المجلد الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ترجمة المؤلف
1- عصر المؤلف:
عاش القاسمي معظم حياته في أشد أيام الظلم والظلام. فقد ولد ونظام الحكم المطلق قائم في الدولة العثمانية، فالحريات بجميع أنواعها مفقودة، والأقلام مغلولة، والأحرار مطاردون، والدستور معلق، وأعوان السلطان مبثوثون في كل مكان، والجاسوسية تفتك بالأبرياء، والعدالة تكاد تكون مفقودة لفساد النظام القضائي، وشراء مراكز القضاء.
في هذا الجو السياسي الخانق عاش القاسمي معظم حياته.
أما الحياة الثقافية في ولاية سورية فكانت أشبه بالمفقودة، فلا مدارس، ولا معاهد، ولا جامعات، واعتماد القلة من الناس على الكتاتيب وحلقات الجوامع والدروس الخاصة في البيوت. جهل مطبق فرضته الدولة على الناس، ليعيشوا في جوّ من الظلام والغباء، وليسهل على حكامها ومستغليها اضطراد الأمور في مسلك من الظلم والبطش والخنوع.
وكان حال الحياة الدينية نتيجة طبيعية للحياة الثقافية: جمود على القديم، وكتب صفراء يتداولها الطلاب، ومتون كثيرا ما يحفظونها من غير فهم، وحواش وتعليقات تزيد في اضطراب عقول الطلاب. وتقليد أعمى غلت معه العقول، حتى كتب الحديث ما كانت تقرأ على الأغلب إلا للتبرك، أما كتب التفسير فممتنعة عن الخاصة بله العامة.
وحسب الرجل أن يقرأ بعض كتب الفقه، ليعتمّ ويقال إنه عالم. وكتب اللغة والنحو والصرف والأدب يقرؤها بعض الطلاب على أنها أداة لفهم الكتاب والسنّة.
وقد كانت الطرق في ذلك العصر في أوج انتشارها، يعتنقها بعض رجال الدين، ويجمعون العامة حولهم، ويشغلونهم عن العمل النافع لإقامة المجتمع الإسلامي الصالح. وقد تعددت هذه الطرق تعدد الأحزاب السياسية، وقامت بين زعمائها خصومات واتهامات لا يكاد يصدقها العقل.
أما حقيقة الدعوة الإسلامية وأهدافها السامية، فلم يكن أحد من رجال الدين عارفا بها، أو مهتما بنشرها.
والحياة الاجتماعية كانت كذلك مفقودة، إذ لم يعرف الناس أي نوع من أنواع الاجتماع إلا في الولائم وصلاة الجمعة، والسهرات التي كان يسميها أهل الشام (الدّور) . فلا ندوات ثقافية، ولا جمعيات إصلاحية، وحتى ولا جمعيات خيرية.
والمرأة التي هي نصف المجتمع غائبة، فليس لها في خدمته إلا نصيب قعيد البيت.
في هذا الجو الخانق العجيب، المتخلف في جميع مرافق الحياة، نشأ القاسمي. فكان كالطائر المغني في غير سربه، غريبا عن أهل الزمان، ولعل هذا كله كان أدعى لإقدامه، والقناعة برسالته، وضرورة العمل لها، والسعي لنشرها، لا يبالي في ذلك تكفيرا، ولا محاكمة ولا حبسا.
فثبت لهذه المحن كلها، وأكثر منها، كالطود الراسخ، لا يزعزع يقينه وعيد، ولا تهديد، ولا تكفير، ولا حبس. لا تزيده الأيام إلا قوة وعزيمة.
2- نسبه:
حقق القاسمي نسبه في كتابه المطبوع المعروف «شرف الأسباط» . وذكر في ترجمته نفسه أنه «محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح ابن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي، نسبة إلى جده المذكور وهو الإمام، فقيه الشام، وصالحها في عصرها، الشيخ قاسم المعروف بالحلاق. وكان أبوه (محمد سعيد) رحمه الله فقيها أديبا، غلب عليه شعر أهل عصره. اشتغل أول حياته بالتجارة، فكان له في العصرونية متجر معروف، ثم اعتزل التجارة لأسباب لا أعرفها. وقد جمع شعره في ديوان سماه ولده جمال الدين «الطالع السعيد في ديوان الإمام الوالد السعيد» وأمه عائشة بنت أحمد جبينة، وجدته لأبيه فاطمة بنت محمد الدسوقي.
3- ولادته:
في زقاق المكتبي، ظاهر باب الجابية وبالقرب من قصر الحجاج في محلة القنوات، كان مسكن والد القاسمي في دار واسعة الفناء، متعددة الغرف. في وسطها بركة ماء متسعة، في هذه الدار ولد القاسمي، قال: «ولادتي كما رأيتها بخط والدي الماجد وخاله العالم النحرير الشيخ حسن جبينة الشهير بالدسوقي قد كانت في ضحوة يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف بوطننا دمشق الشام» .
وتوفي جمال الدين القاسمي 1914 م. تاركا وراءه مؤلفاته الكثيرة التي يكاد يصل عددها المائة ما بين كتاب ورسالة ومقالة ...
4- نشأته ومشيخته:
كان لنشأة القاسمي في بيت عرف بالعلم والتقوى أثر كبير في توجيهه الوجهة التي تولاها، واختاره الله لها، فقد كان جده الشيخ قاسم فقيه الشام وصالحها، وكان أبوه فقيها أديبا. وفي جوّ من حرمة الدين وجلاله، فتح عينيه على النور، فأخذ يعبّ من معين ثرّ قوي، مستعينا بتشجيع أبيه الذي لا ينقطع من الدعاء له، وإهدائه الكتب، فأعانه هذا كله على نشأة صحيحة صالحة، لم يعرف فيها لهو الفتيان إلا بالقدر المشروع.
قال في ترجمته لنفسه: «قد ربّي في كنف والده، وقرأ القرآن على الحافظ المعمر الشيخ عبد الرحمن بن علي شهاب المصري نزيل دمشق» .
«وبعد أن ختمت القرآن، أخذت في تعلم الكتابة عند الأستاذ الكامل الشيخ محمود أفندي ابن محمد بن مصطفى القوصي نزيل دمشق، من صلحاء الأتراك ...
ثم انتقلت إلى مكتب في المدرسة الظاهرية، وكان معلمه العالم الفاضل الشيخ رشيد أفندي قزيها، الشهير بابن سنان. فقرأت عنده في المكتب المذكور مقدمات وفنون شتى، من توحيد وصرف ونحو ومنطق وغيرها ... وكنت في خلال ذلك شارعا في قراءة المختصرات الفقهية والنحوية أيضا عند سيدي الوالد، ثم جودت القرآن المجيد على شيخ القراء بالشام، الشيخ أحمد الحلواني. فقرأت عليه ختمة وأكثر من نصف أخرى، على رواية الإمام حفص عليه الرحمة» .
ومن كبار مشايخه الشيخ بكري بن حامد البيطار، والشيخ محمد بن محمد الخاني النقشبندي، والشيخ حسن بن أحمد بن عبد القادر جبينة، الشهير بالدسوقي.
وقد أجاز له إجازة عامة كثير من كبار الشيوخ، منهم مفتي الشام العلامة محمود أفندي الحمزاوي، والإمام طاهر بن عمر الآمدي، مفتي الشام أيضا، والعلامة الشيخ محمد الطنطاوي الأزهري ثم الدمشقي.
5- طريقته في التأليف:
بلغ الجمود من بعض أدعياء الدين أن امتنعوا عن الاحتجاج بالكتاب والسنة، في أي أمر من أمور الدنيا والدين، وقنعوا بكتب الفقهاء وحدها، على ما فيها من اختلاف. وأصبح قول الفقيه عندهم هو وحده الحجة والسند، فلما أدرك القاسمي هذه الحقيقة المرة، رأى أن الإصلاح لا يمكن أن يتم بالاستشهاد بالكتاب وحده، وإن كان دستور المسلمين الخالد، ولا بالسنّة معه، وإن كانت متممة له، لذلك عمد إلى الإكثار من نقل أقوال أئمة المسلمين الغابرين في كتبه، يختار ما كان منسجما مع دعوته السامية، ذلك لأن خصومه من رجال الدين، إذا كان لهم أن يعترضوا على أقواله، فليس لهم أن يعترضوا على أقوال الفقهاء الأقدمين، بل عليهم أن يسلموا بما جاء فيها.
ولم يكن يقتصر في نقوله عن الأئمة المعروفين من المذاهب الأربعة وغيرهم من فلاسفة المسلمين. وإنما كان يجد القول الصحيح لدى زيدي أو معتزلي أو خارجي أو غيرهم، فلا يمنعه ذلك من الاستشهاد بقوله. لا بل قد يرى قولا لأحد العلماء الفرنجة، فيسارع إلى التقاطه وضمه إلى كتابه.
6- أسلوبه:
كان والد القاسمي مولعا بالأدب إلى جانب تعمقه بالفقه، فنشأ ولده تنشئة أدبية على الطريقة التي عرفها أهل ذلك الزمان. وكان أسلوب معظم الكتّاب في ذلك العصر يعتبر السجع أصلا في الإنشاء وقد التزمه القاسمي في مقدمات كتبه كلها تقريبا، جريا على ما ألف الناس، ولكنه كان سجعا قليل التكلف، أقرب إلى الفطرة منه إلى الصنعة.
ثم شاعت طريقة الترسل، وكان الأستاذ الإمام محمد عبده من الذين دعوا إلى نشرها، وكان القاسمي أحد المعجبين بالأستاذ الإمام، فعدل عن السجع في بعض ما كتب إلى الترسل، فجاء أسلوبه فيه عربيا صافيا، رائعا في قوة التركيب، وجزالة الألفاظ، ودقة الأداء.(1/1)
وترسله على قلّته، يمثل صفاء ذهن القاسمي، وتمكنه من اللغة العربية وغوصه على المعاني، وسعة اطلاعه على مخلفات التراث العربي القديم، وعلى ما ضمّت المكتبة العربية من طريف المؤلفات وحديثها.
ويرى المتتبع لكتبه أنه كان أحرص على الفكرة منه على الأسلوب. أما أسلوبه في الإلقاء فقد أطاعت اللغة العربية لسانه على شكل لم يؤلف لدى رجال الدين في ذلك العصر، وكانت الألفاظ تنثال على لسانه في كثير من الانسجام والرقة والعذوبة.
7- ثقافته العامة:
لم يكن لرجال الدين في عصر القاسمي أي اهتمام بغير كتب الفقه والآلة، أما القاسمي فقد صرف اهتمامه إلى جميع أنواع المعرفة التي أخذت في الانتشار، وعزم على أن يتعلم في شبابه وكهولته ما فاته تعلمه في طفولته.
ولعل أوضح عنوان لثقافته العامة مؤلفاته الكثيرة المتعددة، ومكتبته الخاصة التي حوت كتبا شتى، لم يخل واحد منها من تصحيح أو تعليق. فإلى جانب كتب التفسير والحديث والفقه واللغة والتصوف والأدب والتاريخ، ترى كتب الفلسفة وكتب الاجتماع، وكتب الرياضيات وكتب الجغرافيا. ولم تخل مكتبته من كتب الفرق الإسلامية، وكتب الديانات الأخرى، كاليهودية والنصرانية. أضف إلى هذا أنه كان مواظبا على مطالعة المجلات الشهرية العلمية والتاريخية والأدبية التي كانت تصدر في زمانه كالمقتبس والمقتطف والهلال، ومن الآثار الواضحة لثقافته العامة، مؤلفاته العديدة. فقد ألّف في مواضيع نادرة ومتعددة، فإلى جانب مؤلفاته في التفسير والحديث والأصول، وضع كتابا في تاريخ دمشق، ورسالة في الجن، وكتيبا في الشاي والقهوة والدخان، ومقالة عن القلب.
وإذا قرأت كتابه «دلائل التوحيد» رأيت فيه حصيلة حسنة من علوم الفلك والجغرافيا والحيوان والنبات والجيلوجيا. وفي كتابه «إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق» وضع خاتمة بعنوان «طرف تاريخية وطرائف أدبية» بحث فيها عن «التلغراف» ومعناه، واشتقاقه من اللغة اليونانية، وأول من استعمل الكهرباء في المخابرة عن بعد، وكذلك «التلفون» .
ويحدث أن يصاب عام 1312 بمرض «البواسير» ، فيتألم، ويدفعه ألمه إلى البحث عن هذا المرض بحثا علميا، ويضع في ذلك رسالة سماها «ما قاله الأطباء المشاهير في علاج البواسير» ، ويعقد في كتابه «تعطير الشام في مآثر دمشق الشام» فصلا عن «الزراعة في الشام والذرائع لإصلاحها فتراه يشير الى السمادات الكيماوية وأنواعها: الفسفورية والبوتاسية وإلى ضرورة استعمال الآلات الميكانيكية في الحرث والحصاد، وإلى الآفات والأمراض والحشرات الزراعية وطرق مكافحتها.
وقد أولع عام 1324- 1907 بفقه اللغات، (فيلولوجيا) ، وأخذ يبحث عن أصول بعض الألفاظ المعربة من لغاتها الأصلية: اليونانية والسريانية والعبرية والفارسية والقبطية والألمانية والفرنسية وغيرها.
وعلى الجملة فقد كان آخذا بأطراف المعرفة من كل سبب، لم يمنعه عن ذلك مخالفة في الدين أو المذهب أو العقيدة أو الطريقة.(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ورقّاه في مراتب البلاغة إلى مقام لو اجتمعت الجن والإنس على معارضته لم يقدروا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فسبحان من أوضح لنا به معالم الدين، وأبان بمشارق أنواره مناهج الأدلة للمجتهدين. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأستعينه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بملة حنيفية، وشرعة قويمة عليّة، وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد التنزيل فحصّلوه، وأسسوا قواعده وفصّلوه، وجالت أفكارهم في آياته، واعملوا الجد في تحقيق مبادئه وغاياته، وعلى من اقتفى أثرهم، ممن لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم.
أما بعد، فإن أكرم ما تمتد إليه أعناق الهمم، وأعظم ما تتنافس فيه الأمم، العلم الذي هو حياة القلب، وصحة اللب وأجلّ أصنافه وأرفعها، وأكمل معالمه وأنفعها، هي العلوم الشرعية، والمعارف الدينية. إذ بها انتظام صلاح العباد، واغتنام الفلاح في المعاد. وعلم التفسير، من بينها، أعلاها شأنا، وأقواها برهانا، وأوثقها بنيانا، وأوضحها تبيانا. فإنه مأخذها وأساسها، وإليه يستند اقتناصها واقتباسها، بل هو، كما وصف به، رئيسها ورأسها. كيف لا وموضوعه، وهو الكتاب المجيد، كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر. وإنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. فلا جرم، لزم من رام الاطلاع على كليات الشريعة الغراء، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها النجباء، أن يتخذه سميره وأنيسه، ويجعله على المدى، نظرا وعملا، جليسه.
فيوشك أن يفوز بالبغية، ويظفر بالطّلبة، ويجد نفسه من السابقين، وفي الرعيل الأول(1/3)
المهتدين، ويشرق في قلبه نور الإيقان، وتطلع في بصيرته شمس العرفان، ويتبوأ في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا.
وإني كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون، والاكتحال بإثمد مطالبه لتنوير العيون، فأكببت على النظر فيه، وشغفت بتدبر لآلئ عقوده ودراريه.
وتصفحت ما قدر لي من تفاسير السابقين، وتعرفت، حين درست، ما تخللها من الغث والسمين. ورأيت كلّا، بقدر وسعه، حام حول مقاصده. وبمقدار طاقته، جال في ميدان دلائله وشواهده. وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطرا من عمري. ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهري. أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر. قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر. وأكون بخدمته موسوما، وفي حملته منظوما. فشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم. واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده، وتفسير مقاصده. في كتاب اسمه بعون الله الجليل: «محاسن التأويل» ، أودعه ما صفا من التحقيقات، وأوشّحه بمباحث هي المهمات. وأوضح فيه خزائن الأسرار. وأنقد فيه نتائج الأفكار، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر. وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر. وزوائد استنبطتها بفكري القاصر. مما قادني الدليل إليه. وقوي اعتمادي عليه. وسيحمد السابح في لججه، والسانح في حججه، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان، وبدائعه الباهرة للأذهان، فإنها لباب اللباب، ومهتدى أولي الألباب. ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات. اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات، فهنالك تصوّب أسنّة البراهين نحو نحور الشبهات.
ولا يخفى أن من القضايا المسلمة، والمقدمات الضرورية، أنه مهما تأنق الخبير في تحبير دقائقه السميّة، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لباب اللباب، لأنه منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقى عن خيرته ومصطفاه.(1/4)
هذا وقد حليت طليعته بتمهيد خطير، في مصطلح التفسير. وهي قواعد فائقة، وفوائد شائقة، جعلتها مفتاحا لمغلق بابه، ومسلكا لتسهيل خوض عبابه، تعين المفسر على حقائقه، وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه.
فدونك أيها الباحث عن مطالب أعلى العلوم، التائق لأسنى نتائج الفهوم، المتعطش إلى أحلى موارده، المنقب عن مصادر مقاصده، ينبوعا لمعاني الفرقان، وعقدا ضمّ درر التبيان، وقف بك من الطريق السابلة على الظهر، وخطب لك عرائس الحكم ثم وهب لك المهر، فقدّم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قبلك منه فها أنت قد فزت بما حصلت. وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتسنّم أوج التحقيق في مطالع الأنظار. والبس التقوى شعارا، والاتّصاف بالإنصاف دثارا. واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة. ولا ترد مشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية، أنفة ذوي النفوس العصية. فذلك مرعى لسوّامها وبيل، وصدود عن سواء السبيل.
وكان شروعي في هذه النية الحميدة، بعد استخارته تعالى أياما عديدة في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمائة وألف. نفعنا الله بما يجري منه على يدينا، ولا جعله حجة علينا، ونحن نستغفر الله مما تعاطيناه من الأمر العظيم، واقتحمناه من الخطر الجسيم، ونستعيذ به من الوقوع في حبائل العدوّ الرجيم، ونسأله توفيقا يقف بنا على جادة الاستقامة، ويصرفنا عن عمل ما يعقبه ملام أو ندامة، ونرجو من فضله تعالى حياة طيبة وعزما تنحط من دونه المصاعب، وعونا على إكمال هذا المأرب تبيضّ به وجوه المطالب. وهداية قدسية إلى الطريقة المثلى، وعناية لدنيّة نقوى بها على تأييد كلمة الحق الفضلى، فهو وليّ الأنعام، في البدء والختام.(1/5)
تمهيد خطير في قواعد التفسير
1- قاعدة في أمهات مآخذه:
للناظر في القرآن، لطلب التفسير، مآخذ كثيرة. أمهاتها أربعة:
الأول- النقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: وهذا هو الطراز المعلم. لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع، فإنه كثير. ولهذا قال أحمد: ثلاثة كتب لا أصل لها:
المغازي، والملاحم، والتفسير.
قال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة. وإلا فقد صح من ذلك كثير، كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام.
والحساب اليسير بالعرض، والقوة بالرمي في قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] .
الثاني- الأخذ بقول الصحابيّ: فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قاله الحاكم في مستدركه. وقال أبو الخطاب، من الحنابلة: يحتمل أن لا يرجع إليه إذا قلنا: إن قوله ليس بحجة. والصواب الأول، لأنه من باب الرواية لا الرأي.
قلت: ما قاله الحاكم نازعه فيه ابن الصلاح وغيره من المتأخرين، بأن ذلك مخصوص بما فيه سبب النزول أو نحوه، مما لا مدخل للرأي فيه. ثم رأيت الحاكم نفسه صرح به في علوم الحديث فقال: ومن الموقوفات تفسير الصحابة. وأما من يقول إن تفسير الصحابة مسند، فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول. فقد خصص هنا، وعمّم في المستدرك. فاعتمد الأول، والله أعلم. ثم قال الزركشي: وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد. واختار ابن عقيل المنع، وحكوه عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه. فقد حكوا في كتبهم أقوالهم لأن غالبها تلقوها من الصحابة. وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ، فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالا، وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل. وقد يكون بعضهم يخبر عن(1/7)
الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا.
فإن لم يمكن الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم، إن استويا في الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدم.
الثالث- الأخذ بمطلق اللغة: فإن القرآن نزل بلسان عربي، وهذا قد ذكره جماعة، ونص عليه أحمد في مواضع، لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر؟ فقال: ما يعجبني. فقيل: ظاهره المنع.
ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد، وقيل:
الكراهة تحمل على من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها.
وروى البيهقي في (الشّعب) عن مالك قال: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا.
الرابع- التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضب من قوة الشرع: وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث
قال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «1»
، والذي عناه
عليّ بقوله: إلا فهما يؤتاه الرجل في القرآن
. ومن هنا اختلف الصحابة في معنى الآية، فأخذ كل برأيه على منتهى نظره. ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل. قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] . وقال: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] .
وقال: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] . أضاف البيان إليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود «2» والترمذي والنسائي.
وقال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» «3» أخرجه أبو داود «4» .
وقال البيهقي في الحديث الأول: إن صح. أراد- والله أعلم- الرأي الذي
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: - العلم، - باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهم علمه الكتاب» .
(2- 3)
في سنن أبي داود في العلم، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، حديث 3652.
عن جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم «من قال بكتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ»
. (4) أخرجه الترمذيّ في التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه.(1/8)
يغلب من غير دليل قام عليه، وأما الذي يشدّه برهان، فالقول به جائز.
وقال في المدخل: في هذا الحديث نظر، وإن صح، فإنما أراد به- والله أعلم- فقد أخطأ الطريق، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة. وفي معرفة ناسخه ومنسوخه، وسبب نزوله، وما يحتاج فيه إلى بيانه، إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله، وأدّوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى. قال تعالى:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] .
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده، وما لم يرد عنه بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد. قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه، فيكون موافقته للصواب، إن وافقه، من حيث لا يعرفه، غير محمودة.
وقال الماوردي: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهدها نص صريح. وهذا عدول عما تعبّدنا بمعرفته من النظر في القرآن، واستنباط الأحكام، كما قال تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] ولو صح ما ذهب إليه، لم يعلم شيء بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا. وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه، ولم يعرج على سوى لفظه، وأصاب الحق، فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق. إذ الفرض أنه مجرد رأي لا شاهد له. وفي
الحديث: «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس
. فقوله «ذلول» يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه مطيع لحامليه تنطق به ألسنتهم.
والثاني: أنه موضح لمعانيه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين.
وقوله: «ذو وجوه» يحتمل معنيين:
أحدهما: أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل.
والثاني: قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحريم.
وقوله: «فاحملوه على أحسن وجوهه» يحتمل معنيين:
أحدهما: الحمل على أحسن معانيه.
والثاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص، والعفو دون الانتقام(1/9)
وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله تعالى- كذا أفاده الزركشي في البرهان.
وقال أبو حيان: ذهب بعض من عاصرناه إلى أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه، بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم. وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك، قال: وليس كذلك. قال الزركشي- بعد حكاية ذلك-:
الحق أن علم التفسير، منع ما يتوقف على النقل، كسبب النزول، والنسخ، وتعيين المبهم، وتبيين المجمل. ومنه ما لا يتوقف. ويكفي في تحصيله الثقة على الوجه المعتبر. قال: وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل، والتمييز بين المنقول والمستنبط، ليحيل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط. قال: واعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد.
والأول إما أن يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو رؤوس التابعين. فالأول يبحث فيه عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسره من حيث اللغة، فهم أهل اللسان، فلا شك في اعتماده، أو بما شاهده من الأسباب والقرائن، فلا شك فيه. وإن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة، فإن أمكن الجمع فذاك، وإن تعذر قدّم ابن عباس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث
قال: «اللهم علمه التأويل»
. وقد رجّح الشافعي قول زيد في الفرائض
لحديث «أفرضكم زيد» «1» .
وأما ما ورد عن التابعين، فحيث جاز الاعتماد فيما سبق، فكذلك، وإلا وجب الاجتهاد.
وأما ما لم يرد فيه نقل، فهو قليل، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق.
وقال الإمام ابن خلدون في مقدمة «العبر» في علوم القرآن:
وأما التفسير: فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا،
__________
(1)
أخرجه ابن ماجة، في المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث 154. عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم عليّ بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت. ألا وإن لكل أمة أمينا، وأمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح»
.(1/10)
وآيات آيات، لبيان التوحيد والفروض الدينية، بحسب الوقائع، ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم، ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرّفه أصحابه، فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه، كما علم من قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» أنها نعي النبي صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك.
ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وتداول ذلك التابعون من بعدهم، ونقل ذلك عنهم، ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف، حتى صارت المعارف علوما، ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك، ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي، وأمثال ذلك من المفسرين، فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة، وأحكام الإعراب، والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك، بعد أن كانت ملكات للعرب، لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب. فتنوسي ذلك، وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن، لأنه بلسان العرب، وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التفسير على صنفين:
تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآي. وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين.
وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية
__________
(1) أخرجه البخاريّ في التفسير، سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، باب وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً.
عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ قالوا: فتح المدائن والقصور. قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أجل أو مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم، نعيت له نفسه.(1/11)
مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض، أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام، فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. ويتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها، كما قلنا، عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك. إلا أنهم بعد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة. فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد بن عطية، من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب، متداول بين أهل المغرب الأندلس، حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة، على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور، بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير، وهو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب، والبلاغة، وتأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب وهذا الصنف من التفسير قلّ أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات، وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة. انتهى.
2- قاعدة في معرفة صحيح التفسير، وأصح التفاسير عند الاختلاف:
قال الإمام محمد بن المرتضى اليماني رضي الله عنه في كتابه «إيثار الحق على الخلق» :
فصل
في الإرشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير، وأصح التفاسير عند الاختلاف بطريق واضح لا يشك أهل الإنصاف في حسن التنبيه عليه والإرشاد إليه:
«اعلم أن كتاب الله تعالى، لما كان مفزع الطالب للحق بعد الإيمان، وكان محفوظا كما وعد به الرحمن، دخل الشيطان على كثير من طريق تفسيره، وعدم(1/12)
الفرق بين التفسير والتحريف والتأويل والتبديل، ولو كان لكل مبتدع أن يحمله على ما يوافق هواه، بطل كونه فرقا بين الحق والباطل. وقد ثبت أنه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وهذا لا يتم إلا بحراسته من دعاوى المبطلين في تصرفاتهم واحتيالهم على التشويش فيه، ولبس صوادعه وقواطعه بخوافيه، وهذه هذه فليهتم المعظم له بمعرفتها، ويتأملها حق التأمل، ويتعرف أسبابها ممن قد مارسها» وقد أوضحها رضي الله عنه في كتابه المذكور، وجوّد الكلام عليها ثم قال:
فإذا عرفت ذلك فلا غنى عن معرفة مراتب المفسرين، حيث يكون التفسير راجعا إلى الرواية ثم مراتب التفسير، حيث يكون التفسير راجعا إلى الدراية.
أما مراتب المفسرين: فخيرهم الصحابة رضي الله عنهم، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة، ولأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم، ولأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم، وأكثرهم تفسيرا حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد جمع عنه تفسير كامل، ولم يتفق مثل ذلك لغيره من الصدر الأول الذين عليهم في مثل ذلك المعوّل، ومتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير، وذلك لوجوه:
أولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بالفقه في الدين، وتعلّم التأويل أي التفسير، وصح ذلك واشتهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله طرق في مجمع الزوائد. وقال الحافظ أبو مسعود في أطرافه: إنه مما أخرجه البخاري ومسلم بكماله.
وفيهما من غير طريق أبي مسعود عند سائر الرواة «اللهم علمه الكتاب والحكمة»
،
وفي رواية «اللهم فقهه في الدين»
. وفي رواية الترمذي: أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين. وينبغي معرفة سائر مناقبه مع ذلك في مواضعها، ولولا خوف الإطالة لذكرتها.
وثانيها: أن الصحابة اتفقوا على تعظيمه في العلم عموما، وفي التفسير خصوصا، وسموه البحر والحبر وشاع ذلك فيهم من غير نكير، وظهرت إجابة الدعوة النبوية فيه، وقصة عمر معه، رضي الله عنهما، مشهورة، في سبب تقديمه وتفضيله على من هو أكبر منه من الصحابة، وامتحانه في ذلك «1» .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في التفسير سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ باب فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.(1/13)
وثالثها: كونه من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة.
ورابعها: أنه ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي. روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وفي رواية «بغير علم» رواه أبو داود في العلم، والنسائي في فضائل القرآن، والترمذي في التفسير، وقال: حديث حسن، وشرطه فيما قال فيه «حسن» أن يأتي من غير طريق.
والخامس: أن الطرق إليه محفوظة غير منقطعة، فصح منها تفسير نافع، ممتع.
ولذلك خصصته بالذكر، وإن كان غيره أكبر منه، وأقدم وأعلم وأفضل، مثل علي بن أبي طالب عليه السلام، من جنسه وأهله، وغيره من أكابر الصحابة رضي الله عنهم.
لكن ثبوت التفسير عنهم قليل بالنظر إليه، رضي الله عنهم أجمعين.
ثمّ المرتبة الثانية من المفسرين «التابعون» ومن أشهر ثقاتهم المصنفين في التفسير: مجاهد وعطاء وقتادة والحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران ومحمد ابن كعب القرظي وزيد بن أسلم. ويلحق بهؤلاء عكرمة، ثم مقاتل بن حيان ومحمد ابن زيد، ثم علي بن أبي طلحة، ثم السدي الكبير. وتتمة هذا في الإيثار وفي الإتقان.
قال ابن تيمية: أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم. وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود. وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد، ومالك بن أنس. انتهى.
3- قاعدة في أن غالب ما صح عن السلف من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوّع، لا اختلاف تضادّ:
قال ابن تيمية: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه. فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السّلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.(1/14)
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا، رواه أحمد في مسنده.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين، أخرجه في الموطأ «1» .
وذلك أن الله قال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: 29] .
وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم، كالطب والحساب ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟ ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا. وهو، وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة. وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال. والخلاف بين السلف في التفسير قليل. وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ، وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، كتفسيرهم الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: بعض بالقرآن، أي اتباعه. وبعض بالإسلام. فالقولان متفقان. لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال: «هو السنة والجماعة» ، وقول من قال: «هو طريق العبودية» ، وقول من قال: «هو طاعة الله ورسوله» وأمثال ذلك. فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل.
وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثاله: ما نقل في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا [فاطر: 32] الآية. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق، فتقرّب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون أصحاب اليمين، والسابقون
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في القرآن، وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها.(1/15)
السابقون أولئك المقربون. ثم إن كلّا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. أو يقول: السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط، والظالم مانع الزكاة.
قال: وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوّع التفسير، تارة لتنوّع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.
ومن التنازع الموجود منهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين، إما لكونه مشتركا في اللغة، كلفظ «القسورة» الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد ولفظ «عسعس» الذي يراد به إقبال الليل وإدباره. وإما لكونه متواطئا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين، أو أحد الشخصين، كالضمائر في قوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى [النجم: 8] الآية، وكلفظ وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 1- 3] وأشباه ذلك. فمثل ذلك قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه وإما لكون اللفظ متواطئا، فيكون عاما إذا لم يكن لمخصصه موجب. فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.
ومن الأقوال الموجودة عنهم، ويجعلها بعض الناس اختلافا، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة، كما إذا فسر بعضهم «تبسل» بتحبس، وبعضهم بترتهن، لأن كلّا منهما قريب من الآخر.
فصل
ثم قال:
والاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك.
والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره، ومنه ما لا يمكن ذلك. وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من(1/16)
ضعيفه، عامته مما لا فائدة فيه، ولا حاجة بنا إلى معرفته. وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وفي قدر سفينة نوح وخشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل.
وما لا، بأن نقل عن أهل الكتاب، ككعب ووهب، وقف عن تصديقه وتكذيبه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»
، وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون، لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. ومع جزم الصحابيّ بما يقوله، كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود كثير ولله الحمد، وإن قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي، وذلك لأن الغالب عليها المراسيل.
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه من الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا، لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق والفريابيّ ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم. أخذها قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
(والثاني) قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يراد به العربيّ من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق. والأولون صنفان: تارة(1/17)
يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وقد يكون حقّا، فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول. فالذين أخطئوا فيهما، مثل طوائف من أهل البدع، اعتقدوا مذاهب باطلة، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم. وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم. مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبّائي وعبد الجبار والرمّاني والزمخشري وأمثالهم.
وهؤلاء من يكون حسن العبارة يدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه. حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة تفاسيرهم الباطلة. وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة وأسلم من البدعة. ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبريّ، وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها قدرا، ثم إنه يدع ما ينقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله. وأما الذين أخطئوا في الدليل لا في المدلول كمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء، يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره السلميّ في الحقائق، فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول. انتهى.
4- قاعدة في معرفة النزول:
قال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. وقد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: لا(1/18)
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
[آل عمران: 188] الآية، وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون. حتى بيّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه- أخرجه الشيخان «1» .
وحكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا.. [المائدة: 93] الآية، ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك. وهو أن ناسا قالوا، لما حرّمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت- أخرجه أحمد والنسائي «2» وغيرهما-.
ومن ذلك قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق: 4] فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة حتى قال الظاهرية: بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب. وقد بين ذلك سبب النزول: وهو أنه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد من النساء قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن- الصغار والكبار- أخرجه الحاكم عن أبيّ- فعلم بذلك أن الآية خطاب لمن لم يعلم ما حكمهن في العدة، وارتاب هل عليهن عدة أو لا، وهل عدتهن كاللاتي في سورة البقرة أو لا. فمعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ إن أشكل عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتدّون، فهذا حكمهن.
ومن ذلك قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] فإنا لو
__________
(1) أخرجه البخاريّ في التفسير، سورة آل عمران، باب لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا. عن ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه: اذهب، يا رافع، إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا، لنعذّبن أجمعون. فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم يهود. فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم.
(2) أخرجه البخاريّ في التفسير، سورة المائدة، باب لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا. عن أنس رضي الله عنه: أن الخمر التي أهريقت الفضيخ. قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى. فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت. قال: فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرّمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.(1/19)
تركنا ومدلول اللفظ لاقتضى أن المصلي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا، وهو خلاف الإجماع. فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر، أو فيمن صلى بالاجتهاد وبان له الخطأ، على اختلاف الروايات في ذلك.
ومن ذلك قوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... «1» [البقرة: 158] الآية: فإن ظاهر لفظها لا يقتضي أن السعي فرض. وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيته تمسكا بذلك. وقد ردت عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثموا من السعي بينهما، لأنه من عمل الجاهلية، فنزلت.
ومنها رفع توهم الحصر. قال الشافعي ما معناه في قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ... [الأنعام: 145] الآية: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله.
وكانوا على المضادة والمحادة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة، لا النفي والإثبات على الحقيقة.
فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين: وهذا في غاية الحسن، ولولا سبق الشافعيّ إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية، وتعيين المبهم فيها.
ولقد قال مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر: إنه الذي أنزل فيه، وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: 17] حتى ردت عليه عائشة وبينت له سبب نزولها «2» .
__________
(1) جاء في البخاري، في التفسير، سورة البقرة، باب إن الصفا والمروة من شعائر الله. عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. فما أرى على أحد شيئا أن لا يطّوّف بهما، فقالت عائشة: كلا. لو كان كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما.
(2) أخرجه البخاريّ، في التفسير، سورة الأحقاف، باب وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز. استعمله معاوية. فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا. فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما. فقالت عائشة، من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري.(1/20)
وقال ابن تيمية أيضا: قد يجيء كثير من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصا، كقولهم، إن آية الظهار، نزلت في امرأة ثابت ابن قيس وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 49] نزلت في بني قريظة والنضير، ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين.
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أنّ حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه، فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وإن كانت خبرا بمدح أو ذم، فإنها متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
قال ابن تيمية أيضا: قولهم أنزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما نقول عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصحابيّ: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاريّ يدخله في المسند، وغيره لا يدخله فيه. وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح، كمسند أحمد، وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وقال الزركشيّ في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها. فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع. انتهى.
وقال المحقق أبو إسحاق الشاطبيّ في الموافقات: معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع. إذ الكلام الواحد(1/21)
يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك. كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخر، من تقرير وتوبيخ وغير ذلك. وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة.
وعمدتها مقتضيات الأحوال. وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول. وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه. ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد. ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال. وينشأ عن هذا الوجه.
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، مورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال، حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع. ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيميّ، قال: خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟! فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟! فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنّا أنزل القرآن علينا فقرأناه، وعلمنا فيم نزل. وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، اقتتلوا. قال فزجره عمر وانتهره! فانصرف ابن عباس. ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه فقال: أعد عليّ ما قلت. فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب. فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
ثم ساق الشاطبيّ نحو ما تقدم عن ابن تيمية مطولا، وقال في آخر البحث، وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب، لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات.
وقد قال عليه السلام: خذوا القرآن من أربعة، منهم عبد الله بن مسعود «1» .
وقد قال
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. عن مسروق: ذكر عبد الله ابن عمرو، عبد الله بن مسعود فقال: لا أزال أحبه. سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيّ بن كعب»
.(1/22)
في خطبة خطبها: والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله.
وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تبلغه الإبل، لركبت إليه «1» . وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن.
وعن الحسن أنه قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وما أراد بها. وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب.
وعن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن شيء من القرآن، فقال: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن. وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير. انتهى.
وقال ولي الله الدهلويّ في الفوز الكبير: ومن المواضع الصعبة معرفة أسباب النزول. ووجه الصعوبة فيها خلاف المتقدمين والمتأخرين. والذي يظهر من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم لا يستعملون «نزلت في كذا» لمحض قصة كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهي سبب نزول الآية. بل ربما يذكرون بعض ما صدقت عليه الآية مما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو بعده صلى الله عليه وسلم. ويقولون: «نزلت في كذا» ولا يلزم هناك انطباق جميع القيود، بل يكفي انطباق أصل الحكم فقط. وقد يقررون حادثة تحققت في تلك الأيام المباركة، واستنبط صلى الله عليه وسلم حكمها من آية، وتلاها في ذلك الباب، ويقولون: «نزلت في كذا» وربما يقولون: في هذه الصورة، فأنزل الله قوله كذا، فكأنه إشارة إلى أنه استنباطه صلى الله عليه وسلم. وإلقاؤها في تلك الساعة بخاطره المبارك أيضا، نوع من الوحي والنفث في الروع. فلذلك يمكن أن يقال: فأنزلت، ويمكن أن يعبر في هذه الصورة بتكرار النزول. ويذكر المحدثون في ذيل آيات القرآن كثيرا من الأشياء ليست من قسم سبب النزول في الحقيقة. مثل استشهاد الصحابة في مناظراتهم بآية، أو تمثيلهم بآية، أو تلاوته صلى الله عليه وسلم آية للاستشهاد في كلامه الشريف، أو رواية حديث وافق الآية في أصل الغرض، أو تعيين موضع النزول، أو تعيين أسماء
__________
(1) أخرجه البخاري: قال عبد الله رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت. ولا أنزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت. ولو أعلم أحدا أعلم منبي بكتاب الله، تبلغه الإبل، لركبت إليه.(1/23)
المذكورين بطريق الإبهام، أو بطريق التلفظ بكلمة قرآنية، أو فضل سور وآيات من القرآن، أو صورة امتثاله صلى الله عليه وسلم بأمر من أوامر القرآن ونحو ذلك. وليس شيء من هذا في الحقيقة من أسباب النزول، ولا يشترط إحاطة المفسر بهذه الأشياء، إنما شرط المفسر أمران:
الأول: ما تعرض له الآيات من القصص، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.
والثاني: ما يخصص العام من القصة، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر. فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.
ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السابقين لا تذكر في الحديث إلا على سبيل القلة، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب، إلا ما شاء الله تعالى.
وقد جاء في صحيح البخاريّ مرفوعا: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم «1»
. وليعلم أن الصحابة والتابعين ربما كانوا يذكرون قصصا جزئية لمذاهب المشركين واليهود وعاداتهم من الجهالات لتتضح تلك العقائد والعادات، ويقولون: نزلت الآية في كذا. ويريدون بذلك أنها نزلت في هذا القبيل، سواء كان هذا وما أشبهه، أو ما قاربه. ويقصدون إظهار تلك الصورة، لا بخصوصها، بل لأجل أن التصوير صالح لتلك الأمور الكلية. ولهذا تختلف أقوالهم في كثير من المواضع، وكلّ يجرّ الكلام إلى جانب. وفي الحقيقة، المطالب متحدة.
وإلى هذه النكتة أشار أبو الدرداء حيث قال: لا يكون أحد فقيها حتى يحمل الآية على محامل متعددة. انتهى.
وقال أيضا: من جملة الآثار المروية في كتب التفسير بيان سبب النزول.
وسبب النزول على قسمين:
الأول: أن تقع حادثة يظهر فيها إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، كما وقع في أحد والأحزاب، أنزل الله تعالى مدح هؤلاء، وذم أولئك، ليكون فيصلا بين
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في التوحيد باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها.
عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ.... الآية»
. [.....](1/24)
الفريقين. وربما يقع في مثل هذا من التعريض بخصوصيات الحادثة ما يبلغ حدّ الكثرة. فيجب أن يذكر شرح الحادثة مختصرا ليتضح سوق الكلام على القارئ.
القسم الثاني: أن يتم معنى الآية بعمومها من غير احتياج إلى العلم بالحادثة التي هي سبب النزول. والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ذكر قدماء المفسرين تلك الحادثة بقصد الإحاطة بالآثار المناسبة للآية، أو بقصد بيان ما صدق عليه العموم. وليس ذكر هذا القسم من الضروريات.
وقد تحقق عند الفقير، أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكان غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها، سواء تقدمت القصة أو تأخرت، إسرائيليّا كان ذلك أو جاهليّا أو إسلاميّا، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها والله أعلم.
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا، وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية، انتهى كلامه.
5- قاعدة في الناسخ والمنسوخ
قد تقرر أن النسخ في الشرائع جائز، موافق للحكمة وواقع. فإن شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم. وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة.
وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة. لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ، إنما تشرع لمصلحة البشر. والمصلحة تختلف باختلاف الزمان، فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه.
وكما تنسخ شريعة بأخرى، يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة. فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم، فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ولكنّ هناك خلافا في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن. فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانيّ المفسر الشهير: ليس في القرآن آية منسوخة، وهو يخرّج كل ما قالوا إنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل.
وظاهر أن مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن، وإنما هي نسخ لحكم، لا ندري(1/25)
هل فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم باجتهاده، أم بأمر من الله تعالى غير القرآن، فإن الوحي غير محصور في القرآن.
ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن، بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب، يعبد الله تعالى بتلاوتها، وتذكر نعمته، بالانتقال من حكم كان موافقا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام، إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان. فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه، كالتخفيف في تكليف المؤمنين بقتال عشرة أمثالهم، والاكتفاء بمقاتلة الضعف بأن تقاتل المائة مائتين. واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية، وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال: إن الثانية ناسخة للأولى. أما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها.
وقال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة- وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق. وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه. حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد. فالنسخ، عندهم وفي لسانهم، هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه. ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.
انتهى.
وقال وليّ الله الدهلويّ في الفوز الكبير: من المواضع الصعبة في فن التفسير التي ساحتها واسعة جدّا، والاختلاف فيها كثير، معرفة الناسخ والمنسوخ، وأقوى الوجوه الصعبة اختلاف اصطلاح المتقدمين والمتأخرين، وما علم في هذا الباب، من استقراء كلام الصحابة والتابعين، أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغويّ الذي هو إزالة شيء بشيء، لا بإزاء مصطلح الأصوليين. فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى، إما بانتهاء مدة العمل، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا، أو تخصيص عام، أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس عليه ظاهرا، أو إزالة عادة الجاهلية، أو الشريعة السابقة، فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك، واتسعت دائرة الاختلاف. ولهذا بلغ عدد الآيات المنسوخة خمسمائة.(1/26)
وإن تأملت، متعمقا، فهي غير محصورة. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل. لا سيما بحسب ما اخترناه من التوجيه. انتهى.
وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات: الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم، في الإطلاق، أعم منه في كلام الأصوليين. فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم، بدليل متصل أو منفصل، نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعيّ، بدليل شرعيّ متأخر، نسخا. لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد. وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به. وهذا المعنى جاء في تقييد المطلق.
فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ.
وكذلك العامّ مع الخاص. إذ كان ظاهر العام شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ.
فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ. إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم، كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد. ولا بد من أمثلة تبين المراد: فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] أنه ناسخ لقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [الشورى: 20] وهذا، على التحقيق، تقييد لمطلق. إذ كان قوله نُؤْتِهِ مِنْها مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله في الأخرى لِمَنْ نُرِيدُ وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وقال في قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224- 226] هو منسوخ بقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً.. [الشعراء: 227] الآية، قال مكيّ- وقد ذكر عن ابن عباس، في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء، أنه قال: منسوخ- قال:
وهو مجاز لا حقيقة. لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه، بيّنه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول، والناسخ منفصل من المنسوخ، رافع(1/27)
لحكمه، وهو بغير حرف. هذا ما قال. ومعنى ذلك: أنه تخصيص للعموم قبله، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.
وقال في قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] أنه منسوخ بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.. [النور: 29] الآية. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء. غير أن قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ يثبت في الآية الأخرى أنما يراد بها المسكونة.
وقال في قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] ، أنه منسوخ بقوله:
ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] ، والآيتان في معنيين. ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع.
وقال في قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] منسوخ بقوله:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ.. [الأنفال: 41] الآية، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
وقال في قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أنه منسوخ بقوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها..
الآية. وآية الأنعام خبر من الأخبار، والأخبار لا تنسخ ولا تنسخ.
وقال في قوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.. [النساء: 8] الآية: أنه منسوخ بآية المواريث. وقال مثله الضحاك والسدي وعكرمة. وقال الحسن: منسوخ بالزكاة. وقال ابن المسيّب: نسخه الميراث والوصية.
والجمع بين الآيتين ممكن، لاحتمال حمل الآية على الندب، والمراد بأولي القربى من لا يرث. بدليل قوله: وَإِذا حَضَرَ كما ترى الرزق بالحضور، فإن المراد غير الوارثين. وبيّن الحسن أن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم.
وقال هو وابن مسعود في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 284] أنه منسوخ بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] بدليل أن ابن عباس فسر الآية بكتمان الشهادة، إذ تقدم قوله وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ثم قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ(1/28)
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية. فحصل أن ذلك من باب تخصيص العموم أو بيان المجمل.
وقال في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها [النور: 31] أنه منسوخ بقوله: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ [النور: 60] الآية، وليس بنسخ وإنما هو تخصيص لما تقدم من العموم.
وعن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت في قوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] أنه ناسخ لقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] فإن كان المراد أن طعام أهل الكتاب حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم.
وإن كان المراد طعامهم حلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب تخصيص.
لكن آية الأنعام هي آية العموم المخصوص في الوجه الأول، وفي الثاني بالعكس.
وقال عطاء في قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال: 16] أنه منسوخ بقوله: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] إلى آخر الآيتين، وإنما هو تخصيص وبيان لقوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ فكأنه على معنى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وكانوا مثلي عدد المؤمنين، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير، والأمثلة كثيرة. انتهى.
وسيأتي في تفسير قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] زيادة على ما هنا بعونه تعالى.
6- قاعدة في القراءة الشاذة والمدرج:
قال أبو عبيد في فضائل القرآن: المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها. كقراءة عائشة وحفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» وقراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» وقراءة جابر «فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم» .
قال: فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن. وقد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن. فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى؟ فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف(1/29)
معرفة صحة التأويل. انتهى.
وقال القراب في الشافعي: التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنّما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر، وأوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد. انتهى.
ومن القراآت ما يشبه من أنواع الحديث المدرج. وهو ما زيد في القراآت على وجه التفسير. كقراءة سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت من أم» أخرجها سعيد بن منصور، وقراءة ابن عباس «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» «1» أخرجها البخاريّ، وقراءة ابن الزبير «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» قال عمرو:
فما أدري أكانت قراءته أم فسر- أخرجه سعيد بن منصور وأخرجه الأنباريّ، وجزم بأنه تفسير.
وأخرج عن الحسن أنه كان يقرأ: «وإن منكم إلا واردها الورود الدخول» قال الأنباريّ: قوله: «الورود الدخول» تفسير من الحسن لمعنى الورود، وغلط فيه بعض الرواة فأدخله في القرآن.
قال ابن الجزريّ في آخر كلامه: وربما كانوا يدخلون التفسير في القراآت إيضاحا وبيانا. لأنهم محققون لما تلقوه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس. وربما كان بعضهم يكتبه معه، وأما من يقول: إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب وساء- كذا في الإتقان.
7- قاعدة في قصص الأنبياء والاستشهاد بالإسرائيليات
قال الإمام أبو العباس أحمد بن زروق في قواعد التصوف: التأثير بالأخبار عن الوقائع أتم لسماعها من التأثير بغيرها. فمن ثم قيل: الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب العارفين. قيل: فهل تجد لذلك شاهدا من كتاب الله؟ قال:
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120] ، ووجه ذلك:
أن شاهد الحقيقة بالفعل أظهر وأقوى في الانفعال من شاهدها اللغويّ، إذ مادة
__________
(1) أخرجه البخاريّ في التفسير- سورة البقرة- باب ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية.. فتأثموا أن يتجروا في المواسم. فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج.(1/30)
الفاعل مستمرة في الفعل لغابر الدهر.
وقال وليّ الله الدهلويّ، قدس سره، في أصول التفسير، في فصل الكلام على معرفة أسباب النزول:
شرط المفسر أمران:
الأول: ما تعرض له الآيات من القصص، فلا يتيسر فهم الإيماء بتلك الآيات إلا بمعرفة تلك القصص.
والثاني: ما يخصص العام من القصة، أو مثل ذلك من وجوه صرف الكلام عن الظاهر، فلا يتيسر فهم المقصود من الآيات بدونها.
ومما ينبغي أن يعلم أن قصص الأنبياء السالفين لا تذكر في الحديث إلا على سبيل القلة، فالقصص الطويلة العريضة التي تكلف المفسرون روايتها، كلها منقولة عن علماء أهل الكتاب إلا ما شاء الله تعالى. انتهى.
فإذن، لا يخفى أن من وجوه التفسير معرفة القصص المجملة في غضون الآيات الكريمة، ثم ما كان منها غير إسرائيليّ. كالذي جرى في عهده صلى الله عليه وسلم، أو أخبر عنه. فهذا تكفّل ببيانه المحدثون. وقد رووه بالأسانيد المتصلة، فلا مغمز فيه.
وأما ما كان إسرائيليا، وهو الذي أخذ جانبا وافرا من التنزيل العزيز، فقد تلقى السلف شرح قصصه، إما مما استفاض على الألسنة ودار من نبئهم، وإما من المشافهة عن الإسرائيليين الذين آمنوا. وهؤلاء كانوا تلقفوا أنباءها عن قادتهم. إذ الصحف كانت عزيزة لم تتبادلها الأيدي، كما هو في العصور الأخيرة. واشتهر ضنّ رؤسائهم بنشرها لدى عمومهم، إبقاء على زمام سيطرتهم، فيروون ما شاؤوا غير مؤاخذين ولا مناقشين. فذاع ما ذاع.
ومع ذلك فلا مغمز على مفسرينا الأقدمين في ذلك، طابق أسفارهم أم لا، إذ لم يألوا جهدا في نشر العلم وإيضاح ما بلغهم وسمعوه. إما تحسينا للظن في رواة تلك الأنباء وأنهم لا يروون إلا الصحيح، وإما تعويلا على ما
رواه الإمام أحمد والبخاريّ والترمذيّ عن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» «1»
ورواه أبو داود أيضا بإسناد صحيح عن
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل. عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «بلغوا عني ولو آية. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»
.(1/31)
أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»
فترخصوا في روايتها كيفما كانت، ذهابا إلى أن القصد منها الاعتبار بالوقائع التي أحدثها الله تعالى لمن سلف لينهجوا منهج من أطاع فأثنى عليه وفاز. وينكبوا عن مهيع من عصى فحقت عليه كلمة العذاب وهلك. هذا ملحظهم رضي الله عنهم.
وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يقول: إذا روينا في الأحكام شددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا، فبالأحرى القصص. وبالجملة فلا ينكر أن فيها الواهيات بمرة، والموضوعات، مما استبان لمحققي المتأخرين. وقد رأيت، ممن يدعي الفضل، الحط من كرامة الإمام الثعلبيّ، قدس الله سره العزيز، لروايته الإسرائيليات وهذا، وأيم الحق، من جحد مزايا ذوي الفضل ومعاداة العلم. على أنه، قدس سره، ناقل عن غيره، وراو ما حكاه بالأسانيد إلى أئمة الأخبار. وما ذنب مسبوق بقول نقله باللفظ وعزاه لصاحبه؟ فمعاذا بك، اللهم! من هضيمة السلف.
وقد رأيت له في تاريخ القاضي ابن خلّكان ترجمة عالية أحببت إثباتها هنا، تعريفا بمقامه لدى الجاهل به.
قال القاضي في حرف الهمزة: أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبيّ النيسابوريّ المفسر المشهور: كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، وغير ذلك. ذكره السمعانيّ، وقال: يقال له الثعلبيّ، والثعالبيّ، وهو لقب له ليس بنسب، قاله بعض العلماء.
وذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسيّ في كتاب سياق تاريخ نيسابور، وأثنى عليه، وقال: حدث عن أبي طاهر بن خزيمة والإمام أبي بكر بن مهران المقرئ، وكان كثير الحديث، كثير الشيوخ، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
وقال غيره: توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
وقال غيره: توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. رحمه الله تعالى. انتهى.
والقصد أن الصالحين كانوا يتقبلون الروايات على علاتها للملاحظة المارة، لصفاء سريرتهم. فلا ينبغي إلا تفنيد الموضوع منها، لا الحط من مقامهم وقرض أعراضهم. كيف وقد تلقى الصحابة ومن بعدهم الإسرائيليات وحكوها، بل بعضهم(1/32)
اقتنى أسفارها وأدمن مطالعتها، لما استبان له من البشائر النبوية، وتحقق تحريفهم.
روى الحافظ الذهبيّ في تذكرة الحفاظ، في ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها ورأى فيها عجائب.
وقال السيوطيّ في الإتقان في طبقات المفسرين: وورد عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة، وما أشبهها بأن يكون مما تحمله عن أهل الكتاب.
وقال أيضا، في آخر الإتقان: حديث الفتون طويل جدا، يتضمن شرح قصة موسى وتفسير آيات كثيرة تتعلق به، وقد نبه الحفاظ منهم المزيّ وابن كثير على أنه موقوف من كلام ابن عباس. قال ابن كثير: وكان ابن عباس تلقاه من الإسرائيليات. انتهى.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل كنيسة لليهود وسمع قراءة التوراة حتى أتوا على صفته.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: إن الله عز وجل ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة، فدخل الكنيسة فإذا يهود، وإذا يهوديّ يقرأ عليهم التوراة. فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبيّ فأمسكوا. ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمته. فقال:
هذه صفتك وصفة أمتك. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لوا أخاكم» «1» .
وروى الإمام أحمد أيضا في مسنده عن أبي صخر العقيليّ قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبه إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فرغت من بيعتي قلت لألقينّ هذا الرجل فلأسمعنّ منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة! هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه: هكذا، أي لا. فقال ابنه: إي والله الذي أنزل التوراة! إنا لنجد في كتابنا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. جزء أول ص 416.(1/33)
صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! فقال: أقيموا اليهودي عن أخيكم، ثم ولي دفنه وحنطه وصلى عليه «1» .
وروى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة عبد الله بن سلام الحبر رضي الله عنه: عن إبراهيم بن أبي يحيى، قال: حدثنا معاذ بن عبد الرحمن عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قرأت القرآن والتوراة، فقال: اقرأ هذا ليلة وهذا ليلة
. قال الذهبيّ: فهذا- إن صح- ففيه الرخصة في تكرير التوراة وتدبرها. انتهى.
أي ليعلم المحرف فيها من سياق القرآن الكريم، وليتبصر فيما تقوم به الحجة على حملة أسفارها، وليزداد معرفة بمجادلتهم من معتقدهم، ولغير ذلك.
قال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدّي الكبير، في تفسيره، عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس. ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» . رواه البخاريّ عن عبد الله بن عمرو.
ولهذا كان عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتقاد.
فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، ويجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. انتهى.
فحيث جازت حكايته، على ما قاله، فالأولى رواية ما كان من القسم الأول أو الثالث عن نص كتبهم، كما هو مذهب عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، كما نقله ابن كثير هنا، والذهبي والسيوطيّ كما تقدم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. جزء خامس ص 411.(1/34)
وإنما كان الأولى، في رواية الإسرائيليات، ما ذكرنا دفعا لمناقشة بعضهم على الإسرائيليات المتداولة في التفاسير بأنها لم ترو في كتب الحديث المشهورة حتى تكون المرجع، ولم تؤخذ من أسفارهم حتى تتطابق معها، فارتأى النقل عنها لذلك، لا اعتقادا بسلامتها من التحريف المحقق، كلا. بل توسعا في باب الأخبار للاستشهاد والاعتبار. قياما بالحجة على الخصم من معتقده، وناهيك بذلك.
قال ابن حزم في كتاب الملل والنحل، بعد ما أوضح البراهين العديدة على تحريفهم وتبديلهم: إن الله تعالى كما أطلق أيديهم في تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين، كفّ أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين، حجة عليهم.
وممن كان يرى جواز النقل عن كتبهم، من قدماء الشافعية، الإمام الماورديّ.
كما تراه في مواضع من كتابه «أعلام النبوة» .
وممن حقق هذا البحث الإمام برهان الدين البقاعيّ، ثم الدمشقي، في تفسيره «المناسبات» الذي قال عنه شيخ الإسلام القاضي زكريا: «ما ألف نظيره وجدير بأن يكتب بماء الذهب» كما حكاه عنه تلميذه الإمام الهيتميّ في آخر فتاويه الحديثية.
وهاك ما قاله البقاعيّ، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] ، ما نصه: فإن أنكر منكر الاستشهاد بالتوراة أو بالإنجيل، وعمي عن أن الأحسن في باب النظر أن يرد على الإنسان بما يعتقده، تلوت عليه قول الله تعالى استشهادا على كذب اليهود قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] ، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً [المائدة: 48] في آيات من أمثال ذلك كثيرة.
وذكرته باستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بالتوراة في قصة الزاني «1» .
وروى الشيخان «2» عن
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في التفسير سورة آل عمران باب قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا.
فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا نحممهما ونضربهما. فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم. فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها. ولا يقرأ آية الرجم. فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد. فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة
. (2)
أخرجه البخاريّ، في الرقاق، باب يقبض الله الأرض: عن أبي سعيد الخدريّ: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في(1/35)
أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة نزلا لأهل الجنة. فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة. كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه.
وقريب من ذلك حديث الجساسة «1» في أشباهه.
هذا فيما يصدقه كتابنا، وأما ما لا يصدقه ولا يكذبه،
فقد روى البخاريّ عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ورواه مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي سعيد رضي الله عنه
، وهو معنى ما
في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية
. فإن دلالة هذا على سنّية ذكر مثل ذلك أقرب من الدلالة على غيرها. ولذا أخذ كثير من الصحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتاب.
فإن فهم أحد من الشافعية منع أئمتهم من قراءة شيء من الكتب القديمة مستندا إلى قول الإمام أبي القاسم الرافعيّ في شرحه: وكتب التوراة والإنجيل مما لا يحل الانتفاع به لأنهم بدلوا وغيروا وكذا قال غيره من الأصحاب. قيل له: هذا مخصوص بما علم تبديله. بدليل أن كل من قال ذلك علل بالتبديل. فدار الحكم معه.
ونص الشافعيّ ظاهر في ذلك. قال المزنيّ عنه في مختصره، في باب جامع
__________
السفر نزلا لأهل الجنة. فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم. ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة (كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم) فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟
قال: إدامهم بالأم ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا.
(1) قصة الجساسة أوردها الإمام مسلم في صحيحه في الفتن وأشراط الساعة، قصة الجساسة، حديث 119. وهو حديث طويل روته فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/36)
السير: وما كان من كتبهم- أي الكفار- فيه طب وما لا مكروه فيه، بيع، وما كان فيه شرك بطل وانتفع بأوعيته.
وقال في الأم في سير الواقديّ في باب ترجمة كتب الأعاجم، قال الشافعيّ: وما وجد من كتبهم فهو مغنم كله، وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه، فإن كان علما من طب أو غيره لا مكروه فيه، باعه كما يبيع ما سواه من المغانم. وإن كان كتاب شرك شقّوا الكتاب فانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها، ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو. انتهى.
فقوله في الأم: «كتاب شرك» مفهم لأنه كله شرك، ولهذا عبر المزنيّ عن ذلك بقوله: وما كان فيه شرك، أي من أبواب الكتاب وفصوله.
وأدل من ذلك قولهم في باب الأحداث: أن حكمها في مس المحدث حكم ما نسخت تلاوته من القرآن في أصح الوجهين: والتعبير «بالأصح» على ما اصطلحوا عليه، يدل على أن الوجه القائل بحرمة مس المحدث وحمله لها قويّ.
وأدل من ذلك ما ذكره محرر المذهب، الشيخ محي الدين النوويّ رحمه الله في مسائل ألحقها في آخر باب الأحداث من شرح المهذّب وأقره، أن المتولي قال:
فإن ظن أن فيها شيئا غير مبدل، كره مسه. انتهى.
فكراهة المس للاحترام فرع جواز الإبقاء والانتفاع بالقراءة.
وأصرح من ذلك كله قول الشافعي رحمه الله: أن ما لا مكروه فيه يباع. وكذا قول البغويّ في تهذيبه في آخر باب الوضوء: وكذلك لو تكلم- أي الجنب- بكلمة توافق نظم القرآن أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة والإنجيل أو ذكر الله سبحانه أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فجائز.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه «1» .
فإنه لا يتخيل أنه يجوز للجنب ما لا يجوز للمحدث، بل كل ما جاز للجنب قراءته من غير أمر ملجئ جاز للمحدث، ولا عكس.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في الأذان باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ وقالت عائشة: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.(1/37)
وتعليله لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها دالّ على أن ذلك ذكر لله تعالى.
ولا يجوز الحمل على العموم، لا سيما إذا لوحظ قول القاضي الحسين: أنه يجوز الاستنجاء بها، لأنه مبنيّ على الوجه القائل بأن الكل مبدل. وهو ضعيف أو محمول على المبدل منهما. لأنه لا يخفى على أحد أن مسلما، فضلا عن عالم، لا يقول أنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح: قال الله جميع هذه الآيات كلها. أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكونن لك آلهة غيري. لا تعملنّ شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق، وفي الأرض من تحت، ومما في الماء أسفل الأرض. لا تسجدن لها ولا تعبدنّها. لأني أنا الرب إلهك إله غيور. لا تقسم بالرب إلهك كذبا. لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذبا. أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك. لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور.
وقد أشبع الكلام في المسألة شيخنا حافظ عصره أبو الفضل ابن حجر في آخر شرحه للبخاريّ. وآخر ما حط عليه، التفرقة بين من رسخ قدمه في العلوم الشرعية، فيجوز له النظر في ذلك، فإنه يستخرج منه ما ينتفع به المهتدون. وبين غيره فلا يجوز له ذلك. وأيده بنظر الأئمة فيها قديما وحديثا، والرد على أهل الكتابين بما يستخرجونه منها. فلولا جواز ذلك ما أقدموا عليه. والله الموفق.
وقد حررت هذه المسألة في فن المرفوع من حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العرافيّ. فراجعه إن شئت. والله الهادي.
ثم صنفت في ذلك تصنيفا حسنا سميته، الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة، كلام البقاعيّ الدمشقيّ رحمه الله تعالى.
وأما مسألة تحريف الكتابين، أعني التوراة والإنجيل، فقد نقل البخاريّ في أواخر صحيحه في باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ عن ابن عباس: يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكن يحرفونه يتأولونه عن غير تأويله.
قال أبو الفضل ابن حجر في شرحه: قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية، وهو مختاره. أي البخاريّ.
ثم قال ابن حجر: اختلف في هذه المسألة على أقوال:(1/38)
أحدها: أنها بدلت كلها. وهو مقتضى القول المحكيّ بجواز الامتهان، وهو إفراط. وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر، وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] الآية- ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم.
ويؤيده قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] .
ثانيها: أن التبديل وقع ولكن في معظمها. وأدلته كثيرة. وينبغي حمل الأول عليه.
ثالثها: وقع في اليسير منها. ومعظمها باق على حاله. ونصره الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية في كتابه «الرد الصحيح على من بدل دين المسيح» .
رابعها: إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ وهو المذكور هنا.
وبالجملة فكتب الكتابيّين، كأقوالهم، لا يعتمد عليها كلها. لظهور الكذب والتناقض فيها إلى اليوم. ولظهور تلفيقها. فهي ككتب القصص عندنا. فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب والآراء المقتبسة من الأمم. ثم إن موافقة القرآن الكريم أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتبهم دون بعض، يدل على أن الله تعالى بيّن له حق كلامهم من باطله، وصدقه من كذبه. وهذا معنى قوله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] .
قال بعضهم: لا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب اليهود دون بعض، بعد ما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط. إلا الوحي. وقد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الساطعة والآثار النافعة. انتهى. أي فعلى وحيه المعوّل فالحمد لله الذي وفقنا لاتباعه.
فصل في معنى ما نقل أن للقرآن ظاهرا وباطنا.
قال الشاطبيّ في الموافقات: من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار.
فعن الحسن، مما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ما أنزل الله آية إلا لها ظهر وبطن،
بمعنى ظاهر وباطن، وكل حرف حد وكل(1/39)
حد مطلع. وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو الفهم عن الله لمراده، لأن الله تعالى قال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78] . والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام. كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام، وكان هذا هو معنى ما روي عن علي أنه سئل هل عندكم كتاب؟ فقال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة «1» . الحديث.
وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث إذ قال: الظهر هو الظاهر والباطن هو السر.
وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] . فظاهر المعنى شيء، وهم عارفون به لأنهم عرب.
والمراد شيء آخر، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله. وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف البتة. فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق، وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه. ولما قالوا في الحسنة: هذا من عند الله، وفي السيئة: هذا من عند رسول الله، بيّن لهم أن كلا من عند الله، وأنهم لا يفقهون حديثا، لكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ.. [النساء: 79] الآية. وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد. وذلك ظاهر أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبر.
قال بعضهم: الكلام في القرآن على ضربين: أحدهما يكون برواية، فليس يعتبر فيها إلا النقل. والآخر يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة عن لسان العبد، وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام عليّ.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في الاعتصام باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبدع.
عن إبراهيم التيميّ قال: حدثني أبي قال: خطبنا عليّ رضي الله عنه على منبر من آجرّ، وعليه سيف، فيه صحيفة معلقة. فقال: والله، ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله. وما في هذه الصحيفة. فنشرها فإذا فيها: أسنان الإبل. وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا (وكذا يعني ثورا. كما جاء في روايات أخرى متعددة) فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيه (كذا) : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. فمن أخفر مسلما عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.(1/40)
وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربيّ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر، فصحيح. ولا نزاع فيه. وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم، فلا بد من دليل قطعيّ يثبت هذه الدعوى. لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب.
فلا يكون ظنيا. وما استدل به إنما غايته، إذا صح سنده، أن ينتظم في سلك المراسيل وإذا تقرر هذا فليرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله. وله أمثلة تبين معناه بإطلاق. فعن ابن عباس: كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتدخله ولنا بنون مثله؟ فقال له عمر: إنه من حيث تعلم. فسألني عن هذه الآية: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه. وقرأ السورة إلى آخرها. فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم.
فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد الله ويستغفره إذ نصره الله وفتح عليه. وباطنها أن الله نعى إليه نفسه.
ولما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3] فرح الصحابة، وبكى عمر وقال: ما بعد الكمال إلا النقصان. مستشعرا نعيه عليه السلام.
فما عاش بعدها إلا أحدا وثمانين يوما. وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ.. [العنكبوت: 41] الآية. قال الكفار: ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن. ما هذا الكلام لإله فنزل إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] فأخذوا بمجرد الظاهر، ولم ينظروا في المراد. فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ... الآية.
ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب، وظل زائل. وترك ما هو المقصود منها، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى. وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير.
ولما قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 27 و 30] نظر الكفار إلى ظاهر العدد. فقال أبو جهل، فيما روي: لا يعجز كل عشر منكم أن يبطشوا برجل منهم. فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ...(1/41)
[المدثر: 31] ، إلى قوله: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
وقال: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا. وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ...
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ.. [لقمان: 6] الآية.
لما نزل القرآن، الذي هو الهدى للناس ورحمة للمحسنين ناظره الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية، أو بالغناء، فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله.
وقال تعالى في المنافقين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ..
[الحشر: 13] وهذا عدم فقه منهم. لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو مصرف الأمور، فهو الفقيه. ولذلك قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ.
وكذلك قوله تعالى: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:
127] ، لأنهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا.
فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه. وإذا ثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه، وهو باطنه.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر. فالمسائل البيانية، والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن، فإذا فهم الفرق بين ضيّق في قوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ... [الأنعام:
125] وبين ضائق في قوله: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ.. [هود: 12] والفرق بين النداء: «بيا أيها الذين آمنوا، ويا أيها الذين كفروا» وبين النداء «بيا أيها الناس، أو بيا بني آدم» والفرق بين ترك العطف في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ... [البقرة: 6] والعطف في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. [لقمان: 6](1/42)
وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين. والفرق بين تركه أيضا في قوله: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.. [الشعراء: 154] وبين الآية الأخرى:
وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشعراء: 186] . والفرق بين الرفع في قوله: قالَ سَلامٌ [هود: 69] والنصب فيما قبله من قوله: قالُوا سَلاماً [هود: 69] .
والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف: 201] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله:
فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.. أو فهم الفرق بين «إذا» «وإن» في قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ...
[الأعراف: 131] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا، والمستقبل مع إن وكذلك قوله: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [يونس: 21] مع إتيانه بقوله: «فرحوا» بعد «إذا» و «يقنطون» بعد «إن» وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي، فقد حصل فهم ظاهر القرآن.
ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة. فقال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ..
[البقرة: 23] الآية. وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: 13] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها. إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة.
ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله. فإذا عرفوا عجزهم عنه عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان، وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى. وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله.
ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا.
ومن ذلك أنه لما نزل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.. [الحديد: 11] . قال أبو الدحداح: إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا. هذا معنى الحديث. وقالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء. ففهم أبو الدحداح هو الفقه وهو الباطن المراد.
وفي رواية قال أبو الدحداح: يستقرضنا وهو غنيّ. فقال عليه السلام: نعم(1/43)
ليدخلكم الجنة.
وفي الحديث قصة «1» .
وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربيّ الظاهر، ثم حمل استقراض الرب الغنيّ على استقراض العبد الفقير، عافانا الله من ذلك.
من ذلك أن العبادات المأمور بها، بل المأمورات والمنهيات كلها، إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه، ألا ترى قوله: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78] وفي الأخرى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [السجدة: 9] والشكر ضد الكفر، فالأيمان وفروعه هو الشكر، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد، فهو الذي فهم المراد من الخطاب، وحصل باطنه على التمام، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط. فهذا خارج عن المقصود وواقف مع ظاهر الخطاب. فإن الله قال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. [التوبة: 5] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم. فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة. فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر، بالخضوع لله والتعظيم لأمره فيمن دخلها عرّيا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير عودا عليه بالمزيد، فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرا للنعمة؟ وكذلك من يضارّ الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعدّ عاملا بقوله تعالى:
__________
(1) هذه قصة أبي الدحداح ذكرها الإمام الحافظ ابن كثير في تفسيره ونصها:
قال ابن أبي حاتم:
حدثنا الحسن بن عرفة. حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاريّ: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم، يا أبا الدحداح.
