمْياً وَبُكْماً(6/515)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
وَصُمًّا
أي كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه- فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72]- كذا في (الكشاف) مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها، بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً أي توقدا. بأن نبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة.
قال الزمخشريّ: كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها. لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث. ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.
وقد دل على ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 98]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي لمحيون خلقا جديدا، بإعادة الروح فينا، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاما.
بل رقت عظامنا فصارت رفاتا. ثم احتج تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 99]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)
أَوَلَمْ يَرَوْا أي يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي يوم القيامة. ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم. والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس. لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن. كما قال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء. بل هي أهون.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل (مثل) هنا كناية عنهم. كقوله: (مثلك لا(6/516)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
يبخل) مع أنه صحيح. ولو جعل خلق مثلهم عبارة عن الإعادة، كان أحسن وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها. كما قال تعالى: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود:
104] ، فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل: إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم.
لطيفة:
قال الشهاب: هذه الجملة- جملة وجعل إلخ- معطوفة على جملة أَوَلَمْ يَرَوْا لأنها وإن كانت إنشائية، فهي مؤولة بخبرية- كما في (شرح الكشاف) إذ معناها: قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة وَجَعَلَ لَهُمْ أي لإعادتهم أَجَلًا وهو يوم القيامة يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلا. فيجب التصديق به. أو جعل لهم أجلا، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة. ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثا. فلا بد أن يجزى بما عمله في هذا الدار. فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين، لفظا ومعنى ولا رَيْبَ فِيهِ ظاهر على الثاني. وعلى الأول معناه: لا ينبغي إنكاره لمن تدبر. وقيل إنها معطوفة على قوله: يَخْلُقَ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 100]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي رزقه وسائر نعمه على خلقه: إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق. مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا. لأن هذا من طباعكم وسجاياكم. ولهذا قال سبحانه وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية بلغت بالمشركين، من الوصف بالشح، الغاية التي لا يبلغها الوهم، كما قاله الزمخشريّ.
الثاني: ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه لأن المرء إما ممسك أو منفق. والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل، إما دنيويّ(6/517)
كعوض ماليّ، أو معنويّ كثناء جميل، أو خدمة واستمتاع، كما في النفقة على الأهل. وما كان لعوض ماليّ كان مبادلة لا مباذلة. أو هو بالنظر إلى الأغلب، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدّنا في زماننا ... عن حديث المكارم
من كفى الناس شرّه ... فهو في جود حاتم
أفاده الشهاب.
وقال ابن كثير: إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو. إلا من وفّقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له. كما قال تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 19- 22] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز.
الثالث: ذكر هذه الآية إثر ما قبلها، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة، وسعة كرمه وجوده وإحسانه. كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السموات والأرض، كي تنجلي لهم قدرته العظمى، وسعة خزائنه الملأى. فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقية ما يدعوهم إليه.
وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان، تذكيرا له بنقصه وضعفه، وإشفاقه وحرصه. ليعلم أنه غير مخلوق سدى، يخلّى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه. والمعنى: أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله، مما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه، لضننتم بها. مما يدلكم على أنه هو مالك الملك، وأنكم مسخّرون لأمره.
وهذه الآية كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله، لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير.
وقد جاء في الصحيحين «1» : (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه) .
وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 19- باب حدثنا معاذ بن فضالة حديث 2012، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم 36 و 37.(6/518)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 101]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به. وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ.. الآية، فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي عنها: فإنهم يعلمونها، مما لديهم من التوراة. فيظهر للمشركين صدقك، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب. لأن الأدلة إذا تظاهرت، كان ذلك أقوى وأثبت إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فذهب إلى فرعون وأظهر آياته، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه. فقال له فرعون ما قال. وقوله مَسْحُوراً بمعنى سحرت فخولط عقلك. أو بمعنى ساحر، على النسب أو حقيقة. وهو يناسب قلب العصا ثعبانا.
وعلى الأول هو كقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 102]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ أي يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي بيّنات مكشوفات لا سحر ولا تخيّل. ولكنك معاند مكابر. ونحوه وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] ، (والبصائر) جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بيّنة. أو المراد الحجج، بجعلها كأنها بصائر العقول. وتكون بمعنى عبرة وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 103 الى 104]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
فَأَرادَ أي فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فرقا منه. أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال.
والضمير لموسى وقومه. و (الأرض) أرض مصر. أو الأرض التي أذن لهم بالمسير(6/519)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
إليها وسكناها وهي فلسطين، وقوله تعالى: فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فحاق به مكره. لأنه تعقبهم بجنوده بعد ما أذن لهم بالسفر من مصر إلى فلسطين، ليرجعهم إلى عبوديته، فدمره الله تعالى وجنوده بالإغراق وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ وهي أرض كنعان، بلد أبيهم إسرائيل التي وعدوا بها.
قال ابن كثير: في هذا بشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة. وكذلك وقع فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء: 76] . ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة، على أشهر القولين، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما. كما أورث الله القوم، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل، مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 59] وقال هاهنا وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ وقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جمعا مختلطين أنتم وعدوّكم. ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم. ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى. وبيّن اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 106]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي بالحقيقة أنزلناه كتابا من لدنّا فأين تذهبون؟ كما قال تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: 166] ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي متلبسا بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه. وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل. كقوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي نزلناه مفرقا منجما.
وقرئ بالتشديد. والقراءتان بمعنى لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على مهل وتؤدة وتثبت، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي من لدنّا على حسب الأحوال والمصالح.(6/520)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 107 الى 109]
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.
قال الزمخشريّ: أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه. وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه. وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم. فإذا تلي عليهم خرّوا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه.
وهو المراد بالوعد في قوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا.
فإن قلت إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، وأن يكون تعليلا ل (قل) على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطييب نفسه. كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأول: إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه. وإنما ذكر الذقن، وهو مجتمع اللحيين، لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه، الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى، إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في (خرّ لذقنه ولوجهه) قال:
فخر صريعا لليدين وللفم؟
قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور. واختصه به. لأن اللام للاختصاص.
فإن قلت: لم كرر يخرون للأذقان؟ قلت: لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين. انتهى.
تنبيه:
دل نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين، على استحباب البكاء والتخشع.(6/521)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
فإن كل ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله تعالى بها من أحبه من عباده، يلزم الاتصاف بها. كما أن ما ذمّ منها من مقته منهم، يجب اجتنابه.
وقد عدّ الإمام الغزاليّ في (الإحياء) من آداب ظاهر التلاوة البكاء. قال: البكاء مستحب مع القراءة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1»
(اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه. وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن. فمن الحزن ينشأ البكاء، ووجه إحضار الحزن، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود. ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية، فليبك على فقد الحزن والبكاء. فإن ذلك أعظم المصائب. انتهى.
وذكر السيوطيّ في (الإكليل) أن الشافعيّ استدل بقوله تعالى وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا الآية، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ردّ لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن، وإذن بتسميته بذلك. أي سموه بهذا الاسم أو بهذا. و (أو) للتخيير. أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن. وقد وضع موضعه قوله فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه. إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين. فأقيم فيه دليل الجواب مقامه، وهو أبلغ.
ومعنى كونها أحسن الأسماء، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم. وهذه الآية كآية وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] ، وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك. بتقدير مضاف، أو تسمية القراءة صلاة، لكونها من أهم أركانها. كما تسمى الصلاة ركعة وَلا تُخافِتْ بِها أي تسرّ وتخفي
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: الإقامة، 176- باب في حسن الصوت بالقرآن. حديث 1337 عن سعد بن أبي وقاص.(6/522)
وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي بين الجهر والمخافتة، أمرا وسطا. فإن خير الأمور أوساطها.
قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالسبيل، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدرون، ويوصلهم إلى المطلوب.
روى الشيخان «1»
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بقراءته.
فإذا سمعها المشركون لغو وسبوا. فأمر بأن يتوسط في صوته، كيلا يسمع المشركون، وليبلغ من خلفه قراءته.
ثم بيّن سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال، بقوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم يكن علة لموجود من جنسه، لضرورة كون المعلول محتاجا إليه، ممكنا بالذات، معدوما بالحقيقة.
فكيف يكون من جنس الموجود حقّا، الواجب بذاته من جميع الوجوه؟ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك.
وإلا لكانا مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الآخر، لا بدّ وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة. فلزم تركبهما، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين. وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير، لم يكن أحدهما إلها. وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه، فلا شريك له. وإن استقلا جميعا، لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد، إن فعلا معا. وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر، رضي بفعله أو لم يرض. أفاده القاشانيّ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به. أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيما جليلا.
تمّ ما علقناه على هذه السورة الكريمة، ضحوة السبت في 26 شوال سنة 1323 في سدّة جامع السنانية بدمشق الشام. يسر الله لنا بعونه الإتمام، والحمد لله وحده.
تم الجزء السادس، ويليه، إن شاء الله تعالى، الجزء السابع، وفيه تفسير:
(18- سورة الكهف، و 19- سورة مريم، و 20- سورة طه، و 21- سورة الأنبياء، و 22- سورة المؤمنون، 23- سورة النور، 24- سورة الفرقان، و 25- سورة الشعراء، و 26- سورة النمل) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، 17- سورة الإسراء، 14- باب ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها، حديث 2020 عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 145.(6/523)
فهرس الجزء السادس
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل(6/525)
فهرس الجزء السادس سورة يونس الآية 1 4 الآيتان 2 و 3 5 الآية 4 6 الآية 5 و 6 7 الآيات 7- 10 8 الآية 11 9 الآيات 12- 14 10 الآية 15 11 الآية 16 12 الآية 17 13 الآية 18 14 الآيتان 19 و 20 15 الآيتان 21 و 22 16 الآيتان 23 و 24 17 الآيتان 25 و 26 19 الآيتان 27 و 28 20 الآيتان 29 و 30 21 الآيتان 31 و 32 22 الآيتان 33 و 34 23 الآيتان 35 و 36 24 الآيتان 37 و 38 26 الآية 39 27 الآيات 40- 44 28 الآيات 45- 47 29 الآيتان 48 و 49 30 الآية 50 31 الآية 51 32 الآيتان 52 و 53 33 الآيات 54- 56 34 الآيتان 57 و 58 35 الآيات 59- 61 36 الآيات 62- 64 37 الآيتان 65 و 66 46 الآيتان 67 و 68 47(6/527)
الآيات 69- 71 49 الآيتان 72 و 73 50 الآيات 74- 77 51 الآيات 78- 81 53 الآيات 82- 84 54 الآيتان 85 و 86 55 الآيتان 87 و 88 56 الآيتان 89 و 90 57 الآيتان 91 و 92 58 الآية 93 61 الآية 94 62 الآيات 95- 98 63 الآية 99 65 الآيات 100- 102 66 الآيات 103- 105 67 الآيتان 106 و 107 68 الآية 108 69 الآية 109 70 سورة هود الآيتان 1 و 2 72 الآيات 3- 5 73 الآيتان 6 و 7 74 الآية 8 76 الآيات 9- 11 77 الآية 12 78 الآيتان 13 و 14 80 الآيتان 15 و 16 82 الآية 17 83 الآيتان 18 و 19 84 الآيات 20- 23 85 الآيات 24- 26 86 الآية 27 87 الآيتان 28 و 29 89 الآيتان 30 و 31 90 الآيات 32- 34 91 الآيات 35- 37 92 الآيات 38- 40 93 الآية 41 94 الآية 42 95 الآية 43 96 الآية 44 97 الآية 45 101(6/528)
الآية 46 102 الآيتان 47 و 48 103 الآيات 49- 51 106 الآيتان 52 و 53 107 الآيتان 54 و 55 108 الآيتان 56 و 57 109 الآيتان 58 و 59 110 الآيتان 60 و 61 111 الآيتان 62 و 63 112 الآيات 64- 67 113 الآيتان 68 و 69 114 الآيات 70- 72 115 الآيتان 73 و 74 116 الآيتان 75 و 76 117 الآية 77 118 الآية 78 119 الآيتان 79 و 80 120 الآية 81 121 الآيات 82- 84 122 الآية 85 123 الآيتان 86 و 87 124 الآية 88 125 الآيات 89- 91 126 الآيتان 92 و 93 127 الآيات 94- 96 128 الآيات 97- 99 129 الآيات 100- 103 130 الآيات 104- 108 131 الآية 109 132 الآيتان 110 و 111 133 الآيتان 112 و 113 134 الآية 114 136 الآية 115 138 الآية 116 139 الآيتان 117 و 118 140 الآية 119 141 الآيتان 120 و 121 142 الآيتان 122 و 123 143 سورة يوسف الآيتان 1 و 2 145 الآيتان 3 و 4 146 الآية 5 147(6/529)
الآية 6 148 الآية 7 153 الآية 8 154 الآية 9 155 الآيات 10- 12 156 الآيات 13- 15 157 الآيتان 16 و 17 158 الآية 18 159 الآية 19 161 الآية 20 162 الآيتان 21 و 22 163 الآية 23 164 الآية 24 166 الآيتان 25 و 26 169 الآيتان 27 و 28 170 الآيتان 29 و 30 171 الآية 31 172 الآيتان 32 و 33 173 الآيات 34- 36 174 الآية 37 175 الآيتان 38 و 39 176 الآية 40 177 الآية 41 178 الآية 42 179 الآيتان 43 و 44 180 الآية 45 181 الآيات 46- 49 182 الآية 50 184 الآية 51 185 الآيتان 52 و 53 186 الآية 54 190 الآية 55 191 الآية 56 192 الآيتان 57 و 58 193 الآيات 59- 62 194 الآيات 63- 65 195 الآية 66 196 الآية 67 197 الآية 68 198 الآيتان 69 و 70 202 الآيات 71- 73 203 الآيات 74- 76 204(6/530)
الآيتان 77 و 78 205 الآيتان 79 و 80 206 الآيات 81- 83 208 الآية 84 209 الآيات 85- 87 211 الآية 88 212 الآية 89 213 الآيات 90- 92 214 الآية 93 215 الآية 94 217 الآيات 95- 97 218 الآيتان 98 و 99 219 الآية 100 220 الآية 101 222 الآية 102 224 الآية 103 225 الآيتان 104 و 105 226 الآية 106 227 الآية 107 231 الآية 108 232 الآية 109 234 الآية 110 235 الآية 111 237 سورة الرعد الآية 1 254 الآية 2 255 الآية 3 256 الآية 4 258 الآيتان 5 و 6 259 الآية 7 261 الآيتان 8 و 9 262 الآية 10 263 الآية 11 264 الآيتان 12 و 13 269 الآية 14 271 الآية 15 272 الآية 16 273 الآية 17 275 الآيات 18- 20 279 الآيات 21- 24 280 الآيات 25- 27 281 الآية 28 282(6/531)
الآيتان 29 و 30 283 الآية 31 284 الآيتان 32 و 33 286 الآيتان 34 و 35 288 الآيتان 36 و 37 289 الآيتان 38 و 39 290 الآيتان 40 و 41 292 الآيتان 42 و 43 294 سورة إبراهيم الآيات 1- 3 297 الآية 4 298 الآية 5 299 الآية 6 300 الآيتان 7 و 8 301 الآية 9 302 الآية 10 304 الآية 11 305 الآيات 12- 14 306 الآية 15 307 الآيات 16- 18 308 الآيتان 19 و 20 309 الآية 21 310 الآية 22 311 الآيات 23- 25 313 الآيتان 26 و 27 314 الآيات 28- 30 315 الآية 31 316 الآيات 32- 34 317 الآيتان 35 و 36 318 الآيتان 37 و 38 319 الآيات 39- 42 320 الآيتان 43 و 44 321 الآيات 45- 47 322 الآيتان 48 و 49 323 الآية 50 324 الآيتان 51 و 52 326 سورة الحجر الآيات 1- 3 328 الآيات 4- 8 329 الآيات 9- 13 330 الآيتان 14 و 15 331 الآيات 16- 19 332(6/532)
الآيات 20- 23 333 الآيات 24- 27 334 الآيات 28- 38 335 الآيات 39- 48 336 الآيات 49- 56 337 الآيات 57- 64 338 الآيات 65- 77 339 الآيات 78- 81 342 الآيات 82- 87 343 الآيات 88- 90 344 الآيات 91- 93 345 الآيات 94- 96 346 الآيات 97- 99 347 سورة النحل الآيتان 1 و 2 350 الآيات 3- 6 351 الآيتان 7 و 8 352 الآية 9 354 الآيتان 10 و 11 355 الآية 12 356 الآية 13 و 14 357 الآيتان 15 و 16 359 الآيتان 17 و 18 360 الآيات 19- 23 361 الآيتان 24 و 25 362 الآيتان 26 و 27 363 الآيتان 28 و 29 364 الآيات 30- 32 365 الآيات 33- 36 366 الآيات 37- 40 373 الآية 41 374 الآيات 42- 44 375 الآيات 45- 48 376 الآيات 49- 51 377 الآيات 52- 55 378 الآيتان 56 و 57 379 الآيات 58- 60 380 الآيتان 61 و 62 381 الآيات 63- 66 382 الآية 67 383 الآيتان 68 و 69 384 الآيتان 70 و 71 388(6/533)
الآيات 72- 74 389 الآية 75 390 الآية 76 391 الآيات 77- 79 395 الآية 80 397 الآية 81 398 الآيات 82- 86 399 الآية 87 400 الآيتان 88 و 89 401 الآية 90 402 الآية 91 403 الآية 92 404 الآيتان 93 و 94 405 الآيات 95- 97 406 الآيات 98- 100 407 الآيتان 101 و 102 408 الآية 103 409 الآيتان 104 و 105 410 الآيات 106- 109 411 الآية 110 414 الآيات 111- 113 415 الآيات 114- 117 417 الآيتان 118 و 119 419 الآيات 120- 123 420 الآيتان 124 و 125 422 الآية 126 423 الآيتان 127 و 128 425 سورة الإسراء الآية 1 427 الآيتان 2 و 3 440 الآيتان 4 و 5 441 الآيات 6- 8 442 الآية 9 445 الآيتان 10 و 11 446 الآية 12 447 الآيات 13- 15 448 الآية 16 450 الآية 17 451 الآيات 18- 22 452 الآيتان 23 و 24 453 الآيات 25- 27 455 الآية 28 456(6/534)
الآيتان 29 و 30 457 الآية 31 458 الآيات 32- 34 459 الآيات 35- 37 460 الآيتان 38 و 39 461 الآيات 40- 42 462 الآيتان 43 و 44 463 الآية 45 466 الآيات 46- 48 467 الآيات 49- 52 468 الآيات 53- 55 469 الآيتان 56 و 57 470 الآيتان 58 و 59 471 الآية 60 472 الآيتان 61 و 62 473 الآيات 63- 65 474 الآية 66 475 الآيات 67- 69 476 الآية 70 477 الآيتان 71 و 72 478 الآيتان 73 و 74 479 الآية 75 480 الآيتان 76 و 77 482 الآية 78 483 الآية 79 490 الآيتان 80 و 81 495 الآية 82 496 الآيتان 83 و 84 499 الآية 85 500 الآيات 86- 89 511 الآيات 90- 93 512 الآيتان 94 و 95 514 الآيتان 96 و 97 515 الآيتان 98 و 99 516 الآية 100 517 الآيات 101- 104 519 الآيتان 105 و 106 520 الآيات 107- 109 521 الآيتان 110 و 111 22(6/535)
[المجلد السابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
ويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايميّ: سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله، من الأمن الكليّ عن الأعداء، والإغناء الكليّ عن الأشياء، والكرامات العجيبة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية، وقيل إلا أولها إلى قوله: جُرُزاً [الكهف: 1- 8] ، وقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...
[الكهف: 28] الآية، وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الكهف: 107- 110] ، إلى آخر السورة.
واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.(7/3)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
القول في تأويل قوله تعالى [سورة الكهف (18) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قدّمنا أن كثيرا ما تفتح السور وتختم بالحمد، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] ، وتعليما للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه. وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العليّة، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية، تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي الكتاب الكامل الغنيّ عن الوصف بالكمال، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور، مع أن حقه التقديم عليه، ليتصل به قوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج إذ جعله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 2 الى 3]
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3)
قَيِّماً أي قيّما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة،(7/4)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
مهيمنا عليها. أو متناهيا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له، حسبما تنبئ عنه الصيغة.
وانتصابه بمضمر تقديره (جعله) كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.
تنبيه:
ذهب القاشانيّ أن الضمير في (له) وما بعده لقوله: عَبْدِهِ قال: أي لم يجعل لعبده زيغا وميلا. وجعله قيّما، يعني مستقيما، كما أمر بقوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] ، أو قيّما بأمر العباد وهدايتهم، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه، عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم، صلوات الله عليه، أمة. وهذه القيّميّة أي القيام بهداية الناس، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة، انتهى.
والأظهر الوجه الأول.
وقوله تعالى لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي لينذر من خالفه ولم يؤمن به، عذابا شديدا عاجلا أو آجلا. و (البأس) : القهر والعذاب، وخصصه بقوله مِنْ لَدُنْهُ إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق ب (أنزل) أو بعامل (قيما) وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي به. وقال القاشاني: أي الموحدين، لكونهم في مقابلة المشركين، الذين قالوا اتخذ الله ولدا. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي من الخيرات والفضائل أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة أَجْراً حَسَناً وهو الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 4]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهم مشركو العرب في قولهم (الملائكة بنات الله) والنصارى في (دعواهم المسيح ابن الله) وخصهم بالذكر، وكرر الإنذار متعلقا بهم، استعظاما لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة، في الكفر على أقبح الوجوه.(7/5)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 5]
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ما لهم بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط، وتوهم كاذب، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين، ويقين. ويؤيده قوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً أي ما أكبرها كلمة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات، لا يماثله الوجود الممكن. والولد هو المماثل لوالده في النوع، المكافئ له في القوة. وجملة (تخرج من أفواههم) صفة ل (كلمة) تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب: لأن المعنى: كبر خروجها. أي عظمت بشاعته وقباحته، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي، والوجدان الذوقي على إحالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 6]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي مهلك نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً أي لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسفا عليهم.
و (الأسف) فرط الحزن والغضب. وفي (العناية) : لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته.
فهمّ بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك- كما قال القاشاني- أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه.
ولما كان صلّى الله عليه وسلّم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] ، وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقيّ. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى:(7/6)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 7]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ أي من الحيوان والنبات والمعادن زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها، وأعصى لهواها أي رضاي، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 8]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي ترابا مستويا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار، لا شيء فيه يختلف، ربي ووهادا. أي نفنيها وما عليها ولا نبالي.
وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 9]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفا بالمصدر مبالغة ومِنْ آياتِنا حال منه وأَمْ للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي أنهم من بين آياتنا آية عجيبة.
وجعلها منقطعة مقدرة ب (بل والهمزة، والاستفهام للإنكار) - أي إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى- فيه بعد. لأن سياق النظم الكريم، أعني سوقها مفصلة منوها بها، ما هو إلّا لتقرير التعجب منها. والْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. والرَّقِيمِ اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي، أقوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 10]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي خوفا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان(7/7)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم فَقالُوا رَبَّنا أي من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار رَشَداً وهو توحيدك وعبادتك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 11]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11)
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير، ولا دعوة الداعي الخبير، في الكهف سنين ذوات عدد. أي كثيرة أو معدودة. قال الشهاب: (ضربنا) مستعار استعارة تبعية لمعنى أنمناهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إمّا من (ضربت القفل على الباب) أو (ضربت الخباء على ساكنه) شبّه، لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه. وقيل إنه استعارة تمثيلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 12]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم إيقاظا يشبه بعث الموتى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاء، أي إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدوّ، فيتمّ لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 13]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها.
و (الحق) الأمر المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بوحدانيته إيمانا يقينيا علميّا على طريق الاستدلال، مع اتفاق قومهم على الشرك وَزِدْناهُمْ هُدىً أي بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير: الفتية- وهم الشباب- أقبل(7/8)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
للحق وأهدى للسبيل، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به عيسى عليه السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفرّوا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل: دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى. فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ فقالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا:
من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.
واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم ف قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً هذا ما أورده ابن جرير أولا، وفيه كفاية عن غيره.
وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.
وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها (طرسوس) من أعمال طرابلس الشام.
وفيها من الآثار القديمة العهد، في جبل بها، ما يزعم أهلها زعما متوارثا، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم. ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 14]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على(7/9)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات الحسية والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: إِذْ قامُوا أي بين يديه غير مبالين به. و (إذ) ظرف ل (ربطنا) . قال الشهاب: (الربط) على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشدّ المعروف. أي استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ
[الأحزاب: 10] ، فشبه القلب المطمئن لأمر، بالحيوان المربوط في محلّ. وعدّى (ربط) ب (على) وهو متعدّ بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم فَقالُوا رَبُّنا الذي نعبده رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه لَنْ نَدْعُوَا أي نعبد مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 15]
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على عبادتهم أو إلهيتهم أو تأثيرهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني: دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23] ، أي أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا مساوي له في الظلم والكفر.
إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 16]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي وإذ اعتزلتم القوم،(7/10)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
بترك متابعتهم، من إفراط ظلمهم، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه، فلا يؤذونكم، ولا تخافوا، من الكون فيه، فوات الطعام والشراب، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ما يغني عن الطعام والشراب، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وهو اختيار جانبه على جانبكم مِرفَقاً أي ما تنفعون به. قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.
تنبيه:
زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال، إذا اضطهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة، الإمام الغزالي حيث قال في (إحيائه) : وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي ولا ريب في مشروعيته فرارا من الفتن.
فقول السيوطي في (الإكليل) : في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان- كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب، فافهم ولا تغل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 17]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ أي صعدت عند طلوعها تَتَزاوَرُ أي تميل عَنْ كَهْفِهِمْ أي بابه ذاتَ الْيَمِينِ أي يمين الكهف. وَإِذا غَرَبَتْ أي هبطت للغروب تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب(7/11)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب: (تقرضهم) من القرض بمعنى القطع. أي قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.
وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا.
من (القرض) وهو القطع. أي تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي إلى الحق بالتوفيق له فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ أي يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا أي ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال مُرْشِداً أي يهديه إلى ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 18]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ خطاب لكل أحد. أي تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت.
قال ابن كثير: ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وأَيْقاظاً جمع يقظ ويقظان. ورُقُودٌ جمع راقد. وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلا لا يجمع على فعول- مردود بما نص عليه النحاة كما صرّح به في (المفصّل) و (التسهيل) .(7/12)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
وَنُقَلِّبُهُمْ أي في رقدتهم ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي لئلا تتلف الأرض أجسادهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير: وهذا فائدة صحبة الأخيار. فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل إنه كان كلب صيد لهم، وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب.
ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك كما قال ابن كثير. لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 19]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادّكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير: وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرّموا به. أفاده الزمخشري.
وبه يتبيّن أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أي رقدتم. اعترافا بجهل(7/13)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال ابن كثير: كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايميّ: فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالوليّ يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري:
جواب مبنيّ على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب.
وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.
قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ أي المأخوذة للتزود. و (الورق) الفضة إِلَى الْمَدِينَةِ أي التي فررتم عنها فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أطيب. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ أي في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 20]
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يطلعوا على مكانكم يَرْجُمُوكُمْ أي يقتلوكم بالحجارة أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشانيّ: ظهور العوامّ، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم- ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصلوا قولهم (فابعثوا) بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.
ورأى المهايمي أن قولهم فَابْعَثُوا من تتمة حديث المدة. قصد به(7/14)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ قالوا هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم. بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.
الثانية- قال في (الإكليل) : قوله تعالى فَابْعَثُوا الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك.
قال الكيا: وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة، وإن تفاوتوا في الأكل.
الثالثة- دلّ قوله تعالى عنهم فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبّا الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصّل في قوانين الصحة.
الرابعة- قال الرازي: (الرجم) بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هود: 91] ، وقوله: أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان: 20] ، وأصله الرمي، أي بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 21]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث وَأَنَّ السَّاعَةَ أي الموعود فيها بالبعث لا رَيْبَ فِيها إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي على(7/15)
باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات المشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، و (إذ) على ما يظهر لي، ظرف ل (اذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم.
وجعله ظرفا ل أَعْثَرْنا أو لغيره مما ذكروا- ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.
وقوله تعالى فَقالُوا تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة. إما من الله، ردّا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم.
كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيّهم إليه تعالى قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً أي نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: حكي في القائلين ذلك قولان (أحدهما) أنهم المسلمون منهم (والثاني) أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «1» : (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)
يحذّر ما فعلوا. انتهى.
وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبيّ والوليّ مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: 23] ، قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرّحوا بأن القصد
__________
(1) أخرجه البخاري في: الصلاة، 55- باب حدثنا أبو اليمان، حديث 285 و 286، عن عائشة وعبد الله بن عباس.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم 19 و 22.(7/16)
هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره.
فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.