قال: أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله يده. قال: فإني قد قرضت ربي حائطي. وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح! قالت:
لبيك. قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كم من عذق رداح، في الجنة لأبي الدحداح» وفي لفظ «رب نخلة مدلاة، عروقها در وياقوت، لأبي الدحداح في الجنة»
.(1/44)
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ... [البقرة: 229] حتى يجري على معنى قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: 4] .
ويجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى. لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود اقتحم هذه المتاهات البعيدة. وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا. وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. كما قال الخوارج لعليّ: إنه حكّم الخلق في دين الله والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] . وقالوا: إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين فهو إذا أمير الكافرين. وقالوا لابن عباس: لا تناظروه فإنه ممن قال الله فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58] . وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري، حين أخذوا بظاهر قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 13 و 14] مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] . وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا.
فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 95] وقوله: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء: 35] لعلموا أن قوله: إن الحكم إلا لله، غير مناف لما فعله عليّ، وأنه من جملة حكم الله. فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله مما فعله عليّ. ولو نظروا إلى أن محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده، لما قالوا إنه أمير الكافرين. وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في الآيات المذكورة، لفهموا بواطنها، وإن الرب منزه عن سمات المخلوقين. وعلى الجملة فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم، فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما. وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه.
8- قاعدة في أن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء
قال الشاطبيّ: كون الظاهر هو المفهوم العربيّ مجردا، لا إشكال فيه. لأن(1/45)
المؤالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربيّ مبين. وقال سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ثم رد الحكاية عليهم بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] . وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل. لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم. والبشر، هنا، حبر. وكان نصرانيا. فأسلم. أو سلمان، وقد كان فارسيا فأسلم. أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربيّ باتفاق منهم. وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44] . وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك. فدل على أنه عندهم عربيّ. وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربيّ فقط، وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه. فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربيّ. فإذا كل معنى مستنبط من القرآن، غير جار على اللسان العربيّ، فليس من علوم القرآن في شيء. لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به. ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل.
ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمّى في القرآن. كبيان ابن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ.. [آل عمران: 138] الآية وهو من الترهات بمكان مكين، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد. ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم، ولكنه كشف عوار نفسه من كل وجه، عافانا الله، وحفظ علينا العقل والدين بمنه.
وإذا كان (بيان) في الآية علما له فأي معنى لقوله: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ كما يقال هذا زيد للناس. ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً [الطور: 44] الآية. فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد كما تقول: وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم.
تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وبيان بن سمعان: هذا هو الذي تنسب إليه البيانية من الفرق. وهو، فيما زعم ابن قتيبة، أول من قال بخلق القرآن. والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية.
وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعيّ المسمى بالمهديّ حين ملك أفريقية واستولى عليها، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره. وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح، وكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكر كما(1/46)
الله في كتابه. فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى، فبدل قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس.
ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا لأن المتسمّيين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مائتين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير المعنى إذا مت يا محمد، ثم خلق هذان، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ.. الآية، فأيّ تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعيّ. قاتله الله.
ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل من تسع نسوة حرائر. مستدلا على ذلك بقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ..
[النساء: 3] ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع.
ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: 3] فلم يحرم شيئا غير لحمه. ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس.
ومنهم من فسر الكرسيّ في قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] ، بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو:
(ولا بكرسئ علم الله مخلوق) كأنه عندهم ولا بعلم علمه. وبكرسئ مهموز.
والكرسيّ غير مهموز.
ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] .
إنه تخم من أكل الشجرة. من قول العرب غوي الفصيل يغوى غوى إذا بشم من شرب اللبن. وهو فاسد لأن غوي الفصيل فعل، والذي في القرآن على وزن فعل.
ومنهم من قال في قوله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف: 179] أي ألقينا فيها. كأنه عندهم من قول الناس: ذرته الريح. وذرأ مهموز، وذرا غير مهموز.
وفي قوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] ، أي فقيرا إلى رحمته. من الخلة بفتح الخاء. محتجين على ذلك بقول زهير (وإن أتاه خليل يوم مسألة) قال ابن قتيبة: أيّ فضيلة لإبراهيم في هذا القول؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله؟ وهل «إبراهيم» في لفظ «خليل الله» إلا كما قيل «موسى كليم الله» ،(1/47)
و «عيسى روح الله» . ويشهد له
الحديث «1» : «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، إن صاحبكم خليل الله» «2» .
وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي. وقد أدّاهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربيّ، ولا لمعناه برهان، كما رأيت.
وإنما أكثرت من الأمثلة، وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية والمعنى على ما علمت، لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها، أو قريب منها.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها، ولكن يشترط فيه شرطان: أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهد نصّا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض.
فأما الأول: فظاهر من قاعدة كون القرآن عربيّا. فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق. ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن، ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه. وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه، ولا مرجح يدل على أحدهما. فإثبات أحدهما تحكّم وتقوّل على القرآن ظاهر. وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم. والأدلة المذكورة، في أن القرآن عربيّ، جارية هنا.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر. ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقينّ في المسجد باب إلا سدّ، إلا باب أبي بكر»
. (2)
أخرجه الترمذي في المناقب باب حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه. ما خلا أبا بكر. فإن له عندنا يدا يكافئه الله به يوم القيامة. وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن صاحبكم خليل الله» .(1/48)
وأما الثاني: فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر، أو كان له معارض، صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن. والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء. وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم إنه الباطن، لأنهما موفران فيه، بخلاف ما فسر به الباطنية، فإنه ليس من علم الباطن، كما أنه ليس من علم الظاهر، فقد قالوا في قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] أنه الإمام ورث النبيّ علمه، وقالوا في الجنابة: إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك. ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام. والصيام الإمساك عن كشف السر.
والكعبة النبيّ. والباب عليّ. والصفا هو النبيّ. والمروة عليّ. والتلبية إجابة الداعي.
والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه السلام إلى تمام الأئمة السبعة.
والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام. ونار إبراهيم هو غضب نمروذ لا النار الحقيقية. وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه. وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة. وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم. والبحر هو العالم. وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم. والمنّ علم نزل من السماء.
والسلوى داع من الدعاة. والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزاماته التي تسلطت عليهم. وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين. والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان. والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة. إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال، وضحكة السامع. نعوذ بالله من الخذلان.
قال القتبي: وكان بعض أهل الأدب يقول: ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر. فإنه قال ذات يوم: ما سمعت بأكذب من بني تميم. زعموا أن قول القائل:
بيت، زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
أنه في رجل منهم. قيل له: فما تقول أنت فيه. قال: البيت بيت الله، وزرارة الحج. قيل: فمجاشع؟ قال: زمزم جشعت بالماء. قيل: فأبو الفوارس؟ قال: أبو قبيس. قيل: فنهشل؟ قال: أشده. وصمت ساعة ثم قال: نعم نهشل مصباح الكعبة لأنه طويل أسود فذلك نهشل. انتهى ما حكاه.(1/49)
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل أو من قبيل الباطن الصحيح. وهي منسوبة لأناس من أهل العلم، وربما نسب منها إلى السلف الصالح. فمن ذلك فواتح السور نحو: ألم، والمص، وحم، ونحوها. فسرت بأشياء. منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ومنها ما ليس كذلك. فينقلون عن ابن عباس أن «ألم» أن ألف الله. ولام جبريل. وميم محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا، إن صح في النقل، فمشكل. لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا.
وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظيّ أو الحاليّ كما قال: (قلت لها قفي فقالت قاف) وقال: (قالوا جميعا كلهم بلى فا) وقال: (لا أريد الشهر إلا أن تا) والقول في «الم» ليس هكذا. وأيضا فلا دليل من خارج يدل عليه. إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله، لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه. ولما لم يثبت شيء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات. فإن ثبت له دليل يدلّ عليه، صير إليه. وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية. وهو أقرب من الأول. كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله، وهو أظهر الأقوال فهي من قبيل المشابهات. وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها.
تنبيها على مدة هذه الملة. وفي السير ما يدل على هذا المعنى. وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها. وربما لا يوجد مثل هذا، لها، البتة، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير. فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم. وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم. ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور، حججا في دعا وادعوها على القرآن. وربما نسبوا شيئا من ذلك إلى عليّ بن أبي طالب، وزعموا أنها أصل العلوم، ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة. وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك. وهو، إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة، فما الدليل على(1/50)
أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه، وضرب بعضها ببعض، ونسبتها إلى الطبائع الأربع، وإلى أنها الفاعلة في الوجود، وأنها مجمل كل مفصل، وعنصر كل موجود. ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعا ومحالة على الكشف والاطلاع. ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال، كما أنه لا يعد دليلا في غيرها، كما سيأتي بحول الله.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه. فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [البقرة: 22] أي أضدادا. قال: وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء، الطواعة إلى حظوظها ومنهيها بغير هدى من الله. وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد، حتى لو فصل لكن المعنى: فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا.
وهذا مشكل الظاهر جدا، إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانوا يعبدون، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا. ولكن له وجه جار على الصحة، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية، ولكن أتى بما هو ندّ في الاعتبار الشرعيّ الذي شهد له القرآن من جهتين:
إحداهما: أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار، فيجريه له فيما لم تنزل فيه، لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه، لأن حقيقة الندّ أنه المضاد لندّه، الجاري على مناقضته. والنفس الأمارة هذا شأنها، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها، لاهية أو صادّة عن مراعاة حقوق خالقها. وهذا هو الذي يعني به الندّ في نده. لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه. وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان. فما حرموا عليهم حرموه، وما أباحوا لهم حللوه، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا شأن المتبع لهوى نفسه.
والثانية: أن الآية: وإن نزلت في أهل الأصنام، فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم. ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل(1/51)
الإيمان: أين تذهب بكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا [الأحقاف: 20] ؟ وكان هو يعتبر نفسه بها. وإنما أنزلت في الكفار لقوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ الآية، ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص. فإذا كان كذلك، صح النزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً والله أعلم.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: 35] قال: لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره، أي لا تهتم بشيء هو غيري. قال: فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه. قال: وكذلك كل من ادعى ما ليس له، وساكن قلبه، ناظرا إلى هوى نفسه، لحقه الترك من الله، مع ما جبلت عليه نفسه فيه، إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره، وينصره على عدوه وعليها.
قال: وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة، لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى والشهوة والعلم والعقل بسابق القدر، إلى آخر ما تكلم به.
وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل، لا عن سكون الهمة لغير الله، وإن كان ذلك منهيّا عنه أيضا، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره، ولم يرد النهي عن الأول تصريحا، فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به.
وأيضا فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا. إذ لا مناسبة فيه تظهر، ولأنه لم يقل به أحد، وإنما النهي عن معنى القرب. وهو إما التناول والأكل، وإما غيره، وهو شيء ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة، فإنه الأصل في تحصيل الأكل. ولا شك في أن السكون لغير الطلب نفع أو دفع، منهيّ عنه. فهذا التفسير له وجه ظاهر، فكأنه يقول: لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله، إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده. فلما لم يفعل، وسكن إلى أمر في الشجرة غرّه به الشيطان، وذلك الخلد المدعى، أضاف(1/52)
الله إليه لفظ العصيان، ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم. ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... [آل عمران: 96] الآية- باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم، يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد، واقتدى بهدايته. وهذا التفسير يحتاج إلى بيان. فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب. ولا فيه من جهتها وضع مجازيّ مناسب، ولا يلائمه مساق بحال، فكيف هذا؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن. فزال الإشكال إذا. وبقي النظر في هذه الدعوى. ولا بد، إن شاء الله، من بيانها.
ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:
51] قال: رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلا العبد معها للمعصية.
وهو أيضا من قبيل ما قبله. وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً.
وقال في قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى ... [النساء: 36] الآية- أما باطنها فهو القلب، والجار الجنب النفس الطبيعي، والصاحب بالجنب العقل المقتدي بعمل الشرع، وابن السبيل الجوارح المطيعة لله عز وجل، وهو من المواضع المشكلة في كلامه.
ولغيره مثل ذلك أيضا. وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء. وغير ذلك لا يعرفه العرب. لا من آمن منهم ولا من كفر. والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفا لنقل، لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم. ولا، أيضا، ثمّ دليل يدل على صحة التفسير لا من مساق الآية، فإنه ينافيه، ولا من خارج، إذ لا دليل عليه كذلك. بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن، من كلام الباطنية ومن أشبههم.
وقال في قوله: رْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
[النمل: 44] الصرح نفس الطبع، والممرد الهوى. إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى بالترك من الله تعالى العصمة لعبده.
وفي قوله: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52] أي قلوبهم عند(1/53)
إقامتهم على ما نهوا عنه، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون، والبيوت القلوب، فمنها عامرة بالذكر، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر.
وفي قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم: 50] قال: حياة القلوب بالذكر.
وقال في قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الروم: 41] الآية- مثل الله القلب بالبحر، والجوارح بالبر. ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات. هذا باطنه.
وقد حمل بعضهم قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] على أن المساجد القلوب، تمنع بالمعاصي من ذكر الله.
ونقل في قوله تعالى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة، فذكر عن الشبليّ أن معنى: «اخلع نعليك» اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية.
وعن عطاء «اخلع نعليك» عن الكون، فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب.
وقال: النعل النفس، والواد المقدس دين المرء، أي حان وقت خلوك من نفسك، والقيام معنا بدينك، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف.
وهذا كله، إن صح نقله، خارج عما تفهمه العرب، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه.
ولقد قال الصديق: «أيّ سماء تظلني، وأيّ أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم» وفي الخبر: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ. وما أشبه ذلك من التحذيرات.
وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء، وربما ألمّ الغزاليّ بشيء منه في الإحياء وغيره. وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم. فإن الناس، في أمثال هذه الأشياء، بين قائلين: منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه، فربما كذب به أو أشكل عليه. ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى(1/54)
أنه تقوّل وبهتان، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم. وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف. ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلّم يتبين به ما جاء من هذا القبيل، وهي:
المسألة العاشرة
فنقول: إن الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر، إذا صحت على كمال شروطها، فهي على ضربين:
أحدهما: ما يكون أصل انفجاره من القرآن، ويتبعه سائر الموجودات، فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف، فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل حسبما بينه أهل التحقق بالسلوك.
والثاني: يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كلّيها، ويتبعه الاعتبار في القرآن.
فإن كان الأول، فذلك الاعتبار صحيح، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال، لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن، وهو الهداية التامة، على ما يليق بكل واحد من المكلفين، وبحسب التكاليف وأحوالها، لا بإطلاق. وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم، ولأن الاعتبار القرآنيّ قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد، فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده. بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه. ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به، لجريانه على مجاريه.
والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه، فإنه كله جار على ما تقضي به العربية، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل.
وإن كان الثاني فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم، وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع، لأنه بخلاف الأول، فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن، فنقول: إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآنيّ، وهو الوجوديّ. ويصح تنزيله على معاني القرآن، لأنه وجوديّ أيضا، فهو مشترك من تلك الجهة، غير خاص فلا(1/55)
يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي، وهو أمر خاص، وعلم منفرد بنفسه، لا يختص بهذا الموضع، فلذلك يوقف على محله. فكون القلب جارا ذا قربى، والجار الجنب هو النفس الطبيعيّ، إلى سائر ما ذكر، يصح تنزيله اعتباريا مطلقا. فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط، صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرّر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ، وأيضا، فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق، بل أجراه مجراه، وسكت عن كونه هو المراد. وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآنيّ والوجوديّ.
وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو، بعد، في السلوك سائر على الطريق، لم يتحقق بمطلوبه.
ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم. وللغزالي في مشكاة الأنوار، وفي كتاب الشكر من الإحياء، وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره، ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة. فتأملها هناك والله الموفق.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وللسنة في هذا النمط مدخل. فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد، وقابل أيضا للاعتبار الوجوديّ، فقد فرضوا نحوه في
قوله عليه السلام «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» «1»
إلى غير ذلك من الأحاديث. ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب.
9- قاعدة في أن الشريعة أمية، وأنه لا بد في فهمها من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم.
قال الشاطبيّ في الموافقات: هذه الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح. ويدل على ذلك أمور.
أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] .
__________
(1)
أخرجه البخاري، في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء، عن أبي طلحة.
ونصه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل»
. [.....](1/56)
وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] . وفي
الحديث: «بعثت إلى أمة أمية» «1»
، لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم، لم يتعلم كتابا ولا غيره. فهو على أصل خلقته التي ولد عليها، وفي
الحديث: «نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. الشهر هكذا وهكذا وهكذا» «2» .
وقد فسر معنى الأمية في الحديث: أي ليس لنا علم بالحساب، ولا الكتاب، ونحوه قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] . وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنّة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية. لأن أهلها كذلك.
والثاني: أن الشريعة التي بعث بها النبي الأميّ إلى العرب خصوصا، وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية، أو لا. فإن كانت كذلك، فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا. فلم تكن لتنتزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها. فلا بد أن تكون على ما يعهدون. والعرب لم تعهد إلا ما وصفه الله به من الأمية، فالشريعة إذا أمية.
والثالث: أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا. إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف. فلم تقم الحجة عليهم به. ولذلك قال سبحانه: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ.. [فصلت: 44] فجعل لهم الحجة على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] . ردّ الله عليهم بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
__________
(1)
أخرجه الترمذي، في أبواب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف. عن أبيّ بن كعب قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف
. (2)
صحيح البخاريّ في الصوم باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لا نكتب ولا نحسب. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.(1/57)
[النحل: 103] . لكنهم أذعنوا لظهور الحجة. فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مما ثلته. وأدلة هذا المعنى كثيرة.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن شيم، فصحّحت الشريعة منها ما هو صحيح، وزادت عليه. وأبطلت ما هو باطل. وبينت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه، فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وتعرّف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى. وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة. كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] . وقوله: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16] . وقوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ.. [يس: 39- 40] الآية. وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: 5] . وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً.. [الإسراء: 12] الآية. وقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] . وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ... [البقرة: 189] وما أشبه ذلك.
ومنها علوم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، فبيّن الشرع حقها من باطلها، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ... [الرعد: 12- 13] الآية.
قال: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 68- 69] . وقال: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] .
وقال: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] .
خرّج الترمذيّ «1» : قال
__________
(1)
أخرجه الترمذي في التفسير سورة الواقعة حدثنا أحمد بن منيع عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، قال، شكركم. تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا ونجم كذا وكذا» .(1/58)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، قال: شكركم. تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا.
وفي الحديث «1» : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ...
الحديث في الأنواء.
وفي الموطأ مما انفرد به: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة «2» .
وقال عمر بن الخطاب للعباس، وهو على المنبر، والناس تحته: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال له العباس: بقي من نوئها كذا وكذا.
فمثل هذا مبيّن للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار. قال تعالى:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ... [الحجر: 22] الآية. وقال: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فاطر: 9] . إلى كثير من هذا.
ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية. وفي القرآن من ذلك ما هو كثير.
وكذلك في السنّة. ولكن القرآن احتفل في ذلك. وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون. قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: 44] الآية. وقال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. [هود: 49] وفي الحديث «3» قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت. وغير ذلك مما جرى.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في الأذان باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم. عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت في الليلة. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم. قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب. وأما من قال:
بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب
. (2) الموطأ في الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم
عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا أنشأت بحريّة، ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة.
(3) أخرجه البخاري، في الأنبياء، باب يزفون، النسلان في المشي، عن ابن عباس في حديث طويل جدا ... قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مطلع تركتي. فجاء فوافق إسماعيل وراء زمزم يصلح نبلا له. فقال: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا. قال أطع ربك. قال: إنه أمرني أن تعينني عليه. قال إذن أفعل، أو كما قال. قال: فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ على نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.(1/59)
ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه: علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه. كالكهانة والزجر وخط الرمل. وأقرت الفأل. لا من جهة تطلب الغيب. فإن الكهانة والزجر كذلك. وأكثر هذه الأمور تخرّص على علم الغيب من غير دليل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام. وأبقى للناس من ذلك، بعد موته عليه السلام، جزءا من النبوءة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة.
ومنها علم الطب: فقد كان في العرب منه شيء، لا على ما عند الأوائل، بل مأخوذ من تجاريب الأميين، غير مبنيّ على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون.
وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة، ولكن على وجه جامع شاف قليل، يطلع منه على كثير. فقال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ... [الأعراف: 31] . وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء، وأبطل من ذلك ما هو باطل:
كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا.
ومنها التفنن في علم فنون البلاغة، والخوض في وجوه الفصاحة، والتصرف في أساليب الكلام، وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم. قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] .
ومنها ضرب الأمثال: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] إلا ضربا واحدا، وهو الشعر، فإن الله نفاه وبرّأ الشريعة منه. قال تعالى في حكايته عن الكفار: وقالوا أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 36- 37] ، أي لم يأت بشعر، فإنه ليس بحق، ولذلك قال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ... [يس: 69] الآية. وبيّن معنى ذلك في قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 224- 226] فظهر أن الشعر ليس مبنيّا على أصل، ولكنه هيمان على غير تحصيل، وقول لا يصدقه فعل، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى. فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية. وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق، وما ينضاف إليها، فهو أول ما خوطبوا به، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم، وأجرى على ما يتمدح به عندهم، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ(1/60)
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى..
[النحل: 90] إلى آخرها. وقوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: 151] إلى انقضاء تلك الخصال. وقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الأعراف: 32] وقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 33] إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى، لكن أدرج فيها ما هو أولى، من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة، وليس كذلك. أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] ثم بين ما فيها من المفاسد، خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء، والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيها صلاحا. لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان، وتبعث البخيل على البذل، وتنشط الكسالى. والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين، والعطف على المحتاجين، وقد قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] .
والشريعة إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق، ولهذا
قال عليه السلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «1»
. إلا أن مكارم الأخلاق على ضربين:
أحدهما: ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه. تمم لهم ما بقي، وهو:
الضرب الثاني: وكان منه ما لا يفعل معناه من أول وهلة فأخّر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق. وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة. ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام. كما قالوا في القراض، وتقدير الدية وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، وتوريث الولد، للذكر مثل حظ الأنثيين، والقسامة، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ثم نقول: لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونبات،
__________
(1)
عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم حسن الأخلاق
.(1/61)
وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام، أبيهم، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هي تلك بعينها كقوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا [الحج: 78] وقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا.. [آل عمران: 67] الآية- غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا.
فجاء تقويمها من جهة محمد صلى الله عليه وسلم. وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيويّ. كقوله: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ....
[الواقعة: 27- 30] إلى آخر الآيات- وبيّن من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم. كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف، دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم. بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة. وقال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] فالقرآن كله حكمة، وقد كانوا عارفين بالحكمة، وكان فيهم حكماء، فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله. وكان فيهم أهل وعظ وتذكير، كقس بن ساعدة وغيره. ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل. ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء. إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة. وسرّ في جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر. وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أميّة لم تخرج عما ألفته العرب.
ثم قال الشاطبيّ: «المسألة الرابعة»
ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبني عليه قواعد: منها- أن كثيرا من الناس تجاوزوا، على الدعوى في القرآن، الحدّ.
فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا، إذا عرضناه على ما تقدم، لم يصح.
إلى هذا، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف(1/62)
بالقرآن وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدّعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن. فدل على أنه غير موجود عندهم. وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا. نعم! تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره.
أمّا أن فيه ما ليس من ذلك فلا، وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ونحو ذلك، وبفواتح السور، وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها. وربما حكي من ذلك عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء.
فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد. أو المراد بالكتاب في قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير. أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدّعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوه. وما ينقل عن عليّ أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار، في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة. فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومنها- أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم. فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه(1/63)
في فهم الشريعة. وإن لم يكن ثمّ عرف، فلا يصح أن يجري في فهمها ما لا تعرفه.
وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب. مثال ذلك: أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها أيضا، فليس أحد الأمرين عندها بملتزم، بل قد تبنى على أحدهما مرّة، وعلى الآخر أخرى، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته. والدليل على ذلك أشياء:
أحدها: خروجها في كثير من كلامها على أحكام القوانين المطّردة، والضوابط المستمرة، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها، وإن لم يكن بها حاجة، وتركها لما هو أولى في مراميها. ولا يعد ذلك قليلا في كلامها، ولا ضعيفا، بل هو كثير قويّ، وإن كان غيره أكثر منه.
والثاني: أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يرادفها أو يقاربها، ولا يعدّ ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة. والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف. وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير. وقد استمر أهل القراآت على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم، مما وافق المصحف، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال، وإن كانت بين القراءتين ما يعده الناظر ببادي الرأي اختلافا في المعنى، لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة، لا تفاوت فيه، بحسب مقصود الخطاب: كمالك وملك، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم. لنبوئنهم من الجنة غرفا لنبوئنهم من الجنة غرفا. إلى كثير من هذا، لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب، وهذا كان عادة العرب.
ألا ترى ما حكى ابن جنّيّ عن عيسى بن عمر، وحكى عن غيره أيضا، قال: سمعت ذا الرمة ينشد:
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
فقلت: أنشدتني: من بائس، فقال: يابس وبائس واحد. فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس، لمّا كان موضع البيت قائما على الوجهين، وصوابا على كلتا الطريقتين. وقد قال في رواية أبي العباس الأحول: البؤس واليبس واحد. يعني بحسب قصد الكلام، لا بحسب تفسير اللغة. وعن أحمد بن يحيى، قال: أنشدني ابن الأعرابيّ:
وموضع زير لا أريد مبيته ... كأني به من شدة الروع آنس
فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا، أنشدتنا «وموضع ضيق» فقال: سبحا(1/64)
الله! تصحبنا منذ كذا وكذا، ولا تعلم أن الزير والضيق واحد. وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة، وبألفاظ متباينة، يعلم من مجموعها أنهم ما كانوا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا. إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواها من المواضع محمولا عليها، وإنما معهودها الغالب ما تقدم.
والثالث: أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ، وإن كانت تعتبره على الجملة، كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ولم يفرقوا بين ما له لفظ، وما ليس له لفظ، فقبح «قمت وزيد» ، كما قبح «قام وزيد» وجمعوا في الردف بين عمود ويعود، من غير استكراه. وواو عمود أقوى في المد. وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التي تقتضيها الألفاظ في قياسها النظريّ، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض، وما ذاك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها.
والرابع: أن الممدوح من كلام العرب، عند أرباب العربية، ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع. ولذلك، إذا اشتغل الشاعر العربيّ بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه.
فقد كان الأصمعيّ يعيب الحطيئة. واعتذر عن ذلك بأن قال: وجدت شعره كله جيدا، فدلني على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع. إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه، جيده ورديه. وما قاله هو الباب المنتهج، والطريق المهيع عند أهل اللسان. وعلى الجملة فالأدلة على هذا المعنى كثيرة، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم. وإذا كان كذلك، فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدث.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومنها- أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم، ما يكون عاما لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه، بحسب الألفاظ والمعاني. فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه، ليسوا على وزان واحد ولا متقارب. إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهوريّة وما والاها. وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا. ولم يكونوا(1/65)
بحيث يتعمقون في كل مهم، ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم.
اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصّا، لأناس خاصة. فذاك كالكنايات الغامضة، والرموز البعيدة التي تخفى عن الجمهور، ولا تخفى عمن قصد بها. وإلا كان خارجا عن حكم معهودها. فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف، واشتركت فيه اللغات، حتى كانت قبائل العرب تفهمه. وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط. لأن الضعيف ليس كالقويّ، ولا الصغير كالكبير، ولا الأنثى كالذكر، بل كل له حد ينتهي إليه في العبارة الجارية. فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه، وألزموه ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة، ونحو ذلك، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون، ولكلفهم بغير قيام حجة، ولا إتيان ببرهان، ولا وعظ ولا تذكير، ولطوّقهم فهم ما لا يفهم، وعلم ما لا يعلم، فلا حجر عليه في ذلك، فإن حجة الملك قائمة قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا، وغدوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم، ويقوى به ضعيفهم، وتنتهض به عزائمهم، من الوعد تارة، والوعيد أخرى، والموعظة الحسنة أخرى، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية، والقرون الخالية، إلى غير ذلك مما في معناه. حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين، بل هم مشتركون في مقتضاه، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منّة على تحمله. وزادهم تخفيفا دون الأولين، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
وقد خرّج الترمذيّ، وصححه عن أبيّ بن كعب، قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: يا جبريل! إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد! إن القرآن أنزل على سبعة أحرف
. فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوريّ الذي يسع الأميين، كما يسع غيرهم.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومنها- أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من(1/66)
أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد. والمعنى هو المقصود. ولا أيضا كل المعاني. فإن المعنى الإفراديّ قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبيّ مفهوما دونه. كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس، اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيليّ المخرج على صحيح البخاريّ عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ «فاكهة وأبّا» «1» قال: ما الأبّ؟ ثم قال: ما كلفنا هذا. أو قال: ما أمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: «فاكهة وأبّا» ما الأبّ؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور «2» تأديبه لضبيع.
حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما. وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبيّ معلوم على الجملة، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفيّ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره، مما هو أهم منه، تكلف.
ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبّه عليه قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.. [البقرة: 177] إلى آخر الآية. فلو كان فهم اللفظ الإفراديّ يتوقف عليه فهم التركيبيّ لم يكن تكلفا، بل هو مضطر إليه. كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] فإنه سأل عنه على المنبر. فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص. ثم أنشده:
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا ... كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال عمر: أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم. فإن فيه تفسير كتابكم.
__________
(1) أورد ابن كثير في تفسيره ما يأتي: وقال أبو عبيد أيضا: عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وفاكهة وأبّا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال:
إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي ظهر قميصه أربع رقاع. فقرأ (وفاكهة وأبّا) فقال: فما الأبّ؟ ثم قال: هو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟
(2) أخرج الدارميّ في مسنده، في المقدمة، باب كراهية الفتيا، ما يأتي: أخبرنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر، وقد أعدّ له عراجين النخل. فقال: من أنت؟ قال عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر. فجعل له ضربا حتى دمّى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين! حسبك. قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.(1/67)
فليس بين الخبرين تعارض. لأن هذا توقف فهم معنى الآية عليه، بخلاف الأول. فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب، لأنه المقصود والمراد. وعليه ينبني الخطاب ابتداء. وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب، فيكون عمله في غير معمل، ومشيه على غير طريق. والله الواقي برحمته.
فصل في أن بيان الصحابة حجة إذا أجمعوا
قال الشاطبيّ في الموافقات: بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته. لأنه لذلك بعث. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، ولا خلاف فيه. وأما بيان الصحابة، فإن أجمعوا على ما بينوه، فلا إشكال في صحته أيضا. كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبيّن لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6] ، وإن لم يجمعوا عليه، فهل يكون بيانهم حجة أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:
أحدهما: معرفتهم باللسان العربيّ، فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم، فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان، صح اعتماده من هذه الجهة.
والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك. والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه صواب.
هذا، إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة. فإن خالف بعضهم، فالمسألة اجتهادية. مثاله قوله عليه السلام: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر «1» ،
__________
(1)
أخرجه أبي داود، في الصوم، باب ما يستحب من تعجيل الفطر حديث رقم 353، ونصه: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرونه» .(1/68)
فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة، ويحتمل أن لا. فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا. ثم يفطران بعد الصلاة، بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة، بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء آخر، داخل في التعمق المنهيّ عنه، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار فندب المسلمون إلى التعجيل. وكذلك
قال عليه السلام: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه «1»
، احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر، وهو أن يرى بعد غروب الشمس.
فبيّن عثمان أن ذلك غير لازم، فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس.
وتأمل. فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة. مبينا بها السنن، وما يعمل به منها، وما لا يعمل به. وما يقيّد به مطلقاتها. وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره.
ومما بيّن كلامهم اللغة أيضا. كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى:
فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] . وفي معنى الأخوة أن السنة قضت أن الأخوة اثنان فصاعدا. كما تبين بكلامهم معنى الكتاب والسنة.
لا يقال: إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابيّ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف. لأنا نقول: نعم. هو تقليد، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه، إلّا لهم، لما تقدم من أنهم عرب، وفرق بين من هو عربيّ الأصل والنحلة وبين من تعرّب: (غلب التطبع شيمة المطبوع) وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم. ونقل قرائن الأحوال على ما هو عليه كالمتعذر، فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم. فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير، بحيث لو فرضنا عدمه، لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه، انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان، لما ذكر، ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سننهم. كما جاء في
قوله
__________
(1)
أخرجه البخاري، في الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال.. إلخ، ونصه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غم عليكم فاقدروا له»
.(1/69)
عليه السلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ «1»
، وغير ذلك من الأحاديث فإنها عاضدة بهذا المعنى في الجملة. أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين فهم ومن سواهم فيه شرع، سواء. كمسألة العول والوضوء من النوم، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا. فدعوا الربا والريبة. أو كما قال:
فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع، لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين. وفيه خلاف بين العلماء أيضا. فإن منهم من يجعل قول الصحابيّ ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر، كالأحاديث والاجتهادات النبوية.
وهو مذكور في كتب الأصول. فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا.
فصل في أن كل حكاية في القرآن لم يقع لها ردّ فهي صحيحة
قال الشاطبيّ: كل حكاية وقعت في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها، وهو الأكثر، ردّ لها أو لا، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكيّ وكذبه.
وإن لم يقع معها رد، فذلك دليل على صحة المحكيّ وصدقه.
أما الأول فظاهر ولا يحتاج إلى برهان. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] فأعقب بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى [الأنعام: 91] الآية. وقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً.. [الأنعام: 136] الآية، فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله:
بِزَعْمِهِمْ وبقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] وقالوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] إلى تمامه. وردّ بقوله: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 138]
__________
(1)
أخرجه أبو داود، في السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم 4607. ونصه: عن العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا.
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين. تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .(1/70)
ثم قال: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ ...
[الأنعام: 139] الآية، فنبه على فساده بقوله: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: 139] ، زيادة على ذلك. وقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان: 4] ، فرد عليهم بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً [الفرقان: 4] ، ثم قال: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ... [الفرقان: 5- 6] الآية. فرد بقوله: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ... [الفرقان: 5- 6] ، الآية. ثم قال: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان: 8] ، ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا [الفرقان: 9] ، وقال تعالى: وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إلى قوله: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ثم رد عليهم بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [ص: 4- 8] ، إلى آخر ما هنالك. وقال: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة: 116] ، ثم ردّ عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] ، وقوله: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 68] وقوله: سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ... [يونس: 68] الآية، وقوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ [يونس: 68] ، إلى آخره وأشباه ذلك.
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.
وأما الثاني- فظاهر أيضا. ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها، فإن القرآن سمي فرقانا وهدى وبرهانا وبيانا وتبيانا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق، على الجملة والتفصيل، والإطلاق والعموم. وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق، ثم لا ينبّه عليه.
وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حق يجعل عمدة، عند طائفة، في شريعتنا. ويمنعه قوم، لا من جهة قدح فيه، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك، فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا. ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط، ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول، كقوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [البقرة: 75] الآية، وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ ... [المائدة: 41] الآية، وكذلك قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: 46] ،(1/71)
فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقّا. كحكايته عن الأنبياء والأولياء. ومنه قصة ذي القرنين، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة أصحاب الكهف. وأشباه ذلك.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ولا طّراد هذا الأصل اعتمده النظار. فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ... [المدثر: 43- 44] الآية، إذ لو كان قولهم باطلا لردّ عند حكايته.
واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وإنهم خمسة سادسهم كلبهم، أعقب ذلك بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22] ، أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن.
ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا، ولما حكى قولهم سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال، بل قال: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف: 22] ، دلّ المساق على صحته دون القولين الأولين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم. ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] ، فقيل له: أكان شاكّا حين سأل ربه أن يريه آية؟ فقال: لا، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان. ألا تراه قال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [البقرة: 260] ، فلو علم منه شكا لأظهر ذلك، فصح أن الطمانينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان. بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا [الحجرات: 14] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] .
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن، عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل. فقد قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] ، إلى آخرها، فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل، فظاهرها حق وباطنها كذب، من حيث كان إخبارا عن المعتقد، وهو غير مطابق، فقال تعالى:(1/72)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] تصحيحا لظاهر القول. وقال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إبطالا لما قصدوا فيه. وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] الآية، وسبب نزولها ما
خرجه الترمذيّ وصححه عن ابن عباس، قال: مر يهوديّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا يا يهودي! فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه (وأشار الراوي بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام) فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وفي رواية أخرى: جاء يهودي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وفي رواية فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا
. والحديث الأول كأنه مفسر لهذا، وبمعناه يتبين معنى قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فإن الآية بينت أن كلام اليهوديّ حق في الجملة، وذلك قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك- والله أعلم- لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه، فقال: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] أي يسمع الحق والباطل، فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق، فقال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] الآية، ولما قصدوا الأذيّة بذلك الكلام قال تعالى:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] . وقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: 47] فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة، قصدهم فيها الاستهزاء، فرد عليهم بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس: 47] لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر. وجواب «أنفقوا» أن يقال: «نعم أو لا» وهو الامتثال أو العصيان. فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض، انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا. إذ حاصلهم أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة، لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق، فكأنهم قالوا: كيف يشاء الطلب منا، ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم، وهذا عين الضلال في نفس الحجة. وقال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78] إلى قوله: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً(1/73)
وَعِلْماً
فقوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام- في ذلك، الحكم-، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع، قال: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 79] وهذا من البيان الخفيّ فيما نحن فيه.
قال الحسن: والله! لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاة قد هلكوا. فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده. والنمط هنا يتسع، ويكفي منه ما ذكر، وبالله التوفيق.
ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص، وإنما هي عبرة للناس. كما قال تعالى في سورة هود، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ...
[هود: 120] إلخ، ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى فيذكر منها الطمّ والرمّ، ويؤتى فيها بالجرّة وأذن الجرة، كما في بعض الكتب، التي تسميها الملل الأخرى مقدسة. وللعبرة وجوه كثيرة. وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشريّ، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية. وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 13] . وقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ [غافر: 85] . يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه، والغرور بما أوتوا، ونحو ذلك.
فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم، وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم.
والآية الثانية: جاءت في سياق محاجّة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء. وبعد الأمر في السير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القوية ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعد ما دعوا إلى الحق والتهذيب فلم يستجيبوا، لما صرفهم من الغرور بما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عند ما نزل بهم بأس الله وحلّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى. وليس المراد، بنفي كون قصص القرآن تاريخا، أنّ التاريخ شيء باطل ضارّ ينزه القرآن عنه. كلا. إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ.
فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعيّ م(1/74)
أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك، يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي مكن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معا.
10- قاعدة الترغيب والترهيب في التنزيل الكريم
. قال الشاطبيّ: إذا ورد في القرآن الترغيب، قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه. وبالعكس. وكذلك الترجية مع التخويف وما يرجع إلى هذا المعنى، مثله.
ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس. لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية. وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا. فهو راجع إلى الترجية والتخويف.
ويدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر. فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه وقد وقع فيه اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6] إلى آخرها. فجيء بذكر الفريقين. ثم بدئت سورة البقرة بذكرهما أيضا. فقيل: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] ثم ذكر بأثرهم المنافقون. وهم صنف من الكفار. فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار، وبعده بالترجية. فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: 24] إلى قوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 26] الآية. ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا. ولما ذكّر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم، قيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: 62] إلى قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ. ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله:
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102] . وهذا تخويف. ثم قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ [البقرة: 103] الآية وهو ترجية. ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ثم قال: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] الآية. ثم ذكر من شأنهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [البقرة: 121] . ثم ذكر قصة إبراهيم علية السلام وبنيه. وذكر في أثنائها التخويف والترجية. وختمها بمثل ذلك، ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران، فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود، والرجوع بعد إلى ما تقرر. وقال تعالى في سورة(1/75)
الأنعام، وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلى قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] .
وذكر البراهين التامة ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه، إلى أن قال: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام: 12] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف. وذلك يعطي التخويف تصريحا، والترجية ضمنا. ثم قال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: 15] فهذا تخويف، وقال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ [الأنعام: 16] الآية. وهذا ترجية، وكذا قوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام: 17] الآية. ثم مضى في ذكر التخويف حتى قال: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام: 32] . ثم قال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36] ونظيره قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 39] الآية. ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ [الأنعام: 48] الآية.
واجر في النظر على هذا الترتيب يلح لك وجه الأصل المنبه عليه. ولولا الإطالة لبسط في ذلك كثير.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال. فيرد التخويف ويتسع مجاله. لكنه لا يخلو من الترجية. كما في سورة الأنعام. فإنها جاءت مقررة للخلق ومنكرة على من كفر بالله واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه، وصدّ عن سبيله، وأنكر ما لا ينكر، ولدّ فيه وخاصم. وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف من إطالة التأنيب والتعنيف. فكثرت مقدماته ولواحقه. ولم يخل، مع ذلك، من طرف الترجية. لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق. وقد تقدم الدعاء. وإنما هو مزيد تكرار، إعذارا وإنذارا. ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية.
لأن درء المفاسد آكد. وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها. وذلك في مواطن القنوط ومظنته. كما في قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] الآية. فإن ناسا من أهل الشرك(1/76)
كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا. فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا: أنّ لما عملنا كفارة. فنزلت. فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط. فجيء فيه بالترجية غالبة. ومثل ذلك الآية الأخرى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] . وانظر في سببها في الترمذيّ والنسائي وغيرهما.
ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب، كان جانب التخويف أغلب. وذلك في مظانه الخاصة، لا على الإطلاق. فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا. فإن قيل: هذا لا يطرد. فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر، فيأتي التخويف من غير ترجية، وبالعكس. ألا ترى قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ، إلى آخرها، فإنها كلها تخويف. وقوله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] ، إلى آخر السورة. وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1] ، إلى آخر السورة.
ومن الآيات قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب: 57- 58] . وفي الطرف الآخر قوله تعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2] ، إلى آخرها. وقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ، إلى آخرها.
ومن الآيات قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النور: 22] الآية.
وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو. فقال ابن عباس: أي آية أرجى في كتاب الله؟ فقال عبد الله: قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] الآية. فقال ابن عباس:
لكن قول الله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
قال ابن عباس: فرضي منه بقوله: بلى.
قال: فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان.
وعن ابن مسعود قال: في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له. وفسّر ذلك أبيّ بن كعب بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران: 135] ، إلى آخر الآية. وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء: 110] .(1/77)
وعن ابن مسعود: إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها. ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها: قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] الآية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] الآية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] الآية. وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية. وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء: 110] .
وأشياء من هذا القبيل كثيرة إذا تتبعت وجدت. فالقاعدة لا تطرد وإنما الذي يقال: إن كل موطن له ما يناسبه، ولكل مقام مقال، وهو الذي يطرد في علم البيان.
أما هذا التخصيص فلا. فالجواب: أن ما اعترض به غير صادّ عن سبيل ما تقدم. وعنه جوابان: إجماليّ وتفصيليّ. فالإجماليّ: أن يقال: إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية. لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية، واعتمدت في الحكم بها. وعليها شاءت الأمور الهادية الجارية في الوجود. ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل. يدل عليه الاستقراء.
فليس بقادح فيما تأصّل. وأما التفصيليّ، فإن قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قضية عين في رجل معيّن من الكفار، بسبب أمر معيّن من همزه النبيّ عليه السلام وعيبه إياه. فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح. لا أنه أجري مجرى التخويف.
فليس مما نحن فيه. وهذا الوجه جار في قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 61] الآيتين، جار على ما ذكر. وكذلك سورة والضحى [الضحى: 1- 11] .
وقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ، غير ما نحن فيه. بل هو أمر من الله للنبيّ عليه السلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح.
وقوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22] ، قضية عين لأبي بكر الصديق، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقوّل على بنته عائشة. فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحضّ على إتمام مكارم الأخلاق، وإدامتها، بالإنفاق على قريبه المتصف بالمسكنة والهجرة. ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر. ولكن أحبّ الله له معالي الأخلاق.
وقوله: لا تَقْنَطُوا [الزمر: 53] ، وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة،(1/78)
ليس مقصودهم، بذكر ذلك، النقض على ما نحن فيه، بل النظر في معاني آيات على استقلالها: ألا ترى أن قوله: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، أعقب بقوله: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] الآية. وفي هذا تخويف عظيم مهيج للفرار من وقوعه. وما تقدم من السبب في نزول الآية يبين المراد، وأن قوله: لا تقنطوا، ورافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف.
وقوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] نظر في معنى آية في الجملة، وما يستنبط منها. وإلا فقوله: أو لم تؤمن، تقرير فيه إشارة إلى التخويف أو لا يكون مؤمنا. فلما قال: بلى. حصل المقصود.
وقوله: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً [آل عمران: 135] ، كقوله: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] .
وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] داخل تحت أصلنا. لأنه جاء بعد قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] . وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
إلى قوله: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
[النساء: 107- 109] .
وقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا [النساء: 31] آت بعد الوعيد على الكبائر في أول السورة إلى هنالك. كأكل مال اليتيم والحيف في الوصية وغيرهما. فذلك مما يرجى به تقدم التخويف.
وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] ، فقد أعقب بقوله يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الآية. وتقدم قبلها قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، إلى قوله: عَذاباً مُهِيناً. بل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، جمع التخويف مع الترجية.
وكذلك قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... [النساء: 64] الآية. تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم. فهو مما نحن فيه.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... [النساء: 48] الآية. جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة. ولم يرد ابن مسعود بقوله:
ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، أنها آيات ترجية خاصة. بل مراده، والله أعلم، أنها كليات في الشريعة محكمات. قد احتوت على علم كثير، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين. ولذلك قال: ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها.(1/79)
وإذا ثبت هذا، فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن، إجراؤه على البشارة والنذارة. وهو مقصوده الأصليّ، لأنّه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب. وبالله التوفيق.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء. لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما. وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص. فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 57- 60] . وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة: 218] .
وقال: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57] . وهذا على الجملة. فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة، فجانب الخوف عليه أقرب. وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب. وبهذا كان عليه السلام يؤدب أصحابه.
ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ... [الزمر: 53] الآية. وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوّفوا وعوقبوا. كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ... [الأحزاب: 57] الآية.
فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته، فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب.
فصل في أن الأحكام في التنزيل أكثرها كلية ولذا احتيج في الاستنباط منه إلى السنة
قال الشاطبيّ: تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلّي لا جزئيّ. وحيث جاء جزئيّا فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل.
مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على هذا المعنى، بعد الاستقراء المعتبر، أنه محتاج(1/80)
إلى كثير من البيان. فإن السنة، على كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هي بيان للكتاب.
كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى. وقد قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .
وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .
وإنما الذي أعطي القرآن، وأما السنة فبيان له. وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع. ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات. لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] الآية. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن.
وإنما بينتها السنة. وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها. وأيضا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ومكمل كل واحد منها. وهذا كله ظاهر أيضا. فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس. وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.
وقد عد الناس قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] ، متضمنا للقياس.
وقوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] ، متضمنا للسنة.
وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] ، متضمنا للإجماع.
وهذا أهم ما يكون. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات «2» إلخ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه البخاري في التفسير، سورة الحشر، باب وما آتاكم الرسول فخذوه: عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد. يقال لها أم يعقوب. فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال:
وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا.
[.....](1/81)
القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت كذا وكذا؟ فذكرته. فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة:
لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه.
قال الله عز وجل: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الحديث.
وعبد الله من العالمين بالقرآن.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه، وهو السنة، لأنه إذا كان كليا وفيه أمور جلية، كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها، فلا محيص عن النظر في بيانه. وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له، إن أعوزته السنة، فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا فمطلق الفهم العربيّ لمن حصله يكفي فيها أعوز من ذلك. والله أعلم.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم. فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة لا يعوزه منها شيء. والدليل على ذلك أمور: منها النصوص القرآنية في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] الآية. وقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 38] . وقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] . وقوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] يعني الطريقة المستقيمة. ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة. وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور. ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء. ومنها ما جاء في الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك
كقوله عليه السلام «1» : إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا
__________
(1) أخرجه الدارمي في سننه، في فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله، والنور المبين والشفاء النافع. عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه. لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوّم. ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد. فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. أما إني لا أقول: ألم، ولكن ألف ولام وميم.(1/82)
يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد
إلخ، فكونه حبل الله بإطلاق، والشفاء النافع، إلى تمامه، دليل على كمال الأمر فيه، ونحو هذا في حديث عليّ عن النبيّ عليه السلام «1» .
وعن ابن مسعود، أن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه. وأن أدب الله القرآن. وسئلت عائشة «2» عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، وصدق ذلك قوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . وعن قتادة: ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان. ثم قرأ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وعن محمد بن كعب القرظيّ في قول الله تعالى: إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران: 193] . قال: هو القرآن.
ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث «3» : يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله. وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله
. فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة. وعن عائشة أن من قرأ القرآن فليس فوقه أحد. وعن عبد الله قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين. وعن عبد الله بن عمر قال: من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه. وفي رواية عنه: من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه. وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة. وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى. ومنها التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا. وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر
__________
(1)
أخرجه الدارمي في سننه، في فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، ونصه: عن الحارث قال: دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث. فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن ناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون فتن» . قلت: وما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. هو الذي من تركه من جبّار قصمه الله.
ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء. ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم
. (2)
أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها. حديث رقم 139، عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن
. (3)
أخرجه البخاري في الأذان، باب إمامة العبد والمولى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله.(1/83)
الذين ينكرون القياس. ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل. وقال ابن حزم الظاهريّ: كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة، نعلمه والحمد لله. حاشى القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة.
إلى آخر ما قال.
وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة. وأصل الإجارة في القرآن ثابت.
وبيّن ذلك إقراره عليه السلام وعمل الصحابة به.
ولقائل أن يقول: إن هذا غير صحيح. لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن، وإنما وجدت في السنة. ويصدق ذلك ما
في الصحيح من قوله عليه السلام «1» : لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري
. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا. ويصححه قول الله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] الآية. قال ميمون بن مهران: الرد إلى الله، إلى كتابه. والرد إلى الرسول، إذا كان حيا، فلما قبضه الله، فالرد إلى سنته.
ومثله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً [الأحزاب: 36] الآية.
يقال إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله لقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] وهو جمع بين الأدلة.
لأنا نقول: إن كانت السنة بيانا للكتاب، ففي أحد قسميها. فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو على خالتها. وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع.
وقيل «2» لعليّ بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: لا. إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وهذا، وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله، ففيه دليل على أن عندهم ما ليس في كتاب الله. وهو خلاف ما أصلت.
والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني وهو السنة بحول الله.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه: في كتاب السنّة، باب في لزوم السنة. حديث رقم 4605.
(2) أخرجه البخاري في العلم، باب كتابة العلم.(1/84)
ومن نوادر الاستدلال القرآنيّ ما
نقل عن عليّ أنه قال: الحمل ستة أشهر.
انتزاعا من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] مع قوله:
وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: 14] واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظّ له في الفيء من قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا [الحشر: 10] الآية. وقول من قال: الولد لا يملك. من قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] . وقول ابن العربيّ: إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا. من قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: 2] .
واستدلال منذر بن سعيد على أن العربيّ غير مطبوع على العربية بقوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبيّ على أن الإيماء بالرؤوس إلى جانب عند الإباية، والإيماء بها سفلا عند الإجابة، أولى مما يفعله المشارقة من خلاف ذلك، بقوله تعالى: لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ [المنافقون: 5] الآية.
وكان أبو بكر الشبليّ الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا. فقال له ابن مجاهد: أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ فقال: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص: 33] .
ثم قال الشبليّ: أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد وقال له: قل. قال: قوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] الآية. واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] الآية. وفي بعض هذه الاستدلالات نظر.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وعلى هذا لا بد في كل مسألة، يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه، أن يلتفت إلى أصلها في القرآن. فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك. وإلا فمراتب النظر فيها متعددة. وقد تقدم أن كل دليل شرعيّ فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به. وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم. فهو أول مرجوع إليه. أما إذا لم يرد في المسألة إلا العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة(1/85)
المنقولة بالآحاد. كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد. وهو أضعف. وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه، أو دينا يدان الله به، فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم.
فصل في أقسام العلوم المضافة إلى القرآن
قال الشاطبيّ: العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها وعلم القراآت والناسخ والمنسوخ وقواعد أصول الفقه وما أشبه ذلك. فهذا لا نظر فيه هنا. ولكن قد يدعي فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة. فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكّي والمدنيّ وعلم القراآت وعلم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن. وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا. ولا يكون كذلك. كما تقدم في حكاية الرازيّ في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] . وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه ب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أن علوم الفلسفة مطلوبة. إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.
ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة. وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم. هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع. بتحققهم بفهم القرآن. يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه.
وثمّ أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ولا ينبئك مثل خبير. فأبو حامد ممن فتل هذه الأمور خبرة وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه.
وقسم هو مأخوذ من جملته، من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو. وذلك ما فيه من دلالة النبوة. وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ(1/86)
منه الأحكام الشرعية. إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما. وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله. وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء، ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر. بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه
قوله عليه السلام: «ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر. وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ. فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»
فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه السلام. وفيها عجز الفصحاء اللسن والخصماء اللّدّ عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه. ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع. لأنه كيما تصور الإعجاز به، فماهيته هي الدالة على ذلك. فإلى أي نحو منه ملت دلّك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا وموضعه كتب الكلام.
وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله وخطاب الخلق به ومعاملته لهم بالرفق والحسنى، من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم.
وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات. وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم. وينبني صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد. وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله. ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية.
فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد. فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار.
ودلّ على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] فجرت عادته في خلقه أن لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل.
فإذا قامت الحجة عليهم. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولكل جزاء مثله، ومنها الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق. فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه. وزاد على يدي رسوله عليه السلام من المعجزات ما فيه بعض الكفاية.
ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود، بعد وضوح البرهان، وإن استعجلوا به.
ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحي من ذكره في عادتنا. كقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] .
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12] . وقوله:(1/87)
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به، فلا بد منه. وإليه الإشارة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] .
ومنها التأني في الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة، حتى قال الكفار: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] . فقال الله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. وقال: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] . وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه.
وحين أبى من أبى من الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر، بدءوا بالتغليظ بالدعاء. فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا. حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان. حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول، قبض الله نبيه إليه، وقد بانت الحجة ووضحت الحجة واشتد أسّ الدين وقوي عضده بأنصار الله. فلله الحمد كثيرا على ذلك.
ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء. فقد بيّن مساق القرآن آدابا استقرئت منه. وإن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير. فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن، في الغالب، إلا ب (يا) ، المشيرة إلى بعد المنادى. لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء. فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة. منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا: ربنا ربنا كقوله: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا [البقرة: 286] رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] ، رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي [آل عمران: 35] ، رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] .
ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد وإصلاحها.
فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان قائلا: يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتمّ لنا ذلك بكذا. وهو مقتضى ما يدعو به. وإنما أتى(1/88)
(اللهم) في مواضع قليلة، ولمعان اقتضتها الأحوال.
ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5- 6] الآية رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا [آل عمران: 16] رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ [آل عمران: 53] رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ [آل عمران: 191] ، رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً [يونس: 88] الآية.
رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ إلى قوله: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: 21] ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير.
والحاصل أن القرآن احتوى، من هذا النوع، من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية، على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.
وقسم هو المقصود الأول بالذكر، وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب، منطوقها ومفهومها، على حسب ما أداه اللسان العربيّ فيه.
وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول.
أحدها- معرفة المتوجّه إليه وهو الله المعبود، سبحانه.
والثاني- معرفة كيفية التوجه إليه.
والثالث- معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه.
وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود الذي عبر عنه قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فالعبادة هي المطلوب الأول. غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود. إذ المجهول لا يتوجّه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها. فإذا عرف، ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه، توجه الطلب. إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد، فجيء بالجنس الثاني. ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية، وانجرّ، مع ذلك، التبشير والإنذار في ذكرها- أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف، وأن الدنيا ليست بدار إقامة، وإنما الإقامة في الدار الآخرة.
فالأول- يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال. ويتعلق بالنظر في(1/89)
الصفات أو في الأفعال، النظر في النبوءات لأنها الوسائط بين المعبود والعباد، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا. ويتكمل بتقرير البراهين والمحاجة لمن جادل من خصماء المبطلين.
والثاني- يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كل واحد منها من المكملات. وهي أنواع فروض الكفايات.
وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به.
والثالث- يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه. ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب. ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم وما أداهم إليه حاصل أعمالهم. وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما.
وقد حصرها الغزاليّ في ستة أقسام: ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة. وثلاثة هي توابع ومتممة.
فأما الثلاثة- فهي تعريف المدعوّ إليه، وهو شرح معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة والتزكية عن الأخلاق الذميمة وتعريف الحال عند الوصول إليه. ويشتمل على ذكر حالي النعم (النعيم) والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.
وأما الثلاثة الأخر- فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة. وذلك قصص الأنبياء والأولياء. وسرّه الترغيب. وأحوال الناكبين. وذلك قصص أعداء الله. وسرّه الترهيب. والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائفة. وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه، وذكر النبيّ عليه السلام بما لا يليق به. وادّكار عاقبة الطاعة والمعصية. وسرّه في جنبة الباطل التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح. والتعريف بعمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الأهبة والزاد. ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.
وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة، وهي: ذكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام.(1/90)
فصل «في أن المدنيّ من السور منزل في الفهم على المكيّ»
قال الشاطبيّ: المدنيّ من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكيّ، وكذلك المكيّ بعضه مع بعض. والمدنيّ بعضه مع بعض. على حسب ترتيبه في التنزيل. وإلا لم يصح. والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدنيّ، في الغالب، مبنيّ على المكيّ. كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبنيّ على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله. وأول شاهد على هذا أصل الشريعة: فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام. ويليه تنزيل سورة الأنعام. فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين. وقد خرّج العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة. هذا ما قالوا. وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به، من قرب، بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة، أو نقص منها أصل كلّي.
ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام. فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها، وإن تبيّن في غيرها تفاصيل لها. كالعبادات التي هي قواعد الإسلام. والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما. والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها. والجنايات من أحكام الدماء وما يليها. وأيضا، فإن حفظ الدين فيها وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها. وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل. فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنيّ عليها، كما كان غير الأنعام، من المكيّ المتأخر عنها، مبنيا عليها. وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة. فلا يغيبنّ على الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير. وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وللسنة هنا مدخل لأنها مبينة للكتاب. فلا تقع في التفسير إلا على وفقه.(1/91)
وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث.
كما يتبين ذلك في القرآن أيضا. ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات. فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أو همت ففهم منها ما يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات.
كحديث «1»
«من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» .
أو
حديث «2»
«ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»
. وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأئمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين.
فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق. وكأن ما عارضها مؤول عند هؤلاء. وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم. وتأولوا هذه الظواهر. ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا: إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين. وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي. ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصلّ أو لم يصم، مثلا، وفعل ما هو محرم في الشرع- لا حرج عليه. لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد. فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا. كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه، لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ [المائدة: 93] الآية. وكذلك من مات قبل أن تحوّل القبلة نحو الكعبة، لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس. لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] إلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة.
فصل في الاعتدال في التفسير
قال الشاطبيّ: ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال. وعليه أكثر السلف المتقدمين. بل ذلك شأنهم وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال، إما على
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث رقم 43 عن عثمان.
(2) أخرجه البخاري في العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، عن أنس بن مالك.(1/92)
الإفراط وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه، ولا قعدوا. كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطّراح التعويل على هؤلاء.
والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية. وأن ما لم يكن معهودا عند العرب فلا يعتبر فيها. ومرّ فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها. ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة. فما وراء ذلك، إن كان مقصودا لها، فبالقصد الثاني. ومن جهة ما هو معين على إدراك المعنى المقصود. كالمجاز والاستعارة والكناية، وإذا كان كذلك فربما لا يحتاج فيه إلى فكر. فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف. وذلك ليس من كلام العرب.
فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى. وأيضا، فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه. وذلك أنه إعذار وإنذار وتبشير وتحذير وردّ إلى الصراط المستقيم. فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمّرا عن ساعد الجد والاجتهاد، باذلا غاية الطاقة في الموافقات، هاربا بالكلية عن المخالفات- وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها، ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد.
وتفريع التجنيس، ومحاسن الألفاظ، والمعنى في الخطاب، بمعزل عن النظر فيه.
كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، بل التفقه في المعبر عنه، وما المراد به. هذا لا يرتاب فيه عاقل. ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني، بإجماع العلماء. فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها، دون الاشتغال بالمعنى المقصود، لا ينكر في الجملة. وإلّا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه. وليس كذلك باتفاق العلماء. لأنا نقول: ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق. كيف؟ وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه. وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط الذي يشكّ في كونه مراد المتكلم. أو يظن أنه غير مراد. أو يقطع به فيه. لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها. ولم يشتغل بالتفقه فيها سلف هذه الأمة. فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة: من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلانيّ بما أنزلت من قولي: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ(1/93)
يُحْسِنُونَ صُنْعاً
[الكهف: 104] ، أو قولي قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ [الشعراء: 168] ؟
فإن في دعوى مثل هذا على القرآن، وأنه مقصود للمتكلم به، خطرا. بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] ، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي. وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] ، وقوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] ، وما أشبه ذلك. فإنه شائع في كلام العرب، مفهوم من مساق الكلام، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة. والتجنيس ونحوه ليس كذلك. وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه. إذ ليس في التجنيس ذلك، والشاهد على ذلك ندوره في العرب الأجلاف البوّالين على أعقابهم (كما قال أبو عبيدة) ، ومن كان نحوهم. وشهرة الكناية وغيرها. ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به. فالحاصل أن لكل علم عدلا، وطرفا إفراط وتفريط. والطرفان هما المذمومان. والوسط هو المحمود.
ثم قال الشاطبيّ: فصل
إذا تعين أن العدل في الوسط فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا. والإحالة على مجهول لا فائدة فيه. فلا بد من ضابط يعوّل عليه في مأخذ الفهم. والقول في ذلك، والله المستعان. إن المساقاة تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع المتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها. لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها. فإن القضية، وإن اشتملت على جمل، فبعضها متعلق بالبعض. لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد. فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف. فإن فرّق النظر، في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده. فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد. وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربيّ وما يقتضيه. لا بحسب مقصود المتكلم. فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام. فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد.
فعليه بالتعبد به، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل فإنها تبين كثيرا(1/94)
من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر. غير أن الكلام المنظور فيه، تارة يكون واحدا بكل اعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة، طالت أو قصرت. وعليه أكثر سور المفصل. وتارة يكون متعددا في الاعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة وآل عمران والنساء واقرأ باسم ربك وأشباهها. ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة، أم نزلت شيئا بعد شيء. ولكن هذا القسم له اعتباران: اعتبار من جهة تعدد القضايا فتكون كل قضية مختصة بنظرها. ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول. فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه. واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة. إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال، ويشترك معه أيضا القسم الأول. لأنه نظم ألقي بالوحي، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر. وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز. وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل. وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات. فاعتبار جهة النظم، مثلا، في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر. فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود. كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما، لا يفيد إلّا بعد كمال النظر في جميعها. فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم. واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها: منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب. ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم.
ومنها ما هو المقصود في الإنزال. وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب.
ومنها: الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك. ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام: فبه يبين ما تقدم.
فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] إلى قوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى. وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه، وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها، ولا ينبني إلا عليها.
ثم جاء قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] الآية.
كلاما آخر، بيّن أحكاما أخر.
وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] .
وانتهى الكلام على قول طائفة. وعند أخرى أن قوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ(1/95)
[البقرة: 189] . الآية، من تمام مسألة الأهلة. وإن انجرّ معه شيء آخر. كما انجرّ على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
وقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] . نازلة في قضية واحدة.
وسورة اقرأ نازلة في قضيتين: الأولى إلى قوله: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة.
وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات.
وغلب المكيّ أنه مقرر لثلاثة معان. أصلها معنى واحد. وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى:
أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق. غير أنه يأتي على وجوه. كنفي الشريك بإطلاق. أو نفيه، بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقرّبا إلى الله زلفى، أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني: تقرير النبوة للنبيّ محمد وأنه رسول الله إليهم جميعا، صادق فيما جاء به من عند الله. إلا أنه وارد على وجوه أيضا: كإثبات كونه رسولا حقا، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلّمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.
والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وإنه حق لا ريب فيه، بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به. فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر.
فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة. في عامة الأمر. وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها، فراجع إليها في محصول الأمر. ويتبع ذلك الرغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك.
فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا، وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه. إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوءة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين. وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية، ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم، إن كانت. فجاءت السورة(1/96)
تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها. وبأيّ وجه تكون على أكمل وجوهها، حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى، فافتتحت السورة بثلاث جمل:
إحداها، وهي الآكد في المقام، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد. التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه. وذلك قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون: 1- 11] والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له، جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار. بحيث لا يجد الطاعن، إلى من هذا حاله، سبيلا. والثالثة. بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة. وإن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما. وكفى بهذا تشريفا وتكريما. ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور. منها كونهم من البشر. ففي قصة نوح مع قومه قولهم: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون: 24] . ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم، أي من البشر، لا من الملائكة: فقالوا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ [المؤمنون: 33] الآية وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [المؤمنون: 34] . ثم قالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [المؤمنون: 38] أي هو من البشر. ثم قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ [المؤمنون: 44] فقوله: رَسُولُها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها. ثم ذكر موسى وهارون وردّ فرعون وملئه بقولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: 47] إلخ. هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوءة بوصف البشرية، تسلية لمحمد عليه السّلام. ثم بيّن أن وصف البشرية للأنبياء لا غضّ فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر، يأكلون ويشربون، كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى. فقال بعد تقرير رسالة موسى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان. ثم قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] أي هذا من نعم الله عليكم، والعمل الصالح شكر تلك النعم، ومشرّف للعامل به. فهو الذي يوجب التخصيص، لا الأعمال السيئة. وقوله: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون: 52] إشارة إلى التماثل بينهم وأنهم جميعا مصطفون من البشر. ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى قوله: وَهُمْ لَها سابِقُونَ [المؤمنون: 57- 61] .
وإذا تأمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا، فهم أن ما ذكر من المعنى هو(1/97)
المقصود مضافا إلى المعنى الآخر. وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية استكبارا من أشرافهم وعتوّا على الله ورسوله. فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة.
والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف. فإن التارات السبع أتت عليه. وهي كلها ضعف إلى ضعف. وأصله العدم. فلا يليق، بمن هذه صفته، الاستكبار. والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها.
ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية. فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق. فهذا كله كالتنكيت عليهم. والله أعلم.
ثم ذكر القصص في قوم نوح فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [المؤمنون: 24] ، والملأ هم الأشراف، وكذلك فيمن بعدهم وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ [المؤمنون: 33] الآية. وفي قصة موسى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [المؤمنون: 47] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم، لشرفهم في قومهم، قالوا هذا الكلام.
ثم قوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 54] إلى قوله: لا يَشْعُرُونَ رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين. فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم وذكر النعم عليهم والبراهين على صحة النبوءة، وأن ما قال عن الله حقّ من إثبات الوحدانية ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين. فهذا النظر، إذا اعتبر كليا في السورة، وجد على أتم من هذا الوصف. لكن على منهاجه وطريقه. ومن أراد الاعتبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح. والتوفيق بيد الله.
فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد.
وبالجملة، فحيث ذكر قصص الأنبياء، عليهم السّلام، كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون، فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه السّلام وتثبيت لفؤاده، لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة. فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله. وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال. والجميع حق واقع لا إشكال في صحته.(1/98)
وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن، والله المستعان.
فصل فيما جاء من إعمال الرأي في القرآن الكريم
قال الشاطبيّ: إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضا ما يقتضي إعماله.
وحسبك من ذلك ما نقل عن الصدّيق. فإنه نقل عنه أنه قال، وقد سئل في شيء من القرآن: أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وربما روى فيه: إذا قلت في كتاب الله برأيي. ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن فقال: أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان:
الكلالة كذا وكذا.
فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن، وهما لا يجتمعان:
والقول فيه: إن الرأي ضربان: أحدهما جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما، لأمور:
أحدها: أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد. ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم. فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن. فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبيّنا ذلك كله بالتوقيف.
فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول. والمعلوم أنه عليه السّلام لم يفعل ذلك. فدل على أنه لم يكلّف به على ذلك الوجه. بل بيّن منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به. وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم. فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث: أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم. وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا. ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه. والتوقيف ينافي هذا.
فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي، لا يصح.
والرابع: أن هذا الفرض لا يمكن. لأن النظر في القرآن من جهتين: من جهة الأمور الشرعية، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا. ومن جهة(1/99)
المآخذ العربية، وهذا لا يمكن فيه التوقيف. وإلا لزم ذلك في السلف الأولين. وهو باطل. فاللازم عنه مثله. بالجملة فهو أوضح من إطناب فيه.
وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال. كما كان مذموما في القياس أيضا. لأنه تقوّل على الله بغير برهان. فيرجع إلى الكذب على الله تعالى. وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء. كما روي عن ابن مسعود: ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم. وإياكم التبدع. وإياكم والتنطع. وعليكم بالعتيق. وعن عمر بن الخطاب: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه.
وعن عمر أيضا: ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه. ولا من فاسق بيّن فسقه، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله. والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله: وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال:
أيّ سماء تظلني.. الحديث. وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال الرجل:
إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما. نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم. وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال: أنا لا أقول في القرآن شيئا. وسأله رجل عن آية؟ فقال:
لا تسألني عن القرآن وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه (يعني عكرمة) .
وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن شيء من القرآن؟ فقال: اتق الله وعليك بالسداد. فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن.
وعن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
وعن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وعن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله.
وإنما هذا كله توقّ وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم والقول فيه من غير تثبت.
وقد نقل عن الأصمعيّ، وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة. أنه لم يفسر(1/100)
قط آية من كتاب الله. وإذا سئل عن ذلك لم يجب. (انظر الحكاية عنه في الكامل) ثم قال الشاطبيّ: فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء. منها: التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة. فإن الناس، في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير، ثلاث طبقات.
إحداها: من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم.
وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم. فنحن أولى بذلك منهم إن ظننّا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم. وهيهات.
والثانية: من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم. فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه.
والثالثة: من شك في بلوغه مبلغ أهل الاجتهاد، أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض. فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه. لأن الأصل عدم العلم. فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين، فانسحاب الحكم الأول عليه باق بلا إشكال. وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال. وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره، فحسّن ظنه بنفسه، ودخل في الكلام فيه مع الراسخين. ومن هنا افترقت الفرق، وتباينت النحل، وظهر في تفسير القرآن الخلل.
ومنها: أن من ترك النظر في القرآن، واعتمد في ذلك على من تقدمه، ووكل إليه النظر فيه، غير ملوم. وله في ذلك سعة. إلا فيما لا بد منه، وعلى حكم الضرورة.
فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس. وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه. وكذلك وجدناهم في القول في القرآن. فإن المحظور فيهما واحد.
وهو خوف التقوّل على الله. بل القول في القرآن أشد. فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر. والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا، بكلامه المنزل، وهذا عظيم الخطر.
ومنها أن يكون على بال من الناظر، والمفسر، والمتكلم عليه، أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم. والقرآن كلام الله. فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام. فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا؟ فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد. وإلا، فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول: يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا. بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم. وإلّا، فالاحتمالات(1/101)
التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة، فعلى كل تقدير، لا بد في كل قول، يجزم به أو يحتمل، من شاهد يشهد لأصله. وإلا كان باطلا. ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم، والله أعلم.
فصل في أن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول
قال الشاطبيّ: الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها: أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعيّ ولا غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء، فدلّ أنها جارية على قضايا العقول. وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين، حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف، ولو نافتها لم تتلقها، فضلا أن تعمل بمقتضاها. وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة. ويستوي، في هذا، الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية وعلى الأحكام التكليفية.
والثاني: أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق. وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل، ولا يتصوره. بل يتصور خلافه ويصدقه. فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق، ضرورة. وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق، وهو معنى تكليف ما لا يطاق. وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول.
والثالث: أن مورد التكليف هو العقل. وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام.
حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا. وعدّ فاقده كالبهيمة المهملة. وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف. فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبيّ والنائم. إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق. بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به.
ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء، لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا. وذلك مناف لوضع الشريعة. فكان ما يؤدي إليه باطلا.
والرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أولى من ردّ الشريعة به. لأنهم كانوا في غاية الحرص على ردّ ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حتى كانوا يفترون عليه وعليها. فتارة يقولون ساحر. وتارة مجنون. وتارة يكذبونه. كما كانوا يقولون في القرآن: سحر،(1/102)
وشعر، وافتراء، وإنما يعلمه بشر، وأساطير الأولين. بل كان أولى ما يقولون: إن هذا لا يعقل، أو هو مخالف للعقول أو ما أشبه ذلك. فلما لم يكن من ذلك شيء، دلّ على أنهم عقلوا ما فيه وعرفوا جريانه على مقتضى العقول. إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر، حتى كان من أمرهم ما كان، ولم يعترضه أحد بهذا المدّعى. فكان قاطعا في نفيه عنه.
والخامس: إن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة. ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام. هو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسّنة فيها ولا مقبحة. وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام. فإن قيل: هذه دعوى عريضة يصده عن القول بها غير ما وجه:
أحدها: أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا. كفواتح السور. فإن الناس قالوا:
إن في القرآن ما يعرفه الجمهور، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة وفيه ما لا يعرفه إلا الله. فأين جريان هذا القسم على مقتضى العقول؟
والثاني: أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس أو لا يعلمها إلا الله تعالى. كالمتشابهات الفروعية، وكالمتشابهات الأصولية. ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول فلا تفهمها أصلا. ولا يفهمها إلا القليل. والمعظم مصدودون عن فهمها. فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول.
والثالث: أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرّق الناس بها فرقا وتحزّبوا أحزابا. وصار كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] فقالوا فيها أقوالا كلّ على مقدار عقله ودينه. فمنهم من غلب عليه هواه حتى أدّاه ذلك إلى الهلكة.
كنصارى نجران حين اتبعوا، في القول بالتثليث، قول الله تعالى: فعلنا، وقضينا، وخلقنا. ثم بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف. ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزلّ به العقل. كما هو الواقع. فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول، لما وقع في الاعتياد هذا الاختلاف. فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول، ولو بوجه ما.
فالجواب عن الأول: إن فواتح السور، للناس في تفسيرها مقال. بناء على أنه(1/103)
مما يعلمه العلماء. وإن قلنا: إنه مما لا يعلمه العلماء البتة، فليس مما يتعلق به تكليف على حال. فإذا خرج عن ذلك، خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال، فليس مما نحن فيه. وإن سلم، فالقسم، الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة، نادر، والنادر لا حكم له، ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا، لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه، وليس كلامنا فيه. إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما، لكن على خلاف المعقول. وفواتح السور خارجة عن ذلك، لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول، وهو المطلوب.
وعن الثاني: إن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول وإن توهم بعض الناس فيها ذلك، لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه. كما نصت عليه الآية قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] لا أنه بناء على أمر صحيح: فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف. وإن فرض أنه مما لا يعلمها أحد إلا الله، فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجيّ، لا لمخالفته لها. وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة، فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة وأخبار بمعان كثيرة، ربما يتوهم القاصر النظر، فيها الاختلاف. وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه وهو جاهل به. ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث، ودعوى الملحدين، على القرآن والسنة، التناقض والمخالفة للعقول.
وضمّوا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع، فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه، فتاهوا. فإن القرآن والسنة، لمّا كانا عربيين، لم يكن لينظر فيهما إلا عربيّ. كما أنّ من لم يعرف مقاصدهما، لم يحلّ له أن يتكلم فيهما.
إذ لا يصح له نظر حتى كون عالما بهما. فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة. ولذلك مثال يتبين به المقصود وهو: إن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس، فقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، فقال: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] ، رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ..
[الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية. وقال: بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها.. إلى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27- 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض. ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...
[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] الآية(1/104)
فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 96] ، عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: 158] ، سَمِيعاً بَصِيراً ... [النساء:
134] ، فكأنه كان ثم مضى؟
فقال ابن عباس: لا أنساب بينهم في النفخة الأولى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] . فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون. ثم في النفخة الأخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ.
وأما قوله: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. فقال المشركون: تعالوا نقول ما كنا مشركين. فختم على أفواههم فتنطق أيديهم. فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا. وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض.
وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، أي أخرج الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين. فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام. وخلقت السموات في يومين.
وكان الله غفورا رحيما. سمى نفسه ذلك وذلك قوله: أي لم أزل كذلك فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلّا من عند الله.
هذا تمام ما قال في الجواب. وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزّل منزلته، وأتي من بابه.
وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون، وما أشكل على الطالبين، وما وقف فيه الراسخون، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] .
وقد ألّف الناس. في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة، كثيرا، فمن تشوف إلى البسط ومدّ الباع وشفاء الغليل طلبه في مظانه.
فصل في أن رتبة السنة التأخر عن الكتاب، وأنها تفصيل مجمله وقاضية عليه
قال الشاطبيّ: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة. والقطع فيها إنما يصح في(1/105)
الجملة لا في التفصيل. بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل.
والمقطوع به مقدم على المظنون. فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.
والثاني: أن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك. فإن كان بيانا فهو ثان على الوجه المبين في الاعتبار. إذ يلزم من سقوط المبيّن سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين. وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم. وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب. وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب.
والثالث: ما دل على ذلك من الأخبار والآثار.
كحديث معاذ: «بم تحكم؟
قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال:
اجتهد رأيي» «1»
. الحديث. وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح: «إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلخ» «2» . وفي رواية عنه: إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره. وقد بيّن معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له: انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا. وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومثل هذا عن ابن مسعود: «من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب لله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلّى الله عليه وسلّم ... » «3» الحديث.
وعن ابن عباس «4» أنه كان إذا سئل عن شيء، فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم
__________
(1)
أخرجه أبو داود في الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، حديث رقم 3592. عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال:
«كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» ؟ قال: «أقضي بكتاب الله» . قال: «فإن لم تجد في كتاب الله» ؟ قال: فبسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا في كتاب الله» ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» .
(2) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة.
(3) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة: عن عبد الله بن مسعود قال:
أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك. وإن الله قد قدّر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون. فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ. فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فليقض بما قضى به الصالحون. ولا يقل إني أخاف وإني أرى. فإن الحرام بيّن والحلال بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهة. فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
(4) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة. عن عبد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر، فكان في القرآن أخبر به. وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر به. فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر. فإن لم يكن قال فيه برأيه.(1/106)
يكن في كتاب الله، وكان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال به. وهو كثير في كلام السلف والعلماء.
مطلب في ملحظ تفرقة الحنفية بين الفرض والواجب
وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة، وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة. وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة. والمقطوع به في المسألة أن السنّة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار.
فإن قيل: هذا مخالف لما عليه المحققون. أما أولا: فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة، لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى الكتاب.
وأيضا فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. وهذا دليل على تقديم السنة. وحسبك أنها تقيّد مطلقه وتخصّ عمومه وتحمله على غير ظاهره حسبما هو مذكور في الأصول. فالقرآن آت بقطع كل سارق. فخصّت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز. وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا. فخصّته بأموال مخصوصة. وقال تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] ، فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم للسنة عليه. ومثل ذلك لا يحصى كثرة. وأما ثانيا: فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا، فاختلف أهل الأصول: هل يقدم الكتاب على السنة، أم بالعكس، أم هما متعارضان؟
وقد تكلم الناس في حديث معاذ ورأوا أنه على خلاف الدليل. فإن كان ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب. وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب، ولذلك وقع الخلاف وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب، وهو الكتاب. فإذا كان الأمر على هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب، بل المتبع الدليل.
فالجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب. بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب، فكأنّ السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] فإذا حصل بيان قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا(1/107)
أَيْدِيَهُما
[المائدة: 38] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله، فذلك هو المعنى المراد من الآية. لا أن نقول: إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب. كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث، فعملنا بمقتضاه، فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلانيّ، دون أن نقول: عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه السلام، وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى.
فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبيّنة له. فلا يوقف مع إجماله واحتماله.
وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه. وأما خلاف الأصوليين في التعارض، فقد مر أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول. وإلا فالتوقف. وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآنيّ كلّي. فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيّين. فيرجع إلى ذلك. وخرج عن معارضة كتاب مع سنة.
وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيّين. وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق. وأيضا فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز. ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة. فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع. أو في نادر الوقوع. ولا كبير جدوى فيه. والله أعلم.
ثم قال الشاطبيّ: السنة راجعة في معناها إلى الكتاب. فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره. وذلك لأنها بيان له. وهو الذي دل عليه قوله تعالى:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية. وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها، فهو دليل على ذلك. ولأن الله قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن. واقتصرت في خلقه على ذلك. فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء. ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء. فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة. لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(1/108)
[المائدة: 3] وهو يريد بإنزال القرآن.
فالسنة إذا، في حصول الأمر، بيان لما فيه. وذلك معنى كونها راجعة إليه.
وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك. حسبما يذكر بعد، بحول الله. وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها. وهو أصل كاف في هذا المقام. فإن قيل هذا غير صحيح من أوجه: أحدها أن الله تعالى قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] الآية.
والآية نزلت في قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير بالسقي قبل الأنصاريّ من شراج الحرّة.
الحديث «1» مذكور في الموطأ، وذلك ليس في كتاب الله تعالى. ثم جاء في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59] والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته، بعد موته. وقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة: 92] وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله، فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه. وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن. إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله. وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: 63] الآية، فقد اختص الرسول عليه السلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن. وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ، وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . وأدلة القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن، فلا بد أن يكون زائدا عليه.
والثاني: الأحاديث الدالة على ذمّ ترك السنة واتباع الكتاب، إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب، لما كانت السنة متروكة على حال. كما
روي أنه عليه
__________
(1)
أخرجه البخاري في الشرب والمساقاة، باب سكر الأنهار. عن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلّى الله عليه وسلّم في شراج الحرّة التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سرّح الماء يمرّ. فأبى عليه. فاختصما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير: أسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك؟
فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. فقال الزبير: والله! إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ
.(1/109)
السلام، «يوشك بأحدكم أن يقول: هذا كتاب الله. ما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه. ألا من بلغه عني حديث فكذّب به فقد كذّب الله، ورسوله، والذي حدّثه»
وعنه أنه قال «1» : «يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدّث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه من حلال استحللناه. وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل الذي حرم الله»
وفي رواية «2»
«لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» .
وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب.
والثالث- إن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن. كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها «3» ، وتحريم الحمر الأهلية «4» ، وكل ذي ناب من السباع «5» ، والعقل وفكاك الأسير «6» وأن لا يقتل مسلم بكافر. وهو الذي نبه عليه حديث علي بن أبي طالب حيث قال فيه: ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، وما في هذه الصحيفة. وفي حديث آخر عن عليّ، أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال: والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. فنشرها فإذا فيها: أسنان الإبل. وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا. فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتغليظ على من عارضه، حديث رقم 12. [.....]
(2)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتغليظ على من عارضه، حديث رقم 13، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري. فما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» .
(3)
أخرجه البخاري في النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها»
. (4)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية. عن ابن عمر رضي الله عنهما: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
(5)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب أكل كلّ ذي ناب من السباع. عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
(6) أخرجه البخاري في العلم، باب كتابة العلم.(1/110)
أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.
وجاء في حديث معاذ: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
. وما في معناه مما تقدم ذكره. وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن. وهو نحو قول من قال من العلماء: ترك الكتاب موضعا للسنة.
وتركت السنة موضعا للقرآن.
والرابع- إن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة.
إذ عوّلوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء. فاطّرحوا أحكام السنة.
فأدّاهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله.
فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان: القرآن واللبن. فأما القرآن فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين. وأما اللبن فيتبعون الريف. يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات» «1»
وفي بعض الأخبار «2» عن عمر بن الخطاب: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله. وقال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن. وعن عمر «3» : ثلاث يهد من الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون. وعن ابن مسعود «4» : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم.
فعليكم بالعلم. وإياكم والتبدع. وإياكم والتنطع. وعليكم بالعتيق. وعن عمر: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده.
(2) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.
(3) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب في كراهية أخذ الرأي. عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين.
(4) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب كراهية الفتيا. عن أبي قلابة قال: قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض. وقبضه أن يذهب بأصحابه. عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده. إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم. فعليكم بالعلم. وإياكم والتبدّع. وإياكم والتنطع. وإياكم والتعمق.
وعليكم بالعتيق.(1/111)
على أخيه. وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح السنن. وعليه حمل كثير من العلماء
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» «1»
وما في معناه.
فإن كثيرا من أهل البدع هكذا فعلوا. اطرحوا الأحاديث وتأولوا كتاب الله على غير تأويله فضلوا وأضلوا. وربما ذكروا حديثا يعطي أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى. وذلك ما
روي أنه عليه السلام قال: «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا.
وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟» .
قال عبد الرحمن بن مهديّ: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث. قالوا:
وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلّى الله عليه وسلّم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه. وقد عارض هذا الحديث قوم فقالوا: نحن نعرضه على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك. قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله. لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسّي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره، جملة على كل حال. هذا مما يلزم القائل أن السنة راجعة إلى الكتاب.
ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين كما كان ذلك فيمن تقدم.
فالقول بها، والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم. أعاذنا الله من ذلك بمنه.
فالجواب إن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم.
أما الوجه الأول فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب فلا بد أن تكون بيانا لما في الكتاب احتمال له ولغيره. فتبيّن السنة أحد الاحتمالين دون الآخر. فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه وأطاع رسوله في مقتضى بيانه.
ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان. إذ صار
__________
(1)
أخرجه البخاري في العلم، باب كيف يقبض العلم: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا»
.(1/112)
عمله على خلاف ما أراد بكلامه. وعصى رسوله في مقتضى بيانه. فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق، وإذا لم يلزم ذلك لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب. بل قد يجتمعان في المعنى. ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين. ولا محال فيه. ويبقى النظر في وجود ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القرآن. يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى.
وقوله في السؤال: فلا بد أن يكون زائدا عليه، مسلّم. ولكن هذا الزائد هل هو زيادة الشرح على المشروح إذا كان للشرح بيان ليس في المشروح، وإلا لم يكن شرحا. أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب؟ هذا محل النزاع. وعلى هذا المعنى يتنزل الوجه الثاني.
وأيضا فإذا كان الحكم في القرآن إجماليّا، وهو في السنة تفصيليّ فكأنه ليس إياه. فقوله: أَقِيمُوا الصَّلاةَ أجمل ما فيه معنى الصلاة وبيّنه عليه السلام. فظهر من البيان ما لم يظهر من المبيّن، وإن كان معنى البيان هو معنى المبين ولكنهما في الحكم يختلفان. ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان، التوقف، وفي البيان العمل بمقتضاه؟ فلما اختلفا حكما صار كاختلافهما معنى. فاعتبرت السنة اعتبار المفرد عن الكتاب.
وأما الثالث فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله.
وأما الرابع فإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي واطراحهم السنن، لا من جهة أخرى. وذلك أن السنة، كما تبين، توضح المجمل وتقيّد المطلق وتخصص العموم. فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة. وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ. فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره، جاهلا بالكتاب، خابطا في عمياء، لا يهتدي إلى الصواب فيها. إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير. وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل.
وأمّا ما احتجوا به من الحديث، فإن لم يصح في النقل فلا حجة به لأحد من الفريقين. وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله فلا بد من النظر فيه. فإن الحديث إما وحي من الله صرف، وإمّا اجتهاد من الرسول عليه السلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة. وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله. لأنه عليه(1/113)
السلام ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقره عليه البتة. فلا بد من الرجوع إلى الصواب. والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه.
نعم. يجوز أن تأتي السنة بما ليس فيه مخالفة ولا موافقة. بل بما يكون مسكوتا عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز. وهو الذي ترجم له في هذه المسألة. فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله. كما صرح به الحديث المذكور. فمعناه صحيح. صحّ سنده أو لا. وقد خرّج في معنى هذا الحديث الطحاويّ في كتابه في بيان مشكل
الحديث عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاريّ، عن أبي حميد وأبي أسيد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم وتندّ منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه» .
وروي أيضا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل أن أبيّ بن كعب كان في مجلس. فجعلوا يتحدثون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمرخّص والمشدّد. وأبي بن كعب ساكت، فلما فرغوا قال: أي هؤلاء! ما حديث بلغكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده، فصدّقوا بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقول إلا الخير. وبيّن وجه ذلك الطحاويّ بأن الله تعالى قال في كتابه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] الآية. وقال: مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر: 23] الآية. وقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة: 83] الآية. فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه.
وكان ما يحدثون به عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من جنس ذلك، لأنه كله من عند الله. ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث. وإن كانوا بخلاف ذلك وجب التوقف لمخالفته ما سواه. وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقا لا مخالفا في المعنى. إذ لو خالف لما اقشعرت الجلود ولا لانت القلوب. لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه.
وخرّج الطحاويّ أيضا عن أبي هريرة عنه عليه السلام: إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به. قلته أو لم أقله. فإني أقول ما يعرف ولا ينكر. وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به. فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف.
ووجه ذلك أن المرويّ إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه، لوجود معناه في ذلك، وجب(1/114)
قبوله. لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ. إذ يصح تفسير كلامه عليه السلام للأعجميّ بكلامه. وإذا كان الحديث مخالفا يكذّبه القرآن والسنة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله. وهذا مثل ما تقدم أيضا.
والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات. وأمّا إن لم تصحّ فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح. وإذا ثبت هذا بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة حتى صار متضمنا لكلّيتها في الجملة وإن كانت بيانا له في التفصيل، وهي:
إن للناس في هذا المعنى مآخذ: منه ما هو عام جدا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العلم بالسنة ولزوم الاتباع لها. وهو في معنى أخذ الإجماع منه في نحو قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] الآية. وممن أخذ به عبد الله بن مسعود.
فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت له: بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة. وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول، فقال لها عبد الله: أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر: 7] ؟ قالت: بلى. قال: فهو ذاك.
وفي رواية: قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله.
قال، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت: يا أبا عبد الرحمن! بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله؟
فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. قال الله عزّ وجلّ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] الحديث.
فظاهر قوله لها: هو في كتاب الله، ثم فسر ذلك بقوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ دون قوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119] أن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبويّ. ويشعر بذلك أيضا ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الآية.
وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر. فقال له ابن عباس: اتركهما.
فقال: إنما نهى عنهما أن تتّخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن(1/115)
صلاة بعد العصر
. فلا أدري أتعذّب عليها أم تؤجر، لأن الله قال: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] .
وروي عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد؟ فقال: هن أحرار. قلت: بأي شيء؟ قال: بالقرآن. قلت: بأي شيء في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] . وكان عمر من أولي الأمر. قال: عتقت ولو بسقط. وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو. ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة.
السنة تفصل ما أجمله الكتاب
ومنها الوجه المشهور عند العلماء. كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام. إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو لواحقه أو ما أشبه ذلك. كبيانها للصلوات على اختلافها: في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها. وبيانها للزكاة: في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى. وبيان أحكام الصوم وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب. وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية. والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل. والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها. والجنايات من القصاص وغيره. كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن.
وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .
وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: إنك امرؤ أحمق. أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدّد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا.
ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟ إن كتاب الله أبهم هذا. وإن السنة تفسر ذلك. وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشّخّير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له مطرف:
والله ما نريد بالقرآن بدلا. ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا.
وروى الأوزاعيّ عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحضره جبريل بالسنّة التي تفسر ذلك. قال الأوزاعيّ: الكتاب أحوج إلى السنة م(1/116)
السنة إلى الكتاب. قال ابن عبد البرّ: يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه.
وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب.
فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله. ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبيّنه.
فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى.
ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال، زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح. وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها. وقد مرّ أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام: وهي الضروريات ويلحق بها مكملاتها. والحاجيات ويضاف مكملاتها. والتحسينيات ويليها مكملاتها. ولا زائد على هذه الثلاثة. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقدير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها. والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام. فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة.
فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان: وهي الإسلام والإيمان والإحسان.
فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء: وهي الدعاء إليه بالترغيب والترهيب، وجهاد من عانده أو رام إفساده، وتلافي النقصان الطارئ في أصله. وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال.
وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان: وهي إقامة أصله بشرعية التناسل.
وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب. وذلك ما يحفظه من داخل. والملبس والمسكن. وذلك ما يحفظه من خارج. وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء: وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح. ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها. وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد. وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحدّ والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك. وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم. وأصوله في القرآن. والسنة بينتها. وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك. وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض وتلافي الأصل(1/117)
بالزجر والحد والضمان. وهو في القرآن والسنة. وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده.
وهو في القرآن. ومكمله شرعية الحدّ أو الزجر. وليس في القرآن له أصل على الخصوص. فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا. فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة. وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف.
هذا وجه في الاعتبار في الضروريات.
وإذا نظرت إلى الحاجيات اطرد النظر أيضا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه.
فإن الحاجيات دائرة على الضروريات. وكذلك التحسينيات. وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة. فلم يتخلف عنهما شيء. والاستقراء يبيّن ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك، قالوا به ونصّوا عليه. حسبما تقدم عن بعضهم فيه. ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق. فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها، وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب. وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات. فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك. وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية.
وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها. والسنة أول قائم بذلك. وبالنسبة إلى النفس أيضا فظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد، وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية، وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحّة، كما في البيوع. وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر. وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك. وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها. ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها. والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد. من غير إسراف ولا إقتار. وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر، على قول من قال به، في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك. كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهاديّ.(1/118)
وبينت السنة منه ما يحتذي حذوه فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب. وما فسّر من ذلك في الكتاب، فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه. وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات. فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق. وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات، على رأي من رأى أنها من هذا القسم، وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطّيب وما أشبه ذلك. وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات وآداب الرفق في الصيام. وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان. وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك. وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان من عدم التضييق على الزوجة وبسط الرفق في المعاشرة وما أشبه ذلك. وبالنسبة إلى المال كأخذه من غير إشراف نفس، والتورّع في كسبه واستعماله والبذل منه على المحتاج وبالنسبة إلى العقل كمباعدة الخمر ومجانبتها، وإن لم يقصد استعمالها، بناء على أن قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] ، يراد به المجانبة بإطلاق.
فجميع هذا له أصل في القرآن بيّنه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا. وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح.
وإنما المقصود هنا التنبيه. والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه وبالله التوفيق.
ومنها النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين. ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع وهو المبين في دليل القياس.
ولنبدأ بالأول: وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة. كما تقدم في المأخذ الثاني. وتبقى الواسطة على اجتهاد. والتباين لمجاذبة الطرفين إياها، فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ فيترك إلى أنظار المجتهدين.
وربما يعد على الناظر أو كان محل تعبّد لا يجري على مسلك المناسبة. فيأتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه البيان، وأنه لاحق بأحد الطرفين. أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطيّ أو غيره. وهذا هو المقصود هنا.
ويتضح ذلك بأمثلة: أحدها أن الله تعالى أحل الطيبات وحرّم الخبائث. وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما. فبين عليه السلام في ذلك ما(1/119)
اتضح به الأمر. فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وقال: إنها رجس.
وسئل ابن عمر عن القنفذ فقال: كل. وتلا: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ [الأنعام: 145] الآية. فقال له إنسان: إن أبا هريرة يرويه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول: «هو خبيثة من الخبائث» «1» . فقال ابن عمر: إن قاله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو كما قال.
وخرّج أبو داود «2» : نهى عليه السّلام عن أكل الجلالة وألبانها
. وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهي العنهدة (كذا.
ولم أدر ما معناها) .
فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث. كما ألحق عليه السلام الضب والحباري والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات.
والثاني: أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل وأشباهها. وحرّم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر. وهو نبيذ الدبّاء والمزفّت والنّقير وغيرها.
فنهى «3» عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا. سدّا للذريعة. ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل
فقال عليه السلام «4»
«كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا. وكل مسكر حرام»
. وبقي في قليل المسكر على الأصل من
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده: عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إلى آخر الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو كما قال
. (2) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها، حديث 3785.
(3)
أخرجه البخاري في الأدب، باب قول الرجل مرحبا: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم وفد عبد القيس على النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مرحبا بالوفد الذي جاءوا غير خزايا ولا ندامى» فقالوا: يا رسول الله! إنا حيّ من ربيعة. وبيننا وبينك مضر. وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل ندخل به الجنة وندعو به من وراءنا. فقال: «أربع وأربع: أقيموا الصلاة، وءاتوا الزكاة، وصوم رمضان، وأعطوا خمس ما غنمتم. ولا تشربوا في الدبّاء والحنتم والنقير والمزفت»
. (4)
أخرجه مسلم في الجنائز، حديث 106. عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم.
ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا»
. [.....](1/120)
التحريم. فبيّن أن ما أسكر كثيره فقليله حرام «1» . وكذلك نهى عن الخليطين «2» للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدبّاء والمزفّت وغيرها. فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين. فكان البيان من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعيّن ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين.
والثالث: أن الله أباح من صيد الجارح المعلّم ما أمسك عليك. وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلّما فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه. فدار بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده. فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك. والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك. فتعارض الأصلان. فجاءت السنة ببيان ذلك.
فقال عليه السلام «3»
«فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه»
وفي حديث آخر «4»
«إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك»
وجاء في حديث آخر «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه..» الحديث.
وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين.
والرابع: أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا. وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء. وأبيح للحلال مطلقا. فمن قتله فلا شيء عليه. فبقي قتله خطأ في محل النظر. فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ. قال الزهريّ: جاء القرآن بالجزاء على العامد وهو في الخطأ سنة. والزهريّ من أعلم الناس بالسنن.
والخامس: أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن. وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام. فبيّن صاحب السنة صلّى الله عليه وسلّم من ذلك على الجملة وعلى التفصيل.
__________
(1)
أخرجه أبو داود في الأشربة، باب في النهي عن المسكر، حديث 3681. عند جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أسكر كثيرة فقليله حرام»
. (2)
أخرجه مسلم في الأشربة، حديث 26. عن أبي قتادة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن خليط التمر والبسر وعن خليط الزبيب والتمر وعن خليط الزهور والرطب، وقال «انتبذوا كل واحد على حدته»
. (3)
أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما جاء في التصيّد. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إنّا قوم نتصيد بهذه الكلاب، فقال: «إذا أرسلت كلابك المعلّمة وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليك. إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل. فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. وإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل» .
(4)
أخرجه البخاري في الذبائح، باب ما أصاب المعراض بعرضه. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنا نرسل الكلاب المعلّمة. قال: «كل ما أمسكن عليك» قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن» .(1/121)
فالأول:
قوله «الحلال «1» بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ... » الحديث.
ومن الثاني:
قوله في حديث عبد الله بن زمعة «2»
«واحتجبي منه يا سودة» لما رأى من شبهه بعتبة..» الحديث.
وفي حديث عديّ بن حاتم في الصيد «فإن اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل. لا تدري لعله قتله الذي ليس منها»
وقال في بئر «3» بضاعة، وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء»
فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة. وجاء في الصيد «4»
«كلّ ما أصميت ودع ما أنميت»
وقال في حديث عقبة بن الحارث في الرضاع «5» ، إذ أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته والمرأة التي أراد تزوجها.
قال فيه «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك»
إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة.
والسادس: أن الله عزّ وجلّ حرم الزنى وأحل التزويج وملك اليمين. وسكت عن النكاح المخالف للمشروع، فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض. فجاء في السنة ما بيّن الحكم في بعض الوجوه حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا، أو في بعض الأحوال. وبالأصل الآخر في حال آخر، فجاء في
__________
(1)
أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه. عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»
. (2)
أخرجه البخاري في العتق، باب أم الولد. عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن يقبض إليه ابن وليدة زمعة. قال عتبة: إنه ابني. فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الفتح أخذ سعد ابن وليدة زمعة. فأقبل به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأقبل معه بعبد بن زمعة. فقال سعد: يا رسول الله! هذا ابن أخي. عهد إليّ أنه ابنه. فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله! هذا أخي، ابن وليدة زمعة، ولد على فراشه. فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس به (أي بعتبة) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو لك يا عبد بن زمعة» من أجل أنه ولد على فراش أبيه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجبي منه يا سودة بنت زمعة» مما رأى من شبهه بعتبة. وكانت سودة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم
. (3)
أخرجه أبو داود في الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، حديث 66. عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنتوضأ من بئر بضاعة- وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الماء طهور لا ينجّسه شيء» ..
(4) أخرجه الطبراني في كشف الخطأ، حديث 1957، عن ابن عباس.
(5) أخرجه البخاري في النكاح، باب شهادة المرضعة.(1/122)
ا
لحديث «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل. فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها» «1»
وهكذا سائر ما جاء، في النكاح الفاسد، من السنة.
والسابع: أن الله أحلّ صيد البحر فيما أحل من الطيبات وحرّم الميتة فيما حرم من الخبائث. فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها.
فقال عليه السلام «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «2»
وروي في بعض الحديث «أحلت لنا ميتتان: الحيتان والجراد» »
وأكل عليه السلام مما قذفه البحر «4» لما أتى به أبو عبيدة.
والثامن: أن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقصّ من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... [المائدة: 45] إلى آخر الآية، هذا في العمد.
وأما الخطأ فالدية لقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النساء: 92] . وبيّن عليه السلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله.
فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها. فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته. فبينت السنة فيه أن ديته الغرة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له.
والتاسع: أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة. فدار الجنين، الخارج من بطن المذكاة ميتا، بين الطرفين، فاحتملهما.
فقال في الحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «5»
ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
والعاشر: أن الله قال:
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب في الولي، حديث رقم 2083.
(2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، حديث 83.
(3) أخرجه ابن ماجة في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، حديث 3218.
(4)
أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة سيف البحر. عن جابر رضي الله عنه قال: غزونا جيش الخبط. وأمر أبو عبيدة. فجعنا جوعا شديدا. فألقى البحر حوتا ميتا، لم نر مثله، يقال له العنبر.
فأكلنا منه نصف شهر. فأخذ أبو عبيدة عظاما من عظامه فمر الراكب تحته. قال أبو عبيدة: كلوا.
فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كلوا رزقا أخرجه الله. أطعمونا إن كان معكم» فأتاه بعضهم بعضو، فأكله
. (5) أخرجه الترمذي في الصيد، باب ما جاء في ذكاة الجنين. [.....](1/123)
«فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء: 11] فبقيت البنتان مسكوتا عنهما. فنقل في السنة حكمهما. وهو إلحاقهما بما فوق البنتين. ذكره القاضي إسماعيل. فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها، فإنه أمر واضح لمن تأمل، وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما أو إليهما معا، فيأخذ من كل منهما بطرف فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما. وأما مجال القياس فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها، وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها. فيجتزي بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه.
وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه، وإن كان خاصا، في حكم العام معنى.
فإذا كان كذلك ووجدنا في الكتاب أصلا وجاءت السنة بما في معناه، أو ما يلحق به، أو يشبهه، أو يدانيه فهو المعنى هاهنا. وسواء علينا أقلنا إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله بالقياس أو بالوحي، إلا أنه جار إفهامنا مجرى المقيس، والأصل الكتاب شامل له. وله أمثلة:
أحدها: أن الله عزّ وجلّ حرم الربا، وربا الجاهلية الذي قالوا فيه إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] هو فسخ الدين في الدين. يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي. وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 279]
فقال عليه السلام: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» «1»
وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه، إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى،
فقال عليه السلام «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فمن زاد وازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» «2»
، ثم زاد على ذلك بيع النّساء إذا اختلفت الأصناف. وعده من الربا لأن
__________
(1)
أخرجه أبو داود في المناسك، باب صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حديث 1905: ... فخطب الناس فقال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وأول دم أضعه دماؤنا: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضعه ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ... » إلخ
. (2) أخرجه مسلم في المساقاة، حديث 82.(1/124)
النّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ويدخل فيه بحكم المعنى «السلف يجر نفعا» . وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه.
لتقارب المنافع فيما يراد منها. فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء، وهو ممنوع. والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة. إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة. وهو الزيادة. ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات، ولم يجز فيهما؟ محل نظر. يخفى وجهه على المجتهدين. وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم. فلذلك بينتها السنة. إذ لو كانت بينة لو كل في الغالب أمرها إلى المجتهدين، كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد.
فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس. فتأمله.
والثاني: أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح، وبين الأختين.
وجاء في القرآن: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] ، فجاء نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذمّ الجمع بين أولئك موجود هنا.
وقد يروى في هذا الحديث «فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» «1» .
والتعليل يشعر بوجه القياس.
والثالث: أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء، وأنه أسكنه في الأرض ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر. فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه
«الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» «2» .
والرابع: أن الدية في النفس، ذكرها الله تعالى في القرآن. ولم يذكر ديات الأطراف. وهي مما يشكل قياسها على العقول. فبيّن الحديث من دياتها ما وضح به السبيل وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره. فلا بد من الرجوع إليه، ويحذى حذوه.
والخامس: أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة من النصف والربع والثمن والثلث والسدس. ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء: 11] الآية وقوله في الأولاد: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11]
__________
(1)
أخرج البخاري في النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها»
. (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، حديث 83..(1/125)
وقوله في آية الكلالة: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ [النساء: 176] . وقوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 176] فاقتضى أن ما بقي، بعد الفرائض المذكورة، فللعصبة.
وبقي من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين، كالجدّ والعم وابن العم وأشباههم.
فقال عليه السلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها. فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» «1»
:
وفي رواية فلأولى عصبة ذكر.
فأتى هذا على ما بقي مما يحتاج إليه، بعد ما نبه الكتاب على أصله.
والسادس: أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء: 23] فألحق النبيّ عليه السلام، بهاتين، سائر القرابات من الرضاعة التي يحرمن من النسب. كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك. وجهة إلحاقها هي جهة الإلحاق بالقياس إذ ذاك، من باب القياس بنفي الفارق. نصّت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبيّ عليه السلام، في ذلك، نظر. وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد،
فقال عليه الصلاة والسلام «إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب» «2»
وسائر ما جاء في هذا المعنى. ثم ألحق بالإناث الذكور، لأن اللبن للفحل. ومن جهة درّ المرأة، فإذا كانت المرأة بالرضاع فالذي له اللبن أم بلا إشكال.
والسابع: أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم. فقال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة: 126] وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت: 67] .
وذلك حرم مكة، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة. ومثله معه. فأجابه الله. وحرم ما بين لابتيها
فقال «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها» «3» .
وفي رواية «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء» «4» .
وفي حديث آخر «فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه.
(2) أخرجه الترمذي في الرضاع، باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
(3) أخرجه مسلم في الحج، حديث رقم 459.
(4) أخرجه مسلم في الحج، حديث رقم 460.(1/126)
الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» «1»
ومثله في صحيفة عليّ المتقدمة. فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة. وقد جاء فيها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم وارتكاب المنهيات على تنوعها. حسبما فسرته السنة. فالمدينة لاحقة في هذا المعنى.
والثامن: أن الله تعالى قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ... الآية [البقرة: 282] فحكم في الأموال بشهادة النساء، منضمة إلى شهادة رجل. وظهر به ضعف شهادتين. ونبّه على ذلك في
قوله: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» «2»
، وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] . دلّ على انحطاطهن عن درجة الرجل. فألحقت السنة، بذلك، اليمين مع الشاهد. فقضى عليه السلام بذلك. لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.. [آل عمران: 77] الآية فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين. أو الشاهد والمرأتين في القياس. إلا أنه يخفى. فبيّنته السنة.
والتاسع: أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله. وذكر الإجارة في بعض الأشياء. كالجعل المشار إليه في قوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [يوسف: 72] . والإجارة على القيام بمال اليتيم في قوله: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] . وفي العمال على الصدقة، كقوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة: 60] . وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها. فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين. فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك كثيرا. ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين. وهذا هو المجال القياسيّ في الشرع. ولا علينا: أقصد النبيّ عليه السلام القياس على الخصوص أم لا؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلوّ في الدين والبدع.
(2) أخرجه البخاري في الحيض، باب ترك الحائض الصوم.(1/127)
لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه، على أي وجه كان.
والعاشر: أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم. في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده. وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين. وكانت رؤيا صادقة. ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا. فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم أحكام ذلك، وأن الرؤيا الصالحة «1» من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوءة. وأنها من المبشرات. وأنها على أقسام. إلى غير ذلك من أحكامها. فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم. وهو المعنى الذي في القياس. والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.
ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة، فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان. فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد، فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد. بناء على صحة الدليل الدّال على أن السنة إنما جاءت مبينة الكتاب. ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية، في طلب معنى
قوله عليه السلام «لا ضرر ولا ضرار» «2»
من الكتاب، ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث. فلا معنى للإعادة.
ومنها النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن. وإن كان في السنة بيان زائد. ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة، لا من جهة أخرى. أو منصوصا عليه في القرآن. ولنمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته. وله أمثلة كثيرة:
أحدها: حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهي حائض «3» .
فقال عليه السلام لعمر «مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر. ثم تحيض ثم تطهر. ثم، إن شاء، أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء»
. يعني أمره في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] .
__________
(1) أخرجه البخاري في التعبير، 2- باب رؤيا الصالحين، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:، و 3- باب الرؤيا من الله، عن أبي قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:، و 4- باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
(2) أخرجه ابن ماجة في الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره حديث 2340.
(3) أخرجه البخاري في الطلاق، باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ.(1/128)
والثاني: حديث فاطمة «1» بنت قيس في أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، إذ طلقها البتة. وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة. لأنها بذت على أهلها بلسانها. فكان ذلك تفسيرا لقوله: وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق: 1] .
والثالث: حديث سبيعة الأسلمية «2» ، إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر. فأخبرها عليه السلام أن قد حلّت. فبيّن الحديث أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] مخصوص في غير الحامل. وأن قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] عامّ في المطلقات وغيرهن.
والرابع: حديث أبي هريرة في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 59] قالوا: حبة في شعرة «3» : يعني عوض قوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ.
والخامس:
حديث «4» جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مكة. طاف بالبيت سبعا.
فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] . فصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه. ثم قال: نبدأ بما بدأ الله به. وقرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ.
والسادس:
حديث «5» النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] . قال «الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية إلى قوله. داخِرِينَ.
والسابع:
حديث «6» عديّ بن حاتم قال: لما نزلت: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم «إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» .
__________
(1) أخرجه مسلم في الطلاق، حديث 36. [.....]
(2) أخرجه البخاري في الطلاق، باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. عن أم سلمة، زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة، كانت تحت زوجها. توفي عنها وهي حبلى ...
(3) أخرجه البخاري في التفسير، سورة البقرة، باب وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ.
(4) أخرجه النسائي في مناسك الحج، باب القول بعد ركعتي الطواف.
(5) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة البقرة، باب حدثنا هناد.
(6) أخرجه البخاري في الصوم، باب قول الله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...(1/129)
والثامن:
حديث سمرة بن جندب، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة الوسطى صلاة العصر» «1»
،
وقال يوم الأحزاب: «اللهم! املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» «2» .
والتاسع:
حديث أبي هريرة قال عليه السّلام: «إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها» «3»
. اقرءوا إن شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 135] .
والعاشر:
حديث أنس في الكبائر. قال عليه السّلام، فيها «الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور» «4» .
وثمّ أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر. وجميعها تفسير لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] الآية.
وهذا النمط في السنة كثير. ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التي تستعلمها العرب أو نحوها. وأول شاهد في هذا، الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللّقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى.
فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم.
ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه، فلم يوف به إلا على التكلف المذكور، والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة، لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة. فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد.
وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التي خرّج مسلم بن الحجاج في كتابه «المسند الصحيح» دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه. وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث.
وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب. والله الموفق للصواب.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، سورة البقرة، باب حدثنا حميد بن مسعدة.
(2) أخرجه البخاري في التفسير، سورة البقرة، باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.
(3) ابن كثير 1/ 435.
(4) أخرجه البخاري في الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر..(1/130)
ثم قال الشاطبيّ: فصل
وقد ظهر، مما تقدم، الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا: إن القرآن لم ينبه عليها.
فقوله عليه السّلام «1»
«يوشك رجل منكم متكئا على أريكته ... إلى آخره»
لا يتناول ما نحن فيه. فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن. وهذا لم ندّعه في مسألتنا هذه. بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى.
وقوله: «ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما حرم الله»
صحيح على الوجه المتقدم. إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه، وإما بالطريقة القياسية، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة. ومرّ الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وعلى العقل. وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال: 72] وهذا فيمن لم يهاجر، إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره، فعلى الغير النصر. والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر.
فهو مما يرجع إلى النظر القياسيّ. وأما أن
«لا يقتل مسلم بكافر» «2»
فقد انتزعها العلماء من الكتاب. كقوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] وقوله: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] وهذه الآية أبعد، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها عليّ خارجة عن القرآن حيث قال: ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. إذ لو كان في القرآن لعدّ الثّنتين، دون قتل المسلم بالكافر. ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم. لأن الله قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة: 178] فلم يقد من الحر العبد. والعبودية من آثار الكفر. فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر. وأما إخفار ذمة المسلم فهو من باب نقض العهد. وهو في القرآن. وأقرب الآيات إليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25]
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه، حديث 12.
(2) أخرجه البخاري في الديات، باب لا يقتل المسلم بالكافر.(1/131)
وفي الآية الأخرى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [البقرة: 27] وقد مرّ تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن. وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل. وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء، الذي هو لحمة كلحمة النسب، كفر لنعمة ذلك الولاء. كما هو في الانتساب إلى غير الأب.. وقد قال تعالى فيها: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72] وصدق هذا المعنى
في الصحيح من قوله «أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم» «1»
،
وفيه «إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة» «2» .
وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرّح به في القرآن، ولا حصل بيانه فيه، فهو مبين في السنة. وإلا فالاجتهاد يقضي عليه. وليس فيه معارضة لما تقدم.
ثم قال الشاطبيّ: حيث قلنا: إن الكتاب دال على السنة، وإن السنة، إنما جاءت مبيّنة له، فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن، أو ما يقتضي ذلك، وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف. وأما ما خرج عن ذلك من الإخبار عما كان أو ما يكون، مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن، فعلى ضربين:
أحدهما: أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن. فهذا لا نظر في أنه بيان له.
كما في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] قال:
«دخلوا يزحفون على أوراكهم»
وفي قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 59] قال: قالوا حبة في شعرة. وفي قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... [البقرة: 143] الآية. قال»
: يدعى نوح فيقال: هل بلغت؟ فيقول:
نعم، فيدعى قومه. فيقال: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد.
فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته. قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلّغ، فذلك قول الله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 122.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 123.
(3)
أخرج البخاري في الاعتصام، باب قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم.
يا رب. فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته. فيجاء بكم فتشهدون» .
[.....](1/132)
وفي قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] .
قال «إنكم تتبعون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» «1» .
وفي قوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ،
«إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، إلى آخر الحديث» «2» .
وقال: «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل....
الآية: الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها» «3» .
وفي قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:
172] الآية.
قال: «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك» «4» الحديث.
وفي قوله: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80]
قال: «يرحم الله لوطا، كان يأوي إلى ركن شديد. فما بعث الله من بعده نبيّا إلا في ذروة من قومه» «5» .
وقال: «الحمد لله أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني» «6» .
وفي رواية: «ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أمّ القرآن وهي السبع المثاني» «7» .
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/ 3 عن بهز عن أبيه عن جده قال: سمعت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا إنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل»
. (2) أخرجه مسلم في الإمارة، حديث 121.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 249.
(4) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأعراف.
(5)
أخرجه الترمذي في التفسير، سورة يوسف. حدثنا الحسين بن حريث الخزاعي. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» قال: «ولو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت» . ثم قرأ:
فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. قال:
«ورحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ. فما بعث الله من بعده نبيّا إلا في ذروة من قومه» .
(6) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب فاتحة الكتاب.
(7) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.(1/133)
وسأله اليهود عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] ففسرها لهم «1» .
وحديث «2» موسى مع الخضر ثابت صحيح.
وفي قوله تعالى: فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] .
قال: «لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث: قوله إني سقيم..» «3» الحديث.
وقال: «إنكم محشورون إلى الله عراة غرلا» «4» . ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ... [الأنبياء: 104] الآية.
وفي قوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] .
قال: «ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار ... » «5» الحديث.
وقال: «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» «6»
. وأمثلة هذا الضرب كثيرة.
والثاني: أن لا يقع موقع التفسير، ولا فيه معنى تكليف اعتقاديّ أو عمليّ. فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن. لأنه أمر زائد على موقع التكليف، وإنما أنزل القرآن
__________
(1)
أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الإسراء، حدثنا محمود بن غيلان، عن صفوان بن عسال أن يهوديين، قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله. فقال: لا تقل نبي. فإنه إن سمعها تقول نبي كانت له أربعة أعين. فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشركوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف. وعليكم، يا معشر اليهود خاصة، لا تعدوا في السبت» فقبّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكما أن تسلما» ؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي. وإنا نخاف، إن أسلمنا، أن تقتلنا اليهود
. (2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.
(4)
أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا» ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ.
(5)
أخرج الترمذي في التفسير، سورة الحج، باب حدثنا ابن أبي عمر: عن عمران بن حصين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما نزلت: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
. قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر. فقال «أتدرون أي يوم ذلك» ؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال «ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. فقال: يا رب، وما بعث النار ... ؟ إلخ الحديث»
. (6) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الحج، باب حدثنا محمد بن إسماعيل.(1/134)
لذلك. فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج. وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح. كحديث «1» أبرص وأقرع وأعمى، وحديث «2» جريج العابد، ووفاة موسى «3» . وجمل من قصص الأنبياء، عليهم السلام، والأمم قبلنا، مما لا ينبني عليه عمل. ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآنيّ. وهو نمط ربما رجع إلى الترغيب والترهيب. فهو خادم للأمر والنهي، ومعدود في المكملات لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول. والله أعلم.
11- قاعدة في أنه: هل في القرآن مجاز أم لا؟
قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتاب «الإيمان» :
فإن قيل: ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كلّ أحد، بيّن ظاهر لا يمكن دفعه. لكن نقول: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز،
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وستون- أو بضع وسبعون- شعبة. أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
مجاز. وقوله «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ... إلى آخره» حقيقة. وهذا عمدة المرجئة، والجهمية، والكرامية، وكلّ من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان. ونحن نجيب بجوابين:
أحدهما كلام عامّ في لفظ الحقيقة والمجاز، والثاني ما يختص بهذا الموضع.
فبتقدير أن يكون أحدهما مجازا، ما هو الحقيقة من ذلك من المجاز؟ هل الحقيقة هو المطلق أو المقيّد؟ أو كلاهما حقيقة؟ حتى يعرف أنّ لفظ الإيمان إذا أطلق، على ماذا يحمل؟ فيقال أولا: تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى حقيقة ومجاز،
__________
(1)
أخرج البخاري في الأنبياء، حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل. عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم ... إلخ» الحديث.
[.....] (2)
أخرج البخاري في العمل في الصلاة، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نادت امرأة ابنها، وهو في صومعة، قالت: يا جريج. قال: اللهم، أمي وصلاتي. قالت: يا جريج. قال: اللهم أمي وصلاتي. قالت: يا جريج. قال: اللهم، أمي وصلاتي.
قالت: اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم. فولدت. فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج. نزل من صومعته. قال جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قال: يا بابوس، من أبوك؟ قال: راعي الغنم.
(3) أخرج البخاري في الأنبياء، باب وفاة موسى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام. فلما جاءه صكه ... إلخ الحديث.(1/135)
أو تقسيم دلالتها، أو المعاني المدلول عليها، إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدالة، فإنّ هذا كلّه قد يقع في كلام المتأخرين. ولكنّ المشهور أنّ الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ. وبكلّ حال، فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة. لم يتكلم به أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم: كمالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، وأبي حنيفة والشافعيّ، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو: كالخليل، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء ... ونحوهم.
وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز، أبو عبيدة معمر بن المثنّى في كتابه.
ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى، بمجاز الآية، بما يعبّر به عن الآية. ولهذا، قال: من قال من الأصوليين كأبي الحسين البصريّ وأمثاله: إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق: منها نص أهل اللغة على ذلك، بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز- فقد تكلم بلا علم. فإنه ظنّ أنّ أهل اللغة قالوا هذا. ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها. وإنما هذا اصطلاح حادث، والغالب أنّه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين. فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرّد الكلام في أصول الفقه، ولم يقسم هذا التقسيم، ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنيّة على العربية كلام معروف في الجامع الكبير وغيره، ولم يتكلم بلفظ الحقيقة، والمجاز. وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلّا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب «الردّ على الجهمية» في قوله: إنّا، ونحن، ونحو ذلك في القرآن:
هذا من مجاز اللغة. يقول الرجل: إنا سنعطيك، إنا سنفعل، فذكر أن هذا من مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في القرآن مجازا: كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب، وغيرهم. وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز: كأبي الحسن الجزريّ، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي الفضل التميميّ بن أبي الحسن التميميّ. وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز، محمد بن جرير مندار وغيره من المالكية، ومنع منه داود بن عليّ، وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلّوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد- في ذلك- روايتين. وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم، ولا من قدماء أصحاب أحمد: إنّ في القرآن مجازا- لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة. فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجا(1/136)
إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة، وما علمته موجودا في المائة الثانية. اللهم إلا أن يكون في أواخرها. والذين أنكروا أن يكون أحمد أو غيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا: إن معنى قول أحمد «من مجاز اللغة» أي: مما يجوز في اللغة، أي يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا أو نفعل كذا ونحو ذلك. قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أنّ اللفظ استعمل في غير ما وضع له.
وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز، لا في القرآن ولا غيره. كأبي إسحاق الأسفرائينيّ. وقال المنازعون له: النزاع معه لفظيّ، فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلّا بقي منه. فهذا هو المجاز، وإن لم تسمه مجازا. فيقول من ينصره: إن الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز، قالوا:
الحقيقة هو اللفظ المستعمل في ما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له- كلفظ الأسد والحمار، إذا أريد بهما البهيمة، أو أريد بهما الشجاع والبليد- وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولا لمعنى، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه، وقد يستعمل في غير موضوعه. ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم، أن كلّ مجاز فلا بد له من حقيقة، وليس لكل حقيقة مجاز. فاعترض عليهم بعض متأخريهم، وقال: اللفظ الموضوع قبل للاستعمال لا حقيقة ولا مجاز. فإذا استعمل في غير موضوعه فهو مجاز لا حقيقة له. وهذا كله إنما يصح أنْ لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان، ثم بعد ذلك استعملت فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية، فيدّعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا، وهكذا بكذا، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائيّ. فإنه وأبا الحسن الأشعريّ، كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي. لكن الأشعريّ رجع عن مذهب المعتزلة، وخالفهم في القدر والوعيد، وفي الأسماء والأحكام، وفي صفات الله تعالى. وبيّن من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه. فتنازع الأشعريّ وأبو هاشم. وقال الأشعريّ: هي توقيفية. ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة، فقال آخرون:
بعضها توقيفيّ، وبعضها اصطلاحيّ. وقال فريق رابع: بالوقف.
«والمقصود هنا: أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب، بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع. وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما(1/137)
عنوه بها من المعاني. فإن ادعى مدّع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه- إن لم يكن اصطلاح متقدم- لم يمكن الاستعمال. قيل: ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض، وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] ، وفي قوله: «قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النمل: 18] ، وفي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] . وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه، أو من يربيه، ينطق باللفظ، ويشير إلى المعنى، فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى- أي أراد المتكلم به ذلك المعنى- ثم هذا يسمع لفظا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم. بل ولا فقهوه على معاني الأسماء. وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها. كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها، وإن باشر أهلها مدة، علم ذلك بلا توقيف من أحد. نعم، قد يضع الناس الاسم لما يحدث، مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه، كما يولد لأحدهم فيسميه اسما إما منقولا أو مرتجلا. وقد يكون المسمّي واحدا لم يصطلح مع غيره. وقد يستوون فيما يسمونه. وكذلك قد يحدث الرجل آلة من صناعة، أو يصنّف كتابا، أو يبني مدينة. ونحو ذلك فيسميه باسم، لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 1- 4] ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 2- 3] وهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره. وهو سبحانه، إذا كان قد علّم آدم الأسماء كلها، وعرض المسميات على الملائكة- كما أخبر بذلك في كتابه-. فنحن نعلم أنه لم يعلّم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة، وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلّمون إلا بها ...
فإن دعوى هذا كذب ظاهر ... ! فإن آدم، عليه السلام، إنما ينقل عنه بنوه. وقد أغرق الله، عام الطوفان، جميع ذريته إلا من في السفينة. وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولاد نوح. ولم يكونوا يتكلّمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم. فإن اللغة الواحدة: كالفارسية، والعربية، والرومية، والتركية.. فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله. والعرب أنفسهم، لكلّ قوم لغات لا يفهمها غيرهم. فكيف يتصور(1/138)
أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة؟ وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل، وإنما النسل لنوح، وجميع الناس من أولاده، وهم ثلاثة: سام وحام ويافث. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] فلم يجعل باقيا إلا ذريته. وكما
روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أولاده ثلاثة» رواه أحمد وغيره.
ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله، ويمتنع نقل ذلك عنهم! فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه. وإذا كان الناقل ثلاثة منهم قد علّموا أولادهم، وأولادهم قد علّموا أولادهم، ولو كان كذلك لاتصلت. ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى. والأب الواحد لا يقال إنه علم أحد ابنيه لغة، وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان، واللغات في أولاده أضعاف ذلك. والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم، أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها، أو يخاطبهم بها غيرهم. فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلّمونها أولادهم، وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها آدم قولان معروفان عن السلف:
أحدهما: أنه إنما علمه أسماء من يعقل، واحتجّوا بقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة: 31] قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل. وما لا يعقل يقال فيها: علمها. ولهذا قال أبو العالية: «علّمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة، ولم يكن له ذرية، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية» . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «علّمه أسماء ذريته» . وهذا يناسب
الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم، فرأى فيهم من يبص، فقال: يا ربّ! من هذا؟
قال: ابنك داود» «1» .
فيكون قد أراه صور ذريته، أو بعضهم، أو أسماءهم. وهذه أسماء أعلام لا أجناس.
الثاني: أنّ الله علمه أسماء كل شيء. وهذا قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه. قال ابن عباس: «علمه حتى الفسوة والفسيّة والقصعة والقصيعة» أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبّرها ومصغّرها. والدليل على ذلك، ما
ثبت في
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأعراف.(1/139)
الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في حديث الشفاعة «1» : «إن الناس يقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء»
. وأيضا قوله: «الأسماء كلّها» . لفظ عام مؤكد، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى.
وقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل، فغلب من يعقل. كما قال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45] . قال عكرمة: «علّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك: إنسان، وجن، وملك، وطائر» . وقال مقاتل بن السائب. وابن قتيبة: «علّمه أسماء ما خلق في الأرض من: الدواب، والهوامّ، والطير» .
ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقّاة عن آدم، أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية. ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان. بل إنما يستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه السلام علمه الجميع لعلمها متناسبة. وأيضا، فكل أمة، ليس لها كتاب، ليس في لغتها أيام الأسبوع، إنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة، لأن ذلك عرف بالحس والعقل، فوضعت له الأمم الأسماء، لأن التعبير يتبع التصوّر. وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع، لم يعرف- أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش- إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه، ويحفظون به الأسبوع الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم. ففي لغة العرب والعبرانيين ومن تلقى عنهم أيام الأسبوع، بخلاف الترك ونحوهم، فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبّروا عنه.
فعلم أن الله تعالى ألهم النوع الإنسانيّ أن يعبّر عما يريده ويتصوّره بلفظه.
وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم، وهم علموا كما علّم، وإن اختلفت اللغات. وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية، وإلى محمد بالعربية، والجميع كلام الله. وقد بيّن الله من ذلك ما أراد من خلقه وأمره، وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى، مع أن العبرانية من
__________
(1)
أخرج البخاري في التوحيد، باب قوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة ... » إلخ.(1/140)
أقرب اللغات إلى العربية، حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض.
فبالجملة: نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك، بل يكفينا أن يقال:
هذا غير معلوم وجوده، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة.
وإذا سمّي هذا توقيفا، فليسمّى توقيفا، وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم به، وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال.
ثم هؤلاء يقولون: تتميّز الحقيقة من المجاز بالاكتفاء باللفظ، فإذا دل اللفظ بمجرّده فهو حقيقة، وإذا لم يدل إلا مع القرينة فهو مجاز. وهذا أمر متعلق باستعمال اللفظ في المعنى لا بوضع متقدم.
ثم يقال ثانيا: هذا التقسيم لا حقيقة له، وليس لمن فرّق بينهما حدّ صحيح يميز به بين هذا وهذا. فعلم أن هذا التقسيم باطل، وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول: بل يتكلم بلا علم، فهم مبتدعة في الشرع، مخالفون للعقل. وذلك أنهم قالوا: الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له، احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال. وهذا يتعذّر. ثم هم يقسمون الحقيقة إلى: لغوية وعرفية، وأكثرهم يقسمها إلى ثلاث: لغوية وشرعية وعرفية. فالحقيقة هي ما صار اللفظ فيها دالا على المعنى بالعرف لا باللغة. وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغويّ، وتارة أخصّ، وتارة لا يكون مباينا له، لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها. (فالأول) مثل لفظ: الرقبة والرأس ونحوهما. كان يستعمل في العضو المخصوص، ثم صار يستعمل في جميع البدن. (والثاني) مثل:
الدابة ونحوها. كان يستعمل في كل ما دبّ، ثم صار يستعمل، في عرف بعض الناس، في ذوات الأربع. وفي عرف بعض الناس، في الفرس. وفي عرف بعضهم، في الحمار. و (الثالث) مثل لفظ: الغائط، والظعينة، والراوية، والمزادة. فإن الغائط- في اللغة- هو المكان المنخفض من الأرض. فلما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم، سمّوا ما يخرج من الإنسان باسم محلّه. والظعينة اسم للدابة، ثم سموا المرأة التي تركبها باسمها، ونظائر ذلك. والمقصود: أن هذه الحقيقة العرفية لم تصر حقيقة لجماعة تواطؤوا على نقلها، ولكن تكلم بها بعض الناس وأراد بها ذلك المعنى العرفيّ. ثمّ شاع الاستعمال فصارت حقيقة عرفية بهذا الاستعمال. ولهذا زاد، من زاد منهم، في حد الحقيقة: في اللغة التي بها التخاطب، ثم هم يعلمون ويقولون: إنه قد يغلب(1/141)
الاستعمال على بعض الألفاظ، فيصير المعنى أشهر فيه، ولا يدل عند الإطلاق إلا عليه، فتصير الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية. واللفظ مستعمل في هذا الاستعمال الحادث العرفيّ، وهو حقيقة من غير أن يكون لما استعمل فيه ذلك تقدم وضع. فعلم أن تفسير الحقيقة بهذا لا يصح، وإن قالوا: يعني، بما وضع له، ما استعملت فيه أولا. فيقال: من أين يعلم أن هذه الألفاظ التي كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله، لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر؟ وإذا لم يعلموا هذا النفي، فلا تعلم أنها حقيقة، وهذا خلاف ما اتفقوا عليه. وأيضا فيلزم من هذا أن لا يقطع بشيء من الألفاظ أنه حقيقة، وهذا لا يقوله عاقل. ثم هؤلاء الذين يقولون هذا نجد أحدهم يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلّا مقيّدة، فينطق بها مجردة عن جميع القيود، ثمّ يدعي أنّ ذلك هو حقيقتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجرّدة، ولا وضعت مجرّدة. مثل أن يكون حقيقة العين هو العضو المبصر، ثم سميت به عين الشمس، والعين النابعة، والعين الذهب، للمشابهة. لكنّ أكثرهم يقولون: إنّ هذا من باب المشترك، لا من باب الحقيقة والمجاز، فيمثل بغيره مثل لفظ الرأس. يقولون: هو حقيقة في رأس الإنسان. ثم قالوا: رأس الدرب- لأوّله-، ورأس العين- لمنبعها-، ورأس القوم- لسيدهم-، ورأس الأمر- لأوله-، ورأس الشهر، ورأس الحول ... وأمثال ذلك على طريق المجاز. وهم لا يجدون قط أنّ لفظ الرأس استعمل مجردا، بل يجدون أنه استعمل بالقيود في رأس الإنسان، كقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ، ونحوه. وهذا القيد يمنع أن يدخل فيه تلك المعاني. فإذا قيل: رأس العين، ورأس الدرب، ورأس الناس، ورأس الأمر....، فهذا المقيد غير ذاك المقيد، ومجموع اللفظ الدال هنا غير مجموع اللفظ الدال هناك، لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك كل الأسماء المعرّفة في لام التعريف. ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس الإنسان أولا، لأن الإنسان يتصور رأسه قبل غيره، والتعبير أولا هو عما يتصوره أولا. فالنطق بهذا المضاف أولا لا يمنع أن ينطق بمضاف إلى غيره ثانيا، ولا يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات. فإذا قيل: ابن آدم، أولا، لم يكن قولنا، ابن الفرس وابن الحمار، مجازا.
وكذلك إذا قيل: بنت الإنسان، لم يكن قولنا بنت الفرس- مجازا. وكذلك إذا قيل:
رأس الإنسان أولا، لم يكن قولنا رأس الفرس- مجازا. وكذلك في سائر المضافات، إذا قيل: يده أو رجله. فإذا قيل: هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان. قيل: ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما أضيف إلى رأس الإنسان، ثم يضاف(1/142)
إلى ما يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم يخطر ببال عامّة الناطقين باللغة. فإذا قيل: إنه حقيقة في هذا، فلماذا لا يكون حقيقة في رأس الجبل، والطريق، والعين؟ وكذلك سائر ما يضاف إلى الإنسان من أعضائه وأولاده ومساكنه، يضاف مثله إلى غيره، ويضاف ذلك إلى الجمادات، فيقال: رأس الجبل، ورأس العين، وخطم الجبل- أي أنفه- وفم الوادي، وبطن الوادي، وظهر الجبل، وبطن الأرض وظهرها، ويستعمل مع الأنف، وهو لفظ الظاهر والباطن في أمور كثرة.
والمعنى في الجميع: أنّ الظاهر لما ظهر فتبيّن، والباطن لما بطن فخفي.
وسمي ظهر الإنسان ظهرا لظهوره، وبطن الإنسان بطنا لبطونه، فإذا قيل: إن هذه حقيقة، وذاك مجاز، لم يكن هذا أولى من العكس. وأيضا من الأسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردا، كلفظ الإنسان ونحوه. ثم قد يستعمل مقيدا بالإضافة- كقولهم:
إنسان العين، وإبرة الذراع، ونحو ذلك- وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز، فقد ادعى بعضهم أن هذا من المجاز، وهو غلط، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا، وهذا لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر، فصار وضعا آخر بالإضافة، فلو استعمل مضافا في معنى، ثم استعمل بتلك الإضافة في غيره، كان مجازا. بل إذا كان (بعلبك وحضرموت ونحوهما) مما يركب تركيب مزج- بعد أن كان الأصل فيه الإضافة- لا يقال: إنه مجاز، فما لم ينطق به إلّا مضافا أولى أن لا يكون مجازا. وأما من فرّق بين الحقيقة والمجاز، بأن الحقيقة: ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن، والمجاز: ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينة أو قال: الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق، والمجاز ما لا يفيد إلا مع التقييد. أو قال: الحقيقة هو المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، والمجاز ما لا يسبق إلى الذهن. أو يقال:
المجاز ما صح نفيه، والحقيقة ما لم يصح نفيها. فإنه يقال: ما تعني بالتجريد عن القرائن، والاقتران بالقرائن؟ إن عنى بذلك: القرائن اللفظية، مثل كون الاسم يستعمل مقرونا بالإضافة، أو لام التعريف، ويقيد بكونه فاعلا ومفعولا ومبتدأ وخبرا، فلا يوجد قط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدا. وكذلك الفعل، إن عنى بتقييده أنه لا بد له من فاعل. وقد يقيد بالمفعول به، وظرفي الزمان والمكان، والمفعول له ومعه، والحال، فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدا، وأما الحرف فأبلغ، فإن الحرف أتى به لمعننى في غيره. ففي الجملة لا يوجد قط- في كلام تام- اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدا بقيود تزيل عنه الإطلاق. فإن كانت القرينة ما يمنع الإطلاق عن كل قيد، فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد، سواء كانت(1/143)
الجملة اسمية أو فعلية. فلهذا كان لفظ الكلام والكلمة في لغة العرب- بل وفي لغة غيرهم- لا تستعمل إلا في المقيد وهو الجملة التامة- اسميّة كانت أو فعلية أو ندائية- إن قيل إنها قسم ثالث. فأما مجرّد الاسم والفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، فهذا لا يسمي في كلام العرب قط كلمة، وإنما تسمية هذا (كلمة) اصطلاح نحويّ- كما سمّوا بعض الألفاظ (فعلا) وقسّموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر- والعرب لم تسمّ قط اللفظ فعلا، بل النحاة اصطلحوا على هذا فسمّوا اللفظ باسم مدلوله: فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سمّوه فعلا ماضيا ... وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة، بل وفي كلام العرب- نظمه ونثره- لفظ كلمة، فإنما يراد به المفيد التي تسمّيها النحاة جملة تامة، لقوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 4- 5] ، وقوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [التوبة: 40] ، وقوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] ، وقوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] ، وقوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح: 26] .
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل» «1»
،
وقوله: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» «2»
،
وقوله: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» «3» ، وقوله: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» «4» .
وإذا كان كل اسم وفعل وحرف يوجد في الكلام فإنه مقيّد لا مطلق لم يجز أن يقال: اللفظ الحقيقة ما دلّ مع الإطلاق والتجرّد عن كل قرينة تقارنه.
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ.
(3) أخرجه الترمذي في الزهد، باب في قلة الكلام.
(4) أخرجه مسلم في الذكر، حديث 79.(1/144)
فإن قيل: أريد بعض القرائن دون بعض. قيل له: اذكر الفصل بين القرينة التي يكون معها حقيقة، والقرينة التي يكون معها مجاز، ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقديره على تقسيم صحيح معقول. ومما يدلّ على ذلك، أن الناس اختلفوا في العام إذا خصّ هل يكون استعماله فيما بقي حقيقة أو مجازا؟ وكذلك لفظ الأمر إذا أريد به الندب هل يكون حقيقة أو مجازا؟ وفي ذلك قولان لأكثر الطوائف: لأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعيّ قولان، ولأصحاب مالك قولان. ومن الناس من ظنّ أنّ هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل- كالصفة والشرط والغاية والبدل- وجعل يحكي في ذلك أقوال من يفصل، كما يوجد في كلام طائفة من المصنّفين في أصول الفقه، وهذا مما لم يعرف أن أحدا قاله، فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والشروط مجازا. بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خصّ يصير مجازا، ظنّ هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل، وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص إلّا إذا خصّ بمنفصل، وأما المتّصل فلا يسمّون اللفظ عاما مخصوصا، فإنه لم يدلّ إلّا متصلا، والاتصال منعه العموم. وهذا اصطلاح كثير من الأصولين، وهو الصواب. لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما: أنه داخل فيما خصّ من العموم، ولا في العام المخصوص، لكن يقيد، فيقال: تخصيص متصل، وهذا المقيّد لا يدخل في التخصيص المطلق.
وبالجملة فيقال: إذا كان هذا مجازا فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به، وبظرف الزمان والمكان- مجازا. وكذلك بالحال، وكذلك كلّ ما قيّد بقيد، فيلزم أن يكون الكلام كلّه مجازا، فأين الحقيقة؟
فإن قيل: يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة، فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة، وما كان من المنفصلة كان مجازا. قيل: تعني بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب؟ فإن عنيت الأول أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا- قرينة منفصلة. فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهو عند المسلمين رسول الله، أو قال الصديق وهو عندهم أبو بكر. وإذا قال الرجل لصاحبه: اذهب إلى الأمير أو القاضي أو الوالي- يريد ما يعرفانه أن يكون مجازا. وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور كقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان: 3] وقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] وأمثال ذلك- أن يكون هذا مجازا. وهذا لا يقوله أحد.(1/145)
وأيضا فإذا قال لشجاع: هذا الأسد فعل اليوم كذا. أو لبليد: هذا الحمار قال اليوم كذا. أو لعالم، أو جواد: هذا البحر جرى منه اليوم كذا- أن يكون حقيقة، لأن قوله هذا قرينة لفظية، فلا يبقى قط مجازا. وإن قال: المتصل أعم من ذلك. وهو ما كان موجودا حين الخطاب. قيل له: فهذا أشد عليك من الأول. فإن كلّ متكلم بالمجاز لا بد أن يقترن به حال الخطاب ما بيّن مراده، وإلا لم يجز التكلم به. فإن قيل: أنا أجوّز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقف الحاجة. قيل: أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى، وهو لا يريد ذلك المعنى إلّا إذا بيّن. وإنما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات. ثم نقول: إذا جوزت تأخير البيان، فالبيان قد يحصل بجملة تامة، وبأفعال من الرسول وبغير ذلك. ولا يكون البيان المتأخر إلا مستقلا بنفسه. لا يكون مما يجب اقترانه بغيره. فإن جعلت هذا مجازا لزم أن يكون ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا. كقوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] ، ثم يقال: هب أن هذا جائز عقلا، لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا، وجميع ما يذكر من ذلك باطل كما قد بسط في موضعه. فإن الذين قالوا: الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه، احتجوا بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] ، وادعوا أنها كانت معيّنة، وأخّر بيان التعيين. وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من أنهم أمروا ببقرة مطلقة. فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها أجزأ عنهم. ولكن شددوا فشدد الله عليهم. والآية نكرة في سياق الإثبات، فهي مطلقة. والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمّهم على السؤال بما هي؟ ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين. ثم إن مثل هذا لم يقطع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشيء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة، ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء.
واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج. وأن هذه ألفاظ لها معاني في اللغة. بخلاف الشرع. وهذا غلط. فإن الله إنما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا ما المأمور به. وكذلك الصيام. وكذلك الحج. ولم يؤخر الله قط بيان شيء من هذه المأمورات. ولبسط هذه المسألة موضع آخر. وأما قول من يقول: إن الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، فمن أفسد الأقوال. فإنه لا يقال: إذا كان اللفظ لم ينطق به إلا مقيدا فإنه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع.
وأما إذا أطلق فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط. فلم يبق له حال إطلاق محض، حتى يقال: إن الذهن يسبق إليه أم لا. وأيضا، فأي ذهن؟ فإن العربيّ الذي يفهم(1/146)
كلام العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطيّ الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها. ومن هنا غلط كثير من الناس. فإنهم قد تعودوا ما اعتادوه. إما من خطاب عامتهم، وإما من خطاب علمائهم، باستعمال اللفظ في معنى. فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى، فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة. وهذا مما دخل به الغلط على طوائف. بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ. فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله. لا بما حدث بعد ذلك. وأيضا، فقد بيّنا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث إلا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شيء آخر. كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع. فقد بين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود لا يوجد إلا مقدّرا في اللسان. لا موجودا في الكلام المستعمل. كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود، لا يوجد إلا مقدّرا في الذهن. لا يوجد في الخارج شيء موجود خارج عن كل قيد. ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وإن التصور هو تصور المعنى الساذج الحالي عن كل قيد- لا يوجد.
وكذلك ما يدعونه من البسائط التي تتركب منها الأنواع. وأنها أمور مطلقة عن كل قيد- لا توجد. وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتيّ- لا يوجد. فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغي معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم. فإنه بسبب ظن وجودها ضلّ طوائف في العقليات والسمعيات.
بل إذا قال العلماء: مطلق ومقيّد، إنما يعنون به مطلق من ذلك القيد ومقيّد بذلك القيد. كما يقولون: «الرقبة» مطلقة في آية كفارة اليمين، ومقيدة في آية القتل. أي مطلقة عن قيد الإيمان. وإلا فقد قيل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة: 3] ، فقيدت بأنها رقبة واحدة. وأنها هي موجودة. وأنها تقبل التحرير. والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة، ولا وجود ولا عدم، ولا غير ذلك. بل هو الحقيقة من حيث هي هي. كما يذكره الرازيّ تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة. وقد بسطنا الكلام في هذا الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا. وبينا من غلط هؤلاء في ذلك ما ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا الإطلاق اللفظيّ. وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد. وهذا لا وجود له. وحينئذ فلا يتكلم أحد إلا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض.(1/147)
فتكون تلك القيود ممتنعة الإطلاق.
فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن التمييز بين نوعين. فعلم أن هذا التقسيم باطل. وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله، فإنه مقيّد بما يبين معناه. فليس في شيء من ذلك مجاز. بل كله حقيقة.
ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا، وذكروا ما يشهد لهم، رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه. فمن أشهر ما ذكروه قوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] ، قالوا: والجدار ليس بحيوان والإرادة إنما تكون للحيوان.
فاستعمالها في ميل الجدار مجاز.
فقيل لهم: لفظ الإرادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور. وهو ميل الحيّ. وفي الميل الذي لا شعور فيه. وهو ميل الجماد. وهو من مشهور اللغة. يقال:
هذا السقف يريد أن يقع. وهذه الأرض تريد أن تحرث. وهذا الزرع يريد أن يسقى.
وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل. وأمثال ذلك. واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا، فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما، مجازا في الآخر، أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا، أو حقيقة في القدر المشترك بينهما. وهي الأسماء المتواطئة وهي الأسماء العامة كلها. وعلى الأول يلزم المجاز. وعلى الثاني يلزم الاشتراك. وكلاهما خلاف الأصل. فوجب أن يجعل من المتواطئة. وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها. وإلا فلو قال قائل في ميل الجماد:
حقيقة، وفي ميل الحيوان: مجاز، لم يكن بين الدعويين فرق، إلا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان. لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد ميل الجماد. والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلّي عام. لا يوجد كليّا عاما إلا في الذهن. وهو مورد التقسيم بين الأنواع. لكن ذلك المعنى العام الكليّ كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه. لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج. وإلى ما يوجد في القلوب في العادة. وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره، لا يوجد في الذهن مجردا. بخلاف لفظ الإنسان والفرس، فإنه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان، ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة، ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام. فإن هذا لا يوجد في اللغة لفظ مطلق يدل عليه. بل لا يوجد لفظ الإرادة إلا مقيدا بالمريد. ولا لفظ العلم إلا مقيدا بالعالم، ولا لفظ القدرة إلا مقيدا بالقادر. بل وهكذا سائر الأعراض، لمّا لم توجد إلا في محالها مقيدة بها، لم يكن في اللغة لفظ إلا كذلك. فلا يوجد في اللغة لفظ(1/148)
السواد والبياض والطول والقصر إلا مقيدا بالأسود والأبيض والطويل والقصير. ونحو ذلك. لا مجردا عن كل قيد. وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة. لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يريدون به من القدر المشترك.
ومنه قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] ، فإن من الناس من يقول: الذوق حقيقة في الذوق بالفم. واللباس مما يلبس على البدن.
وإنما استعير هذا وهذا. وليس كذلك بل قال الخليل: الذوق في لغة العرب هو وجود طعم الشيء. والاستعمال يدل على ذلك. قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21] ، وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ، وقال: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق: 9] ، وقال: قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30] ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر: 37] ، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ، لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ: 24- 25] ،
وقال النبي: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» «1»
وفي بعض الأدعية: أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. فلفظ الذوق يستعمل في كل ما يحس به ويجد ألمه أو لذته، فدعوى المدعى اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم- تحكم منه. لكن ذاك مقيد. فيقال: ذقت الطعام وذقت هذا الشراب. فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم. وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسّه الإنسان بباطنه أو بظاهره، حتى الماء الحميم، يقال: ذاقه. فالثوب إذا كان باردا أو حارا، يقال: ذقت حره وبرده. وأما لفظ اللباس، وهو مستعمل في كل ما يغشى الإنسان فيلتبس به. قال تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [النبأ: 10] ، وقال: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] ، وقال: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] . ومنه يقال: لبس الحق بالباطل، إذا خلط به حتى غشاه فلم يتميز. فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع، نفسه وبدنه، وكذلك الخوف الذي يلبس البدن، لو قيل: فأذاقها الله الجوع والخوف، لم يدل ذلك على أنه شامل بجميع أجزاء الجائع. بخلاف ما إذا قيل: لباس الجوع والخوف. ولو قال: فألبسهم- لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم، إلا بالعقل. من حيث إنه يعرف الجائع الخائف يألم. بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف. فإن هذا اللفظ يدل على الإحساس بالمؤلم. وإذا أضيف إلى الملذ دلّ على
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 56.(1/149)
الإحساس به.
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيّا» .
فإن قيل: فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق؟ قيل: لأن الذوق يدل على جنس الإحساس. ويقال: ذاق الطعام لمن وجد طعمه وإن لم يأكله. وأهل الجنة نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق. بل استعمل لفظ الذوق في النفي. كما قال عن أهل النار: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً [النبأ: 24] أي لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق. وقال عن أهل الجنة: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] .
وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن: لفظ المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله. وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله، عن طريق المجاز. وليس كذلك. بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له.
وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجنيّ عليه، عقوبة بمثل فعله- كانت عدلا. كما قال تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ، فكاد له كما كادت إخوته، لما قال له أبوه: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] .
وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق: 15- 16] ، وقال:
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: 50- 51] ، وقال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] . ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم. كما روي عن ابن عباس: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق. ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون إليه فيغلق. فيضحك منهم المؤمنون. قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 34- 36] . وعن الحسن البصريّ: إذا كان يوم القيامة خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة. فيمشون. فيخسف بهم. وعن مقاتل: إذا ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة. فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. وقال بعضهم: استهزاؤه استدراجه لهم. وقيل: إيقاع استهزاء بهم وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة. وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه. وهذا كله حق. وهو استهزاء بهم حقيقة. وفي بعض الآثار: أن الله سبحانه يأمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا رأوها وشاهدوا ما فيها من الكرامة، قال الله لملائكته: اصرفوهم عنها. لا(1/150)
حظّ لهم فيها. قالوا: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون في عذابنا. قال الله: ذلك أردت بكم. إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين متواضعين، وإذا خلوتم بارزتموني بالعظائم. أجللتم الناس ولم تجلّوني. وعظمتم الناس ولم تعظموني. وخفتم الناس ولم تخافوني. فاليوم أذيقكم أليم عذابي كما حرمتكم جزيل ثوابي. ذكره ابن أبي الدنيا وغيره.
ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] المراد به أهلها. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فقيل لهم: لفظ القرية والمدينة والنهر والميراث وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحل، وكلاهما داخل في الاسم، ثم قد يعود الحكم على الحال، وهو السكان.
وتارة على المحل، وهو المكان، وكذلك في النهر يقال: حفرت النهر، وهو المحل.
وجرى النهر، وهو الماء. ووضعت الميزاب، وهو المحل. وجرى الميزاب، وهو الماء. وكذلك القرية. قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل: 112] وقوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الأعراف: 4- 5] ، وقال في آية أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ [الأعراف: 97] فجعل القرى هم السكان. وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] ، وهم السكان. وكذلك قوله:
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف: 59] ، وقال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة: 259] ، فهذا المكان، لا السكان. لكن لا بد أن يلحظ أنه كان مسكونا. فلا يسمى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى. فمأخوذ من القرى وهو الجمع. ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه. ونظير ذلك لفظ الإنسان يتناول الجسد والروح. ثم الأحكام يتناول هذا تارة وهذا تارة لتلازمهما. فكذلك القرية، إذا عذب أهلها خربت. وإذا خربت كان عذابا لأهلها. فما يصيب أحدهما من الشر ينال الآخر. كما ينال البدن والروح ما يصيب أحدهما. فقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، مثل قوله: قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل: 112] ، فاللفظ هنا يراد (به) السكان من غير إضمار ولا حذف. فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز، فلا مجاز في القرآن.
بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث. لم ينطق به السلف.
والخلف فيه على قولين. وليس النزاع فيه لفظيا. بل يقال نفس هذا التقسيم باطل.(1/151)
لا يتميز هذا عن هذا. ولهذا كان كل ما يذكرونه من الفروق يبين أنها فروق باطلة.
وكلما ذكر بعضهم فرقا أبطله الثاني. كما يدعي المنطقيون أن الصفات القائمة بالموصوفات تنقسم اللازمة لها إلى داخل في ماهيتها الثابتة في الخارج وإلى خارج عنها لازم للماهية ولازم خارج للوجود. وذكروا ثلاثة فروق كلها باطلة. لأن هذا التقسيم باطل لا حقيقة له. بل ما يجعلونه داخلا يمكن جعله خارجا وبالعكس.
كما قد بسط في موضعه. وقولهم: اللفظ إن دل بلا قرينة فهو حقيقة، وإن لم يدل إلا معها فهو مجاز- قد تبين بطلانه، وأنه ليس في الألفاظ الدالة ما يدل مجردا عن جميع القرائن. ولا فيها ما يحتاج إلى جميع القرائن. وأشهر أمثلة المجاز لفظ الأسد والحمار والبحر ونحو ذلك، مما يقولون: إنه استعير للشجاع والبليد والجواد. وهذه لا تستعمل إلا مؤلفة مركبة مقيدة بقيود لفظية. كما تستعمل الحقيقة. كقول أبي بكر الصديق عن أبي قتادة «1» ، لما طلب غيره سلب القتيل: لاها الله، إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه. فقوله: تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، وصف له بالقوة بالجهاد في سبيله. وقد عيّنه تعينا أزال اللبس. وكذلك
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن خالدا سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين» «2»
وأمثال ذلك. وإن قال القائل: القرائن اللفظية موضوعة، ودلالتها على المعنى حقيقة، لكن القرائن الحالية مجاز. قيل: اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدا بقيود لفظية موضوعة والحال حال المتكلم والمستمع، لا بد من اعتباره في جميع الكلام. فإنه إذا عرف المتكلم، فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف. لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه. واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التي بها يتكلم. وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه. ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادة اختيارية. فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى. فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغة. ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها، عرف عادته في خطابه. وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره. ولهذا ينبغي أن يقصد، إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث، أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها
__________
(1) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده. حديث 43، أن أبا بكر عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة، وقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: نعم العبد وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله، سلّه الله عز وجل على الكفار والمنافقين.(1/152)
الله ورسوله. فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التي يخاطب بها عباده. وهي العادة المعروفة من كلامه. ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره، وكانت النظائر كثيرة، عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة. لا يختص بها هو صلّى الله عليه وسلّم. بل هي لغة قومه. ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب، لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه. كما يفعله كثير من الناس.
وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه. ولهذا كان استعمال القياس في اللغة، وإن جاز في الاستعمال، فإنه لا يجوز في الاستدلال. فإنه قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه، مع بيان ذلك، على ما فيه من النزاع.
لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معاني فيحملها إلى غير تلك المعاني، ويقول: إنهم أرادوا تلك بالقياس على تلك. بل هذا تبديل وتحريف. فإذا قال: «الجار أحق بسقبه» «1» فالجار هو الجار. ليس هو الشريك. فإن هذا لا يعرف في لغتهم، لكن ليس في اللفظ ما يقتضي أنه يستحق الشفعة. لكن يدل على أن البيع له أولى. وأما الخمر فقد ثبت بالنصوص الكثيرة والنقول الصحيحة أنها كانت اسما لكل مسكر. لم يسم النبيذ خمرا بالقياس. وكذلك النباش كانوا يسمونه سارقا. كما قالت عائشة: سارق موتانا كسارق أحيانا. واللائط عندهم كانوا أغلظ من الزاني بالمرأة. ولا بد، في تفسير القرآن والحديث، من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ. وكيف يفهم كلامه. فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه. وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني. فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب. فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دالّ عليه. ولا يكون الأمر كذلك. ويجعلون هذه الدلالة حقيقة وهذه مجازا. كما أخطأ المرجئة في اسم الإيمان. جعلوا لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق. وتناوله للأعمال مجازا.
فيقال: إن لم يصح التقسيم إلى حقيقة ومجاز، فلا حاجة إلى هذا. وإن صح فهذا لا ينفعكم. بل هو عليكم لا لكم. لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة.
والمجاز إنما يدل بقرينة. وقد تبين أن لفظ الإيمان، حيث أطلق في الكتاب والسنة.
دخلت فيه الأعمال. وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد. وهذا يدل على أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الحيلة، باب احتيال العامل ليهدى له.(1/153)
الحقيقة
قوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» «1»
وأما حديث «2» جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام فهو كذلك. وهذا هو الذي أراده النبي صلّى الله عليه وسلّم قطعا. كما أنه لما ذكر الإحسان، أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام. لم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام. ولو قدّر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة. فيلزم أن يكون مجازا. وهذا معلوم بالضرورة. لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث. بخلاف كون لفظ الإيمان في اللغة مرادفا للتصديق. ودعوى أن الشارع لم يغيره ولم ينقله، بل أراد به ما كان يريده أهل اللغة بلا تخصيص ولا تقييد- فإن هاتين المقدمتين لا يمكن الجزم بواحدة منهما. فلا يعارض اليقين.
كيف؟ وقد عرف فساد كل واحدة من المقدمتين وأنها من أفسد الكلام. وأيضا.
فليس لفظ الإيمان في دلالته على الأعمال المأمور بها، بدون لفظ الصلاة والصيام والزكاة والحج، وفي دلالته على الصلاة الشرعية والصيام الشرعيّ والحج الشرعيّ- سواء. قيل: إن الشارع نقله، أو زاد الحكم دون الاسم. أو زاد الاسم وتصرف فيه تصرف أهل العرف أو خاطب الاسم مقيدا لا مطلقا. فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما، لو ترك بعضها بطلت. بخلاف الإيمان فإنه لا يبطل عند الصحابة وأهل السنة والجماعة بمجرد الذنب. قيل: إن أراد بالبطلان أنه لا تبرأ الذمة منها كلها فكذلك الإيمان الواجب، إذا ترك منه شيئا لم تبرأ الذمة منه كله. وإن أريد به وجوب الإعادة فهذا ليس على الإطلاق. فإن في الحج واجبات، إذا تركها لم يعد. بل تجبر بدم. وكذلك في الصلاة عند أكثر العلماء إذا تركها سهوا أو مطلقا وجبت الإعادة.
فإنما يجب إذا أمكنت الإعادة. وإلا فما تعذرت إعادته مطالبا به كالجمعة ونحوها.
وإن أريد بذلك أنه لا يثاب على ما فعله، فليس كذلك. بل قد بيّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث المسيء في صلاته أنه إذا لم يتمها يثاب على ما فعل، ولا يكون بمنزلة من لم يصلّ. وفي عدة أحاديث أن الفرائض تكمل يوم القيامة من النوافل. فإذا كانت الفرائض مجبورة بثواب النوافل دل على أنه يعتدّ له بما فعل منها. فكذلك الإيمان، إذا ترك منه شيئا كان عليه فعله. إن كان محرّما تاب منه. وإن كان واجبا فعله. فإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته منه. وأثيب على ما فعله كسائر العبادات. وقد دلت النصوص
__________
(1)
أخرج مسلم في الإيمان، حديث 57، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» .
(2) أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة. [.....](1/154)
على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. وقد عدلت المرجئة، في هذا الأصل، عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة. وهذه طريقة أهل البدع. ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة الرافضة وغيرهم، من أهل البدع، يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة. ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. فلا يتعمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم. وإنما يعتمدون على العقل واللغة. وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف. وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم. وهذه طريقة الملاحدة أيضا. إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة. وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء، إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع. وإذا تدبرت حججهم، وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل» انتهى.
فصل في أنه هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة؟ أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة؟
قال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في «كتاب الإيمان» أيضا ما نصه:
«وبسبب الكلام في مسألة الإيمان، تنازع الناس: هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة؟ فذهب الخوارج والمعتزلة إلى أنها منقولة. وذهبت المرجئة إلى أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، لكنّ الشارع زاد في أحكامها، لا في معنى الأسماء. وهكذا قالوا في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج: أنها باقية في كلام الشارع على معناها اللغويّ، لكن زاد في أحكامها. ومقصودهم: أن الإيمان هو مجرد التصديق، وذلك يحصل بالقلب واللسان. وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة.(1/155)
«والتحقيق أنّ الشارع لم ينقلها، ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها، كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] ، فذكر حجّا خاصّا وهو حج البيت، وكذلك قوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ... [البقرة: 158] ، فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد، بل لقصد مخصوص دلّ عليه اللفظ نفسه من غير تغيير اللغة. والشاعر إذا قال:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سبّ الزّبرقان المزعفرا
كان متكلما باللغة، وقد قيل: لفظه يحجّ سب الزبرقان المزعفرا. ومعلوم أنّ ذلك الحج المخصوص الذي أمر الله به دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام. فإذا قيل: الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبيّن أنه حجّ البيت.
وكذلك الزكاة. هي اسم لما تزكو به النفس. وزكاة النفس زيادة خيرها، وذهاب شرها. والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس، كما قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] ، وكذلك ترك الفواحش مما تزكو به، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور: 21] . وأصل زكاتها بالتوحيد وإخلاص الدين لله، قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6- 7] . وهي عند المفسّرين التوحيد. وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار الواجب وسماها الزكاة المفروضة.
فصار لفظ الزكاة- إذا عرّف باللام- ينصرف إليها، لأجل العهد.
ومن الأسماء ما يكون أهل العرف نقلوه، وينسبون ذلك إلى الشارع، مثل لفظ (التيمّم) فإنّ الله تعالى قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] .
فلفظ التيمم استعمل في معناه المعروف في اللغة، فإنه أمر بتيمم الصعيد، ثم أمر بمسح الوجوه والأيدي منه، فصار لفظ التيمم، في عرف الفقهاء، يدخل في هذا المسح، وليس هو لغة الشارع، بل الشارع فرّق بين تيمّم الصعيد وبين المسح الذي يكون بعده.
ولفظ (الإيمان) أمر به مقيدا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وكذلك لفظ (الإسلام) بالاستسلام لله رب العالمين. وكذلك لفظ (الكفر) مقيدا. ولكن لفظ (النفاق) قد قيل: إنه لم تكن العرب تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم. فإنّ (نفق) يشبه خرج، ومنه: نفقت الدابة إذا ماتت، ومنه نافق اليربوع. والنفق ف(1/156)
الأرض، قال تعالى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 35] فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطنا بعد دخوله فيه ظاهرا. وقيّد النفاق بأنه نفاق من الإيمان. ومن الناس من يسمي من خرج عن طاعة الملك منافقا عليه. لكن المنافق- الذي في القرآن- هو النفاق على الرسول، فخطاب الله ورسوله الناس بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها، وهو خطاب مقيّد خاص، لا مطلق يحتمل أنواعا:
وقد بين الرسول تلك الخصائص. والاسم دلّ عليها، فلا يقال: إنها منقولة، ولا أنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقا. وهو إنما قال: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة: 43] ، بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفا إلى الصلاة التي يعرفونها. لم ينزل لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه. ولهذا قال من قال في لفظ الصلاة: إنه عام للمعنى اللغويّ، وأنه مجمل لتردده بين المعنى اللغويّ والشرعيّ، ونحو ذلك، فأقوالهم ضعيفة. فإن هذا اللفظ إنما ورد خبرا أو أمرا. فالخبر كقوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9- 10] ، وسورة (اقرأ) من أول ما نزل من القرآن، وكان بعض الكفار- إمّا أبو جهل أو غيره- قد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة،
وقال «1» : لئن رأيته يصلي لأطأنّ عنقه، فلما رآه ساجدا رأى من الهول ما أوجب نكوصه على عقبيه
. فإذا قيل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى فقد علمت تلك الصلاة الواقعة بلا إجمال في اللفظ ولا عموم. ثم إنه لما فرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج، أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم الصلوات بمواقيتها صبيحة ذلك اليوم، وكان جبريل يؤمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمسلمون يأتمون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. فإذا قيل لهم: أَقِيمُوا الصَّلاةَ عرفوا أنها تلك الصلاة. وقيل: إنه قبل ذلك كانت له صلاتان في طرفي النهار، فكانت أيضا.
فلم يخاطبوا باسم من هذه الأسماء إلّا ومسماه معلوم عندهم، فلا إجمال في ذلك ولا يتناول كلّ ما يسمى: حجّا، ودعاء، وصوما، فإنّ هذا إنما يكون إذا كان اللفظ مطلقا، وذلك لم يرد. وكذلك الإيمان والإسلام، وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور. وإنما سأل جبرئيل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك وهم يسمعون،
وقال «2» :
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة العلق، باب كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان والإسلام والإحسان.(1/157)
«هذا جبرئيل جاءكم يعلمكم دينكم»
ليبيّن لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها. وهذا كما
في الحديث الصحيح أنه قال: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنيّ يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يسأل الناس إلحافا» «1»
. فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج. وكان ذلك مشهورا عندهم فيمن يظهر حاجته في السؤال، فبيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه- تزول مسكنته بإعطاء الناس له. والسؤال له بمنزلة الحرفة.
وهو، وإن كان مسكينا، يستحق من الزكاة إذا لم يعط من غيرها كفايته، فهو إذا وجد من يعطيه كفايته لم يبق مسكينا، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء، فإنه مسكين قطعا. وذاك، مسكنته تندفع بعطاء من يسأله.
وكذلك
قوله: «الإسلام هو الخمس»
يريد أن هذا كلّه واجب في الإسلام.
فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين. وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفى فيه بالإيمان بالمجمل، ولهذا لما وصف الإسلام بهذا» . انتهى.
ذكر مجمل مقاصد التنزيل الكريم وضروب التفسير
قال الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه «الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز» في أواخره ما نصه:
«وعلى الجملة فمقاصد القرآن أنواع: أحدها: الطلب وهو أربعة أضرب.
النوع الثاني: الإذن والإطلاق: النوع الثالث: النداء. والنداء تنبيه للمنادى ليسمع ما يلقى إليه بعد النداء من الكلام ليعمل بمقتضاه، ولذلك كثر النداء في القرآن. وأما وصف المنادى فأربعة أقسام: (أحدها) ما لا حثّ فيه، كقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ... (الثاني) فيه حثّ، كالوصف بالإيمان، وله فائدتان: (إحداهما)
__________
(1)
أخرجه مسلم في الزكاة، حديث 101، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» قالوا: فما المسكين؟ يا رسول الله. قال: «الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا»
.(1/158)
الحثّ على ما يأمر به وينهى عنه بعد النداء، فإنّ الإيمان موجب للطاعة والإذعان.
(الفائدة الثانية) : إكرام المؤمنين بندائهم بأشرف أوصافهم وأحبّها، فيحثّهم ذلك الإكرام على لزوم الطاعة والإذعان.
(القسم الثالث) نداء النبيّ بالنبوّة، وفيه فائدة التفخيم والإكرام، والحث على الطاعة والإذعان، شكرا لنعمة النبوّة. (القسم الرابع) النداء بالرسالة، وفيه الفائدتان المذكورتان في النداء بالنبوّة، مع التأكيد بذكر الرسالة، وهي من النعم الجسام لأنها:
تستلزم النبوّة، وتحثّ على تبليغ الرسالة. فما أحسن قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] .
النوع الرابع: مدح الأفعال.
النوع الخامس: مدح الفاعلين لأجل الفعل الذي وصفوا به.
النوع السادس: ذمّ الأفعال.
النوع السابع: ذم الفاعلين لأجل الفعل الذي وصفوا به.
النوع الثامن: الوعد بالخير العاجل.
النوع التاسع: الوعد بالخير الآجل.
النوع العاشر: الوعيد بالشر العاجل.
النوع الحادي عشر: الوعيد بالشر الآجل.
وكل هذه الأخبار تابعة للأحكام مؤكدة لها، إمّا بالترغيب فيها، وإن كانت قربة، أو بالترهيب منها إن كانت معصية.
النوع الثاني عشر: الأمثال: وهي مؤكدة للأحكام: ترغيبا أو ترهيبا أو تقبيحا أو تحسينا.
النوع الثالث عشر: التكرير: وهو دال على الاعتناء والاهتمام بالمكرر.
مطلب في سر التكرير
فتكرير صفات الله دالّ على الاعتناء بمعرفتها، والعمل بموجبها.
وتكرير القصص دالّ على الاهتمام بالوعظ للإيقاظ والاعتبار. وفائدة تكرير القصص تطرئة المواعظ وتشديدها، لأن منها: ما يحث على الطاعة والإيمان، ومنها ما يزجر عن الكفر والعصيان.(1/159)
وكذلك تكرير الوعد والوعيد، وكذلك تكرير ذكر الأحكام، وكذلك تكرير المدح والذم، وما يترتب على المأمورات والمنهيات من المؤكدات المذكورات.
فتكرير الوعد يدل على الاهتمام بفعل الطاعات ترغيبا في ثوابها. وتكرير الوعيد يدلّ على الاهتمام بترك المخالفات ترهيبا من عقابها. وتكرير القرآن بين الوعد والوعيد يدلّ على الاهتمام بوقوف العباد بين الخوف والرجاء، فلا يقنطوا من رحمة الله وأفضاله، ولا يغترّوا بحلمه وإمهاله. وتكرير الأحكام يدلّ على الاعتناء بفعل الطاعات واجتناب المخالفات. وتكرير الأمثال يدلّ على الإيضاح والبيان. وتكرير تذكير النعم يدلّ على الاعتناء بشكرها.
واعلم أنه لا تؤكد العرب إلا ما تهتم به، فإن من اهتم بشيء أكثر ذكره. وكلما عظم الاهتمام كثر التأكيد. وكلما خفّ، خفّ التأكيد. وإن توسط الاهتمام، توسط التأكيد. فإذا قال القائل: زيد قائم، فقد أخبر بقيامه. فإن أراد تأكيد ذلك، عند من شك فيه، أو يكذبه، أو ينازعه فيه، أكّده فقال: إن زيدا قائم. فإذا جاء ب (إن) فكأنه قال: زيد قائم، زيد قائم. فإن زاد في التأكيد قال: إن زيدا لقائم، فيصير بمثابة ما لو قال: زيد قائم، ثلاث مرات.
أمثلة ذلك: قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ [الكافرون: 1- 4] ، تأكيد لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وقوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ تأكيد لقوله وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. لمّا وقع الاهتمام بأنه لا يوافقهم على عبادة الأصنام، وبأن الله قد حرمهم أن يدخلوا في دين الإسلام- أكّد ذينك لشدة الاهتمام بهما. فهذا تأكيد واحد لكل واحد من الخبرين. وعلى الجملة: فقد أكد نفي عبادته لأصنامهم بقوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وأكّد نفي عبادتهم لمعبوده بقوله وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وإن حمل ذلك على وقتين مختلفين، فلا تأكيد إذن.
ومثال تكرير التأكيد قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كَلَّا ... [التكاثر: 1- 4] المعنى: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد عن الاستعداد للمعاد، ثم زجرهم عن التكاثر بقوله كَلَّا ثم هددهم بقوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثم أكد الزجر الأول ب كَلَّا الثانية، ثم أكد التهديد ب سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثم أكد الزجر ب «كلّا الثالثة» فزجرهم ثلاث مرات للاهتمام بزجرهم عن ذلك. وهددهم على ذلك مرتين للاهتمام بالاستعداد للمعاد.(1/160)
ومثل هذا قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ... [النبأ: 1- 5] ، زجرهم ب «كلا» الأولى عن التساؤل والاختلاف، ثم أكد كلّا الأولى بكلّا الثانية وتهددهم فيما بينهما بقوله بعد: سَيَعْلَمُونَ ثم أكد هذا التهديد بقوله بعد: (كلا) الثانية سَيَعْلَمُونَ.
وأما تكرير قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 19- 24- 28] ، فيجوز أن يكون ما عدا الكلمة الأولى تأكيدا لها، وأن تتكرر العدة بالويل على من كذب، بقوله: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ. ويجوز أن يريد بكلّ عدة من عذاب الويل من كذب بما بين عدتي كل ويل.
وأما قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13- 16- 18] فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهنّ ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدّمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ...
وهكذا إلى آخر السورة.
فإن قيل: كيف يكون قوله سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] نعمة، وقوله: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] نعمة؟ وكذلك قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: 43] ، وقوله: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ [الرحمن: 35] ، وقوله يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ؟
قلنا: هذه كلها نعم جسام، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان، إلى حيّز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان، فإن من حذّر من طرق الردى وبيّن ما فيها من الأذى، وحثّ على طرق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة، كان منعما غاية الإنعام، ومحسنا غاية الإحسان.
ومثل ذلك قوله: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ [يس: 52] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام.
وأما قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] فإنه تذكير بالموت والفناء للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء.
وأما قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(1/161)
[الروم: 49] ، فإن تقديره عند بعضهم: وإن كانوا من قبل إنزال القطر عليهم، من قبل إنزاله، لمبلسين. فأكد قَبْلِ الأولى ب قَبْلِ الثانية. وهذا لا اهتمام فيه، فإنه معلوم أن اليأس من نزول المطر كان محققا قبل الإنزال، فلا حاجة- في مثل هذا- إلى التأكيد.
وقدّر آخرون: وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح، أو من قبل إثارة السحاب لمبلسين، فعلى هذا لا يكون تكريرا ولا تأكيدا.
وعود الضمائر إلى المصادر التي دلت عليها الأفعال، ولم تذكر معها- كثير في القرآن وفصيح الكلام. مثاله: قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] فعاد الضمير إلى العدل الذي دلّ عليه اعْدِلُوا.
ومثله قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً [المائدة: 106] ، أي: لا نشتري بالقسم الذي دلّ عليه قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ.
وأما قوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [الليل: 12] ، ففيه ثلاث تأكيدات: (أحدها) إنّ، و (الثاني) اللام في للهدى، و (الثالث) تقديم الخبر، فإن العرب لا يقدمون إلا ما يعتنون به ويهتمون. ومثله قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ [الأنعام: 99] ، وقوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً [النازعات: 26] ، أكد ب (إنّ واللام وتقديم الخبر) .
وقد يتوهم التأكيد فيما ليس بتأكيد في مثل قوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] ، فإنه لم يرد كمالها في العدد، ولو أراده لكان تأكيدا، وإنما أراد كمالها في صفتها، فإن كمال الصيام في تتابعه. بدليل وجوب المتابعة حيث أمرنا بها فيه، فلما تقرر في الشريعة أن متابعة الصوم أفضل من تفريقه، وقيدت هذه الأيام بالتفريق، فقد يظن ظانّ أنها ناقصة لتفريقها، وأن كمالها في تتابعها- أخبر أن كمال هذه الأيام في تفريقها لا في تتابعها. ويحتمل أن يريد، بالكاملة، كمال الصوم بترك الرفث والفسوق، وترك المشاتمة، وغير ذلك مما يكون اجتنابه أو فعله مكملا للصوم، فإن العبادات تنقسم إلى كاملة وناقصة. فالناقصة ما اقتصر فيها على أركانها وشرائطها، والكاملة ما أتى فيها بالأركان والشرائط والسنن.
وأعلم أن للتفسير أحكاما وضروبا، فمن ذلك:
فهم معنى اللفظ: وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام: (أحدها) ما يعرفه العامة والخاصة كالأرض والسماء والجبال والأشجار والأمطار. (القسم الثاني) ما يعرفه معظم الخاصة كالمعاد والملاذ. (القسم الثالث) ما يعرفه القليل من الخاصة كالرفرف والصفصف.(1/162)
ومن ضروب التفسير ما يتردد بين محملين: أحدهما أظهر عند النزول فيرجع فيه إلى الصحابة والتابعين، ويحمل على ظاهره حينئذ. ومنه ما يحمل على أخفى محمليه لدليل يقوم عليه. ومنه ما يتساوى فيه الأمران فيخص أحدهما بالسبب الذي نزل لأجله. ومنه ما يتساوى من غير ترجيح عندنا وهو راجح في نفس الأمر، لأن الرسول عليه السلام قد بيّن للناس ما نزل إليهم، فبعض المتأخرين يحمله على جميع محامله. والوقف أولى به.
وقد يتردد بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، يترجح بعضها على بعض.
وأولى الأقوال: ما دلّ عليه الكتاب في موضع آخر، أو السنة، أو إجماع الأمة، أو سياق الكلام، وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق- كان الحمل عليه أولى. وقد يقدر بعض النحاة ما يقتضيه علم النحو. لكن يمنع منه أدلّة شرعية، فيترك ذلك التقدير، ويقدر تقدير آخر يليق بالشرع. وقد يعبّر النحاة والمفسرون وغيرهم بالعام ويريدون به الخاص فيجهله كثير من الناس. وعلى الجملة: فالقاعدة في ذلك أن يحمل القرآن على أصح المعاني وأفصح الأقوال، فلا يحمل على معنى ضعيف، ولا على لفظ ركيك. وكذلك لا يقدر فيه من المحذوفات إلا أحسنها وأشدها موافقة وملائمة للسياق. وإذا كان للاسم الواحد معان ك الْعَزِيزُ بمعنى القاهر، وبمعنى الممتنع، وبمعنى الذي لا نظير له، حمل في كل موضع على ما يقتضيه ذلك السياق كيلا ينبتر الكلام وينخرم النظام. وإذا اتحد معنى القراءتين- كالسراط والصراط- فهذا ظاهر. وإن اختلف معناهما وجب القطع بأنهما مرادتان. مثال ذلك قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ويَكْذِبُونَ [البقرة: 10] ، أخبر بأنهم يعذبون بالتكذيب والكذب، وهذا اختصار في صورة الخط، دون اللفظ.
ومن ضروب التفسير وأحكامه: بيان كون اللفظ حقيقة أو مجازا. ومنه: بيان رجحان إحدى الحقيقتين على الأخرى. ومنه: بيان رجحان أحد المجازين على الآخر. ومنه: بيان ترجيح الحقيقة على المجاز. ومنه: بيان ترجيح ما يناسب الكلام ويطابقه على ما ليس كذلك. ومنه: ترجيح بعض الإعراب على بعض. ومنه: بيان التقديم والتأخير. ومنه: بيان مظان الإطالة. ومنه: بيان مظان الاختصار. وفائدة الاختصار، سهولته على المتكلم، وإيصال المعنى على الفور إلى المخاطب. كقوله(1/163)
تعالى: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] . ومنه: الحذف وهو أنواع وقد تقدمت في أول هذا الكتاب- يعني كتابه- ومن ضروب التفسير وأحكامه: تعين المضاف المحذوف. ومنه: ترجيح بعض المضافات المحذوفة على بعض. ومنه: استواء المضافات المحذوفة من غير ترجيح. ومنه: ترجيح بعض المفاعيل المحذوفة على بعض. ومنه: استواؤها. ومنه:
تعين بعضها. ومنه: ترجيح بعض ما تصح الإشارة إليه بذلك على بعض. ومنه: تعين ما يشار إليه بذلك. ومنه: عود الإشارة بذلك إلى ما ليس بمذكور. ومنه: ترجيح بعض الموصوفات على بعض. ومنه تعين بعض الموصوفات المحذوفة. ومنه ترجيح ما تعود إليه الضمائر. ومنع: تردد ما تعود إليه الضمائر. ومنه: عود الضمائر إلى ما ليس بمذكور. ومنه: عود الضمائر إلى ما دل عليه اللفظ وليس بمذكور، انتهى.
سر تكرير قصة موسى مع فرعون
ذكرنا قبل ما قاله العز بن عبد السلام- في التكرير- من الأسرار الباهرة التي تشمل قصة موسى مع فرعون. ثم رأيت كلاما- في ذلك- لشيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية- في خلال رسالة له- يقول رحمه الله:
«وثنّى في القرآن قصة موسى مع فرعون لأنهما في طرفي نقيض، في الحق والباطل. فإن فرعون في غاية الكفر والباطل، حيث كفر بالربوبية وبالرسالة. وموسى في غاية الحق والإيمان من جهة أن الله كلمه تكليما لم يجعل الله بينه وبين خلقه واسطة من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة، وكمال التكليم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت، وهذا بخلاف أكثر الأنبياء مع الكفار، فإن الكفار أكثرهم لا يجحدون وجود الله، ولم يكن أيضا للرسل- من التكليم- ما لموسى. فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص، وأعظمها اعتبارا لأهل الإيمان ولأهل الكفر. ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقص على أمته عامة ليله عن بني إسرائيل، وكان يتأسّى بموسى في أمور كثيرة، ولما بشّر بقتل أبي جهل يوم بدر
قال: «هذا فرعون هذه الأمة»
. وكان فرعون وقومه من الصابئة المشركين الكفار، ولهذا كان يعبد آلهة من دون الله، كما أخبر عنه بقوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] وإن كان عالما بما جاء به موسى. مستيقنا له، لكنه كان جاحدا مثبورا، كما أخبر الله بذلك في قوله: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً(1/164)
وَعُلُوًّا ...
[النمل: 13- 14] الآية. وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ....- إلى قوله- لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ.... [الإسراء: 101- 102] الآية.
ما اقتضته الحكمة الربانية في التنزيل الكريم
قال الشيخ وليّ الله الدهلويّ- قدس سره- في الفوز الكبير:
ليعلم أن المقصود من نزول القرآن تهذيب طوائف الناس من العرب والعجم، والحضر والبدو. فاقتضت الحكمة الإلهية أن لا يخاطب، في التذكير بآلاء الله، بأكثر مما يعلمه أكثر أفراد بني آدم. ولم يبالغ في البحث والتفتيش مبالغة زائدة، وسيق الكلام في أسماء الله وصفاته عز وجل بوجه يمكن فهمه والإحاطة به بإدراك وفطانة، خلقت أفراد الإنسان، في أصل الفطرة عليها. بدون ممارسة الحكمة الإلهية، وبدون مزاولة علم الكلام، فأثبت ذات المبدأ إجمالا، لأن هذا العلم سار في جميع أفراد بني آدم، لا ترى طائفة منهم في الأقاليم الصالحة والأمكنة القريبة من الاعتدال، ينكرون ذلك. ولما امتنع، بالنسبة إليه، إثبات الصفات بطريق تحقيق الحقائق، مع أنهم إن لم يطلعوا على الصفات الإلهية لم ينالوا معرفة الربوبية التي هي أنفع الأشياء في تهذيب النفوس- اقتضت الحكمة الإلهية أن يختار شيء من الصفات البشرية الكاملة مما يعلمونها، ويجري التمدح بها فيها بينهم، فتستعمل بإزاء المعاني الغامضة التي لا مدخل للعقول البشرية في ساحة جلالها، وجعل نكتة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، ترياقا للداء العضال من الجهل المركب، ومنع من الصفات البشرية التي تثير الأوهام بجانب العقائد الباطلة في إثبات مثلها. كإثبات الولد والبكاء والجزع. وإن تأملت بتعمق النظر، وجدت الجريان على مسطر العلوم الإنسانية غير المكتسبة، وميزت صفات يمكن إثباتها، ولا يقع بها خلل من الصفات التي تثيرها الأوهام الباطلة أمرا دقيقا لا تدركه أذهان العامة. لا جرم كان هذا العلم توقيفيا، ولم يؤذن لهم في التكلم بكل ما يشتهون، واختار سبحانه وتعالى من آلائه وآيات قدرته، جل وعلا، ما تساوت في فهمه الحضر والبدو والعرب والعجم، ولهذا لم يذكر النعم النفسانية المخصوصة بالأولياء والعلماء، ولم يخبر بالنعم الارتفاقية المخصوصة بالملوك. وإنما ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي ذكره. كخلق السموات والأرضين، وإنزال الماء من السحاب، وإجرائها من الأرض، وإخراج أنواع الثمار والحبوب والأزهار بواسطة الماء، وإلهام الصناعات الضرورية والقدرة على فعلها. وقد(1/165)
قرر في مواضع كثيرة من التنبيه على اختلاف أحوال الناس عند هجوم المصائب وانكشافها، ما كان كثير الوقوع من الأمراض النفسانية. واختار من أيام الله- يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى كتنعيم المطيعين، وتعذيب العصاة- ما قرع سمعهم. وذكر لهم إجمالا مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود. وكان العرب تتلقاها أبا عن جدّ. ومثل قصص إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود والعرب في قرون كثيرة. لا القصص الشاذة غير المألوفة. ولا أخبار المجازاة بين فارس والهنود. وانتزع من القصص المشهورة جملا تنفع في تذكيرهم. ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها.
والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات- يميلون إلى القصص نفسها، ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصليّ فيها. ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة.
ولما ساق المفسرون الوجوه البعيدة في التفسير صار علم التفسير نادرا كالمعدوم.
ومما تكرر من القصص قصة خلق آدم من الأرض وسجود الملائكة له وامتناع الشيطان منه وكونه ملعونا. وسعيه بعد ذلك في إغواء بني آدم. وقصة مخاصمة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام وأقوامهم، في باب التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وامتناع الأقوام من الامتثال بشبهات ركيكة، مع ذكر جواب الأنبياء. وابتلاء الأقوام بالعقوبة الإلهية. وظهور نصرته عز وجل للأنبياء وتابعيهم، وقصة موسى مع فرعون وقومه، ومع سفهاء بني إسرائيل، ومكابرة هذه الجماعة حضرته عليه الصلاة والسلام. وقيام الله سبحانه وتعالى بعقوبة الأشقياء.
وظهور نصرة نبيه مرة بعد مرة، وقصة خلافة داود وسليمان وآياتهما وكراماتهما.
ومحنة أيوب ويونس، وظهور رحمة الله سبحانه لهما، واستجابة دعاء زكريا.
وقصص سيدنا عيسى العجيبة: من تولده بلا أب، وتكلمه في المهد، وظهور الخوارق منه. فذكرت هذه القصص بأطوار مختلفة إجمالا وتفصيلا بحسب ما اقتضاه أسلوب السور.
ومن القصص التي ذكرت مرة أو مرتين فقط رفع سيدنا إدريس، ومناظرة سيدنا إبراهيم لنمروذ ورؤيته إحياء الطير، وذبح ولده. وقصة سيدنا يوسف، وقصة ولادة(1/166)
سيدنا موسى وإلقائه في اليم، وقتله القبطيّ، وخروجه إلى مدين وتزوجه هناك. ورؤية النار على الشجرة. وسماع الكلام منها. وقصة ذبح البقرة. وقصة التقاء موسى والخضر. وقصة طالوت وجالوت. وقصة بلقيس. وقصة ذي القرنين. وقصة أصحاب الكهف. وقصة رجلين تحاورا فيما بينهما. وقصة أصحاب الجنة. وقصة رسل عيسى الثلاثة. والمؤمن الذي قتله الكفار شهيدا. وقصة أصحاب الفيل.
فليس المقصود من هذه القصص معرفتها بأنفسها، بل المقصود انتقال ذهن السامع إلى وخامة الشرك والمعاصي، وعقوبة الله عليها، واطمئنان المخلصين بنصرة الله تعالى، وظهور عنايته عز وجل بهم.
وقد ذكر جل شأنه من الموت وما بعده كيفية موت الإنسان، وعجزه في تلك الساعة، وعرض الجنة والنار عليه بعد الموت، وظهور ملائكة العذاب.
وقد ذكر أشراط الساعة من نزول عيسى، وخروج دابة الأرض، وخروج يأجوج ومأجوج، ونفخة الصعق، ونفخة القيام، والحشر والنشر، والسؤال والجواب، والميزان، وأخذ صحف الأعمال باليمين والشمال، ودخول المؤمنين الجنة، ودخول الكفار النار، واختصام أهل النار من التابعين والمتبوعين فيما بينهم، وإنكار بعضهم على بعض، ولعن بعضهم بعضا، واختصاص أهل الإيمان برؤية الله عز وجل، وتلوّن أنواع التعذيب من السلاسل والأغلال والحميم والغسّاق والزقوم. وأنواع التنعيم من الحور والقصور، والأنهار والمطاعم الهنيئة، والملابس الناعمة، والنساء الجميلة، وصحبة أهل الجنة فيما بينهم صحبة طيبة مفرحة للقلوب.
فتفرقت هذه القصص في سور مختلفة بإجمال وتفصيل بحسب اقتضاء أسلوبها.
والكلية في مباحث الأحكام أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث بالملة الحنيفية. فلزم بقاء شرائه تلك الملة، وعدم التغيير في أمهات تلك المسائل، سوى تخصيص العموم، وزيادة التوقيعات والتحديدات ونحوها.
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يزكي العرب بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويزكي سائر الأقاليم بالعرب. فلزم أن تكون مادة شريعته صلّى الله عليه وسلّم على رسوم العرب وعاداتهم. وإذا نظرت إلى مجموع شرائع الملة الحنيفية، ولاحظت رسوم العرب وعاداتهم، وتأملت تشريعه صلّى الله عليه وسلّم الذي بمنزلة الإصلاح والتسوية- تحققت لكل حكم سببا، وعلمت لكل أمر(1/167)
ونهي مصلحة. وتفصيل الكلام الطويل.
وبالجملة، فقد كان وقع في العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج فتور عظيم من التساهل في إقامتها، واختلاف الناس فيها، بسبب عدم التوقيت في أكثرها، ودخول تحريفات أهل الجاهلية فيها، فأسقط القرآن عدم النسق منها، وسواها حتى استقام أمرها.
وأما تدبير المنزل فقد كان وقع فيها رسوم ضارة وأنواع تعدّ وعتوّ.
وكذلك أحكام السياسة المدنية كانت مختلة، فضبط القرآن العظيم أصولها، وحدودها، ووقتها. وذكر من هذا الباب أنواع الكبائر، وكثيرا من الصغائر، وذكرت مسائل الصلاة بطريق الإجمال. وذكر فيها لفظ إقامة الصلاة. ففصّلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأذان وبناء المساجد والجماعة والأوقات وذكرت مسائل الزكاة أيضا بالاختصار، ففصلها صلّى الله عليه وسلّم تفصيلا. وذكر الصوم في سورة البقرة. والحج فيها وفي سورة الحج.
والجهاد في سورة البقرة والأنفال، وفي مواضع متفرقة. والحدود في المائدة والنور.
والميراث والنكاح والطلاق في سورة البقرة والنساء والطلاق، وغيرها.
وإذا عرفت القسم الذي تعم فائدته جميع الأمة، فهنالك قسم آخر. وذلك مثل أنه كان يعرض عليه صلّى الله عليه وسلّم سؤال فيجيب، أو بذل النفس والأموال من أهل الإيمان في حادثة، وإمساك المنافقين واتباعهم الهوى- فمدح الله سبحانه المؤمنين، وذم المنافقين مع تهديدهم. أو وقعت حادثة من قبيل نصرة على الأعداء وكفّ ضررهم- فمنّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وذكرهم بتلك النعمة. أو عرضت حاجة تحتاج إلى تنبيه وزجر أو تعريض أو إيماء أو أمر أو نهي- فأنزل الله سبحانه في ذلك الباب.
فما كان من هذا القبيل فلا بد للمفسر من ذكر تلك القصص بطريق الإجمال.
وقد جاءت تعريضات في قصة بدر في الأنفال. وبقصة أحد في آل عمران.
وبالخندق في الأحزاب. وبالحديبية في الفتح. وبني النضير في الحشر. وجاء الحث على فتح مكة وغزوة تبوك في براءة. والإشارة إلى حجة الوداع في المائدة. والإشارة إلى قصة نكاح زينب في الأحزاب. وتحريم السريّة في سورة التحريم «1» . وقصة
__________
(1)
أخرج مسلم في الطلاق حديث 1474، عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا. قالت: فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم(1/168)
الإفك في سورة النور.
واستماع الجن تلاوته صلّى الله عليه وسلّم في سورة الجن والأحقاف. ومسجد الضرار في براءة. وأشير إلى قصة الإسراء في أول بني إسرائيل.
وهذا القسم أيضا في الحقيقة من باب التذكير بأيام الله. ولكن لما توقف حل التعريضات فيه على سماع القصة- ميّز من سائر الأقسام.
ذكر بديع أسلوب القرآن الكريم
قال الإمام الدهلويّ في كتابه المنوه به قبل:
ولنبين هذا البحث في فصول:
الفصل الأول
لم يجعل القرآن مبوبا مفصلا ليطلب كل مطلب منه في باب أو فصل، بل كان كمجموع المكتوبات فرضا، كما يكتب الملوك إلى رعاياهم، بحسب اقتضاء الحال، مثالا، وبعد زمان يكتبون مثالا آخر، وعلى هذا القياس. حتى تجتمع أمثلة كثيرة، فيدونها شخص حتى يصير مجموعا مرتبا. كذلك نزل الملك على الإطلاق جل شأنه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم لهداية عباده، سورة بعد سورة بحسب اقتضاء الحال. وكان في زمانه صلّى الله عليه وسلّم كل سورة محفوظة ومضبوطة على حدة، من غير تدوين السور، ثم رتبت السور في مجلد بترتيب خاص في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وسمي هذا المجموع بالمصحف، وقد كانت السور مقسومة عند الصحابة إلى أربعة أقسام: القسم الأول: السبع الطوال التي هي أطول السور، والقسم الثاني: سور في كل منها مائة آية وتزيد شيئا قليلا، والقسم الثالث. ما فيه أقل من المائة وهي المثاني، والقسم الرابع: المفصّل.
وقد أدخل في ترتيب المصحف سورتان أو ثلاث من عداد المثاني، في المئين. لمناسبة سياقها بسياق المئين. وعلى هذا القياس ربما وقع في بعض الأقسام
__________
فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له. فقال: «بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له» فنزل: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1]
.(1/169)
أيضا تصرف. واستنسخ عثمان رضي الله عنه، من ذلك المصحف، مصاحف أرسل بها إلى الآفاق ليستفيدوا منها، ولا يميلوا إلى ترتيب آخر. ولما كان بين أسلوب السور، وأسلوب أمثلة الملوك مناسبة تامة، روعي في الابتداء والانتهاء طريق المكاتيب، كما يبتدئون في بعض المكاتيب بحمد الله عز وجل، والبعض الآخر ببيان غرض الإملاء، والبعض الآخر باسم المرسل والمرسل إليه. ومنها ما يكون رقعة وشقة بغير عنوان، وبعضها يكون مطولا وبعضها يكون مختصرا كذلك سبحانه وتعالى صدّر بعض السور بالحمد والتسبيح، وبعضها ببيان غرض الإملاء، كما قال عز وجل: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ، سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: 1] ، وهذا القسم يشبه ما يكتب «هذا ما صالح فلان وفلان» و «هذا ما أوصى به فلان» .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب في واقعة الحديبية: «هذا ما قاضى عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم» «1» .
وبعضها يذكر المرسل والمرسل إليه كما قال: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] ، وهذا القسم يشبه ما يكتبون: «صدر الحكم من حضرة الخلافة» ، أو يكتبون: «هذا إعلام لسكنة البلدة الفلانية من حضرة الخلافة» .
وقد كان كتب صلّى الله عليه وسلّم: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم» .
وبعضها على أسلوب الرقاع والشقق بغير عنوان، كما قال عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون: 1] ، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [التحريم: 1] .
ولما كانت للقصائد في فصاحة الكلام شهرة عند العرب، وكان من عاداتهم في مبدأ القصائد التشبيب بذكر مواضع عجيبة، ووقائع هائلة- اختار الله عز وجل هذا الأسلوب في بعض السور، كما قال: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: 1- 2] ، وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً [الذاريات: 1- 2] ، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 1- 2] .
وكما كانوا يختمون المكاتيب بجوامع الكلم، ونوادر الوصايا، وتأكيد
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، الذي رواه المسور بن مخرمة ومروان عن غزوة الحديبية.(1/170)
الأحكام السابقة، وتهديد من يخالفها- كذلك الله سبحانه ختم أواخر السور بجوامع الكلم ومنابع الحكم، والتأكيد البليغ، والتهديد العظيم.
وقد يصدر في أثناء السور الكلام البليغ، العظيم الفائدة، البديع الأسلوب، بنوع من الحمد والتسبيح، أو بنوع من بيان النعم والامتنان. كما صدر بيان التباين بين مرتبة الخالق والمخلوق ب قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى، آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] ، ثم بين هذا المدعى في خمس آيات بأبلغ وجه، وأبدع أسلوب.
كما صدر مخاصمة بني إسرائيل في أثناء سورة البقرة ب يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا ... ثم ختمها بهذه الكلمة أيضا.
وابتداء المخاصمة بهذا الكلام وانتهاؤه به محل عظيم في البلاغة.
وكذلك صدر مخاصمة أهل الكتابين في آل عمران بآية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ليتصور محل النزاع ويتوارد القيل والقال على ذلك المدعى، والله أعلم بحقيقة الحال.
الفصل الثاني
قد جرت سنة الله عز وجل في أكثر السور بتقسيمها إلى الآيات. كما كانوا يقسمون القصائد إلى الأبيات. غاية الأمر أن بين الآيات والأبيات فرقا. كل منهما ينشد لالتذاذ نفس المتكلم والسامع. إلا أن الأبيات مقيدة بالعروض والقافية التي دوّنها الخليل وحفظها الشعراء. وبناء الآيات على وزن وقافية إجماليين يشبهان أمرا طبيعيا، لا على أفاعيل العروضيين وتفاعيلهم وقوافيهم المعينة التي هي أمر صناعيّ واصطلاحيّ، وتنقيح ما وقع من الأمر المشترك بين الأبيات والآيات. وتطلق النشائد بإزاء ذلك الأمر العام. ثم ضبط أمور وقع في الآيات التزامها، وذلك بمنزلة الفصل يحتاج إلى التفصيل. والله وليّ التوفيق.
تفصيل هذا الإجمال، أن الفطرة السليمة تدرك في القصائد الموزونة المقفاة والأراجيز الرائقة وأمثالها، لطفا وحلاوة بالذوق. وإذا تأملت سبب إدراك اللطف المذكور، فليكن ورود كلام بعض أجزائه يوافق بعضا مفيدا للذة في نفس المخاطب مع انتظار مثله. حتى إذا وقع في نفسه بيت آخر بتوافق الأجزاء المعلوم، وتحقق الأمر المنتظر، تضاعفت اللذة عنده، فحسب كأن البيتين بينهما اشتراك في القافية.(1/171)
فتضاعفت اللذة ثالثة. فالالتذاذ بالأبيات بهذا السر فطرة قديمة للناس. والأمزجة السليمة من أهل الأقاليم المعتدلة متفقة على ذلك.
ثم وقعت في توافق الأجزاء من كل بيت، وفي شرط القافية المشتركة بين الأبيات، مذاهب مختلفة ورسوم متباينة، فاختار العرب قانونا وضعه الخليل وأوضحه إيضاحا.
والهنود يتبعون رسما يحكم به ذوقهم وقريحتهم، وكذلك اختار أهل كل زمان وضعا وسلكوا طريقا. فإذا انتزعنا من هذه الرسوم والمذاهب المختلفة أمرا جامعا، وتأملنا سرّا منتشرا، وجدنا الموافقة أمرا تخمينيا لا غير.
مثلا، يذكر العرب مقام مستفعلن مفاعلن ومفتعلن، ويعدون مقام فاعلاتن فعلاتن وفاعلتن على القاعدة، ويجعلون موافقة ضرب بيت بضرب بيت آخر، وموافقة عروض بيت لعروض بيت آخر- من المهمات. ويجوّزون في الحشو كثيرا من الزحافات. بخلاف شعراء الفرس. فإن الزحافات عندهم مستهجنة. وكذلك تستحسن العرب إن كانت القافية في بيت «قبور» أن يكون في بيت آخر «مثير» بخلاف شعراء العجم. وكذلك شعراء العرب يعدون «حاصل» و «داخل» و «نازل» من قسم واحد بخلاف شعراء العجم. وكذلك وقوع كلمة في المصراعين، بحيث يكون نصفها في مصراع ونصفها الآخر في مصراع آخر عند العرب لا عند العجم.
وبالجملة فإن موافقة الأمر المشترك موافقة تخمينية، لا موافقة حقيقية. ومبنى أوزان الأشعار عند الهند على عدد الحروف. بغير ملاحظة الحركات والسكنات، وهو أيضا مما يتلذذ به. وقد سمعنا بعض أهل البدو، ممن يتلذذ بتغريداته، يختارون كلاما متوافقا بتوافق تخمينيّ، برديف يكون تارة كلمة واحدة وأخرى يزيد عليها.
وينشدون تغريداتهم مثل القصائد. فيتلذذون بها. ولكل قوم أسلوب خاص في نظمهم. وعلى هذا القياس وقع اتفاق الأمم على الالتذاذ بألحان ونغمات واختلافهم في رسوم التغريد والقواعد محقق.
وقد استنبط اليونانيون أوزانا سموها بالمقامات واستخرجوا منها شعبا دوّنوا لهم فنا شديد التفصيل. وأهل الهند تفطنوا لستّ نغمات وفرّعوا منها نغيمات. وقد رأينا أهل البدو تباعدوا عن هذين الاصطلاحين، وتفطنوا بحسب سليقتهم للتأليف والإيقاع، فهذبوا لهم أوزانا معدودة بغير ضبط الكليات وحصر الجزئيات. فإذا نظرنا بعد هذه الملاحظات إلى حكم الحدس لم نجد هاهنا أمرا مشتركا سوى الموافقة التخمينية. ولا يتعلق تخمين العقل إلا بذلك المنتزع الإجماليّ. لا بتفصيل القوافي(1/172)
المردفة الموصلة، ولا يحب الذوق السليم إلا تلك الحلاوة المحضة، لا الطويل والمديد من البحور.
لما أراد حضرة الخلّاق أن يكلم الإنسان، الذي هو قبضة من التراب، نظر إلى ذلك الحسن الإجماليّ لا إلى قوالب مستحسنة عند قوم دون قوم، ولما أراد مالك الملك أن يتكلم على منهج الآدميين، ضبط ذلك الأصل البسيط، لا هذه القوانين المتغيرة بتغير الأدوار والأطوار. ومنشأ التمسك بالقوانين المصطلح عليها هو العجز والجهل، وتحصيل الحسن الإجماليّ، بلا توسط تلك القواعد بحيث لا يفوت في الأغوار والأنجاد من البيان شيء، ولا يضيع في كل سهل وجبل من الكلام معجز ومفحم.
وأنا أنتزع هنا من جريان الحق سبحانه وتعالى على ذلك السنن أصلا. وأنتقل إلى قاعدة. وتلك القاعدة أنه اعتبر في أكثر السور امتداد الصوت، لا الطويل والمديد من البحور مثلا، واعتبر في الفواصل انقطاع النفس بالمدة، وما تعتمد عليه المدة، لا قواعد فن القوافي، وهذه الكلمة أيضا تقتضي بسطا. فاستمع لما أقول:
تردّد النّفس في قصبة العنق من جبلة الإنسان. وإن كان تطويل النفس وتقصيره من مقدور البشر. لكن إذا خلّي وطبعه فلا بد من امتداد محدود. فيحصل في أول خروج النفس نشاط، ثم يضمحل ذلك النشاط تدريجا حتى ينقطع في آخر الأمر.
فيحتاج إلى إعادة نفس جديد. وهذا الامتداد أمر محدود بحدّ مبهم. ومقدر بمقدار منتشر لا يتجاوز نقصانه كلمتين، بل لا يتجاوز الثلث والربع، والزيادة لا تتجاوز كلمتين، بل لا تتجاوز الثلث والربع من ذلك الحد. ويسع ذلك اختلاف عدد الأوتاد والأسباب وتقدم بعض الأركان على بعض، فجعل لامتداد النفس وزن معلوم. وقسم ذلك على ثلاثة أقسام: طويل ومتوسط وقصير.
أما الطويل فنحو سورة النساء، وأما المتوسط فنحو سورة الأعراف والأنعام، وأما القصير فنحو سورة الشعراء وسورة الدخان..
وتمام النفس يعتمد على مدة معتمدة على حرف قافية متسعة يوافقها ذوق الطبع، ويتلذذ من إعادتها مرة بعد أخرى، وإن كانت المدة، في موضع، ألفا، وفي موضع آخر، واوا أو ياء. وسواء كان ذلك الحرف الأخير باء في موضع، أو جيما. أو قافا في موضع آخر، فَيَعْلَمُونَ ومُؤْمِنِينَ ومُسْتَقِيمٍ متوافقة. وخُرُوجٍ ومَرِيجٍ وتَحِيدُ و (تبار) وفَواقٍ وعُجابٌ كلها على قاعدة.
وكذلك لحوق الألف في آخر الكلام قافية متسعة، في إعادتها لذة. وإن كان حرف(1/173)
الرويّ مختلفا فيقولون: في موضع كَرِيماً، وفي موضع آخر، حَدِيثاً، وفي موضع ثالث بَصِيراً فإن التزم في هذه الصورة موافقة الرويّ، كان من قبيل التزام ما لا يلزم. كما وقع في أوائل سورة مريم وسورة الفرقان.
وكذلك توافق الآيات بحرف قبل الميم في سورة القتال: (سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم) والنون في سورة الرحمن يفيد لذة كما لا يخفى. وكذلك إعادة جملة بعد طائفة تفيد لذة. كما وقع في سورة الشعراء وسورة القمر وسورة الرحمن وسورة المرسلات، وقد تخالف فواصل آخر السورة أولها لتطريب ذهن السامع وللإشعار بلطافة ذلك الكلام مثل إِدًّا وهَدًّا في آخر سورة مريم، ومثل سَلاماً وكِراماً في آخر سورة الفرقان، وطِينٍ وساجِدِينَ والْمُنْظَرِينَ في آخر سورة ص.
مع أن أوائل هذه السور مبنية على فاصلة أخرى كما لا يخفى. فجعل الوزن والقافية المذكوران في أكثر السور من المهمات. إن كان اللفظ الأخير من الآية صالحا للقافية فيها. وإلّا وصل بجملة فيها وبين آلاء الله أو تنبيه للمخاطب. كما يقول وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، (إن في ذلك لآيات لأولي الألباب) ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وقد أطنب في مثل هذه المواضع أحيانا مثل فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً، ويستعمل التقديم والتأخير مرة، والقلب والزيادة أخرى. مثل إِلْ ياسِينَ في إلياس، وطُورِ سِينِينَ في سيناء. وليعلم هاهنا أن انسجام الكلام وسهولته على اللسان لكونه مثلا سائرا، أو لتكرر ذكره في الآية- ربما يجعل الكلام الطويل موزونا مع الكلام القصير. وقد تكون الفقر الأول أقصر من الفقر التالية، وهو يفيد عذوبة في الكلام. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 30- 32] ، كأن المتكلم يقدر في مثل هذا الكلام أن الفقرة الأولى والثانية، من حيث المجموع، في كفّة، والثالثة، وحدها، في كفة.
وربما تكون الآية ذات قوائم ثلاث نحو: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] ، الآية. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ... [آل عمران: 107] الآية. والعامة يصلون الأول بالثاني فيحسبون الآية طويلة. وقد تجيء في آية فاصلتان كما يكون في البيت أيضا مثل:
كالزهر في ترف، والبدر في شرف ... والبحر في كرم، والدهر في همم
وقد تكون الآية من سائر الآيات. والسر هاهنا إذا جعل حسن الكلام الناشئ من(1/174)
تقارب الوزن ووجد أن الأمر المنتظر وهو القافية في كفة، وجعل حسن الكلام الناشئ من سهولة الأداء وموافقة طبع الكلام وعدم لحوق التغيير فيه في كفة أخرى- ترجح الفطرة السليمة جانب المعنى، فيترك أحد الانتظارين مهملا، ويوفى الحق في الانتظار الثاني.
وإنما قلنا في صدر البحث: قد جرت سنة الله عز وجل على هذا في أكثر السور، لأنه ما ظهرت في بعض السور رعاية هذا القسم من الوزن والقافية. فوقعت طائفة من الكلام على نهج خطب الخطباء وأمثال أهل النكت. ألم تسمع «1» مسامرة النساء المروية عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها فانظر في قوافيها. وفي بعض السور وقع الكلام على منهج كتب العرب بلا رعاية شيء. كمحاورة بعض الناس لبعض. إلا أنه يختم كل كلام بشيء يكون مبنيا على الاختتام. والسر هاهنا أن الأصل في لغة العرب الوقف في موضع ينتهي فيه النفس ويفنى نشاط الكلام. والمستحسن في محل الوقف انتهاء النفس على المدة، هذا هو الوجه في ظهور صورة الآيات. هذا ما فتح الله على الفقير والله أعلم.
إن سألوا. لما تكررت مطالب الفنون الخمسة (أعني علم الأحكام، وعلم الرد على الفرق الضالة، وعلم التذكير بآلاء الله من نحو بيان خلق السموات، وعلم التذكير بأيام الله كالوقائع التي أوجدها من جنس تنعيم المطيعين وتعذيب المجرمين، وعلم التذكير بالموت وما بعده) في القرآن العظيم، ولم لم يكتف بموضع واحد؟ قلنا: الذي نريد إفادته للسامع ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يكون المقصود هناك مجرد تعليم ما لا يعلم، فالمخاطب لم يكن عالما بالحكم، وما كان ذهنه مدركا له، فيعلم ذلك المجهول باستماع الكلام ويصير المجهول معلوما.
والثاني: أن يكون المقصود استحضار صورة ذلك العلم في المدركة ليتلذذ به لذة تامة وتفنى القوى القلبية والإدراكية في ذلك العلم، ويغلب القوى كلها حتى تنصبغ بذلك العلم، كما نكرر أحيانا معنى شعر علمناه، وندرك منه لذة في كل مرة، ونحب التكرار لتلك اللذة، والقرآن العظيم أراد من قسمي الإفادة بالنسبة إلى كل واحد من مطالب الفنون الخمسة- تعليم ما لا يعلم بالنسبة إلى الجاهل، وصبغ النفوس بتلك العلوم من التكرار بالنسبة إلى العالم. إلا أن أكثر مباحث الأحكام لم يحصل تكرارها. لأن الإفادة الثانية غير مطلوبة فيها. ولذا أمر بتكرار التلاوة في
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل.(1/175)
الشريعة، ولم يكتف بمجرد الفهم ولكن الفرق أنهم اختاروا في أكثر الأحوال تكرار تلك المسائل بعبارة جديدة وأسلوب غريب ليكون أوقع في النفس وألذّ في الأذهان دون التكرار بلفظ واحد. والذهن يخوض في صورة اختلاف التعبيرات وتغاير الأسلوب، ويتعمق الخاطر بأسره.
إن سألوا: لم نشر هذه المطالب في سورة القرآن، ولم يراع الترتيب فيذكر آلاء الله أولا، ويستوفي حقها، ثم يذكر أيام الله، ثم مخاصمة الكفار؟ قلنا: وإن كانت القدرة الإلهية شاملة للممكنات كلها، ولكن الحاكم في هذه الأبواب الحكمة.
والحكمة موافقة المبعوث إليهم في اللسان، وأسلوب البيان، وأشير إلى هذا المعنى في آية: لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ، ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... [فصلت: 44] ، وما كان في العرب في وقت نزول القرآن كتاب، لا من الكتب الإلهية، ولا من مؤلف البشر.
وما كان العرب يعلمون ما اخترع المصنفون الآن من الترتيب. فإن كنت في شك من هذا فتأمل قصائد الشعراء المخضرمين، وأقرا رسائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومكاتيب عمر الفاروق رضي الله عنه ليتضح هذا المعنى. فلو قيل بخلاف طورهم، لبقوا في حيرة حين يصل إلى سمعهم شيء غير معهود، فيشوش فهمهم. وأيضا ليس المقصود مجرد الإفادة، بل الإفادة مع الاستحضار والتكرار، وهذا المعنى، في غير المرتب، أقوى وأتم.
إن سألوا لمَ لم يختر وزنا وقافية. يعتبران عند الشعراء، فإنهما ألذّ من هذا الوزن والقافية؟ قلنا: كونهما ألذّ، يختلف باختلاف الأقوام والأذهان. وعلى التسليم، فإبداع طور من الوزن والقيافة على لسان حضرة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وهو أميّ، آية ظاهرة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم. ولو نزل القرآن على وزن الشعراء وقافيتهم لحسب الكفار أنه هو الشعر المشهور المعروف في العرب، ولم يأخذوا من ذلك الحسبان فائدة، كما إذا أراد البلغاء من أهل النظم والنثر أن يثبتوا مزيتهم ورجحانهم على المعاصرين على رؤوس الأشهاد، استنبطوا صناعة غريبة، وقالوا: هل يستطيع أحد أن يقول شعرا أو غزلا على هذا الطور؟ أو يكتب كتابا على هذا النمط؟ ولو كان إنشاؤهم على الطور القديم لما ظهرت براعتهم إلا عند المحققين.
إن سألوا عن إعجاز القرآن: من أي وجه هو:؟ قلنا: المحقق عندنا أنه لوجوه كثيرة:
منها الأسلوب البديع. لأن العرب كانت لهم ميادين معلومة يركضون فيها(1/176)
جواد البلاغة ويحرزون قصبات السبق في مسابقة الأقران بالقصائد والخطب، والرسائل والمحاورات. وما كانوا يعرفون أسلوبا غير هذه الأوضاع الأربعة، ولا يتمكنون من إبداعه. فإبداع أسلوب غير أساليبهم على لسان حضرته صلّى الله عليه وسلّم، وهو أمّيّ، عين الإعجاز.
ومنها الإخبار بالقصص والأحكام والملل السابقة، بحيث كان مصدقا للكتب السابقة.
ومنها الإخبار بأحوال مستقبلة، فكلما وجد شيء على طبق ذلك الإخبار ظهر إعجاز جديد.