وهذا المعنى بعينه، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقّاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبيّ صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج. ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.
ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبّحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم- كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظّم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظّم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح. بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبيّ صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه.
فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم.
وفي المسند «1» بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا! وابن سيدنا!
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 153.(7/17)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله. ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ) .
وقال صلى الله عليه وسلم «1» : (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)
وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض.
وقال «2» : (إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. يقومون على ملوكهم)
وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
سَيَقُولُونَ أي الخائضون في قصتهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي بعض آخر منهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنّا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير: كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي ممن أطلعه الله عليه فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي، وتفويض العلم إلى الله سبحانه، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم، في الرد عليهم كما قال
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 153.
(2) أخرجه البخاري في: الحدود، 31- باب رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت، حديث رقم 1214، عن عمر بن الخطاب.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 84.(7/18)
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل: المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجّة مطلقا.
والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم.
لأن السؤال إما للاسترشاد، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى: جاءك الحق الذي لا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.
تنبيهات:
الأول- ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان.
ولتخصيصه بالواو في قوله: وَثامِنُهُمْ وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة.
وأقول: لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة.
ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية- بعيد غاية البعد، وتكلف ظاهر، وإغراب في القول.
ثم قيل: إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة، لأن اقترانها بالواو مسوّغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام، ردّ العلم إليه تعالى.(7/19)
وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بيّن وبرهان نيّر. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فإن فيه (دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه) . وهو إما نبيّ، أو من كان في مدتهم، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسدّ من جهالة شأنهم.
وبالجملة، فالنظم الكريم، بأسلوبه هذا، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل. كانوا سبعة- فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازيّ نقل عن القاضي أنه قال: إن كان- ابن عباس- قد عرفه ببيان الرسول، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.
وبعد كتابتي لما تقدم بمدة، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به، مما قوي عنده من إشارة الآية، كما ذكره أولئك الأكثرون، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، حيث قال في (قاعدة له في التفسير) : اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام- مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو(7/20)
يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. انتهى كلامه رحمه الله، وهو الفصل في هذا المقام.
الثاني- قال الرازيّ: ذكروا في فائدة الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ وجوها:
الأول- ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وقد عرفت ما فيه.
وثانيها- أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد. وإذا كان كذلك، فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف،، فقالوا: وثمانية. فجاء هذا الكلام على هذا القانون. قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله:
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] ، لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] ، لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] ، لأن قوله:
وَأَبْكاراً هو العدد الثامن مما تقدم. والناس يسمون هذه الواو. (واو الثمانية) ومعناه ما ذكرناه.
قال القفّال: وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:
23] ، ولم يذكر الواو في النعت الثامن. انتهى.
وقال في (الانتصاف) : الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق.
لا كمن يقول إنها واو الثمانية. فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو الثامن من قوله: التَّائِبُونَ وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله:
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 71] ، وكقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان: 17] ، وربما عدّ بعضهم من ذلك، الواو في قوله:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش. فإن هذه واو التقسيم.
ولو ذهبت تحذفها فتقول ثيبات أبكارا لم يستدّ الكلام. فقد وضح أن الواو في(7/21)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
جميع هذه المواضع المعدودة، واردة لغير ما زعمه هؤلاء. والله الموفق.. انتهى.
الثالث: حكي في (الإكليل) عن مجاهد في قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً إلا بما أظهرنا لك. ومثله قول السدّيّ: إلا بما أوحي إليك. وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن. لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي إعلامه به. ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلا بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتّا له. لأنه وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان: 34] ، فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وعلى هذه الوجوه كلها ف لا تَقُولَنَّ نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان) : إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقي عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله. لأنه عبد مدبّر، ومقلّب ميسّر، ومصرّف مسخّر.
وبقي وجه آخر. وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي هذا المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان همّ بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به.
ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليّا. أي ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله،(7/22)
إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق العتاب ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولا حق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي نسي ما وصّي به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.
فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى- قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها. وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي خيرا ومنفعة.
والإشارة، للنبأ المتحاور فيه.
تنبيهات:
الأول-
روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، فقال: أجيبكم عنها غدا ولم يستثن. فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزلت وَلا تَقُولَنَّ الآية.
وقد زيف هذه الرواية القاضي- كما حكاه الرازيّ- من أوجه. والحق له. لأنها من مرويات ابن إسحاق عن شيخ مجهول. كما ساقه عنه ابن كثير وغيره، والله أعلم.
الثاني- يشير قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي الآية، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه، وابتغاء الرشاد فيه، حتى يتكلف لفتوى أهل الكتاب فيه. العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها.
الثالث اعترضت هذه الآداب أعني من قوله تعالى: فَلا تُمارِ إلى هنا قبل تتميم نبئهم، مبادرة إلى الاهتمام بهذه الآداب والاحتفاظ بها، لتتمكن فضل تمكن، وترسخ في النفس أشد رسوخ. والله أعلم.
الرابع روي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ: إذا نسيت الاستثناء بالمشيئة ثم ذكرت فاستثن، وذلك (كما قال القرطبيّ) لتدارك التبرك والتخلص عن الإثم.(7/23)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
وقال في (الانتصاف) : أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة، متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلّها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها. انتهى.
ودعوى أنه الظاهر هو أحد الوجوه فيها، مفرعا على أن المشيئة في الآية قبلها، مشيئة القول، وهو أحد معاني الآية. وقد حكي عن ابن عباس جواز الاستثناء وإن طال الزمان. ثم اختلف عنه. فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبدا. وفي (حصول المأمول) : ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس، لعله لم يعلم بأنها ثابتة في (مستدرك الحاكم) وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: (إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلا سنة) ومثله عند أبي موسى المديني وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق. وبالجملة فالرواية عنه رضي الله عنه قد صحت، لكن الصواب خلاف ما قاله.
قال ابن القيّم في (مدارج السالكين) إن مراده أنه إذا قال شيئا ولم يستثن، فله أن يستثني عند الذكر. وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه. انتهى.
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه. والاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر، قد دلت عليه الأدلة الصحيحة. منها
حديث أبي داود «1»
وغيره (والله! لأغزونّ قريشا) ثم سكت ثم قال (إن شاء الله)
. ومنها
حديث «2»
(ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها)
فقال العباس (إلا الإذخر) . وهو في الصحيح. ومنها
قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية (إلا سهل ابن بيضاء)
انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا حكاية
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الأيمان والنذور، 17- باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت، حديث رقم 3285.
(2) أخرجه البخاري في: الجنائز، 77- باب الإذخر والحشيش في القبر، حديث رقم 710، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 445.(7/24)
لقول أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم، في مدة لبثهم نائمين في كهفهم الذي التجأوا إليه، ليتفرغوا لذكر الله وعبادته. وقد رد عليهم بقوله سبحانه قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وإليه ذهب قتادة ومطرف بن عبد الله. وأيده قتادة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (وقالوا ولبثوا) قيل: وعليه فيكون ضمير وَازْدَادُوا لأهل الكتاب. وإنه يظهر فيه وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين. مع أنه أخصر وأظهر.
وذلك لأن بعضهم قال: ثلاثمائة: وبعضهم قال أزيد بتسعة. ولا يخفى ركاكة ما ذكر، فإن الضمير للفتية. ووجه العدول موافقة رؤوس الآي المقطوعة بالحرف المنصوب. ودعوى الأخصرية تدقيق نحويّ لا تنهض بمثله البلاغة. وأما الأظهرية فيأباها ذوق الجملتين ذوقا سليما. فإن الوجدان العربي يجد بينهما في الطلاوة بعد المشرقين. ودعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام، واعتبار السنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب، واعتبار القمرية، بيانا للتفاوت بينهما، إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين- دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية، فلذلك قال: وَازْدَادُوا تِسْعاً لنقف على تحديد ما عنوه، ومن أين يثبت ذلك؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم. وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية، وبأي منها قالوا: فقد رد عليهم بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بمقدار لبثهم. فلا تقفوا ما ليس لكم به علم، وما هو غيب يرد إليه سبحانه، كما قال: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، أي أنه هو وحده العالم به أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره لكل موجود! وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء.
قال الزمخشريّ: جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
لطيفة:
قال في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ المنتخب على جواز إطلاق صيغة التعجب في صفات الله تعالى، كقولك: ما أعظم الله وما أجله.
انتهى.(7/25)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
يعني أن يشتق من الصفات السمعية صيغة التعجب قياسا على ما في الآية.
وقد يقال بالوقف. ينبغي التأمل.
وقوله تعالى: ما لَهُمْ أي أهل السموات والأرض في خلقه مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أي قضائه أَحَداً أي من مكوناته العلوية والسفلية. بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم، فيما شاء وأحب.
قال المهايميّ: فيه إشارة إلى أن علمهم بهم إما من قبيل الغيب، فهو مختص بالله. أو من قبيل المسموع، فهو أسمع. أو من قبيل البصر، فهو أبصر. انتهى. وهو لطيف جدّا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 27]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي بتبليغ ما فيه. ومنه ما أوحي إليك من نبأ الفتية، فإنه الحق الذي لا يحتاج معه إلى استفتاء فيه.
قال القاشانيّ: يجوز أن تكون (من) لابتداء الغاية. و (الكتاب) هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحي إلى من أوحي إليه، وأن تكون بيانا لما أوحي لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا مغيّر لها ولا محرّف ولا مزيل.
قال القاشانيّ: (كلماته) التي هي أصول التوحيد والعد وأنواعهما.
وقصده دفع ما يرد من وقوع نسخ بعض الشرائع السابقة باللاحقة وتبديلها بها.
فأشار إلى أن النسخ إنما هو في الفروع لا الأصول.
والأظهر في معنى الآية أنه لا أحد سواه يبدل حكمه كقوله: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41] ، وأما هو سبحانه فهو فعّال لما يريد وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ.
وذهب ابن جرير في تفسير هذه الآية مذهبا دقيقا قال: يقول تعالى لنبيه واتبع ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين. وذلك أن مصير من خالفه وترك اتباعه(7/26)
يوم القيامة، إلى جهنم لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يقول لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك، أهل معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك. وقوله:
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً يقول وإن أنت لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه، ومعدلا تعدل عنه إليه. لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به. انتهى.
تنبيه:
لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين، وعيد سنويّ يقام تذكارا لهم، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز. لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية ورفضهم الوثنية التي كانت عليها اليونان. وقد رأيت في كتاب (الكنز الثمين في أخبار القديسين) ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان (فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس) نقتطف منها ما يأتي، دحضا لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلا، كما قرأته في بعض كتب الملحدين.
قال صاحب الترجمة: هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد. وأسماؤهم:
مكسيميانوس ومالخوس. ومرتينيانوس. وديونيسيوس. ويوحنا. وسارابيون. ثم قسطنطين. هؤلاء الشبان قربوا حياتهم ضحية من أجل الإيمان بالمسيح، بالقرب من مدينة أفسس، نحو سنة (252) مسيحية. في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين، الملك داكيوس.
وقد أجلّهم المسيحيون كشهداء حقيقين. فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة، في اليوم الرابع من شهر آب، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة القريبة من مدينة أفسس.
ثم قال: وأما نوع استشهادهم فليس بمعروف. لأن أعمالهم الجهادية في سبيل الإيمان لم توجد مدوّنة في التواريخ الكنائسية المدققة. بل إن المؤكد عنهم أن استشهادهم كان زمن الملك داكيوس، حذاء مدينة أفسس. حيث وجدت فيما بعد أجسادهم في مغارة ليست بعيدة من أهل هذه المدينة.
ثم قال: فالبعض من الكتبة الكنائسيين يرتؤون بأنه لما اختفى هؤلاء الفتية في(7/27)
تلك المغارة هربا من الاضطهاد، عرف أمرهم فأغلق عليهم باب المغارة بصخور عظيمة. وهكذا ماتوا فيها. وغيرهم يروون أنهم قتلوا من أجل الإيمان في مدينة أفسس. وبعد موتهم نقلت أجسادهم ودفنت في المغارة المذكورة. وآخرون يظنون أنهم حبسوا أنفسهم أحياء باختبائهم في المغارة المذكورة، ليموتوا برضاهم، هربا من خطر أنواع العذاب القاسية التي كان يتكبدها المسيحيون في ذاك الاضطهاد الوحشيّ.
ثم قال: فكيفما كان نوع استشهاد هؤلاء السبعة، فقد تحقق أن الله أراد أن يكرمهم بإظهار أجسادهم بواسطة رؤيا سماوية. وذلك في 4 آب سنة 447 في زمن ولاية الملك (ثاوضوسيوش الصغير) .
ثم قال: ودرج على أفواه الشعوب أن هؤلاء الفتية، بعد أن أغلق عليهم باب المغارة بأمر داكيوس الملك، لم يموتوا ضمنها، لا موتا طبيعيا ولا قسريّا. بل رقدوا رقاد النوم مدة، نحو مائتي سنة. ثم نهضوا من نومهم الطبيعيّ سنة (447) .
ثم قال: وقد ذهب بعض المؤرخين إلى تأويل ما روي من رقادهم الطويل، بأنه لما ظهرت أجسادهم سالمة من البلى، بعد أن دفنوا في ذلك الغار أحياء أو أمواتا، بواسطة خارقة مّا، ونقلت من مدفنهم الذي كانوا فيه، اعتبرت تلك الأجساد كأنها صودفت مستيقظة من نوم لذيذ كانت راقدة فيه. إلا أن الذي يبطل هذا التأويل ما نقله بعد عن القنداق، من أنهم نهضوا بعد أن رقدوا عدة من السنين وانتصروا على ضلال أولئك الوثنيين. وبظهورهم كذلك أيّدوا حقيّة إيمانهم ووطدوا المؤمنين في رجاء القيامة في الحياة الأبدية.
هذا ما اقتطفناه من كتاب (الكنز الثمين) وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم، الذي أشار له القرآن الكريم. وقد جاء في (تاريخ الكنيسة) : إن أقوال وأعمال الشهداء في المسيحية لم ينقل منها إلا القليل. لأن أكثرها أحرق بالنار مدة العشر سنوات. من سنة (293 إلى 303) وإن من القرن الثامن فصاعدا، اعتنى الروم واللاتيّون بجمع حياة الشهداء الأولين. غير أن الأكثر حذاقة، حتى الذين في حضن الكنيسة الرومانية، يسلّمون الآن بأن أكثر الأخبار أحاديث ملفقة، غراما بالبلاغة. وجداول القديسين المسماة (أقوال الشهداء) ليست بأكثر ثقة. التي ألفها أناس جهلاء غير قادرين، أو دخلها منذئذ أكاذيب. فهذا القسم من تاريخ الكنيسة إذ ذاك مظلم خال من النور. انتهى كلامه بالحرف.(7/28)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وفيه ميل إلى النصفة من عدم الثقة بما لديهم من هذا الخلاف الذي حسم مادته، واقتلعه من جذوره، القرآن الكريم.
قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الكهف: 50] ، الآية الآتية، معتذرا عما نقله، ما مثاله: روي في هذا آثار كثيرة عن السلف. وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها. والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه، لمخالفته للحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة. لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان. وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين. كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والجهابذة النقاد، والحفاظ الذي دونوا الحديث وحرروه، وبيّنوا صحيحه من حسنه ومنكره وموضوعه ومتروكه. وعرفوا الوضّاعين والكذابين والمجهولين من أصناف الرجال.
كل ذلك صيانة للجناب النبويّ والمقام المحمديّ خاتم الرسل وسيد البشر، أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه. فرضي الله عنهم وأرضاهم. وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 28]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي مع أصحابك الذين يذكرونه سبحانه طرفي النهار، بملازمة الصلاة فيهما يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي ذاته طلبا لمرضاته وطاعته، لا عرضا من أعراض الدنيا وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تجاوز نظرك إلى غيرهم بالإعراض عنهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء تألفا لقلوبهم وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي جعلناه غافلا لبطلان استعداده للذكر بالمرة. أو وجدناه غافلا عنه. وذلك لئلا يؤديك إلى الغفلة عنه وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي متروكا متهاونا به مضيّعا. أو ندما أو سرفا. وفي التعبير عن المأمور بالصبر معهم والمنهيّ عن إطاعتهم، بالموصول، للإيذان بعلّية ما في حيز الصلة.(7/29)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قال ابن جرير: إن قوما من أشراف المشركين رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسا مع خبّاب وصهيب وبلال. فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا. وفي رواية ابن زيد: أنهم قالوا له صلوات الله عليه: إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم وجالس أشراف العرب، فنزلت الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.
وروى مسلم «1» عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان (نسيت اسميهما) فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع. فحدّث نفسه. فأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية.
قال ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم دون البخاريّ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي جاء الحق وهو ما أوحي إليّ منه تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إمّا من تمام المقول المأمور به، والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها، بطريق التهديد. أي عقيب تحقق أن ما أوحي إليّ حق لا ريب فيه، وأن ذلك الحق من جهة ربكم. فمن شاء أن يؤمن به، فليؤمن كسائر المؤمنين. ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل. ومن شاء أن يكفر به فليفعل. وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم، وجودا وعدما- ما لا يخفى.
وإمّا تهديد من جهة الله تعالى، والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر.
والمعنى: قل لهم ذلك. وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليؤمن.
ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل. أفاده أبو السعود. وفي (العناية) : الأمر والتخيير ليس على حقيقته. فهو مجاز عن عدم المبالاة والاعتناء به. والأمر بالكفر غير مراد. فهو استعارة للخذلان والتخلية، بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة. ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء به فيهما. وهذا كقوله: (أسيئي بنا أو
__________
(1) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث 45 و 46.(7/30)
أحسني لا ملومة) وهذا رد عليهم في دعائهم إلى طرد الفقراء المؤمنين ليجالسوه ويتبعوه. فقيل لهم: إيمانكم إنما يعود نفعه عليكم، فلا نبالي به حتى نطردهم لذلك، بعد ما تبين الحق وظهر. وقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً وعيد شديد، وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر. أو لما يفهم من ظاهر التخيير، من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه. فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال. وعلى الوجه الأول، هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي. أي قل لهم ذلك إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه. والتعبير عنه ب (الظالمين) للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره، تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها. وهي الخيمة. شبه به ما يحيط بهم من النار. فإن انتشار لهب النار في الجهات شبيه بالسرادق. ويطلق السرادق على الحظيرة حول الفسطاط للمنع من الوصول إليه. شبه ما يحيط بهم من جهنم، بها.
يقال بيت مسردق، ذو سرادق وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي من الظمأ لاحتراق أفئدتهم يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أي كالحديد المذاب وكعكر الزيت، وقال القاشانيّ: من جنس الغسّاق والغسلين، أي المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار، مسودّة يغاثون بها. أو غسالاتهم القذرة ويؤيده قوله تعالى وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ [إبراهيم: 17] ، يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إذا قدم إليه ليشرب، من فرط حرارته.
وَساءَتْ أي النار مُرْتَفَقاً أي متكأ. وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد. وذكره لمشاكلة قوله: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء. وقد يكون تهكما، كقوله.
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصّاب مذبوح
والصاب: شجر مرّ يحرق ماؤه العين. ومذبوح: مشقوق. وفي كتاب (تنزيل الآيات) في الصحاح: بات فلان مرتفقا، أي متكئا على مرفق يده. وهو هيئة المتحزنين المتحسّرين. فعلى هذا لا يكون من المشاكلة ولا للتهكم، بل هو على حقيقته. كما يكون للتنعّم يكون للتحزن. وتعقبه في (العناية) فقال: وأما وضع اليد تحت الخدّ للتحزن والتحسر، فالظاهر أن العذاب يشغلهم عنه. فلا يتأتى منهم حتى يكون هذا حقيقة لا مشاكلة، فلذا لم يعرّجوا عليه. ثم علل الحث على الإيمان المفهوم من التخيير المتقدم، بقوله سبحانه:(7/31)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وهو ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما كثف منه مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي السرر على هيئة المتنعمين نِعْمَ الثَّوابُ أي الجنات المذكورة وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي متكأ. وقيل المرتفق المنزل والمستقر، لآية إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: 66] وآية، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: 76] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 32]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي للمؤمن والكافر رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار وَجَعَلْنا بَيْنَهُما أي بين الجنتين، أو بين النخيل والأعناب زَرْعاً أي فحصل منهما الفواكه والأقوات، فكانتا منشأ الثروة والجاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 33]
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي ثمرها كاملة وَلَمْ تَظْلِمْ أي لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بينهما نَهَراً أي يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما، تتميما لحسنهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 34]
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)
وَكانَ لَهُ أي لصاحب الجنتين ثَمَرٌ أي أنواع من المال غير الجنتين. من (ثمّر ماله) إذا كثّره فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه الكلام، تعييرا له بالفقر،(7/32)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
وفخرا عليه بالمال والجاه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي أنصارا وحشما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 35]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها. كما يدل عليه السياق ومحاورته له. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما مر، إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى، وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة.
قيل: الإضافة تأتي لمعنى اللام. فالمراد بها العموم والاستغراق. أي كل ما هو جنة له يتمتع بها. فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة. وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بما يوجب سلب النعمة، وهو الكفر والعجب. وفي (العناية) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وضررها، لتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك، أو بمعنى وضع الشيء في غير موضعه. لأن مقتضى ما شاهده التواضع المبكي، لا العجب بها وظنها أنها لا تبيد أبدا. والكفر بإنكار البعث كما يدل عليه قوله: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى هذِهِ أي الجنة أَبَداً لاعتقاده أبدية الدهر، وأن لا كون سوى ما تقع عليه مشاعره. ولذا قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 36]
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة آتية، وقوله: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً إقسام منه على أنه، إن رد إلى ربه، على سبيل الفرض والتقدير، كما يزعم صاحبه، ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده. وإنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله. وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه. كقوله: إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] ، لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً [مريم: 77] ، ومُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة.
أفاده الزمخشريّ.
قال المهايميّ: فكفر بالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد واعتقد عكس الجزاء إذ قال: لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته. وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة. وبعكس الجزاء ينفي(7/33)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
الحكمة الإلهية. ثم بيّن تعالى ما أجابه به صاحبه المؤمن، واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 37]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ أي الذي عيّره بالفقر، تعييرا له على كفره وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه كلام التعيير على الكفر، محاورته كلام التعيير على الفقر، في ضمن النكر عليه أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي يجعل التراب نباتا ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي عدّلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول، للإشعار بعليّة ما في حيز الصلة، لإنكار الكفر. والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى عز من قائل:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] الآية، وكما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] الآية. قال ابن كثير: أي كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه. فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد. وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء. من المخلوقات، لأنه بمثابته.
فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء. ولهذا قال صاحبه المؤمن:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 38]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية. ولا أشرك به أحدا معه من العلويات والسفليات. وقد قرأ ابن عامر لكِنَّا بإثبات الألف وصلا ووقفا. والباقون بحذفها وصلا، وبإثباتها وقفا. فالوقف وفاق. وأصله لكن أنا. وقرئ كذلك فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق الألف إجراء للوصل مجرى الوقف. لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم الألباس بينه وبين (لكن) المشددة. قال الزمخشريّ: ونحوه قول القائل:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي(7/34)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
أي لكن أنا لا أقليك. ويقرب منه قول الآخر:
ولو ضبّيّا عرفت قرابتي ... ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر
أي ولكنك. وقوله تعالي:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 39 الى 41]
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ أي هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشريّ. يجوز أن تكون (ما) موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره (الأمر ما شاء الله) أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى (أي شيء شاء الله كان) ونظيرها في حذف الجواب (لو) في قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] ، والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إقرارا بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، إسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي في الدنيا أيضا خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً أي مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي ترابا أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها أَوْ يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أي حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.
تنبيه:
كل من قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ وقوله: أَنْ يُؤْتِيَنِ رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.(7/35)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 42]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشريّ: (أحيط به) عبارة عن إهلاكه. وأصله من (من أحاط به العدو) لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: 66] .
ومثله قولهم: (أتى عليه) إذا أهلكه. من (أتى عليهم العدو) إذا جاءهم مستعليا عليهم. يعني إنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن (أتى عليهم) بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي فعيّر نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشريّ: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر. لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن. كما كني عن ذلك بعضّ الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدّي تعديته ب (على) كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي في عمارتها. فيكون ظرفا لغوا. ويجوز كونه ظرفا مستقرّا متعلقه خاص، وهو حال. أي متحسرا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه- كما قال الراغب- الغم على ما فات وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة عليها. و (العروش) جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه شيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدا زلقا وَيَقُولُ عطف على (يقلب) يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً أي من الأوثان.
وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 43]
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي منعة وقوم يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا بنفسه وقوته عن انتقام الله.(7/36)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 44]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك. (الولاية) بفتح الواو، أي النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره.
فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدّق قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ ويعضده قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ (الولاية) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي هنالك السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كلّ مضطر. يعني أن يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: 42] ، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر: 84] .
وكقوله إخبارا عن فرعون حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 90- 91] ، أو (هنالك) إشارة إلى الآخرة. أي في تلك الدار الولاية لله. كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] ويناسبه قوله: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً. و (هنالك) على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم و (الولاية) مبتدأ مؤخر.
والوقف على (منتصرا) . وجوز بعضهم كون (هنالك) معمولا ل (منتصرا) وإن الوقف عليه. أي على (هنالك) وإن (الولاية لله) جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة.
أي وما كان منتصرا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.
وأقول: هذا الثاني ركيك جدّا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربية. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشريّ ومن تابعه. و (الحق) قرئ بالرفع صفة (للولاية) وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر.(7/37)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
وبالجر صفة للفظ الجلالة. (عقبا) قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعشر والعشر.
تنبيه:
يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوّز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة، بتقدير (اضرب) مثلا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق.
مصداقا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] .
ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 45]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فالتفّ بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضا، فشبّ وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة فَأَصْبَحَ أي بعد ذلك الزّهو هَشِيماً أي جافّا يابسا مكسورا تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النموّ. ثم يزولون زوال النبات وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المثل وأبدعها، ضرب كثيرا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ... [يونس: 24] الآية. وفي الزمر أَلَمْ تَرَ(7/38)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...
[الزمر: 21] الآية. وفي الحديد اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ... [الحديد: 20] الآية. ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 46]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما.
ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخرويّ، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله:
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الربانيّ والنعيم الأبديّ، لا يزول ولا يحول.
لطائف:
1- تقديم (المال) على (البنين) لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد.
ولكون الحاجة إليه أمسّ. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.
2- إفراد (الزينة) مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل.
أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.
3- إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: 96] ، - للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ (الباقيات) اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريّتها.
4- تكرير (خير) للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة. كذا يستفاد من أبي السعود، مع زيادة.(7/39)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
5- وقع في كلام السلف تفسير (الباقيات الصالحات) بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقوله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرّج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.
ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 47]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيّرها في الجوّ. كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] ، أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثّا وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لبروز ما تحت الجبال، أي ظهوره، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب.
حتى تبدو للعيان سطحا مستويا، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى موقف الحساب فَلَمْ نُغادِرْ أي نترك مِنْهُمْ أَحَداً أي لا صغيرا ولا كبيرا. كما قال: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49- 50] ،، وقال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 48]
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
أي مصطفّين مترتبين في المواقف، لا يحجب بعضهم بعضا كل في رتبته، قاله القاشانيّ.
وقال أبو السعود: (صفّا) أي غير متفرقين ولا مختلطين. فلا تعرّض فيه لوحدة الصف وتعدّده.
قال الزمخشريّ: شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان،(7/40)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
مصطفين ظاهرين. يرى جماعتهم كما يرى كل واحد. لا يحجب أحد أحداقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي بلا مال ولا بنين. أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم.
والكلام على إضمار القول. أي وقلنا. تقريعا للمنكرين للمعاد، وتوبيخا لهم على رؤوس الأشهادلْ زَعَمْتُمْ
أي بإنكاركم البعث لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي وقتا لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء. فلم يعلموا لذلك أصلا، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحا. و (بل) للخروج من قصة إلى أخرى. فالإضراب انتقالي، لا إبطالي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 49]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ أي خائفين أن يفتضحوا مِمَّا فِيهِ أي من أعمالهم السيئة المسطرة وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا أي هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا. قال القاشانيّ: يدعون الهلكة التي هلكوا بها، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي أيّ شأن حصل له، فلا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه. والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي، وعدّه مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.
قال البقاعيّ عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة (يعني في الرسم العثمانيّ) ، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة. وهذا من لطائفه رحمه الله. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً
أي مكتوبا في الصحف تفصيلا، من خير وشر. كما قال تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: 30] الآية. وقال يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: 13] .
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي فيكتب عليه ما لم يعمله، أو يزيد في عقابه. ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان، وإيثاره على الرحمن.
والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق. فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه:(7/41)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 50]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ أي العتاة المردة الشياطين فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعته أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدوّ يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتّباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين الشيء في غير موضعه بَدَلًا بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير:
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين، السعداء والأشقياء، في سورة يس وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ إلى قوله أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 59- 62] ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 51]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته، للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان الصوارف عن ذلك، من خباثة المحتد والفسق والعداوة. أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي وما أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم. ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر- أبلغ. إذ من لم يشهد فإنّى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكا؟ ولذلك قال سبحانه وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم أعوانا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي وإذا لم يكونوا عضدا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية.
والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير، وهم المضلون، فلا يكونون أربابا. إنما وضع (المضلين) موضع الضمير، ذمّا لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال، وتأكيدا لما سبق(7/42)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
من إنكار اتخاذهم أولياء. ونحو هذه الآية قوله تعالى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22- 23] الآية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 52]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)
وَيَوْمَ يَقُولُ أي الحق تعالى: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي في دار الدنيا، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه. يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعا وتوبيخا لهم فَدَعَوْهُمْ أي فنادوهم للإعانة، لبقاء اعتقاد شركهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يعينوهم، لعجزهم عن الجواب، فضلا عن الإعانة. وفي إيراده، مع ظهوره، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الكفار وآلهتهم مَوْبِقاً أي مهلكا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك. كقول عمر رضي الله عنه (لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا) ، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:
81- 82] ، قال ابن كثير: وأما إن جعل الضمير في قوله بَيْنَهُمْ عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو (إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به) - فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] ، وقال يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] ، وقال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ إلى قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [يونس: 28- 30] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 53]
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ أي جهنمهم المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم، وذمّا لهم بذلك فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي أيقنوا بأنهم.(7/43)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
واقعون فيها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا ينصرفون إليه. إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 54]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي نوّعنا في هذا القرآن، الجامع للمهمات وأنواع السّعادات، لمصلحة الناس ومنفعتهم، من كل مثل، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 55]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن والحق الواضح النيّر وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ أي عن المعاصي السالفة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي طلب إتيانها، أو انتظار إتيانها، وهي عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي يرونه عيانا ومواجهة، وهو عذاب الآخرة. أو أعم. و (القبل) بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أو (قبلا) بمعنى: أنواعا متنوعة جمع (قبيل) وقرئ بفتحتين أي مستقبلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 56]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ كاقتراح الآيات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليزيلوا بالجدال، الحقّ(7/44)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل (الإدحاض) إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. فاستعير من زلل القدم المحسوس، لإزالة الحق المعقول. قال الشهاب:
ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره.
ثم أنشد لنفسه:
أتانا بوحل لإنكاره ... ليزلق أقدام هذي الحجج
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب هُزُواً أي استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 57]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها، بأبلغ أسلوب وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به، إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أي جعلنا عليها حجبا وأغطية كثيرة، كراهة أن يفقهوه، أي يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وجعلنا فيها ثقلا يمنعهم من استماعه. والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم، بأنهم مطبوع على قلوبهم. وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي فلا يكون منهم اهتداء، البتة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 58]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.(7/45)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
الآيات في هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] ، وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] ، ورَبُّكَ مبتدأ والْغَفُورُ خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة، لأنه أهم بحسب الحال. إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم، بعد استيجابهم لها. كما يعرب عنه قوله عز وجل: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا والموعد المذكور هو يوم بدر. أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات. أو يوم القيامة. والكل لاحق بهم. و (الموئل) الملجأ والمنجى. أي ليس لهم عنه محيص ولا مفر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 59]
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وأضرابهم أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر والطغيان وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي وقتا معيّنا لا محيد لهم عنه. وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد، ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب. ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى من الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة، ما لا يخفى على متبصر. كما ستقف على شذرات من ذلك.
فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 60]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي اذكر وقت قول موسى لفتاه، لا أبرح، أي لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانا طويلا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب.
قال المهايميّ أي اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا، لتكبرهم عليك، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه. ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم. لأنها هداية في الظاهر والباطن. وهداية الخضر إنما هي في الباطن. ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق، واحتاج إليه موسى.
و (الفتى) الشاب. قال الشهاب: العرب تسمي الخادم فتى، لأن الغالب استخدام من(7/46)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
هو في سن الفتوّة. وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحبا له، وإذا غيرة على كرامته. ولذلك اختصه موسى رفيقا له وخادما. وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل. وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 61]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61)
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين نَسِيا حُوتَهُما أي خبر حوتهما، وتفقد أمره، وكانا تزوداه.
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ أي طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي مثل السرب في الأرض، واضح المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 62]
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)
فَلَمَّا جاوَزا أي مجمع بينهما، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي ما نتغدى به لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا ومشقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 63]
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما، أولا، إما بمعنى نسيان طلبه، والذهول عن نفقده، لعدم الحاجة إليه.
وإما للتغليب، بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده. فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن:
22] ، وإنما يخرج من المالح وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي لك. و (أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلا، والباقون بكسرها وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً أي أمرا عجيبا، إذ صار الماء عليه سربا.(7/47)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 64]
قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
قالَ أي موسى ذلِكَ أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله هربا ما كُنَّا نَبْغِ أي نطلب فيه الخضر. لأنه أمارة المطلوب. وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين، وصلا لا وقفا. وبإثباتها في الحالين. وبحذفها كذلك فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما أي رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها قَصَصاً أي اتباعا لئلا يفوتهما الموضع ثانيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 65]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65)
فَوَجَدا أي فأتيا الموضع المنسيّ فيه الحوت، فوجدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر. وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي آتيناه رحمة لدنيّة، اختصصناه بها وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما جليلا آثرناه. وهو علم لدنّيّ يكون بتأييد ربّاني. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدنّيّ في آخر هذا النبأ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 66]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ أي أصحبك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ أي من لدن ربك رُشْداً أي علما ذا رشد. أي هدى وإصابة خير.
قال القاضي: وقد راعي في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 67 الى 68]
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرا بقوله(7/48)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي من أمور ستراها، إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 69]
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي لا أخالفك في شيء.
قال الزمخشريّ: رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله. علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لا بد، لما يستسمج ظاهره، من باطل حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 70]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته منّي، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 71]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)
فَانْطَلَقا أي على ساحل البحر يطلبان سفينة حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي عظيما من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب، وكفران نعمة الحمل بغير نول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 72]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ذكّره الخضر بما تقدم من الشرط.(7/49)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
يعني هذا الصنيع فعلته قصدا. وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها. لأنك لم تحط بها خبرا إذ لها سر لا تعلمه أنت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 73]
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)
قالَ أي موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ من الشرط. فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر. والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي لا تحمل عليّ من أمري، في تحصيل العلم منك، عسرا، لئلا يلجئني إلى تركه. أي لا تعسّر عليّ متابعتك، بل يسّرها عليّ، بالإغضاء وترك المناقشة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 74]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
فَانْطَلَقا أي بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي أنها لم تقتل نفسا فتقتل. بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا. أو أنكر من الأول. لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 75]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تأكيد في التذكار بالشرط الأول.
ونكتة زيادة لَكَ هو- كما قال الزمخشريّ- زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه، فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه. قال في (المثل السائر) :
وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 76]
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
قالَ أي موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المرة فَلا(7/50)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً
أي وجدت من جهتي عذرا. إذ أعذرت إليّ مرة بعد مرة، فخالفتك ثلاث مرات، بمقتضى طبع الاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اختلف في تسميتها.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين. ولا يوثق بشيء منه اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم. وقرئ يُضَيِّفُوهُما من الإضافة.
يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيّفه: أنزله ليطعمه في منزله، على وجه الإكرام فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي ينهدم بقرب. من (انقض الطائر) إذا أسرع سقوطه. والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة. لما فيها من الميل. استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية، أو هي مجاز لغويّ مرسل بعلاقة سبب الإرادة، لقرب الوقوع.
وقد أوسع الزمخشريّ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز. فانظره فَأَقامَهُ أي عمّره وأصلحه. قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لو طلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به. ففيه لوم على ترك الأجرة، مع مسيس الحاجة إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 78]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فَلا تُصاحِبْنِي أو إلى الاعتراض الثالث. أو إلى الوقت الحاضر. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي بمال ما لم تصبر على ظاهره، وبعاقبته. وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شرّه، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز. قال أبو السعود: وفي جعل صلة الموصول. عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر، دون أن يقال (بتأويل ما فعلت) أو (بتأويل ما رأيت) ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل(7/51)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
أمره على موسى، وما كان أنكر ظاهره. وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على باطنه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 79]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)
أَمَّا السَّفِينَةُ أي التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي لفقراء يحترفون بالعمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي إنما خرقتها لأعيبها. لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة، غصبا. فأردت أن أعيبها لأرده عنها، لعيبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 80 الى 81]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)
وَأَمَّا الْغُلامُ أي الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أي لو تركناه أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما. لكونه طبع على ذلك. فيخشى أن يعديهما بدائه فَأَرَدْنا أي بقتله أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي طهارة عن الكفر والطغيان وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة بأبويه، وبرّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 82]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي قوتهما بالعقل وكمال الرأي وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما ليتصرفا فيه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي تفضل بها عليهما.
و (رحمة) مفعول له. أو مصدر مؤكد ل (أراد) فإن إرادة الخير رحمة وَما(7/52)
فَعَلْتُهُ
أي ما رأيت مني عَنْ أَمْرِي أي عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي من الأمور التي رأيتها. أي مآله وعاقبته. قال أبو السعود (ذلك) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة. وتَسْطِعْ مخفف (تستطع) بحذف التاء.
تنبيهات:
في بعض ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات:
الأول- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر. واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل. ونسبة النسيان، ونحوه من الأمور المكروهة، إلى الشيطان، مجازا وتأدبا عن نسبتهما إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه. وتقديم المشيئة في الأمر، واشتراط المتبوع على التابع. وأنه يلزم الوفاء بالشروط. وأن النسيان غير مؤاخذ به. وأن (للثلاث) اعتبارا في التكرار ونحوه. وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة. وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجر على الأعمال. وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها، أو شيء لا يكفيه. وأن الغصب حرام.
وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير، أو تعييبه، لوقاية باقيه، كمال المودع واليتيم. وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف. وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه. وأنه تجب عمارة ما يخاف منه، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب. وأنه يجوز دفن المال في الأرض.
انتهى.
وقال البيضاويّ: ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه. ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه، فلعل فيه سرّا لا يعرفه. وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال. وأن ينبه المجرم على جرمه، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. انتهى.
ومن فوائد الآية- كما في (فتح الباري) - استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك. وإطلاق (الفتى) على التابع واستخدام الحرّ. وطواعية الخادم لمخدومه. وعذر الناسي. وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض(7/53)
ونحوه. ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور. ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب. وفيها جواز طلب القوت. وطلب الضيافة. وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية. وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وعن الجدار فَأَرادَ رَبُّكَ ومثل هذا
قوله «1» صلى الله عليه وسلم: «والخير بيديك والشر ليس إليك»
. انتهى.
ومن فوائدها إطلاق (القرية) على (المدينة) لقوله: أَهْلَ قَرْيَةٍ ثم قوله:
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.
الثاني- ذكر الناصر في (الانتصاف) : شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه.
قال عليه الرحمة: ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب، ولم يقل: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، إلا منذ جاوز الموضع الذي حدّه الله تعالى له.
فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه. وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بونا بيّنا، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قص عليهم القصة. فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمّر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلا وآجلا. والله أعلم.
ثم قال عليه الرحمة: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار، الالتهاب والحمية للحق، أنه قال حين خرق السفينة أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، ولم يقل (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول (نفسي نفسي) لا يلوي على مال ولا ولد. وتلك حالة الغرق.
فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم.
صلوات الله عليهم أجمعين، وسلامه.
__________
(1) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 201.(7/54)
ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشريّ: فإن قلت قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ (قلت) النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك. (زيد ظني مقيم) .
فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون (أمر الملك ودبّر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.
الثالث- قال الخفاجيّ: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى:
اسْتَطْعَما أَهْلَها إثر قوله أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفديّ سائلا عنه السبكيّ في قصيدة منها:
رأيت كتاب الله أعظم معجز ... لأفضل من يهدى به الثّقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في (الكهف) أبصرت آية ... بها الفكر، في طول الزمان عناني
وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد ... نرى (استطعماهم) مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير؟ إن ذاك لشان
يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) لأنه صفة(7/55)
القرية. أو (استطعماهم) لأنه صفة (أهل) فلا بد له من وجه. وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظما ونثرا. والذي تحرر فيه أنه ذكر (الأهل) أولا ولم يحذف إيجازا، سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، لأن الإتيان ينسب للمكان. نحو (أتيت عرفات) ولمن فيه نحو (أتيت بغداد) فلو لم يذكر كان فيه التباس مخلّ. فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. وأما (الأهل) الثاني فأعيد لأنه غير الأول. وليست كل معرفة أعيدت عينا كما بينوه. لأن المراد به بعضهم. إذ سؤالهم فردا فردا مستبعد. فلو لم يذكر، فهم غير المراد. أما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر. وأما لو قيل (استطعماها) فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب، كما أثبتوه في محله. وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها. كما يقال: (زيد في البلد) أو (في الدار) وقيل: إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله:
ليت الغراب غداة ينعب بيننا ... كان الغراب مقطّع الأوداج
أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين، لبشاعته واستطالته، وثمة أجوبة أخرى.
الرابع- أبدى بعضهم سرّا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء قال: لما أن فسر الخضر لموسى، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء. وقيل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا. فقال:
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف.
كما قال: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف: 97] ، وهو الصعود إلى أعلاه، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً وهو أشق من ذلك. فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى.
انتهى.
وقال الشهاب: وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه. وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى صلى الله عليه وسلم ما لقيه ببيان سببه- فيبعد أنه في الحكاية، لا المحكي. انتهى.
وما ألطف قول الشهاب في مثله: هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك.
الخامس- قال الإمام السبكيّ رحمه الله: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافرا، مخصوص به. لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة. فلا إشكال فيه. وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين. ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه، كما(7/56)
أطلع الخضر عليه السلام، لم يجز له ذلك، وما ورد عن ابن عباس (لما كتب إليه نجدة الحروريّ: كيف قتله وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الوالدان؟ فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان، ما علمه عالم موسى، فلك أن تقتل) فإنما قصد به ابن عباس المحاجّة والإحالة على ما لم يمكن قطعا، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام. وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز. لأنه لا تقتضيه الشريعة. وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي. وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعا مستقلا به. وهو نبيّ.
وليس في شريعة موسى أيضا، ولذا أنكره. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع. فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة، قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك.
وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه.
وقال ابن بطال: قول الخضر (وأمّا الغلام فكان كافرا) هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ. واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله. ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.
أقول: مفاد الآية، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب. ولذا قال (بغير نفس) لا لكونه صغيرا لم يبلغ الحنث. لأن الآية لا تفيده. وقد يكون كبيرا. فقد قال اللغويون: الغلام الطارّ الشارب، أو من حين يولد إلى أن يشبّ، والكهل أيضا. ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء
عن النبيّ «1» صلى الله عليه وسلم: «أبكي لأن غلاما بعث بعدي»
. إلخ نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاريّ: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما فذبحه قال موسى: أقتلت نفسا لم تعمل بالحنث. ولكن لا نصّ فيه، فتأمل.
السادس: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية، هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة. وذهب نوف البكاليّ- تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس بموسى بن عمران كما في البخاريّ «2» . ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير، عند (النسائيّ) قال:
__________
(1) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، 6- باب ذكر الملائكة، حديث 1513، عن مالك بن صعصعة. [.....]
(2) أخرجه البخاري في: العلم، 44- باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم، فيكل العلم إلى الله، حديث رقم 64، عن أبي بن كعب.(7/57)
كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عباس! إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا. أي ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت:
نعم. قال: كذب نوف. وفي رواية البخاريّ: كذب عدو الله. وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته.
قال الرازيّ: كان ليوسف ولدان إفراثيم. ومنسا. فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى ووليّ عهده بعد وفاته. وأما ولد منسا، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم. والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، وموسى بن منسا معه. هذا هو قول جمهور اليهود. واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد. فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه. ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميّزه وتزيل الاشتباه عنه، والله أعلم. انتهى.
وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك، كما في البخاري، ما حدثه به أبيّ بن كعب ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال:
لا. أو حدثته نفسه بذلك. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، لئلا يحتم على ما لا علم له به. وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة، فيكون المراد بفتاه يوشع. وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقا في خدمته، والغيرة على كرامته، والحب له. ولذا صار خليفته بعده، وفتح عليه بيت المقدس ونصر على الجبارين، كما هو معروف.
السابع: قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو الخضر. قالوا: سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت. وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى.
فقال ابن عباس: هو خضر، فمرّ أبيّ بن كعب. فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه. فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى. عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لقيّه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً(7/58)
فوجدا خضرا. وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.
الثامن: اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيّا وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرة. فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وقد احتج من قال إنه نبيّ بقوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله. والأصل عدم الواسطة. وقيل: كان وليّا. وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصّديقيّة فهو مقام برزخيّ، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية. وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.
قال النوويّ في (التهذيب) قال الأكثرون: هو حيّ موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات.
وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: وأما رواية اجتماعه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى. وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟؟؟. انتهى كلامه ملخصا.
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاريّ وجامع الترمذيّ. ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا.
وقال أبو حيان في (تفسيره) : الجمهور على أن الخضر مات. وبه قال ابن أبي الفضل المرسيّ. لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتّباعه.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي
. وبذلك جزم ابن المناويّ وإبراهيم الحربيّ وأبو طاهر العباديّ. وممن جزم بأنه غير موجود الآن، أبو يعلى الحنبليّ وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربيّ، وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزيّ. واستدل على ذلك بأدلة. منها قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] ، قال أبو الحسين ابن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في(7/59)
ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ.
قال صاحب (فتح البيان) : والحق ما ذكرناه عن البخاريّ وأضرابه في ذلك. ولا حجة في قول أحد كائنا من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يعمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، وطول التعمير لأحد من البشر. وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما. ومن قال إنه نبيّ أو مرسل أو حيّ باق، لم يأت بحجة نيّرة ولا سلطان مبين. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. انتهى.
وقال تقيّ الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه، في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد، ما مثاله: وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانا في هذه البقاع قال تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] .
وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جنيّ رأوه. وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال (إنني) وكان ذلك جنيّا لبّس على المسلمين الذين رأوه. وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات. ولو كان حيّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب عليه أن يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه. فإن الله فرض على كل نبيّ أدرك محمدا، أن يؤمن به ويجاهد معه. كما قال الله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يبعث الله نبيّا إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا، من أن يلبّس الشيطان عليهم. ولكن لبّس على كثير من بعدهم. فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبيّ ويقول: أنا الخضر. وإنما هو شيطان.
كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج، وجاء إليه، وكلمه في أمور، وقضاء حوائج،(7/60)
فيظنه الميت نفسه. وإنما هو شيطان. تصور بصور. انتهى.
التاسع- دل قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، على أن من العلم علما غيبيّا وهو المسمى بالعلم اللدنّي. فالآية أصل فيه. وقد ألف حجة الإسلام الغزاليّ، عليه الرحمة، رسالة في إثبات هذا العلم. ردّ على من أنكر وجوده. وذكر عليه الرحمة أولا طرفا من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة. ثم جوّد الكلام في إثباته. ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه. قال قدس سره. اعلم أن العلم الإنسانيّ يحصل من طريقين: أحدهما من التعليم الإنسانيّ والثاني من التعليم الربانيّ. أما الطريق الأول، وهو التعليم الإنسانيّ، فطريق معهود مسلوك محسوس. ويكون على وجهين:
أحدهما من خارج وهو التحصيل بالتعلّم. والآخر من داخل وهو الاشتغال بالتفكر.
والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر. فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئيّ. والتفكر استفادة النفس من النفس الكليّ. والنفس الكليّ أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العقلاء والعلماء. والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة. كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر، أو في قلب المعدن. والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل. فنفس المتعلم تتشبّه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع. والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي هو بالفعل، كالنبات. وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر. وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة. ويحمل التعب في طلب الفائدة، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحسّ يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر. ثم قال قدس سره: والطريق الثاني وهو التعليم الربانيّ. وذلك على وجهين: إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل. وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها. وتتمسك بجود مبدعها. وتعتمد على إفادته وفيض نوره. فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليّا، وينظر إليها نظرا إلهيّا، ويتخذ منها لوحا، ومن النفس الكليّ قلما وينقش فيها علومه. ويصير العقل الكليّ كالمعلم والنفس القدسيّ كالمتعلم.
فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر.(7/61)
ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: 113] ، فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. وآدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] ، ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] ، أو صغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] ، فقال تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: 33] ، فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر.
فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبيّ المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان
يقول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
وقال لقومه «1» : (أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله)
وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الربانيّ، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنسانيّ فقال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] .
والوجه الثاني- هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكليّ للنفس الجزئيّ على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبيّ. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويّا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنّيّا. والعلم اللدنّي هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكليّ الأوّليّ الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم
__________
(1) أخرجه البخاري في: النكاح، 1- باب الترغيب في النكاح، حديث رقم 2099، عن أنس بن مالك.(7/62)
عليهما السلام. وقد تبين أن العقل الكليّ أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكليّ. والنفس الكليّ أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات.
فمن إفاضة العقل الكليّ يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء.
فكما أن النفس دون العقل، فالوحي دون النبيّ. وكذلك الإلهام دون الوحي. فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوى بإضافة الرؤيا. والإلهام علم الأنبياء والأولياء. فإنّ علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم. كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم. وفرق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة هي قبول النفس القدسيّ حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] .
ثم قال عليه الرحمة: فإذا أراد الله بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكليّ الذي هو اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكونات. وينتقش فيها معاني تلك المكونات. فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده.
وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدنيّ. وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيما. لأن الحكمة من مواهب الله تعالى: ويُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، من عباده وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [البقرة: 269] ، وهم الواصلون مرتبة العلم اللدنيّ، المستغنون عن كثيرة التحصيل وتعب التعلم. فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا، ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.
ثم قال عليه الرحمة: اعلم أن العلم اللدنيّ هو سريان نور الإلهام. والإلهام يكون بعد التسوية. كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 7] ، والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها. وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه: أحدها- تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها. والثاني- الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة
فقال: (من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم) .
والثالث- التفكر. فإن النفس، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها، بشرط التفكر، ينفتح عليه باب الغيب. كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة، ينفتح عليه أبواب الربح. وإذا(7/63)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا. كما
قال صلى الله عليه وسلم: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)
انتهى ملخصا.
وفي خلال كلامه عليه الرحمة، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم. ولا يأباها العقل السليم ولا قواعد العلم الظاهر. لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط. كذلك كان مشربه قدس الله سره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 83]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وهو الإسكندر الكبير المقدونيّ وسنذكر وجه تلقيبه بذلك قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي نبأ مذكورا معجزا، أنزله الله عليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 84]
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، أي طريقا موصلا إليه. والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 85 الى 86]
فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86)
فَأَتْبَعَ سَبَباً قرئ بقطع الهمزة وسكون التاء. وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء. فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد. وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين. والتقدير: فأتبع سببا سببا آخر. أو فأتبع أمره سببا كقوله: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [القصص: 42] .
وقال أبو عبيدة: اتبع (بالوصل) في السير وأتبع (بالقطع) معناه اللحاق كقوله: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] ، وقال يونس: أتبع (بالقطع) للجد الحثيث في الطلب و (بالوصل) مجرد الانتقال. والفاء في قوله: (فأتبع) فاء(7/64)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
الفصيحة. أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله، لقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة وهو الطين الأسود، وقرئ (حامية) أي حارّة. وقد تكون جامعة للوصفين و (وجد) يكون بمعنى (رأى) لما ذكره الراغب وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أي أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره بهم، وحكمه فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ أي بالقتل وغيره وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بالعفو. ثم بين تعالى عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 87]
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أي في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي منكرا لم يعهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 88]
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ أي في الدارين جَزاءً الْحُسْنى يقرأ بالرفع والإضافة. وهو مبتدأ، أو مرفوع بالظرف أي فله جزاء الخصلة الحسنى. ويقرأ بالرفع والتنوين والْحُسْنى بدل أو خبر مبتدأ محذوف. ويقرأ بالنصب والتنوين. أي:
فله الحسنى جزاء. فهو مصدر في موضع الحال. أي مجزيّا بها. أو هو مصدر على المعنى. أي يجزي بها جزاء، أو تمييز. ويقرأ بالنصب من غير تنوين. وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. أفاده أبو البقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 90]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا راجعا من مغرب الشمس، موصلا إلى مشرقها(7/65)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي من المباني والجبال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 91]
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو صفة مصدر محذوف (وجد) أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة. أو معمول (بلغ) أي بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله. أو صفة (قوم) أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس، في الكفر والحكم وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي علما. نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه. لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطّعت بهم الأرض. وفي التذييل بهذا، إشارة إلى كثرة ما لديه من العدد والعدد، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 93]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قرئ بفتح السين وضمها. أي بين الجبلين اللذين سدّ ما بينهما وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً أي من ورائهما أمة من الناس لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 94 الى 95]
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95)
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل والإضرار فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا نخرجه من أموالنا. وقرئ (خراجا) وهو بمعناه عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي حاجزا يمنع خروجهم علينا قالَ ما(7/66)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
أي ما جعلني فيه مكينا من المال والملك، أجلّ مما تريدون بذله. فلا حاجة بي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بعملة وصنّاع وآلات أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا. وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 96 الى 98]
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي ناولوني قطعه حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين جانبي الجبلين قالَ انْفُخُوا أي في الأكوار والحديد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي المنفوخ فيه ناراً أي كالنار بالإحماء قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لثخنه وصلابته قالَ هذا أي السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سدّ عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بدحره وخرابه جَعَلَهُ دَكَّاءَ بالمد أي أرضا مستوية، وقرئ (دكّا) أي مدكوكا مسوّي بالأرض. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار.
وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.
فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض. ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفيّ الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.
ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في(7/67)
مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.
ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق. وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.
ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.
وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقيّ إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.
ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف: 87] ، إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.
ومنها: أن على الملك، إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبّى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.
ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
كما تأبّى الإسكندر تفضلا وتكرما.
ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام. كقوله الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف: 95] ، كقول سليمان فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل: 36] ، وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.(7/68)
ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.
ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم الرجال الأتعاب، ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً.
ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
ومنها: الإعلام بالدور الأخرويّ، وانقضاء هذا الطور الأوّليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمديّ. ولذا قال فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي.
ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار. فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليّا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلوّ الهمة والعفة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشريّ، لا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.
ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة. كما كان يرمي إليه سعى الإسكندر. فإنه دأب على توحيه الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيّش من كل أمة استولى عليها، جيشا عرمرما، يضيفه إلى جيشه المكدونيّ اليونانيّ. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.
ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله.
التنبيه الثاني- في ذي القرنين. اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن(7/69)
فيليس، وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدونيّ وهو ابن فيليس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينههما في الدين أعظم تباين. فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عبّاد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدونيّ، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له.
وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.
وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيليس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته- كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام.
وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوّروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله.
فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في (طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة) فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه.
كالنجاشيّ ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس- أستاذ سقراط- بقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله (على رأي الحكماء الإلهيين) يتحقق ما ذكرناه.
وأما قول الفخر الرازيّ: (إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويّا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم(7/70)
بأن مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه) فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا. أفلا يمكن أن يكون حرّا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه (أعني أرسطاطاليس) ، كان موحدا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه.
على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بها كمالا. وللرازيّ فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها- سامحه الله- في هذا الأسلوب.
عرف ذلك من عرف.
التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين. فقيل لأنه طاف قرني الدنيا. يعني جانبيها شرقها وغربها. أو لأنه كان له قرنان أي ضفيرتان. أو لأنه ملك الروم وفارس.
قال الزمخشريّ: ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه.
أقول: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان. لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها. والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود، الذين هم السائلون. وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: (فإذا أنا بكبش واقف عند النهر. وله قرنان) ثم قوله: (وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها. وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه) قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان. والتيس رمز إلى مملكة اليونان.
وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير. وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد به من الغارات المتواصلة. قوله:
(خرج من المغرب) إشارة إلى خروجه من مكدونية، التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره. وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد أن هذا اللقب (ذو القرنين) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة. كما زعمه بعضهم. بل هو معروف عند العبرانيين أيضا. وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب. وأقرتهم عليها.(7/71)
التنبيه الرابع- قال الرازيّ: اختلفوا في ذي القرنين. هل كان من الأنبياء أم لا؟
منهم من قال: إنه كان نبيّا. واحتجوا عليه بوجوه:
الأول- قوله: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ والأولى حمله على التمكين في الدين. والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني- قوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ومن جملة الأشياء النبوة.