ومنها الدرجة العليا في البلاغة مما ليس مقدورا للبشر. ونحن لما جئنا بعد العرب الأول، ما كنا لنصل إلى كنه ذلك، ولكن القدر الذي علمناه أن استعمال الكلمات والتركيبات العذبة الجزلة مع اللطافة وعدم التكلف في القرآن العظيم- أكثر منه في قصائد المتقدمين والمتأخرين. فإنا لا نجد من ذلك فيها قدر ما نجده في القرآن، وهذا أمر ذوقي يتمكن من معرفته المهرة من الشعراء، وليس للعامة من الناس ذائقة في هذا الأمر. وأيضا نعلم من الغرابة فيه إنه يلبس المعاني من أنواع التذكير والمخاصمة في كل موضع لباسا يناسب أسلوب السورة، وتقصر يد المتطاول عن نيله، وإن كان أحد لا يفهم هذا الكلام فليتأمل إيراد قصص الأنبياء، في سورة الأعراف، وهود والشعراء، ثم لينظر تلك القصص في الصافات، ثم في الذاريات ليظهر له الفرق. وكذلك تعذيب العصاة وتنعيم المطيعين فإنه يذكر في كل مقام بأسلوب جديد. ويذكر مخاصمة أهل النار في كل مقام بصورة على حدة.
والكلام في هذا يطول.
وأيضا نعلم إنه لا يتصور رعاية مقتضى المقام، الذي تفصيله في فن المعاني، والاستعارات، والكنايات، التي تكفل بها فن البيان مع رعاية حال المخاطبين الأميين الذين لا يعرفون هذه الصناعات- أحسن مما يوجد في القرآن العظيم. فإن المطلوب هاهنا أن يذكر في المخاطبات المعروفة التي يعرفها كل من الناس نكتة رائقة للعامة، مرضية عند الخاصة، وهذا المعنى كالجمع بين النقيضين.
يزيدك وجه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
ومن جملة وجوه الإعجاز ما لا يتيسر فهمه لغير المتدبرين في أسرار الشرائع.
وذلك أن العلوم الخمسة نفسها. تدل على أن القرآن نازل من عند الله لهداية بني(1/177)
آدم، كما أن عالم الطب إذا نظر في القانون ولا حظ تحقيقه وتدقيقه في بيان أسباب الأمراض وعلاماتها، ووصف الأدوية- لا يشك أن المؤلف كامل في صناعة الطب.
كذلك إذا علم عالم أسرار الشرائع ما ينبغي إلقاؤه على أفراد الناس في تهذيب النفوس، ثم يتأمل في الفنون الخمسة- يتحقق أن هذه الفنون قد وقعت موقعها بوجه لا يتصور أحسن منه. والنور يدل نفسه على نفسه. انتهى المنقول من الفوز الكبير.
الرخصة بقراءة القرآن على سبعة أحرف في العهد النبويّ
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، من رواية جمع من الصحابة أنافوا على العشرين- كما في الإتقان- وعدّ أبو عبيد
الحديث المرويّ فيه متواترا: «1»
أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ومما
خرجه رواة الصحاح من طرقه: ما وقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «2» وتلبيبه هشام بن حكيم برادئه، وانطلاقه به يقوده إلى رسول الله صلوات الله عليه وقوله: يا رسول الله سمعت هشاما يقرأ على حرف لم تقرئنيه. فاستقرأه عليه السلام فقرأ عليه. فقال: «كذلك أنزلت» . ثم استقرأ عمر فقرأ. فقال له عليه السلام:
«كذلك أنزلت» . ثم قال صلوات الله عليه: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه.» زيد في رواية: «كلها شاف كاف» «3»
،
وفي رواية أم أيوب
__________
(1) أخرجه البخاري في الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض.
(2)
أخرج البخاري في فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: عن عمر بن الخطاب: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته. فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فكدت أساوره في الصلاة، فتصبّرت حتى سلّم. فلبّبته بردائه. فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: كذبت. فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسله. اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«كذلك أنزلت» ثم قال: «اقرأ يا عمر» . فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرؤوا ما تيسر منه» ..
(3)
أخرج أبو داود في الوتر، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف حديث 1477: عن أبي بن كعب قال:
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبي! إني أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: قل: على ثلاثة.
قلت: على ثلاثة. حتى بلغ سبعة أحرف. ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما. ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» .(1/178)
رضي الله عنها: «أيها قرأت أصبت» «1»
وصح من رواية أبيّ بن كعب، أن النبيّ عليه السلام استزاد جبريل لما قرأه على حرف حتى بلغ سبعة أحرف،
وفي رواية لأبيّ قال:
قال النبيّ لجبريل عليهما السلام: «إني بعثت إلى أمة أميين. منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز» «2» فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف. زاد في رواية: فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا.
أخرج ابن جرير عن الأعمش قال: قرأ أنس هذه الآية: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا فقال له بعض القوم: يا أبا حمزة! إنما هي أقوم. فقال: أقوم وأصوب وأهنأ واحد.
وعن شقيق قال: قال عبد الله بن مسعود: إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم. وإياكم والتنطع. فإنما هو كقول أحدكم: هلمّ وتعال.
وقال ابن سيرين: لا تختلف السبع في حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي: هو كقولك: تعال وهلمّ وأقبل. كذا في ابن جرير.
قال الإمام ابن قتيبة في كتاب المشكل: كان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرى عليه عادتهم، فالهذلي يقرأ:
(عتى حين) يريد حتى كذا يلفظ بها ويستعملها، والنميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ: (قيل وغيض) بإشمام الضم مع الكسر، بِضاعَتُنا رُدَّتْ بإشمام الكسر مع الضم.
ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا- لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة. فأراد الله، برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متّسعا في اللغات ومتصرّفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين.
قال أبو شامة: معنى قول كثير من الصحابة والتابعين: القراءة سنة يأخذها
__________
(1)
أخرج الإمام أحمد في مسنده، 6/ 433 و 462، عن أم أيوب قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف أيها قرأت أجزأك»
. (2)
أخرج الترمذي في القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف: عن أبيّ بن كعب قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل. فقال: «يا جبريل. إنّي بعثت إلى أمة أميين. منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط» فقال: يا محمد. إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.(1/179)
الآخر عن الأول، فاقرؤوا كما علمتم. هو أن السنة المشار إليها ما
ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأه، أو أذن فيه على ما صح عنه «أن القرآن أنزل على سبعة أحرف»
فلأجل ذلك كثر الاختلاف في القراءة في زمانه وبعده. إلى أن كان ما كان في عهد عثمان وجمعهم على حرف واحد- كما سيأتي بيانه مفصّلا.
معنى السبع في حديث «أنزل على سبعة أحرف»
ليس المراد بالسبع حقيقة العدد المعلوم. بل كثرة الأوجه التي تقرأ بها الكلمة، على سبيل التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ السبعة يطلق على الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين. كذا في الإتقان.
وحمل بعضهم العدد على ألسن سبعة. وحمل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور في الحديث على الوجوه التي يقع بها التغاير. كتغير الحركة مع بقاء المعنى والصورة. وتغير الفعل ماضيا أو أمرا. وتغير بإعجام حرف أو إهماله. وتغير بإبدال حرف قريب من مخرج حرف آخر. وتغير بالتقديم والتأخير، وتغير بزيادة كلمة أو نقصانها، وتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها.
والأظهر ما ذكرنا من إرادة الكثرة من السبعة، لا التحديد. فيشمل ما ذكره ابن قتيبة وغيره من تغير بإدغام أو إظهار أو تفخيم أو إشمام أو غيرها.
وقال ابن جرير: فإن قال لنا قائل: فهل لك من علم بالألسن السبعة التي نزل بها القرآن؟ وأي الألسن هي من ألسن العرب؟ قلنا: أما الألسن التي قد نزلت القراءة بها فلا حاجة بنا إلى معرفتها. لأنا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها مع الأسباب المتقدمة- يعني في كلامه من سبب الاقتصار على حرف واحد كما ستراه قريبا- وقد قيل إن خمسة منها لعجز هوازن واثنين منها لقريش وخزاعة. وروي ذلك عن ابن عباس.
وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله.
قال ابن جرير: العجز من هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف. ثم قال ابن جرير:
أما معنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف «إن كلها شاف كاف»
فإنه كما قال جل ثناؤه في وصفه القرآن: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] ، شفاء(1/180)
يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته.
وقال الإمام أبو شامة: إن القرآن نزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتهم التي جزت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب. قال الطحاويّ: إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد. لعدم علمهم بالكتابة والضبط، وإتقان الحفظ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسير الكتابة والحفظ يعني بالنسخ ما أقره عثمان في المصاحف التي كتبها كما سيأتي:
معنى الأحرف في الحديث
قال الداني: الأحرف الأوجه. أي أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات.
لأن الأحرف جمع في القليل. كفلس وأفلس. والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ... [الحج: 11] الآية. فالمراد بالحرف الوجه. أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية. فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأنّ وعبد الله.
وإذا تغيرت عليه وامتحنه الله بالشدة والضر ترك العبادة وكفر. فهذا عبد الله على وجه واحد. فلهذا سمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات، أحرفا. على معنى أن كل شيء منها وجه. وذكر الإمام ابن جرير في قول ابن مسعود: من قرأ القرآن على حرف فلا يتحولن منه إلى غيره- أنه عنى، رضى الله عنه، أن من قرأ بحرفه، وحرفه قراءته. قال: وكذلك تقول العرب لقراءة رجل: حرف فلان. وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة: حرف. كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر: كلمة فلان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في تحقيق أن المراد بالحرف الكلمة، فيما نقله عنه الحافظ ابن الجزريّ، في أواخر النشر، ما مثاله: وأما تسمية الاسم وحده كلمة والفعل وحده كلمة، والحرف وحده كلمة مثل: هل وبل، فهذا اصطلاح محض لبعض النحاة. ليس هذا من لغة العرب أصلا. وإنما سمى العرب هذه المفردات حروفا. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات. أما
__________
(1) أخرجه الدارمي في فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن.(1/181)
إني لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»
والذي عليه محققو العلماء أن المراد بالحرف الاسم وحده، والفعل وحده، وحرف المعنى وحده. لقوله: ألف حرف، وهذا اسم. ولهذا، لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاي من زيد فقالوا: زاي. فقال: نطقتم بالاسم. وإنما الحرف زه.
الرد على من توهم أن بعض الصحابة يجوّز التلاوة بالمعنى
قال ابن الجزريّ في النشر: أما من يقول بأن بعض الصحابة، كابن مسعود، كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه. إنما قال: نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرؤوا كما علمتم. نعم كانوا ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محقّقون لما تلقّوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس. وربما كان بعضهم يكتبه معه. لكن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك ويمنع منه. رواه عنه مسروق. وروي عنه: جرّدوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه.
اقتصار عثمان رضي الله عنه في جمعه، على الحرف المتواتر
قال ابن الجزريّ في النشر: لما كان في حدود سنة ثلاثين من الهجرة، في خلافة عثمان رضي الله عنه، حضر حذيفة بن اليمان فتح إرمينية وأذربيجان، فرأى الناس يختلفون في القرآن. ويقول أحدهم: قراءتي أصح من قراءتك. فأفزعه ذلك.
وقدم على عثمان وأشار إليه بأن يتدارك هذا الأمر. فأمر بالصحف الموجودة أن تنسخ في المصاحف. وأشار أن يكتب بلسان قريش لأنه أنزل بلسانهم. فكتب منها عدة مصاحف. فوجه منها إلى مكة واليمن والبحرين والبصرة والكوفة والشام. وترك بالمدينة مصحفا. وأمسك لنفسه مصحفا (الذي يقال له الإمام) وأجمعت الأمة على ما تضمنته هذه المصاحف، وترك ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى. مما كان مأذونا فيه، توسعة عليهم، ولم يثبت عندهم ثبوتا مستفيضا أنه من القرآن.
وقال ابن الحصار: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي.
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»
وقد حصل اليقين من النقل المتواتر، بهذا الترتيب، من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.(1/182)
وقال الحارث المحاسبيّ: إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراآت. فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن. فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق.
وقال ابن التين: اقتصر عثمان، من سائر اللغات، على لغة قريش. محتجا بأنه نزل بلغتهم. وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت. فاقتصر على لغة واحدة.
وقال القاضي أبو بكر، في الانتصار: لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإلغاء ما ليس كذلك. وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته، كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة، على ما يأتي بعد.
ينتج عن ذلك مسألة وهي: هل الأحرف السبعة موجودة في المصحف اليوم؟
جوابه ما قاله ابن جرير: إنا لم ندّع أن ذلك موجود اليوم. وإنما أخبرنا أن معنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرها (يعني عن ابن مسعود وغيره) .
ثم قال ابن جرير:
فإن قال: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة وقد أقرأهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، وأمر بالقراءة. بهن وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلّى الله عليه وسلّم: أنسخت فرفعت؟
فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه.
أم ما القصة في ذلك؟
قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة، وهي مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت.
كما أمرت، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة، أن تكفّر بأي الكفارات الثلاث شاءت. إما بعتق أو إطعام، أو كسوة. فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة حكم الله، مؤدّية، في ذلك، الواجب عليها من حق الله. فكذلك الأمة. أمرت بحفظ(1/183)
القرآن وقراءته. وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءته بحرف واحد. ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية. ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به.
يعني ممن كان في عهد النبوة متلقيا لذلك من الحضرة النبوية.
ثم قال ابن جرير:
لما جمع إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه على تلاوة القرآن بحرف واحد في مصحف واحد، رأت الأمة أن فيما فعل الرّشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها. فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها، وعفوّ آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية.
فإن قال بعض من ضعفت معرفته: كيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها الرسول صلوات الله عليه وأمرهم بقراءتها؟
قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لأن القراءة بها، لو كانت فرضا عليهم، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من تقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قراءة الأمة. وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجيب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع، تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا إذ كان الذي فعلوا من ذلك، كان كان هو النظر للإسلام وأهله. فكان القيام بفعل الواجب عليهم، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة، من ذلك. (أي من الجناية على الإسلام) .
بيان أن اختلاف القراءة في رفع حرف ونصبه ونحوه ليس من السبعة الأحرف
قال ابن جرير: وأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه،(1/184)
وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة-. فمن معنى
قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف»
بمعزل. لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن- مما اختلفت القراء في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر الممارى به، في قول أحد من علماء الأمة. وقد أوجب عليه الصلاة والسلم بالمراء فيه الكفر من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه، وتظاهرت عنه بذلك الرواية.
سبب الاقتصار على قراءات الأئمة المشهورين
لما جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وأمر بأن يرسل للآفاق مصاحف على ما جمعه، كما تقدم، وكانت كتابتها مجردة من الشكل والنقط، فقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه من في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وأول من نقط المصحف وشكله الحجاج، بأمر عبد الملك بن مروان. وقيل أبو الأسود الدؤليّ. وقيل الحسن البصريّ ويحيى بن يعمر. ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته وفاقا لبدعهم. كمن قال من المعتزلة: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] ، بنصب الهاء- رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم.
فاختاروا من كل مصر، وجّه إليه مصحف، أئمة مشهورين بالثقة والأمانة بالنقل وحسن كمال الدين، وكمال العلم. أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء، واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا، والثقة بهم فيما قرءوا، ولم تخرج قراءاتهم عن خط مصحفهم. فمنهم بالمدينة أبو جعفر وشيبة، ونافع. وبمكة عبد الله بن كثير وابن محيصن والأعرج. وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود، والأعمش، وحمزة، والكسائيّ، وبالشام عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابيّ، ويحيى بن الحارث الزماريّ. وبالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق، وأبو عمرو ابن العلاء، وعاصم الجحدريّ، ويعقوب الحضرميّ.
ثم إن القراء بعد ذلك تفرقوا في البلاد وخلفهم أمم بعد أمم. إلا أنهم كان فيهم المتفق وغيره، فلذا كثر الاختلاف وعسر الضبط، وشق الائتلاف. وظهر التخليط، وانتشر التفريط، واشتبه متواتر القراءات بفاذّها، ومشهورها بشاذها. فمن ثمّ وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه، ومعيارا يعول عليه، وهو السند والرسم والعربية. فكل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية، وأوفق لفظه خط مصحف الإمام فهو من(1/185)
السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات على سبعة، كانوا لولاه سبعة آلاف، ومتى سقط شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ. هذا لفظ الكواشيّ في أول تفسيره.
إلا أن بعضهم لم يكتف بصحة السند فقط، بل اشترط معها التواتر. ذاهبا إلى أن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وقوّاه أبو القاسم النويريّ بأن عدم اشتراط التواتر قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم، لأن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر.
ثم قال النويريّ: ولم يخالف من المتأخرين إلا مكيّ، وتبعه بعض المتأخرين:
يعني في الاكتفاء بالمعيار الذي ذكره الكواشيّ.
قال القسطلاني في اللطائف: وها (يعني اشتراط التواتر) بالنظر لمجموع القرآن. وإلا فلو اشترطنا التواتر في كل فرد فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم. كذا في اللطائف للقسطلانيّ.
ورود القراءات عن أئمة الأمصار على موافقة مصاحفهم العثمانية
ثبتت أحرف في بعض المصاحف العثمانية المرسلة إلى البلاد المتقدمة لم توجد في البقية. فاتبع أئمة كل مصر منها مصحفهم، فمن ذلك قراءة ابن عمر قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة: 116] ، بغير واو، في البقرة: وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [آل عمران: 184] ، بزيادة الباء في الاسمين. ونحو ذلك. فإن ذلك ثابت في المصحف الشاميّ. وكقراءة ابن كثير جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الحديد:
24] ، في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة (من) فإن ذلك ثابت في المصحف المكيّ. وكذلك إن اللَّهُ الْغَنِيُّ [الحديد: 24] ، في سورة الحديد بحذف (هو) ، وكذا سارِعُوا [آل عمران: 133] ، بحذف (الواو) وكذا مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف: 36] ، بالتثنية في الكهف. إلى غير ذلك في مواضع كثيرة في القرآن. اختلفت المصاحف فيها فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار في موافقة مصحفهم. كذا في النشر.(1/186)
موافقة القراءات لرسم المصحف العثمانيّ تحقيقا أو تقديرا
قال ابن الجزريّ، في النشر: موافقة الرسم قد تكون تحقيقا وهي الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديرا، وهي الموافقة احتمالا. فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعا نحو السَّماواتِ، والرِّبَوا ونحو لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14] ، وَجِيءَ [الزمر: 69] ، حيث كتب بنون واحدة، وبألف بعد الجيم في بعض المصاحف.
وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقا، وتوافق بعضها تقديرا نحو ملك يوم الدين [الفاتحة: 4] ، فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 2] ، وقراءة الألف تحتمله تقديرا كما كتب مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] ، فتكون الألف حذفت اختصارا. وكذلك النَّشْأَةَ [العنكبوت: 20] ، حيث كتبت بالألف وافقت قراءة المد تحقيقا ووافقت قراءة القصر تقديرا، إذ يحتمل أن تكون الألف صورة الهمزة على غير قياس. وقد يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقا نحو يَغْفِرْ لَكُمْ [آل عمران: 31] ، وتَعْمَلُونَ، وهَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] . مما يدل تجرده عن النقط والشكل وحذفه وإثباته- على فضل عظيم للصحابة رضي الله عنهم في علم الهجاء خاصة، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم.
وقال أيضا بعد أوراق: ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء، ثم إنهم لمّا كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوّين- شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين. فإن الصحابة، رضوان الله عليهم، تلقوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أمره الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن، لفظه ومعناه جميعا، ولم يكونوا ليسقطوا شيئا من القرآن الثابت عنه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يمنعوا من القراءة به.
ما لا يعد مخالفا لصريح الرسم من القراءات الثابتة
قال في النشر بعد ما تقدم: على أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت(1/187)
مشهورة مستفاضة. ألا ترى أنهم لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء تَسْئَلْنِي [الكهف: 70] ، في الكهف: وقراءة (وأكون من الصالحين) والظاء من بِضَنِينٍ [التكوير: 24] ونحو ذلك، من مخالف الرسم المردود. فإن الخلاف في ذلك يغتفر، إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشية صحة القراءة وشهرتها وتلقيتها بالقبول- وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى لو كانت حرفا من حروف المعاني، فإن حكمه في حكم الكلمة لا يسوغ مخالفة الرسم فيه. وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته.
مدار القراءات على صحة النقل لا على الأقيس، عربية
قال الداني في جامع البيان: أئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية. بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية. إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة. لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها.
ذكر من ذهب إلى أن مرجع القراءات ليس هو السماع بل الاجتهاد
يفهم من مواضع من الكشاف اعتماده أن مرجع القراءات اجتهاد الأئمة القارئين. ولذلك جاء في سورة الكهف عند آية هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف: 44] ما مثاله: وقرأ عمرو بن عبيد بالنصب على التأكيد كقولك: هذا عبد الله الحقّ لا الباطل. وهي قراءة سنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد من أفصح الناس وأنصحهم. فكتب الناصر في الانتصاف يتعقبه ما مثاله: قد تقدم الإنكار عليه في مثل هذا القول، فإنه يوهم أن القراءات موكولة إلى رأي الفصحاء واجتهاد البلغاء، فتتفاوت في الفصاحة لتفاوتهم فيها، وهذا منكر شنيع. والحق أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ إلا بما سمعه فوعاه متصلا بفلق فيه صلّى الله عليه وسلّم، منزلا كذلك من السماء، فلا وقع لفصاحة الفصيح. وإنما هو ناقل كغيره. ولكن الزمخشري لا يفوته الثناء على رأس البدعة ومعدن الفتنة. فإن عمرو بن عبيد أول مصمم على إنكار القدر وهلم جرّا إلى سائر البدع الاعتزالية. فمن ثم أثنى عليه. يعني بما تقدم له، ما ذكره في سورة الأنعام في آية وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] ، وذلك أن الزمخشري قال هناك: وأما قراءة ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم. برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء(1/188)
والفصل بينهما بغير الظرف- فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا كما سمج وردّ:
زجّ القلوص أبي مزادة
فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكائِهِمْ مكتوبا بالياء.
فكتب الناصر عليه ما ملخصه: إن الزمخشريّ ركب متن عمياء، فإنه تخيل أن القرء، أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا.
فلذلك غلّط ابن عامر في قراءته هذه. وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب أولادهم بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا. فقرأه منصوبا- إلى أن قال- فهذا كله كما ترى ظنّ من الزمخشريّ أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشريّ أن هذه القراءة، بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه، بها يعلم ضرورة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأها على جبريل كما أنزلها عليه كذلك ثم تلاها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرءون بها خلفا عن سلف. إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة، جملة وتفصيلا، عن أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشريّ ولا بقول أمثاله، ممن لحن ابن عامر، وظن أن القراءة تثبت بالرأي، غير موقوفة على النقل. والحامل هو التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية.
فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها. انتهى.
فتأمل. والأمر يحتاج إلى كلام من خالف بحروفه وتمحيص بالنظر في أطرافه وما برهنوا عليه.
ثم رأيت في «مفاتيح الأصول في علم الأصول» للسيد الطباطبائيّ بحثا مسهبا في بيان تواتر القراءات وعدمه. سأذكره بعد ورقات.
بحث أسانيد الأئمة السبعة هل هي متواترة أم آحاد
قال الزركشيّ، في البرهان: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم للبيان والإعجاز. والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي(1/189)
المذكور في الحروف وكيفيتها، من تخفيف وتشديد وغيرهما. والقراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل بل هي مشهورة، ثم قال الزركشيّ: والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة. أما تواترها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ففيه نظر، فإن إسنادهم بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات. وهي نقل الواحد عن الواحد. نقله في الإتقان.
ونقل السروجيّ الحنفيّ في «باب الصوم» من كتاب «الغاية شرح الهداية» :
عن المعتزلة، أن السبع آحاد. وعن جميع أهل السنة، أنها متواترة. ومراده بالجميع المجموع. وإلا فقد اختار صاحب البدائع، من متأخري الحنفية، فيما نقله الكمال ابن أبي شريف، أن السبع مشهورة. حكاه القسطانيّ في اللطائف. ثم قال:
(فإن قلت:) الأسانيد إلى الأئمة السبعة وأسانيدهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، على ما في كتب القراءات، آحاد. لا يبلغ عدد التواتر. فمن أين جاء التواتر؟
(أجيب) بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم. وإنما نسبت القراءات إلى الأئمة. ومن ذكر في أسانيدهم، والأسانيد إليهم، لتصدّيهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها. ومع كل منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر. لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد، بقراءة إمامهم، الجمّ الغفير عن مثلهم. وكذلك دائما، مع تلقي الأمة لقراءة كل منهم بالقبول.
وقال السخاويّ ولا يقدح في تواتر القراءات السبع إذا أسندت من طريق الآحاد كما لو قلت: أخبرني فلان عن فلان أنه رأى مدينة سمرقند، (وقد علم وجودها بطريق التواتر) - لم يقدح ذلك فيما سبق من العلم بها. فقراءة السبع كلها متواترة.
رأي الإمام أبي شامة في تواتر ما أجمع عليه من غير نكير
نقل ابن الجزريّ في النشر: عن الإمام الكبير أبي شامة، في مرشده، أنه قال:
قد شاع عن ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين، أن القراءات السبع كلها متواترة. أي كل فرد فرد مما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة، قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب. ونحن بهذا نقول. ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق، واتفقت عليه الفرق من غير نكير له. مع أنه شاع واشتهر واستفاض. فلا أقل من اشتراط ذلك إذ لم يتفق التواتر في بعضها.(1/190)
رأي ابن الحاجب وغيره في تواتر ما ليس من قبل الأداء
قال ابن الحاجب: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبل الأداء. كالمد والإمالة وتحقيق الهمزة ونحوه. أي فإنه غير متواتر. (قالوا) : ليس المراد من قوله:
كالمد، أصل المد فإنه متواتر. بل مقدار المزيد فيه على أصله. هل يقتصر فيه على مقدار ألف ونصف، كما قدّر به مدّ الكسائيّ؟ أو ثلاثة كما قدر به مد ورش وحمزة؟
وكل هذه الهيئات غير متواترة عند ابن الحاجب وأبي حنيفة. كما صرح به غير واحد من أئمة التحقيق (كذا في اللطائف) .
وقال القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه، في بحث علوم القرآن من التفسير والقراءات، ما مثاله:
القرآن كلام الله المنزل على نبيّه، المكتوب بين دفتي المصحف، وهو متواتر بين الأمة. إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه، وكيفيات الحروف في أدائها. وتنوقل ذلك واشتهر. إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة. تواتر نقلها أيضا بأدائها. واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير. فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة، وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع. إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل.
وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها. وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء، وهو غير منضبط. وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. وأباه الأكثر. وقالوا بتواترها. وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها، كالمدّ والتسهيل. لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع. وهو الصحيح.
بحث القراءات الشاذة
قال الحافظ ابن الجزريّ في النشر: قال الإمام أبو محمد مكيّ: إن جميع ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به اليوم. وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال. وهي أن ينقل عن الثقات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا، ويكون موافقا لخط المصحف- فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثالث قرئ به وقطع على مغيّبه وصحته وصدقه. لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف. وكفر من جحده.(1/191)
القسم الثاني:
ما صح نقله عن الآحاد، وصح وجهه في العربية، وخالف لفظه خط المصحف. فهذا يقبل ولا يقرأ به. لعلتين: إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع، إنما أخذ بأخبار الآحاد. ولا يثبت قرآن، يقرأ به، بخبر الواحد. والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع على مغيّبه وصحته. وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا كفر من جحده. ولبئس ما صنع، إذا جحده.
القسم الثالث:
هو ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية، فهذا لا يقبل، وإن وافق خط المصحف.
قال ابن الجزريّ: مثال القسم الأول: مالك، وملك. يخدعون، ويخادعون.
وأوصى، ووصى. وتطوع، ويطوع. ونحو ذلك من القراءات المشهورة. ومثال القسم الثاني: قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء (والذكر والأنثى) في وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وقراءة ابن عباس: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) ، (وأما الغلام فكان كافرا) ونحو ذلك مما ثبت برواية الثقات.
واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة. فأجازها بعضهم. لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة. وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعيّ وأبي حنيفة. وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد. وأكثر العلماء على عدم الجواز. لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإن ثبتت بالنقل، فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثمانيّ.
أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن. أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة.
ومقال القسم الثالث، مما نقله غير ثقة: كثير مما في كتب الشواذ مما غالبه إسناده ضعيف. كقراءة ابن السّميفع وأبي السمال وغيرهما في نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ننحيك بالحاء المهملة. وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعيّ ونقلها عنه أبو القاسم الهذليّ وغيره فإنها لا أصل لها. ومنها إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع الهاء ونصب الهمزة. وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه وتكلف توجيهها.
قال ابن الجزريّ: وإن أبا حنيفة لبريء منها.
ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية، ولا يصدر مثله إلا على وجه السهو(1/192)
والغلط، وعدم الضبط. يعرفه الأئمة المحققون، والحفاظ الضابطون، وهو قليل جدا، بل لا يكاد يوجد، وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع (ومعائش) - بالهمزة- وما رواه ابن بكار عن أيوب عن يحيى عن ابن عامر من فتح ياء أَدْرِي أَقَرِيبٌ، مع إثبات الهمزة، وهي رواية زيد وأبي حاتم عن يعقوب، وما رواه أبو عليّ العطار عن العباس عن أبي عمرو ساحران تظاهرا بتشديد الظاء، والنظر في ذلك لا يخفى.
ثم قال ابن الجزريّ:
وبقي قسم مردود أيضا، وهو ما وافق العربية والرسم، ولم ينقل البتة، فهذا رده أحق، ومنعه أشد. وقد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم البغداديّ المقري النحويّ، وكان بعد الثلاثمائة. قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه «البيان» وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل من صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف، فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها. فابتدع بدعة ضل بها عن قصد السبيل.
(قلت) وقد عقد له بسبب ذلك مجلس ببغداد، حضره الفقهاء والقراء، وأجمعوا على منعه، وأوقف للضرب فتاب ورجع، وكتب عليه بذلك محضر، كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.
قلت: ونقله القاضي أبو بكر في الانتصار، ورده. وعبارته: وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف، إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ بها. قال: وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطؤوا من قال به.
قال ابن الجزريّ: ومن ثمّ امتنعت القراءة بالقياس المطلق، وهو الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه، كما روينا عن عمر ابن الخطاب وزيد بن ثابت وكثير من التابعين أنهم قالوا: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرأوا كما علمتوه.
ثم قال ابن الجزريّ:
أما إذا كان القياس على إجماع انعقد، أو عن أصل يعتمد، فيصار إليه عند عدم النص، وغموض وجه الأداء، فإنه مما يسوغ قبوله، ولا ينبغي رده، لا سيما فيما(1/193)
تدعو إليه الضرورة، وتمس الحاجة، كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء، وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء، ونقل «كتابيه أني» وإدغام «ماليه هلك» قياسا عليه، وكذلك قياس «قال رجلان، وقال رجل» على «قال رب» في الإدغام» ، كما ذكره الداني وغيره. ونحو ذلك مما لا يخالف نصا، ولا يرد إجماعا ولا أصلا، مع أنه قليل جدا وإلى ذلك أشار مكيّ بن أبي طالب رحمه الله في كتابه «التبصرة» حيث قال: فجميع ما ذكرنا في هذا الكتاب ينقسم ثلاثة أقسام: قسم قرأت به ونقلته وهو منصوص في الكتب موجود، وقسم قرأت به وأخذته لفظا أو سماعا وهو غير موجود في الكتب، وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب، ولكن قسته على ما قرأت به، إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرؤية في النقل والنص، وهو الأقل.
وقال ابن الجزريّ:
وقد زلّ بسبب ذلك قوم وأطلقوا قياس ما لا يروى على ما روي، وما له وجه ضعيف على الوجه القويّ، كأخذ بعض الأغبياء بإظهار الميم المقلوبة من النون والتنوين.
بيان أن كل قراءة صحت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجب قبولها والإيمان بها
قال الحافظ ابن الجزريّ في النشر: كل ما صح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من القراءات، فقد وجب قبوله، ولم يسع أحدا من الأمة رده، ولزم الإيمان به، وأنّ كله منزل من عند الله، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية، يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض، وإلى ذلك أشار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: «لا تختلفوا في القرآن ولا تتنازعوا فيه، فإنه لا يختلف ولا يتساقط، ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وقراءتها وأمر الله فيها واحد، ولو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء ينهى عنه الآخر، كان ذلك الاختلاف. ولكنه جامع ذلك كله، ومن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبة عنها، فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله» .
قال ابن الجزريّ: قلت: وإلى ذلك أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث
قال لأحد المختلفين «أحسنت»
وفي الحديث الآخر «أصبت»
وفي الآخر «هكذا أنزلت»
فصوّب النبيّ(1/194)
صلّى الله عليه وسلّم قراءة كل من المختلفين وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله.
افتراق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء
قال ابن الجزريّ، بعد ما تقدم: وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء، فإن اختلاف القراء كله حق وصواب نزل من عند اللَّه وهو كلامه لا شك فيه. واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهاديّ، والحق في نفس الأمر واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك ونؤمن به.
معنى إضافة القراءة إلى من قرأ بها
ثم قال ابن الجزريّ، بعد ما تقدم: ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك. وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم. المراد بها أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به. فآثره على غيره وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به، وقصد فيه وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد.
ثمرة اختلاف القراءات وتنوّعها
قال في النشر: «وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها فإن في ذلك فوائد غير ما قدمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة. فمنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز، لأنّ كلّ قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات. ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضادّ ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبيّن بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد، وما ذلك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلّى الله عليه وسلّم. ومنها: سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة. فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيما في ما كان خطه واحدا، فإن ذلك أسهل حفظا، وأيسر لفظا.(1/195)
ومنها: إعظام أجور هذه الأمة- من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم- في تتبع معاني ذلك، واستنباط الحكم والأحكام: من دلالة كلّ لفظ، واستخراج كمين أسراره، وخفيّ إشاراته بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم، والأجر على قدر المشقّة. ومنها: بيان فضل هذه الأمة وشرفه على سائر الأمم من حيث تلقّيهم كتاب ربهم هذا التلقّي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظة لفظة، والكشف عن صيغة صيغة، وتحرير تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، وميّزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمّة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم. ومنها: ما ذخره الله تعالى من المنقبة العظيمة، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة، من إسنادها كتاب ربها واتصال هذا السبب الإلهيّ بسببها، فكلّ قارئ يوصل حرفه بالنقل إلى أصله، ويرفع ارتياب الملحد قطعا بوصله. ومنها: ظهور سر الله تعالى في تولّيه حفظ كتابه العزيز، وصيانة كلامه المنزل بأوفى البيان والتمييز، فإنه تعالى لم يخل عصرا من الأعصار، ولو في قطر من الأقطار، من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقراءاته، يكون وجوده سببا لوجود هذا السبب القويم على ممر الدهور، وبقاؤه دليلا على بقاء القرآن العظيم في المصحف والصدور» انتهى.
إجمال المباحث المتقدمة في تواتر القراءات وعدمها
قال السيد محمد الطباطبائيّ- أحد أعلام الإمامية- في كتابه «مفاتيح الأصول» في: باب أدلّة الأحكام في القول في الكتاب الكريم. ما مثاله:
اختلفوا في أنّ القراءات السبع المشهورة، هل هي متواترة، أو لا؟ على أقوال:
الأول: إنها متواترة مطلقا، وإن الكلّ مما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين. هو للعلامة ابن المطهر، وابن فهد، والمحقق الثاني في المعالم، والشهيد الثاني في المقاصد العلية، والمحدث الحر العامليّ، والمحكيّ عن الفاضل الجواد، وفي شرح الوافية للسيد صدر الدين، معظم المجتهدين من أصحابنا حكموا بتواتر القراءات السبع. وفي التفسير الكبير للرازيّ: ذهب إليه الأكثرون.
الثاني: إن القراءات السبع منها ما هو من قبيل الهيئة كالمدة واللين وتخفيف(1/196)
الهمزة والإمالة ونحوها، وذلك لا يجب تواتره وغير متواتر. ومنها: ما هو من جوهر اللفظ كملك ومالك وهذا متواتر. وهذا للفاضل البهائيّ، وابن الحاجب في مختصره، والعضديّ في شرحه.
الثالث: إنها ليست بمتواترة مطلقا لو كانت من جوهر اللفظ، وهو للشيخ في «التبيان» ونجم الأئمة في «شرح الكافية» ، وجمال الدين الخونساريّ، والسيد نعمة الله الجزائريّ، والشيخ يوسف البحرانيّ، والسيد صدر الدين، والمحكيّ عن ابن طاوس في كتاب «سعد السعود» ، والرازيّ، والزمخشريّ، وإليه يميل كلام الحرفوشيّ.
للقول الأول وجوه:
منها: تضمن جملة من العبارات الإجماع على تواتر السبع: وقد يناقش فيه:
أولا: بأنّ غاية ما يستفاد- مما ذكر- الظن بتواتر السبعة، ومحل الكلام حصول العلم به. وثانيا: باحتمال أن يريدوا ما ذكره الشهيد الثاني في «المقاصد العلية» وولد الشيخ البهائي فقالا: «ليس المراد أن كل ما ورد من هذه القراءات متواتر، بل المراد انحصار المتواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات، فإن بعض ما نقل عن السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم» انتهى.
وباحتمال أن يريدوا جواز القراءة بالسبعة. وفي هذين الاحتمالين نظر لبعدهما عن ظاهر العبارة فتأمل! وثالثا: بالمعارضة بما ذكره الشيخ في «التبيان» من أن المعروف من مذهب الإمامية، والتطلّع في أخبارهم ورواياتهم، أن القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد. فتأمل!.
ومنها: ما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف واف»
فإن المراد من الأحرف القراءات. وقد يناقش فيه:
أولا: بضعف السند. سلمنا الصحة. ولكنه خبر واحد، فلا يفيد العلم بالمدّعى.
وثانيا: بضعف الدلالة، لعدم الدليل على إرادة القراءات من الأحرف. وقد اختلفوا في تفسيرها.
ومنها: أن القراءات السبع لو لم تكن متواترة، ومن القرآن المنزل، لوجب أن يتواتر ذلك، ويعلم عدم كونها منه، والتالي باطل فالمقدّم مثله. أما الملازمة فلأن العادة قاضية بأنه يجب أن يكون ما ليس بقرآن معلوما أنه ليس بقرآن لتوفر الدواعي(1/197)
على تمييز القرآن عن غيره، وهو مستلزم لذلك. وفيه نظر.
ومنها: ما تمسك به العلامة في «نهاية الأصول» ، والحاجبيّ في «مختصره» ، والعضديّ في «شرحه» من أن القراءات السبع «لو لم تكن متواترة لخرج بعض القرآن عن كونه متواترا- كما لك وملك وأشباههما- والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية أنهما وردا عن القراء السبعة، وليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر، فإمّا أن يكونا متواترين وهو المطلوب، أو لا يكون شيء منهما بمتواتر وهو باطل، وإلّا يخرج عن كونه قرآنا، وهذا خلف» . وأورد عليه جمال الدين الخونساريّ فقال: «لا يخفى أن دليل وجوب تواتر القرآن- وهو توفر الدواعي على نقله- لو تم إنّما يدل على وجوب تواتره إلى زمان الجمع. وأمّا بعده، فالظاهر أنهم اكتفوا فيه بتكثير نسخ هذا الكتاب الذي جمع، بحيث يصير متواترا في كل زمان، واستغنوا به عن جعل أصل القرآن المنزل متواترا بالحفظ من خارج، كيف وقد عرفت أن الظاهر أنه لم يقع التواتر في كثير من أبعاض القرآن إلّا بهذا الوجه، وهو وجوده في هذا الكتاب المتواتر، على هذا، فالاستدلال على تواتر القراءات السبع بما ذكره العضديّ ضعيف جدا، إذ بتواتر ذلك الكتاب- على الوجه المذكور- لا يعلم إلّا تواتر إحدى القراءات لا بعينها. لا خصوص بعضها ولا جميعها. فالظاهر أنه لا بد- في إثبات تواترها- من التفحص والتفتيش في نقلتها ورواتها، فإن ظهر بلوغهم إلى حد التواتر فهو متواتر وإلّا فلا. والذي ظهر لنا من خارج، شهرة القراءات السبع دون ما عداها، وأما بلوغ الجميع أو بعضها حد التواتر فكأنه لا يظهر في هذه الأعصار.
وللقول الثاني: على تواتر ما هو من جوهر اللفظ، الوجه الأخير الذي تمسّك به الجماعة المتقدم إليهم الإشارة لإثبات تواتر السبع، وعلى عدم تواتر ما هو من قبيل الهيأة- كالمدّ واللين والإمالة وغيرها- ما ذكره بعض من أنّ القرآن هو الكلام، وصفات الألفاظ- أعني الهيأة- ليست كلاما. وأورد عليه الباغنويّ فقال: «هاهنا بحث، وهو أنه لا شك أن القرآن هاهنا عبارة عن اللفظ. وكما أنّ الجوهر جزء ماديّ له، كذلك الهيأة جزء صوريّ له. فإذا ثبت أن القرآن لا بد أن يكون متواترا ثبت أن الهيأة لا بدّ أن تكون متواترة أيضا. ولو سلم أنّ الهيأة ليست جزءا للفظ فلا شك أنها من لوازمه. ولا يمكن نقله بدون نقلها، فإذا تواتر نقله تواتر نقلها. فإن قلت: نقله لا يستلزم نقلها بخصوصها بل إنما يستلزم نقل إحداهما لا بعينها، فاللازم تواتر القدر المشترك بين الهيئات، والظاهر أنّ الهيئات المخصوصة لا يوجب تواترها، فلا منافاة.
قلت: ما ذكر من توفر الدواعي على نقل القرآن لا يجري في الجواهر المخصوصة(1/198)
أيضا، إذ كما أن اختلاف بعض الهيئات لا يؤثر في صلاحية كون القرآن متحدى به، وفي كونه من أصول الأحكام، كذلك اختلاف بعض الجواهر لا يؤثر في ذلك، فلم يلزم أن كلّ ما هو من قبيل الجوهر لا بدّ أن يكون متواترا، فليتأمّل ... !» انتهى.
واعترض عليه جمال الدين الخونساري فقال- بعد الإشارة إليه-: «لا يخفى أن ما ذكر من دليل وجوب تواتر القرآن- وهو توفّر الدواعي على نقله للتحدي به ولكونه أصل سائر الأحكام- لا يدل إلا على وجوب تواتر مادته وهيأته التي يختلف باختلافها المعنى والفصاحة والبلاغة. وأمّا ما يكون من قبيل الأداء بالمعنى الذي ذكر، فلا يدلّ على وجوب تواتره، إذ لا مدخل له فيما هو مناط توفّر الدوعي. أمّا استنباط الأحكام فظاهر. وأمّا التحدي والإعجاز فلأنهما لا يوجبان إلا نقل أصل الكلام الذي وقعا به من مادّته وصورته التي لهما مدخل فيهما. وأمّا الهيأة التي لا مدخل لها في ذلك- كالمدّ واللين مثلا- فلا حاجة إلى تواترهما. بل يكفي فيهما الحوالة إلى ما هو دأب العرب في كلامهم في المد في مواضعه، واللين في مواقعه، وكذا في أمثالهما» .
ثمّ قال: «لا يخفى أنه إذا جوز تغيير بعض الجواهر، مما يكون من هذا القبيل، فقد يؤدي خطأ إلى تغيير ما يختلف ويختل به المعنى والفصاحة والبلاغة، فلا بد من سد ذلك الباب بالكلية، حذرا من أن ينتهي إلى ذلك، وأما تحريف النقلة في المد واللين وأمثالهما فلا يخل بشيء، إذ يكفي فيهما الرجوع إلى قوانين العرب فيهما. فإذا نقل إلينا متواترا جوهر الكلام وهيأته التي لها دخل في المعنى والفصاحة والبلاغة، فلنرجع في المد واللين وأمثالهما إلى قوانين العرب، ولا حاجة إلى أن يتواتر عندنا أنّه في أيّ موضع مدّ، وفي أيّ موضع قصر، وهو ظاهر» .
وللقول الثالث وجوه:
منها:
خبر الفضيل بن يسار قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ الناس يقولون: نزل القرآن على سبعة أحرف، فقال: بل نزل على حرف واحد من عند واحد» .
ويؤيّده
خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ القرآن واحد نزل من عند الواحد»
ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة.
ومنها: ما ذكره السيد نعمة الله من أنّ كتب القراءة والتفسير مشحونة من قولهم: قرأ حفص وعاصم كذا، وفي قراءة عليّ بن أبي طالب وأهل البيت عليهم(1/199)
السلام كذا، بل ربما قالوا: وفي قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذا، يظهر من الاختلاف المذكور في قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين. والحاصل أنهم يجعلون قراءة القراء قسيمة لقراءة المعصومين. فكيف تكون القراءات السبع متواترة عن الشارع تواترا يكون حجة على الناس؟
ومنها: ما ذكره السيد المذكور أيضا من أن قراءات السبع استندوا بالقراءات بآرائهم، وإن أسندوا بعض قراءاتهم الى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا يجوز أن يدعي تواتر قراءاتهم. وذلك لأن المصحف الذي وقع إليهم خال من الإعراب والنقط. كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخط مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده.
وقد شاهدنا عدة منها في خزانة الرضا عليه السلام. نعم ذكر جمال الدين السيوطيّ في كتابه الموسوم ب «المطالع السعيدة» : أن أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية. وبالجملة: لما وقعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذهبهم في اللغة والعربية، كما تصرفوا في النحو، وصاروا إلى ما دوّنوه من القواعد المختلفة.
قال محمد بن بحر الرهنيّ: «إن كل واحد من القراء قبل أن يتجدد القارئ الذي بعده كانوا لا يجيزون إلا قراءته، ثم لما جاء القارئ الثاني انتقلوا عن ذلك المنع إلى جواز قراءة الثاني، وكذلك في القراءات السبع، فاشتمل كلّ واحد على إنكار قراءته، ثم عادوا إلى خلاف ما أنكروه، ثم اقتصروا على هؤلاء السبعة، مع أنه قد حصل في علماء المسلمين والعالمين بالقرآن أرجح منهم، مع أنّ في زمان الصحابة ما كان هؤلاء السبعة ... إلخ» . ومنها: ما ذكره الرازيّ في تفسيره الكبير فإنّه قال: «اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر، وفيه إشكال، وذلك لأنا نقول هذه القراءات، إمّا أن تكون منقولة بالنقل المتواتر، أو لا تكون، فإن كان الأول فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أنّ الله قد خيّر المكلفين بين هذه القراءات وسوّى بينها بالجواز، وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على بعض واقعا، على خلاف الحكم الثالث بالتواتر، فيجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للفسق إن لم يلزمهم الكفر، كما ترى أنّ كلّ واحد من هؤلاء القراء يختصّ بنوع معين من القراءة، ويحمل الناس عليه ويمنعهم عن غيره. وأمّا إن قلنا: إنّ هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر، بل بطريق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم والقطع وذلك باطل بالإجماع» . ثمّ قال: «ولقائل أن يجيب عنه(1/200)
فيقول: بعضها متواتر، ولا خلاف بين الأمة فيه، وفي تجويز القراءة بكل واحد منها.
وبعضها من باب الآحاد، وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بالكلية عن كونه قطعيا» انتهى.
ومنها: أنها لو كانت متواترة لكان ترك البسملة من أوائل السور، عدا الحمد، متواترا. لأنه من قراءة بعض السبعة، فيلزم جواز تركها في الصلاة، وهو باطل للأدلة الدالة على عدمه، وقد بيّناها في المصابيح.
ومنها: ما ذكره العلامة الشيرازيّ- فيما حكى عنه- من: «إن الذين يستند إليهم القراء سبعة. والتواتر لا يحصل بسبعة فضلا فيما اختلفوا فيه- ثم قال- أجيب عنه أولا: بأنا لا نسلم أن التواتر لا يحصل بسبعة لأنه لا يتوقف على حصول عدد معيّن، بل المعتبر فيه حصول اليقين. وثانيا: بأن التواتر ما حصل من هؤلاء السبعة لأن القارئين لكل واحدة من القراءات السبع كانوا بالغين حدّ التواتر، إلّا أنهم استندوا- كل واحد منهم- إلى واحد منهم، إما لتجرده بهذه القراءة، أو لكثرة مباشرته بها، ثم أسندوا الرواية عن كل واحد منهم إلى اثنين لتجردهما لروايتها» انتهى.
وفي جميع الوجوه المذكورة نظر.
والتحقيق أن يقال: إنه لم يظهر دليل قاطع على أحد الأقوال في المسألة. نعم يمكن استظهار القول الأول للإجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة العظيمة بين الخاصة والعامة والمؤيدة بالمرويّ عن الخصال- كذا- المتقدم إليه الإشارة وغيره مما ذكره حجة عليه. ولا يعارضها خبر الفضيل وزرارة لقصور دلالتهما جدا. فإن المناقشة في
حديث «نزل القرآن على سبعة أحرف»
جار فيهما كما لا يخفى. ولا يقدح فيها ما ذكره السيد نعمة الله والرازيّ وغيرهما مما ذكر، حجة على القول الثالث، كما لا يخفى على المتدبر.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: قال العلامة الشيرازيّ فيما حكي عنه: «السبع متواترة بشرط صحة إسنادها إليهم، واستقامة وجهها في العربية، وموافقة لفظها خط المصحف المنسوب إلى صاحبها كذلك- كمالك بالألف، وملك بغير الألف- المنسوب أولهما إلى الكسائي وعاصم بإسناد صحيح، مع كونه مكتوبا بالألف في مصحفهما، واستقامة وجهه في العربية» . ثم قال: «وفيه نظر، لأنّ المتواتر ما يفيد العلم، فإذا حصل ثبت أنه قرآن، والعربية ينبغي أن تكون متبعة بالقرآن دون العكس، ثم إنه لا(1/201)
مدخل لموافقة الخط وعدمها عند ثبوت التواتر.
الثاني: اعلم أنه إذا قلنا بأنّ القراءات السبع كلها متواترة يقينا، فيتفرع عليه أمور: منها: جواز استفادة الأحكام الشرعية من كل منها، ومنها: وجوب الاجتناب من كل منها أصالة إذا كان محدثا. ومنها: لزوم الجمع بين القراءات عند تعارضها، كما يجب الجمع بين الآيات عند تعارضها. وإن قلنا بأنّ تواترها غير ثابت يقينا، فيتفرع عليه أمور منها: عدم وجوب الاجتناب عن جميع القراءات أصالة إذا كان محدثا، بل يجب من باب المقدمة على القول بأنّ المنهي عنه- إذا كان مشتبها بغيره وكان محصورا- وجب الاجتناب عن الجميع. وأمّا على القول بعدم وجوب ذلك فلا يجب الاجتناب- عمّا ذكر- لا أصالة ولا مقدّمة. ومنها: عدم جواز الاستدلال بشيء من القراءات، ولزوم الجمع بينها عند التعارض. لكنّ هذا إنّما يصحّ إذا منعنا الظنّ بتواترها، وأمّا إذا قلنا به، فيجوز الاستدلال بكلّ منها، ويجب الجمع بينها، كما إذا علم به، بناء على أنّ الأصل في كل ظن الحجية، فإن منع منه، ففي الأمرين نظر ... !» انتهى بحروفه ملخصا.
فصل في ذكر ملخص وجوه التفسير ومراتبه
هذا الفصل ننقله عن مقدّمة التفسير الذي شرع فيه، في هذا العهد، الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر. قال- حرسه الله وأيّده ورعاه-:
«التكلم في تفسير القرآن ليس بالأمر السهل، وربما كان من أصعب الأمور وأهمّها، وما كل صعب يترك. ولذلك لا ينبغي أن يمتنع الناس عن طلبه. ووجوه الصعوبة كثيرة، أهمّها: أنّ القرآن كلام سماويّ تنزّل من حضرة الربوبية، التي لا يكتنه كنهها، على قلب أكمل الأنبياء، وهو يشتمل على معارف عالية، ومطالب سامية، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية، وأنّ الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال، الفائضين من حضرة الكمال، ما يأخذ بتلبيبه، ويكاد يحول دون مطلوبه. ولكن الله تعالى خفف علينا الأمر بأن أمرنا بالفهم والتعقّل لكلامه، لأنه إنما أنزل الكتاب نورا وهدى مبينا للناس شرائعه وأحكامه، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه. والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياتهم الآخرة. فإنّ هذا هو(1/202)
المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع له، أو وسيلة لتحصيله.
التفسير له وجوه شتّى:
أحدها: النظر في أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ليعرف به علوّ الكتاب، وامتيازه على غيره من القول. سلك هذا المسلك الزمخشريّ، وقد ألمّ بشيء من المقاصد الأخرى، ونحا نحوه آخرون.
ثانيها: الإعراب، وقد اعتنى بهذا أقوام توسّعوا في بيان وجوهه، وما تحتمله الألفاظ منها.
ثالثها: تتبّع القصص، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا في قصص القرآن ما شاؤوا من كتب التاريخ، والإسرائيليات، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وسمين، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل.
رابعها: غريب القرآن.
خامسها: الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، والاستنباط منها.
سادسها: الكلام في أصول العقائد، ومقارعة الزائغين، ومحاجّة المختلفين.
وللإمام الرازيّ العناية الكبرى بهذا النوع.
سابعها: المواعظ والرقائق، وقد مزجها، الذين ولعوا بها، بحكايات المتصوفة والعبّاد. وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التي وضعها القرآن.
ثامنها: ما يسمّونه بالإشارة، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية.
وقد عرفت أنّ الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهيّ، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقيّ. لهذا كان الذي نعنى به من التفسير هو ما سبق ذكره، ويتبعه بلا ريب بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى، وتحقيق الإعراب على الوجه الذي يليق بفصاحة القرآن وبلاغته.
ويمكن أن يقول بعض أهل هذا العصر: لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن، لأن الأئمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة، واستنبطوا الأحكام منهما، فما(1/203)
علينا إلّا أن ننظر في كتبهم، ونستغني بها..! هكذا زعم بعضهم!! ولو صحّ هذا الزعم، لكان طلب التفسير عبثا يضيع به الوقت سدى، وهو- على ما فيه من تعظيم شأن الفقه- مخالف لإجماع الأمة، من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى آخر واحد من المؤمنين ... !
ولا أدري كيف يخطر هذا على بال مسلم ... ؟!
الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقلّ ما جاء في القرآن. وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها، ورفعه من حضيض الجهالة إلى أوج المعرفة، وإرشادها إلى طريقة الحياة الاجتماعية، ما لا يستغني عنه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وما هو أجدر بالدخول في الفقه الحقيقيّ، ولا يوجد هذا الإرشاد إلا في القرآن. وفيما أخذ منه، كإحياء العلوم، حظّ عظيم من علم التهذيب.
ولكن سلطان القرآن على نفوس الذين يفهمونه، وتأثيره في قلوب الذين يتلونه حقّ تلاوته لا يساهمه فيه كلام، كما أنّ الكثير من حكمه ومعارفه لم يكشف عنها اللثام، ولم يفصح عنها عالم ولا إمام.
ثمّ إنّ أئمة الدين قالوا: إن القرآن سيبقى حجّة على كل فرد من أفراد البشر إلى يوم القيامة
لحديث: «والقرآن حجة لك أو عليك»
. (أول حديث في كتاب الطهارة من صحيح مسلم. عن أبي مالك الأشعريّ) ولا يعقل هذا إلّا بفهمه والإصابة من حكمته وحكمه.
خاطب الله بالقرآن من كان في زمن التنزيل، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم، بل لأنهم من أفراد النوع الإنسانيّ الذي أنزل القرآن لهدايته، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] ، فهل يعقل أنه يرضى منا بأن لا نفهم قوله هذا ونكتفي بالنظر في قول نظر ناظر فيه، ولم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباعه، لا جملة ولا تفصيلا ... ؟ كلا. إنه يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته، لا فرق بين عالم وجاهل، يكفي العاميّ من فهم قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ... إلخ [المؤمنون: 1- 6] ، ما يعطيه الظاهر من الآيات، وأن الذين جمعت أوصافهم في الآيات الكريمة لهم الفوز والفلاح عند الله تعالى، ويكفي في معرفة الأوصاف أن يعرف معنى الخشوع، والإعراض عن اللغو، وما لا خير فيه، والإقبال على ما فيه فائدة له دنيوية أو أخروية، وبذل المال في الزكاة، والوفاء بالعهد، وصدق الوعد، والعفة عن إتيان الفاحشة. وأنّ من فارق، هذه الأوصاف إلى أضدادها فهو المتعدي حدود(1/204)
الله، المتعرض لغضبه. وفهم هذه المعاني مما يسهل على المؤمن من أي طبقة كان، ومن أهل أيّ لغة كان. ومن الممكن أن يتناول كلّ أحد من القرآن بقدر ما يجذب نفسه إلى الخير، ويصرفها عن الشر، فإنّ الله تعالى أنزله لهدايتنا، وهو يعلم منّا كلّ أنواع الضعف الذي نحن عليه. وهناك مرتبة تعلو على هذه وهي من فروض الكفاية.
للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله تعالى وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشرّ ويجذبها إلى الخير، وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكلّ أحد وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17] وأما المرتبة العليا فإنها لا تتم إلا بأمور.
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان، وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان، ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد، من ذلك لفظ التأويل. اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص. ولكنه جاء في القرآن بمعان أخرى، كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53] فما هذا التأويل؟
يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب. فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى. فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله. والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه. بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه، وينظر فيه. فربما استعمل بمعان مختلفة. كلفظ «الهداية» - سيأتي تفسيره في الفاتحة- وغيره، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إنّ القرآن يفسّر بعضه ببعض. وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب: فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته، مع التفطن لنكته ومحاسنه(1/205)
والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه. نعم، إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كلّه على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة، ويحتاج في هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب- المعاني والبيان- ولكن مجرّد العلم بهذه الفنون، وفهم مسائلها، وحفظ أحكامها، لا يفيد المطلوب. ترون في كتب العربيّة أنّ العرب كانوا مسدّدين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع! أتحسبون أنّ ذلك كان طبيعيا لهم؟ كلا! وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة، ولذلك صار أبناء العرب أشدّ عجمة من العجم عند ما اختلطوا بهم، ولو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدّة خمسين سنة من بعد الهجرة ... !
ثالثها: علم أحوال البشر: فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبيّن فيه ما لم يبيّنه في غيره. بيّن فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه، والسنن الإلهية في البشر، وقصّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها، فلا بدّ للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم، وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوّة وضعف، وعزّ وذلّ، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويّة وسفليّة، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمّها:
التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمّن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكّر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ... ! ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنّا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة ... !
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن. فيجب على المفسّر القائم بهذا الفرض الكفائيّ أن يعلم بما كان عليه الناس في عصر النبوّة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادي بأنّ الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث لهدايتهم وإسعادهم..! وكيف يفهم المفسّر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة- أو ما يقرب منها- إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه. هل يكتفي من علماء القرآن- دعاة الدين والمناضلين عنه- بالتقليد بأن يقولوا- تقليدا لغيرهم- إنّ الناس كانوا على باطل، وإن القرآن دحض أباطيلهم في الجملة؟ كلا ... !
خامسها: العلم بسيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وما كانوا عليه من علم وعمل، وتصرّف في الشؤون دنيويّها وأخرويّها.(1/206)
فعلم- مما ذكرنا- أنّ التفسير قسمان:
أحدهما: جافّ مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به: حلّ الألفاظ، وإعراب الجمل، وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية. وهذا لا ينبغي أن يسمّى تفسيرا، وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما.
وثانيهما: (وهو التفسير الذي قلنا إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية) هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها، وهو ذهاب المفسّر إلى فهم مراد القائل من القول وحكمة التشريع في العقائد والأخلاق والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام، ليتحقق فيه معنى قوله: هُدىً وَرَحْمَةً ونحوهما من الأوصاف.
فالمقصد الحقيقيّ وراء كل تلك الشروط والفنون، وهو الاهتداء بالقرآن.
وهذا هو الغرض الأول الذي أرمي إليه في قراءة التفسير» ثم تكلم عن التفسير والتأويل في اصطلاح العلماء، وبيّن عظم شأن التفسير وفهمه بما مثاله:
«مثل الناطقين بالعربية الآن- من العراق إلى نهاية بلاد مرّاكش- بالنسبة إلى العرب في لغتهم، كمثل قوم من الأعاجم- مخالطين للعرب- وجد في كلامهم- بسبب المخالطة- مفردات كثيرة من العربية. فهؤلاء الأقوام أشدّ حاجة إلى التفسير وفهم القرآن من المسلمين الأوّلين، لا سيما من كانوا في القرن الثالث حيث بدئ بكتابة التفسير وأحسّ المسلمون بشدّة حاجتهم إليه. ولا شك أن من يأتي بعدنا يكون أحوج منّا إلى ذلك، إذا بقينا على تقهقرنا، ولكن إذا يسّر الله لنا نهضة لإحياء لغتنا وديننا فربما يكون من بعدنا أحسن حالا منا ... !
التفسير عند قومنا- اليوم ومن قبل اليوم بقرون- هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير، على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] ، وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير- يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم في العلم بمعاني الكتاب، ثم يبثونه في الناس ويحملونهم عليه- لم يطلبوا ذلك، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها، ويمارون فيها من يباريهم في طلبها،(1/207)
ولا يخرجون- لإظهار البراعة في تحصيلها- عن حدّ الإكثار من القول، واختراع الوجوه من التأويل، والإغراب في الإبعاد عن مقاصد التنزيل. إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس، وما فهموه، وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سنة نبيه الذي بيّن لنا ما نزل إلينا وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] . يسألنا: هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبّرتم ما بلّغتم؟ هل عقلتم ما عنه نهيتم وما به أمرتم؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن. واهتديتم بهدي النبيّ، واتبعتم سنته؟
عجبا لنا! ننتظر هذا السؤال، ونحن في هذا الإعراض عن القرآن وهديه ... !
فيا للغفلة والغرور.
معرفتنا بالقرآن كمعرفتنا بالله تعالى. أول ما يلقّن الوليد عندنا من معرفة الله تعالى هو اسم «الله» تبارك وتعالى، يتعلمه بالأيمان الكاذبة، كقوله: والله لقد فعلت كذا وكذا، والله ما فعلت كذا ... وكذلك القرآن! يسمع الصبيّ ممن يعيش معهم: أنه كلام الله تعالى، ولا يعقل معنى ذلك، ثم لا يعرف من تعظيم القرآن إلا ما يعظمه به سائر المسلمين الذين يتربّى بينهم، وذلك بأمرين:
أحدهما: اعتقاد أنّ آية كذا إذا كتبت ومحيت بماء وشربه صاحب مرض كذا، يشفى! وأنّ من حمل القرآن لا يقربه جنّ ولا شيطان! ويبارك له في كذا وكذا ... إلى غير ذلك مما هو مشهور ومعروف للعامة أكثر مما هو معروف للخاصة ... ! ومع صرف النظر عن صحة هذا وعدم صحته، نقول: إنّ فيه مبالغة في التعظيم عظيمة جدا، ولكنها- ويا للأسف ... ! - لا تزيد عن تعظيم التراب الذي يؤخذ من بعض الأضرحة ابتغاء هذه المنافع والفوائد نفسها..! ونحو هذا ما يعلق على الأطفال من التعاويذ والتناجيس: كالخرق، والعظام، والتمائم المشتملة على الطلسمات والكلمات الأعجمية المنقولة عن بعض الأمم الوثنية ... !
هذا الضرب من تعظيم القرآن نسميه- إذا جرينا على سنة القرآن- عبادة للقرآن لا عبادة لله به! ثانيهما: الهمزة، والحركة المخصوصة، والكلمات المعلومة.... التي تصدر ممن يسمعون القرآن إذا كان القارئ رخيم الصوت، حسن الأداء، عارفا بالتطريب على أصول النغم..
والسبب في هذه اللذة والنشوة هي حسن الصوت والنغم، بل أقوى سب(1/208)
لذلك هو بعد السامع عن فهم القرآن ... ! وأعني بالفهم: ما يكون عن ذوق سليم تصيب أساليب القرآن بعجائبها، وتملكه مواعظها، فتشغله عمّا بين يديه مما سواه.
لا أريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذا جافا، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقّة الشعور ولطف الوجدان اللذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر ...
لهذا كلّه، يمكننا أن نقول: إن الجاهلية اليوم أشدّ من الجاهلية والضالين في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن من أولئك من قال الله تعالى فيهم: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: 146] ، ومعرفة الحقّ أمرّ عظيم شريف ... ! نعم، ربما كان إثم صاحبها مع الجحود أشد، ولكنه يكون دائما ملوما من نفسه على الإعراض عن الحقّ. وهذا اللوم يزلزل ما في نفسه من الإصرار على الباطل.
كان البدويّ راعي الغنم يسمع القرآن فيخرّ له ساجدا لما عنده من رقّة الإحساس ولطف الشعور ... ! فهل يقاس هذا بأيّ متعلم اليوم؟ أرأيت أهل جزيرة العرب كيف انضووا إلى الإسلام بجاذبية القرآن لما كان لهم من دقّة الفهم التي كانت سبب الانجذاب إلى الحقّ..!
- وأشار الأستاذ هنا إلى البنت الأعرابية التي فطنت لاشتمال الآية على أمرين ونهيين وبشارتين- ومجمل الخبر: أنّ الأصمعي قال: سمعت بنتا من الأعراب خماسية أو سداسية تنشد:
أستغفر الله لذنبي كلّه ... قتلت إنسانا بغير حلّه
مثل غزال ناعم في دلّه ... وانتصف الليل ولم أصلّه
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: ويحك! أيعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين ... !
لما رأى علماء المسلمين في الصدر الأول تأثير القرآن في جذب قلوب الناس إلى الإسلام، وأنّ الإسلام لا يحفظ إلّا به، ولما كان العرب قد اختلطوا بالعجم، وفهم من دخل في الإسلام من الأعاجم ما فهمه علماء العرب، أجمع كلّ على وجوب حفظ اللغة العربية، ودوّنوا لها الدواوين، ووضعوا لها الفنون.(1/209)
نعم: إنّ الاشتغال بلغة الأمة وآدابها فضيلة في نفسه، ومدّة من موادّ حياتها، ولا حياة لأمة ماتت لغتها. ولكن لم يكن هذا وحده هو الحامل لسلف الأمة على حفظ اللغة بمفرداتها وأساليبها وآدابها، وإنّما الحامل لهم على ذلك ما ذكرنا.
ألّف العلّامة الأسفراييني كتابا في الفرق، ختمه بذكر أهل السنّة ومزاياهم، وعدّ من فضائلهم- التي امتازوا بها على سائر الفرق- التبريز في اللغة وآدابها، وبيّن ذلك بأجلى بيان. فزين هذه المزايا؟ وأين آثارها في فهم القرآن؟ بل وفهم ما دونه من الكلام البليغ ... ؟
وقد بينّا وجه الحاجة في التفسير إلى تحصيل ملكة الذوق العربيّ، وإلى غير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها القرآن» انتهى.
فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم
قال بعض علماء الفلك ما مثاله: إنّ القرآن الكريم قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن العلمية الخالدة. وهاكها ملخصة:
المسألة الأولى-: الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] ، وهما من مادة واحدة كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] . وهي تدور حول الشمس وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
المسألة الثانية: السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ [الشورى: 29] ، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء: 44] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن: 29] ، ومجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان، لا كما كان يزعم القدماء: أنّ الكواكب كلها أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان ... !
المسألة الثالثة: ليس القمر خاصا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] فالألف واللام في الْقَمَرَ للجنس لا للعهد، كما(1/210)
في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] .
المسألة الرابعة: ليست السيارات مضيئة بذاتها، بل إن الشمس هي مصباحها جميعا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 16] أي لهن، كما يدلّ عليه السياق، فالنور الذي نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس.
المسألة الخامسة: السماوات والسيارات السبع شيء، والشمس والقمر شيء آخر، فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ... [العنكبوت: 61] الآية وغيرها كثير.
المسألة السادسة: العوالم متعدّدة: ولذلك يقول القرآن في كثير من المواضع:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] ، والعوالم هي منظومات من الكواكب المتجاذبة وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7] . لا كما كان يتوهم القدماء: أن العالم واحد وأنّ الإنسان أشرف الموجودات ... !
المسألة السابعة- ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] ، أي الناس المعهودين على وجه الأرض. والإنسان الأرضيّ أفضل من بعض المخلوقات لا كلّها وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] . ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13] ، إذ لا يلزم من هذا القول أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء، فالبحر مثلا، قال الله تعالى فيه: سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ [الجاثية: 12] ، مع أنه مسخّر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرا أتمّ وأعمّ، فمنه تأكل وتشرب وتتنفس، وفيه تسكن وتحيى وتموت. فما هو مسخّر لبعض الحيوانات تسخيرا جزئيا قد يكون مسخرا لغيرها تسخيرا كلّيا. فكذلك النجوم مسخرة لنا- لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر- مع أنها لغيرنا شموس عليها قوام حياتهم، كما إن شمسنا عليها قوام حياتنا وهي- بالنسبة لهم- نجم من نجوم الثوابت.
وبالجملة: فإن جميع العوالم- بما بينها من الارتباط العام والتجاذب الذي بينها- مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلّي أو الجزئيّ.
المسألة الثامنة-: كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوّفة يسمونها كرة الثوابت- أو فلك الثوابت- وبحركة هذه الكرة تتحرك الكواكب كما تقدم. ومعنى ذلك: أن الكواكب لا حركة لها بذاتها، وأن فلك(1/211)
جميع الثوابت واحد وأنه جسم صلب. والحقيقة خلاف ذلك. فإن لكل كوكب فلكا يجري فيه وحده، وكل كوكب يتحرك بذاته لا بحركة غيره، والكواكب جميعا سابحة في الفضاء، أو بعبارة أصحّ في الأثير- مادّة العالم الأصلية- غير مركوزة في شيء مما يتوهمون. وبهذه الحقائق جاء الكتاب الحكيم والناس في الظلمات والأوهام يتخبطون..! قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] ، والتنوين في لفظ «كلّ» عوض عن الإضافة. والمعنى: كل واحد من الكواكب في فلك خاصّ به يسبح بذاته. وفي قوله يَسْبَحُونَ إشارة إلى مادة العالم الأصلية- الأثير- التي تسبح فيها الكواكب كما تسبح الأسماك في الماء. فليست الأفلاك أجساما صلبة تدور بالكواكب كما كانوا يزعمون.....!
المسألة التاسعة: نصّ الكتاب العزيز على جود الجذب العام للكواكب كافّة من جميع جهاتها، فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7] ، أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: 27] ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] ، فالكون كله:
كالجسم الواحد الكبير، محكم البناء، لا خلل فيه، كما قال: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ويتخلّله الأثير كما يتخلل ذرات الجسم الصغير فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] .
المسألة العاشرة: كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتى ماء المطر، ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات..! ولكن القرآن الشريف تنزّه عن الجهل والخطأ فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً- إلى قوله: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: 43] . وقال:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] . ومقتضى الآيتين:
أنّ الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض- سواء كان من الينابيع أو من الأنهار- هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض! أي: أنّ السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: 31] ، أي: أن الماء جميعه أصله من الأرض وإن شوهد أنه ينزل من السحاب ... !
فهذه كلها آيات بيّنات، ومعجزات باهرات، دالّة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصحة القرآن» . كلامه بحروفه.
وقال أيضا:
«من عجيب أمر هذا القرآن أن يذكر أمثال هذه الدقائق العلمية العالية، التي(1/212)
كانت جميع الأمم تجهلها، بطريقة لا تقف عثرة في سبيل إيمان أحد به، في أيّ زمن كان، مهما كانت معلوماته. فالناس قديما فهموا أمثال هذه الآية بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء، علمنا أنهم كانوا واهمين، وفهمنا معناها الصحيح. فكأنّ هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين، تظهر لهم كلما تقدّمت علومهم ... ! وأمّا المعاصرون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فمعجزته لهم: إتيانه بأخبار الأوّلين، وبالشرائع التي أتى بها، وبالمغيّبات التي تحقّقت في زمنه ... وغير ذلك، مع علمهم بصدقه وحاله، وبعده عن العلم، والتعلم بالمشاهدة والعيان. فآيات القرآن- بالنسبة لهم- بعضها معناه صريح لا يقبل التأويل، وفيها بيان كلّ شيء مما يحتاجون إليه، والبعض الآخر يقبل التأويل، وتتشابه عليهم معانيه لنقص علومهم. وهذا القسم لا يهمهم كثيرا، فإنه خاصّ بعلوم لم يكونوا وصلوا إليها، وهو معجزات للمتأخرين يشاهدونها، وتتجلّى لهم كلما تقدّموا في العلم الصحيح. قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] ، أي: لها معان كثيرة يشبه بعضها بعضا، وتتشابه عليهم في ذلك الزمن، فلا يمكنهم الجزم بالصحيح منها: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ بتشكيك الناس في دينهم بسببه وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ في زمنهم لنقص علمهم وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] . وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ... إلخ، فإذا جعل قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ معطوفا على لفظ الجلالة كان المعنى: أنّ تأويله لا يعلمه أحد في جميع الأزمنة إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه، وإذا كان لفظ وَالرَّاسِخُونَ مستأنفا كان المعنى: أنّ الراسخين في العلم في زمنهم لا يعلمون تأويله- كما قلنا- وإنما يؤمنون به لظهور الدلائل الأخرى لهم على صدق النبيّ، ويفوّضون علم هذه الأشياء إلى المستقبل من الزمان، كما نفوض الآن نحن، مسألة رجم الشياطين بالشهب، للمستقبل ونؤمن بالقرآن لثبوت صدقه بالدلائل الأخرى القطعية» بحروفه.
بيان أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف
قد بسط الكلام في أنّ مذهب السلف هو الحق غير واحد من الأئمة الأعلام.
وهو، وإن كان غنيا في نفسه عن إقامة البرهان، فقد رأينا أن نورد شذرة مما يؤيد(1/213)
ذلك، تنبيها للغبيّ، وتأييدا للألمعيّ. فنقول: قال حجّة الإسلام الغزاليّ قدّس الله روحه في كتابه «إلجام العوام عن علم الكلام» .
الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف، وعليه برهانان عقليّ وسمعيّ:
«أمّا العقليّ فاثنان: كلّي وتفصيليّ. أما البرهان الكليّ على أنّ الحق مذهب السلف، فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلّمة عند كل عاقل:
الأول: أنّ أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد، بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن ما ينتفع به في الآخرة- أو يضر، - لا سبيل إلى معرفته بالتجربة- كما عرف الطبيب- إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضرّ، وأخبر عنه؟ ولا يدرك بقياس العقل، فإن العقول قاصرة عن ذلك، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأنّ العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت، ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات، لا سيما على سبيل التفصيل والتحديد- كما وردت به الشرائع- بل أقرّوا بجملتهم: أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوّة، وهي قوة وراء قوة العقل، يدرك بها من أمر الغيب في الماضي والمستقبل أمور لا على طريق التعريف بالأسباب العقلية. وهذا مما اتفق عليه الأوائل من الحكماء، فضلا عن الأولياء والعلماء الراسخين، القاصرين نظرهم على الاقتباس من حضرة النبوّة، المقرّين بقصور كل قوّة سوى هذه القوة.
الأصل الثاني: أنه صلّى الله عليه وسلّم أفاض إلى الخلق ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم، وأنه ما كتم شيئا من الوحي وأخفاه وطواه عن الخلق، فإنه لم يبعث إلا لذلك، ولذلك كان رحمة للعالمين، فلم يكن متهما فيه، وعرف ذلك علما ضروريا من قرائن أحواله في حرصه على إصلاح الخلق، وشغفه بإرشادهم إلى صلاح معاشهم ومعادهم، فما ترك شيئا مما يقرب الخلق إلى الجنة ورضاء الخالق إلّا دلّهم عليه، وأمرهم به، وحثّهم عليه، ولا شيئا مما يقرّبهم إلى النار وإلى سخط الله إلا حذّرهم منه ونهاهم عنه، وذلك في العلم والعمل جميعا.
الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلامه، وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسراره، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، وعاصروه، وصاحبوه، بل لازموه آناء الليل والنهار، متشمّرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول: للعلم به أولا، وللنقل إلى من بعدهم ثانيا، وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره.(1/214)
وهم الذين حثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السماع والفهم والحفظ والأداء
فقال: «نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ... » «1» الحديث.
فليت شعري أيتّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخفائه وكتمانه عنهم؟! حاشا منصب النبوة عن ذلك..! أو يتهم أولئك الأكابر في فهم كلامه وإدراك مقاصده..؟ أو يتهمون في إخفائه وإسراره بعد الفهم؟ أو يتهمون في معاندته من حيث العمل ومخالفته على سبيل المكابرة، مع الاعتراف بتفهيمه وتكليفه؟ فهذه أمور لا يتسع لتقديرها عقل عاقل..!
الأصل الرابع: أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل والتعرّض لمثل هذه الأمور. بل بالغوا في زجر من خاض فيه، وسأل عنه، وتكلّم به على ما سنحكيه عنهم، فلو كان ذلك من الدين أو كان من مدارك الأحكام وعلم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا، ودعوا إليه أولادهم وأهليهم، وتشمّروا عن ساق الجدّ في تأسيس أصوله، وشرح قوانينه تشمرا أبلغ من تشمّرهم في تمهيد قواعد الفرائض والمواريث. فنعلم- بالقطع من هذه الأصول- أنّ الحقّ ما قالوه، والصواب ما رأوه.، وقد أثنى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم» «2»
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ستفترق أمتي نيّفاً وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة» «3» فقيل: من هم؟ فقال: «ما أنا عليه الآن وأصحابي» .
البرهان الثاني، وهو التفصيليّ: فنقول:
__________
(1)
أخرج ابن ماجة في المقدمة، باب من بلّغ علما، حديث 231، عن جبير بن مطعم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخيف من منى، فقال: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها. فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .
[.....] (2)
أخرج البخاري في الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد: عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»
. (3)
أخرج الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. حتى إن كان منهم من أتى أمّه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة. كلهم في النار إلا أمة واحدة» . قالوا: ومن هي؟ يا رسول الله. قال: «ما أنا عليه وأصحابي»
.(1/215)
ادعينا أنّ الحق هو مذهب السلف، وأنّ مذهب السلف هو: توظيف الوظائف السبع على عوامّ الخلق في ظواهر الأخبار المتشابهة. وقد ذكرنا برهان كلّ وظيفة معها فهو برهان كونه حقا، فمن يخالف- ليت شعري! - أيخالف في قولنا الأول: إنه يجب على العاميّ التقديس للحقّ عن التشبيه ومشابهة الأجسام. أو في قولنا الثاني:
إنه يجب عليه التصديق والإيمان بما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام بالمعنى الذي أراده. أو في قولنا الثالث: إنه يجب عليه الاعتراف بالعجز عن درك حقيقة تلك المعاني. أو في قولنا الرابع: إنه يجب عليه السكوت عن السؤال والخوض فيما هو وراء طاقته. أو في قولنا الخامس: إنه يجب عليه إمساك اللسان عن تغيير الظواهر بالزيادة والنقصان والجمع والتفريق. أو في قولنا السادس: إنه يجب عليه كف القلب عن التذكر فيه والفكر مع عجزه عنه، وقد قيل لهم: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق. أو في قولنا السابع: إنه يجب عليه التسليم لأهل المعرفة من الأنبياء والأولياء والعلماء الراسخين. فهذه أمور بيانها برهانها، ولا يقدر أحد على جحدها وإنكارها، إن كان من أهل التمييز، فضلا عن العلماء والعقلاء. فهذه هي البراهين العقلية! النمط الثاني: البرهان السمعيّ على ذلك. وطريقه أن نقول:
الدليل على أن الحق مذهب السلف أن نقيضه بدعة- والبدعة مذمومة وضلالة- والخوض من جهة العوام في التأويل، والخوض فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة، وكان نقيضه- وهو الكف عن ذلك- سنة محمودة. فهاهنا ثلاثة أصول:
أحدها: إن البحث والتفتيش والسؤال عن هذه الأمور بدعة.
والثاني: أن كلّ بدعة فهي مذمومة.
والثالث: أن البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضها، وهي السنة القديمة، محمودة.
ولا يمكن النزاع في شيء من هذه الأصول، فإذا سلم ذلك، ينتج: أن الحق مذهب السلف. ثم أطال- قدّس سرّه- في إيضاح هذه الأصول وأطاب، فارجع إليه إن شئت.
والقول الشامل في هذا الباب ما قاله الإمام أحمد رضي الله عنه:
«لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حقّ ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل(1/216)
معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه. وهو سبحانه، مع ذلك، ليس كمثله شيء في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله. فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزّه عنه حقيقة، وأنه سبحانه مستحق الكمال الذي لا غاية فوقه، وممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم. ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل. فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته» .
روى البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» بإسناد صحيح عن الأوزاعيّ، قال:
«كنّا- والتابعون متوافرون- نقول: إنّ الله، تعالى ذكره، فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته. فقد حكى الأوزاعيّ- وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعيّ إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوريّ إمام أهل العراق- حكى شهرة هذا القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله فوق العرش، وبصفاته السمعية، وإنما قال الأوزاعيّ هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف هذا.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب «السنّة» عن الأوزاعيّ، قال:
«سئل مكحول والزهريّ عن تفسير الأحاديث فقالا: أمرّوها كما جاءت» .
وروي أيضا عن الوليد بن مسلم قال:
«سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والليث بن سعد، والأوزاعيّ عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمرّوها كما جاءت» . وفي رواية، فقالوا:
«أمرّوها كما جاءت بلا كيف» . فقولهم رضي الله عنهم «أمرّوها كما جاءت» ردّ على المعطلة، وقولهم «بلا كيف» ردّ على الممثّلة. والزهريّ ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم. والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين- أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه.
وقال تلميذه الإمام شمس الدين بن القيّم الدمشقيّ في كتابه «طريق الهجرتين»(1/217)
في شرح حديث «فرح الله بتوبة عبده» ما صورته، بعد جمل:
«وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاء، فإن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادي الخفا، وهو وادي المحرفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو واد قد سلكه خلق، وتفرّقوا في شعابه وطرقه ومتاهاته، ولم يستقر لهم فيه قدم، ولا لجئوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل، وحاطم السيل. وإن نجاك الله من هذا الوادي، فتأمّل هذه الألفاظ النبوية المعصومة التي مقصود المتكلم بها غاية البيان، مع مصدرها عن كمال العلم بالله، وكمال النصيحة للأمة، ومع هذه المقامات الثلاث- أعني كمال بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني، وكمال معرفته وعلمه بما يعبر عنه، وكمال نصحه وإرادته لهداية الخلائق- يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيء، وهو لا يريد منهم ما يدل عليه خطابه، بل يريد منهم أمرا بعيدا عن ذلك الخطاب، إنما يدل عليه- كدلالة الألغاز والأحاجي- مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال، ويوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب الاحتمالات والتجويزات.
سبحانك هذا بهتان عظيم. وهل قدر الرسول حق قدره، أو مرسله حقّ قدره من نسب كلامه سبحانه، أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه، المتأوّلون له غير تأويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فنسلك فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم. بحمد الله، الطريق واضحة المنار، بيّنة الأعلام، مضيئة للسالكين، وأولها: أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات ربّ العالمين، فإنّ هذه العقدة هي أصل بلاء الناس. من حلها، فما بعدها أيسر منها. ومن هلك بها، فما بعدها أشدّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلّا لسبق نظره الضعيف إليها، واحتجابه بها عن أصل الصفة، وتجرّدها عن خصائص المحدث؟ فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها، فيظنّ القاصر، إذا رأى ذلك اللازم في المحل المحدث، أنه لزم لتلك الصفة مطلقا، فهو يفرّ من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرّد في ظنه عن ذلك اللازم. وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردّها كلّها إلى الإرادة. فإنه فهم فرحا مستلزما لخصائص المخلوق من انبساط دم(1/218)
القلب، وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبا هو غليان دم القلب طلبا للانتقام، وكذلك فهم محبة ورضى وكراهة ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين، فإن ذلك هو السابق إلى فهمه. وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه، ولم يحط علمه بغيره، ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدّا من نفيه عن الخالق والصفة لم تتجرد في عقله عن هذا اللازم، فلم يجد بدّا من نفيها.
ثم لأصحاب هذا الطريق مسلكان:
أحدهما: مسلك التناقض البيّن وهو إثبات كثير من الصفات. ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق- كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها- فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذور الذي فرّ منه، فكيف لم يستلزمه إثبات ما أثبته؟ وإن كان إثبات لا يستلزم محذورا، فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل في التناقض أعجب من هذا..؟
المسلك الثاني: مسلك النفي العام والتعطيل المحض هربا من التناقض، والتزاما لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذا، الحق المحض في الإثبات المحض الذي أثبته الله لنفسه في كلامه، وعلى لسانه رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تبديل، ومنشأ غلط المحرفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة في المحلّ المعين يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن الله، فيضطرون، في نفيه، إلى نفي الصفة. ولا ريب أنّ الأمور ثلاثة: أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هي، فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيه كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر، فلا يجوز نفي هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها. وكذلك الإرادة، مثلا، تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفي لازمها عنها. وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها. وكذلك كون المرئيّ مرئياَّ حقيقة له لوازم لا ينفكّ عنها. ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلّا بنفي الرؤية.
وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بدّ منها، فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختياريّ ولا بدّ.
من هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضا واضطرابا، فإنهم ينفون الشيء، ويثبتون ملزومه، ويثبتون الشيء، وينفون لازمه، فتناقض أقوالهم وأدلّتهم، ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشك. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة، حاشا من هو في خفارة بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات وقطع تلك(1/219)
الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل المؤيد بنور الوحي عليها فنقدها نقد الصيارف، فنفى زغلها، وعلم أن الصحيح منها: إمّا أن يكون قد تولت النصوص بيانه، وإمّا أن يكون فيها غنية عنه، بما هو خير منه، وأقرب طريقا، وأسهل تناولا لا يستفيد المؤمن البصير، بما جاء به الرسول العارف به، من المتكلمين سوى مناقضة بعضهم بعضا، ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض ومحاربة بعضهم بعضا، فيتولى بعضهم محاربة بعض، ويسلم ما جاء به الرسول.
فإذا رأى المؤمن العالم الناصح لله ولرسوله أحدهم قد تعدى إلى ما جاء به الرسول، يناقضه أو يعارضه. فليعلم أنهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدا، ولا يقع ردّهم إلّا على آراء أمثالهم وأشباههم. وأمّا ما جاء به الرسول فمحفوظ محروس مصون من تطرّق المعارضة والمناقضة إليه. فإن وجدت شيئا من ذلك في كلامهم، فبدار بدار إلى إبداء فضائحهم، وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم وتبيّن كذبهم على العقل والوحي فإنهم لا يردون شيئا مما جاء به الرسول إلّا بزخرف من القول يغترّ به ضعيف العقل والإيمان. فاكشفه ولا تهنه تجده كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ [النور: 39] .
ولولا أن كلّ مسائل القوم وشبههم، التي خالفوا فيها النصوص، بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقرّ به عيون أهل الإيمان السائرين إلى الله على طريق الرسول وأصحابه. وإن وفّق الله سبحانه جرّدنا لذلك كتابا مفردا. وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيميّة هذا المقصد في عامة كتبه، لا سيما كتابه الذي وسمه ببيان «موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح» ، فمزّق فيه شملهم كلّ ممزّق، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم، فجزاه الله عن الإسلام وأهله من أفضل الجزاء.
واعلم أنه لا ترد شبهة صحيحة على ما جاء به الرسول، بل الشبهة التي توردها أهل البدع والضلال على أهل السنة لا تخلو من قسمين:
إمّا أن يكون القول الذي أوردت عليه ليس من أقوال الرسول، بل يكون نسبته إليه غلطا، وهذا لا يكون متفقا عليه بين أهل السنة أبدا. بل يكون قد قاله بعضهم، وغلط فيه، فإنّ العصمة إنما هي لمجموع الأمة، لا لطائفة معينة منها.
وإما أن يكون القول الذي أوردت عليه قولا صحيحا، لكن لا ترد تلك الشبهة عليه، وحينئذ فلا بد لها من أحد أمرين: إما أن تكون لازمة، وإما أن لا تكون لازمة، فإن كانت لازمة لما جاء به الرسول، فهي حق لا شبهة، إذ لازم الحق حق، ولا ينبغي(1/220)
الفرار منها، كما يفعل الضعفاء من المنتسبين إلى السنة، بل كل ما لزم من الحق فهو حق يتعين القول به كائنا ما كان.
وهل تسلط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنة إلّا بهذه الطريق؟
ألزموهم بلوازم تلزم الحق فلم يلتزموهم ودفعوها وأثبتوا ملزوماتها، فتسطلوا عليهم بما أنكروه لا بما أثبتوه. فلو أثبتوا لوازم الحق ولم يفروا منها لم يجد أعداؤهم إليهم سبيلا. وإن لم تكن لازمة لهم، فإلزامهم إياها باطل، وعلى النقدين، فلا طريق لهم إلى رد أقوالهم. وحينئذ فلهم جوابان: مركّب مجمل، ومفرد مفصّل أما الأول، فيقولون لهم: هذه اللوازم التي تلزمونا بها، إمّا أن تكون لازمة في نفس الأمر، وإمّا أن لا تكون لازمة. فإن كانت لازمة فهي حقّ، إذ قد ثبت أن ما جاء به الرسول فهو الحق الصريح، ولازم الحقّ حق. وإن لم تكن لازمة فهي مندفعة، ولا يجوز إلزامها ولا التزامها. وأما الجواب المفصّل فيفردون كلّ إلزام بجواب، ولا يردونه مطلقا، بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام ومعانيه، فإن كان لفظها موافقا لما جاء به الرسول يتضمن إثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، فلا يكون المعنى إلا حقا، فيقبلون ذلك الإلزام. وإن كان مخالفا لما جاء به الرسول متضمّنا لنفي ما أثبته، أو إثبات ما نفاه كان باطلا لفظا ومعنى، فيقابلونه بالردّ، وإن كان لفظا مجملا محتملا لحقّ وباطل لم يقبلوه مطلقا، ولم يردوه مطلقا، حتى يستفسروا قائله: ماذا أراد به؟ فإن أراد معنى صحيحا مطابقا لما جاء به الرسول قبلوه، ولم يطلقوا اللفظ المحتمل إطلاقا. وإن أراد معنى باطلا ردّوه ولم يطلقوا نفي اللفظ المحتمل أيضا. فهذه قاعدتهم التي يعتصمون، وعليها يعولون، وبسط هذه الكلمات يستدعي أسفارا لا سفرا واحدا، ومن لا ضياء له لا ينتفع بها، ولا بغيرها، فلنقتصر عليها» انتهى بحروفه.
ذكر انطواء القرآن على البراهين والأدلة
قال الإمام الراغب الأصفهانيّ رحمه الله في مقدّمة تفسيره:
«ما من برهان ولا دلالة وتقسيم وتحديد مبنيّ على كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به. لكن أورده تعالى على عادة العرب، دون دقائق طرق الحكماء والمتكلمين لأمرين: أحدهما بسبب ما قاله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... [إبراهيم: 4] الآية. والثاني: إن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليّ من الكلام. فإنّ من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلّا الأقلون ما لم يكن ملغزا. فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلّ صورة تشتمل(1/221)
على أدقّ دقيق لتفهم العامة من جليّها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، ويفهم الخواصّ من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء. وعلى هذا النحو
قال عليه السلام «إنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا ولكلّ حرف حدا ومطلعا» «1»
، لا على ما ذهب إليه الباطنية.
ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر، كان نصيبه من علم القرآن أكثر. ولذلك، إذا ذكر تعالى حجة إلى ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافتها إلى أولي العقل، ومرّة إلى أولي العلم، ومرّة إلى السامعين ومرّة إلى المفكرين، ومرّة إلى المتذكرين تنبيها على أن بكلّ قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] وغيرها من الآيات.
شرف علم التفسير
قال الإمام الراغب الأصفهانيّ في مقدّمة تفسيره:
«أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله. وذلك أن الصناعات الحقيقية إنما تشرف بأحد ثلاثة أشياء:
إمّا بشرف موضوعاتها، وهي المعمول فيها، نحو أن يقال: الصياغة أشرف من الدباغة لأنّ موضوعها- وهو الذهب والفضة- أشرف من جلد الميتة- الذي هو موضوع الدباغة- وإمّا بشرف صورها، نحو أن يقال: طبع السيوف أشرف من طبع القيود.
وإمّا بشرف أغراضها وكمالها، كصناعة الطب- التي غرضها إفادة الصحة- فإنها أشرف من الكناسة- التي غرضها تنظيف المستراح «فإذا ثبت ذلك، فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث، وهو أنّ موضوع التفسير كلام الله تعالى: الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، وصورة فعله: إظهار خفيات ما أودعه منزله من أسراره ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب، وغرضه التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا فناء لها. ولهذا عظّم الله محله بقوله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] قيل: هو تفسير القرآن» انتهى.
__________
(1)
أورد السيوطي، في الإتقان في علوم القرآن، 2/ 184. قال الفريابي: حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ، ولكل حد مطلع»
.(1/222)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاتحة الكتاب
فاتحة الشيء: أوله وابتداؤه. ولمّا افتتح التنزيل الكريم بها، إمّا بتوقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلّم، أو باجتهاد من الصحابة- كما حكى القولين القاضي الباقلانيّ في ترتيب التنزيل- سمّيت بذلك قال السيد الجرجانيّ: فاتحة الكتاب صارت علما بالغلبة لسورة الحمد، وقد يطلق عليها «الفاتحة» وحدها، فإما أن يكون علما آخر بالغلبة أيضا، لكون اللام لازمة، وإما أن يكون اختصارا، واللام كالعوض عن الإضافة إلى الكتاب، مع لمح الوصفية الأصلية.
وقال ابن جرير: سميت «فاتحة الكتاب» : لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف، ويقرأ بها في الصلوات. فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة.
وتسمّى «أم القرآن» : لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة تقدّم الأمّ والأصل، أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبّد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على معارج السعداء، ومنازل الأشقياء.
والعرب تسمي كلّ أمر جامع أمورا، وكلّ مقدم له توابع تتبعه «أمّا» - فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ «أمّ الرأس» وتسمي لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها «أما» وتسمى «السبع المثاني» - جمع مثنى كمفعل اسم مكان، أو مثنّى بالتشديد من التثنية على غير قياس- لأنها سبع آيات تثنّى في الصلاة أي تكرر فيها.(1/223)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
والأكثرون على أن الفاتحة مكية، وأنها سبع آيات.
وأصل معنى «السورة» لغة: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه. ومنه قول نابغة بني ذبيان:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
أي منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك.
وأما «الآية» فإمّا بمعنى: العلامة- لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدلّ به عليه- وإمّا بمعنى: القصّة- كما قال كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرّض آية: ... أيقظان قال القول، إذ قال، أم حلم
أي رسالة مني، وخبرا عني- فيكون معنى الآيات «القصص» قصة تتلو قصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل- ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه- منه لجميع خلقه: سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلا يكون لها جالبا، فإذا كان محذوفا يقدّر بما جعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية- كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء- والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. واللَّهِ علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كلّ شيء ويعبده وأصله «إلاه» بمعني مألوه أي معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، وبعد الإدغام فخّمت تعظيما- هذا تحقيق اللغويين.(1/224)
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الجوهريّ: هما اسمان مشتقان من الرحمة. ونظيرهما في اللغة «نديم وندمان» وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جادّ مجدّ إلّا أن الرَّحْمنِ اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره. ألا ترى أنه قال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.
وقد ناقش في كون الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بمعنى واحد، العلّامة الشيخ محمد عبده المصريّ في مباحثه التفسيرية قائلا: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها- ثم قال: - وأنا لا أجير لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقا، فصيغة الرَّحْمنِ تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلا أو دقيقا.
وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى الرَّحْمنِ المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول- على قوله هذا- هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطّن لما هو أحسن منه، ثم قال: والذي أقول: إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة- كفعّال- ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة- كعطشان وغرثان وغضبان- وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس- كعليم وحكيم وحليم وجميل- والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين، فلفظ الرَّحْمنِ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرَّحِيمِ يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جلّ ثناؤه ب الرَّحْمنِ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما- لأن الفعل قد(1/225)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
ينقطع إذا كان عارضا لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة- فعند ما يسمع لفظ الرَّحِيمِ يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ أي الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه. واللام في الْحَمْدُ للاستغراق أي استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيما وتمجيدا- كما
في الحديث: «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله» .
قال الإمام ابن القيّم في «طريق الهجرتين» : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان. فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، فَتَبارَكَ اللَّهُ يشمل ذلك كله. ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] . فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح. والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدا، لأن جميع أسمائه، تبارك وتعالى، حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله. فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر. - ثم قال-: وبالجملة فكل صفة علياء، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزّ وجلّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه.
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب يطلق على السيد المطاع وعلى المصلح وعلى المالك. -(1/226)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
تقول: ربّه يربّه فهو ربّ كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ- فهو صفة مشبهة، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى التربية وهي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا. وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل. والرب- باللام- لا يقال إلا لله عزّ وجلّ. وهو في غيره على التقييد بالإضافة- كربّ الدار- ومنه قوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] .
والْعالَمِينَ جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه. وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس. والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 3]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قرأ عاصم والكسائيّ بإثبات ألف مالِكِ والباقون بحذفها. قال الزمخشريّ:
ورجحت قراءة (ملك) لأنه قراءة أهل الحرمين، وهم أولى الناس بأن يقرءوا القرآن غضا طريا كما أنزل، وقراؤهم الأعلون رواية وفصاحة. ولقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة. والقرآن يتعاضد بعضه ببعض، وتتناسب معانيه في المواد. وثمة مرجحات أخرى.
وقال بعضهم: إن قراءة مالِكِ أبلغ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة، ولا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة. وتظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه.
ومن وجوه تفضيلها: إنها تزيد بحرف، ولقارئ القرآن بكل «1» حرف عشر حسنات
__________
(1)
أخرج الترمذي في ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» .(1/227)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
- كما رواه الترمذيّ عن ابن مسعود بإسناد صحيح- وكلاهما صحيح متواتر في السبع.
والدِّينِ الحساب والمجازاة بالأعمال. ومنه: «كما تدين تدان» أي: مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين. وتخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قال الطبريّ: أي لك، اللهم، نخشع ونذلّ ونستكين. إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك- قال- والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة «معبّدا» ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج «معبّد» ومنه سمي العبد «عبدا» لذلّته لمولاه انتهى.
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئا ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض والسموات وحده. وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبّا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلّا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلّا هو، تعالى. وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيها على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم:
منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37] الآية. وفي قوله تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا(1/228)
سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ
[سبأ: 40- 41] . وفي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: 116] الآية.
وقوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: 80] الآية. وفي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20] .
وحديث «1» أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها «ذات أنواط» فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ- إلى قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الأعراف: 138- 140] رواه الترمذيّ وصححه.
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان ففي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ،
فروى الإمام أحمد والترمذي «2» عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمون، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم» .
فالعبادة أنواع وأصناف، ولا يتم الإيمان إلّا بتوحيدها كلها لله سبحانه. وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم. وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
__________
(1)
أخرجه الترمذي في: الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. وهذا نصه: عن أبي واقد الليثيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»
. (2)
أخرج الترمذيّ في: التفسير، سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: «يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن» . وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم. ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه» .(1/229)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[غافر: 60] ، فسماه عبادة.
وفي الخبر: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» «1» .
قال شمس الدين بن القيم: ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى.
(فائدة) قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: فالأول تبرّؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عزّ وجلّ. وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: 29] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له.
قال الإمام الراغب في تفسيره: «الهداية دلالة بلطف. ومنه الهدية، وهوادي الوحش وهي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بفعلت نحو:
هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف وقد قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] وقال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الحج: 4] قيل:
__________
(1)
أخرج الإمام أحمد في المسند، 4/ 403. عن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقال: «أيها الناس. اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم» .(1/230)
إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع!
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا وفعلا، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلّا بعد الأول، ولا الثالث إلّا بعد الثاني. فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرا وإما طوعا- كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] ، وقوله تعالى: الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 3] ، وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ، وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] ، وقال في الإنسان، بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] وقال:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، وقال في ثمود: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] ، وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام.
وإياها عنى بقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: 24] .
وبقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] ، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبيّ عليه السّلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [الحج: 24] . وقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] .
وهذه الهداية هي المعنيّة بقوله: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28] .
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله.
ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا.(1/231)
وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلّا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها. ومن ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات. وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلّا البصير، ولا يعمل به إلّا اليسير. ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء.
وقال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات وغدران، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته- ثم تلا قوله- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] وقال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
(والمنزلة الرابعة) من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه. ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] . وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 272] ، وقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [الروم: 53] . فإنّه عنى الهداية- التي هي التوفيق وإدخال الجنة- دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] . وقال في الأنبياء: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: 73] . فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: (الأول) أنه عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك- وإن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد. (الثاني) قيل: وفقنا لطريقة الشرع. (الثالث) احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات. (الرابع) زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] . وقولك: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] .
(الخامس) قيل: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] (السادس) قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 4- 5] . وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] الآية. فهذه الأقاويل اختلفت(1/232)
باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مرادا بالآية- إذ لا تنافي بينها- وبالله التوفيق» كلام الراغب. وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آية ما- إذا لم تتناف- صح إرادتها كلها، ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ.
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله:
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات. وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب. فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فكل من المفسرين يعبّر عن الصراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته. فيقول بعضهم:
الصراط المستقيم كتاب الله أو اتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنّة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات. ومعلوم أن المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر- مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف- وليس المقصود مجرد عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلا. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] . أو عن قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] . أو عن الصالحين أو الظالمين، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسّر أو يتعذّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه، إذ لا يكون محتاجا إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدلّ به على نظائره. فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور. والمقتصد هو فاعل الواجب وتارك المحرّم. والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم الذي يفوّت الصلاة، أو(1/233)
الذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتمّ الأركان ونحو ذلك. والمقتصد الذي يصلي في الوقت- كما أمر- والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها. وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب. والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة، وإن كان من الناس من غيّر السنة، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن- إذ لم يتمكن من تغيير لفظه. وأيضا فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفي عليه بعض السنة، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم.
وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا في تحقيق هذه الآية:
«كل عبد مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم.
فإنه لا نجاة من العذاب إلّا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلّا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلّا بهدى الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] . فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه. وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور. والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات- والموت لا بدّ منه- فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه. وكذلك النصر- إذا قدّر أنه قهر وغلب حتى قتل- فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضا عليهم في الصلاة- فرضها ونفلها- وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر:(1/234)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2- 3] وكان من المتوكلين وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: 3] ، وكان ممن ينصره الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر. فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة، وتندفع به كل مضرة.
(فائدة) الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة. فالطريق الواضح للحسّ، كالحق للعقل، في أنه: إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الأصفهانيّ: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة. ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين: كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة ونحلة. وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى.
(فوائد) الأولى: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: «آمين» ومعناه:
اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل. وليس من القرآن. بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. والدليل على استحباب التأمين ما
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ «1» عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ غير المغضوب عليهم
__________
(1) أخرجه الترمذيّ في: الصلاة، باب ما جاء في التأمين. وأبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 932. والإمام أحمد في مسنده.(1/235)
ولا الضالين فقال: «آمين» مدّ بها صوته» . ولأبي داود: رفع بها صوته. قال الترمذيّ:
هذا حديث حسن، وفي الباب عن عليّ وأبي هريرة، وروي عن عليّ وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «1» . رواه أبو داود.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه» «2» .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا: «إذا قال- يعني الإمام- ولا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله» «3» .
الثانية: في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم:
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت- وهي سبع آيات- على حمد الله تعالى، وتمجيده، والثناء عليه: بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرّع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية، تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم- وهو الدين القويم- وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون.
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره:
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 934.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين. ومسلم في: الصلاة، حديث، 72.
(3)
أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 62 ونصه: عن أبي موسى الأشعريّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطبنا فبيّن لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا، فقال «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم. ثم ليؤمكم أحدكم.
فإذا كبر فكبروا. وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين. يجبكم الله. فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم»
.(1/236)
الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم: إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه. وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلوّ إلى إعدام القرآن خاصته، وهي البيان. - قال-: وبيان ما أريد: أن ما نزل القرآن لأجله أمور:
أحدها التوحيد: لأن الناس كانوا كلهم وثنيين- وإن كان بعضهم يدّعى التوحيد- ثانيها وعد من أخذ به، وتبشيره بحسن المثوبة، ووعيد من لم يأخذ به، وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما. والوعيد- كذلك- يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين:
بالاستخلاف في الأرض، والعزّة، والسلطان، والسيادة. وأوعد المخالفين، بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم.
ثالثها العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس.
رابعها بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة.
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب.
فأمّا التوحيد ففي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى، ولا يصح ذلك إلّا إذا كان سبحانه مصدر كلّ نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية. ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ. ولفظ «رب» ليس معناه المالك والسيد فقط، بل فيه معنى التربية والإنماء. وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزّ وجلّ. فليس في الكون متصرف(1/237)
بالإيجاد، والإشقاء، والإسعاد سواه. ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين. ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه، بل استكمله وبقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية، يدعون لذلك من دون الله، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بهم إلى الله زلفى. وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال.
«وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطويّ في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فذكر الرحمة في أول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء. وعد بالإحسان- لا سيما وقد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتضمن الوعد والوعيد معا، لأن معنى الدين الخضوع، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها، لا حقيقة ولا ادعاء، وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته- ظاهرا وباطنا- يرجو رحمته، ويخشى عذابه، وهذا يتضمن الوعد والوعيد. أو معنى الدين الجزاء وهو: إما ثواب للمحسن، وإما عقاب للمسيء، وذلك وعد ووعيد. وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو الذي من سلكه فاز، ومن تنكبه هلك. وذلك يستلزم الوعد والوعيد.
وأما العبادة، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: إنه قد وضع لنا صراطا سيبيّنه ويحدده. ويكون مناط السعادة في الاستقامة عليه، والشقاء في الانحراف عنه. وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة. ويشبه هذا قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3] . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفّ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. ومخ العبادة الفكر والعبرة، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تصريح بأن هنالك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم، وصائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون(1/238)
العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] حيث بيّن أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار. وفي قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ تصريح بأن من دون المنعم عليهم فريقان: فريق ضل عن صراط الله، وفريق جاحده، وعاند من يدعو إليه، فكان محفوفا بالغضب الإلهيّ، والخزي في هذه الحياة الدنيا. وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله.
فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا. فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى «أم الكتاب» .
الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما
رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلّم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ؟ - ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن نخرج، قلت: يا رسول الله ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال:
«الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «1» .
وروى الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، وفي آخره: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني» «2»
. واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربيّ وابن الحضار من المالكية، وذلك بيّن واضح.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. والترمذي في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.(1/239)
وروى البخاريّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحيّ سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية. فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقى؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل، النبي صلى الله عليه وسلّم. فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم» «1» . وهكذا رواه مسلم وأبو داود.
وفي بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقى ذلك السليم- يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلا-.
وروى مسلم والنسائيّ عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته «2» .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) غير تمام» «3» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله، حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي- وقال مرّة فوّض إليّ عبدي- فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»
. ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: فضائل القرآن، باب فاتحة الكتاب. [.....]
(2) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 254.
(3) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 38.(1/240)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرة
جميعها مدنيّ بلا خلاف. وآيها مائتان وست وثمانون. وقد صح في فضلها عدة أخبار:
منها ما
في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» «1»
. وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام» .
وروى مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» «2» .
(وقوله الزهراوين: أي المنيرتين- في الإعجاز أو في وفرة الأحكام- والغياية:
ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة. والبطلة:
السحرة. ومعنى لا تستطيعها: لا تستطيع النفوذ في قارئها، أو لا يمكنهم حفظها.
والله أعلم) .
__________
(1) أخرجه الترمذيّ في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسيّ.
(2) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 252.(1/241)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
أعلم أن للناس في هذا وما يجرى مجراه من الفواتح مذهبين:
الأول أن هذا علم مستور، وسرّ محجوب، أستأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه. ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق. واحتجوا بأدله عقلية ونقلية، بسطها العلامة الفخر.
(المذهب الثاني) مذهب من فسرها، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها، وهو ما للجمهور. وفيه وجهان: (الأول) وعليه الأكثر: أنها أسماء للسور.
(الثاني) أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد: كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلوّ عليهم- وقد عجزوا عنه عن آخرهم- كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله- بعد المراجعات المتطاولة- وهم أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق، وشقت غبار كلّ سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلّا لأنه ليس بكلام البشر، وإنه كلام خالق القوى والقدر. قاله الزمخشريّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
أي: هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 1- 2] . قال بعض المحققين: اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة. فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما(1/242)
صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.
والريب في الأصل: مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة.
وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» .
ومعنى نفيه عن الكتاب. أنه في علوّ الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى. والأمر كذلك، لأن العرب، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي: هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين.
قال الناصر في الانتصاف: الهدى يطلق في القرآن على معنيين (أحدهما) الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أو لا. و (الآخر) خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا.
وعلى الأول، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به، كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] .
وقال إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] . وقد كان، صلى الله عليه وآله وسلّم، منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وكقوله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك.(1/243)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] . إلى غير ذلك، مما دلّ على أن النفع به لا يناله إلا الإبرار. والمراد بالمتقين- هنا- من نعتهم الله تعالى بقوله
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، أي يصدقون بِالْغَيْبِ، الغيب في الأصل مصدر غاب.
بمعنى استتر واحتجب وخفي. وهو بمعنى الفاعل- كالزور للزائر- أطلق عليه مبالغة، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام. والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم. كذاته تعالى، وملائكته، والجنّة، والنار، والعرش والكرسيّ، واللوح ونحوها.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة. كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء.
قال الراغب: إقامة الصلاة توفية حدودها، وإدامتها. وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط. لهذا، لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو أَقِمِ الصَّلاةَ [هود: 114] ، وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [الإسراء: 78] ، والَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة: 55] . ولم يقل: المصلي، إلا في المنافقين:
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 4- 5] ، وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل- كما قال عمر رضي الله عنه: الحاجّ قليل والركب كثير- ولهذا
قال عليه السلام «من صلى ركعتين مقبلا بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»
. فذكر مع قوله «صلّى» الإقبال بقلبه على الله تنبيها على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه. وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، نحو وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: 66] ، ونحو وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرحمن: 9] تنبيها على المحافظة على تعديله.
انتهى.
فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه. و «الصلاة» فعلة من صلّى إذا دعا، ك «الزكاة» من زكى- وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم- وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.(1/244)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرع لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم، على ما بيّن في آيات كثيرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمراد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الكتاب المنزل كله، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي- وإن كان بعضه مترقبا- تغليبا للموجود على ما لم يوجد. كما أن المراد من قوله وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الكتب الإلهية السالفة كلها. وهذا كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] الآية.
والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل. فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزّ وجلّ فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام.
ولهذا يقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ. أي تكلم به حقيقة لا مجازا.
قال الإمام أحمد وغيره: وإليه يعود أي لا يبقى له أثر في الوجود أي هو المتكلم به قال تعالى وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] . وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] .
وقال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] .
وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الآخرة في الأصل: تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ [القصص: 83] . سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا. وقيل للدنيا: دنيا، لأنها أدنى من الآخرة. وهما من الصفات الغالبة. ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء. إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما، كأنهما ليسا من الصفات.
والإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي تقديم الآخرة وبناء يُوقِنُونَ على هُمْ تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته. كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين!.(1/245)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
أُولئِكَ أي: المتصفون بما تقدّم. عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على نور من ربّهم، وبرهان، واستقامة، وسداد- بتسديده إياهم وتوفيقه لهم-. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي المنجحون، المدركون ما طلبوا عند الله- بإيمانهم- من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)
لمّا بيّن تعالى نعوت المؤمنين قبل، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم: تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ [يونس: 96- 97] . وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 145] الآية.
وسَواءٌ اسم بمعنى: الاستواء، وصف به، كما يوصف بالمصادر، مبالغة، ومنه قوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ بمعنى: مستوية.
و (الإنذار) الإعلام مع تخويف. والمراد هنا: التخويف من عذابه تعالى، وانتقامه، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلا للبشارة، ولأن الإنذار أوقع في القلوب، ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع للبشارة رأسا- أولى.
وقوله لا يُؤْمِنُونَ جملة مستقلّة، مؤكّدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
استئناف معلّل لما سبق من الحكم، أو بيان وتأكيد له. والختم على الشيء:
الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه. والمراد: إحداث حالة تجعلها- بسبب تماديهم(1/246)
في الغيّ، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح- بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ فيها الحق أصلا.
قال أبو السعود: وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى، لاستناد جميع الحوادث عندنا- من حيث الخلق- إليه سبحانه. وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم، ووخامة عاقبتهم، لكون أفعالهم- من حيث الكسب- مستندة إليهم. فإنّ خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر، بل بطريق الترتيب- على ما اقترفوه من القبائح- كما يعرب عنه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ونحو ذلك، يعني كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] .
وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل.
منها: أنّ القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكّن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه.
ومنها: أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. كما في: سال به الوادي- إذا هلك- وطارت به العنقاء- إذا طالت غيبته-.
ومنها: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف، عبرّ عن ذلك بالختم، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية. وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغيّ والعناد.
ومنها: أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه. مثل قولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] .
تهكّما بهم.
ومنها: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه. ويعضده قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً [الإسراء: 97] .
انتهى ملخصا.
(فائدة) قال الراغب: المراد بالقلب في كثير من الآيات: العقل والمعرفة.(1/247)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
أصل ناس أناس، حذفت همزته تخفيفا، وحذفها مع لام التعريف كاللازم.
ويشهد لأصله إنسان، وأناس، وأناسيّ، وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون- كما سمي الجن لاجتنانهم- ولذلك سموا بشرا. وقيل: اشتقاقه من الأنس- ضدّ الوحشة- لأن الإنسان مدنيّ بالطبع. والأوّل أظهر.
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية. لأن مكّة لم يكن فيها نفاق، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب. وبها اليهود- من أهل الكتاب- وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع- حلفاء الخزرج- وبنو النّضير وبنو قريظة- حلفاء الأوس- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود- إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه- ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين، بعد، شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة- من أحياء العرب حوالي المدينة-. فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعزّ الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول- وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخبر، وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر، قال: هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف- ممن هو على طريقته ونحلته- وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثمّ وجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
قال القاشانيّ: المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله، لقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان(1/248)
الكفر والعداوة. وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم. بحقن الدماء وحصن الأمول وغير ذلك. وادّخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبّة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم. لكن الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلّا في أنفسهم. بإهلاكها، وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال- بازدياد الظلمة، والكفر، والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها- وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] ، وهم- من غاية تعمّقهم في جهلهم- لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (وما يخادعون) بالألف.
قال ابن كثير: نبه الله سبحانه على صفات المنافقين، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض- من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفّار في نفس الأمر- وهذا من المحذورات: أن يظنّ بأهل الفجور خير. ثم إن قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين- إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان «1» في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا- في غزوة تبوك- الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفّروا به الناقة، ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] الآية. وقال تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد: 30] . وقد كان من أشهرهم بالنفاق، عبد الله بن أبيّ بن سلول.
واستند- غير واحد من الأئمة- في الحكمة عن كفّه صلى الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدّث العرب أنّ
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 9 و 10 و 11.(1/249)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
محمدا يقتل أصحابه» «1» .
ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم- بأنّه لأجل كفرهم- فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
المرض: السقم، وهو نقيض الصحة، بسبب ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفاعيله، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم، وضعف دينهم- وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين، وعدم ضعفه، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89] أي:
غير مريض بما ذكرنا- أو استعير لشكّهم، لأن الشك تردّد بين الأمرين، والمنافق متردّد، كما
في الحديث «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» «2»
والمريض متردّد بين الحياة والموت.
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بأن طبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار.
وقال القاشانيّ: أي مرضا آخر- حقدا وحسدا وغلا- بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين- ثم قال: والرذائل كلها أمراض القلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم- بكسر اللام- فعيل بمعنى فاعل- كسميع- وبصير- قال في المحكم: الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه. يعلم
__________
(1) يشير إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في: الزكاة، حديث 142 ونصه: عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجعرانة، منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقبض منها. يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل. قال «ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت، إن لم أكن أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني، يا رسول الله، فأقتل، هذا المنافق. فقال «معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم. يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة» .
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 17 ونصه: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين. تعير إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة» .(1/250)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
وجه إيثاره في عذاب المنافقين- على «العظم» المتقدم في وصف عذاب الكافرين- ويؤيده: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء: 145] .
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الباء للسببيّة أو للمقابلة- أي بسبب كذبهم أو بمقابلته- وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. وفيه رمز إلى قبح الكذب، وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم- مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى- ونحوه قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25]- والقوم كفرة- وإنما خصّت الخطيئات استعظاما لها، وتنفيرا عن ارتكابها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
شروع في تعديد بعض من مساوئهم المتفرّعة- على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق- و «الفساد» خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به. ونقيضه «الصلاح» وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة: 205] .
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30]- ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد-.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يدعون في السرّ إلى: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم، ونصب الحرب له، وطمعهم في الغلبة، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد- بتهييج الفتن بينهم- قيل لهم: لا تفسدوا- كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته- وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ(1/251)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وَفَسادٌ كَبِيرٌ
[الأنفال: 73] ، فأخبر أن موالاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد، لما تقدّم.
وقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي: بين المؤمنين وأهل الكتاب. نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً [النساء: 62] . أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
قال الراغب: تصوّروا إفسادهم بصورة الإصلاح- لما في قلوبهم من المرض- كما قال أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: 8] وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] وقوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: 104] .
وقال القاشانيّ كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا- لأنفسهم خاصة- لتوغّلهم في محبّة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم- بالمنافع الجزئية، والملاذّ الحسية- عن المصالح العامة الكلّية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحسّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن المنكر- إتماما للنّصح، وإكمالا للإرشاد- آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أي: الكاملون في الإنسانية، فإنّ المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يعدّ من خواصّ الإنسان وفضائله- قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ استفهام في معنى الإنكار. و (السفه) خفّة وسخافة رأي يورثهما: قصور العقل، وقلّة المعرفة بمواضع المصالح والمضار. ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] .
وإنما سفّهوهم- مع أنهم العقلاء المراجيح- لأنهم: لجهلهم، وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أنّ ما هم فيه هو الحقّ، وأنّ ما عداه باطل- ومن(1/252)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
ركب متن الباطل كان سفيها- ولأنهم كانوا في رئاسة في قومهم، ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء، ومنهم موال- كصهيب، وبلال، وخبّاب- فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 14]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي: أظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة- نفاقا، ومصانعة، وتقيّة وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم-.
واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين، فليس بتكرير. لأنّ تلك في بيان مذهبهم، والترجمة عن نفاقهم، وهذه لبيان تباين أحوالهم، وتناقض أقوالهم- في أثناء المعاملة والمخاطبة- حسب تباين المخاطبين! وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يقال: خلوت بفلان وإليه أي: انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى: مضى، ومنه: القرون الخالية. والمراد ب شَياطِينِهِمْ: أصحابهم أولو التمرّد والعناد، والشيطان يكون من الإنس والجنّ، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] . وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. واشتقاق شيطان من شطن، إذا بعد، لبعده من الصلاح والخير.
ومعنى إِنَّا مَعَكُمْ أي في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم. والاستهزاء بالشيء السخرية منه.
يقال: هزأت واستهزأت بمعنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يسخر بهم للنقمة منهم- هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحّاك- وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يزيدهم على وجه(1/253)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
الإملاء، والترك لهم في عتوّهم وتمرّدهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
و (الطغيان) المراد به هنا: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ. وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] .
(والعمه) مثل العمى- إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة- وهو التحيّر والتردد، لا يدري أين يتوجه.
أي في ضلالهم وكفرهم- الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه- يتردّدون حيارى، ضلالا، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا.
والمشهور فتح الياء من «يمدّهم» ، وقرئ- شاذا- بضمها، وهما بمعنى واحد. يقال: مدّ الجيش وأمده- إذا زاده، وألحق به ما يقوّيه ويكثره- وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز، بحيث صاروا كأنّهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ وسوء الحال، ومحلّه الرفع على الابتداء، خبره قوله تعالى: الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ. والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها، وبيان لكمال جهالتهم- فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال- بإظهار غاية سماجتها، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز- فضلا عن العقلاء-. والضَّلالَةَ الجور عن القصد، وبِالْهُدى التوجّه إليه. وقد استعير الأول: للعدول عن الصواب في الدين، والثاني:
للاستقامة عليه. و «الاشتراء» استبدال السلعة بالثمن- أي أخذها به- فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه.
فإن قيل: كيف اشتروا الضلالة بالهدى، وما كانوا على هدى؟
قلت: جعلوا لتمكّنهم منه- بتيسير أسبابه- كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى(1/254)
الضلالة قد عطّلوه، واستبدلوها به، فاستعير ثبوته لتمكّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة- من التمكّن- كانت حاصلة لهم بما شاهدوه- من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة- من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ عطف على الصلة داخل في حيزها. والفاء للدلالة على ترتّب مضمونه عليها. والتجارة صناعة التجار، وهو التصدّي للبيع والشراء، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال، وإسناد عدمه- الذي هو عبارة عن الخسران- إليها، وهو لأصحابها، من الإسناد المجازيّ وهو: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له- كما تلبست التجارة بالمشترين- وفائدته: المبالغة في تخسيرهم، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار، وعمومه المستتبع، لسرايته إلى ما يلابسهم.
فإن قلت: هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح، والتجارة كأنّ ثمّ مبايعة على الحقيقة؟
قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفّى بأشكال لها، وأخوات- إذا تلاحقن- لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشّح، فإيرادهما- إثر الاشتراء- تصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة- الذي يتحاشى عنه كل أحد- للإشباع في التخسير والتحسير. وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار..!
لمّا شبّهته- في الاهتداء به- بالعلم المرتفع، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحقّقه، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر، باشتعال النار في رأسه.
وقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي: لزوال استعدادهم، وتكدير قلوبهم بالرّين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ.
قال الزمخشريّ: فإن قيل: لم عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم، ورتّبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى؟ وما وجه الجمع بينهما- مع ذلك الترتيب- على أن عدم الاهتداء قد فهم من استبدال الضلالة بالهدى، فيكون تكرارا لما مضى؟(1/255)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
فالجواب: أن رأس مالهم هو الهدى، فلمّا استبدلوا به ما يضادّه- ولا يجامعه أصلا- انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد- أعنى الضلالة- وصفوا بانتفاء الربح والخسارة. لأنّ الضالّ في دينه خاسر هالك- وإن أصاب فوائد دنيوية- ولأنّ من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالريح، بل بانتفائه، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.
وأما قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين- فيكون تكرارا لما سبق- بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة- كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر- فهذا راجع إلى الترشيح.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
ولما جاء بحقيقة صفتهم، عقّبها بضرب المثل- زيادة في الكشف، وتتميما للبيان- فقال تعالى: مَثَلُهُمْ أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ أي أوقد ناراً في ظلمة- والتنكير للتعظيم- فَلَمَّا أَضاءَتْ أي:
أنارت النار ما حَوْلَهُ فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي:
أطفأ الله نارهم- التي هي مدار نورهم- فبقوا في ظلمة وخوف- وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] . وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ما حولهم- متحيّرين عن الطريق، خائفين- فكذلك هؤلاء استضاءوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها. ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة- ظلمة النفاق- التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد، ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.
ونقل- عن كثير من السلف- تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أوّلا، ثم كفرهم ثانيا. فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون: 3] الآية، فلمّا آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم- كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا- ثمّ لمّا كفروا، ذهب الله بنورهم: انتزعه- كما ذهب(1/256)
بضوء هذه النار- وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله. فإنهم- لمّا وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى- مثّل هداهم- الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد- والضلالة- التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم- بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في الظلمات.
قال الزمخشريّ في الكشف: ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنّه مشاهد- وفيه تبكيت للخصم الألدّ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ.
ولأمر ما، أكثر الله- في كتابه المبين، وفي سائر كتبه- أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] .
و (والمثل) في أصل كلامهم بمعنى: المثل وهو النظير. يقال: مثل، ومثل، ومثيل- كشبه وشبه وشبيه- ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده: مثل.
ولم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول، إلّا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه، وحمي من التغيير.
فإنه- لو غير- لربّما انتفى الدلالة على تلك الغرابة. وقيل: إن المحافظة على المثل إنّما هي بسبب كونه استعارة. فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به. فإن وقع تغيير، لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه، وإشارة إليه- كما في قولك:
بالصيف ضيعت اللبن بالتذكير.
وقال بعضهم: قد استعير المثل للحال، أو القصّة، أو الصّفة- إذا كان لها شأن، وفيها غرابة- كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا.
وكذلك قوله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] أي- فيما قصصنا عليك من العجائب- قصة الجنّة العجيبة الشأن، ثمّ أخذ في بيان عجائبها وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الفتح: 29] أي: صفتهم وشأنهم المتعجّب منه.
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقّوا منه صفة للعجيب الشأن.(1/257)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 18]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ الصمم: آفة مانعة من السماع، سمّى به فقدان حاسّة السمع، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصّماخ، وانسداد منافذه، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه. والبكم: الخرس. والعمى: عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.
وصفوا بذلك- مع سلامة حواسّهم المذكورة- لما أنّهم سدّوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصّروا بعيونهم، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم- كقوله-:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وكقوله:
أصمّ عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي- بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة- لا يعودون إلى الهدى- بعد أن باعوه. أو عن الضلالة- بعد أن اشتروها. فالآية الكريمة تتمّة للتمثيل بأنّ ما أصابهم، ليس مجرّد انطفاء نارهم، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة- مع بقاء حاسة البصر بحالها- بل اختلّت مشاعرهم جميعا، واتصفوا بتلك الصفات فبقوا جامدين في مكانهم لا يرجعون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدءوا منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ تمثيل لحالهم إثر تمثيل، ليعمّ البيان منها كلّ دقيق وجليل، ويوفي حقّها من التفظيع والتهويل. فإنه تفنّنهم في فنون الكفر والضلال حقيق بأن يضرب في شأنه الأمثال. وكما يجب على البليغ- في مظانّ الإجمال والإيجاز- أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه- في موارد التفصيل والإشباع- أن يفصّل ويشبع.(1/258)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(والصيب) السحاب ذو الصوب. والصوب المطر. والمراد بالسماء: السحاب، كما قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 69] . وهي في الأصل: كل ما علاك من سقف ونحوه.
فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ التنوين في الكلّ للتفخيم والتهويل- كأنّه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف- يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ الصاعقة: الصوت الشديد من الرعدة يسقط معها قطعة نار تنقدح من السحاب- إذا اصطكّت أجرامه- لا تأتي على شيء إلا أحرقته حَذَرَ- أي خوف- الْمَوْتِ- من سماعها- وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ علما وقدرة فلا يفوتونه.
والجملة اعتراضية منبّهة على أنّ ما صنعوا- من سدّ الآذان بالأصابع- لا يغني عنهم شيئا، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر، والحيل لا تردّ بأس الله عزّ وجلّ. وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير- الراجع إلى أصحاب الصيّب- الإيذان بأنّ ما دهمهم- من الأمور الهائلة المحكيّة- بسبب كفرهم، فيظهر استحقاقهم شدّة الأمر عليهم، على طريقة قوله تعالى: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
[آل عمران: 117] فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 20]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدّر- كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف أبصارهم، أي: يأخذها بسرعة كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ أي: في ضوئه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي:
وقفوا، وثبتوا في مكانهم- ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وكسدت. وقام الماء، جمد- وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين: بشدّته على أصحاب الصيّب، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل- بما يأتون وما يذرون- إذا صادفوا من البرق خفقة- مع خوف أن يخطف أبصارهم- انتهزوا تلك الخفقة فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، وفتر لمعانه، بقوا واقفين متقيدين عن الحركة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ أي: لزاد في قصيف الرعد فأصمّهم، أو في ضوء البرق فأعماهم.
ومفعول «شاء» محذوف، لأنّ الجواب يدلّ عليه. والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» . لا(1/259)
يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب- كنحو قوله: فلو شئت أن أبكي دما لبكيته، وقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] .
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل للشرطيّة، وتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهانيّ.
تنبيهات:
الأول: محصول التمثيلين- غبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى- هو أنه شبّه، في الأول، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. وفي الثاني: شبّه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها- بتراكم السحب، وانتساج قطراتها، وتواتر فيها الرعود الهائلة، والبروف المخيفة، والصواعق المختلفة المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت. وبذلك يعلم أنّ التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني- لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. فإنك إذا تصورت حال من طفئت ناره بعد إيقادها.... إلخ. وحال من أخذتهم السماء ... إلخ. حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق- في التمثيل الأول- بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام- في الثاني- بالصيّب، وما يتعلق به- من شبه الكفار- بالظلمات، وما فيه- من الوعد والوعيد- بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة- من الإفزاع والبلايا والفتن- من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وأيضا في تشبيه المفردات، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر. وأيضا في لفظ (المثل) نوع إنباء عن التركيب، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها. وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالا، مع أمر زائد: هو تشبيه الهيئة بالهيئة، وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا في الغرابة.
التنبيه الثاني:
قال الإمام العلامة «ابن القيّم» في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) «في هذه الآية، شبّه، سبحانه، أعداءه المنافقين، بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم،(1/260)
وينتفعوا بها، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق- بعد أن كانوا حيارى تائهين- فهم كقوم سفر ضلّوا عن الطريق، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم- فأبصروا وعرفوا- طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث- فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بإذنه، ويراه بعينه، ويعقل بقلبه، وهؤلاء قد سدّت عليهم أبواب الهدى: فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها. وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له، ولا بصر، ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلمّا طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا. وقال سبحانه وتعالى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: ذهب نورهم، وفيه سرّ بديع: وهو انقطاع سر تلك المعيّة الخاصة- التي هي للمؤمنين- من الله تعالى، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 19] ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] ، وإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] . فذهاب الله بذلك النور: انقطاع المعيّة- التي خصّ بها أولياءه- فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم- بعد ذهاب نورهم-، ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] ، ولا من كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] .
وتأمل قوله تعالى: أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ كيف جعل ضوءها خارجا عنه، منفصلا، ولو اتصل ضوؤها به، ولابسه، لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه، وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كلّ منهما إلى أصله اللائق به: حجة من الله قائمة، وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمّل قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل بنارهم، ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق: فذهب ما فيها من الإشراق- وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق- وهو النارية- وتأمّل كيف قال بِنُورِهِمْ ولم يقل: بضوئهم- مع قوله فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ- لأن الضوء هي زيادة في النور، فلو قيل:
ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء، كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته، وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم(1/261)
من أهل الظلمات الذين لا نور لهم، وأيضا فإن الله تعالى سمّى كتابه (نورا) ، ورسوله صلى الله عليه وسلّم (نورا) ، ودينه (نورا) ، وهداه (نورا) ، ومن أسمائه (النور) ، والصلاة (نور) ، فذهابه سبحانه بهم: ذهاب بهذا كله. وتأمل مطابقة هذا المثل- لما تقدمه من قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمّنت هول الضلالة والرضاء بها، وبدّل الهدى في مقابلتها، وهول الظلمات- التي هي الضلالة والرضاء بها- بدلا عن النور- الذي هو الهدى والنور- فبدّلوا الهدى والنور، وتعوّضوا عنه بالظلمة والضلالة. فيا لها من تجارة ما أخسرها، وصفقة ما أشدّ غبنها. وتأمّل كيف قال تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحّده ثم قال: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ فجمعها. فإن الحقّ واحد: هو صراط الله المستقيم- الذي لا صراط يوصل إليه سواه- وهو عبادته وحده لا شريك له، بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم، لا بالأهواء، والبدع، وطرق الخارجين عن ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلّم- من الهدى ودين الحق- بخلاف طرق الباطل فإنها متعدّدة متشعّبة. ولهذا، يفرد، سبحانه، الحق، ويجمع الباطل، كقوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] وقال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] ، فجمع سبل الباطل، ووحّد سبيل الحق. ولا يناقض هذا قوله يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة: 16] فإنّ تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم، إنّ طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلّا منها.
وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم أنه خط خطا مستقيما، وقال: «هذا سبيل الله» «1» .
ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال «هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه» ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
وقد قيل: إنّ هذا مثل للمنافقين، وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين
__________
(1)
أخرج ابن ماجة في السنن في المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حديث 11: عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلّم. فحطّ خطّا. وخطّ خطين عن يمينه. وخط خطين عن يساره.
ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال «هذا سبيل الله» ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]
.(1/262)
أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] . ويكون قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ مطابقا لقوله تعالى:
أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويكون تخييبهم، وإبطال ما راموه، هو: تركهم في ظلمات الحيرة، لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. هذا التقدير- وإن كان حقا- ففي كونه مراد بالآية نظر، فإنّ السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا. ويأباه قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة، إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن رحمه الله: هو المنافق أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه. وقال تعالى في حقّ الكفار صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فسلب العقل عن الكفار- إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان- وسلب الرجوع عن المنافقين- لأنهم آمنوا ثمّ كفروا- فلم يرجعوا إلى الإيمان.
فصل
ثم ضرب الله، سبحانه، لهم مثلا آخر مائيا، فقال تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. فشبه نصيبهم- مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلّم- من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها، وذهب نوره. وبقي في الظلمات حائرا، تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيّب- وهو المطر الذي يصوّب (أي ينزل) من علوّ إلى أسفل- فشبّه الهدى- الذي هدى به عباده- بالصيّب، لأن القلوب تحيى به حياة الأرض بالمطر. ونصيب المنافقين من هذا الهدى، بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيّب إلّا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له- فيما وراء ذلك- مما هو المقصود بالصيّب- من حياة البلاد، والعباد، والشجر، والدوابّ، وأن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد، والبرق، مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيّب.
فالجاهل- لفرط جهله- يقتصر على الإحساس بما في الصيّب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد، وتعطيل المسافر عن سفره، وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيّب من الحياة والنفع العام. وهكذا شأن كلّ(1/263)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
قاصر النظر، ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب. وهذه حال أكثر الخلق، إلّا من صحت بصيرته- فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب، والمشاقّ، والتعرّض لإتلاف المنهجة، والجراحات الشديدة، وملامة اللوّام، ومعاداة من يخاف معاداته- لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون. وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام، فلم يعلم- من سفره ذلك- إلا مشقّة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر، ومآله، وعاقبته- فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء، حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات- والفطام على الصبيّ أصعب شيء، وأشقّه- والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحقّ علما، وعملا، ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب، وما فيه- من الرعد والبرق والصواعق- ويعلم أنّه حياة الوجود.
التنبيه الثالث:
قال القاشانيّ: «إنّما بولغ في ذكر فريق المنافقين، وذمّهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإيعادهم، وتهجين سيرهم وعاداتهم: لإمكان قبولهم للهداية، وزوال مرضهم العارض. عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم، فتتزكّى بواطنهم، وتتنوّر قلوبهم، فيسلكوا طريق الحقّ. ولعلّ موادعة المؤمنين، وملاطفتهم إيّاهم، ومجالستهم معهم- تستميل طباعهم، فتهيج فيهم محبّة ما، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر لله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله، فيتوبوا ويصلحوا، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 145- 146] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 21]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لمّا ذكر الله علوّ طبقة كتابه الكريم، وتحزّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق، مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام،(1/264)
وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند الله ويرديها، أقبل عليهم بالخطاب- وهو من الالتفات المذكور عند قوله جلّ ذكره إِيَّاكَ نَعْبُدُ- وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع- كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث، فقلت: يا فلان! من حقّك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، وتستوي على جادّة السّداد في مصادرك ومواردك- نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازّا من طبعه، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة. وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول. وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة يا أَيُّهَا النَّاسُ لاستقلاله بأوجه من التأكيد، وأسباب من المبالغة. كالإيضاح بعد الإبهام، واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه.
ومعلوم أنّ كل ما نادى الله له عباده: من أوامره، ونواهيه، وعظاته، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك ... مما أنطق به كتابه- أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان علّمهم أن يتيقّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ- أفاده الزمخشريّ-.
والمراد بالناس: كافّة المكلّفين- مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها، والثبات عليها، ومن الكافرين، ابتداؤها. الَّذِي خَلَقَكُمْ أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود «و» - خلق- الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تتقون، كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ، وقوله سبحانه الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] . وفي إيراد «لعلّ» تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمرا هيّن الحصول. فإنّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار، وطلب منهم الطاعة، ونصب لهم أدلّة عقليّة ونقليّة داعية إليها، ووعد، وأوعد، وألطف بما لا يحصى كثرة، لم يبق للمكلف عذر، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه- مع تمكّنه من خلافه- وصار طلب الله تعالى لعبادته واتّقائه بمنزلة الترجّي- فيما ذكرناه-.(1/265)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 22]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
الَّذِي جَعَلَ- خلق- لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً بساطا ومهادا غير حزنة، وَالسَّماءَ بِناءً البناء، في الأصل، مصدر سمي به المبنيّ- بيتا كان، أو قبّة، أو خباء.
قال بعض علماء الفلك في معنى الآية: أي كالبنيان يشدّ بعضه بعضا.
والسَّماءَ يراد بها الجنس كالسماوات، والمعني بها الكواكب السيارات- قال:
فجميع السموات أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كلّ جهة، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها، وهو جذب الشمس لها.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي: السحاب ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر، كأنّه قيل: إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه- من التفرد بهذه الأفعال الجليلة- فلا تجعلو له أندادا شركاء في العبادة، أي أمثالا تعبدونهم كعبادته- جمع ندّ. وهو المثل، ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوئ- فإن قيل: كيف صلح تسميتها أندادا وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده؟ أجيب: بأنّهم لما تقرّبوا إليها، وعظموها، وسمّوها آلهة- أشبهت حالهم حال من يعتقد أنّها آلهة مثله قادرة على مخالفته، ومضادّته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكّم. وكما تهكّم بهم بلفظ الندّ شنّع عليهم، واستفظع شأنهم، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قط.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما بينه وبينها من التفاوت، وأنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم: 40] أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة- والتوبيخ فيه آكد- أي أنتم العرافون المميزون، ثمّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا- هو غاية الجهل، ونهاية سخافة العقل.
ومما ينبغي التفطّن له- في الاعتبار بهذه الآية- ما قاله الزمخشريّ: من أنّه سبحانه وتعالى قدّم من موجبات عبادته، وملزمات حقّ الشكر له: خلقهم أحياء(1/266)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
قادرين أوّلا- لأنه سابقة أصول النعم، ومقدّمتها، والسبب في التمكّن من العبادة والشكر وغيرهما-، ثمّ خلق الأرض- التي هي مكانهم، ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه- وهي بمنزلة عرصة المسكن، ومتقلّبه، ومفترشه، ثمّ خلق السماء- التي هي كالقبّة المضروبة، والخيمة المطنّبة- على هذا القرار، ثمّ ما سوّاه عزّ وجلّ من شبه عقد النكاح بين المقلّة والمظلّة بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان- من ألوان الثمار- رزقا لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبرا، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف، ونعمة يتعرّفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكّرون في خلق أنفسهم، وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأنّ شيئا من هذه المخلوقات كلّها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقّنوا- عند ذلك- أن لا بدّ لها من خالق- ليس كمثلها- حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا، وهم يعلمون أنها تقدر على نحو ما هو عليه قادر.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [غافر: 64] . فمضمونه أنّه الخالق، الرازق، مالك الدار وساكنيها، ورازقهم.
فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره.
ولمّا احتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويحققها. ويبطل الإشراك، ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك، وتصحيحه. وعرّفهم أن من أشرك فقد كابر عقله، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه- عطف على ذلك ما هو الحجّة على إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرّفون: أهو من عند الله- كما يدّعي- أم هو من عند نفسه- كما يدّعون-؟
بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم، ويذوقوا طباعهم، وهم أبناء جنسه، وأهل جلدته.
فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 23]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا- أي من القرآن الذي نزّلناه- عَلى عَبْدِنا(1/267)
محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه من عند الله تعالى، والتعبير عن اعتقادهم في حقّه بالريب- مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر- كما يعرب عنه قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إمّا للإيذان بأنّ أقصى ما يمكن صدوره عنهم- وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد- هو الارتياب في شأنه (وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال، كما أنّ تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقّه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع) وإمّا للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز، ونهاية قوّتها. وإنّما لم يقل: (وإن ارتبتم فيما نزلنا....)
إلخ، لما أشير إليه- فيما سلف- من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه- حسبما نطق به قوله تعالى لا رَيْبَ فِيهِ- والإشعار بأن ذلك- إن وقع- فمن جهتهم لا من جهته العالية. واعتبار استقرارهم فيه، وإحاطته بهم، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته: لما أنّ ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به، لا قلته ولا كثرته. وفي ذكره صلّى الله عليه وسلّم بعنوان العبودية، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة- من التشريف، والتنويه، والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ، وانقياده لأوامره تعالى- ما لا يخفى. والأمر في قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ من باب التعجيز وإلقام الحجر، كما في قوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] ، أو من باب المجاراة معهم- بحسب حسبانهم- حيث كانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. و «السورة» الطائفة من القرآن العظيم المترجمة، وأقلها ثلاث آيات، وواوها أصلية، منقولة من سور البلد- لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة، محوزة. أو محتوية على فنون رائقة من العلوم، احتواء سور المدينة على ما فيها. أو من السورة التي هي الرتبة.
فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا- من حيث الفضل والشرف، أو من حيث الطول والقصر- فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف: مراتب يرتقي إليها القارئ شيئا فشيئا. و «من» في قوله تعالى: مِنْ مِثْلِهِ بيانيّة متعلقة بمحذوف صفة لسورة، والضمير «لما نزلنا» أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة، وسموّ الطبقة، والنظم الرائق، والبيان البديع، وحيازة سائر نعوت الإعجاز، وقيل «من» زائدة- على ما هو رأي الأخفش- بدليل قوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13] .
وقوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إرشاد لهم إلى إنهاض أمّة جمّة ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم. وهذا كقوله(1/268)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
تعالى في سورة هود أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود: 13] ، و «الشهداء» جمع شهيد، بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر. و «من» لابتداء الغاية متعلّقة ب «ادعوا» والظرف مستقرّ. والمعنى: ادعوا، متجاوزين الله تعالى للاستظهار، من حضركم- كائنا من كان- أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم- الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعوّلون عليهم في المهمّات- أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم- من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوق، بتنفيذ القول عند الولاة- أو القائمين بنصرتكم- حقيقة أو زعما- من الإنس والجن ليعينوكم. وإخراجه، سبحانه وتعالى، من حكم الدعاء في الأول- مع اندراجه في الحضور- لتأكيد تناوله لجميع ما عداه، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه، فإنّ ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه. وأمّا في سائر الوجوه: فللتصريح من أوّل الأمر ببراءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المحادّة والمشاقة له، قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات لإدخال الروعة، وتربية المهابة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في زعمكم أنه من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، واستلزام المقدّم للتالي من حيث إنّ صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله، بقضية مشاركتهم له صلّى الله عليه وسلّم في البشرية والعربية، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، لا سيما عند المظاهرة والتعاون- ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به، ودواعي الأمر به-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 24]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي: ما أمرتم به من الإتيان بالمثل، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين جزأي الشرطية، مقرر لمضمون مقدمها، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها، وهي معجزة باهرة: حيث أخبر بالغيب الخاص- علمه به عز وجل- وقد وقع الأمر كذلك فَاتَّقُوا النَّارَ جواب الشرط، على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد، إذ- بذلك- يتحقّق تسبّبه عنه، وترتبه عليه،(1/269)
كأنه قيل: فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله- كما هو المقرر- فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه، فإنه مستوجب للعقاب بالنار، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنيّة على تصوير العناد بصورة النار، وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها، للمبالغة في تهويل شأنه، وتفظيع أمره، وإظهار كمال العناية- بتحذير المخاطبين منه، وتنفيرهم عنه، وحثّهم على الجدّ في تحقيق المكنيّ به- وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى. حيث كان الأصل: فإن لم تفعلوا فقد صحّ صدقه عندكم، وإذا صحّ ذلك كان لزومكم العناد، وترككم الإيمان به، سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار، فاحترزوا منه واتّقوا النار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة- أعاذنا الله منها برحمته الواسعة- و «الوقود» ما توقد به النار، وترفع من الحطب. وقرئ بضمّ الواو، وهو مصدر سمي به المفعول مبالغة- كما يقال: فلان فخر قومه، وزين بلده- فإن قيل: صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أنّ نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟
قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها، أو من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو من أهل الكتاب. والمراد بالحجارة الأصنام، وبالناس أنفسهم- حسبما ورد في قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] فإنها مفسّرة لما نحن فيه- وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود: أنهم لمّا اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم، ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم- إبلاغا في إيلامهم، وإغراقا في تحسيرهم.
ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضّتهم عدة وذخيرة، فشحّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم. فتكوى جباههم وجنوبهم أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هيّئت لهم، وجعلت عدة لعذابهم، والمراد: إما جنس الكفّار- والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليّا، - وإمّا هم خاصة، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمّهم، وتعليل الحكم بكفرهم- والجملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها. ومبيّنة لمن أريد بالناس، دافعة لاحتمال العموم.
(تنبيه) هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدّي الكافرين بالتنزيل الكريم. وقد تحدّاهم الله تعالى في غير موضع منه، فقال في سورة القصص قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(1/270)
[القصص: 49] . وقال في سورة الإسراء قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88] .
وقال في سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود: 13] . وقال في سورة يونس: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38- 38] . وكل هذه الآيات مكيّة. ثمّ تحدّاهم أيضا في المدينة بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. [البقرة: 23] ، إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم: - وهم فرسان الكلام، وأرباب النظام، وقد خصوا من البلاغة والحكم، ما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتو من ذرابة اللسان، ما لم يؤت إنسان. ومن فصل الخطاب، ما يقيّد الألباب. جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوّة. يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب. ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصّلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون بالسحر الحلال. ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللئال. فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحن، ويهيجون الدّمن، ويجرّئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان. ويصيّرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا، منهم البدويّ: ذو اللفظ الجزل، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهريّ، والمنزع القويّ. ومنهم الحضريّ: ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، الرقيق الحاشية، وكلا البابين فلهما- في البلاغة- الحجّة البالغة، والقوّة الدامغة، والقدح الفالج، والمهبع الناهج. لا يشكون أنّ الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قدحوا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كلّ باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القلّ والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر- ومع هذا- فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض- لمقدار أقصر سورة منه- ناهض من بلغائهم، على أنّهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبيّة مع اشتهارهم بالإفراط في المضادّة والمضارّة، وإلقائهم(1/271)
الشراشر على المعازّة والمعارّة، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط: إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر. وقد جرّد لهم الحجّة أولا، والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده. فما أعرضوا عن معارضة الحجّة إلا لعلمهم أنّ البحر قد زخر فطمّ على الكواكب، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب، وبذلك يظهر أنّ في قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا، وما قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم- كمسيلمة- كشف عواره لجميعهم.
قال الحافظ ابن كثير: ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها. قال: وما هو؟
فقال: يا وبر يا وبر! إنما أنت أذنان وصدر. وسائرك حفر نقر- ثم قال-: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب! ..
وحيث عجز عرب ذلك العصر، فما سواهم أعجز في هذا الأمر ... ! وقد مضى- إلى الآن- أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم، أو ذو استسلام، فدلّ على أنّه ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القوى والقدر، أنزله تصديقا لرسوله، وتحقيقا لمقوله. وهذا الوجه- أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حدّ خرج عن طوق البشر- كاف وحده في الإعجاز، وقد انضمّ إليه أوجه:
(منها) إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر. و (منها) كونه لا يملّه السمع مهما تكرر. و (منها) جمعه لعلوم لم تكن معهودة، عند العرب والعجم. و (منها) إنباؤه عن الوقائع الخالية، وأحوال الأمم. والحال أنّ من أنزل عليه، صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا لا يكتب ولا يقرأ، لاستغنائه بالوحي، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى.
وبذلك يعلم أنّ القرآن أعظم المعجزات، فإنّه آية باقية مدى الدهر، يشاهدها- كلّ حين بعين الفكر- كلّ ذي حجر. وسواه- من المعجزات- انقضت بانقضاء وقتها، فلم يبق منها إلا الخبر.
وقد ذهب بعض علماء الشيعة- في وجه إعجازه- إلى: كونه قاهرا لمن(1/272)
يقاومه، وغالبا على من يغالبه، ونافذا في إزهاق ما يخالفه. وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة، وبقاء الشريعة، ونفوذ الحكم، وثبوت الكلمة، لما جعل الله فيه من النور، والهداية، والرحمة. وعبارته: إنّ كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ، والغلبة في هداية الخلق، وإنشاء أمة مستقلّة، وإبقاء شريعة جديدة. وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية، والآيات السماوية. ثم قال: وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام- الذي يتحدّى الداعي به، وينسبه إلى الله- إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة، وقهر الأمم المنكرة المانعة، فأوجد أمة مستقلة نامية، وشريعة جديدة باقية، فلا يبقى ثمّة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء. وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال: 7] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 16] وهذه العلامة لا توجد إلّا في كتب الله تعالى. ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها. سواء كان عالما، أو أميا، أو عجميا. شرقيا، أو غربيا ... ! فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، وعن ذلّة العبودية إلى عزّ الاستقلال إلا بسبب التوراة ... ؟! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عبادة الله تعالى- بعد عبادة الأوثان- إلّا بواسطة الإنجيل ... ؟! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى- من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصى إفريقيّة- ما خرجوا عن ربقة الوثنية، وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلّا بهداية القرآن العظيم؟ وما تحروا عن أغلال العقائد الفاسدة، والأعمال القبيحة، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة، والعقائد الصحيحة إلّا بنور هذا السّفر الكريم ... ؟! ثم قال: والخلاصة إن هذه العلامة وهي هداية النفوس، وإيجاد الديانة الجديدة- بقهر الأديان القديمة، وتبديل العوائد العتيقة- هي العلامة الظاهرة المميّزة بين الكلمات الإلهية! والمصنّفات البشرية. حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول، وصدق شريعته، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدّقه ولبّاه، واتبعه وآساه، فإن محبّة الدين القديم الموروث راسخة في جميع النفوس. والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكّن في أعماق القلوب.(1/273)
فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة، إذ هي صفة الفعل، ومرتبطة بالدعوة- كالإبراء للطب، ومعرفة السطوح للهندسة، والبيع والشراء للتجارة، وصنع الأسرّة والأبواب وغيرها للنجارة- ثم قال: وإذا تصفّحت القرآن المجيد، تجد أن الله تعالى استدلّ بها في مواضع متعدّدة، ووصف القرآن بأنه حجّة- بما أودع فيه من الهداية والرحمة- ولا ترى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف، فانظر في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
[القصص: 48- 49] . أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله: فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما؟ وكذلك لما انتقدوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة، فقال تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50] ، فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة.
وقال تعالى في أول هذه السورة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين. وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة- التي تختلف فيها الأذواق، وتتشعّب فيها الآراء والأنظار- ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام- بسبب نزول القرآن عليه- من العلم والقدرة على هداية الأمم، وإزالة أسقام أهل العالم، وتأسيس الشريعة الإلهامية، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى، ومباينا للديانات العظمى: أمر ظاهر محسوس، تصعب فيه المناقشة، ولا تفيد معه المغالطة. فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة- كالعرب والفرس، والخزر، والترك، والهنود، والصينيين، وأهالي إفريقيّة- خرجوا من ظلمات الشرك، وعبادة النار والأوثان، وإنكار الأنبياء، ودخلوا في نور التوحيد، وعبادة الله وحده، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه، بنور الكتاب المبين ... !
- كذا في كتاب (الدرر البهية) لأبي الفضائل الإيرانيّ- ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله، بل يجدر أن يضم إليها، ويكون في مقدمتها والله أعلم.
ثم إن من عادته تعالى، في كتابه، أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع(1/274)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
البشارة بالإنذار. وهذا معنى تسمية القرآن مثاني- على الأصح- وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر- أو عكسه- أو حال السعداء ثم الأشقياء- أو عكسه- وحاصله ذكر الشيء ومقابله. والحكمة في ذلك: هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف. فلما ذكر الكفار وأعمالهم، وأوعدهم بالعقاب، قفّاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي- فقال عز وجلّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ (البشارة) : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به. ومنه البشرة: لظاهر الجلد. وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه. وأمّا فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء- الزائد في غيظ المستهزأ به، وتألّمه، واغتمامه- ففيه استعارة أحد الضدّين للآخر تهكّما وسخرية. والصَّالِحاتِ ما استقام من الأعمال أي صلح لترتب الثواب عليه.
وقد أجمع السلف على أنّ الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص. ثم إنه إذا أطلق دخلت فيه الأعمال،
لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وستون شعبة- أو بضع وسبعون شعبة- أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» «1» .
وإذا عطف عليه- كما في هذه الآية- فهنا، قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام. وقد يقال: لم تدخل فيه، ولكن مع العطف- كما في اسم الفقير والمسكين. إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما
__________
(1)
أخرجه ابن ماجة في: المقدمة، باب في الإيمان، حديث 57 ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا. أدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرفعها قول: لا إله إلا الله. والحياء شعبة من الإيمان»
.(1/275)
على الآخر فهما صنفان- وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البرّ، والتقوى، والمعروف. وفي الإثم، والعدوان، والمنكر. تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبّر القرآن.
وقد بيّن حديث جبريل أنّ الإيمان أصله في القلب، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله- كما
في المسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» «1» .
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» «2» .
فإذا كان الإيمان في القلب، فقد صلح القلب. فيجب أن يصلح سائر الجسد، فلذلك هو ثمرة ما في القلب. فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان.
وصحته، لما كانت لازمة لصلاح القلب، دخلت في الاسم. كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع، هذا ما أفاده الإمام ابن تيميّة رحمه الله.
وقوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ جمع (جنّة) : وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه. وإنما سميت «دار الثواب» بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور، لما أنّها مناط نعيمها، ومعظم ملاذّها. وجمعها مع التنكير: لاشتمالها على جنان كثيرة في كلّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها. وقوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة جنّات، ثم إن أريد بها الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فلا بدّ من تقدير مضاف- أي من تحت أشجارها- وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار، فاعتبار التحتيّة بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحّح لإطلاق اسم الجنّة على
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد: 3/ 135 ونصه: عن أنس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «الإسلام علانية والإيمان في القلب» قال، ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات. قال، ثم يقول: «التقوى هاهنا. التقوى هاهنا» .
(2)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، 39- باب فضل من استبرأ لدينه ونصه: عن النعمان بن بشير قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بيّن والحرام بيّن. وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس. فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه. ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد القلب كله. ألا وهي القلب»
.(1/276)
الكل، وإنما جيء ذكر الجنات- مشفوعا بذكر الأنهار الجارية- لما أنّ أنزه البساتين، وأكرمها منظرا، ما كانت أشجاره مظلّلة، والأنهار في خلالها مطّردة، وفي ذلك النعمة العظمى واللذة الكبرى. واللام في الأنهار: للجنس: كما في قولك:
لفلان بستان فيه الماء الجاري- أو للعهد. والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى:
فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ... [محمد: 15] الآية.
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها- أي: أطعموا من تلك الجنات- مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ- أي: مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا- فالإشارة إلى المرزوق في الجنّة لتشابه ثمارها. بقرينة قوله وَأُتُوا بِهِ- أي: أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة- مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا لونا، ويختلف طعما، وذلك أجلب للسرور، وأزيد في التعجّب، وأظهر للمزّية، وأبين للفضل.
وترديدهم هذا القول، ونطقهم به- عند كل ثمرة يرزقونها- دليل على تناهي الأمر في استحكام الشّبه، وأنّه الذي يستملي تعجّبهم، ويستدعي استغرابهم، ويفرط ابتهاجهم. فإن قيل: كيف موقع قوله وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً من نظم الكلام؟ قلت: هو كقولك: فلان أحسن بفلان، ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا، وكان صوابا. ومنه قوله تعالى: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] . وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والاستحاضة وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس- ويجوز لمجيئه مطلقا، أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهنّ وكيدهنّ.
وقوله تعالى: وَهُمْ فِيها خالِدُونَ هذا هو تمام السعادة، فإنّهم- مع هذا النعيم- في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء. بل في نعيم سرمديّ أبديّ على الدوام. والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم. إنه البر الرحيم.
ولمّا ضرب تعالى- فيما تقدم- للمنافقين مثلين: في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ... إلخ. وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ ... إلخ. إلى أمثال أخرى تقدّمت على نزول هذه السورة، من السّور المكية، ضربت للمشركين- نبّه تعالى إلى موضع العبرة بها، والحكمة منها، وتضليل من لا يقدّرها قدرها- ممّن يتجاهل عن سرّها، ويتعامى عن نورها، ويحول دون الاهتداء بها، والأخذ بسببها- فقال سبحانه:(1/277)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 26]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها أي: يذكر مثلا ما.
يقال: ضرب مثلا، ذكره، فيتعدّى لمفعول واحد. أو صيّر، فلمفعولين.
قال أبو إسحاق في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا [الكهف: 32] أي:
اذكر لهم. وعبارة الجوهريّ: ضرب الله مثلا أي وصف وبيّن. وفي شرح نظم الفصيح: ضرب المثل: إيراده ليمتثل به، ويتصوّر ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب.
يقال: ضرب الشيء مثلا، وضرب به، وتمثّله، وتمثّل به. ثم قال: وهذا معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره، وتمثيله به. و «ما» هذه اسميّة إبهاميّة، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما، وزادته شياعا وعموما- كقولك:
أعطني كتابا مّا، تريد أيّ كتاب كان- كأنه قيل: مثلا ما من الأمثال أيّ مثل كان.
فهي صفة لما قبلها. أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها- كما في قوله تعالى:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: 155]- كأنه قيل: لا يستحيي أن يضرب مثلا حقّا، أو البتّة.
وبَعُوضَةً بدل من مَثَلًا. أو هما مفعولا «يضرب» لتضمنّه معنى الجعل والتصيير. ومعنى الآية: إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يتمثّل بها لحقارتها. أي لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا- ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة- كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73] ، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ، اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41] ، وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز. فما استنكره السّفهاء وأهل العناد والمراء، واستغربوه من أن(1/278)
تكون المحقرات من الأشياء ومضروبا بها المثل- ليس بموضع للاستنكار والاستغراب. من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب. وإدناء المتوهّم من المشاهد. فإن كان المتمثّل له عظيما، كان المتمثّل به مثله. وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا، إلّا أمرا تستدعيه حال المتمثّل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضيّة. ألا ترى إلى الحقّ لما كان واضحا، جليا أبلج. كيف تمثّل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضدّ صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟ أفاده الزمخشريّ.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى- أي: فأمّا المؤمنون فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ- كسائر ما ورد منه تعالى- والحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وذلك لأن التمثل به مسوق على قضيّة مضربه، ومحتذى على مثال ما يستدعيه- كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفّار أندادا لله تعالى- وجعلت أقل من الذباب، وأخسّ قدرا. وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا، لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقلّ ... ! فالمؤمنون- الذين عادتهم الإنصاف، والعمل على العدل والتسوية، والنظر في الأمور بناظر العقل- إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ممّن غلبهم الجهل على عقولهم، وغشيهم على بصائرهم- فلا يتفطّنون، ولا يلقون أذهانهم. أو عرفوا أنّه الحق، إلّا أنّ حب الرياسة، وهوى الإلف والعادة، لا يخليهم أن ينصفوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي: فإذا سمعوه عاندوا، وكابروا، وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار. ولا خفاء في أنّ التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها- مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة. ولكنّ ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل، ولا متشبّث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة، والعجز عن إعمال الحيلة، بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة- إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جواب عن تلك المقالة الباطلة، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة، وغاية جميلة، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدّين للهداية،(1/279)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
وإضلال المنهمكين في الغواية. وقدّم الإضلال على الهداية- مع تقدّم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم، ويفت في أعضادهم، وهو السرّ في تخصيص هذه الفائدة بالذكر وَما يُضِلُّ بِهِ أي بالمثل أو بضربه إِلَّا الْفاسِقِينَ تكملة للجواب والردّ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 27]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ صفة للفاسقين، للذم. و (العهد) الذي وصفوا بنقضه: هو وصيّة الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عمّا نهاهم عنه من معصيته- في كتبه، وعلى لسان رسله- ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ عامّ في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى: كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كلّ وصل وفصل وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمنع عن الإيمان، والاستهزاء بالحقّ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، وعقابها بثوابها. وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ [الرعد: 19- 20- 21] الآيات- إلى أن قال-: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25]
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)(1/280)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب المذكورين، مبنيّ على إيراث ما عدّد من قبائحهم السابقة، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع.
والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع. واستبعاده، والتعجيب منه، لأن معهم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أجساما لا حياة لها عناصر، وأغذية، ونطفا، ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة- وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية، إمّا حقيقة- بناء على أنّ الميت عادم الحياة مطلقا. كما في قوله تعالى: بَلْدَةً مَيْتاً [الفرقان: 49] ووَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ [يس: 33] .
أو استعارة، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. فَأَحْياكُمْ بخلق الأرواح، ونفخها فيكم. وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه، غير متراخ عنه، بخلاف البواقي ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند ما تقضى آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالنشور، والبعث، للحساب والجزاء ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- بعد الحشر- فيجازيكم بأعمالكم: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه ... !
فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنّه يحييهم ثم إليه يرجعون، فيكف نظم ما ينكرونه، من الإحياء الأخير والرجع، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة ... ؟
قلت: تمكّنهم من العلم بهما- لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر. سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحتهما. وهو أنّه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا، قدر على أن يحييهم ثانيا. فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته..! أو الخطاب، مع أهل الكتابين. وإنكار اجتماع الكفر- مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إمّا لأنها مشتملة على آيات بيّنات تصرفهم عن الكفر، أو على نعم جسام حقّها أن تشكر ولا تكفر. أو لإرادة الأمرين جميعا. فإنّ ما عدّده آيات، وهي- مع كونها آيات- من أعظم النعم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)(1/281)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى. وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم، ويتمّ به معاشهم. ومعنى لَكُمْ لأجلكم، ولانتفاعكم. وفيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل. ولا فرق بين الحيوانات وغيرها. مما ينتفع به من غير ضرر. وفي التأكيد بقوله جَمِيعاً أقوى دلالة على هذا. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي: ارتفع. نقله عنه البخاريّ في صحيحه «1» ، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس.
وقال البغويّ: قال ابن عباس وأكثر المفسّرين: ارتفع إلى السماء. وقال الخليل ابن أحمد في ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: ارتفع. رواه أبو عمرو ابن عبد البر في شرح الموطأ، نقله الذهبيّ في كتاب العلوّ-. وقد استدل بقوله: ثُمَّ اسْتَوى على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في (حم السجدة) . وقوله تعالى في سورة (والنازعات) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] إنما يفيد تأخّر دحوّها، لا خلق جرمها، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها- لما يراد منها- قبل خلق السماء. ودحوّها بعد خلق السماء. والدحوّ هو البسط، وإنبات العشب منها، وغير ذلك. مما فسّره قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها [النازعات: 31] الآية- وكانت قبل ذلك خربة وخالية. على أنّ «بعد» تأتى بمعنى «مع» كقوله «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] أي: مع ذلك، فلا إشكال. وتقديم الأرض- هنا- لأنها أدل لشدّة الملابسة والمباشرة. فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي: صيّرهن، كما في آية أخرى فَقَضاهُنَّ [فصلت: 12] .
(تنبيه) قال بعض علماء الفلك: السموات السبع- المذكورة كثيرا في القرآن- هي هذه السيارات السبع. وإنما خصّت بالذكر- مع أن السيارات أكثر من ذلك- لأنها أكبر السيارات وأعظمها، على أنّ القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد- على سبيل الحصر- فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع.
وقال بعض علماء اللغة: إن العرب تستعمل لفظ سبع، وسبعين، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة. فالعدد إذن غير مراد. ومنه آية سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261] وآية وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وآية سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: 80]
__________
(1) أخرجه البخاري في: التوحيد، 22- باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم.(1/282)
والله أعلم.
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ، وأن المراد به العالم الشمسيّ وحده دون غيره. وعبارته: إن قيل: إن كلّ ما يعلو الأرض- من الشمس والقمر والكواكب- هو سماء، فلماذا خصّص تعالى عددا هو سبع؟
فالجواب: لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ- الذي أحطنا الآن به علما- وأنّ حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع، لأن القول بذلك، يخرج تطبيق القرآن على الفلك، لأنّ العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة- لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها- حتى يمكن أن يقال: إنّ سبعا للمبالغة- كسبعين وسبعمائة- ولا يصحّ أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين- مثل العالم الشمسيّ- ويؤيد الحصر في هذا العدد آية أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15- 16] فأخرج الشمس لأنها مركز وأخرج القمر لأنه تابع للأرض، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع..!
قال: وبذلك تتجلّى الآن معجزة واضحة جليّة. لأنه في عصر التقدّم والمدنية العربية، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلّا خمسا- بأسمائها العربية إلى اليوم- وهي: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. وكانوا يفّسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن. ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد. مع أنّ القرآن يصرّح بأنّ السموات السبع غير الشمس والقمر. وذلك في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد: 2] ، فلفظ «وسخر» دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات. ولذلك كان المفسّرون- الذين لا يعرفون الهيئة- لا يرون أن تعدّ الشمس سماء، ولا القمر، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة. وأمّا الشمس فنار محرقة. فذهبوا- في تفسير السموات- على تلك الظنون. ولمّا اكتشف بعد (بالتلسكوب) سيّار لم يكن معلوما، دعوه «أورانوس» ثم سيّر آخر سمّوه «نبتون» - صارت مجاميع السيارات سبعا، فهذا الاكتشاف- الذي ظهر بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بألف ومائتي سنة- دلّ على معجزة القرآن، ونبوّة المنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم.(1/283)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
ثم قال: وأمّا كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها، فلا يفهم من الآية، لأن الأقمار التي نثبتها، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبع- لأنها تعلونا- وهي في العالم الشمسيّ. وحينئذ، فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع. بمعنى: أن مجموعة زحل- بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية- تعد سماء، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري. ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] يشير إلى أن السماء الدنيا- أي السماء التي تلي الأرض- فلك المرّيخ. فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه ... !
انتهى.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله، من خلق السموات والأرض وما فيها- على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح اللائقة. فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق.
ولما ذكر تعالى الحياة والموت- المشاهدين- تنبيها على القدرة على ما اتبعهما به من البعث، ثم دل على ذلك أيضا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع، وختم ذلك بصفة العلم- ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشريّ- المودع من صفة العلم- ما ظهر به فضله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي قوما يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن. كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] وقال وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل: 62] وقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف: 60] وقال فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 59] . ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان(1/284)
الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريّته، وأن يراد: خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه. وكذلك كل نبيّ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] والغرض من إخبار الملائكة بذلك، هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم، أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم- وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيّا عن المشاورة- أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بشّر بوجود سكّان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقّبه بالخليفة.
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ هذا تعجب من أن يستخلف- لعمارة الأرض وإصلاحها- من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك. أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أنّ منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك- أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك- وهلّا وقع الاقتصار علينا ... ؟ فقال تعالى مجيبا لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي: إنّ لي حكمة- في خلق الخليفة- لا تعلمونها.
فإن قلت: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجّبوا منه، وإنما هو غيب؟
أجيب: بأنهم عرفوه: إما بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية. فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] أو فهموا من «الخليفة» أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم.
قال العلّامة برهان الدين البقاعيّ في تفسيره: وما يقال من أنّه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام- كلام لا أصل له. بل آدم أوّل ساكنيها بنفسه. انتهى.
وقوله تعالى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: ننزّهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك- على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.
وقوله نُقَدِّسُ لَكَ أي: نصفك بما يليق بك- من العلوّ والعزّة- وننزّهك عمّا لا يليق بك. وقيل: المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك. كأنهم قابلوا(1/285)
الفساد، الذي أعظمه الإشراك، بالتسبيح. وسفك الدماء، الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام. لا تمدحا بذلك، ولا إظهارا للمنّة، بل بيانا للواقع.
تنبيهات في وجوه فوائد من الآية
الأول: دلت الآية على أن الله تعالى- في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجّه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها- كالبحث العلميّ، والاستدلال العقليّ، والإلهام الإلهيّ-.
الثاني: إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا ... !
الثالث: إنّ الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل- بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم. وذلك أنه- بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
الرابع: تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا. فإذا كان الملأ الأعلى قد مثّلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين. أي فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها. وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها. مع كون الجميع في سياق موضوع واحد. - كذا في تفسير مفتي مصر-.(1/286)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام. أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم، ليستشرفوا إليها، أبرز لهم طرفا منها، ليعاينوه جهرة، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته، وتنزاح شبهتهم بالكلية، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 31]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها إما بخلق علم ضروريّ بها فيه. أو إلقاء في روعه.
وآدم اسم عبرانيّ مشتق من أدمه، وهي لفظة عبرانية معناها التراب، لأنه جبل من تراب الأرض. كما أن حوّاء كلمة عبرانية معناها «حيّ» ، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء. والمراد بالأسماء، أسماء كل شيء. قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفي التوراة مصداق الآية: وهو أنه تعالى صوّر من الأرض كل حيوانات البر، وكل طيور السماء، وأحضرها إلى آدم، لينظر ما يسميها، وكل ما سماه آدم من نفس حية، فهو اسمه. وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها وجميع طيور السماء، وجميع وحوش الأرض.
قال ابن جرير: وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن. وذلك أن الله جل ثناؤه، احتج فيه لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم، على من كان بين ظهرانيّه، من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب، التي لم يكن تعالى أطلع من خلقه إلّا خاصّا، ولم يكن مدركا علمه إلا بالأنباء والأخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك. فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون، ولهذا ذكر الله هذا المقام، عقيب هذا، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ أي عرض أهل الأسماء، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمنا فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ(1/287)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
هؤُلاءِ
أي التي علمتها آدم. وإنما استنبأهم، وقد علم عجزهم عن الإنباء، تبكيتا لهم، وإظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة. فإن التصرف والتدبير، وإقامة المعدلة، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات، ومقادير الحقوق، مما لا يكاد يمكن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته، كما ينبئ عنه مقالكم. والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار. فإن أدنى مراتب الاستحقاق، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض. ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة، وذلك ما أفاده قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 32]
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه، إلا بما شاء. وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى. واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه. وأنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام، لما نحن بمعزل من الاستعداد له، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية، والمعارف الجزئية، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض، وبناء أمر الخلافة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 33]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أي أعلمهم بِأَسْمائِهِمْ التي عجزوا عن علمها فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ عز وجل تقريرا لما مر من الجواب الإجماليّ واستحضارا له أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيب مضافا إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط، وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم، وعلم آدم عليه السلام، من الأمور المتعلقة بأهل السموات والأرض. وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون، فيما سبق، ما(1/288)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
أشير إليه هناك، كأنه قيل: ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه، هو هذا الذي عاينتموه. وفي الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ عطف على جملة أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لا على أَعْلَمُ، إذ هو غير داخل تحت القول. أي ما تظهرونه بألسنتكم، وما كنتم تخفون في أنفسكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 34]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ لما أنبأهم بأسماء، وعلمهم ما لا يعلموا، أمرهم بالسجود له، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له، واعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوا فيه. وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي امتنع عن السجود «وَاسْتَكْبَرَ أي تكبر وقال: أنا خير منه، فالسين للمبالغة وَكانَ في سابق علم الله أو صار مِنَ الْكافِرِينَ.
تنبيهات:
الأول: للناس في هذا السجود أقوال: أحدها أنه تكريم لآدم، وطاعة لله، ولم يكن عبادة لآدم. وقيل: السجود لله، وآدم قبلة، أو السجود لآدم تحية، أو السجود لآدم عبادة بأمر الله، وفرضه عليهم. ذكر ابن الأنباريّ عن الفرّاء وجماعة من الأئمة، أن سجود الملائكة لآدم، كان تحية، ولم يكن عبادة. وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية، لا سجود صلاة وعبادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أهل العلم: السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه. وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله. فإن الله تعالى قال اسْجُدُوا لِآدَمَ ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنى. وفرق بين «سجدت له» وبين «سجدت إليه» قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت: 37] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرّم. وأما الكعبة، فيقال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى إلى الكعبة، ولا يقال صلى لبيت المقدس، ولا للكعبة. والصواب أن الخضوع بالقلوب، والاعتراف بالعبودية، لا يصلى على الإطلاق إلّا لله سبحانه. وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر. فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره.
فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه. وهو لآدم تشريف(1/289)
وتعظيم وتكريم. وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة. بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين. وبالجملة، أهل السنة قالوا: إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له. وقالت المعتزلة: كان آدم كالقبلة يسجد إليه، ولم يسجدوا له. قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم. فإن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة، وصالح البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم. وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] .
الثاني: اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود، فقيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض. قال تقي الدين بن تيمية: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى. وقيل: هم جميع الملائكة، حتى جبريل وميكائيل. وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة. قال ابن تيمية: ومن قال خلافه فقد ردّ القرآن بالكذب والبهتان، لأنه سبحانه قال فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] ، وهذا تأكيد للعموم.
الثالث: للعلماء في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ قولان: أحدهما أنه كان من الملائكة. قاله ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيّب، واختاره الشيخ موفق الدين والشيخ أبو الحسن الأشعريّ وأئمة المالكية وابن جرير الطبريّ. قال البغويّ: هذا قول أكثر المفسرين، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فلولا أنه من الملائكة، لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا، ولما استحق الخزي والنكال. والقول الثاني أنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة. قاله ابن عباس، في رواية، والحسن وقتادة، واختاره الزمخشريّ وأبو البقاء العكبري والكواشيّ في تفسيره. لقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ، فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية، ولا ذرية للملائكة.
قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر، وهو للملائكة خاصة، لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له،(1/290)
كان الجنيّ الذي معهم أجدر بأن يتواضع. والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وصححه البغوي. وأجابوا عن قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.
قال ابن القيم: الصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول وحد. فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله. كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور. فالنافي كونه من الملائكة، والمثبت، لم يتواردا على محل واحد. وكذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوي المصرية: وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار. سموا «جنّا» ، لاستتارهم عن الأعين، فإبليس كان منهم. والدليل على ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] ، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.
سئل الشعبيّ: هل لإبليس زوجة؟ قال: ذلك عرس لم أشهده! قال: ثم قرأت هذه الآية، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. فقلت: نعم. وقال قوم: ليس له ذرية ولا أولاد، وذريته أعوانه من الشياطين.
الرابع: في قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قولان: أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر، وهذا قول الأكثرين. فقيل في معنى الآية وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر. والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله. أو يقال: معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك. واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس، لعنه لله. فقالت الخوارج:
إنما كفر بمعصية الله، وكل معصية كفر، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وقال آخرون: كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله. وقال آخرون: كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود. ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا. وقال جمهور الناس: كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن واعتقد أنه محق في تمرده، واستدل ب أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] كما يأتي. فكأنه ترك السجود لآدم. تسفيها لأمر الله وحكمته. وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» «1»
كذا في
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الإيمان، حديث 147 عن عبد الله بن مسعود. [.....](1/291)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
كتاب الاستعاذة للإمام مفلح الحنبليّ رحمه الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 35]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة، أباحهما الأكل منها بقوله وَكُلا مِنْها رَغَداً أي أكلا واسعا.
و «حيث» للمكان المبهم، أي أيّ مكان من الجنة شئتما. أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة. حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة. حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي هذه الحاضرة من الشجر، أي لا تأكلا منها، وإنما علق النهي بالقربان منها، مبالغة في تحريم الأكل، ووجوب الاجتناب عنه، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة. والألفة داعية للمحبة. ومحبة الشيء تعمي وتصمّ. فلا يرى قبيحا، ولا يسمع نهيا، فيقع. والسبب الداعي إلى الشرّ منهيّ عنه. كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به. وعلى ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم «1»
«العينان تزنيان»
لما كان النظر داعيا إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك مفض لارتكابه، فصار النظر مبدأ الزنا. وعلى هذا قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] ، وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الأنعام: 152] .
قال ابن العربيّ: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل: لا تقرب، بفتح الراء، كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء، معناه لا تدن، نقله ابن مفلح في كتاب الاستعاذة. ونقل الفرق المذكور بينهما أيضا السيد مرتضى في شرح القاموس عن شيخه العلامة الفاسي. قال: إن أرباب الأفعال نصوا عليه، وظاهر
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند. 2/ 343 ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل بني آدم حظ من الزنى. فالعينان تزنيان وزناهما النظر. واليدان تزنيان وزناهما البطش. والرّجلان تزنيان وزناهما المشي. والفم يزني وزناه القبل. والقلب يهوى ويتمنى. والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه»
.(1/292)
القاموس أنهما مترادفان، فإنه قال: قرب منه، ككرم، وقربه كسمع قربا وقربانا وقربانا دنا، فهو قريب. للواحد والجمع. انتهى.
لطيفة:
جاء في آية الأعراف فَكُلا [الأعراف: 19] وهنا بالواو، لأن كل فعل عطف عليه شيء، وكان ذلك الفعل كالشرط، وذكر الشيء كالجزاء، عطف بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً [البقرة: 58] لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها ذكر بالفاء، كأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالأكل يتعلق وجوده بوجود الدخول. وقوله في الأعراف اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها [الأعراف: 161] بالواو دون الفاء، لأنه من السكنى، وهو في المقام مع اللبث الطويل، والأكل لا يختص وجوده بوجوده، لأن من دخل بستانا قد يأكل منه، وإن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط، عطف بالواو. وإذا ثبت هذا فنقول: قد يراد ب اسْكُنْ الزم مكانا دخلته، ولا تنتقل عنه، وقد يراد ادخله واسكن فيه. ففي البقرة، ورد الأمر، بعد أن كان آدم في الجنة، فكان المراد المكث، والأكل لا يتعلق به، فجيء بالواو. وفي الأعراف ورد قبل أن دخل الجنة. والمراد الدخول والأكل متعلق به، فورد بالفاء.
تنبيه:
لم يرد في القرآن المجيد، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة، إذ لا حاجة إليه، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة. وما لا يكون مقصودا، لا يجب بيانه. وقوله: مِنَ الظَّالِمِينَ أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى.
قال ابن مفلح الحنبليّ في كتاب الاستعاذة: قال ابن حزم: حمل الأمر على الندب، والنّهي على الكراهة، يقع في الفقهاء والأفاضل كثيرا، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام، ولا يؤاخذون به، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة. ومعنى قوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ أي ظالمين لأنفسكما، والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر والنهي في موضع الندب والكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. انتهى ثم قال: وقال أبو محمد بن حزم في الملل والنحل: لا براءة من المعصية أعظم(1/293)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا. وهكذا فعل آدم عليه السلام، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن، ومتأولا وقاصدا إلى الخير، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا. فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره، لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه. ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا، كان بذلك ظالما لنفسه. وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا، كما سمى العامد. والمخطئ لم يعمد معصية. وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة، وهو لم يعمد ذنبا. انتهى.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وجماعة من المتأخرين: الصواب أن آدم عليه السلام، لما قاسمه عدو الله أنه ناصح، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات:
أحدها القسم. والثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية. والثالث تصديرها بأداة التأكيد. الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر. الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحدث. السادس تقدم المعمول على القليل فيه. ولم يظن آدم أن أحدا يحلف بالله كاذبا يمين غموس، فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل، وإن كان فيه مفسدة، فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية.
قال ابن مفلح: فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، فالتأويل لنص الله أخرجه، وإلا فهو لم يقصد المعصية، والمخالفة، وأن يكون ظالما مستحقا للشفاء. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 36]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي أذهبهما عن الجنة، وأبعدهما. يقال: زلّ عن مرتبته، وزل عني ذاك، إذا ذهب عنك، وزلّ من الشهر كذا. وقال ابن جرير:
فأزلهما، بتشديد اللام، بمعنى استزلهما، من قولك زل الرجل في دينه، إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيان فيه، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو(1/294)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
دنياه. وقرئ «فأزالهما» بالألف، من التنحية فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من الرغد والنعيم والكرامة وَقُلْنَا اهْبِطُوا أي انزلوا إلى الأرض، خطاب لآدم وحواء والشيطان.
أو خطاب لآدم وحواء خاصة، لقوله في الآية الأخرى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] ، وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس، فكأنهما الإنس كلهم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ متعادين يبغي بعضكم على بعض وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ منزل وموضع استقرار وَمَتاعٌ تمتع بالعيش إِلى حِينٍ أي إلى الموت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 37]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ استقبلها بالأخذ والقبول، والعمل بها حين علمها. قال ابن جرير: وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه، معترفا بذنبه، وهو قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية، فدعا بها لكي تكون عنوانا له ولأولاده على التوبة فَتابَ عَلَيْهِ فرجع عليه بالرحمة والقبول، وتجاوز عنه، وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ في الجمع بين الاسمين وعد للتائب بالإحسان مع العفو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 38]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
قُلْنَا لآدم وحواء اهْبِطُوا مِنْها من الجنة جَمِيعاً ثم ذكر ذرية آدم فقال فَإِمَّا بإدغام نون «إن» الشرطية في «ما» الزائدة يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً كتاب أنزله عليكم، ورسول أبعثه إليكم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ أقبل على الهدى وقبل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بالكتاب والرسول أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يموتون ولا يخرجون.(1/295)
تنبيه:
إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكد والإيذان بتحتم مقتضاه، وتحققه لا محالة. أو لاختلاف المقصود. فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون. والثاني أشعر بأنهم اهبطوا للتكليف. فمن اتبع الهدى نجا. ومن ضله هلك.
«فوائد»
الأولى: ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام، كانت في الأرض. قال بعضهم: هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء. وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] ، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها: أن هذه الجنة: لو كانت هي دار الثواب، لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد، لما لحقه الغرور من الشيطان بقوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] ، ولما صح قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ، إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] .
وثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] .
وثالثها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء، لكان ذلك أولى بالذكر، لأن نقله من الأرض إلى السماء، من أعظم النعم. فدل ذلك على أنه لم يحصل. وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد.
ورابعها:
روى مسلّم «1» في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «سيحان وجيحان والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة» .
قال ابن مفلح: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد، دار الثواب. ثم قال: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدّة، أو غير ذلك، فهو من
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم 26.(1/296)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
الملحدة المبتدعين. والكتاب والسنة يرد هذا القول. وقد استوفى الكلام فيها في «مفتاح دار السعادة» وكتاب «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» .
الفائدة الثانية: اتفق الناس أن الشيطان كان متوليا إغواء آدم. واختلف في الكيفية. فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] ، وقوله:
ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] ، ومقاسمته لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] .
والمقاسمة ظاهرها المشافهة، ومنهم من قال: كان ذلك بالوسوسة، كما قال:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف: 20] ، فإغواؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1» .
وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها. والوسوسة، لغة، حديث النفس والأفكار. وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير، والكلام الخفيّ. وظاهر الآيات يؤيد القول الأول.
الفائدة الثالثة: لم يسمّ الشيطان في الآية، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه، كما تقدم في الشجرة.
ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما، وذكر مبدأهم- دعا بني إسرائيل خصوصا، وهم اليهود، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم (من هنا إلى الآية رقم 142) فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم. وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها، كما سيأتي تفصيله، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 40]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أولاد يعقوب. وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل،
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الأحكام، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك الخصم. ونصه: عن عليّ بن الحسين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتته صفية بنت حييّ. فلما رجعت انطلق معها. فمر به رجلان من الأنصار فدعاهما فقال: «إنما هي صفية» قالا: سبحان الله. قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» .(1/297)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
كأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا، ويا ابن العالم، اطلب العلم، اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل: اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى.
فأمر، جل ثناؤه، أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ العهد هو الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ، لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [المائدة: 12] ، الآية. فعهد الله هو وصيته لهم، بما ذكر في الآية. ومنها: الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. وعهده تعالى إياهم، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، وقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ قال ابن جرير: أي اخشوني واتقوا، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، أن أحل بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه، ما أحللت بمن خالف أمري، وكذب رسلي من أسلافكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 41]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ أي من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا بالتوحيد، وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته، وبعض الشرائع، لما معكم من الكتاب- كما في التنوير- قال ابن جرير: أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه واتباعه، نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد، تصديق منهم لما معهم من التوراة. وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما(1/298)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
معهم من التوراة. انتهى.
وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا.
تنبيه:
كثيرا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، كآية: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ [البقرة: 89] ، وآية وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [يونس: 37] وغيرهما. مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة. وقد ردّ استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه، بأن معنى كون القرآن مصدقا لما معهم، ما ذكرناه قبل في تأويلها.
وحاصله أن ما أنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته، وصحة البشائر عنه، كما قال تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل، بمعنى أن أحواله جميعا توافق البشائر وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه. فالأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه، والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس، لقوله فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، فالاشتراء استعارة للاستبدال. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن حطام الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ(1/299)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
اللبس الخلط، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين. والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر، وقوله وَتَكْتُمُوا مجزوم داخل تحت حكم النهي. وتكرير الحق، لزيادة تقبيح المنهيّ عنه، إذ في التصريح باسم الحق، ما ليس في ضميره، والتقييد بقوله وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لزيادة تقبيح حالهم، إذ الجاهل عسى يعذر، وقوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الآية، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان. وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها، والمحافظة عليها. وإعطاء الصدقة المفروضة، والركوع لله، أي الخضوع لأوامره بإطاعتها.
قال ابن جرير: هذا أمر من الله، جل ثناؤه، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والدخول مع المسلمين في الإسلام والخضوع له بالطاعة. ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد تظاهر حججه عليهم، وبعد الإعذار لهم والإنذار. وبعد تذكيره نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم، وإبلاغا إليهم في المقدرة.
وقد قيل في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ حث على إقامة الصلاة في الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 44]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أي بما فيه لله رضا من القول أو الفعل. وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى. والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي تتركونها من البر كالمنسيات. والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره. وقوله وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ تبكيت مثل قوله وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني تتلون التوراة وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل. أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه.
روى الحافظ ابن كثير الدمشقيّ في تفسيره عن إبراهيم النخعيّ قال: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وقوله:(1/300)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2- 3] ، وقوله إخبارا عن شعيب: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 45]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ أي على الوفاء بالعهد وَالصَّلاةِ أي التي سرها خشوع القلب للرب. فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر. قال ابن جرير: أي استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم بالصبر عليه والصلاة. فالآية متصلة بما قبلها. كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك. وَإِنَّها الضمير للصلاة. وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر، وجوّز عود الضمير على الاستعانة بهما لَكَبِيرَةٌ لشاقة ثقيلة كقوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 46]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء. والظنّ هنا بمعنى اليقين ومثله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] .
قال ابن جرير: العرب قد تسمي اليقين ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة والمغيث صارخا والمستغيث صارخا وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده.
والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ أي بعد الموت فيجازيهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 47]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)(1/301)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عطف على نعمتي، عطف الخاص على العام لكماله. أي فضلت آباءكم عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكا، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السّلام وبعده قبل أن يغيروا. وتفضيل الآباء شرف الأبناء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وَاتَّقُوا يَوْماً يريد يوم القيامة أي حسابه أو عذابه لا تَجْزِي فيه نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق. فانتصاب شَيْئاً على المفعولية. أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية. وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكليّ وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ لا يقبل مِنْها عَدْلٌ أي فدية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله. وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة وذكر لمعنى العباد أو الأناسيّ.
(تنبيه) تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع. فعلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب: أنها خاصة بالكفار. ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] ، وكما قال عن أهل النار فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100- 101] فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد.
وفي الانتصاف: من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها، وهم أهل السنة والجماعة، فأولئك يرجون رحمة الله، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم. وليس في الآية دليل لمنكريها، لأن قوله يَوْماً أخرجه منكرا. ولا شك أن في القيامة مواطن. ويومها معدود بخمسين ألف سنة. فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة. وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى(1/302)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
تعدد أيامها واختلاف أوقاتها. منها قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] ، مع قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين:
أحدهما محل للتناول والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة. وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة. وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى:
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ من فنون النعماء. أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم، أي آباءكم. فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم. والمراد بالآل، فرعون وأتباعه، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه (قاله في القاموس) .
ثم بين ما أنجاهم منه بقوله يَسُومُونَكُمْ أي يبغونكم سُوءَ الْعَذابِ أي أفظعه وأشده يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يتركونهم أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البلاء إما المحنة، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون، أو النعمة، إن أشير به إلى الإنجاء. قال ابن جرير: العرب تسمي الخير بلاء والشر بلاء.
فائدة: فرعون لقب لمن ملك مصر كافرا. ككسرى لملك الفرس. وقيصر لملك الروم. وتبّع لمن ملك اليمن كافرا. والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك. ولعتوّه اشتق منه: تفرعن الرجل، إذا عتا وتمرد.
وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم (على ما روي في التوراة) خوفه من نموّهم وكثرة توالدهم. وكانت أرض مصر امتلأت منهم. فإن يوسف، عليه السلام، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر، أعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر. وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السّلام. فتكاثروا وتناسلوا. ولما توفي يوسف عليه السّلام والملك الذي اتخذه وزيرا عنده، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل.
إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة. فرأى غوّ الإسرائيليين. فقال لقومه:
أضحى بنو إسرائيل شعبا أكثر منا وأعظم. فهلمّ نحتال لهم لئلا ينموا. فيكون، إذا(1/303)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
حدثت حرب، أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا. ويخرجون من أرضنا. فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم. وكانوا كلما أشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة. فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم. فجعل أهل مصر يستعبدونهم جورا ويمرّرون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللّبن، وكل فلاحة الأرض، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقّة.
وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى. ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام. وقوله جل ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ بيان لسبب التنجية، وتصوير لكيفيتها، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها. وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق. أي واذكروا إذ فلقناه بسلوككم أو ملتبسا بكم أو بسبب إنجائكم. وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك. فالباء على الأول استعانة. مثلها في: كتبت بالقلم. وعلى الثاني للمصاحبة. مثلها في: أسندت ظهري بالحائط. وعلى الثالث للسببية. والوجه الأول ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفرق بعصا موسى. قال تعالى:
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل فَأَنْجَيْناكُمْ أي من الغرق بإخراجكم إلى الساحل وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ أريد فرعون وقومه. وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه. ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم.
وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية، على ما روي، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر. بعد إباء شديد منه ورؤية آيات إلهية كادت تحل به وبقومه البوار. فدعا موسى وهارون وقال: اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا.
واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم. فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب، تغير قلبه عليهم، وقال: ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا؟ فشد مركبته وأخذ(1/304)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
قومه معه وسعى وراءهم وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم. وهو المشهور ببحر السويس. فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم قالوا: يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيرا لنا من أن نهلك في هذه البرية قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وقال عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129] . وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق وأيبس قعره. فدخل بنو إسرائيل فيه. فتبعهم فرعون وجنوده. فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية.
وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم. وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل. ومن أبسطها فيه سورة الشعراء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 51]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أي بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها. وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحا من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم. فصعد موسى إلى الجبل وبقي هناك أربعين يوما وأربعين ليلة. وموسى كلمة عبرانية معناها منشول من الماء ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي إلها ومعبودا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد مضيّه للميقات وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي بوضع العبادة في غير موضعها. وهو حال من ضمير اتخذتم. أو اعتراض تذييليّ. أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 52]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي محونا ذنوبكم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الاتخاذ والظلم القبيح لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 53]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)(1/305)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل. يعني التوراة. كقولك: رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. ونحوه قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات. أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفراق البحر. وقيل:
النصر الذي فرق بينه وبين عدوه، كقوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] يريد به يوم بدر لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل، روى أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل، غضب ورمى باللوحين من يده. فكسرهما في أسفل الجبل. ثم أحرق العجل الذي صنعوه. ثم قال: من كان من حزب الرب فليقبل إليّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوى. وقال لهم:
هذا ما يقول الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل رجل منكم سيفه. فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا. وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه. فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل) وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب وقال لهم: أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة. وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم. فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه.
ولاوي، ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر، معناه في العربية ملتصق أو متصل.(1/306)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
والأحبار اللاويّون ينسبون إليه. وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة. وجعلهم من المقربين لديه. وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أمر لمن لم يعبد العجل، أعني اللاويين، أن يقتلوا العبدة. لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضا مطلقا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق. إذ سألتم رؤيتي عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون. ويؤيده آية الأعراف: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ [الأعراف: 155] الآية.
وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك. فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟ أفاده ابن كثير. وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج.
وهذا من المواضع المحقق تحريفها. ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش.
وجهرة، في الأصل، مصدر قولك جهرت بالقراءة. استعيرت للمعاينة، لما بينهما من الاتحاد. في الوضوح والانكشاف. إلا أن الأول في المسموعات، والثاني في المبصرات. ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية. فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس. أو على الحال من الفاعل أو المفعول.
قال ابن جرير: وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، أو فقد بعض(1/307)
آلات الجسم. صوتا كان ذلك أو نارا. أو زلزلة أو رجفا (قال) ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميت قول الله عز وجل وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً يعني مغشيا عليه. ومنه قول جرير:
وهل كان الفرزدق غير قرد ... أصابته الصّواعق فاستدارا
فقد علم أن موسى لم يكن، حين غشي عليه وصعق، ميتا. لأن الله، جل وعز، أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تبت إليك. ولا شبّه جرير الفرزدق، وهو حيّ، بالقرد ميتا، ولكن معنى ذلك ما وصفناه.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي إلى تلك الصاعقة. وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال الراغب الأصبهانيّ في تفسيره: البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه. لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به، فقيل:
بعثت البعير من مبركه أي أثرته. وبعثته في السير أي هيجته، وبعث الله الميت أحياه. وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال. وكل ذلك واحد في الحقيقة، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات (ثم قال) والموت حمل على المعروف، وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت، وليس يقتضى قوله فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أنهم ماتوا. ألا ترى إلى قوله: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً لكن الآية تحتمل الأمرين، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعدي عن الاحتمالات. انتهى. وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكورة وهي وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ [الأعراف: 155] ، فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا، والتنزيل يفسر بعضه بعضا، والأصل توافق الآي. وقد ذكر ابن إسحاق والسدّي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله.
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز، ولذا لم يذكر، سبحانه وتعالى، سؤال الرؤية إلا استعظمه. وذلك في آيات. منها هذه. ومنها قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] ومنها قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: 21] فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها. وكما(1/308)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك، وهي قطعية الدلالة. لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة وزعموا أن العقل قد حكم بها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم، فمنها تظليل الغمام عليهم. وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا. لئلا تؤذيهم حرارة الشمس. وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد. ومنها إنزال المنّ. وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم وأتوا إلى برّية سين، الت بين إيليم وسيناء، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر، تذمروا على موسى وهارون في البرية، وقالوا لهما: ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا نأكل خبزا ولحما. فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتهلكا هذا الجمع بالجوع. فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزا من السماء. فليخرج الشعب، ويلتقطون حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم، هل يمشون في شريعتي أم لا، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيئون ضعف ما يلتقطونه يوما فيوما. لأن اليوم السابع يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء. فقال لهم موسى: إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحما تأكلون. وبالغداة تشبعون خبزا. فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة، وبالغداة أيضا وقع الندى حول المحلة. ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة. يشبه الجليد على الأرض. فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا: ما هذا؟ لأنهم لم يعرفوه. فقال لهم موسى: هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا. وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته، وقدر مأكله. ففعل بنو إسرائيل كذلك ولقطوا ما بين مكثّر ومقلّل، وقال لهم موسى: لا تبقوا منه شيئا إلى الغد. فلم(1/309)
يطيعوا موسى. واستفضل منه رجال إلى الغد، فضرب فيه الدود ونتن. فغضب عليهم موسى. وكانوا يلقطون غدوة. كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل. فإذا أصابه حر الشمس ذاب. وقد أعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع. راحة وتقديسا له. وكان إذا خرج بعض الشعب ليلتقط، يوم السابع، لا يجد في الأرض منه شيئا. ودعا آل إسرائيل اسمه المنّ. وكان مثل حب الكزبرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل، وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة حتى أتوا إلى الأرض العامرة ودنوا من تخوم أرض كنعان. وروي في ترجمة التوراة أيضا أن المنّ كان يشبه لون للؤلؤ. وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى.
ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور. ويعملون منه رغفا طعمها كالخبز المعجون بالدهن. ومتى نزل الندى على المحلّة ليلا كان ينزل المن معه.
هذا ما كان من أمر المن. وأما السلوى فروي أيضا: أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم وجلسوا يبكون. ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضا. وقالوا: من يطعمنا لحما لنأكل؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن. والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم. والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المنّ. فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم، وعلم غضب الرب عليهم، لذلك، ابتهل إلى ربه وقال: من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون عليّ ويقولون أعطنا لحما لنأكل؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلا من شيوخ شعبه وعرفائه. ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه.
ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحما يأكلون منه شهرا حتى يأنفوا منه. فأخبر موسى الشعب بذلك. ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه. فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب، وكانت تطير بالجوّ ذراعين على الأرض وقام الشعب يومهم ذلك كله، والليل. وفي غد اليوم الثاني. فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار. سطحوه سطيحا ويبسوه حول المحلة. وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب.
فضربه ضربة عظيمة جدا. ودعي اسم ذلك الموضع قبول الشهوة. لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا. ثم خرجوا من قبور الشهوة وارتحلوا لغيره. انتهى.
وقوله تعالى: كُلُوا على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا. وقوله وَما ظَلَمُونا كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة. معطوف(1/310)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
على مضمر قد حذف للإيجاز، والإشعار بأنه أمر محقق غنيّ عن التصريح به. أي فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر. وما ظلمونا بذلك، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، بالعصيان. إذ لا يتخطاهم ضرره وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
هذا إشارة إلى ما حلّ ببني إسرائيل- لما نكلوا عن الجهاد- ودخولهم الأرض المقدسة- أرض كنعان- لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية، لأنّ القرية: كل مكان اتصلت به الأبنية واتّخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرها- كذا في كفاية المتحفظ- ثم إنّ ما قصّ- هنا- ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ [المائدة: 20] الآيات:
وقوله تعالى: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً في التأويلات: يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها. ويحتمل من الباب القرية نفسها، لا حقيقة الباب- كقوله وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ذكر القرية ولم يذكر الباب- وذلك في اللغة جائز. (ويقال: فلان دخل في باب كذا، لا يعنون حقيقة الباب، ولكن كونه في أمر هو فيه) .
وقوله سُجَّداً يحتمل المراد من السجود: حقيقة السجود. فيخرّج على(1/311)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
وجوه: على التحية لذلك المكان، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين، ويحتمل الكناية عن الصلاة- إذ العرب قد تسمّي السجود (صلاة) - كأنّهم أمروا بالصلاة فيها، ويحتمل أن الأمر بالسجود- لا على حقيقة السجود والصلاة- ولكن أمر بالخضوع له والطاعة والشكر على أياديه، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ خبر محذوف، أي مسألتنا حطة- والأصل النصب- بمعنى: حطّ عنّا ذنوبنا حطّة، وإنّما رفعت لتعطي معنى الثبات.
وقوله سبحانه فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي: بدّلوا أمره تعالى لهم- بدخول الأرض مجاهدين- بالإحجام عنه، وتثبيط الناس. ولذا قال أبو مسلم «قوله تعالى: فَبَدَّلَ يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه: أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة. قال تعالى:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ- إلى قوله- يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح: 15] ولم يكن تبديلهم إلّا الخلاف في الفعل لا في القول. فكذا هنا، فيكون المعنى: إنهم لما أمروا بدخول الأرض- وما ذكر معه- لم يمتثلوا أمر الله، ولم يلتفتوا إليه» .
وفي تكرير الَّذِينَ ظَلَمُوا زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. و (الرجز) : هو الموت بغتة، كما تقدّم.
قال الراغب: وتخصيص قوله رِجْزاً مِنَ السَّماءِ هو أنّ العذاب ضربان: ضرب قد يمكن- على بعض الوجوه- دفاعه، أو يظنّ أنه يمكن فيه ذلك، وهو كلّ عذاب على يد آدميّ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق. وضرب لا يمكن- ولا يظنّ- دفاعه بقوّة آدميّ- كالطاعون، والصاعقة، والموت- وهو المعنيّ بقوله:
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها. وروي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل من برية سينا بأمره تعالى، وحلوا في رقادين، ولم يكن هناك ماء(1/312)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
ليشربوا، فخاصموا موسى، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا، ودوابنا بالعطش؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا، فأوحى إليه أن أمض أمام الشعب، وخذ معك من شيوخ إسرائيل. والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك. واذهب إلى صخرة حوريب، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب. ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل. انتهى.
وقوله تعالى: اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر، لكل سبط منهم عين قد عرفوها. قال الراغب: وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده، وهذا المنكر، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات، فقد ترك النظر على طريقته. إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره، والحجر الحلاق يحلق الشعر، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة. وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض.
وقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تمشوا في الأرض بالفساد، وخلاف أمر موسى. قال الراغب: فإن قيل: فما فائدة قوله مُفْسِدِينَ والعثوّ ضرب من الإفساد؟ قيل: قد قال بعض النحويين: إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظا مما يشبه. وقال بعض المحققين: إن العثو، وإن اقتضى الفساد، فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] ، وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو، بالإضافة إلى ما قوبل به، عدل. ولولا كونه جزاء لكن إفسادا. فبين تعالى أن العثو المنهي عنه، هو المقصود به الإفساد. فالإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الأعراف: 56] ، وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل، كما تقدم. وهذا ظاهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)(1/313)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ قال قتادة: لما ملّوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا ذلك. قال الراغب: إن قيل: كيف قال لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وكان لهم المن والسلوى، قيل: إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة، كقولك: فلان يفعل فعلا واحدا في كل يوم، وإن كثرت أفعاله، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ. لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ، حتى أكدوا بقولهم واحِدٍ أو أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها هو الثوم لقراءة ابن مسعود «وثومها» وللتصريح به في التوراة في هذه القصة. وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي «أثاثي» ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وللمغافير «مغاثير» وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أي أدون قدرا، وأصل الدنوّ القرب في المكان، فاستعير للخسة، كما استعير البعد للشرف والرفعة، فقيل: بعيد الهمة. بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي بمقابلة ما هو خير، أي أرفع وأجل، وهو المنّ الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية، والسلوى من أطيب لحوم الطير، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية. وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية اهْبِطُوا مِصْراً هكذا هو منوّن مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور، بالصرف.
قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك، لإجماع المصحف على ذلك، أي من الأمصار، أي انحدروا إليه فَإِنَّ لَكُمْ فيها ما سَأَلْتُمْ أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير، في أي بلد دخلتموها وجدتموه. فليس يساوي مع دناءته، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء، وكفرهم، واعتدائهم، وضرب الذلة عليهم لذلك، استطرادا فقال:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فمن هنا إلى قوله وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين(1/314)
كانوا في عهد موسى، يدل على هذا قوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم. والذلة بالكسر الصغار والهوان والحقارة. والذل بالضم ضد العز. والمسكنة مفعلة من السكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفقر. والمسكين مفعيل منه- كذا في السمين- وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك. وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة، فإن اليهود أذل الفرق، وأشدهم مسكنة، وأكثرهم تصاغرا، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رؤوسهم راية، ولا ثبتت له ولاية، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال، وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ، فهو مرتد بأثواب المسكنة. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجعوا به، أي صار عليهم، أو صاروا أحقاء به. من قولهم. باء فلان بفلان، أي صار حقيقا أن يقتل بمقابلته. فالباء على التقديرين صلة باؤوا، لا للملابسة. وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه، ولا دلالة في الكلام عليه ذلِكَ إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ كزكريا ويحيى عليهما السلام. وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا، ولم يذكر قتل رسول من الرسل. وذلك- والله أعلم- لقوله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] وقوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 172] وقال قوم: لم يقتل أحد من الرسل، وإنما قتل الأنبياء، أو رسل الرسل، والله أعلم. كذا في التأويلات.
وقوله بِغَيْرِ الْحَقِّ لم يخرج مخرج التقييد، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال، لمكان العصمة. بل المراد نعي هذا الأمر عليهم، وتعظيمه، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا، والغلوّ في العصيان، والاعتداء، كما يفصح عنه قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر، وقتل الأنبياء عليهم السلام. وقيل: كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم، كما أنه بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي، واعتدائهم حدود الله تعالى.
وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب. إذ بدئ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته. ثم ثنّي بما يتلوه في العظم، وهو قتل(1/315)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
الأنبياء. ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم. ثم بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير، مثل الاعتداء. وهذا من لطائف أسلوب التنزيل.
ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم. وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ، وضرب الذلة والمسكنة، كما حل باليهود، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين. وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصاروا من جملة أتباعه. قال في فتح البيان:
كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية، وحال من قبلها من سائر الملل، يرجع إلى شيء واحد، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر. ومن فاته ذلك فاته الخير كله، والأجر دقه وجله. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من
قوله، لما سأله جبريل عليه السّلام عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره» «1» .
ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية. فمن لم يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بالقرآن، فليس بمؤمن. ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا، ولم يبق يهوديّا ولا نصرانيّا ولا مجوسيّا. انتهى.
قال الراغب في تفسيره: تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين: أحدهما الإقرار بالشهادتين، الذي يؤمن نفس الإنسان، وماله عن الإباحة إلا بحق، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام. والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه. فقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عنى به المتدين بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقوله:
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عنى به المتحري للاعتقاد اليقينيّ، فهو غير الأول. ولما كانت
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في المقدمة، 9- باب في الإيمان، حديث رقم 63.(1/316)
مشاهير الأديان هذه الأربع، بيّن تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه، وقبل أن ينسخ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ثم قال: وقول ابن عباس: إن هذا منسوخ بقوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبيّ عليه السلام. فأمّا في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه. أي فليس مراد ابن عباس، ومن وافقه، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود، ومن ذكر معهم، على عمله، في الآخرة الجنّة، ثم نسخه بآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ بل مراده ما ذكر الراغب.
وهذا ما لا شبهة فيه. ولذا قال ابن جرير: ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان، بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عن جميع ما ذكر في أول الآية.
تنبيه:
ظاهر هذه الآية، مع تفسير الراغب مَنْ آمَنَ بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه. فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب، حتى في الأصول، ووافقه الجاحظ. قال الغزاليّ في المستصفى: ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده، فهو آثم. وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر، فهو أيضا معذور. وإنما الآثم المعذب، المعاند فقط. لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى، إذ استد عليهم طريق المعرفة. ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة.
ثم قال الغزاليّ: وأما قوله- أي الجاحظ-: كيف يكلفهم ما لا يطيقون؟
قلنا: نعلم ضرورة أنه كلفهم، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون، فلننظر فيه، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل، ونصب من الأدلة، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات، الذين نبّهوا العقول، وحركوا دواعي النظر، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل.(1/317)
وقوله وَالَّذِينَ هادُوا أي تهودوا. يقال: هاد يهود، وتهوّد، إذا دخل في اليهودية. هو هائد، والجمع هود. وهم أمة موسى عليه السلام، وإنما لزمهم هذا الاسم، لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة- فقلبتها العرب دالا مهملة) .
وقوله تعالى: وَالنَّصارى جمع نصران، كندامى جمع ندمان، يقال: رجل نصران، وامرأة نصرانة، والياء في نصرانيّ للمبالغة، كما في أحمريّ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام- كذا في الكشاف- أو هو جمع نصرانيّ، مغيّر عن ناصريّ، نسبة إلى ناصرة- القرية المعروفة- وقد نسب إليها المسيح عليه السلام، لأنه ربّي بها. وجاء في الإنجيل «يسوع الناصريّ» . وقوله تعالى:
وَالصَّابِئِينَ جمع صابئ، ويقال لهم الصابئة. قال ابن جرير: الصابئ هو المستحدث، سوى دينه، دينا، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب «صابئا» يقال منه: صبا فلان يصبو صباء، ويقال: صبأت النجوم إذا طلعت. وقد اختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم، من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا:
الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم. فعن مجاهد: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم. وعن ابن زيد: الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل، يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ. وعن قتادة: أنهم قوم يعبدون الملائكة.
وقال الإمام الشهرستانيّ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله: والصبوة في مقابلة الحنيفية. وفي اللغة: صبا الرجل إذا مال وزاغ. فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة. وهم يقولون: الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال. وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين. والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب، الحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة. فدعوة الصابئة إلى الاكتساب، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة. فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية، ولا يقولون بالشريعة والإسلام.
فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد. والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس، وهما شيت وإدريس، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. وهم أصحاب الروحانيات. فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان.(1/318)
والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة. أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية، الذين جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكّل عليهم، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب. وأما الفعل، فقالوا: الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية، فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها. ولكل روحانيّ هيكل، ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحانيّ إلى ذلك الهيكل الذي اختصّ به نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه ومدبره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا، وربما يسمونها آباء، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات: تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية: مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلّية صادرة عن روحانيّ كلّي، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيّ جزئيّ. فمع جنس المطر ملك، ومع كل قطرة ملك. ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح، وما ينزل من السماء: مثل الصواعق والشهب، وما يحدث في الجو من الرعد والبرق والسحاب والضباب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرة، وما يحدث في الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة، إلى غير ذلك. قالوا: وأما الحالة، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى؟ هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستانيّ في كتاب- الملل والنحل- ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض والبشرية النبوية. وأوردها على شكل سؤال وجواب. فلتنظر ثمّ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه- في الرد على المنطقيين- إن حرّان كانت دار هؤلاء الصابئة، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام (أو انتقل إليها من العراق.
على اختلاف القولين) وكان بها هيكل العلّة الأولى. هيكل العقل الأول، هيكل النفس الكلية، هيكل زحل. هيكل المشتري. هيكل المريخ، هيكل الشمس.
وكذلك الزهرة وعطارد والقمر. وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم. ثم(1/319)
ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين، حتى جاء الإسلام. ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت. ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها، أطباء وكتابا، وبعضهم لم يسلم. وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية. وكانوا يصلّون إلى القطب الشماليّ. وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشماليّ كان لهؤلاء. فإن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء موحّدون، وصابئة مشركون. فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية.
فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا. من هذه الملل الأربع: المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين. فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل. والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل. وهذا بخلاف المجوس والمشركين، فإنه ليس فيهم مؤمن. فلهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: 17] ، فذكر الملل الست هؤلاء، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة. لم يذكر في الست من كان مؤمنا، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط. ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين. والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين. وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم، ويقرون بمعاد الأبدان، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم. ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرّون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه. وكذلك المشركون من الهند. وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين، هو أرسطو. انتهى.
وما قرره الإمام ابن تيمية، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين، من أن معنى قوله تعالى مَنْ آمَنَ من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضى شرعه، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين.
وذهب آخرون إلى أن معنى قوله مَنْ آمَنَ من أحدث من هذه الطوائف، إيمانا خالصا بما ذكر. قالوا: لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام. وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه، فلا ملابسة له بالمقام، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات. فليتأمل.
وقوله تعالى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ أي: الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة(1/320)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
بالإيمان، وهو في الأصل جعل العامل على عمله. وفي قوله عِنْدَ رَبِّهِمْ مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت، مأمون من الفوات. وقوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب.
(تنبيه) قال العلامة البقاعيّ في تفسيره: وحسَّن وضع هذه الآية، في أثناء قصصهم، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم. وربما أمروا بقتل النساء أيضا. فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل. وقد ذكر منه في سورة المائدة، وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75] وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة. وذلك موجود في نصّ التوراة في غير موضع. وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة. وسيأتي بعض ذلك عند قوله لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: 83] الآية. بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف في الدين، فإنه قال في وسط السفر الثاني: وإذا لقيت ثور عدوّك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه. وإذا رأيت حمار عدوك جاثما تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده. ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 63]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكيرا لجناية أخرى لأسلافهم، أي واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة، وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ترهيبا لكم لتقبلوا الميثاق. وذلك أن الطور اقتلع من أصله، ورفع وظلل فوقهم. والطور هو الجبل. وقيل لهم وهو مطلّ فوقهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لكي تتقوا المعاصي، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين، أو طلبا لذلك. وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف: 171] .
قال الراغب: إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب، قيل: لم(1/321)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
يستحقوا الثواب بالالتزام وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد. فأما في التزامها فمضطرون، وقال بعض الناس: عنى بالطور تشديد الأمر عليهم، وجعل ذلك مثلا.
وذلك بعيد. ومثله قول القاشانيّ: طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها. فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى. وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 64]
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لكم بتوفيقكم للتوبة، أو تأخير العذاب، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين بالعقوبة.
قال الراغب: الخاسر المطلق، في القرآن، هو الذي خسر أعظم ما يقتني، وذلك نعيم الأبد، وهو المذكور في قوله قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 15] .
وقال القفال: قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة، فحرفوا كلمها عن مواضعه. وتركوا العلم بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بهم، وعصوا أمرهم. ومنها ما عمله أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك. حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون. وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به. حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح، وهموا بقتله.
والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب، وجحودهم لحقه. وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر.
والله أعلم.
ثم ذكّرهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله:(1/322)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 65]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا أي تعمدوا العدوان مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ بأن استحلوه وتحيّلوا على اصطياد الحيتان فيه. وذلك أن الله ابتلاهم، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت كما قال: تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ [الأعراف: 163] ، فحفروا حياضا عند البحر، وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم.
فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي صاغرين مطرودين مبعدين من الخير، أذلاء. وقد روي عن الضحاك وقتادة: أنهم مسخوا قردة، لها أذناب تعاوى، بعد ما كانوا رجالا ونساء. وأما مجاهد فقال:
مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا. رواه ابن جرير. وهكذا قال القاشانيّ: كُونُوا قِرَدَةً أي مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم. ثم قال: والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة.
وردت به الآيات والأحاديث. وفي أثر: عدّ المسوخ ثلاثة عشر، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات، ورسخ فيه بحيث زال استعداده، وتمكن في طبعه، وصار صورة ذاتية له، صار طبعه طبع ذلك الحيوان. ونفسه نفسه، فصارت صفته صورته.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 66]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
فَجَعَلْناها أي المسخة والعقوبة نَكالًا عبرة تنكل المعتبر بها، أي تمنعه وتردعه. ومنه النكل للقيد لِما بَيْنَ يَدَيْها من المعاصي من أهل عالمها(1/323)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
الشاهدين لها وَما خَلْفَها ممن جاء بعدهم، أو لأهل تلك القرية وما حواليها، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ من قومهم، أو لكل متق سمعها. وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور، وأن النقم تقع في غيرهم، وعظا لهم.