فمقتضى العموم في قوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا.
الثالث- قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيّا.
ومنهم من قال إنه عبدا صالحا وما كان نبيّا. انتهى.
ثم قال الرازيّ بعد: يدلّ قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبيّا. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء- فهو عدول عن الظاهر. انتهى.
ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.
وأما قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين- ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريبا.
فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه «1» محدّثا. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظورا في الإسلام، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار.
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، 54- باب حدثنا أبو اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم، فإنه عمر بن الخطاب.(7/72)
التنبيه الخامس- حكي في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجّح الأول من وجهين:
أولهما- أن للإسكندر عند اليهود شأنا وقدرا. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسرّ وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.
ثانيهما- أن عنوان (ذو القرنين) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.
التنبيه السادس- قالوا: المراد ب (العين الحمئة) البحر المحيط. وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى، كقطرة. وإن عظم عندنا. قالوا: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر. وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. وهي لا تفارق فلكها.
وللإمام ابن حزم عليه الرحمة- رأي آخر في الآية. ذكره في كتاب (الملل) في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول (رأيتك في البحر) تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل. ومقدار ما بين أول مغربها الشتويّ إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفيّ إذا كانت من رأس السرطان- مرئيّ مشاهد. ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك. وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسيّ أقل من مقدار السدس. يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيّف. وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم (عين) البتة. لا سيما أن تكون (عينا حمئة) حامية. وباللغة العربية خوطبنا. فلما تيقنا أنها (عين) بإخبار الله عز وجل، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة.
وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك. وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس، ليس يشغل من الأرض إلا مقدار مساحة جسمه فقط.
قائما، أو قاعدا أو مضطجعا. ومن هذه صفته، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض، بمقدار مكان المغارب كلها، لو كان مغيبها في عين من الأرض. كما يظن أهل الجهل. ولا بد من أن يلقى خطّ بصره من حدبة الأرض، ومن نشر من أنشازها، ما يمنع الخط من التمادي، إلا أن يقول قائل: إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن(7/73)
يسمى البحر في اللغة (عينا حمئة) ولا حامية. وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك. وأنها إنما هي من الفلك سراج. وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض، كما يظن أهل الجهل، أو في البحر، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك، وهذا هو الباطل. فصح يقينا، بلا شك، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب. لا سيما مع ما قام البرهان عليه، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض.
وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس. انتهى كلام ابن حزم.
التنبيه السابع- قال الرازيّ: الأظهر أن موضع السّدين في ناحية الشمال.
وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان. وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.
وحكى محمد بن جرير الطبريّ في (تاريخه) أن صاحب أذربيجان، أيام فتحها، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر. فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع، وراء خندق عميق وثيق منيع.
وذكر ابن خرداد في كتاب (المسالك والممالك) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه. فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه. فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد، مشدود بالنحاس المذاب، وعليه باب مقفل. ثم إن ذلك الإنسان، لما حاول الرجوع، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.
قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى. كلام الرازيّ.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) جزء أول صحيفة (120) في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض، ما مثاله. فإن قيل: ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج. ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمورة منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى. وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسدّ أرسطاطاليس في كتابه في (الحيوان) عند كلامه على الغرانيق. وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى (جغرافيا) وذكر طول بلادهم وعرضها. وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك(7/74)
أحمد بن الطيّب السرخسيّ وغيره. وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس. فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد، فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه، لما ضر ذلك خبرنا شيئا. لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية.
بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل. واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان- فهو كاذب مبطل جاهل، أو مجاهل. لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره. وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل. فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء. انتهى كلام ابن حزم.
قال بعض المحققين: اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال. وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سدّ ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره. ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه. لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القويّ القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله. ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السدّ ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة، لحظة واحدة أمام قدرة الله. بل يدكها جمعاء دكّا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم. فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السدّ يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السدّ موجودا، دكه الله دكا. وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى. كالزلازل إذا قدم عهده. وكالثورات البركانية كما قلنا.
وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ (الفتح) مجازا شائع في اللغة. ومنه قولك (فتحوا البلاد) وقوله تعالى فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] ، فليس(7/75)
للأشياء أبواب. وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم. بل هم من كل حدب ينسلون.
والغالب أن المراد بخروجهم هذا، خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجريّ. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض، بعد أن انتشروا فيها، من الإفساد والنهب والقتل والسبي.
والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا، بين مدينتي دربند وخوزار. فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة ب (السّد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) وهو أثر سدّ حديديّ قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم. ويظنون أنه في نهاية الأرض. وذلك بحسب ما عرفوه منها. ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج. انتهى.
وجاء في (صفوة الاعتبار) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس، هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين. فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما. وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما. وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما. بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية، من المغول والقبائل الشمالية. والسور الآن خراب في جهات كثيرة. فإن كان هو المراد بالسد في الآية، لزم حمل الصفات المذكورة فيه، من كونه من زبر الحديد، ومفرغا عليه النحاس، على بقاع من ذلك السور. والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور. كما تؤوّل صفات يأجوج ومأجوج، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية. ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة. ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع. وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك. كما في عهد جنكزخان، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا والله أعلم. انتهى.
وجاء في الجغرافية العمومية، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا، بلاد القوقاسيين أي أهالي كوه قاف، أي جبل قاف: إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية. فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم. ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء. وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند. على امتداد بحر الخزر.(7/76)
ثم قال: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي (كوه قاف) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر، وتارة لأنوشروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن، ترى لمن يروم ذلك.
التنبيه الثامن- قال أبو البقاء: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، لم ينصرفا للعجمة والتعريف. ويجوز همزهما وترك همزهما. وقيل: هما عربيان ف (يأجوج) يفعول مثل يربوع. (ومأجوج) مفعول مثل معقول. وكلاهما من (أجّ الظليم) إذا أسرع. أو من (أجت النار) إذا التهبت. ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث- أي للقبيلة كمجوس. فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. وعلى العجمة، لا يتأتى تصريفه.
ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيّا، كما في (تذكرة أبي علي) .
قال الرازيّ: واختلفوا في أنهما من أي الأقوام؟ فقيل: إنهما من الترك. وقيل:
يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة، انتهى.
وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز، المعروف عند العرب ب (جبل قاف) ، في إقليم داغستان، قبيلتان. تسمى إحداهما (آقوق) ، والثانية (ماقوق) فعربهما العرب ب (يأجوج ومأجوج) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.
التنبيه التاسع- توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج. وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات. ومن ذلك
حديث (إن يأجوج أمة ومأجوج أمة. كل أمة أربعمائة ألف أمة. لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه. كل قد حمل السلاح إلخ) رواه ابن عديّ في (الضعفاء) عن حذيفة مرفوعا.
وقال: موضوع منكر، ومحمد بن إسحاق العكاشيّ كذاب يضع، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقال الحافظ ابن جرير هاهنا، عن وهب بن منبه، أثرا طويلا عجيبا، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له. وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.(7/77)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها.
انتهى.
فجزى الله البخاريّ أحسن الجزاء، على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار. ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: «أن راوي الضعاف غاش آثم مضلّ» وبالله المستعان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 99]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي نفخ فيه للبعث في النشأة الثانية. فجمعناهم للجزاء والحساب جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه.
قال إمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله الناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق، فإذا هم قيام ينظرون. وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم. أي لأنه من عالم الغيب، أي الأمور المغيّبة عنا، التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 100]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة لِلْكافِرِينَ أي منهم. حيث جعلناهم بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عَرْضاً أي فظيعا هائلا لا يقادر قدره. قال أبو السعود: وتخصيص العرض بهم، مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة، لأن ذلك لأجلهم خاصة. وفي عرضها وإراءتهم ما فيها من العذاب والنكال، قبل دخولها، مزيد غضب عليهم ونكاية.
لكونه أبلغ في تعجيل الهم والحزن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 101]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101)
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً تمثيل(7/78)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
لتعاميهم عن الآيات الدالة على توحيده، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها.
ولتصامّهم عن الحق واتباع الهدى. وقوله تعالى: وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أبلغ من (وكانوا صمّا) لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به. وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع. أفاده الزمخشريّ. وفي توصيفهم بالجملتين نكتة أخرى، بها تعلم أنه لا يستغنى بالثانية عن الأولى، كما زعم، وذلك- كما حققه الشهاب- إن قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً لما أفاد أنهم كفاقدي حاسة السمع، ومن هو كذلك إنما يعرف الذكر بإشارة أو كتابة أو نحوهما، مما يدرك بالنظر، وذكر أن أعينهم محجوبة عن النظر فيما يدل عليه أيضا. فهم لا سبيل لهم إلى معرفة ذكره أصلا. وهذا من البلاغة بمكان.
قال أبو السعود: والموصول يعني (الذين) نعت للكافرين، أو بدل أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة، وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم. فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات، وإعراضهم عنها، مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 102]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ هذا رجوع إلى طليعة السورة في قوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الكهف: 4] ، فهو من باب رد العجز على الصدر المقرر في البديع، جيء بالاستفهام الإنكاريّ، إنكارا لما وقع منهم وتوبيخا لهم. ومفعول (حسب) الثاني محذوف. أي أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم؟ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] ، كما قالوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: 41] ، إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم. و (النزل) ما يقام للنزيل أي الضعيف. وفيه استعارة تهكمية. إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين، ضيافة لهم.
وقال أبو السعود: وفيه تخطئة لهم في حسبانهم، وتهكم بهم. حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء، من قبيل إعتاد العتاد، وإعداد الزاد، ليوم المعاد. فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم، من العدة والذخر، جهنم عدة. وفي إيراد (النزل) إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له. أي لأن الضيف لا(7/79)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
يستقر في منزل الضيافة. وينتقل إلى ما هو إهناء له في دار إقامته. فكان تنبيها على أنهم سيذوقون ما هو أشد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 106]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ضاع وبطل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي التي جاءت بالعمل بها رسلهم وَلِقائِهِ أي بالبعث والحساب والجزاء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لكفرهم المذكور فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة ذلِكَ أي الأمر ذلك. وقوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مبينة له، أو (ذلك) مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف. أي جزاؤهم به. أو (جزاؤهم) خبر و (جهنم) عطف بيان له بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي مهزوءا بهما. وذلك موجب لشدة المقت والغضب والنكال. ثم بين ما لمقابلهم من الحسنى بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا. أي تحولا، لبلوغهم الكمال في نعيمها. فلا شوق لهم فيما وراءها. وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها، وحبهم لها. مع أنه قد يتوهم، فيمن هم مقيم في مكان دائما، أنه يسأمه أو يمله. فأخبر أنهم، مع هذا الدوام والخلود السرمديّ، لا يختارون عن مقامهم متحوّلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 109]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي أي لكتابتها لَنَفِدَ الْبَحْرُ أي مع كثرته(7/80)
ولم يبق منه شيء قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي لكونها غير متناهية، فلا تنفد نفاد المتناهي.
قال أبو السعود. وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب، المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و (الكلمات) في موضع الإضمار، لزيادة التقرير. وقوله تعالى: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي بمثل البحر عونا وزيادة، لنفد أيضا.
قال أبو السعود: كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله، مع زيادة مبالغة وتأكيد، وهذا كقوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] .
تنبيه:
دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ.
وطوائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حيّ وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق منفصل عنه. والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه(7/81)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.
وقال أيضا في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية:
كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل، جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (18) : آية 110]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
قُلْ أي لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي خصصت بالوحي وتميّزت عنكم به. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يخاف المصير إليه، أو يأمل لقاءه ورؤيته، أو جزاءه الصالح وثوابه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي في نفسه، لائقا بذلك المرجوّ، وهو ما كان موافقا لشرع الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي من خلقه إشراكا جليّا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيّا. كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.
قال أبو السعود: وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين، مع التعرض لعنوان الربوبية، لزيادة التقرير، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.
ودلت الآية- كما قال ابن كثير- على أن للعمل المتقبّل ركنين: كونه موافقا شرع الله المنزل، ومخلصا أريد به وجهه تعالى، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر، ثبت في السنة، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية، باعتبار عموم معناها، وإن كان السياق في الشرك الجليّ، للخطاب مع الجاحدين.
والله تعالى هو الموفق والمعين.(7/82)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة مريم
سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايميّ: لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة [مريم: 58] ، وآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] .
وقد روى محمد بن إسحاق، في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.(7/83)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)
كهيعص سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها.
وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف.
أي: هذا كهيعص أي مسمى به، وقوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا مبتدأ خبره محذوف. أي فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي هذا المتلوّ ذكرها.
و (زكريا) والد يحيى عليهما السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايميّ: أي ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته.
فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ظرف ل (رحمة) أو بدل اشتمال من (زكريا) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 4]
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف. قال الزمخشريّ: وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحّده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ (وهن) بكسر(7/84)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
الهاء وضمها وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً قال الزمخشريّ: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ- باشتعال النار.
ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس.
وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته) .
إمّا ترى رأسي حاكى لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدجا
واشتعل المبيضّ في مسودّه ... مثل اشتعال النّار في جزل الغضا
والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعوّد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردّني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعد ما عوّد عبده بالإجابة دهرا طويلا. لا يكاد يخيبه أبدا. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.
تنبيه:
استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحبّ فيه. فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله (خفيّا) ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: وَلَمْ أَكُنْ إلخ كما قدمنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 5 الى 6]
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي أي الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ(7/85)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ أي هب لي ولدا، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثا، لي ولآل يعقوب، في العلم والنبوة. وفي قوله مِنْ لَدُنْكَ إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافا إلى الله تعالى، وصادرا من عنده. و (آل يعقوب) أولاده الأنبياء، عليهم السلام. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيّا عندك قولا وفعلا.
ثم بيّن تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 7]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي مثلا وشبيها. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهمّ بمعصية قط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 8]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:
ومن العناء رياضة الهرم قال الراغب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 9]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أي من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم طلب أولا، وهو وامرأته على صفة العتيّ والعقر،(7/86)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريّا أولا وآخرا، كان على منهاج واحد، في أن الله غنيّ عن الأسباب. انتهى.
وقال أبو السعود: إنما قاله عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران، استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادا له. وقيل: كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي يكون الولد وأنتما كذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 10]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي: أن لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.
لطيفة:
إنما ذكر (الليالي) هنا، و (الأيام) في آل عمران، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها. والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء ب (الليالي) هنا وب (الأيام) ثمّ، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيّهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 11]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي مصلاه أو غرفته فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار إليهم رمزا أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي صلوا لله طرفي النهار، وقوله تعالى:(7/87)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 12]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
يا يَحْيى استئناف، طوى قبله جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشّر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا (يا يحيى) خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي تعلم التوراة بجدّ وحرص واجتهاد. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبيّ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 13 الى 14]
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14)
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي وآتيناه حنانا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه وَزَكاةً أي طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا أي متكبرا عاقّا لهما، أو عاصيا لربه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 15]
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
أي من الله يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
أي ليستقبل النعيم الأبديّ. و (السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 16]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
أي القرآن مَرْيَمَ
أي نبأها إِذِ انْتَبَذَتْ
أي اعتزلت وانفردت مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
أي شرقيّ بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.(7/88)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 17]
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
أي لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
أي جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا، لغاية كماله، لينفخ فيها فَتَمَثَّلَ لَها
أي فتصور لرؤيتها بَشَراً سَوِيًّا
أي سويّ الخلق، كامل الصورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 18]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
أي أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي تتقي الله تعالى، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنّما ذكّرته بالله تعالى، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل. فخوفته أولا بالله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 19]
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19)
قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أي لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك الذي استعذت به، بعثني إليك لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
أي لأكون سببا في هبته. و (الزكيّ) الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 20]
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي تعجبت من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام، أي على أي صفة يوجد مني، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟
قال الزمخشريّ: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء:(7/89)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
43] و [المائدة: 6] ، والزنى ليس كذلك. إنما يقال فيه (فجر بها، وخبث بها) وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. وإنما اقتصر في سورة آل عمران على قوله وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] ، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها. فهي محل التفصيل. بخلاف تلك. فلذا حسن الاكتفاء فيها.
وقيل: جعل المس ثمّ، كناية عنهما، على سبيل التغليب. و (البغيّ) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 21]
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)
قالَ أي الملك كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه وَرَحْمَةً مِنَّا أي عليك بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا من تتمة كلام جبريل لمريم. يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: 12] ، وقال وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 22]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا أي لما صارت حاملا به، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها، عن الله تعالى، ما قال، مما تقدم، استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله.
فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بإذن الله تعالى.(7/90)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 23]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي: فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع لتعتمد عليه وتستتر به. و (أجاء) - قال الزمخشريّ- منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا أي الحمل وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي شيئا تافها، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيّا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام- قال الزمخشريّ- لأنه مقام دحض، قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به- عيبا يعاب به ويعنف بسببه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 24]
فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
فَناداها مِنْ تَحْتِها أي من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل.
وقيل: هو عيسى، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي سيدا نبيلا رفيعا، وقيل: نهرا يسري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 25]
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا أي حضر أوان اجتنائه.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلّى بالسريّ والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما(7/91)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قرفوها به، بمعزل. وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 26]
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشريّ: أي جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين:
إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونها معجزتين. وهو معنى قوله فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أي وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تمادّيهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: صَوْماً. أي صمتا. وقوله: فَلَنْ أُكَلِّمَ إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 27]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي عظيما منكرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 28]
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. و (هارون) هو النبيّ الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى (المشابه) كثيرا.(7/92)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 29]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ، قالُوا منكرين لجوابها كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ولم يعهد تكليم عاقل الصبيّ في المهد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 30 الى 31]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد، ردّا على من يزعم ربوبيته ونبوّته آتانِيَ الْكِتابَ أي الإنجيل وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقوم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا أي أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 32 الى 36]
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي مستكبرا عن طاعته وأمره وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذلِكَ أي الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟(7/93)
وهذا كقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران: 59- 60] ، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلّ وغوى.
تنبيهات في فوائد هذه القصة:
الأول- لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيّا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وهاهنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. و (مريم) هي بنت عمران. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.
الثاني- استدل بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: 17] ، من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا [مريم: 23] ، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنّ الله قال لمريم ... وهزّي إليك الجذع يسّاقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه ... إليها، ولكن كلّ شيء، له سبب
في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى:
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ بعد فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري، قال: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
الثالث- نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ(7/94)
[مريم: 33] ، إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخافات في كل الأحوال.
الرابع- قال القاشانيّ: وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة، لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا (قلبا) والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد، بمنزلة الإنفحة في الجبن. ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن، أي العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقد ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى.
والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى، وكان مزاج كبدها حارّا، كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى.
فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويّا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.
ثم قال في قوله تعالى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن(7/95)
ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس.
لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
. واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما؟ تزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.
الخامس- التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.
قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه.
لم يعيده إليه بعد.
وجزم ابن عبد السلام: بالإزالة دون الفناء وفرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال البلقينيّ: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه.
فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع.
وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.(7/96)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
السادس- قال بعضهم: أصل كلمة (عيسى) يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى (عيسى) تشبها باسم موسى. ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 37]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي الحضور أو (الشهادة) . وهذا معنى قول الزمخشريّ: أي في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.
وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف: 5] ، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد.
وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب با لحق لما جاءه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 38]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ.
ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: 12] الآية، أي يقولون(7/97)
ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشريّ: أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.
تنبيه:
إنما أوّل التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] ، أفاده الشهاب.
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا.
مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغنى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقيّ الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.(7/98)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 39 الى 40]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كلّ إلى ما صار إليه مخلدا فيه وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلوا عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيد الخالص، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 42]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ أي متلطّفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي فلا يدفع ضرّا ولا يجلب نفعا.
قال أبو السعود: ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيّا مميزا سميعا بصيرا، قادرا على النفع والضر، مطيقا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟.(7/99)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 43]
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43)
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ أي وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايميّ:
أي وإن كان حق الأبن اتباع الأب في العرف، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.
قال الزمخشريّ: ثنّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 44]
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44)
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا.
ثلّث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسوّل له، وقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 45]
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لكونك عصيته وواليت عدوّه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.(7/100)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
قال الزمخشريّ: ربّع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ فذكر الخوف والمس ونكّر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله يا أَبَتِ توسلا إليه واستعطافا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 46]
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
قالَ أي أبوه، مصرّا على عناده لفرط غلوّه في الضلال أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب.
كان الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.
وقوله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد متناه. أي لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي تباعد عني زمانا طويلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 47]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47)
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أي مبالغا في اللطف بي.
وفي جوابه بقوله عليه السلام سَلامٌ عَلَيْكَ مقابلة السيئة بالحسنة. كما قوله تعالى:
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] ، أي لا أصيبك بمكروه بعد.
ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] ، قال الزمخشريّ: وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟
وفي (الإكليل) : استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام.
وقال ابن كثير: قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله:(7/101)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 41] ، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] ، يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسّوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، إلى قوله: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:
113- 114] ، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 48]
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
وَأَعْتَزِلُكُمْ أي أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من أصنامكم.
قال الزمخشريّ: المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «1» : الدعاء هو العبادة.
ويدل عليه قوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 49] ، وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده وحده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة عَسى، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 49]
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك بالمهاجرة إلى الشام وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا أي جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرّت عينه بهم في حياته. بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة. وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 2- سورة البقرة، 16- حدثنا هناد، عن النعمان بن بشير.(7/102)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 50]
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أي ما عرف فيهم من النبوّة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي ثناء حسنا. عبّر ب (اللسان) عما يوجد باللسان. كما عبّر ب (اليد) عما يطلق باليد وهي العطية.
وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 52]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك، وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي أخلصه الله، أي اصطفاه، كما قال إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي من جانبه الأيمن من موسى، حين ذهب يبتغى من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا أي مناجيا، أي كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 53]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا ليشد أزره في أداء الرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلّا. وقوله: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه(7/103)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
بقية الأنبياء، تشريفا له وإكراما. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفّى به حيث قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] ، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقا، كما صرّحت به الأخبار. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم.
ولأنهم أولى من سائر الناس وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: 132] ، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] ، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الدينيّ أولى. أفاده الزمخشريّ. وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا أي لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا هو شرف النبوّة والزلفى عند الله تعالى. فالعلوّ معنويّ. أو رفعه بجسده حيّا إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:
وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافية
انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين «1» عن أنس في حديث المعراج أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا. ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 58]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)
__________
(1) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، 42- باب المعراج، حديث رقم 1513، عن مالك بن صعصعة.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 264.(7/104)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. وما فيه من معنى البعد، للإشعار بعلوّ رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وقوله تعالى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بفنون النعم الدينية والدنيوية مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا أي هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علوّ الرتبة. وسموّ الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة.
قال ابن كثير: أجمع العلماء على مشروعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال: هذا السجود فأين البكي.
ولما ذكر تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم، وما سينالهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 59]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرئ (الصلوات) بالجمع أي المتضمنة للسجود والأذكار، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أي فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي شرّا. قال الزمخشريّ: كل شر عند العرب غيّ، وكل خير رشاد. قال المرقش:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
أي من يفعل خيرا، يحمد الناس أمره. ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله. وقيل: أراد الشاعر بالخير المال. وبالغي الفقر أي ومن يفتقر. ومنه القائل:
والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهي. ولأمّ المخطئ الهبل
أي الثكل. ويجوز أن يكون المعنى جزاء غيّ. كقوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً [الفرقان: 68] ، أي شرّا وعقابا. فأطلق عليه كما أطلق الغيّ على مجازاته المسببة(7/105)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
عنه، مجازا. أو غَيًّا ضلالا عن طريق الجنة. فهو بمعناه المشهور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 60 الى 61]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ترك الصلوات واتباع الشهوات وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من (عباده) أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانهم، أفاده أبو السعود إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي لا يخلفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 62 الى 63]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أي لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشريّ رحمه الله: فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه. حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 72] ، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 55] ، نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.
ومعنى إِلَّا سَلاماً أي تسليما. تسليم الملائكة عليهم، أو بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع كما قال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25- 26] ، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وهم المتصفون بشعب الإيمان، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص، مثبتا له، وعقبه بما أحدثه الخلف، وذكر جزاءهم- عقبه بحكاية نزول جبريل عليه(7/106)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
السلام، ردّا لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره، تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإعلاما بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 64]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ينسى شيئا ما، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال، أي فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم (الرب) المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق، مضافا إلى ضميره عليه السلام، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم، ما لا يخفى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 65]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي من التوابع والنجيمات والسحب وغير ذلك.
قال بعض علماء الفلك: الآية تدل على أن السموات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة، من أن السموات عني بها الكواكب، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود: الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك) . فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي اثبت لها على الدوام. وقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا وكفؤا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي إذا صح أن لا مثل له، ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بدّ من التسليم لأمره، والقيام بعبادته، والاصطبار على مشاقّها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 66]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج حيّا بعد ما لبثت في القبر مدة.(7/107)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 67]
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي قبل جعله ترابا ونطفة.
وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.
قال أبو السعود: وفي الإظهار موضع الإضمار، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنحية بالقلع عن القول المذكور.
وهو السرّ في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب، وأنعم عليه بخلق السموات والأرض وما بينهما، ليعرف المنعم فيشكره، ويعبده فيجازى على فعله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 68]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ أي لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا جمع (جاث) .
من (جثا) إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: 28] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 69]
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي لنخرجن إلى النار، من كل فرقة، الذي هو أشد على الرحمن، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل، عِتِيًّا أي جراءة بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 70]
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع.(7/108)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
إذ ضلوا وأضلوا، لأجل لذّات الدنيا وشهواتها. فصاروا أولى بالصليّ بها. فيخصّون بعذاب مضاعف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 71]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي ليس أحد منكم، من برّ وفاجر، إلا وهو يردها.
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي حكما جزما مقطوعا به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 72]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
ثُمَّ أي بعد الورود والإحضار للتعريف نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي لا يمكنهم التجاوز عنها.
قال الزمخشريّ: فيه دليل على أن المراد بالورود، الجثوّ حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 73]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً أي موضعا ومكانا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجتمعا للقوم، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا، أي فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] ، وقال قوم نوح أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، وقال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. [الأنعام: 53] .(7/109)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 74]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا وَرِءْياً أي منظرا وهيئة، من عظم الجاه، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان:
25- 26] ، ورِءْياً فعل بمعنى مفعول كالطّحن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 75]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75)
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل، ومن شاكلهم، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ أي يمدّ له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران:
178] ، وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، إما بعذاب يصيبه، وإما الساعة بغتة. وقد بيّن سبحانه غاية المد بقوله:
حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أي فئة وأنصارا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 76]
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي الأعمال التي تبقى(7/110)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
فوائدها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا. وتكرير (الخير) لمزيد الاعتناء ببيانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 77]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ أي في الآخرة مالًا وَوَلَداً أي انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب، ما أكفره!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 78]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 79 الى 80]
كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)
كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي نحفظه عليه للمؤاخذة به وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا بمضاعفته له، جزاء لاستهزائه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه وَيَأْتِينا فَرْداً أي في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنّيه وتألّيه.
وقد روى البخاريّ «1» : عن خباب رضي الله عنه، قال: كنت قينا- حدّادا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس:
فضرب الله مثله في القرآن.
__________
(1) أخرجه البخاري في: البيوع، 29- باب ذكر القين والحداد، حديث رقم 1060.(7/111)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 81]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عزّ وجلّ، وشفعاء عنده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 82]
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
كَلَّا أي ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أي يريدون إهلاكهم، إذ أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] . وقال تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ، فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: 86] ، قيل: المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 83]
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي بأن سلّطناهم عليهم ومكّنّاهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجا شديدا.
قال الزمخشريّ: الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوّل لهم.
فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى:(7/112)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 84]
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و (الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهيّ عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: 35] .
قال الشهاب: العدّ كناية عن القلة. وقلته لتقضّيه وفنائه، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مرّ من أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي يطوّل. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذّتها ... فتى يعدّ عليه اللفظ والنّفس
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 85]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزور والزائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 86]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي عطاشا. وفي ذكرهم بالسّوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد: الذهاب إلى الماء، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 87]
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً الضمير لأصنامهم المتقدم(7/113)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
ذكرها في قوله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم: 81] ، ردّ على عابديهم في دعواهم أنهم شفعاؤهم عند الله. واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح. أي لكن من آمن وعمل صالحا فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى. وجوز أن يكون (العهد) بمعنى الإذن والأمر. يقال: أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى. من باب (عهد الأمير إلى فلان بكذا) إذا أمره به. أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة، المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: 26] ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] ، يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] ، ونحو هذه الآية قوله تعالى وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] ، ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوّة له، مهولا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنا أو بنتا له، تعالى وتقدّس- عطف قصته على قصته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 89]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل. ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 90 الى 93]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يتشقّقن وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ أي لأن دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وذلك لغيرتها على المقام الربانيّ الأحديّ أن ينسب له ما ينزه عنه ويشعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما(7/114)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
تكون من الحيّ الذي له مزاج. وما له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك، كما قال: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي مملوكا له يأوي إليه بالعبودية والذل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : الآيات 94 الى 95]
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي منفردا مجردا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أن له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء. ولما فصل مساوئ الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 96]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم: معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم:
وددت لو كان كذا. أي أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم: وهذا القول الثاني أولى لوجوه: أحدها- كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟
وثانيها- أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟ وثالثها- أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازيّ التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 97]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلنا هذا القرآن بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا(7/115)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش. فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق (واللدد) شدة الخصومة. والباء في قوله بِلِسانِكَ بمعنى (على) . أي على لغتك. أو ضمّن (التيسير) معنى (الإنزال) أي يسرنا القرآن، منزلين له بلغتك، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.
قال الزمخشريّ: هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلّغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه إلخ، أي فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.
وقال الرازيّ: بيّن به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوّة، والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسّر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف سيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.
ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة مريم (19) : آية 98]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قوم لدّ، مثل هؤلاء، إهلاكا عظيما هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي تشعر به وتراه أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيّا.
والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة.(7/116)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة طه
وهي مكية. وقيل: إلّا قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: 130] الآية. وقوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] الآية، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.(7/117)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)
طه قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في (الكافية الشافية) بقوله:
وانظر إلى السور التي افتتحت بأح ... رفها ترى سرّا عظيم الشان
لم يأت قط بسورة إلا أتى ... في إثرها خبر عن القرآن
إذ كان إخبارا به عنها. وفي ... هذا الشفاء لطالب الإيمان
ويدل أن كلامه هو نفسها ... لا غيرها، والحق ذو تبيان
فانظر إلى مبدأ الكتاب وبعدها ال ... أعراف ثم كذا إلى لقمان
مع تلوها أيضا ومع حم مع ... يس وافهم مقتضى الفرقان
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا و (الشقاء) في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.
وقوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي تذكيرا له. أي ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار.
والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الأعراف: 2] ، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: 6] ، وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران: 176] ، وهذه الآية من هذا الباب أيضا.(7/118)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 4 الى 5]
تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ قرئ بالرفع على المدح. أي هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازا عن الملك والسلطان.
كقولهم (استوى فلان على سرير الملك) وإن لم يقعد على السرير أصلا.
وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا.
قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث من أن العرش جرم حقيقيّ موجود.
وأنه مركز العوالم كلها. أي مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 6]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى.
بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 7]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى.
بيان لكمال لطفه. أي علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت.(7/119)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 8]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
اللَّهُ أي ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 10]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [طه: 98] ، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ [طه: 98] ، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ [طه: 7] إلخ لقوله بعد وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه: 98] ، أو لهما معا.
أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصدا بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا، كما قصه تعالى بقوله: إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي بشعلة مقتبسة تصطلون بها: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي هاديا يدلني على الطريق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 11 الى 12]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12)
فَلَمَّا أَتاها أي النار نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ(7/120)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
الْمُقَدَّسِ طُوىً
أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك (وطوى) اسم للوادي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 13 الى 15]
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي اصطفيتك للنبوة فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي للذي يوحي.
أو للوحي. ثم بينه بقوله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي أي خصني بالعبادة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى لِذِكْرِي أي لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون ذاكرا لي، غير ناس. انتهى.
ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره، بقوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي واقعة لا محالة أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة ب (آتية) . ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي (كاد) معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه:
أحدها- أن (كاد) منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء: 51] ، أي هو قريب.
ثانيها- قال أبو مسلم: (أكاد) بمعنى أريد كقوله: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] .
ومن أمثالهم المتداولة (لا أفعل ذلك ولا أكاد) أي ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب: تفسير (أكاد) ب (أريد) هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في (المحتسب) عن الأخفش. واستدلوا عليه بقوله.
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى(7/121)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
بمعنى أرادت. لقوله (تلك خير إرادة) .
ثالثها- أن (أكاد) صلة في الكلام. قال زيد الخيل.
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما إن يكاد قرنه يتنفّس
رابعها- أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إجمالا ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 16]
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي عن تصديق الساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال. فَتَرْدى أي فتهلك.
قال الزمخشريّ: يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطمّ على الكفرة، ولا هم أشد له نكيرا من البعث. فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 18]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي حاجات أخر.(7/122)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 19 الى 21]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أي هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 22 الى 23]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي إبطك تَخْرُجْ بَيْضاءَ أي نيّرة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشريّ أن قوله تعالى مِنْ غَيْرِ سُوءٍ كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجّاجة. فكان جديرا بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى. آيَةً أُخْرى أي معجزة أخرى غير العصا لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولا بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 24]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24)
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته. أي اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود.
وقوله تعالى: إِنَّهُ طَغى أي جاوز الحد في التكبّر والعتوّ، حتى تجاسر على(7/123)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 28]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمردا وكفرا، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يمدّ بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت تمنعه من كثير من الكلام كما قال وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً [القصص: 34] ، وقول فرعون وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] ، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 29 الى 31]
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي قوّ به ظهري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 32 الى 35]
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون- لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي عالما بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 37]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37)
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي أجيب دعاؤك. وقوله تعالى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة(7/124)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود.
وقوله تعالى: مَرَّةً أُخْرى أي في وقت آخر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 38 الى 39]
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)
إِذْ أَوْحَيْنا أي ألقينا بطريق الإلهام إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ أي الصندوق فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أي البحر، متوكلة على خالقه فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي لدعواه الألوهية وَعَدُوٌّ لَهُ لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.
قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته- أن لا تخطئ جرية اليم، الوصول به إلى الساحل، وإلقاءه إليه- سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى:
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتربّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية.
ف (على عيني) استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل:
و (على) بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 40]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يضمن حضانته ورضاعته.
فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: 12] ، فجاءت أخته فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ [القصص: 12] ،(7/125)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
فجاءت بأمه كما قال فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أي مع كونك بيد العدوّ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي برؤيتك وَلا تَحْزَنَ أي بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.
ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله وَقَتَلْتَ نَفْساً أي من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي ابتليناك ابتلاء. على أن (الفتون) مصدر كالشكور، أو ضروبا من الفتن على أنه جمع (فتنة) أي فجعلنا لك فرجا ومخرجا منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء.
قال أبو السعود: وقوله تعالى يا مُوسى تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 41 الى 42]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي تذكير لقوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه و (الاصطناع) افتعال من (الصنع) بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلانا لنفسه، أي جعله محلّا لإكرامه باختياره وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّا مكرما كليما منعما عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ (النفس) اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى(7/126)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
(الاصطناع) و (الاستخلاص) . ثم بيّن ما هو المقصود ب (الاصطناع) بقوله سبحانه اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي أي بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي لا تفترا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 43 الى 44]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي عقابي.
فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات:
18- 19] ، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ، وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد- مع علمه بأنه لا يؤمن- إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 45 الى 46]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46)
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يبادرنا بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يزداد طغيانا بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشريّ. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، بابا من حسن الأدب، وتحاشيا عن التفوه بالعظيمة: قالَ لا تَخافا أي من فرطه وطغيانه إِنَّنِي مَعَكُما أي بالحفظ والنصرة أَسْمَعُ وَأَرى أي ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ.
فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميما لما يستقبل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ.(7/127)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 47]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يخفى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 48]
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أي من ربنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ أي بآياته تعالى وَتَوَلَّى أي أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 49 الى 50]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50)
قالَ أي فرعون فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر.
وهذه الآية في معناها كآية وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس:
7- 8] وآية، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 51 الى 52]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52)
قالَ أي فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى أي ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما(7/128)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح بابا للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون فِي كِتابٍ تمثيلا لتمكنه وتقريره في علم الله عزّ وجلّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علما ثابتا لا يتغير، بمن علم شيئا وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلا، فيكون قوله لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ترشيحا للتمثيل، واحتراسا أيضا. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه.
ف (الكتاب) على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 53]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي أصنافا من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع.
لطيفة:
جعل الزمخشري قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا من باب الالتفات. وناقشه الناصر بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى.
وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثم قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً إلى قوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك (أمرنا وعمرنا) وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: وَلا يَنْسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتا أيضا. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله وَلا يَنْسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر وهو أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً(7/129)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى
فلما حكاه الله تعالى عنه، أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى.
فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشريّ لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 54 الى 55]
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ حال من ضمير (فأخرجنا) على إرادة القول إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها أي من الأرض خَلَقْناكُمْ أي خلقنا أصلكم وهو آدم.
أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط وَفِيها نُعِيدُكُمْ أي بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 58]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58)
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها أي من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين فَكَذَّبَ وَأَبى قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي مستويا واضحا يجمعنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 59 الى 60]
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفا لا سترة فيه فَتَوَلَّى(7/130)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
فِرْعَوْنُ
أي انصرف عن المجلس فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم ثُمَّ أَتى أي الموعد ومعه ما جمعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 61 الى 63]
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63)
قالَ لَهُمْ مُوسى أي مقدما لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ أي يستأصلكم بِعَذابٍ أي هائل لغضبه عليكم وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا أي بطريق التناجي والإسرار إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبدا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. والْمُثْلى تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.
لطيفة:
في قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قراءات:
الأولى- (إن هذين لساحران) بتشديد النون من (إنّ) و (هذين) بالياء وهي قراءة أبي عمرو، وهي جارية على السّنن المشهور في عمل (إنّ) .
الثانية- إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتخفيف (إنّ) وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى (إلّا) و (إن) قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:
أمس أبان ذليلا بعد عزّته ... وما أبان لمن أعلاج سودان
والثالثة- إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بتشديد (إنّ) و (هذان) بالألف. وخرّجت على أوجه:(7/131)
أحدها- موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:
تزوّد منّا بين أذناه طعنة وقال آخر:
إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
ثانيها- إنّ (إنّ) بمعنى (نعم) حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز:
يا عمر الخير جزيت الجنّه ... اكس بنيّاني وأمّهنّه
وقل لهنّ: إنّ أنّ إنّه ... أقسم بالله لتفعلنّه
وقول عبد الله بن قيس الرّقيّات:
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه
وردّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب ب (نعم) وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا:
أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ [طه: 57] ، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ إلخ، وما قبله توطئة.
وقد رد في (المغني) هذا التخريج بأن مجيء (نعم) شاذ حتى نفاه بعضهم.
ومنعه الدمامينيّ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في لَساحِرانِ لام الابتداء، لحقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر.
وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع (إن) التي بمعنى (نعم) لشبهها بالمؤكدة لفظا.
وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.
وثالثها- أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو (هذا) جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفردة مبنيّا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:(7/132)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
أحدهما- أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ [القصص: 27] ، مع أن هاتين تثنية (هاتا) وهو مبني.
والثاني- أن (الذي) مبني وقد قالوا في تثنيته (اللّذين) في الجر والنصب.
وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا [فصلت: 29] ، وأجاب الأول بأنه إنما جاء (هاتين) بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتيّ) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في إِنْ هذانِ لَساحِرانِ أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في (هذان) للألف في (ساحران) . وأجاب عن الثاني بالفرق بين (اللذان) و (هذان) بأن (اللّذان) تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه (بالزيدان) و (هذان) تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إنّ هذان) لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال (إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها) وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه.
أحدها- إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.
والثاني- أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في الصحف؟.
والثالث- أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع- أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عتّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش.
فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصا.
هذا حاصل ما في (المغني) و (الشذور) و (حواشيهما) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 64]
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة.(7/133)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين وَقَدْ أَفْلَحَ أي فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي علا وغلب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 65 الى 66]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ أي التي ألقوها يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي حيّات تسعى على بطونها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 67 الى 69]
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأَوْجَسَ أي أحس فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى وذلك لما جبل عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيّة قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي تلتقطه بفمها إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ في مقابلة آية ربانية وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي لا يفوز بمطلوبه، أيّ مكان جاء لدفع الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 70 الى 71]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فألقي السّحرة سجّدا، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية قالُوا آمَنَّا(7/134)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قالَ
أي فرعون آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي فاتفقتم معه ليكون لكم الملك فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من جانبين متخالفين وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفا من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوبا، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله، لغير الله تعالى كقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما ضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 72]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72)
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أي نختارك بالإيمان والاتباع عَلى ما جاءَنا أي من الله على يد موسى مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا أي وعلى الذي خلقنا. واختيار هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه وتعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله آمَنْتُمْ لَهُ وقيل هو قسم محذوف الجواب فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله فَلَأُقَطِّعَنَّ إلخ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها.
وإنما البغية الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 73]
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ثوابا.(7/135)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 74]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها أي فينقضي عذابه وَلا يَحْيى أي حياة طيبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 75]
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أي المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 76]
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.
لطائف:
من (الكشاف) و (حواشيه للناصر) .
الأولى- في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى- صلوات الله عليه- اختيار إلقائهم، أوّلا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزّ وجلّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعد، قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم.(7/136)
الثانية- جوز في إيثار قوله تعالى: ما فِي يَمِينِكَ على (عصاك) وجهان: أحدهما- أن يكون تعظيما لها. أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما- أن يكون تصغيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى. لأنها إذا كانت أعظم منّة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟.
ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.
واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين- التعظيم والتحقير- وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهما، لأن ما فِي يَمِينِكَ أبهم من (عصاك) وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإشارة. فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.
ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عند ما سأله عنها بقوله تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى؟ انتهى.
ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف أَلْقِ عَصاكَ والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من(7/137)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى.
هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادف له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل.
أقول إنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف.
ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إنجائهم وإهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 77]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي سر بهم من مصر ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أي يابسا. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله لا تَخافُ دَرَكاً أي لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك وَلا تَخْشى أي غرقا من بين يديك، ووحلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 78 الى 79]
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ [الشعراء: 54- 55] ، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي أوردهم الهلاك،؟ لعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد.
ثم ذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه:(7/138)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 80 الى 81]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإغراقهم، وأنتم تنظرون. وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في (نابلس) ويسمونه (جبل الطور) ويذكر في الجغرافيا بلفظ (عيبال) ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم.
قال الزمخشري: وإنما عدّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإليهم رجعت منافعها التي قام بهم دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.
و (جانب) مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي إتيان جانب. وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من لذائذه. فإن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي هلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 82]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحا بجوارحه، ثم اهتدى، أي استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13] ، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان.، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى:(7/139)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 83]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83)
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي أيّ شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه ورضاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 84]
قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84)
قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة (ربّ) لمزيد الضراعة والابتهال، رغبة في قبول العذر. أفاده أبو السعود.
فإن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول (طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك) فالجواب. أن هذا من الغفلة عن سرّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه (أعجلك) المتعدي ب (من) . وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي. وقوله وَعَجِلْتُ إلخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: وَعَجِلْتُ إلخ، وما قبله تمهيد له.
وقال الناصر: إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخّر رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطا بطائفته، ونافذا فيهم، ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ [الحجر: 65] ، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزّ وجلّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسرّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 85]
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة وَأَضَلَّهُمُ(7/140)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
السَّامِرِيُ
يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلا يتخذوه إلها، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. و (السامري) في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في (نابلس) قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها.
وقد تضمنت هذه الجملة- أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة- الأمر- برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 86]
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي بإنزال التوراة عليّ، ورجوعي بها إليكم أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي زمان الإنجاز، أو مجيئي أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 87 الى 88]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا قرئ بالحركات الثلاث على الميم.
قال الزمخشري: أي ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده وَلكِنَّا حُمِّلْنا بفتح الحاء مخففا، وبضمها وكسر الميم مشددا أَوْزاراً أي أثقالا وأحمالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليّ نسائهم فَقَذَفْناها أي في النار لسبكها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي كان إلقاؤه فَأَخْرَجَ لَهُمْ أي من تلك الحليّ المذابة عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أي صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّا، وخار(7/141)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي.
وقوله: فَقالُوا أي السامريّ ومن افتتنوا به هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفها لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 89]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ أي العجل إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي لا يردد لهم جوابا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي فكيف يتخذ إلها؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 90]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي قبل رجوع موسى إليهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي ضللتم بعبادته وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي في عبادته سبحانه، ونبذ العجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 91 الى 93]
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ أي موسى يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و (لا) مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسدا.(7/142)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 94]
قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
لَ
أي هارون ابْنَ أُمَ
بكسر الميم وفتحها. أراد (أمي) وذكرها أعطف لقلبه تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
أي بتركهم لا راعي لهم لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 95]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ثم أقبل على السامري وقال له منكرا: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 96 الى 97]
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي فطنت لما لم يفطنوا له فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها أي في الحلي المذاب حتى حيّ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي حسّنته وزينته قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ أي لعذابك مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي لنطيّرنّه رمادا في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلا بقوله إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:(7/143)
فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي.
وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة، من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفري، بلا امتراء.
الثاني- عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل:
وقت ذهابه بموسى إلى الطور.
واختلفوا أيضا في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي شيئا من سنتك ودينك. فقذفته، أي طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟
وبماذا يأمر الأمير؟.
وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:
6] ، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.
قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه:(7/144)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
أحدها- أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ (الرسول) لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها- أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول.
والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها- أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأيّ منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.
التنبيه الثالث في قوله لا مِساسَ وجوه:
أحدها- إني لا أمسّ ولا أمسّ.
وثانيها- المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد، عقوبة له.
ثالثها- ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله (ما أريد مسي النساء) فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 46] ، أي لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] ، والله أعلم.
ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 98]
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)
إِنَّما إِلهُكُمُ أي المستحق للعبادة والتعظيم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويها بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيرا للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه:(7/145)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 99]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99)
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ، وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي كتابا عظيما جامعا لكل كمال، وسمي القرآن ذِكْراً لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.
قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه (ذكرا) فقال فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43] ، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 100 الى 101]
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي إثما. يعني عقوبة ثقيلة.
شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها خالِدِينَ فِيهِ أي في احتماله المستمر وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 102 الى 103]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم.
أفاده بعض المحققين.
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي نسوقهم إلى جهنم يَوْمَئِذٍ زُرْقاً أي زرق الوجوه.
الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. [آل عمران: 106] .(7/146)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم:
42] ، نقله الرازي. والأول أظهر. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين إِنْ لَبِثْتُمْ أي في الدنيا إِلَّا عَشْراً أي عشر ليال.
قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضّت. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء.
ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك (كفى بالانتهاء قصرا) . وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها، بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد ثقالا منهم، في قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 104]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أعدلهم رأيا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ونحوه قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون: 112- 113] ، انتهى.
قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] ، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلا له وتحقيرا.
قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال (عشرا) أو (يوما) أو (ساعة) حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به.(7/147)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 107]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال فَيَذَرُها أي فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال قاعاً أي سهلا مستويا صَفْصَفاً أي أملس لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً أي نتوءا يسيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 108]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ أي يجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه.
متبعين لصوته، سائرين بسيره.
في شروح (الكشاف) : هذا كما يقال (لا عصيان له) أي لا يعصى. و (لا ظلم له) أي لا يظلم. وضمير (له) للداعي. وقيل: للمصدر. أي لا عوج لذلك الاتباع وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي انخفضت لهيبته ولهول الفزع فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي صوتا خفيّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 109]
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي قبل قوله.
والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.
قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر له فيما أراد الله البتة.(7/148)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 110]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي بمعلوماته، أو بذاته العلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 111]
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلت وخضعت خضوع العناة، أي الأسارى.
لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.
ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي خسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 112]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً أي نقص ثواب وَلا هَضْماً أي ولا كسرا منه، بعدم توفيته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 113]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي بعبارات شتى، تصريحا وتلويحا، وضروب أمثال، وإقامة براهين لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي بالفعل أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي اتعاظا واعتبارا، يؤول بهم إلى التقوى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 114]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره،(7/149)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: بل أنصت. فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقّنه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة: 16- 19] ، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.
وهذا- كما قال الزمخشري- متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عند ما علم من ترتيب التعلم. أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلما. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 115]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة فَنَسِيَ أي العهد وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي تصميما في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 116 الى 117]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أي بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة،(7/150)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك، مع المحافظة على الفاصلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 118 الى 119]
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي لا تتصوّن من حرّ الشمس.
قال أبو السعود: هذا تعليل لما يوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها.
مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها.
انتهى.
لطيفة:
قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها: ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا، فقال الكندي الأول:
كأنّي لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي: كرّي كرّة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله (لخيلي كري كرة) وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذّه ومفاخره ويكثرها.
على أن هذه الآية سرّا لذلك، زائدا على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل.
ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسن به منتظما. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه (قطع النظير عن النظير)(7/151)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأولين، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل (إنّ لك) و (أنّك) وأيضا روعي مناسبة الشبع والكسوة.
لأن الأول يكسو العظام لحما. وأما الظمأ والضحى فمن واد واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 120 الى 121]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي من أكل منها خلد ولم يمت وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما أي يلزقان مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي فحصل لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ أي بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد فَغَوى أي عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 122 الى 123]
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123)
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اصطفاه ووفّقه للإنابة فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى قالَ أي بعد قبول توبته اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً أي انزلا من الجنة إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي متعادين.
قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما، ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي من كتاب ورسول. فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله (هداي) مع الإضافة إلى ضميره(7/152)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 124 الى 127]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.
وفي الآية مسائل:
الأولى- قال الرازي في قوله تعالى: عَنْ ذِكْرِي: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) : أي عن الذكر الذي أنزلته. و (الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل.
ك (قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا. قال تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: 50] ، وقال تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 58] . وقال تعالى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [القلم: 52] . وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ [فصلت: 41] . وقال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] ، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3] ، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل(7/153)
المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ [غافر: 2- 3] الآية.
الثانية- قرئ (ضنكا) بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك:
ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضنك ككرم، ضنكا وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: (ضنكا) صفة معيشة.
وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور (ضنكا) بالتنوين وصلا، وإبداله ألفا وقفا، كسائر المعربات. وقرأت فرقة (ضنكي) بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلا من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى.
الثالثة- ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالا: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي ضنكا في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد:
فهذا من ضنك المعيشة. انتهى.
وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك إلا من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدى ونورا وشفاء ورحمة.
ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك.(7/154)
هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يلمسون ولا يلمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات.
وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال (ما جئت لأهدم الناموس- التوراة- بل لأتممه) : فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلّا وإبراما، تبعا لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّا. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فإنّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزابا. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علما بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين..
فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفسا ومالا وعرضا. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدرا وأضنك معيشة وأشد اضطرابا وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيّله له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيما في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي(7/155)
يرشد إليه العقل عريّا عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوبا ما يراه في الغد خطأ. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غدا أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفرا مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكلّ يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيما، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة.
هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فإنّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقلبه كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه.
فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفا على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالا طبعا إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّا للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فإنّى يكون العقل وحده وازعا عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبع الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراسا نظريّا. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلا، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها.
وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير(7/156)
ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفساد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة.
وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ، ولا حرمة للسنن والشرائع، ولا برّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.
وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى.
وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسمية وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثير والضجر شديد والحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يلتذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما، وبإزاء كل فرح ترحا، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.
أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل:
ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما(7/157)
كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزّ وجلّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. فيرى نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتبصر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاءوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائه، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.
الرابعة- رأيت للإمام ابن القيّم، رحمه الله، كلاما على هذه الآية في كتابيه:
(الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن(7/158)
ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] ، ونظيرها قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] ، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
وقد «1» أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا.
قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر.
وقال «2» : ما بين بيتي ومنبري روضة من
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الدعوات، 82- باب حدثنا يوسف بن حماد البصري.
(2) أخرجه البخاري في: الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 5- باب فضل ما بين القبر والمنبر، حديث 648، عن عبد الله بن زيد المازني.(7/159)
رياض الجنة)
ولا تظن أن قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13- 14] ، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:
83- 84] ، وقال حاكيا عنه أنه قال: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88- 89] ، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصا.
وقال رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) : فسّر غير واحد من السلف قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
أي تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] ، فهذا في البرزخ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فقول الملائكة الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50] ، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة.(7/160)
وفي الصحيح «1» ، عن البراء بن عازب في قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27] ، قال: نزلت في عذاب القبر.
والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 36- 37] ، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38] ، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 37] ؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.
والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:
15] ، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ،
و
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 14- سورة إبراهيم، 2- باب يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، حديث 725.(7/161)
قال تعالى في أهل النار: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] ، وقال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الزمر: 56- 59] ، وهذا كثير في القرآن.
الخامسة- قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم: 38] ، وقوله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] ، وقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان: 22] ، وقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: 6- 7] ، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله:
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] ، وقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور: 13- 15] ، وقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] .
والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وكيف يجاب بقوله كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة.
وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] ، وقد قيل في هذه الآية أيضا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه:
124] ، قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.
ومن نصر أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو(7/162)
عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيبصرون بأجمعهم، عميا بكما صمّا، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجّة، هم عمي عنها، بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا.
فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» (إنكم محشورون إليّ حفاة عراة) وكقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] ، وكقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 47] ، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر.
فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات: 20- 21] ، ثم قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ... [الصافات: 22] ، الآية وهذا الحشر الثاني. وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني، يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] . انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، حديث 1585 عن ابن عباس.(7/163)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
السادسة- قوله تعالى: وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها.
كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف: 51] ، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.
قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
روى الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «1» : «ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم» .
السابعة- قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ... الآية، أي وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائما. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 128]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي لهؤلاء المكذبين كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الأمم المكذبة للرسل يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يريد قريشا، أي يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي العقول السليمة. كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 129]
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ... الآية، بإهلاكهم مثل هلاك (أولئك)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/ 284.(7/164)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
[الأنفال: 33] .
وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول:
لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. و (اللزام) إما مصدر (لازم) كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضا، كقولهم: مسعر حرب، ولزاز خصم بمعنى ملحّ على خصمه. من (لزّ) بمعنى ضيق عليه.
وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع (لازم) . كقيام جمع قائم.
وقوله تعالى: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عطف على (كلمة) أي ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلا.
قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة.
وقد جوز عطفه على المستكن في (كان) العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 130]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى أي إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان:
الأول- أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامدا له على ما ميّزك بالهدى، معترفا بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه(7/165)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
المأثورة (سبحان الله وبحمده) . وعليه فسرّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها.
الثاني- أنه الصلاة وهو الأقرب لآية وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:
45] ، والآيات يفسر بعضها بعضا. والمعنى: صلّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أي من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوء الرّجل والخلوّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب.
قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته ل آناءِ اللَّيْلِ أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار.
وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: لَعَلَّكَ تَرْضى أي رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] ، وقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] .
ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجل وأسمى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 131]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131)
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفرة زَهْرَةَ(7/166)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
الْحَياةِ الدُّنْيا
أي زينتها. منصوب على البدلية من أَزْواجاً أو ب مَتَّعْنا على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فان وزائل وغرور وخدع تضمحل.
قال أبو السعود: لِنَفْتِنَهُمْ متعلق ب مَتَّعْنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا، إثر إظهار بهجته حالا. أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه.
أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [القصص: 80] ، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير ب (الزهرة) إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب.
ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريّ رحمه الله، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه، وإعجابا به وتمنيا أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص: 79] ، حتى واجههم أولو العلم والإيمان ب وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [القصص: 80] .
وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئا أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدنّ عينيك. أي لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض البصر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 132]
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ يعني (بأهله) أهل بيته أو التابعين له. أي مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على(7/167)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
الآمر بها نفع مّا، لتعاليه وتنزهه بقوله لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي لا نسألك مالا. بل نكلفك عملا ببدنك نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا. ومعنى: نحن نرزقك، أي نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير.
وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:
56- 57] ، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقا ولا مفهوما. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى: في وصف المتقين رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] ، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين. رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] .
وقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقابا ولا يرجو له ثوابا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : آية 133]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ... [الإسراء: 90- 91] الآية.
وقول تعالى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير.
وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي(7/168)
بها أمّيّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنّده. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50- 51] ، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام. إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال مقوما للمعوج كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذا لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجأوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في أجوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] ، وقال أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] ، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.
معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم.
فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة(7/169)
أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها.
أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضيء عقولهم بنور العلم.
وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.
وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شأنه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعا لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتا مّا. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلا يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم.
وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلا، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء.
ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهورا منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببداءة العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.(7/170)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة طه (20) : الآيات 134 الى 135]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ أي بالعذاب الدنيويّ وَنَخْزى أي بالعذاب الأخرويّ. أي ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها.
فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء قُلْ أي لأولئك الكفرة المتمردين كُلٌّ أي منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ أي عن قرب مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي المستقيم وَمَنِ اهْتَدى أي من الزيغ والضلالة. أي هل هو النبيّ وأتباعه، أم هم وأتباعهم.
وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.(7/171)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأنبياء
سميت بذلك لاشتمالها على فضائل جليلة، لجماعة منهم عليهم السلام.
وهي مكية واستثنى منها بعضهم آية أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الأنبياء: 44] ، وهي مائة واثنتا عشرة آية. وروى البخاريّ عن عبد الله ابن مسعود قال: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي.
قال ابن الأثير: أي من أول ما أخذته وتعلمته بمكة. والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف.(7/172)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخرويّ وهو عذابهم وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي عما يراد بهم مُعْرِضُونَ أي مكذّبون به. وإنما كان مقتربا لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6- 7] ، وقال تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ، ولا يخفى ما في عموم (الناس) من الترهيب البليغ.
وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم. كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيويّ والأخرويّ لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير إليه في آية فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] ، ووعد به النبيّ وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخرويّ، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 2]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستخذي له الأنفس.
قال الزمخشريّ: بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه(7/173)
المنبه وإيقاظ الموقظ، فأن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون.
فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و (الذكر) هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.
تنبيه:
استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية. فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثا لكونه مؤلفا من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلما، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة والسلام، أو غيرهم كشجرة موسى.
وأما الكرامية، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفا للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلّا للحوادث.
والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.
قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهير ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليه. وقد عدّ الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه (مطابقة المنقول للمعقول) :
احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:
39] ، وقوله تعالى عن إخوة يوسف تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:
95] ، وقوله تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:(7/174)
11] ، وقوله تعالى عن إبراهيم أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء: 75- 76] ، انتهى.
وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من (فتوحاته) في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجودا قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.
فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسما (إنّه) يعني القرآن: لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين.
فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط.
انتهى.
وبالجملة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في (منهاج السنة) أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به. وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعيّن قديما.
وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفا بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.
ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا نعم.
وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء- فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ [النمل: 8] ، وقال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
ثم قال رحمه الله: قالوا- يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل(7/175)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يردّه الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ (الحوادث) مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.
ثم قال: والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاريّ وعثمان بن سعيد الدارميّ وغيرهم.
ثم قال فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا.
فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول إنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لما كان أزليّا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإنه صار محلّا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصا.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 3]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي أسروا(7/176)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. و (الذين) بدل من واو (أسروا) أو مبتدأ خبره (أسروا) أو منصوب على الذم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي تنقادون له وتتبعونه. وقوله وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشريّ رحمه الله:
اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.
قال أبو السعود: وزلّ عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 4]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
قالَ رَبِّي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرئ (قل) على الأمر له صلوات الله عليه يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ السَّمِيعُ أي لما أسروه الْعَلِيمُ أي به فيجازيهم. ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 5]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط يراها في النوم بَلِ افْتَراهُ أي اختلقه بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إليه طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 6]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ أي لم تؤمن أمة من الأمم(7/177)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات. أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. وقدمنا أن رقيّ النوع البشري في العهد النبويّ، اقتضى أن تكون الآية عقلية، لا كونية. فتذكر.
ثم أوضح جواب شبهتهم في منافاة البشرية للرسالة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 7]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أي لا ملائكة. وقرئ بالياء وفتح الحاء فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي العلماء بالتوراة والإنجيل إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أن الرسل بشر، فيعلموكم إن المرسلين لم يكونوا ملائكة. وفي الآية دليل على جواز الاستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم، لحجّ الخصم وإقناعه.
تنبيه:
قال الرازيّ: فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية، في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر- فبعيد. لأن هذه الآية خطاب مشافهة. وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة. ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. انتهى.
ثم بيّن تعالى كون الرسل كسائر الناس، في أحكام الطبيعة البشرية، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 8]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8)
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي جسدا مستغنيا عن الطعام، بل محتاجا إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20] ، وفي هذا التعريف الربانيّ عن حال المرسل، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين(7/178)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة. إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم. فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم، وهو السنة. ومن المشي بالأسواق، وهو المأذون فيه. ومن إجابة الدعوة، وهي واجبة، لأوهام في أنفسهم شيدوها. ومحافظة على السمعة حموا جانبها. فتبّا لهم من قوم مبتدعين، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله. ويريدون حالة فوق ما عليه رسل الله. وما ذلك إلا لله. فما أجرأهم على منازعة الجبار! وما أصبرهم على النار! وقوله تعالى:
وَما كانُوا خالِدِينَ أي في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] ، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزّ وجلّ. تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه. وكونهم بشرا في تمام النعمة الإلهية. وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم. إذ الجنس أميل إلى الجنس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 9]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي في غلبتهم على أعدائهم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 12] ، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ أي من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي المجاوزين الحدود في الكفر. ثم نبه تعالى على شرف القرآن، محرضا لهم على معرفة قدره، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 10]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف أَفَلا تَعْقِلُونَ أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: 44] ، وقيل: معنى ذِكْرُكُمْ موعظتكم فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول. قال أبو السعود: وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه. فإن قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ إنكار توبيخيّ، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ(7/179)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 13]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي عذابنا النازل بهم إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي يهربون مسرعين. ثم قيل لهم استهزاء بلسان الحال أو المقال لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أي من التنعم والتلذذ و (في) ظرفية أو سببية وَمَساكِنِكُمْ أي التي كثر فيها إسرافكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 14 الى 16]
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16)
قالُوا أي لما أيقنوا بنزول العذاب يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي تلك الكلمة وهي (يا ويلنا) دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي كنبات محصود خامِدِينَ أي هالكين بإخماد نار أرواحهم وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي بل للإنعام عليهم. وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له. قال الزمخشريّ عليه الرحمة: أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق، مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللّعب.
وإنما سويناها للفوائد الدينية، والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. وقال أبو السعود: في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحكم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة. وتنبيه على(7/180)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى، من مقتضيات تلك الحكم، ومتفرعاتها. عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه. وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم. أي ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع، خالية عن الحكم والمصالح. وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو، حيث قيل لاعِبِينَ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة.
بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى. بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه. ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، بواسطة طاعتنا وعبادتنا. كما ينطق به قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، وقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 17]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17)
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو. أي لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا. كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها، وتسوية الفروش وتزيينها. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة. فيستحيل اتخاذنا له قطعا. وقوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ جوابه محذوف دل عليه ما قبله. أي لاتخذناه. وقيل: إنّ (إن) نافية.
أي ما كنا فاعلين. أي لاتخاذ اللهو، لعدم إرادتنا إياه. فيكون بيانا لانتفاء التالي، لانتفاء المقدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 18]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته. وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق فَيَدْمَغُهُ أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي هالك بالكلية. وقد استعير لإرسال الحق على الباطل (القذف) الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة. ولمحقه للباطل (الدمغ) الذي هو(7/181)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
كسر الشيء الرخو الأجوف. وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح، استعارة تصريحية تبعية. ويصح أن يكون تمثيلا لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه، وذكر فَإِذا هُوَ زاهِقٌ لترشيح المجاز. لأن من رمى فدمغ تزهق روحه. فهو من لوازمه. قال أبو السعود:
وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان، ما لا يخفى. فكأنه زاهق من الأصل وفي الآية إيماء إلى علوّ الحق وتسفل الباطل. وأن جانب الأول باق والثاني فان وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه، ممّا تتنزه عظمته عنه. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا، وبراءتهم من البنوّة المفتراة عليهم، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 19]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ملكا وتدبيرا وَمَنْ عِنْدَهُ وهم الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يعيون ولا يتعبون منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 20]
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ أي من تنزيهه وعبادته، ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد، إثر تقريره أمر الرسالة- فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 21]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أي يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود.
أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى.
كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك. فكيف جعلوها لله ندا، وعبدوها معه؟(7/182)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
قال الزمخشريّ: رحمه الله: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ كيف، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عزّ وجلّ بأنه خالق السموات والأرض وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى، منكرين للبعث. ويقولون: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 87] ، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم.
فكيف يدّعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟.
قلت: الأمر كما ذكرت. ولكنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار. لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات. انتهى.
قال في (الانتصاف) : فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها. وهو أبلغ في الإنكار.
ثم قال الزمخشريّ: وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. انتهى.
لطيفة:
سر قوله تعالى مِنَ الْأَرْضِ هو التحقير، أي تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية. وجوز إرادة التخصيص. أي الآلهة التي من جنس الأرض. لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض. وإنما خصص الإنكار بها، لأن ما هو أرضيّ مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته؟ ثم بيّن تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه، بل على استحالته، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 22]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
لَوْ كانَ فِيهِما أي يتصرف في السموات والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ أي غيره لَفَسَدَتا أي لبطلتا بما فيهما جميعا، واختل نظامهما المشاهد، كما قال تعالى في سورة (المؤمنون) وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] ، قال أبو السعود: وحيث انتفى التالي، علم(7/183)
انتفاء المقدم قطعا. بيان الملازمة أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا، وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة.
فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة. وإما بتأثير واحد منها، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا،.
واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما. وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق. فإنه لو تعدد الإله، فإن توافق الكل في المراد، تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت تعاوقت. فلا يوجد موجودا أصلا. وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم. انتهى.
وتفصيله كما في (المقاصد) أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أولا. وكلاهما محال. أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما وهو محال، لاستلزامه اجتماع الضدين. أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلوّ المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال. لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده. وهذا البرهان يسمى برهان التمانع. وإليه الإشارة بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فإن أريد بالفساد عدم التكوّن، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض. لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما. والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة. وأما الآخران فلما مرّ. وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب. وتميز صنع كلّ عن صنع الآخر، بحكم اللزوم العاديّ. فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد. ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع. وترتب الآثار، انتهى.
هذا وقد قيل: إن المطلب هنا برهانيّ، والمشار إليه في الآية إقناعيّ. ولا يفيد العلم اليقينيّ فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب، وممن فصل ذلك التفتازانيّ في (شرح العقائد النسفية) قادحا لما أشار إليه نفسه في (شرح المقاصد) من كون الآية برهانا، كما ذكرناه عنه. وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل، لجواز الاتفاق على هذا النظام، أي بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر(7/184)
فلا يستلزم التعدد التمانع بالفعل بل بالإمكان. والإمكان لا يستلزم الوقوع، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما. ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال. وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلا. فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين، فيلزم عجزهما. أو بكل منهما فيلزم التوارد. أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز. فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية. وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد آخر منها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة، أن يطلب كلّ الانفراد بالملك والعلوّ على الآخر وقهره، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر، فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال، فضلا عن إخطار فرضه، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر. فعلى هذا التقدير، فالملازمة علم قطعيّ. هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي. وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد. وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرمانيّ في الانتقاد.
قال العلامة المرجانيّ: وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفيّ في كتابه (التبصرة) وتابعه صاحب (الكشف) حيث شنع على أبي هاشم الجبائيّ تشنيعا بليغا. حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعا على هذا المدعي، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد. ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان، ولا تكفير ولا تضليل، ما دام المرء على سواء السبيل.
وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة (التوحيد) إيضاحا ما عليه من مزيد، وعبارته: ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا. أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجا وعقلا. وأما الوحدة في الصفة، أي أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود، فلما بيّنا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود. فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات. وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد الممكنات، فهي ثابتة، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر(7/185)
بالضرورة. وإلا لم يتحصل معنى التعدد. وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها، بتعين ما يثبت له بالبداهة. فيختلف العلم والإرادة باختلاف الذوات الواجبة. إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها. هذا التخالف ذاتيّ، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج. فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق. وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته، فيكون فعل كلّ صادرا على حكم يخالف الآخر مخالفة ذاتية. فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإراداتهم. وهو خلاف يستحيل معه الوفاق. وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات. فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته. ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى. فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم، فيفسد نظام الكون، بل يستحيل أن يكون له نظام، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات. لأن كل ممكن لا بد أن يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة. فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال ف لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا لكن الفساد ممتنع بالبداهة. فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله. انتهى.
وأشار حجة الإسلام الغزاليّ في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في بحث الوحدة، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد، وأنه لا مزيد على بيان القرآن. قال الكلنبويّ: الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر. وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا. ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله. فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة. انتهى.
وقوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم. أي فسبحوه سبحانه اللائق به، ونزهوه عما يفترون. وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة.(7/186)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 23]
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه وَهُمْ يُسْئَلُونَ الضمير للعباد. أي يسئلون عما يفعلون كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93] .
قال الزمخشريّ: إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم، أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة، ولا يجوز عليه خطأ، ثم قال وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي هم مملوكون مستعبدون خطاءون. فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. انتهى.
قال ابن كثير: وهذه الآية كقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88] .
تنبيه:
قال الإمام الغزاليّ في (المضنون به على غير أهله) : وأما معنى قول الله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ، وقوله تعالى: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه: 125] ، فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعنيّ بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إذ لا يقال (لم) قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 24]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرره استعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم، وانتقالا(7/187)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة، مع خلوها عن خصائص الإلهية. وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم. ولذا قال تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي دليلكم على ما تفترون. أما من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه.
قال أبو السعود: وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا، ضرب من التهكم بهم. وقوله تعالى هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إنارة لبرهانه، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة. وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم. أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد، المتضمن للبرهان القاطع العقليّ، ذكر أمتي أي عظتهم، وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم. انتهى.
ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجّة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن النظر الموصل إلى الهدى. ثم بين تعالى أن التوحيد دعوى كل نبيّ، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 25]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ وقرئ (يوحى) بالياء وفتح الحاء أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ. كما قال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] ، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، فكل نبيّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. ثم بين تعالى بطلان ما يفتريه بعض المشركين من أن الملائكة بناته، تعالى علوّا كبيرا، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 27]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي مقربون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي يتبعون قوله، فلا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو(7/188)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
شأن العبيد المؤدبين وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فلا يعصونه في أمر. إشارة إلى مراعاتهم في أدب العبودية في الأفعال أيضا، كالأقوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 28]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي مما قدموا وأخروا. فهو المحيط بهم علما وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] ، فكيف يخرجون عن عبوديته؟
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي أن يشفع له، مهابة منه تعالى.
قال المهايميّ: كيف يخرجون عن عبوديته ولا يقدرون على أدنى وجوه معارضته. لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى. إذا الشفاعة لغير المرتضى نوع معارضة معه. وكيف يعارضونه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي قهره مُشْفِقُونَ أي خائفون.
قال ابن كثير: وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] ، في آيات كثيرة في معنى ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 29]
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الضمير في (منهم) للملائكة. لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق، وكونه أبلغ في الرد والتهديد.
قال الزمخشريّ: رحمه الله: وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية، فاجأ بالوعيد الشديد. وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم. إن كان ذلك على سبيل الفرص والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] ، قصد بذلك تفظيع أمر الشرك، وتعظيم شأن التوحيد. انتهى.(7/189)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
وفي قوله كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة. كيف لا؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 30]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ.
هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: كانَتا رَتْقاً أي لا تمطر ولا تنبت فَفَتَقْناهُما أي بالمطر والنبات. فالفتق والرتق استعارة. ونظيره قوله تعالى:
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 11- 12] ، و (الرجع) لغة هو الماء و (الصدع) هو النبات لأنه يصدع الأرض أي يشقها. وقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عبس: 24] ، أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: 25] ، أي من المزن بعد أن لم يكن ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 26] ، أي ثم بعد أن كانت الأرض رتقا متماسكة الأجزاء، شققناها شقّا مرئيّا مشهودا، كما تراه في الأرض بعد الريّ. أو شقّا بالنبات.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] ، وكقوله: قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء: 56] ، فأخبر عن الإيجاد بلفظ (الفتق) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ (الرتق) .
قال الرازيّ: وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن.
جعل (الرتق) مجازا عن العدم و (الفتق) عن الوجود. انتهى.
وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى كانَتا رَتْقاً أي شيئا واحدا.
ومعنى فَفَتَقْناهُما فصلنا بعضهما عن بعض.
قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه.(7/190)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
أي أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة.
كلامه.
وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل:
1] ، مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة.
وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه.
ومعنى قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ صيّرنا كل شيء حيّ بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار ناميا. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنّور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم: 19] ، وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] ، ولا ضرورة إليه.
بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.
وقوله تعالى: أَفَلا يُؤْمِنُونَ إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 31]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك وتضطرب بهم. فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.(7/191)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الضمير في (فيها) للأرض. وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه. أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق. وعلى الثاني اقتصر ابن كثير. قال: فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها، رحمة منه تعالى وَسُبُلًا بدل من فِجاجاً أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة، ومعنى يَهْتَدُونَ أي إلى مصالحهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 32]
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً أي على الأرض كالقبة عليها مَحْفُوظاً أي عاليا محروسا أن ينال أو محفوظا من التغير بالمؤثرات، مهما تطاول الزمان. كقوله تعالى:
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النبأ: 12] ، وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ. أي عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر، بالشمس والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم. والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وأي جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو، عزّت قدرته ولطف علمه؟؟.
وقرئ (عن آيتها) على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس، أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها. وهم عن كونها آية بينة على الخالق، معرضون. أفاده الزمخشريّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 33]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ أي ليسكنوا فيه وَالنَّهارَ ليتحركوا لمعاشهم وينشطوا لأعمالهم وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ضياء وحسبانا كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي كل واحد منهما يجري في الفلك، كالسابح في الماء. و (الفلك) في اللغة كل شيء دائر.(7/192)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
قال بعض علماء الفلك: تشير الآية إلى حركة هذه الكواكب كآية فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ، وهما تدلان على أن حركة الكواكب ذاتية. لا كما كان يقول القدماء من أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها، وبدورانها تتحرك الكواكب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 34]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت حين قالوا (نتربص به ريب المنون) فكانوا يقدّرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، لما يأملون ذهاب الدعوة النبوية، وتبدد نظامها، بفقد واسطة عقدها. فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذه الآية، بما قضى أنه لا يخلد في الدنيا بشرا، لكونه مخالفا للحكمة التكوينية. وأعلم بحفظ تنزيله وحراسته من المؤثرات ما بقيت الدنيا بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] .
قال ابن كثير: فقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحيّ إلى الآن. لأنه بشر سواء كان وليّا، أو نبيّا أو رسولا. انتهى.
وتقدم بسط ذلك في سورة الكهف فتذكر. وفي معنى الآية قول عروة الصحابيّ رضي الله عنه:
إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشّامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وقول الشافعيّ:
تمنّى أناس أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للّذي يبغي خلاف الّذي مضى: ... تهيّا لأخرى مثلها، وكأن قد
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 35]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من المصائب، وما يجب فيه الشكر من النعم فِتْنَةً أي اختبارا. وهو مصدر(7/193)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
مؤكد ل (لنبلوكم) من غير لفظه وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، قال الزمخشريّ: وإنما سمى ذلك ابتلاء، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار، أي فهو استعارة تمثيلية. قال القاضي: وفي الآية إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق. وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 36]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ عنى بهذه الآية مستهزئو قريش، كأبي جهل وأضرابه ممن كان يسخر من رسالته صلوات الله عليه، ويتغيظ لسبّ آلتهم وتسفيه أحلامهم. كما قال تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 41- 42] ، وإضافة ذكر (للرحمن) من إضافة المصدر لمفعوله أي بتوحيده. أو للفاعل، أي بإرشاده الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هم كافرون، أي فهم أحق أن يهزأ بهم. وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 37]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ كقوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء:
11] ، جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه. كقولك (خلق زيد من الكرم) تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق، منزلة ما طبع هو منه من الأركان، إيذانا بغاية لزومه له، وعدم انفكاكه عنه فالآية استعارة مكنية، بتشبيه العجل لكونه مطبوعا عليه، بمادته. ويجوز أن تكون تصريحية. والمراد بالإنسان الجنس. ومن (عجلته) مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد سَأُرِيكُمْ آياتِي أي نقماتي في الدنيا كوقعة بدر. وفي الآخرة عذاب النار فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي بالإتيان بها.(7/194)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 38]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الموعود من العذاب الأخرويّ، بطريق الاستهزاء والإنكار، لا لتعيين وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إتيانه. قال الزمخشريّ: كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار. فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم. فقدم أولا ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها. ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. ثم بين هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه، وأن عجلتهم لجهلهم بمغبته، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 الى 40]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ أي لا يدفعونها عن أشرف أعضائهم وأقواها. فتقديم الوجه لشرفه، ولكون الدفع عنه أهم من غيره أيضا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي بدفع أحد عنهم. وجواب (لو) محذوف أي:
لما استعجلوا. وقيل (لو) للتمني. لا جواب لها بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ أي فجأة فتحيّرهم. لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا عليه. وإن أرادوا ردّها فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي بسبب من الأسباب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين لتمام مدة الإنظار قبله. ثم أشار إلى تسليته عليه الصلاة والسلام عن استهزائهم، في ضمن وعيد لهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 41]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ أي نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ(7/195)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
يَسْتَهْزِؤُنَ
أي عذابه أو جزاؤه، على وضع السبب موضع المسبب، إيذانا بكمال الملابسة بينهما، أو عين استهزائهم، إن أريد بذلك العذاب الأخرويّ، بناء على تجسم الأعمال. فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 43]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه أي يفجأكم. وتقديم (الليل) لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي لفظ (الرحمن) تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وتلقين للجواب. وقيل إنه إيماء إلى شدته. كغضب الحليم. وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته. ودلالة على شدة خبثهم. قال المهايميّ: ولا يمنع من ذلك عموم رحمته. إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومن بعدهم. فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أي لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة، حتى يسألوا عن الكالئ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا، من دوننا. ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها. ومعناه: كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد. أفاده ابن جرير.
ف (فيصحبون) بمعنى يجارون يقال (صحبك الله) أي أجارك وسلمك، كما في (الأساس) . قال ابن جرير: أي لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكيّ عنها (أنا لك جار من فلان وصاحب) بمعنى أجيرك وأمنعك. وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله، مع سخطه عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.(7/196)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 44]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44)
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إضراب عما توهموا، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعّموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد. لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف. أفاده ابن جرير. وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27] ، وقوله تعالى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب، الغالبون لنا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض؟
وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 45]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي تنزيل الله الذي يوحيه إليّ من عنده وأخوفكم به بأسه، لا بالإتيان بما تستعجلون، لأن ذلك ليس إليّ، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية، لا الخارقات الحسية كما قدمنا. ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم، بأن هذا الإنذار لا يجديهم، بقوله تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ أي فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وتقييد تصامهم بقوله إِذا ما يُنْذَرُونَ مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة، إما لأن المقام مقام إنذار، أو لأن من لا يسمع إذا خوف، كيف يسمع في غيره، فهو أبلغ.(7/197)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 46]
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصامّ والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم.
لطيفة:
في صدر الآية مبالغات. ذكر المس. وما في النفحة من معنى القلة. فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء. والبناء الدال على المرة. والتنكير. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 47]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. أي نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال. وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم مثقال ذرة. وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد، لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط. أو على حذف المضاف أي ذوات القسط. وقيل إنه مفعول له. واللام في (ليوم القيامة) للتعليل أو بمعنى (في) أي لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي من حقوقها. أي شيئا ما من الظلم. بل يوفى كل ذي حق حقه وَإِنْ كانَ العمل أو الظلم مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أي أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل. للوزن.
وأنث لإضافته إلى الحبة وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أي وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين. لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيء، منا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 49]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ شروع في قصص(7/198)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
الأنبياء، تسلية له صلوات الله عليه وعليهم، فيما يناله من أذى قومه، وتقوية لفؤاده على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونها. قال أبو السعود: نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، إلى قوله الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء: 7- 9] ، وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم.
وتصديره بالتوكيد القسميّ لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه. والمراد ب (الفرقان) التوراة وكذا ب (الضياء) و (الذكر) . أي وبالله لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل. وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل وذكرا يتعظ به الناس. وتخصيص (المتقين) بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره. انتهى.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون عذابه، وهو غير مشاهد لهم. وفيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون في الإنذار، ما لم يشاهدوا ما أنذروه وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي وجلون أن تأتي الساعة التي تقوم فيها القيامة فيردوا على ربهم، قد فرّطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم بما لا قبل لهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 50]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
وَهذا أي القرآن الكريم ذِكْرٌ أي يتذكر به من يتذكر مُبارَكٌ أي كثير الخير والنفع أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي مع ظهور كون إنزاله كإيتاء التوراة.
وفي الاستفهام الإنكاريّ توبيخ لهم بأنه لا ينبغي لهم إنكاره وهم عارفون بمزايا إعجازه. وتقديم (له) للفاصلة أو للحصر. لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 51]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51)
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي هدايته للحق وهو التوحيد الخالص مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمنا أنه أهل لما آتيناه. أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها، فأهّلناه لخلتنا وأخلصناه لاصطفائنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 52]
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي ما هذه الصور(7/199)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
الحقيرة التي عكفتم على عبادتها. استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها، بأنها تماثيل صور بلا روح، مصنوعة لا تضر ولا تنفع، فكيف تعبد؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 53 الى 54]
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي فقلدناهم وتأسينا بهم. قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متّبع وشيطان مطاع. وفي الإتيان ب (في) الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم، وأنه ضلال قديم موروث. فهو أبلغ من (ضالين) .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 55 الى 56]
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ قال الزمخشريّ رحمه الله: الضمير في (فطرهنّ) للسموات والأرض أو للتماثيل. وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. أي لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية، بخلاف الأول، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أربابا لهم، كما يفصح عنه قولهم نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [الشعراء: 71] ، كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل رَبُّكُمْ ... الآية. أو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقوله مِنَ الشَّاهِدِينَ أي المبرهنين عليه بالحجة، لا لقولكم العاطل منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 57]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لاحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي عنها بفراغكم من عبادتها.(7/200)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 58]
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي قطعا مكسرة، بعد أن ولوا عنها، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحدّ. فهو عجّزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقع عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي فيسألونه: لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 59]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا أي هذا الفعل الفظيع بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم. أو لإفراطه في التجذيذ والحطم، وتماديه في الاستهانة بها. أو بتعريض نفسه للهلكة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 60 الى 61]
قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي يحضرون عقوبته.
قال ابن كثير: وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا. فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 الى 63]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا يعني الذي(7/201)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله فَسْئَلُوهُمْ أي يجيبوكم إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي والأظهر عجزهم الكليّ المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول: عاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها والفعل كما يسند إلى مباشره، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل: فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي، وعبارته:
وأما قوله عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ، وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقصدا إلى تحقيق ذلك. وجليّ أن مراده عليه السلام، على كلّ، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا. قال أبو السعود: وإنما لم يقل عليه السلام (إن كانوا يسمعون أو يعقلون) مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب، وأنّ عدم نطقهم أظهر، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 64]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فراجعوا عقولهم، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر، والمراد بالنفس النفس الناطقة، والرجوع إليها عبارة عما ذكر فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع، لا من(7/202)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
كسرها، فلم تنسبوه إلى الظلم بقولكم إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 65]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي حياء من نقصهم، وخضوعا وانفعالا من إبراهيم، قائلين لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 67]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ أي قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.
تنبيه:
ذكر في الكشاف في قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أربعة أوجه.
وحاصله كما في العناية- أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها، مع عجزها فضلا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله لَقَدْ عَلِمْتَ معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به.
والدليل عليه قوله أَفَتَعْبُدُونَ إلخ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم لَقَدْ عَلِمْتَ لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية، وسمي (نكسا) وإن كان حقّا، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلا وقولهم لَقَدْ عَلِمْتَ لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة.
أُفٍّ صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري: أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجّة أخذوا في المضارّة، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته.(7/203)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 68]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68)
قالُوا حَرِّقُوهُ أي لأنه استحق أشد العقاب عندهم، والنار أهول ما يعاقب به وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي به شيئا من السياسة، فلا يليق به غيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 69]
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)
قُلْنا أي تعجيزا لهم ولأصنامهم، وعناية بمن أرسلناه، وتصديقا له في إنجاء من آمن به يا نارُ كُونِي بَرْداً أي باردة على إبراهيم، مع كونك محرقة للحطب وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه، بل كوني غير ضارة. وجوز كون سلاما منصوبا بفعله. والأمر مجاز عن التسخير، كما في قوله كُونُوا قِرَدَةً [البقرة: 65] ، ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع، وتخييلها الأمر والنداء، ولذا قال أبو مسلم: المعنى أنه سبحانه وتعالى جعل النار بردا وسلاما، لا أن هناك كلاما، كقوله أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، أي فيكونه. فإن النار جماد ولا يجوز خطابه. وهو ظاهر.
تنبيه:
قال الرازي: لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال: أحدها- أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحرّ والاحتراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. والله على كل شيء قدير.
وثانيها- أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه. كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة. وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار ثالثها- أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه.
قال المحققون: والأول أولى لأن ظاهر قوله: يا نارُ كُونِي بَرْداً أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها، لا أن النار بقيت كما كانت.(7/204)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 70 الى 71]
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي أرادوا أن يكيدوه بالإضرار، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين. قال الزمخشري: غالبوه بالجدال فغلّبه الله ولقنه بالمبكّت. وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقوّاه وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً أي لأنه هاجر معه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وهي أرض الشام. بورك فيها بكثرة الأنبياء وإنزال الشرائع التي هي طريق السعادتين. وبكثرة النعم والخصب والثمار وطيب عيش الغنيّ والفقير. وقد نزل إبراهيم عليه السلام بفلسطين، ولوط عليه السلام بسدوم. ثم بين بركته تعالى على إبراهيم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 72]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ أي بدعوته رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:
100] ، وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي زيادة وفضلا من غير سؤال. ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ بالاستقامة والتمكين في الهداية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 73]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي قدوة يقتدى بهم في أمور الدين، إجابة لدعائه عليه السلام بقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124] ، يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإذننا. قال الزمخشريّ: فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله، فالهداية محتومة عليه، مأمور هو بها، من جهة الله. ليس له أن يخلّ بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه، لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أن تفعل الخيرات، مما يختص بالقلوب أو الجوارح وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ أي بالتوحيد الخالص والعمل الصالح.(7/205)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 75]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة. وهو ما يجب فعله وَعِلْماً أي بما ينبغي علمه للأنبياء. وقد بعثه الله تعالى إلى سدوم فكذبه أهلها وخالفوه فأهلكهم الله ودمر عليهم ما قص خبرهم في غير ما موضع في كتابه العزيز، وقد أشار إلى ذلك في ضمن بيان عنايته به وكرامته له بقوله: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ أي من عذابها الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني اللواطة، وكانت أشنع أفعالهم. وبها استحقوا الإهلاك.
ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى رمي اللوطي منكسا من مكان عال، وطرح الحجارة عليه، كما فعل بهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي في أهلها إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي العاملين بالعلم، الثابتين على الاستقامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 76]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ أي دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] ، رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان، أو من الشدة والتكذيب والأذى. فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ فلم يؤمن به إلا القليل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 77]
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ أي نصرناه نصرا مستتبعا للانتصار والانتقام من قومه الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ أي فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيّهم.(7/206)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 78]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي الزرع إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، عالمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 79]
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
فَفَهَّمْناها أي الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق سُلَيْمانَ أي فكان القضاء فيها قضاءه، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعا بالليل، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فقال سليمان: بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه، ليلة نفشت فيه الغنم، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم، من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيّا.
تنبيهات:
الأول- استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له، وعكس بعضهم، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب.
قال: لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد.
وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين.
وهذا مذهب المعتزلة، كما بيّن في الأصول. وردّ بأن مفهوم قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام، يدل على أنه المصيب للحق(7/207)
عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام، لجواز كون كلّ مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كلّ. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية) .
وجاء في (فتح البيان) ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين «1» وغيرهما أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين.
وإلا لزم توقف حكمه عزّ وجلّ على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحلّ والحرمة، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاد في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.
قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا. ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.
الثاني- دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مستند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.
ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله «2» : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت
__________
(1) أخرجه البخاري في: الاعتصام، 21- باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. الحديث رقم 2593، عن عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث رقم 15.
(2) أخرجه البخاري في: الحج، 81- باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، حديث 826، عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 141.(7/208)
لما سقت الهدي) ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضا، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.
قال الرازي: إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى، ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب. فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معا، وهو محال، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال، لاستحالة الخلوّ عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح، وذلك هو العمل بالقياس- وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام. انتهى.
الثالث- قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء. وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه.
وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار. لأن النفش لا يكون إلا بالليل، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة. ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية، ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.
الرابع: روى ابن جرير عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلا لي. فقال شريح: نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلا فقد ضمن، ثم قرأ هذه الآية.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله شريح شبيه بما
رواه «1» الإمام أحمد وأبو داود «2»
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 436. [.....]
(2) أخرجه أبو داود في: البيوع، 90- باب المواشي تفسد زرع قوم، حديث رقم 3570.(7/209)
وابن ماجة «1» من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها
. وقد علّل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية، لما استقضى أتاه الحسن، فبكى.
فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصريّ: إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكما يردّ قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ... الآية. فأثنى الله على سليمان، ولم يذمّ داود.
ثم قال (يعني الحسن) : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا: لا يشتروا به ثمنا قليلا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدا. ثم تلا يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:
26] ، وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44] ، وقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 41] .
ثم قال ابن كثير:
وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)
فهذا الحديث يردّ نصّا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.
وفي السنن «2» : (القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار) .
ثم بيّن سبحانه ما خص كلّا من داود وسليمان من كراماته، إثر بيان كرامته العامة لهما، بقوله: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ أي سخرنا
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في: الأحكام، 13- باب الحكم فيما أفسدت المواشي، حديث رقم 2332.
(2) أخرجه أبو داود في: الأقضية، 2- باب في القاضي يخطئ، حديث رقم 3573، عن بريدة.
وأخرجه ابن ماجة في: الأحكام، 3- باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، حديث رقم 2315.(7/210)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
الجبال والطير يقدسن الله معه، بصوت يتمثل له أو يخلق فيها. قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه (الزبور) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه.
وترد عليه الجبال تأويبا، ولهذا لما مرّ «1» النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعريّ وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيّب جدا، فوقف واستمع لقراءته
وقال: لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود. قال: يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا.
قال أبو عثمان الهنديّ: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. انتهى.
وتقديم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد. والتذييل بقوله وَكُنَّا فاعِلِينَ إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية، وإن كان عند المخاطبين عجيبا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة (ص) وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص: 17- 19] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 80]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي عمل الدروع الملبوسة. قيل كانت الدروع قبله صفائح، فحلقها وسردها. أي جعلها حلقا وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ: 10- 11] ، أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار. ولا تغلظ المسمار فتقدّ الحلقة. ولهذا قال لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أي لتحفظكم من جراحات قتالكم فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي لنعم الله عليكم، لما ألهم عبده داود فعلّمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم. وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام، مبالغة في التقريع والتوبيخ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر.
__________
(1) أخرجه البخاري في: فضائل القرآن، 31- باب حسن الصوت بالقراءة، حديث رقم 2097.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 236.(7/211)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 81]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً أي سخرناها له تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي بيت المقدس وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي ما تقتضيه الحكمة البالغة فيه. وهذا كقوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: 36] .
قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم.
فإذا مرت بكرسيّه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ: 12] ، فكان جمعها بين الأمرين، أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية إلى آية، ومعجزة إلى معجزة.
قال في (الانتصاف) : وهذا كما ورد في وصف عصا موسى تارة بأنها جانّ وتارة بأنها ثعبان. والجانّ الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجانّ، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا، على هذا التقرير، معجزتان.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 82]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي في البحر لاستخراج نفائسه، تكميلا لخزائنه وتزيينا لقومه وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ [سبأ: 13] ، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي مؤيدين ومعينين.
تنبيه:
الشياطين المذكورون، إما مردة الإنس وأشداؤهم، وإما مردة الجن لظاهر(7/212)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
اللفظ. وعليه قال الجبائيّ: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل؟ وإنما يمكنهم الوسوسة. وأجاب بأنه تعالى كثّف أجسامهم خاصة وقواهم، وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ.
أي اذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء. وما ضاعف له بعد صبره من النعماء، لتعلم أن النصر مع الصبر، وأن عاقبة العسر اليسر. وأن لك الأسوة بمثل هذا النبيّ الصبور، فيما ينزل أحيانا بك من ضرّ. وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء. بل هم أشد الناس ابتلاء. كما
في الحديث «1»
(أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) .
وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء. فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها. لأن الدنيا ليست دار جزاء. وإن عاقبة الصدق في الصبر، هي توفية الأجر ومضاعفة البر. وقد روي أن أيوب عليه السلام، لما امتحن بما فقد معه أرزاقه وهلك به جميع آل بيته، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاما، وصبر وشكر، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده. ورزق عدة أولاد، وعاش عمرا طويلا أبصر أولاد أولاده إلى الجيل الرابع. ولذا قال تعالى: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي تذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الزهد، 57- باب ما جاء في الصبر على البلاء، عن سعد.(7/213)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق. وقد روى المفسرون هاهنا في بلاء أيوب روايات مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن. ولا تعار من الثقة أدنى نظر. نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته، وبنزول مرض شديد به، عدم معه الراحة ولذة الحياة، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها. لما داخلها من المزيج، وتوسع بها في الدخيل، حتى اختلط الحابل بالنابل. وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش. ولو علم الله خيرا في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضل علينا بتفصيله. ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصّل.
تنبيه:
قال بعضهم: أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما السلام. وأنه كان غنيّا من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه. وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت. ومن جبل سعير بين بلاد أدوم وصحراء العربية. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي على القيام بأمر الله، وعلى شدائد النوب، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى، ففيهم أعظم أسوة وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي في النبوة أو في نعمة الآخرة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح.
قال ابن كثير: أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وقد تقدم ذكره في سورة مريم. وكذا إدريس عليه السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبيّ.
وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحا، وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.
وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه السلام.(7/214)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، وصبره على ما أصابه، ثم إنابته ونجاته، ليتثبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة (الصافات) وفي سورة (ن) . وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى- من أرض الموصل، كرسي سلطنة الآشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم، فأبق من بيت المقدس إلى يافا. ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحا شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصا سيهلكون بسببه، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتا ليونس فابتلعه، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى، ودعوتها إلى الله تعالى، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنهم العذاب، قال تعالى فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس: 98] .
تنبيهات:
الأول- يونس عليه السلام يسمى في التوراة (يونان) وهو عبراني. ويقال إنه من جت حافر وهي قرية في سبط زبولون، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نبّئ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.(7/215)
الثاني- أكثر المفسرين (كما حكاه الرازي) على أن يونس ذهب مغاضبا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولا، أن يترك ولا يقاصّ.
قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولا الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في (مغاضبا) للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر.
فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد (مفاعلة) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة (كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد) وقول الباقلاني من الأشعرية: (على ما حكاه ابن حزم في الملل) . وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لسانا، قال رحمه الله (بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور) :
وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.
ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه.
ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد. ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عزّ وجلّ، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.
ثم قال (في الكلام على يونس عليه السلام) : وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبيّ من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عزّ وجلّ، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزّ(7/216)
وجلّ. وأما قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه.
وهو يرى أن آدميّا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي
يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «1»
(لا تفضلوني على يونس بن متى) ؟
فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيق عليه كما قال تعالى وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] ، أي ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك:
وإنما نهى الله عزّ وجلّ، محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عزّ وجلّ عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى:
أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عزّ وجلّ، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاما. وبلاغة وانتظاما. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفا، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبا، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزا، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربيّ البليغ طبعا، الذائق جبلة،
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 35- باب قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، حديث رقم 1600، عن ابن عباس، ونصه: ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى.(7/217)
إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاه، غضبا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن ينسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر.
فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.
الثالث: عدّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محالا. فكتب بعض المحققين مجيبا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السموات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم (بالزفا) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكا رشده متمكنا من التسبيح والدعاء. انتهى.
الرابع: الجمع في قوله: فِي الظُّلُماتِ إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات.
والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [البقرة: 17] .
الخامس: قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاؤه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل (فنجيناه) كما قال في قصة أيوب عليه السلام فَكَشَفْنا [الأنبياء: 84] ، لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. وردّ بأن (الفاء) في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضا تفسيري.
والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.(7/218)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريق الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنبا. كما أشار إليه بقوله: مِنَ الظَّالِمِينَ فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيرا له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.
السادس: قوله وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لا سيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي (دعوة «1» ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له) . وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 89]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89)
وَزَكَرِيَّا أي واذكر خبره إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي حين طلب أن يهبه ربه ولدا يكون من بعده نبيّا، ولا يتركه فردا وحيدا بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا. وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في (شرح الأسماء الحسنى) : الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 90]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 170، والحديث رقم 1462.
وأخرجه الترمذي في: الدعوات، 81- باب حدثنا محمد بن يحيى.(7/219)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تعليل لما فصّل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثار (في) على (إلى) للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن (إلى) تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي مخبتين متضرعين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 91]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي اذكر نبأ التي أحصنته إحصانا كليا، عن الحلال والحرام جميعا. كما قالت: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] و [مريم:
20] . والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي نفخنا الروح في عيسى فيها. أي أحييناه في جوفها.
فنزّل نفخ الروح في عيسى، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل: المعنى فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها وَجَعَلْناها وَابْنَها أي نبأهما آيَةً لِلْعالَمِينَ أي في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه.
وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل (ءايتين) كما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء: 12] ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى (وجعلناها آية وابنها آية) .
فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة، بقوله سبحانه وتعالى:(7/220)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 92]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
إِنَّ هذِهِ أي علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له أُمَّتُكُمْ أي ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة أُمَّةً واحِدَةً أي غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:
19] ، وَأَنَا رَبُّكُمْ أي لا إله لكم غيري فَاعْبُدُونِ أي ولا تشركوا بي شيئا.
تنبيه:
قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 23] ، أي على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 51- 52] ، وتطلق (الأمة) بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي جماعة. [الأعراف:
181] . وكما في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104] ، ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى:
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود: 8] ، وفي قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] ، وبمعنى الإمام الذي يقتدى به، كما في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل: 120] ، وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصا. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [البقرة: 213] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 93]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي تفرق الناس في دينهم الذي(7/221)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا ومللا.
قال الزمخشري رحمه الله: والأصل (وتقطعتم) إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى.
ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 94]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى:
وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه المشكور كاتِبُونَ أي مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.
تنبيه:
الكفران مصدر من (كفر فلان النعمة كفرا وكفرانا) وأوثر (لا كفران) على (لا نكفر) للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] .
ثم أشار إلى مقابل هؤلاء، وهم من أعرض عن ذكره تعالى، بلحوق الوعيد لهم، لما جرت به سنته تعالى، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 95]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي وحرام على أهل قرية فسقوا عن(7/222)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
أمر ربهم، فأهلكهم بذنوبهم، أن يرجعوا إلى أهلهم، كقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس: 31] ، وقوله: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 50] ، وزيادة (لا) هنا لتأكيد معنى النفي من (حرام) وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوّعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى، وهي حياتهم الدنيا. وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها، و (لا) فيها على بابها. وهي مع (حرام) من قبيل نفي النفي.
فيدل على الإثبات. والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة.
بل واجب رجوعها للجزاء. فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد. وأنه سبحانه سيحييه، وبعمله يجزيه. واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه. إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى. وأما ما ذكر سواهما، فلا يدل عليه السياق ولا النظير. وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير.
ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم، يورثهم طول الندامة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 96]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة من أجناس شتى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي من كل نشز من الأرض يسرعون، متجندين لقهر أعدائهم، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : آية 97]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي طلعت طلائع النصر والقهر، ودحر الباطل والكفر فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه، قائلين يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي لم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي(7/223)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
لأنفسنا، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد. ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأوثان والأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ أي ما يرمى به إليها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ أي فلا منجى لهم منها.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم.
فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي من الهول وشدة العذاب. ثم بيّن تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين، حسبما جرت به سنة التنزيل، من شفع الوعد بالوعيد، وإيراد الترغيب مع الترهيب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 103]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي الخصلة الحسنى، وهي السعادة أو التوفيق أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنهم في غرفات الجنان آمنون. إذ وقاهم ربهم عذاب السعير لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتا يحس به منها، لبعدهم عنها وعما يفزعهم وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي للحشر كما قال تعالى وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: 87] ، وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم مهنئين لهم قائلين هذا يَوْمُكُمُ(7/224)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
أي في الدنيا، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 104 الى 107]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي اذكره. أو ظرف ل لا يَحْزُنُهُمُ أو ل تَتَلَقَّاهُمُ.
والطيّ ضد النشر. وقوله: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي كما يطوى السجل وهو الكتاب. واللام في (للكتب) لام التبيين. ولذلك قرئ (الكتاب) بالإفراد. أو بمعنى (من) وفيه قرب من الأول، أو (الكتب) بمعنى المكتوب. أي كطي الصحيفة على مكتوبها. فاللام بمعنى (على) وهو ما اختاره ابن جرير.
تنبيه:
ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبيّ صلوات الله عليه، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، فأثر منكر لا يصح.
قال ابن كثير: وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ، وإن كان في سنن أبي داود. منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي.
وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل. وكتّاب النبيّ صلوات الله عليه، معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل.
وصدق رحمه الله في ذلك. وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.
وأما من ذكره في أسماء الصحابة، فإنما اعتمد على هذا الحديث. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. انتهى.
وهذه الآية كآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ، وطي السماء كناية عن انكدار نجومها، ومحو رسومها، بفساد تركيبها واختلال نظامها.
فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم. فيخرب العالم بأسره كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي منجزين إياه. ثم أشار إلى تحقيق(7/225)
مصداقه، بإعزاز المنبئ عنه، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أي العاملون بطاعته. المنتهون إلى أمره ونهيه. دون العاملين منهم بمعصيته، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته.
و (الزبور) علم على كتاب داود عليه السلام، ويقال: المراد به كل كتاب منزل.
والذكر- قالوا- التوراة أو أم الكتاب. يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق، والله أعلم. وقوله تعالى: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين. و (البلاغ) الكفاية. وقوله لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي يعبدون الله، بما شرعه وأحبه ورضيه. ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أي وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطريّ، إلا حال كونك رحمة للخلق، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية. وجوز كون (رحمة) مفعولا له. أي للرحمة، فهو نبيّ الرحمة.
تنبيه:
قال الرازي: إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم، لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينا له. قال الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، إلى قوله تعالى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: 44] ، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.
وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه، في (الشذرة) التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعا إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق(7/226)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمرا، وجعل بعد عسر يسرا. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولّت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولا ليعتقهم من أسر الأوثان، ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنهم الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] ، انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ما يوحى إليّ، إلّا استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه وغير منظور إليه في جنبه. فهو قصر دعائي فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن التوحيد فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي أعلمتكم وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين. أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم، وبلغتكم الأمر به. فإن آمنتم به فقد سعدتم، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم، وليس بمصروف(7/227)
عنكم. وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه كما قال: وَإِنْ أَدْرِي أي وما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ أي من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي فسيجزيكم على ذلك وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي وما أدري لعلل تأخير جزائكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون. ف (الفتنة) إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب، أو هو بمعناه الأصليّ. فهو استعارة مصرحة. وقول تعالى: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي تمتيع لكم إلى أجل مقدور. والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير قالَ وقرئ (قل) رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي افصل بيننا وبينهم بالحق. وذلك بنصر من آمن بما أنزلت، على من كفر به، كقوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي من الكذب والافتراء على الله ورسوله. بنصر أوليائه، وقهر أعدائه. وقد أجاب سبحانه دعوته، وأظهر كلمته، فله الحمد في الأولى والآخرة، إنه حميد مجيد.
قال الرازي: قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه. فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفا أن المقصود مصلحتهم.
فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك، ليحكم بينك وبينهم بالحق. إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره. وإما بتأخير ذلك. فإن أمرهم، وإن تأخر فما هو كائن قريب. وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم. وبالله التوفيق.(7/228)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحج
سميت به لاشتمالها على أصل وجوبه والمقصود من أركانه، وهو الطواف، إذ الإحرام نية، والوقوف بعرفات من استعداده، والسعي من تتمته، والحلق خروج عنه.
وذكر فيها منافعه وتعظيم شعائره وغير ذلك، مما يشير إلى فوائده وأسراره. أفاده المهايميّ.
وعن مجاهد، عن ابن عباس: أنها مكية سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ [الحج: 19- 22] ، إلى تمام الآيات الثلاث، فإنهن نزلن بالمدينة، وفي آثار أخرى أنها كلها مدنية، كما في الإتقان وآياتها ثمان وسبعون آية.(7/229)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يأمر تعالى عباده بتقواه التي هي من جوامع الكلم، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
قال المهايمي: أي احفظوا تربيته عليكم، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم، بالانتقام منكم.
انتهى.
أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبا وترهيبا. أي احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم، وقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل لموجب الأمر، بذكر بعض عقوباته الهائلة. فإن ملاحظة عظمها وهولها، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، من الأحوال والأهوال، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. و (الزلزلة) التحريك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارّها ويخرجها عن مراكزها. وإضافتها للساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازا، كأنها هي التي تزلزل. أو إلى ظرفه، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] ، وفي التعبير عنها ب (الشيء) ، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. أفاده أبو السعود.
وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات. كسورة التكوير وسورة الانفطار وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها. وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه:(7/230)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 2]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي عن إرضاعها. أو عن الذي أرضعته وهو الطفل وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي ما في بطنها لغير تمام وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
أي كأنهم سكارى وَما هُمْ بِسُكارى
أي على التحقيق وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطيّر تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. قاله الزمخشريّ.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) : العلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك (زيد حمار) إذا وصفته بالبلادة. ثم يصدق أن تقول (وما هو بحمار) فتنفي عنه الحقيقة. فكذلك الآية. بعد أن أثبت السكر المجازيّ نفي الحقيقيّ أبلغ نفي مؤكّد بالباء. والسر في تأكيده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله.
والاستدراك بقوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
راجع إلى قوله وَما هُمْ بِسُكارى
كأنه تعليل لإثبات السكر المجازيّ. كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر، وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى. انتهى.
ثم أشير لحال المنكرين للساعة، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 3]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يخاصم في شأنه تعالى بغير علم.
فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا، ونحو ذلك من الأباطيل وَيَتَّبِعُ أي في جداله كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي عات متمرد. كرؤساء الكفر الصادّين(7/231)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
عن الحق. ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 4]
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه وليا، وتبعه، ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة. وسوقه إياه إليه، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن.
تنبيه:
قيل: نزلت الآية في النضر بن الحارث، وكان جدلا قال الزمخشريّ: وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز، من الصفات والأفعال. ولا يرجع إلى علم، ولا يعض فيه بضرس قاطع.
وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. انتهى.
ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى. أو من وقوعه فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا أول آبائكم، أو أول موادّكم، وهو المنيّ، من تراب. إذ خلق من أغذية متولدة منه. وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي تولدت من الأغذية الترابية ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ(7/232)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء. ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي بهذا التدريج، قدرتنا وحكمتنا، وأن ما قبل التغير والفساد والتكوّن مرة، قبلها أخرى. وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا، قدر على ذلك ثانيا. وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع.
قال أبو السعود: استئناف مسوق لبيان حالهم، بعد تمام خلقهم. وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين، مع كونهما من متمماته، ومن مبادئ التبيين أيضا. لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات، التي من جملتها البعث المبحوث عنه، أجلى وأظهر. أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى.
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمال قوتكم وعقلكم. قال أبو السعود علة ل نُخْرِجُكُمْ معطوفة على علة أخرى مناصبة لها. كأنه قيل: ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا. ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي بعد بلوغ الأشد أو قبله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو الهرم والخرف. والأرذل الأردأ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً
أي من بعد علم كثير، شيئا من الأشياء، أو شيئا من العلم، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة.
قال البيضاويّ: والآية- يعني ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ إلخ- استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة. فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث، بقوله وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي ميتة يابسة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي انتفخت وعلت، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ أي حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 7]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار(7/233)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
مختلفة، وتصريفه في أحوال متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله. المحقق لما سواه من الأشياء، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده وما سواه مما يبعد باطل، لا يقدر على شيء من ذلك وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي يقدر على إحيائها، إذ أحيى النطفة والأرض الميتة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة، لا يمتنع عليها شيء وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لاقتضاء الحكمة إياها. فهي في وضوح دلائلها التكوينية، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي من الأموات، أحياء إلى موقف الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروريّ، ولا باستدلال ونظر صحيح، يهدي إلى المعرفة. ولا بوحي مظهر للحق. أي بل بمجرد الرأي والهوى، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين- بفتح اللام- كما أن ما قبلها في حال الضّلّال الجهال المقلدين- بكسر اللام- فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها، فلا تكرار أيضا.
قال في (الكشف) : والأول أظهر وأوفق بالمقام. وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازيّ، ثم قال: فإن قيل كيف يصح ما قلتم، والمقلد لا يكون مجادلا؟
قلنا: قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها، وإن كان معتمده الأصليّ هو التقليد.
وقوله ثانِيَ عِطْفِهِ حال من فاعل (يجادل) أي عاطفا لجانبه إعراضا واستكبارا عن الحق، إذا دعي إليه.
قال الزمخشريّ: ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء. كتصعير الخدّ وليّ الجيد.
وقوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليصد عن دينه وشرعه، متعلق ب (يجادل)(7/234)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
علة له لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي إهانة ومذلة، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار المحرقة ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ على الالتفات، أو إرادة القول. أي: يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال. وإسناده إلى (يديه) ، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي بل هو العدل في معاقبة الفجار، وإثابة الصالحين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 11]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ شروع في حال المذبذبين، إثر بيان حال المجاهرين. أي ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه.
وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة. كالذي ينحرف إلى طرف الجيش. فإن أحسّ بظفر وغنيمة قرّ وإلّا فرّ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي دنيويّ من صحة وسعة اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي ما يفتتن به من مكروه ينزل به انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى ما كان عليه من الكفر خَسِرَ أي بهذا الانقلاب الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أي ضيّعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله، بالارتداد ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة.
تنبيه:
قال ابن جرير: يعني جل ذكره بقوله وَمِنَ النَّاسِ إلخ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مهاجرين من باديتهم. فإن نالوا رخاء، من عيش بعد الهجرة، والدخول في الإسلام، أقاموا على الإسلام. وإلا ارتدوا على أعقابهم. وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل. ثم أسنده من طرق.
وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع. وتقدم ذلك. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 12]
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ أي حال ثابتة من فاعل (انقلب)(7/235)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
والأولى (خسر) ولذلك قرئ (خاسر) أي ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره، إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها- وقال أبو السعود (يدعو) استئناف مبين لعظيم الخسران ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي عن الحق والهدى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 13]
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
يَدْعُوا أي هذا المنقلب على وجهه، إذا أصابته فتنة لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ أي وثنا أو صنما، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى. فاللام زائدة في المفعول به، وهو (من) كما زيدت في قوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] ، في وجه. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه (يدعو من ضره) بغير لام. وهي مؤيدة للزيادة. و (ضره) مبتدأ، و (أقرب) خبر. وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها. وإثبات الضرر له هنا، باعتبار معبوديته. ونفيه قبل، باعتبار نفسه. والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده، تسفيها وتجهيلا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل، مع خلوه عن النفع بالمرة، للمبالغة في تقبيح حاله، والإمعان في ذمه لَبِئْسَ الْمَوْلى أي الناصر له وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي المصاحب له.
ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي من الأفعال المبنيّة على الحكمة، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه.(7/236)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 15]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي بحبل إلى ما يعلوه ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ أي غيظه. والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلا، فليقتل نفسه. لأن له وقتا لا يقع إلا فيه. فالآية في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله، لاستعجالهم وشدة غيظهم، وحنقهم على المشركين. وجوز أن تكون في قوم من المشركين، والضمير في (ينصره) للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه، فليختنق وليهلك نفسه، ثم لينظر في نفسه، هل يذهبن احتياله هذا في المضارّة والمضادّة، ما يغيظه من النصرة؟ كلا. فإن الله ناصر رسوله لا محالة. قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر:
51] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 16 الى 17]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل. فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحا، الجنة. ومن كفر به، النار. فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم. وتقدم في سورة البقرة التعريف ب (الصابئين) والمراد ب (الذين) أشركوا كفار العرب خاصة. لأن المشركين في إطلاق التنزيل، بمثابة العلم لهم.(7/237)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته. بانقياد هذه العوالم العظمى له، وجريها على وفق أمره وتدبيره. فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف، لمطاوعة الأشياء له تعالى، فيما يحدث فيها من أفعاله، ويجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها. ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما. وقوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إما معطوف على ما قبله، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا، فيكون السجود في الجمادات الانقياد، وفي العقلاء العبادة. أو مبتدأ خبره محذوف. أو فاعل لمضمر، إن لم يجوز ذلك. وقوله تعالى:
وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي من الناس. أي بكفره واستعصائه وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي يكرمه بالسعادة إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 19]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل. و (الخصم) في الأصل مصدر.
ولذا يوحّد وينكر غالبا. ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى (اختصموا في ربهم) أي في دينه وعبادته. والاختصام يشمل ما وقع أحيانا من التحاور الحقيقيّ بين أهل الأديان المذكورة، والمعنويّ. فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقيّة ما هو عليه، وبطلان ما عليه صاحبه، وبناء أقواله وأفعاله عليه، خصومة للفريق الآخر. وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام. ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بقوله سبحانه:(7/238)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ أي قدرت لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحارّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 20 الى 24]
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
يُصْهَرُ أي يذاب بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ أي من الأمعاء والأحشاء وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ أي سياط يضربون بها مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كما قال تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] و [إبراهيم: 23] ، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي المحمود، وهو الجنة. أو الحق تعالى، المستحق لغاية الحمد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 25]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي مكة الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ وَالْبادِ أي الطارئ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ أي بميل عن القصد بِظُلْمٍ أي بغير حق نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي جزاء على هتكه حرمته. ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته، واقتراف الآثام. وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه، أن يضبط نفسه، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده. وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره، وأنها تضاعف فيه. وأن همّ بها فيه أخذ بها. ومفعول(7/239)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
(يرد) إما محذوف، أي يرد شيئا أو مرادا ما، والباء للملابسة. أو هي زائدة و (إلحادا) مفعوله. أو للتعدية لتضمينه معنى (يتلبس) . و (بظلم) حال مرادفة. أو بدل مما قبله، بإعادة الجار. أو صلة له. أي ملحدا بسبب الظلم. وعلى كلّ، فهو مؤكد لما قبله. ومن قوله نُذِقْهُ إلخ يؤخذ خبر (إنّ) ويكون مقدرا بعد قوله وَالْبادِ مدلولا عليه بآخر الآية، كما ارتضى ذلك أبو حيان في (البحر) . ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 26]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي واذكر إذ عيّناه وجعلناه له مباءة، أي منزلا ومرجعا لعبادته تعالى وحده ف (أن) في قوله تعالى أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً مفسرة ل بَوَّأْنا من حيث إنه متضمن لمعنى (تعبدنا) لأن التبوئة للعبادة. أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ أي من الأصنام والأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي لمن يطوف به ويقيم ويصلّي. أو المراد بالقائمين وما بعده (المصلين) ، ويكون عبّر عن الصلاة بأركانها، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك، فكيف وقد اجتمعت؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 28]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم به، قال الزمخشريّ: والنداء بالحج أن يقول: حجّوا، أو عليكم الحج يَأْتُوكَ رِجالًا أي مشاة، جمع (راجل) وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي ركبانا على كل بعير مهزول، أتعبه بعد الشقة فهزله. والعدول عن (ركبانا) الأخصر، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة، وقوله تعالى:
يَأْتِينَ صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع. وقرئ (يأتون) صفة للرجال(7/240)
والركبان. أو استئناف، فيكون الضمير للناس مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق واسع بعيد لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي ليحصروا منافع لهم دينية ودنيوية وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي على ما ملكهم منها، وذلّلها لهم، ليجعلوها هديا وضحايا. قال الزمخشريّ: كنى عن البحر والذبح، بذكر اسم الله. لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصليّ فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه- زاد الرازيّ- وأن يخالف المشركون في ذلك. فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصوّر بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها. فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته، طلبا لمرضاة الله تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. والأيام المعلومات أيام العشر. أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده. أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده. أقوال للأئمة.
قال ابن كثير: ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني به ذكر الله عند ذبحها. انتهى.
أقول- لا يبعد أن تكون (على) تعليلية، والمعنى: ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه، لأجل ما رزقهم من تلك البهم. فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها: ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة. وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم. كقوله سبحانه:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: 71- 72] والسر في إفراده هذه النعمة، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم. إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم. فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم، لما قامت لهم قائمة.
لأن أرضهم ليست بذات زرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة. ومن كانوا كذلك، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم، ويشكروه ويعرفوا له حقه. من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره. فالاعتبار بها من ذلك، موجب للاستكانة لرازقها، والخضوع له والخشية منه. نظير الآية- على ما ظهر لنا- قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3- 4] ، هذا أولا. وثانيا قد يقال: إنما أفردت لتتبع بما هو البر(7/241)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
الأعظم والخير الأجزل. وهو مواساة البؤساء منها. فإن ذلك من أجلّ ما يرضيه تعالى، ويثيب عليه. والله أعلم.
فَكُلُوا مِنْها أي من لحومها. والأمر للندب. وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه. وقد ثبت «1» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
وعن إبراهيم قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم. فرخص للمسلمين.
فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.
قال في (الإكليل) : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء. وأباح مالك الأكل من الهدى الواجب، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد، إلا من جزاء الصيد والنذر. وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية. وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب، لظاهر الأمر. وقوم إلى أن التصدق منها ندب، وحملوا الأمر عليه. ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به، لإطلاق الآية. انتهى.
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة الْفَقِيرَ أي الذي أضعفه الإعسار، والأمر هنا للوجوب. وقد قيل به في الأول أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 29 الى 31]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)
ثُمَّ أي بعد الذبح لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام، بالحق والتقصير وقصّ الأظفار ولبس الثياب وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي طواف الإفاضة. وهو طواف
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحج، حديث 147، عن جابر بن عبد الله.(7/242)
الزيارة الذي هو من أركان الحج. ويقع به تمام التحلل. و (العتيق) القديم. لأنه أول بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلط الجبابرة ذلِكَ خبر محذوف. أي الأمر ذلك. وهو وأمثاله من أسماء الإشارة، تطلق للفصل بين الكلامين، أو بين وجهي كلام واحد.
قال الشهاب: والمشهور في الفصل (هذا) كقوله: هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] ، واختيار (ذلك) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته. وهو من الاقتضاب القريب من التخلص، لملائمة ما بعده لما قبله، كما هنا وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أي أحكامه. أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك. و (الحرمات) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه، بل يحترم شرعا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثوابا.
و (خير) اسم تفضيل حذف متعلقة. أي من غيره، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره، قاله الشهاب. والثاني هو الأظهر، لأنه أسلوب التنزيل في مواضع لا يظهر التفاضل فيها. وإيثاره، مع ذلك، لرقة لفظه، وجمعه بين الحسن والروعة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي آية تحريمه. وذلك قوله في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: 3] ، والمعنى: أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها، إلا ما استثناه في كتابه. فحافظوا على حدوده. وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا. كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك. وأن تحلوا مما حرم الله. كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك. أفاده الزمخشري. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى. فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى. و (من) بيانية. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها. قال الزمخشريّ: سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام، على طريق التشبيه. يعني أنكم، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة. ونبه على هذا المعنى بقوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] ، جعل العلة في اجتنابه أنه رجس، والرجس مجتنب. وقوله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص. فإن عبادة الأوثان رأس الزور. كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه ذلك، ردّا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب. وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه، وصدق القول، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له الدين،(7/243)
منحرفين عن الباطل إلى الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي شيئا من الأشياء. ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال تعالى وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي سقط منها فقطعته الطيور في الهواء أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تقدمه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أي بعيد مهلك لمن هوى فيه. و (أو) للتخيير أو التنويع. قال الزمخشريّ: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق. فإن كان تشبيها مركبا، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية. بأن صور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعا في حواصلها. أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقا، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله، بالساقط من السماء. والأهواء التي تتوزع أفكاره، بالطير المختطفة.
والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. فكتب الناصر عليه: أما على تقدير أن يكون مفرّقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء، إلى التنبيه على أحد أمرين: إما أن يكون الإشراك المراد ردّته، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا، فيكون قد عدّ تمكن المشرك من الإيمان ومن العلوّ به ثم عدوله عنه اختيارا، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] ، فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط، ولكن كانوا متمكنين منه. وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر، بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق- نظر. لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين. فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلا لنزغ الشيطان، فقد جعلهما شيئا واحدا. لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء، مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود. والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك. فنقول: لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة. فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب. لا يلوح له خيال إلا اتّبعه ونزل عما كان عليه. والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل. لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع.
لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج بضلالته.(7/244)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
فهذا مشبه في إقراره على كفره، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقرّ فيه.
ويظهر تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم: 3] ، وضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: 167] ، أي صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم. انتهى كلامه.
ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له. إلا أنه لا قاطع به. نعم، هو من بديع الاستنباط، ورقيق الاستخراج. فرحم الله ناسجه.
قال ابن كثير: وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام. وهو قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى [الأنعام: 71] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 32]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي علائم هدايته، وهو الدين. أو معالم الحج ومناسكه. أو الهدايا خاصة، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى. كما تنبئ عنه آية وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
[الحج: 36] ، وهو الأوفق لما بعده.
وتعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا، غالية الأثمان. ويترك المكاس في شرائها. فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة.
وعن سهل «1» : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون.
رواه البخاريّ.
وعن أنس «2» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين. رواه البخاريّ
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأضاحي، 7- باب في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أقرنين.
(2) أخرجه البخاري في: الأضاحي، 7- باب في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم، بكبشين أقرنين. حديث رقم 2211. وأخرجه مسلم في: الأضاحي، حديث رقم 17.(7/245)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
وعن البراء «1» مرفوعا. أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي: رواه أحمد وأهل السنن.
فَإِنَّها أي فإن تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي من أفعال ذوي التقوى.
والإضافة إلى القلوب، لأن التقوى وضدها تنشأ منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 33]
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي لكم في الهدايا منافع درّها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها.
وقد روي في الصحيحين «2» عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال: اركبها. قال: إنها بدنة قال:
أركبها، ويحك. في الثانية أو الثالثة.
وقوله: ثُمَّ مَحِلُّها أي محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] ، وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] .
قال في (الإكليل) : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم. وقيل: المعنى: محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق. فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة.
يحل له كل شيء. وكذا روي عن ابن عباس: ما طاف أحد بالبيت إلا حل، لهذه الآية. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.
أي شرعنا لكل أمة أن ينسكوا. أي يذبحوا لوجهه تعالى، على وجه التقرب.
وجعل العلة، أن يذكر اسمه. تقدست أسماؤه. على النسائك. ف (منسكا) مصدر
__________
(1) أخرجه النسائي في: الضحايا 5- باب ما هي عنه من الأضاحي.
(2) أخرجه البخاري في: الحج، 103- باب ركوب البدن، حديث رقم 878.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 373.(7/246)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
ميميّ على أصله. أو بمعنى المفعول. وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما.
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا له الذكر خاصة، لا تشوبوه بإشراك. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 35 الى 36]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها
أي في ذبحها تضحية خَيْرٌ من المنافع الدينية والدنيوية فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. وعن ابن عباس: قياما على ثلاث قوائم، معقولة يدها اليسرى. يقول: بسم الله، والله أكبر، لا إله إلا الله: اللهم منك ولك. وفي الصحيحين «1» عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها. فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم:
وفي صحيح مسلم «2» عن جابر في صفة حجة الوداع، قال فيه: فنحر رسول صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة
. جعل يطعنها بحربة في يده فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض، وهو كناية عن الموت فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي السائل وَالْمُعْتَرَّ أي المتعرض بغير سؤال. أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط من الآية أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فيأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الحج، 118- باب نحر الإبل مقيدة، حديث 885.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث 358.
(2) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 147. [.....](7/247)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ذللناها لكم، لتشكروا إنعامنا، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 37]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها، ولا دماؤها المهراقة، من حيث أنها لحوم ودماء. ولكن بمراعاة النية والإخلاص، ابتغاء وجهه الأعلى، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: 177] ، إلى آخرها كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين.
وإنما كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا بما بعده. وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولا في معنى قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج: 28] ، فتذكر. وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي المخلصين في أعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 38]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه. كذا قاله أبو السعود. وسبقه الرازي إليه.
والأولى أن يقال: إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين. تشجيعا لهم على قتال من ظلمهم، وتشويقا إلى استخلاص بيته الحرام، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ أي في أمانة الله كَفُورٍ أي لنعمته بعبادته غيره، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم. وصيغة المبالغة فيهما، لأنه في حق المشركين، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرا، بل هو أمر عظيم.(7/248)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 40]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم المشركون. والمأذون فيه محذوف، لدلالة المذكور عليه. وقرئ بكسر التاء. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين، لا موجب الإخراج والتسيير. ومثله هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً أي لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها.
قال ابن جرير: ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم. كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق. ونحو ذلك. وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض. لولا ذلك لتظالموا. فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم، وما سمى جل ثناؤه. و (الصوامع) مباني الرهبانية لخلوتهم. (والبيع) معابد النصارى. و (الصلوات) روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود. سميت بها لأنها محلها. وقيل هي بمعناها الحقيقي. و (هدمت) بمعنى عطلت. أو فيه مضاف مقدر وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه وأولياءه.
قال القاضي: وقد أنجز الله وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.(7/249)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 41]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم. ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم، عما يناله من أذى المشركين، وحاضّا له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 44]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وهم قوم هود وَثَمُودُ وهم قوم صالح وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وهم قوم شعيب وَكُذِّبَ مُوسى وإنما لم يقل (وقوم موسى) كسابقه، لأن موسى ما كذبه قومه بنوا إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. وفيه شيء آخر كأنه قيل، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وَكُذِّبَ مُوسى مع وضوح آياته وعظم معجزاته، فما ظنك بغيره؟ أفاده الزمخشري.
قال الناصر: ويحتمل عندي، والله أعلم، أنه لما صدّر الكلام بحكاية تكذيبهم، ثم عدّد أصناف المكذبين وطوائفهم، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام، حسن تكريره ليلي قوله فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ فيتصل المسبب بالسبب، كما قال في آية (ق) بعد تعديدهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 14] ، فربط العقاب والوعيد، ووصلهما بالتكذيب، بعد أن جدد ذكره، والله أعلم.
وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو ردّ دعوة النبيّ وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه. وما وقع من قوم موسى هو تخليط، وخطأ اجتهاد، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته، والانتظام في سلك إجابته. وقوله(7/250)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالإهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 45]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي فكم من أهالي قرية أَهْلَكْناها أي بالعذاب وَهِيَ ظالِمَةٌ أي مشركة كافرة فَهِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة عَلى عُرُوشِها أي سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر متروكة لا يستقى منها، لهلاك أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي مرفوع. من (شاد البناء) رفعه. أو معناه مطليّ ومعمول بالشيد، بالكسر، وهو الجص، أي مجصص، أخليناه عن ساكنيه، ومن شواهد الأول قول عديّ بن زيد:
شاده مرمرا وجلّله كل ... سا، فللطير في ذراه وكور
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 46]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أهل مكة في تجارتهم فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ أي بما يشاهدونه من مواد الاعتبار قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي ما يجب أن يعقل من التوحيد أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الضمير في (فإنها) للقصة. أو مبهم يفسره (الأبصار) . والمعنى: ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة. وفائدة ذكر (الصدور) هو التأكيد مثل يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: 167] ، وطائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] ، إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة، وهنا لتقرير معنى المجاز.
وقال الزمخشري: الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته: الذي قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها. واستعماله في القلب استعارة ومثل. فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة(7/251)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار. كما تقول (ليس المضاء للسيف، ولكنه للسانك الذي بين فكيك) ، فقولك (الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسانه، وتثبيت. لأن محل المضاء هو هو لا غير. وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف. وأثبته للسانك، فلتة ولا سهوا مني، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 47]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي المبيّن في آية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:
32] ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي فيصيبهم ما أوعدهم به، ولو بعد حين وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي هو تعالى حليم لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه، كيوم واحد عنده، بالنسبة إلى حلمه. لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء. وإن أنظر وأملى. ولهذا قال بعده:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 48]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها أي أمهلتها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم. فتأثر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور، ببيان كمال سعة حلمه تعالى، وإظهار غاية ضيق عطنهم، المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى، مددا طوالا عندهم، حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6- 7] ، ولذلك يرون مجيئه بعيدا، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره، ويجترءون على الاستعجال به، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها، وقوعا وإخبارا، ما عنده تعالى من المقدار. أفاده ابن كثير وأبو السعود.
وفي (العناية) : لما ذكر استعجالهم، وبيّن أنه لا يتخلف ما استعجلوه، وإنما أخر حلما، لأن اليوم ألف سنة عنده. فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه، بل هو أقصر من يوم. فلا يقال: إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم، والقلب لا وجه له.(7/252)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
وقال الرازي: لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب، أنهم يستهزءون باستعجال العذاب، بيّن أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته كَأَلْفِ سَنَةٍ لو عدّ في كثرة الآلام وشدتها. فبيّن سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه.
قال الرازي: وهذا قول أبي مسلم، وهو أولى الوجوه. انتهى.
وقد حكاه الزمخشريّ بقوله: وقيل معناه: كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه، في طول ألف سنة من سنيكم. لأن أيام الشدائد مستطالة، أي تعدّ طويلة كما قيل:
تمتع بأيام السرور فإنّها ... قصار. وأيام الهموم طوال
أو كان ذلك اليوم الواحد، لشدة عذابه، كألف سنة من سني العذاب. انتهى.
واعتمد الوجه الأول أبو السعود. وناقش فيما بعده بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه. فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي. وأن الزمان الممتد هو الذي مرّ عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال. لا الزمان المقارن له.
ألا يرى إلى قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد، بعد الإملاء المديد. انتهى. وفيه قوة. فالله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهي الجنة وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين سعوا في ردّ آياتنا، وصدّ الناس عنها مشاقّين. فالمعاجزة مستعارة للمشاقة مع المؤمنين ومعارضتهم. فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. كما يقال (جاراه في كذا) . قال تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا [العنكبوت: 4] ، وقرئ (معجّزين) بتشديد الجيم. بمعنى أنهم عجّزوا الناس(7/253)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالقرآن. وكلتا القراءتين متقاربة المعنى.
وذلك أن من عجّز عن آيات الله، فقد عاجز الله. ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله، والعمل بمعاصيه، وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين نزلت فيهم الآيات أنهم كانوا يبطّئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسوله. ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه. وقد ضمن الله له نصره عليهم. فكان ذلك معاجزتهم الله. كذا في الشهاب وابن جرير. ثم أشار تعالى إلى تسلية رسوله صلوات الله عليه، عما كان يلاقيه من صدّ شياطين قومه عن سبيل الله، بأن تلك سنة كل رسول وأن العاقبة له، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 52]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شرعته أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي بما يصدّ عنها، ويصرف المدعوّين عن إجابتها فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويمحقه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم الإلقاءات الشيطانية، وطريق نسخها من وجه وحيه. حَكِيمٌ يحكم آياته بحكمته. ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما. ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 53]
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وارتياب وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وهم العتاة المتمردون وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ أي خلاف للحق بَعِيدٍ عن موافقته جدا، بسبب ظلمهم وشركهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحج (22) : آية 54]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)(7/254)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي بالانقياد، والخشية. والضمير للقرآن أو لله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق الحق والاستقامة، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية. ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه، لو احتاجت إلى نظير. ولكنها بيّنة بنفسها، غنية عن التطويل في التأويل، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل. ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك، ثم نتبعه بنقد المحققين، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة.
قال ابن جرير الطبري: قيل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقى على لسانه، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن، ما لم ينزل الله عليه. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتم به، فسلّاه الله مما به من ذلك، بهذه الآيات
. ثم ذكر من قال ذلك.
فأسند عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه. فأنزل الله عليه وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: 1- 2] ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20] ، ألقى عليه الشيطان كلمتين (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) فتكلم بها، ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه، ورضوا بما تكلم به.
قالا: فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة. فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال: ما جئتك بهاتين. فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما في توهين أصله، والثاني على تسليمه.
أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير. وتعلق بذلك(7/255)
الملحدون مع ضعف بعض نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته. ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب. وأكثر الطرق عنهم فيها، واهية ضعيفة، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب (الشك في الحديث) أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بمكة، وذكر القصة.
قال أبو بكر البزّار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل، يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد. وغيره يرسله عن سعيد ابن جبير. وإنما يعرف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا. وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيما ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله: والذي منه
في الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (النجم) وهو بمكة.
فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن.
هذا توهينه من طريق النقل.
وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه السلام، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة. إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر، أو أن يتسوّر عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما السلام. وذلك كله ممتنع في حقه عليه السلام. أو يقول ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا، وذلك كفر. أو سهوا وهو معصوم من هذا كله. ووجه ثان- وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا. وذلك أن الكلام، لو كان كما روي، بعيد الالتئام، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف. ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل. فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟ ووجه ثالث- أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين، نفورهم من أول وهلة، وتخليط العدوّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشمّات بهم الفينة بعد الفينة. وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة. ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل. ولو كان(7/256)
ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة. ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة.
كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. وكذلك ما روي في قصة القضية. ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت. ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت. فما روي عن معاند فيها كلمة.
ولا عن مسلم بسببها بنت شفة. فدل على بظلها، واجتثاث أصلها. ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن، على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع- ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] الآيتين. وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه.
لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبّته لكاد يركن إليهم. فمضمون هدا ومفهومه، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم. وهذا ضد مفهوم الآية، ويضعّف الحديث، لو صح، فكيف ولا صحة له؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبنيّ على تسليم الحديث، لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته. ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. فمنها ما رواه قتادة ومقاتل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أصابته سنة عند قراءة هذه السورة. فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم. وهذا لا يصح. إذ لا يجوز على النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله في حالة من أحواله. ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو.
وقد قال عليه السلام «1»
(إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي) .
وفي حديث الكلبي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه.
وفي رواية ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: ومنها لما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان
. وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهوا ولا قصدا. ولا يتقوّله الشيطان على لسانه.
وقيل: لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار. كقول إبراهيم هذا رَبِّي [الأنعام: 77] ، على أحد التأويلات. وكقوله:
__________
(1) أخرجه البخاري في: التهجد، 16- باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره، حديث رقم 631، عن عائشة.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم 125.(7/257)
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] ، بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين. ثم رجع إلى تلاوته. وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ. وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر.
ومما يظهر في تأويله، إن سلمنا القصة، أن يراد بالغرانيق الملائكة. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوّله المشركون على أن المراد بها آلهتهم، ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزيّنه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين. انتهى كلام القاضي ملخصا.
وقال أبو بكر الباقلاني: وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات، محاكيا نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله تعالى وأشاعها.
قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير (تمنى) ب (تلا) وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل. وقال قبله: إن هذه الآية نص في براءة النبيّ صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه، لا أنه عليه السلام قاله.
قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوّم عليه. واستحسان ابن العربي ذلك، على فرض صحة القصة، وإلا فقد قال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وقال تقي الدين بن تيمية: في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك. والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) وقالوا: إن هذا لم يثبت. ومن علم أنه ثبت قال: هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا.
وقالوا في قوله: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا: هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا: الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث.
والقرآن يوافق ذلك. فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها. وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس، لا باطنا في النفس. والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ، من جنس(7/258)
الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ. وهذا النوع أدلّ على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن الهوى، من ذلك النوع. فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق. وهذا كما قالت عائشة «1» رضي الله عنها: لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ. فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب. وهذا هو المقصود بالرسالة. فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما. انتهى.
وفي كلامه رحمه الله نظر من وجوه:
أولا- دعواه أن المأثور يوافق القرآن. فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات. ولا تدل الآية عليه، لا مطابقة ولا التزاما. بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء، كما ستراه.
وثانيا- دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه. فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين. ويكفي أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال:
قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق. وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظنا منهم أن مشركي قريش أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة. ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وتعداد طرقها، بعد ضعف أصلها، لا يفيد. وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات. يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى. والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء. وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر. فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد. كما ستمر بك مناقشته. ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخاري معلقة أو موقوفة، أو أرباب السنن.
وثالثا- اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول، كما نبذتها صحة النقول.
__________
(1) أخرجه الترمذي في: التفسير، 33- سورة الأحزاب، حدثنا علي بن حجر.(7/259)
فصل
وقال الفخر الرازي في (تفسيره) : هذه الرواية باطلة موضوعة، عند أهل التحقيق. واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه:
أحدها- قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] .
وثانيها- قوله: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس: 15] .
وثالثها- قوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4] .
ورابعها- قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الإسراء: 73] ، وكلمة (كاد) عند بعضهم معناها أنه لم يحصل.
وخامسها- قوله: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] ، وكلمة (لولا) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل.
وسادسها- قوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] .
وسابعها- قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] .
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة. وصنف فيه كتابا.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضا فقد روى البخاري «1» في صحيحه أن النبيّ عليه السلام قرأ سورة (النجم) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن. وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها- أن من جوّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 35- سورة النجم، 4- باب فاسجدوا لله واعبدوا، حديث رقم 590.(7/260)
وثانيها- أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له. حتى كانوا ربما مدّوا أيديهم إليه. وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروها، ليلا، أو في أوقات خلوة. وذلك يبطل قولهم.
وثالثها- أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر. فكيف أجمعوا على أنه عظّم آلهتهم حتى خروا سجدا؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها- قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول، أقوى من نسخة بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها. فإذا أراد الله إحكام الآيات، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا، أولى.
وخامسها- وهو أقوى الوجوه، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه.
وجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي، وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال، أن هذه القصة موضوعة.
أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها. لكنهم ما بلغوا حد التواتر.
وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.
ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث. ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت.
فصل
وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعة، نقتبس منها شذرات.
قال: يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهيّ (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر، في الفضائل وصالح الأعمال. وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم. ولا يخفى على أحد من أهل النظر، في هذا الدين القويم، أنه(7/261)
قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل. وخص خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز. وعصمة الرسل في التبليغ عن الله، أصل من أصول الإسلام. شهد به الكتاب وأيدته السنة، وأجمعت عليه الأمة. وما خالف فيه بعض الفرق، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه. ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان، حق لا يرتاب فيه ملّيّ يفهم ما معنى الدنى. ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه. أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل. نظروا نظرة في قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية القراءة) فعمي عليهم وجه التأويل، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم. فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا عنه، وجفاه قومه وعشيرته، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من إعراضهم. ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم. فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (النجم) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا. وقد شايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع الناس إلف الغريب، والتهافت على العجيب. فولعوا بهذه التفاسير، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها. وذهب إليه الأئمة في بيانها.
جاء في صحيح البخاريّ «1» : وقال ابن عباس في إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إذا حدث ألقي الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته. ويقال (أمنيته قراءته) إِلَّا أَمانِيَّ يقرءون ولا يكتبون. انتهى.
فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعد ما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس. وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين. فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة. ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) يفيد أنه غير معتبر عنده. وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس.
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، 22- سورة الحج، في الترجمة.(7/262)
وقال صاحب الإبريز: إن تفسير (تمنى) بمعنى (قرأ) و (الأمنية) بمعنى (القراءة) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. ورواها عليّ بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه. انتهى.
وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها. وأما قصة الغرانيق، فمع ما فيها من الاختلاف، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق: إنها من وضع الزنادقة. كما تقدم عن الرازيّ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه.
وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين. فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها، لا يقبل على أي وجه جاء. وقد عدّ الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها. هذا لو فرض اتصال الحديث، فما ظنك بالمراسيل؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به. فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له.
هذا ما قاله الأئمة، جزاهم الله خيرا، في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل لها. ولا عبرة برأى من خالفهم. فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا. وشهرة المبطل في بطله، لا تنفخ القوة في قوله. ولا تحمل على الأخذ برأيه.
ثم قال الأستاذ رحمه الله: والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها. والله أعلم:
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئا من القرآن، أن قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآيات، يحكي قدرا قدّر للمرسلين كافة، لا يعدونه ولا يقفون دونه. ويصف شنشنة عرفت فيهم، وفي أممهم. فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى: أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم. ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام(7/263)