(تنبيه) : أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين، إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة. وفي ترجمة التوراة ما نصه: وكلم الرب موسى قائلا:
كلم بني إسرائيل، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم، من دنّسه يقتل، ومن صنع فيه عملا يقطع من بين شعبه. في ستة أيام تصنع الأعمال، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة، وليحفظ بنو إسرائيل السبت، وليتخذوه عيدا بأجيالهم. لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام، وفرغ يوم السابع. وفيها أيضا ما نصه: في ستة أيام تعمل عملك، وأما اليوم السابع ففيه تستريح، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب. انتهى.
وقد حرم على اليهود فيه أن يعدّوا طعامهم. بل حرم عليهم أن يوقدوا نارا.
وفي سفر نحميا- في الفصل الثالث عشر- ما نصه: وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون في المعاصر في السبت ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير، وبخمر أيضا، وعنب وتين، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت. فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام. وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك. وكل نوع من المبيعات، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا وفي أورشليم. فخاصمت عظماء يهوذا، وقلت لهم: ما هذا الشرّ الذي تفعلونه وتدنّسون يوم السبت؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت، إلى آخره.
ولما بيّن تعالى قساوتهم في حقوقه العلية، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخا لأخلاقهم. مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة، وبيان من هو القاتل بسببها، وإحياء الله تعالى المقتول، ونصه على من قتله منهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 67]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)(1/324)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً وذلك أنه وجد قتيل فيهم، وكانوا يطالبون بدمه، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله قالُوا استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا. فقيل: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً بضم الزاي وقلب الهمزة واوا، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون. أي أتجعلنا مكان هزو، أو أهل هزو، أو مهزوّا بنا، أو نفس الهزو، للمبالغة. وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم، إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها قالَ استئناف كما سبق أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ لأن الهزو في أثناء تبليغ أمر الله، سبحانه، جهل وسفه. نفى عنه، عليه السلام، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه، وآكده، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه، استفظاعا له، واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه، عليه السلام، بها. والعوذ: اللّجأ من متخوّف لكاف يكفيه. والجهل: التقدم في الأمور بغير علم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 68]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)
قالُوا تماديا في الغلظة ادْعُ لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ما حالها، وصفتها. وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى.
فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن. الخارجة عما عليه البقر، وما وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال. تقول: ما زيد؟ فيقال: طبيب أو عالم. قالَ أي موسى عليه السلام، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان، وأتاه الوحي. إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها أي البقرة المأمور بذبحها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ أي لا مسنّة. وقد فرضت فروضا، فهي فارض، أي أسنّت. من الفرض بمعنى القطع. كأنها قطعت سنّها وبلغت آخرها. وَلا بِكْرٌ أي لا فتيّة صغيرة لم يلقّحها الفحل. عَوانٌ أي نصف بَيْنَ ذلِكَ أي سنّي الفارض والبكر فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به. وفيه حثّ على الامتثال، وزجر عن المراجعة. ومع ذلك لم يفعلوا، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السنّ بأن:(1/325)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 69]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها شديد الصفرة، يقال في التوكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال: أسود حالك وأبيض يقق، وأحمر قانئ، وأخضر ناضر ومدهامّ. وفي إسناد الفقوع إلى اللون- مع كونه من أحوال الملوّن لملابسته به- ما لا يخفى من فضل تأكيد. كأنه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في: جدّ جدّه. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي تبهج نفوسهم.
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، ورفعه ابن جريج والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 70]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة. ولذلك عللوا تكرير سؤالهم بقولهم إِنَّ الْبَقَرَ الموصوف بما تقدم تَشابَهَ عَلَيْنا لكثرته، أي اشتبه علينا أيّها نذبح. قال البقاعيّ: وذكّر الفعل، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده، فإن العرب تذكره. نقل عن سيبويه. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى البقرة المراد ذبحها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 71]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ. أي لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث. ولا ذَلُولٌ صفة لبقرة. بمعنى غير ذلول. ولا(1/326)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى. لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية، والمقصود: إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في السانية. مُسَلَّمَةٌ، سلمها الله من العيوب، أو معفاة من العلم، سلمها أهلها منه، أو مخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. من: سلم له كذا، إذا خلص له لا شِيَةَ فِيها، أي لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة، فهي صفراء كلها، وهي في الأصل مصدر: وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لونا آخر. في الصحاح: الشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله. والجمع:
شيات. يقال: ثور أشيه، كما يقال: فرس أبلق. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا.
بخلاف المرتين الأوليين، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة فَذَبَحُوها، الفاء فصيحة، كما في فَانْفَجَرَتْ، أي فحصلوا البقرة فذبحوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كاد من أفعال المقاربة، وضع لدنوّ الخبر من الحصول، والجملة حال من ضمير ذبحوا، أي فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه. اعتراض تذييليّ. ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها.
(تنبيه) قال الراغب: قال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل فعله. فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا. وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة. فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل. وليس كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له، لمّا راجعوا، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة. بل زيد في أوصافها وكشف عن المراد بالأمر الأول.
وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 72]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي اختلفتم واختصمتم في شأنها، إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مظهر، لا محالة، ما كتمتم من أمر القتيل، لا يتركه مكتوما.(1/327)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 73]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
أي المقتول بِبَعْضِها
أي البقرة. يعني فضربوه فحيي وأخبر بقاتله. كما دل عليه قوله كَذلِكَ
أي مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
يوم القيامة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير. ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء. والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت. وإخباره بقاتله، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى.
قال الراغب: وقوله كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة، تنبيها على الاعتبار بإحيائه الموتى.
تنبيهات:
(الأول) قال الزمخشري: (فإن قلت) فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ فيقال: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها) ؟
(أجيب) بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل، إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعا لهم عليها، ولما جدد فيهم من الآيات العظام. وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين.
فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك. والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الآية العظيمة. وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. ولقد روعيت نكتة، بعد ما استؤنفت الثانية، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: اضربوه ببعضها، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع، وتثنيته(1/328)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها. وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
وقال الحراليّ: قدم نبأ قول موسى عليه السّلام على ذكر ندائهم في القتيل، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة. والله أعلم.
(التنبيه الثاني) قال الراغب: قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة وقال: ذلك ممتنع من حيث الطبيعة، وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية. فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير. ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن. وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول. وأما تخصيص البقرة، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه. ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلّا توافر المأمورين بذلك على طلبها، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها، وجلب نفع توفر إلى صاحبها- لكان في ذلك حكمة عظيمة. وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم وإن كان واقعا من بعضهم، ولا يكون ذلك كذبا. كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها.
وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئا منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا يتعلق به كبير فائدة. كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه. فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى. إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية. وإن كان معيّنا في نفس الأمر. وأيّا كان فالمعجزة حاصلة به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)(1/329)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم، والأمور التي جرت عليهم، والعقاب الذي نزل بمن أصرّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم. فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب. وهذا أولى. لأن قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، خطاب مشافهة. فحمله على الحاضرين أولى. وأما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا، أو من قبل المخاطبين من سلفهم. والله أعلم. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القساوة أَوْ أَشَدُّ منها قَسْوَةً أي هي في القسوة مثل الحجارة أو زائد عليها فيها. وأَوْ للتخيير أو للترديد.
بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى كالحديد. أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ أي يتفتح بالسعة والكثرة مِنْهُ الْأَنْهارُ بيان لأشديّة قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أي يتشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي العيون الي هي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي يتردّى من رأس الجبل من خشية الله، انقيادا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة، قاله القاشانيّ.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح. والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ. وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. لا سيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها، كما بسط في مطولات البيان.
وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه «الفصل» على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزا، ردا مسهبا. وقال: من ادعى ذلك أكذبه العيان. ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام.
(قال) ولعل معترضا يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث(1/330)
إليها نبيّ. فإذ لا شك في هذا، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى، وهذا أمر يشاهد بالعيان، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى، ويخشى العاصي. وقد أخبر عز وجلّ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران: 199] ، وكما أخبر تعالى أن مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [التوبة: 99] من بعد أن أخبر أن الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التوبة: 97] . (قال) فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة. والوجه الثاني أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] .
والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الجبل الذي صار دكّا، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة. ويكون يَهْبِطُ بمعنى «هبط» كقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] معناه:
وإذ مكر، وبين قوله تعالى، مصدقا إبراهيم خليله صلّى الله عليه وسلّم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مريم: 42] وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ، قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر: 43] فصح بهذا، صحة لا مجال للشك فيها، أن الحجارة لا تعقل. وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية، المعهود كل ذلك عندنا. وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان، والكعبة كذلك، وأن الجبال تطاولت، وخشع جبل كذا، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا. ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث، أو ما يستجاز روايته، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) .
وقال ابن جرير: اختلف أهل النحو في معنى الهبوط- ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيّؤ ظلاله. وقال(1/331)
آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. وقال آخرون: قوله يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كقوله جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] ولا إرادة له. قالوا:
وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله. قال زيد الخيل:
بجمع تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجّدا للحوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل، يصف عدوّا له:
ساجد المنخر لا يرفعه ... خاشع الطّرف أصمّ المستمع
يريد أنه ذليل.
وكما قال جرير بن عطية:
لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشّع
وقال آخرون: معنى قوله يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه. كما قيل: ناقة تاجرة إذا كانت، من نجابتها وفراهتها، تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:
وأعور من نبهان، أمّا نهاره ... فأعمى، وأمّا ليله فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانيّ الذي يهجوه. من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية. وتقدم رد ابن حزم له مبرهنا عليه.
ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله. وعبارته: قال مجاهد وابن جريج: كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، قال ويدل على ذلك قوله لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] ، وقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 18] ، إلى قوله: وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج: 18] ، وقد روي مثل هذا عن السلف، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته.
فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة. وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال وبالله التوفيق: إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب: الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام.(1/332)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
وذلك لعلّام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما. والثاني معرفة متزايدة، وهي للإنسان. وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية. وجعل له بذلك سبيلا إلى تعريف كثير مما لم يعرفه. وليس ذلك إلا للإنسان. والثالث معرفة دون ذلك، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها. واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها، ودفع مضار عن أنفسها. والرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها.
والخامس: معرفة العناصر. فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل، والنار في طلب العلوّ، وذلك بتسخير الله تعالى، بلا اختيار منه. قالوا: والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا، أبى إلا العود إليه طوعا. قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه. ويأبى الماء الذي يطفيه. وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره. هذا ما حكوه.
فعلى هذا إذا قيل: لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة. فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول. (انتهى قول الراغب) وهو تأويل حسن، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف. وهو مسلم في كثير من الإطلاقات.
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى. فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه، مطلعا عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد. ولما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم، والتبكيت لهم، منكرا للطمع في إيمانهم فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 75]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة(1/333)
عنهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلافهم إلا مثل ما أتى. من أسلافهم، (واللام في قوله) لَكُمْ لتضمين معنى الاستجابة. كما في قوله عز وجل فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، أي في إيمانهم مستجيبين لكم. أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة فيمن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وهو ما يتلونه من التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال ابن كثير: أي يتأولونه على غير تأويله. وقال ابن جرير: يعني بقوله يُحَرِّفُونَهُ يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها.
فكذلك قوله يُحَرِّفُونَهُ أي يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره.
مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
قال ابن جرير: هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السّلام. وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغيا وحسدا. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة: 13] ، والظاهر أن المراد، بالفريق منهم، أحبارهم، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى، من بعد، في قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: 187] ، وقال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: 146] .
ولقائل أن يقول، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين. وأجاب القفال عنه فقال:
يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق، وهو قولك للرجل كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي وأنت عنه تأخذ، ولا تأخذ عن غيره.
ونحوه قول الراغب: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم. فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك، إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط، بل يكون عنادا وغلبة شهوة.(1/334)
(تنبيه) ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة، فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه، وأوّلوا بعضا منها بغير المراد منه، وكذا يقال في الإنجيل. ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهنديّ في كتابه (إظهار الحق) : أن أهل الكتاب سلفا وخلفا، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم، ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام، الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم. ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة. ثم ساق بعضا منها فانظره.
وفي ذخيرة الألباب، لأحد علماء النصارى، ما مثاله: إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات. وفيه أيضا: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ. فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن. وفيه أيضا في الفصل (31) : أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ. انتهى. فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها. وهو المقصود.
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، فهو إفراط. قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج: 21] :
إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] الآية. ومن ذلك قصة رجم اليهوديين «1» وفيه وجود آية الرجم ويؤيده قوله تعالى
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: المناقب، باب قول الله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إن فيها الرجم.(1/335)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] . وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات. فارجع إليه.
ثم أخبر تعالى، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين وسلوكهم منهاجهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 76]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قالُوا آمَنَّا أي بأنكم على الحق، وأن محمدا هو الرسول المبشر به، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ يعني الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ أي الذين نافقوا قالُوا أي عاتبين عليهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما بيّن لكم في التوراة من البشارة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والإيمان بالنبيّ الذي يجيئكم مصدقا لما معكم، ونصره.
قال ابن إسحاق: أي أتقرّون بأنه نبيّ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتّباعه، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي نجده في كتابنا، اجحدوه ولا تقرّوا به.
قال ابن جرير: أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم. والمعنى:
أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به في التوراة.
لِيُحَاجُّوكُمْ متعلقة بالتحديث، دون الفتح، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة، فيقولون: ألم تحدثونا بما في كتابكم، في الدنيا، من حقيّة ديننا، وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق، في الموقف. لأنه ليس من اعترف بالحق، ثم كتم، كمن ثبت على الإنكار.
__________
فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم. فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله ابن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة
.(1/336)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
وتأول الراغب الأصفهانيّ قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور: 13] أي في حكم الله وقضائه، وهو وجه جيد، وقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ من تمام التوبيخ والعتاب، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض. قال الراغب: ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل، على سبيل ما يسمى في البلاغة «الالتفات» . ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 77]
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي يخفون من قولهم لأصحابهم، ومن غيره وَما يُعْلِنُونَ أي يظهرون من ذلك، فيخبر به أولياءه. قال الراغب: هذا تبكيت لهم، وإنكار لما يتعاطونه، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية.
ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف، مع العلم والاستيقان، ذكر العوامّ الذين قلدوهم، ونبّه على أنهم في الضلال سواء. لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامّيّ أن لا يرضى بالتقليد والظن، وهو متمكن من العلم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 78]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة، فيؤمنوا. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أي التوراة، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق إِلَّا أَمانِيَّ بالتشديد جمع أمنية، أصلها أمنوية «أفعولة» فأعلّت إعلال سيّد، وميّت. مأخوذة من تمنى الشيء: قدّره وأحب أن يصير إليه. أو من تمنّى: كذب. أو من تمنى الكتاب: قرأه. وعلى كل فالاستثناء منقطع، إذ ليس ما يتمنى، وما يختلق وما يتلى، من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتاب. لكن يتمنون أمانيّ حسبما منّتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم. وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم. وغير ذلك من أمانيهم الفارغة. المستندة إلى الكتاب، على(1/337)
زعم رؤسائهم. أو لا يعلمون الكتاب، لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم.
فتقبلوها على التقليد. أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم.
فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه.
قال ابن جرير: وأولى ما روينا في تأويل قوله إِلَّا أَمانِيَّ أن هؤلاء الأميين لا يفقهون، من الكتاب الذي أنزله الله، شيئا. ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا. والتمني في هذا الموضع هو تخلّق الكذب وتخرّصه وافتعاله.
بدليل قوله تعالى بعد وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم، لا يقينا.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: حمله على تمني القلب أولى. بدليل قوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ [البقرة: 111] أي تمنيهم. وقال الله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] ، وقال تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [البقرة: 111] ، وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] بمعنى يقدّرون ويخرصون. ورجح كثيرون حمله على القراءة، كقوله تعالى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ، إذ في الاستثناء، حينئذ، نوع تعلق بما قبله.
فيكون أليق في طريقة الاستثناء. وإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلّا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد، من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم. فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين؟
(تنبيه) قال الراغب: قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم. فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة. واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم. وهم قد ضلوا وأضلوا. ونبهنا الله تعالى بذم الأميين، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه. وبذم زعمائهم، على تحرّي الصدق وتجنب الإضلال. إذ هو أعظم من الضلال.
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأمانيّ واتباع الظن، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل. فقيل على وجه الدعاء عليهم.(1/338)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
فَوَيْلٌ فإن أضيف، نصب. نحو: ويلك وويحك- وإذا فصل عن الإضافة، رفع. نحو: ويل له. الويل: الهلاك وشدة العذاب لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ أي المحرّف. أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة بِأَيْدِيهِمْ تأكيد لدفع توهم المجاز.
كقولك: كتبته بيميني. وقد يقال في مثل هذا: إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة ثُمَّ يَقُولُونَ لما كتبوه، كذبا وبهتانا هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته ثَمَناً قَلِيلًا أي عرضا يسيرا. ويجوز في الآية معنى آخر. أي: فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، فيشهدون بذلك، وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه، لو كان كتابة غيرهم، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله- الوقوف مع عهوده ومواثيقه، إجلالا لمنزله وموحيه، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه. ولكن لم يكن ذلك منهم. بل كان أن حرّفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا. وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله، وصدقهم في قولهم: هذا من عند الله. ثم مخالفتهم لذلك. فيكون قوله تعالى لِيَشْتَرُوا بِهِ تعليلا لمحذوف دل عليه السياق. أي ثم بعد ذلك يحرفونه ليشتروا به. وهو وجه جيد يوافق آية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير:
هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي: فشدّة العذاب لهم مما غيرت أيديهم وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ يصيبون من الحرام والسحت.
قال الراغب: إن قيل: لم ذكر يَكْسِبُونَ بلفظ المستقبل وكَتَبَتْ بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيها على ما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» «1»
فنبه بالآية أن ما أضلّوه وأثبتوه من التأويلات
__________
(1)
أخرجه مسلم عن جرير في: العلم، حديث 15 ونصه: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فعمل(1/339)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
الفاسدة، التي يعتمدها الجهلة، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا (إن قيل) لم ذكر الكتابة دون القول (قيل) لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه، إذ هو كذب باللسان واليد، صار أبلغ. لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره.
(إن قيل) : ما الذي كانوا يكتبونه؟ (قيل) : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم يقولون هذا من عند الله. وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح. وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبيّ أتى بوصف لنبيّ بعده، فإنه أتى بلفظة معرّضة وإشارة مدرجة، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم. وقد قال العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم. لكن بإشارات.
ولو كان ذلك متجليا للعوامّ لما عوتب علماؤهم في كتمانه. ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان: من العبرانيّ إلى السريانيّ إلى العربيّ. وقد ذكر المحصلة ألفاظا من التوراة والإنجيل، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتعريض. هو عند الراسخين في العلم جليّ وعند العامة خفيّ. فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرّفة. وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه، وتبديل آياته، وكتمان الحق عن أهله، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طمعا في عرض الدنيا. وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل، أعراض الدنيا وإن كثرت. لقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء: 77] ، كلام الراغب رحمه الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادّعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلّا مدة يسيرة. ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها. لأن كل معدود منقض. قال مجاهد: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة. فإنما نعذّب، مكان كل ألف سنة، يوما. ثم ينقطع العذاب.
وروي ذلك عن ابن عباس. وعنه أن اليهود قالوا: لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا
__________
بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء» .(1/340)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
فيها العجل، أربعين، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب. ثم بين تعالى إفكهم. لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى، وهو منتف. فقال سبحانه قُلْ منكرا لقولهم وموبّخا لهم أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أي فتقولوا لن يخلف الله عهده. وجعل بعضهم الفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر. أي: إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه أَمْ تَقُولُونَ أي: أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي وقوعه جهلا وجراءة. وقولهم المحكيّ، وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه، لكنه مستلزم له. لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 81]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)
بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي بلى تمسكم أبدا. بدليل قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ، مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي عملها وهي والسيء عملان قبيحان أصلها سيوءة. من: ساءه يسوه. فأعلّت إعلال سيد. ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لا بد أن يكون سببه محيطا به فقال وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة. وسدت عليه مسالك النجاة. بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود. وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
(تنبيه) ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنّ الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة، تواترا، من خروج عصاة الموحدين من النار. فيتعين تفسير السيئة والخطيئة، في هذه الآية، بالكفر والشرك. ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 82]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ من عادة(1/341)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد. وذلك لفوائد:
منها، ليظهر بذلك عدله سبحانه. لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان. ومنها، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه. وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق.
ومنها، أنه يظهر بوعده كمال رحمته، وبوعيده كمال حكمته، فيصير ذلك سببا للعرفان.
وقد قدمنا عند قوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة:
25] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل. فإذا عطف عليه العمل، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام. أو يقال: لم يدخل فيه ولكن مع العطف. كما في اسم الفقير والمسكين. فتذكر.
قال الراغب: في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به، الأعمال السيئة، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة.
ثم شرع، سبحانه، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وهو إخبار في معنى النهي، كقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] ، وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي. وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها. وهو حق الله تبارك وتعالى. أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا. وبهذا أمر جميع خلقه. ولذلك خلقهم. كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] . وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً والإحسان نهاية البر، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين. حتى قرن(1/342)
تعالى الأمر بالإحسان إليهما، بعبادته التي هي توحيده، والبراءة عن الشرك، اهتماما به وتعظيما له.
قال حكيم مصر في تفسيره: العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشئونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا. لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا. وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية. ويكفلانه، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه. فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما، عن علم واختيار، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وإذا وجب على الإنسان أن يشكر، لكل من يساعده على أمر عسير، فضله، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد، وما كانت به المساعدة، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى، وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء، أيام كان يتعذر عليه كل شيء وَذِي الْقُرْبى أي القرابة.
قال الأستاذ الحكيم «الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة، ويوثق الروابط الطبيعية، حتى تبلغ البيوت، في وحدة المصلحة، درجة الكمال. والأمة تتألف من البيوت، أي العائلات. فصلاحها صلاحها. ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة.
وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد. ثم بين سائر الأقربين. فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته. لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس. فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ويرى منفعتهم عين منفعته، ومضرتهم عين مضرته؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة، وصلتها أمتن من كل صلة. فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق.
وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص. ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ. اليتامى جمع يتيم.
وهو من مات أبوه وهو صغير. قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة. فعلم أنها مقصودة لذاتها. وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم. وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا. وحسبك أن القرآن نهى(1/343)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
عن قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا. والسرّ في ذلك هو كون اليتيم لا يجد، في الغالب، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه والعناية بأموره الدينية والدنيوية. فإن الأم، إن وجدت، تكون في الأغلب عاجزة. لا سيما إذا تزوجت بعد أبيه. فأراد الله تعالى، وهو أرحم الراحمين، بما أكد من الوصية بالأيتام، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم. يربونهم تربية دينية دنيوية، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا. فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد.
والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة. فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة. وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا. إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس. ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه.
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا. أي: كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا.
وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف، كرجل عدل وصوم وفطر.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ خطاب لبني إسرائيل. فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن المضيّ على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه. وقوله إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام، أو في كل زمن. فإنه لا تخلو أمة من الأمم، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم.
والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر، وقلّ المعروف. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق.
ثم نعى عليهم أيضا إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 84]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ إخبار(1/344)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
في معنى النهي. والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء. أن لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بلزومه. فهو توكيد للإقرار، كقولك: أقر فلان، شاهدا على نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 85]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ خطاب خاص للحاضرين، فيه توبيخ شديد تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ أي تتعاونون عليهم بِالْإِثْمِ وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم وَالْعُدْوانِ وهو التجاوز في الظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم أُسارى بضم الهمزة، وفتح السين، والألف بعدها. وقرأ حمزة (أسرى) بفتح الهمزة، وسكون السين كقتلى، جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو القدّ، وهو ما يقدّ أي يقطع من السير تُفادُوهُمْ بضم التاء وفتح الفاء.
وقرئ تفدوهم بفتح التاء وسكون الفاء، أي تخلصوهم بالمال من الفداء. وهو الفكاك بعوض وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ الجملة حال من الضمير في تُخْرِجُونَ أو من فَرِيقاً أو منهما. وتخصيص بيان الحرمة هاهنا بالإخراج، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق، لكونه مظنة للمساهلة في أمره، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل. ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا. وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص. وهو السرّ في تخصيص التظاهر به فيما سبق. ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ أي: التوراة وهو الموجب للمفاداة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو المحرّم للقتل والإخراج. ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى تُفادُوهُمْ وفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين(1/345)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره، والإيمان بذلك. وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك. والمراد أنكم، مع القتل والإخراج، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرما عليكم، ثم عنده تخرجونه من الأسر.
قال أبو مسلم: والمفسرون، إنما أتوا من جهة قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل عليهم. والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتب وكفرتم ببعض.
وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه.
والآخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك. إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب.
لأن عود قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية. أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات. أفاده الرازيّ. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض. أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى إِلَّا خِزْيٌ ذلّ وهوان مع الفضيحة. والتنكير للتفخيم. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وقد فعل سبحانه ذلك، فقتلت بنو قريظة وأجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ يعني النار وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 86]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي آثروا الْحَياةَ الدُّنْيا على خساستها. واستبدلوها بِالْآخِرَةِ مع نفاستها. فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ في واحدة من الدارين. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في المدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عبّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، حلفاء الخزرج، وبنو نضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانوا، إذا كانت بين الأوس والخزرج(1/346)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
حرب، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه. فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، ويسفكون دماءهم، وبأيديهم التوراة. يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، فإذا وضعت الحرب أوزارها وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم. فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم. فيقال: لم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذلّ حلفاؤنا. فلذلك حين عيرهم عز وجل فقال:
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم.
وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا. هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس. ورواه أيضا عن السدّيّ. فليحقق تصحيح هذه القصة.
وفي الآية تفسير آخر. أي لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكّين أو خنق أو بارتكاب ما يوجب ذلك. كالارتداد والزنى بعد الإحصان. وقتل النفس بغير الحق نحو ذلك. ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم. أو: لا تفسدوا فتكونوا سببا لإخراجكم أنفسكم. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم. وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به. والمراد بالكتاب التوراة. وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يقال: قفّاه به أتبعه إياه، من التقفية وهي متابعة شيء شيئا. كأنه يتلو قفاه، وقفا الصورة منها، خلفها المقابل للوجه. والمعنى لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى، ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود. وَآتَيْنا عِيسَى اسم معرّب أصله يسوع. لفظة يونانية بمعنى مخلص. ومثله يشوع، بالمعجمة، في اللغة العبرانية ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ(1/347)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل. كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وَأَيَّدْناهُ أي قويناه على ذلك كله بِرُوحِ الْقُدُسِ بالروح المقدسة كما تقول: حاتم الجود ورجل صدق. وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه وميزه بها عن غيره ممن خلق. قال تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] ، ولذا كان له، عليه الصلاة والسلام، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى. وعن الحسن البصري: القدس هو الله. وروحه جبريل. والإضافة للتشريف. والمعنى أعنّاه بجبريل. قال الرازيّ: والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102] ، والله أعلم.
وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام، ببيان حقيته وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ من الحق، أي لا تحبه. من هوى كفرح، إذا أحب اسْتَكْبَرْتُمْ عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى فَفَرِيقاً منهم كَذَّبْتُمْ إذ لم تنل أيديكم مضرّته وَفَرِيقاً آخر منهم تَقْتُلُونَ غير مكتفين بتكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
وَقالُوا بيان لنوع آخر من مخازيهم. والقائلون المعاصرون للنبيّ عليه السلام قُلُوبُنا غُلْفٌ هذا كقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] ، أي هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها. فلا تفقهه.
مستعار من الأغلف الذي لم يختن بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق. وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم. وهذا كما قال في سورة النساء: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155] . وقوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ «ما» مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون. وهو إيمانهم ببعض الكتاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة. وصفه(1/348)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
بالهدى. وتنكيره للتفخيم. ونعته بقوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ للتشريف مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة. وجواب «لما» محذوف دل عليه جواب «لما» الثانية. وعليه، فقوله تعالى: وَكانُوا إلخ.. جملة معطوفة على الشرطية، عطف القصة على القصة. وقيل: جوابها كفروا. ولمّا الثانية تكرار للأولى، فلا تحتاج إلى جواب.
وقيل: كفروا جواب للأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد. وعلى الوجهين فجملة قوله وَكانُوا مِنْ قَبْلُ أي قبل مجيئه يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم. والاستفتاح: الاستنصار أي طلب النصر، أي يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزا بهم على ما تقدم فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا صحته وصدقه. كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ، وهو انتصارهم على المشركين وحصول العزة لهم مع المؤمنين. ولكن كَفَرُوا بِهِ أي امتنعوا من الإيمان به خوفا من زوال رئاستهم وأموالهم. وأصرّوا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته. ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة إسلامه «1» : يا معشر اليهود اتقوا الله. فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق. رواه البخاريّ في الهجرة. وروى أيضا أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ. فلما أجابه عنها قال: أشهد أنك رسول الله. وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97] الآية إن شاء الله تعالى. وقوله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ اللام فيه للعهد أي عليهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه. أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليّا. إذ الكلام فيهم. وأيّا ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى:
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «ما» نكرة موصوفة بما بعدها، منصوبة على التمييز، مفسرة لفاعل بئس. أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها، فرضوا به
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة البقرة، 6 باب قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.(1/349)
وعدلوا إليه. والمخصوص بالذم قوله تعالى: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته بَغْياً حسدا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ لأن ينزل، أو على أن ينزل. أي حسدوه على أن ينزل الله مِنْ فَضْلِهِ الذي هو الوحي عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي يشاؤه ويصطفيه للرسالة فَباؤُ بِغَضَبٍ أي رجعوا لأجل ذلك بغضب، في حسدهم لهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى كفروا به عَلى غَضَبٍ كانوا استحقوه قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم من أجل تحريفهم الكلم، وتضييعهم بعض أحكام التوراة، وكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال الرازيّ: إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.
قلت:
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: «اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله» «1»
. والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة. انظر الجامع الصغير.
ويحتمل المعنى. فصاروا أحقاء بغضب مترادف، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور، بل المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر، وإن كان واحدا، إلا أنه عظيم. والله أعلم.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها. وليس غضبه كغضبنا. كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته. وما قيل: إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلا بها. كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين. فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه. وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه. كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» «2»
فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ. وهذا يتبيّن بقاعدة: وهي أن كثيرا من الناس يتوهم، في بعض
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله، ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أخنى (أخنع) الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك»
. (2) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، 16- باب فضل صلاة العصر.(1/350)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين. ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: أحدها كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين. وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطّله فبقيت النصوص معطلة. عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جناية على النصوص، وظنه السّيئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما، من إثبات صفات الله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى. الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل.
فيكون معطّلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات وصفات المعدومات. فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب. ومثّله بالمنقوصات والمعدومات. وعطّل النصوص عما دلت عليه من الصفات. وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات.
فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل. سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا. أفاده الإمام ابن تيمية. عليه الرحمة، في القاعدة التدمرية.
وَلِلْكافِرِينَ أي لهم. والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم عَذابٌ مُهِينٌ يراد به إهانتهم. أي إذلالهم. فإن كفرهم، لما كان سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] أي صاغرين حقيرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدّقوه واتبعوه قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التوراة، ولا نقرّ إلا بها وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ حال من ضمير «قالوا» بتقدير مبتدأ. أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ منها غير مخالف له. وفيه ردّ لمقالتهم. لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها قُلْ تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم صادقين في دعواكم(1/351)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم. قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله.
فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين، على طريق التغليب، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم.
ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه. فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك. وهو في النّسخ الموجودة بين أظهرهم الآن. وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى، وبحضرة هارون عليهما السلام. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ من الآيات كفلق البحر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ معبودا من دون الله مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل. كما قال تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الأعراف: 148] وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي بعبادته.
واضعين لها في غير موضعها. أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى. أو هو اعتراض.
أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)(1/352)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ على الإيمان والطاعة. وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قائلين خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي ما أمرتم به في التوراة بِقُوَّةٍ بجد وَاسْمَعُوا أطيعوا قالُوا سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك. وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة.
قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى: سمعوه فتلقوه بالعصيان. فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه: كقوله تعالى أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حبّه على حذف المضاف. وإقامة المضاف مقامه للمبالغة. أو العجل مجاز عن صورته. فلا يحتاج إلى حذف المضاف. وعلى كلّ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ- أي تداخله فيه- أو من إشراب الماء- أي تداخله أعماق البدن- والجامع السراية في كل جزء. وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب. ثم بيّن بقوله فِي قُلُوبِهِمُ للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو: وأشرب قلوبهم العجل. بِكُفْرِهِمْ بسبب كفرهم قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كما زعمتم، بالتوراة. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87] وكذا إضافة الإيمان إليهم. وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قدح في صحة دعواهم. فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة. فهو غاية الاستهزاء.
وحاصل الكلام: إن كنتم مؤمنين بها عاملين، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها. وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا. فجواب الشرط محذوف، كما ترى، لدلالة ما سبق عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 94]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)
قُلْ كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم. وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة. أي سالمة لكم، خاصة بكم، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً(1/353)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
[البقرة: 111] . مِنْ دُونِ النَّاسِ اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فسلوا الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت. والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب. والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجّة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب. وثمّ تفسير آخر للتمني بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت. وإليه ذهب ابن جرير. والأول أقرب إلى موافقة اللفظ. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 95]
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب. وكان كما أخبر به.
كقوله وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] . بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما أسلفوا من أنواع العصيان. واليد مجاز عن النفس. عبّر بها عنها، لأنها من بين جوارح الإنسان، مناط عامة صنائعه. ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها. ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي بهم. تذييل للتهديد. والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن سواهم. ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة: 6- 7] .
وقد تلطف الغزاليّ في توجيه الإتيان ب «لن» هنا و «لا» في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة. فلما كانت الدعوى الأولى أعظم، لا جرم بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ «لن» لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ «لا» لأنه ليس في نهاية القوة، في إفادة معنى النفي. والله أعلم.
ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله:(1/354)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي: على الحياة. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على ما قبله بحسب المعنى، كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. وإفرادهم بالذكر، مع دخولهم في الناس، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص. للمبالغة في توبيخ اليهود. فإن حرصهم، وهم معترفون بالجزاء، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار. ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه، أي وأحرص من الذين أشركوا.
وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله: عَلى حَياةٍ تقديره وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ناس يود أحدهم، على حذف الموصوف، وقول أبو مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، ثم فسر هذه المحبة بقوله: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ- فلا يخفى بعده. لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد:
ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم: إن الدار الآخرة لنا، لا لغيرنا والله أعلم.
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ بيان لزيادة حرصهم، على طريق الاستئناف.
ولَوْ مصدرية، بمعنى «أن» مؤوّل ما بعدها بمصدر، مفعول يود. أي يود أحدهم تعمير ألف سنة وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما حجازية، والضمير العائد على أحدهم اسمها، وبمزحزحه خبرها، والباء زائدة، وأن يعمر فاعل مزحزحه، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب، تعميره. قال القاضي:(1/355)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير، ولو قال تعالى: وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فسوف يجازيهم عليه.
وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللّغة بمعنى العليم لا يخفى فساده، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة. نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد، ولا ضرورة إليه هنا. ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى، فلذا حمل هذا البصر على العلم- هو من باب قياس الغائب على الشاهد، وهو بديهيّ البطلان. قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب الكافية الشافية.
وهو البصير يرى دبيب النملة السّوداء تحت الصخر والصّوّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ... ويرى عروق بياضها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها ... ويرى، كذاك، تقلّب الأجفان
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ.
روى البخاريّ في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال «1» : سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّي سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبيّ. فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفا» ، قال:
جبريل؟ قال «نعم» قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ. «أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنّة، فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة البقرة، باب قوله مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.(1/356)
الرجل ماء المرأة، نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أيّ رجل عبد الله فيكم» ؟
قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام» ؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرنا. وانتقصوه.
قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال «1» : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبيّ. وساق نحوا مما تقدم. وتتمته قالوا: أنت الآن، فحدثنا من وليّك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: فإن ولي جبريل، ولم يبعث الله نبيّا قط، إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك. ولو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما منعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدوّنا، فأنزل الله عز وجل قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ إلى قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فعندها باؤوا بغضب على غضب.
وفي رواية للإمام أحمد والترمذيّ والنسائيّ في القصة: فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب، عدونا. لو قلت «ميكائيل» الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان! فأنزل الله تعالى قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ إلى آخر الآية.
ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال: نزل عمر الرّوحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلّون إليها. فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى هاهنا.
قال فكره ذلك، وقال: أيما؟ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه. ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم، قالوا: يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال قلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال، ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند جزء أول، حديث رقم 2514.(1/357)
ابن الخطاب! ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا. قال: فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظّم عليكم فأجيبوه. قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أمّا إذ نشدتنا به. فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت ويحكم، إذا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوّا من الملائكة وسلما من الملائكة. وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم، ومن سلمكم. قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار، والتشديد والعذاب، ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره، قال: قلت: فو الله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلّى الله عليه وسلّم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان. فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن؟
فقرأ عليّ قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ حتى قرأ الآيات.
قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك بالخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر.
ورواه مختصرا ابن أبي حاتم أيضا، وفيه انقطاع، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه. كذا قاله الحافظ ابن كثير، وساقه أيضا الواحديّ، وزاد في آخره:
قال عمر: فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر.
قال العلامة البقاعيّ: وقد روى هذا الحديث أيضا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبيّ، عن عمر رضي الله عنه. قال شيخنا البوصيريّ: وهو مرسل صحيح الإسناد، انتهى.
وثمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره، لا نطوّل كتابنا بسردها، ومرجعها واحد. فإن قيل: بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف. فالجواب: لا منافاة، لأن قراءته صلّى الله عليه وسلّم لها في محاورة عبد الله بن سلام، ردّا لقول اليهود، لا يستلزم نزولها حينئذ. فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف(1/358)
من الروايات. فإن طرقها يقوي بعضها بعضا، وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قال له عبد الله بن سلام: إن جبريل عدو لليهود، تلا عليه الآية، مذكّرا له سبب نزولها- كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ في «الإتقان» حيث قال (تنبيه) قد يكون في إحدى القصتين، (فتلا) فيهم الراوي، فيقول (فينزل) . وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه «أصول التفسير» وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون: نزلت الآية في كذا وكذا، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها. سواء تقدمت القصة أو تأخرت. إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا. استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها، والله أعلم.
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا. وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية. انتهى.
وقوله تعالى لِجِبْرِيلَ قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز، وبفتح الجيم بدونها أيضا، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها. قال ابن جنيّ: العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه.
وقوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ تعليل لجواب الشرط قائم مقامه، والبارز الأول لجبريل عليه السلام، والثاني للقرآن، أضمر من غير سبق ذكر، إيذانا بفخامة شأنه، واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته، لا سيما عند ذكر شيء من صفاته. وقوله عَلى قَلْبِكَ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحي، فإنه القابل الأول له، إن أريد به الروح. ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو، وهذا كقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193- 194] ، وكان حق الكلام أن يقال (على قلبي) لأنه المطابق لقل، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله. وأنه أمر بإبلاغه. وقوله بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره. وقوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة. وقوله وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة، كما قال تعالى قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت: 44] الآية. وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] ، وفيه رد على اليهود، حيث قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة(1/359)
كما تقدم، فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا. فإن قيل: من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب، فكيف استقام قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جزاء للشرط؟ أجيب بأن قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ تعليل لجواب الشرط، كما أسلفنا. والمعنى: من عادى جبريل من أهل الكتاب، فلا وجه لمعاداته، بل يجب عليه محبته، فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم. فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه، في إنزاله ما ينفعهم، ويصحح المنزل عليهم. وقيل: الجواب محذوف تقديره «فليمت غيظا» . وعليه فلا يكون فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ نائبا عنه. ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرا عن قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة، كأنه قيل: من عاداه، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا.
قال الرضى: كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام، قال الله تعالى فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34] ، وقيل تقديره: فهو عدو لي وأنا عدوه، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، وهي قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر. وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه.
وقد روى البخاريّ في صحيحه، عن أبي هريرة حديثا قدسيا «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» «1» .
وصدّر الكلام بذكر الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا. وقدم الملائكة على الرسل، كما قدم الله على الجميع، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي، ونزوله بتنزيل الملائكة، وتنزيلهم لها بأمر الله، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما، والدلالة على فضلهما، وإنهما، وإن كانا من الملائكة، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة، تنزيلا للتغاير الوصفيّ، منزلة التغاير الذاتيّ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع، إذ
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الرقاق، باب التواضع ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله قال: من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه. ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته
. [.....](1/360)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما.
ووضع «الكافرين» موضع «لهم» ، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وقد قرئ في السبع «ميكال» كميزان، و «ميكائل» بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و «ميكائيل» بالهمزة والياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أي أنزلنا إليك علامات واضحات دالات على نبوتك. وتلك الآيات هي ما حواه القرآن من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات البينات التي وصفت، من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدميّ. وحمل الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة. لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل، كانت أخص بالقرآن. وقوله وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أي المتمردون من الكفرة، واللام للعهد، أي الفاسقون المعهودون، وهم اليهود. أو للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 100]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام، أي كفروا بالآيات بالبينات، أَوَكُلَّما عاهَدُوا إلخ. أو أينكرون فسقهم وكلما إلخ، وقيل: الواو زائدة، وقيل هي «أو» التي لأحد الشيئين. حركت بالفتح. وقد قرئ شاذا بسكونها. فتكون بمعنى بل.
دلت عليه القرينة. أعني قوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ. قال ابن: جنيّ: «أو» هذه هي التي بمعنى «أم» المنقطعة، وكلتاهما بمعنى «بل» -(1/361)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
موجود في الكلام كثيرا. أنشد الفراء لذي الرمة:
بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى ... وصورتها. أو أنت في العين أملح
وكذا قال في قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وعلى الوجه الأول، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه، لأن مثل ذلك، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت. ودل بقوله أَوَكُلَّما عاهَدُوا على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه. بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم. فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم. على ما بيّنه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال. لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
قال العلامة: واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم، ومن آبائهم، فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يفوا الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [الأنفال: 56] ، والنبذ الرمي بالذمام، ورفضه. وإسناده إلى فريق منهم، لأن منهم من لم ينبذه. وفي قوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون. قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 101]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ تصريح بما طوى قبل. فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] الآية، فتنكير رسول للتفخيم. والجار بعده متعلق بجاء، أو بمحذوف وقع صفة لرسول، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وقوله كِتابَ اللَّهِ يعني التوراة، لأنهم بكفرهم برسول الله، المصدق لما معهم، كافرون بها، نابذون لها. وقيل كِتابَ اللَّهِ القرآن نبذوه(1/362)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول. وقوله وَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل لتركهم وإعراضهم عنه، مثّل بما يرمي به وراء الظهر استغناء عنه، وقلة التفاوت إليه. وقوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أي نبذوه وراء ظهورهم، مشبّهين بمن لا يعلمه. فإن أريد بهم أحبارهم، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم. ففيه إيذان بأن علمهم به رصين، لكنهم يتجاهلون. أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو لا يعلمونه أصلا، كما إذا أريد بهم الكل. وفي هذين الوجهين، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة. وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن، فالمراد بالعلم المنفيّ في كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ هو العلم بأنه كتاب الله، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم. وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر. وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه، والصد عن سبيل الحق، وابتغائهم إياها عوجا وتَتْلُوا بمعنى تقصّ وتحدث. من التلاوة، وهي القراءة. أو بمعنى تكذب وتختلق، وهو قول أبي مسلم، قال: يقال تلا عليه، إذا(1/363)
كذب، وتلا عنه إذا صدق. وهكذا قال الراغب في تفسيره: تلا عليه كذب، نحو روى عليه، وقال عليه وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمران: 75] . وقال: الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود، وهي منطوية على أمرين: ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه، وتخرصوه عليه. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبني لها المعابد، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث. فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفري، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين، يعني بلا إلهام، كما في «إظهار الحق» .
والمراد بالشياطين شياطين الإنس، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء، الدعاة إلى الباطل. وقوله عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه. وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه، وتكذيب لمن تقولها، وقال كثيرون:
هذا تبرئة من السحر، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه. وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى.
والمعنى الأول أصرح وأوضح. وقوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ عنى بالشياطين من ذكرناهم قبل وهم خبثاء الإنس وأشرارهم. كما في قوله تعالى وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] وقوله شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الأنعام: 112] والذي يعيّن هذا المعنى قوله تَتْلُوا لأن تلاوة شياطين الجن، لا يسمعها أحد. ومعنى «تتلو» تقص كما تقدم. وقوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعيّن هذا المعنى أيضا، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس. والمراد بقوله كَفَرُوا كفرهم بآيات الله المنزلة، أو عبادتهم غيره تعالى، أو كفرهم باستعمال السحر والشغودة، تعمية على الحق، وتغشية للبصائر. وجملة قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ حالية من ضمير كَفَرُوا، أو خبر ثان ل لكِنَّ، أو مستأنفة. هذا على تقدير كون الضمير للشياطين. وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل اتَّبَعُوا فهي إما حال منه أو استئنافية. وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما(1/364)
هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
. اعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوها كثيرة، وأقوالا عديدة، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخبار بين نقلة الغث والسمين، ومنهم من وقف مع ظاهرها البحث وتمحّل لما اعترضه، بما المعنى الصحيح في غنى عنه. ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير وردّ آخرها على أولها، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام. إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها.
والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل- وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات- وكانا يعلمان الناس السحر. وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله. وبلغ مكر هذين الرجلين، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك، أتشكر أم تكفر، وننصح لك أن لا تكفر. يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير. كما يفعل ذلك دجاجة هذا الزمان، قائلين لم يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم: نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء. ولليهود في ذلك خرافات كثيرة. حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله. وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس. فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء، وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه، فقال يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الآية، ف «ما» هنا نافية، على أصح الأقوال، ولفظ «الملكين» هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم، وكما يرد في كلام المسلم، في الرد على المسيحيين، ذكر تجسد الإله وصلبه، وإن كان لا يعتقد ذلك. وقوله تعالى:
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ من قبيل التمثيل، وإظهار الأمر في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل، وطرق الإفساد، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع: كالمرء وزوجه. والخلاصة: أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا: أن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه. وزعموا أنه كفر، وهو لم يكفر.(1/365)
ولكن شياطينهم هم الذين كفروا، وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت، اللذين سمّوهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير، ويحذرانهم من الكفر، وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين، ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا المقام كله للذم، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت. والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله، غير الوحي إلى الأنبياء، ونص نصّا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] ، وقال منكرا على من طلب إنزال الملك وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] ، وقال في سورة الفرقان وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً- إلى قوله- فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: 7- 9] .
وللقصاص في هاروت وماروت في أحاديث عجيبة. فزعموا أنهما كان ملكين من الملائكة، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض. فأوحى الله إليهما: إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني، فقالا: يا رب، لو ابتليتنا لم نفعل، فجرّبنا.
فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى «الزهرة» فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر، وقتلا النفس وسجدا للصّنم، وعلماها الاسم الأعظم، الذي كانا به يعرجان إلى السماء، فتكلمت المرأة بذلك الاسم، وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة. ثم إن الله تعالى عرّف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا، ثم خيّرهما بين عذاب الآخرة آجلا، وبين عذاب الدنيا عاجلا، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة، وهما يعلّمان الناس السحر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة.
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم. ولم يقل بها القرآن قط، وإنما ذكرها التلمود، كما يعلم من مراجعة «مدارس يدكوت» في الإصحاح الثالث والثلاثين، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين، فأخذوها منه.
قال الرازيّ في تفسيره: إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه:(1/366)
أحدها: أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما (أي لهاروت وماروت) :
لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني، فقالا: لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك، وهذا منهم تكذيب لله تعالى. وتجهيل له، وذلك من صريح الكفر.
وثانيها: أنهما خيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب، والله تعالى خيّر بينهما من أشرك به طول عمره، وبالغ في إيذاء أنبيائه.
وثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه، وهما يعاقبان.
وهكذا، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضا بوجوه:
الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزّله هو الله، وذلك غير جائز، لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك.
الثاني: أن قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يدل على أن تعليم السحر كفر. فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر. وذلك باطل.
الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى.
الرابع: إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه؟
وقد جرت عادة الله بإبطاله، كما قال في قصة موسى عليه السلام ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ [يونس: 81] انتهى.
وقد ساق الرازيّ ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية. ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب. وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه «الفصل» في بحث «عصمة الملائكة» ففيه تكلف وتمحل غريب، كما يعلم بمراجعتهما.
وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولا عن بعض المحققين. والله أعلم.
واعلم أن لفظ السحر، في عرف الشرع، مختص بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد، أفاد ذم(1/367)
فاعله، قال تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] ، يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيّهم تسعى. وقد يستعمل مقيدا: فيما يمدح ويحمد، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن أهتم: «إن من البيان لسحرا» «1»
، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، وبليغ عبارته. وبالجملة، فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع، فلا يغير حقائق الأشياء، ولا ينقل الصور. وقوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال الراغب: الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، ويقال للعلم، ومنه آذنته بكذا، ويقال للأمر الحتم. وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان:
أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته. نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم.
والثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله، والترياق في تخليصه من أذيته. فإذن الله تعالى وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: «الأشياء كلها بإذن الله وقضائه» ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه وقوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة، لما فيه من التلبيس والتمويه، وإيهام الباطل حقا، والتوصل به إلى المفاسد والشرور. وقوله سبحانه وَلا يَنْفَعُهُمْ صرح به إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر، بل هو شر بحت، وضرر محض.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا أي اليهود الذي حكيت ضلالاتهم. وقوله لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، والحق الذي أنزله. وقوله ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي نصيب، لإقباله على التمويه والكذب، واستعمال ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها. وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر، ليس من جهلهم بضرره، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى. وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي ما باعوا به حظهم الأخرويّ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم، وإنما نفى عنهم العلم بقوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسميّ بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا- لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلمهم. فجعلهم غير عالمين، لعدم عملهم بموجب علمهم. ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الأدب، 86- باب ما جاء في المتشدق في الكلام، حديث 5007.(1/368)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 103]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أي بما دعوا إليه من القرآن الحكيم وَاتَّقَوْا أي ما يؤثمهم، ومنه السحر والتمويه وقوله لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب «لو» وأصله:
لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم. فحذف الفعل وغيّر السبك إلى ما عليه النظم الكريم، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي أن ثواب الله خير. وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 104]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم راعِنا التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الحير وحفظ الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون بها ألسنتهم، ويقصدون بها الرعونة، وهي إفراط الجهالة، فنهاهم عن موافقتهم في القول، منعا للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال وَقُولُوا انْظُرْنا فأبقى المعنى وصرف اللفظ. أي أنظر إلينا. بالحذف والإيصال. أو انتظرنا. على أنه من نظره إذا انتظره، وقرئ انظرنا من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ. وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير. وراعنا على صيغة الفاعل أي قولا ذا رعن، كدارع ولابن، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسب بالرعن اتصف به وَاسْمَعُوا أي قولوا ما أمرتكم به، وامتثلوا جميع أوامري، ولا تكونوا كاليهود، حيث قالوا سمعنا وعصينا وَلِلْكافِرِينَ أي اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَذابٌ أَلِيمٌ لما اجترءوا عليه من العظيمة، وهو تذييل لما سبق، فيه وعيد شديد لهم، ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه. وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة النساء مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً(1/369)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
[النساء: 46] ، ومن ليّهم ما جاء
في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون «السام عليكم» «1»
والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نزد عليهم ب «وعليكم» ، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 105]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ بيان لشدة عداوة الكافرين من القبيلين للمؤمنين، حسدا وبغيا. ليقطع التشبه بهم. فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة.
ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و (الاختصاص) عناية تعيّن المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم.
ولمّا أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله، توصلا بذلك إلى إنكار آيات القرآن، وتأييد تأبيد التوراة، ردّ عليهم سبحانه- بعد تحقيق حقية الوحي- بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 106]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي: ما نبدّل من آية بغيرها- كنسخنا آيات التوراة بآيات
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الأدب، باب الرفق في الأمر كله. عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «مهلا يا عائشة. إن الله يحب الرفق في الأمر كله» . فقلت: يا رسول الله! ولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«قد قلت: وعليكم» .(1/370)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
القرآن- أَوْ نُنْسِها أي: نذهبها من القلوب- كما أخبر بقوله وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 13]- وقرئ (أو ننسأها) أي نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيرا من أحكام التوراة في القرآن. وعلى هذه القراءة، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أي: من المنسوخة المبدلة- كما فعل في الآيات التي شرعت في الملّة الحنيفية ما فيه اليسر، ورفع الحرج، والعنت- فكانت خيرا من تلك الآصار والأغلال. وقوله أَوْ مِثْلِها أي: مثل تلك الآيات الموحاة قبل، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره.
قال الراغب: فإن قيل: إن الذي ترك ولم ينسخ ليس مثله بل هو هو، فكيف قال «بمثلها» ؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن- وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا- يصحّ أن يقال هو هو، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته- التي هي اللفظ. ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ. ونحو ذلك أن يقال: ماء البئر هو ماء النهر- إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر- إذا اعتبر قرار الماء.
على أنّ إرادة العين بالمثل شائعة- كما في قولهم: مثلك لا يبخل- أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير. قال الراغب: أي لا تحسبنّ أنّ تغييري لحكم، حالا فحالا، وأني لم آت بالثاني في الابتداء- هو العجز، فإنّ من علم قدرته على كل شيء لا يظنّ ذلك.
وإنما تغيّر ذلك يرجع إلى مصلحة العباد، وأنّ الأليق بهم، في الوقت المتقدّم، الحكم المتقدّم. وفي الوقت المتأخّر، الحكم المتأخّر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 107]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أموركم ويدبّرها، وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ أو منسوخ. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم وَلا نَصِيرٍ ناصر يمنعكم من العذاب.
وقضيّة العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة، هو الجزم والإيقان بأنّه تعالى لا يفعل(1/371)
بهم- في أمر من أمور دينهم أو دنياهم- إلّا ما هو خير لهم، والعمل بموجبه- من الثقة به، والتوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه. من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوّة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لمجيئهما بما جاء به من عند الله بتغيير ما غيّر الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أنّ له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأنّ الخلق أهل مملكته وطاعته. عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأنّ له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عمّا يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء.
والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد، وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة.
وقد ذكر العلامة الشيخ رحمه الله الهنديّ في (إظهار الحقّ) أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل. فارجع إليها في الباب الثالث منه.
تنبيهان:
الأول: قال بعض الفضلاء: نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون أو اليهود: إنّ محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. وفي الآية ردّ عليهم بأنّ المقصود من نسخ الحكم السابق: تهيّؤ النفوس لأرقى منه. وهو معنى قوله تعالى:
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لأنّ الخالق تعالى ربّى الأمّة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها- بواسطة الفواعل الاجتماعية- إلّا في قرون عديدة. لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليّتها، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره. وهذه سنّة الخالق في الأفراد والأمم على حدّ سواء. فإنّك لو نظرت في الكائنات الحية- من أوّل الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أوّل رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان- لرأيت أن النسخ ناموس طبيعيّ محسوس في الأمور المادّية. والأدبية معا ... ! فإنّ انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافع، فشاب، فكهل، فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار- من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها- يريك بأجلى دليل: أنّ التبدّل في الكائنات ناموس طبيعيّ محقق. وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب- وهم في مبدإ أمرهم- بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقيّ الإنسانيّ، وغاية الكمال البشريّ ... ؟! وإذا كان هذا يصح، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود ... ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في(1/372)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
الوجود، فكيف يجوز على الله- وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة- وهي في دور طفوليتها- بما لا تتحمله إلّا في دور شبوبيتها وكهولتها ... ؟ وأي الأمرين أفضل: أشرعنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه- بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه- لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان..؟! أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهانها، ونسخ الوجود أحكامها- بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه ... ؟!
الثاني: أسلفنا- في مقدمة التفسير- إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، بما ينبغي مراجعته..
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَمْ هنا، إما متصلة معادلة للهمزة في أَلَمْ تَعْلَمْ أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور، قادر على الأشياء كلها، يأمر وينهى كما أراد ... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال- كلما اقترحت اليهود على موسى عليه السّلام؟ وإما منقطعة- بمعنى بل- للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك، وأمارات التأثّر من أقاويل الكفرة، إلى التحذير من ذلك. ومعنى (الهمزة) إنكار وقوع الإرادة منهم، واستبعاده. لما أن قضيّة الإيمان وازعة عنها. وتوجيه الإنكار إلى الإرادة- دون متعلّقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته. فضلا عن صدور نفسه، وقوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ أي:
يختره، ويأخذه لنفسه بِالْإِيمانِ. بمقابلته بدلا منه فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عدل عن الصراط المستقيم. جملة مستقلة مشتملة على حكم كلّي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله أَمْ تُرِيدُونَ إلخ، معطوفة عليه. ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان. فظهر وجه ذكر قوله أَمْ تُرِيدُونَ إلخ بعد قوله تعالى ما نَنْسَخْ. فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها.(1/373)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قال الراغب: فإن قيل ما فائدة قوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل، قبل، سواء السبيل، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان، ومعناه لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان. فمبدأ ذلك، الضلال عن سواء السبيل، ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام، بعد حصول ما تسكن النفس إليه، كفرا. إذ هي مؤدية إليه. كتسمية العصير خمرا. فقال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ أي يطلب تبديل الكفر، أي المعاندة التي هي مبدأ الكفر، بالإيمان أي بما حصل له من الدلالة المقتضية لسكون النفس، فقد ضل سواء السبيل.
ووجه ثالث وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل. وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه. ووجه رابع وهو أن سَواءَ السَّبِيلِ إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها. والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ أي بالإيمان المكتسب فقد أبطله، وضيّع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك.
هذا. وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة: 101] . ويرشحه قوله وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين. ورجّح الرازيّ كون الخطاب مع اليهود قال: لأن هذه السورة من أول قوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً الآية، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالإيمان. وهم بمعزل من الإيمان، إعراضهم عنه، مع تمكنهم منه، وإيثارهم للكفر عليه. كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 109]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً علة ودّ(1/374)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من صحة رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشهادة ما طابقه من التوراة فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا أي أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فينتقم منهم إذا آن أوانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 110]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ أي ثوابه عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع عنده عمل عامل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 111]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)
وَقالُوا أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى نشر لما لفّته الواو في وَقالُوا، واليهود جمع هائد، كعوذ جمع عائذ. وقرئ (إلا من كان يهوديا أو نصرانيا) . تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا. والأمانيّ جمع أمنية وهي ما يتمنى. كالأعجوبة والأضحوكة.
فإن قيل: قوله لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أمنية واحدة، فلم قال: أمانيهم؟ أجيب: بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع. وأجاب صاحب الانتصاف بأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم، جمعت. ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك، وإن كان مؤداه واحدا.
ونظيره قوله: معى جياع. فجمعوا الصفة. ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد، تأكيد لثبوتها وتمكنها. وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء: 54] فإنه جمع (قليلا) وقد كان الأصل إفراده فيقال (لشرذمة قليلة) كقوله تعالى كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ [البقرة: 249] لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها. ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد، فنقل إلى تأكيد الواحد، وإبانة زيادته على نظرائه، نقلا مجازيا بديعا، فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان. والله الموفق قُلْ(1/375)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
هاتُوا بُرْهانَكُمْ
حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم. قال الرازيّ: دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان. وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد، قال الشاعر:
من ادّعى شيئا بلا شاهد ... لا بد أن تبطل دعواه
انتهى كلام الرازيّ. وسبقه إلى ذلك الزمخشريّ حيث قال: وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين، وإن كل قول لا دليل عليه، فهو باطل غير ثابت. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 112]
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنّة مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره. وإنما عبر عن النفس بالوجه، لأنه أشرف الأعضاء، ومجمع المشاعر، وموضع السجود، ومظهر آثار الخضوع. أو المعنى: من أخلص توجهه وقصده، بحيث لا يلوي عزيمته إلى شيء غيره وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله، موافق لهديه صلّى الله عليه وسلّم، وإلا لم يقبل، ولذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» «1» رواه مسلم
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وهو عبارة عن دخول الجنة، وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات مطلوب. والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ
__________
(1) أخرجه مسلم في: الأقضية، حديث 18، عن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال....(1/376)
بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كلّ من عداه على وجه العموم. ومعنى عَلى شَيْءٍ أيّ أمر يعتد به من الدين وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال. والكتاب للجنس. أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به، أن لا يكفر بالباقي. لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته. وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا كَذلِكَ أي مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج قالَ الجهلة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا علم عندهم ولا كتاب.
كعبدة الأصنام. قالوا لأهل كل دين مِثْلَ قَوْلِهِمْ ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم، حيث نظموا أنفسهم، مع علمهم، في سلك من لا يعلم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يفصل بينهم بقضائه العدل، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: 17] وكما قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] .
قال الرازيّ: وأعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن كل طائفة تكفّر الأخرى. مع اتفاقهم على تلاوة القرآن. انتهى.
فهاهنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنّة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لمّا غلت مراحل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين،
يأبى الفتح إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف. ونهى عن الفرقة والاختلاف. فقال تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] . وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] . وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [آل عمران: 105] . وقال تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] . وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين.(1/377)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك، ولما وجّه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى، ذيّله بذم المشركين في قوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. ثم وجهه بهذه الآية أيضا للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم أيضا عنه، حين «1» ذهب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من المدينة عام الحديبية، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام، لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه، سعى في تخريبه. وأيّ خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال: 34] ، وقال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 17- 18] ، وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] ، فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر.. إلخ مصدودا عنه، مطرودا منه، فأي خراب له أعظم من ذلك، والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له. وليس المراد بعمارته. زخرفته وإقامة صورته فقط، إنّما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه
__________
(1) هذا حديث جم الفائدة عظيم القدر يعتبر من أهم الوثائق التاريخية في سيرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وقد عنى الإمام البخاريّ به عنايته بكل عظيم. فأخرجه في: الحج، باب من أشعر وقلّد بذي الحليفة ثم أحرم. وفي: الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، باب ما يجوز من الشروط في الجهاد. وفي: المغازي في ثلاثة مواضع: عن عليّ بن عبد الله. وعن عبد الله بن محمد. وعن إسحاق. وإن أطول طريق له هو الذي أخرجه في: الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الجهاد، وقد استغرق سرده ست صفحات من الصحيح.(1/378)
فيه ورفعه عن الدنس والشرك. وإنما أوقع المنع على المساجد، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها. ولا يقال: كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصّا، كما تقول، لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ، والمنزول فيه واحد. وقوله أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذلّ لهم المشركين، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا. يخاف أن يؤخذ فيعاقب. أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام. ونادى فيهم عام حجّ أبو بكر رضي الله عنه «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» . فحج النبي صلّى الله عليه وسلّم من العام الثاني ظاهرا على المسجد الحرام، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام. وهذا هو الخزي لهم في الدنيا، المشار إليه بقوله تعالى لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين صدّوا عنه وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه، من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله، والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود، تبعا للسابق واللاحق، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوّهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم، وقتل وسبى منهم وأسرهم وبقوا في الأسر البابليّ سبعين سنة، كل ذلك كان برفضهم كتاب الله والعمل بشريعته. وفي قوله تعالى: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدوّ ومذلة لصقت بهم. وهو وجه وجيه. لأن لفظ «سعى» يرشد إلى ذلك. كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى، حينما تمكنت سلطتهم انتقاما من أعدائهم اليهود.
روى ابن جرير عن مجاهد، قال في الآية: هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى. ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابليّ المجوسيّ على تخريب بيت المقدس. وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم، لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام والإرشاد إلى سبل السلام.
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فيما
رواه الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: اللهم أحسن عاقبتنا في(1/379)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيّه، وهو بسر بن أرطاة (ويقال ابن أبي أرطاة) حديث سواه، وسوى حديث: لا تقطع الأيدي في الغزو.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق، المتسبب عنه سعة علمه. وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نظير قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرحمن: 33] ، وكقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] وقوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] ، وقوله: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر: 7] ، أي عمّ كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوّه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 116]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ، بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يريد الذين قالوا المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله. فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم: إنّ لله ولدا. فقال سُبْحانَهُ أي تقدس وتنزه عما زعموا تنزها بليغا. وكلمة بَلْ للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات. أي ليس الأمر كما زعموا، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة، والتنوين في كُلٌّ عوض عن المضاف إليه. أي كل ما فيهما، كائنا ما كان من أولي العلم وغيرهم لَهُ قانِتُونَ منقادون، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره(1/380)
ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء. ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.
قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك. وبيانها: هو أن لكل موجود في العالم، مخلوقا طبيعيا، أو معمولا صناعيا، غرضا وكمالا أوجد لأجله. وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال، والرّجل للتناول، لكن ليس على التمام. والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه، لمّا لم يجعل الله له سبيلا إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذرا لحفظ نوعه. ويقوي ذلك، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذرا واستخلافا، لمّا لم يجعل لها فناء النبات والحيوان. ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى. ولهذا قال سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد. ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، وذلك لما تقدم، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه- بيّن تعالى بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سدّ لفقره، فصار في قوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دلالة ثانية. ثم زاد حجة بقوله قانِتُونَ وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72] ، بيّن أن كل ما في السموات والأرض، مع كونه ملكا له، قانت أيضا، إما طائعا، وإما كارها، وإما مسخرا. كقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد: 15] ، وقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة.
ثم قال الراغب: إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟
قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة: كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي مخدومه. وكانوا يقولون للملائكة: آلهة.
كما قالت العرب للشمس: إلاهة. وكانوا يقصدون معنى صحيحا كما يقصد(1/381)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
علماؤنا بقولهم: الله محب ومحبوب، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ. كما يقال للسلطان: الملك. وقول الناس: رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله، وأن عيسى كان يقول: أنا ذاهب إلى أبي. ونحو ذلك من الألفاظ. ثم تصور الجهلة منهم، بأخرة، معنى الولادة الطبيعية. فصار ذلك منهيا عن التفوه به في شرعنا، تنزها عن هذا الاعتقاد، حتى صار إطلاقه، وإن قصد به ما قصده هؤلاء، قرين الكفر، كلام الراغب رحمه الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق. وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت. ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة:
مبتدع، لأنه يأتي في دين الإسلام، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب. وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم. وتقرير الحجة: إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها. فلا يبعد أن يوجد أحدا بلا أب، أو يعلم بلا واسطة بشر. وقال الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة: شرحها: إن الأب هو عنصر للابن. منه تكوّن. والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا. وقوله تعالى: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي إذا أراد أمرا. والقضاء إنفاذ المقدّر. والمقدر ما حدّ من مطلق المعلوم. قال الراغب: القضاء إتمام الشيء قولا أو فعلا، فمن القول آية وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] ، وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء: 4] ، ومن الفعل قوله فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] وقضى فلان دينه، وقضى نحبه، وانقضى الأمر. (ثم قال) ونبه بقوله وَإِذا قَضى أَمْراً على حجة خامسة وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب. حالا بعد حال. وهو إذا أراد شيئا، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد ب إِذا حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان. ولم يرد أيضا ب كُنْ حقيقة اللفظ، ولا بالفاء التعقيب الزمانيّ. بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه.
وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل، والأمر لكونه منطويا على اللفظ والفعل،(1/382)
والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجادا، ولفظ كُنْ لعموم معناه واختصار لفظه، ثم قال فَيَكُونُ تنبيها لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده، وكُنْ فَيَكُونُ وإن كان مخرجها مخرج شيئين، أحدهما مبني على الآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد. انتهى.
والذين ذهبوا إلى أن المراد ب كُنْ حقيقة اللفظ، ورد عليهم سؤال مشهور، وهو: إن كُنْ لفظ أمر، والأمر لا يكون إلا لموجود. فبعض أجاب بأنه أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده. وبعض قال: هو أمر لمعلوم له، وذلك في حكم الموجود وإن كان معدوم الذات. وبعض قال: هو أمر للمعدوم. قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود. ولهم أجوبة أكثر تكلفا وتمحلا.
وقد سئل شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب ب كُنْ موجودا، فتحصيل الحاصل محال. وإن كان معدوما، فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ فأجاب بقوله: هذه المسألة مبنية على أصلين:
أحدهما الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب، بل هو الذي يكوّن المخاطب به، ويخلقه بدون فعل من المخاطب، أو قدرة أو إرادة أو وجود له. وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة. وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته. إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس. هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده. وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقيّ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة؟. والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة.
والأصل الثاني أن المعدوم في حال عدمه، هل هو شيء أم لا؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة، وأن وجودها زائد على حقيقتها. وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة. والذي عليه جماهير الناس، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة، والآخر وجوده الزائد على حقيقته. فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات. فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له(1/383)
سبحانه وتعالى. ولكن في هؤلاء من يقول: المعدوم ليس بشيء أصلا، وإن سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم، كان مجازا. ومنهم من يقول: لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات. وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت. كما فرق من قال: المعدوم شيء. ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع، كما فرق أولئك. إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن. وعمدة من جعله شيئا، إنما هو لأنه ثابت في العلم، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه، وغير ذلك. قالوا: وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض.
فإن خصّ الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العينيّ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلميّ، زالت الشبهة في هذا الباب.
وقوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقيل توجيه هذا الخطاب إليه.
وبذلك كان مقدرا مقضيا. فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء.
كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» «1»
. قال: وعرشه على الماء.
وفي صحيح البخاريّ عن عمران بن حصين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض» «2» .
وفي سنن أبي داود «3» وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن أول ما خلق الله القلم، فقال
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: القدر، حديث 16.
(2)
أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، 1- باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. ونصه: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعقلت ناقتي بالباب. فأتاه ناس من بني تميم. فقال «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا. مرتين. ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن. فقال «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم» فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر؟ قال «كان الله ولم يكن شيء غيره. وكان عرشه على الماء. وكتب في الذكر كل شيء. وخلق السموات والأرض» . فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فو الله! لوددت أني كنت تركتها.
(3) أخرجه أبو داود في: السنة، 16- باب في القدر، حديث 4700.(1/384)
له: اكتب قال: ربّ، وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه، مكتوبا، فهو شيء باعتبار وجوده العلميّ الكلاميّ الكتابيّ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العينيّ ليس ثابتا في الخارج. بل هو عدم محض ونفي صرف. وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات. وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيّه في قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1- 4] وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخلق وكوّن كما قال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] فالذي يقال له كُنْ هو الذي يراد، وهو، حين يراد قبل أن يخلق، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير. ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم. فإن قول السائل: إن كان المخاطب موجودا، فتحصيل الحاصل محال. يقال له هذا إذا كان موجودا في الخارج وجوده الذي هو وجوده. ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا، ولا هو في نفسه ثابت. وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة.
وقول السائل: إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ يقال له: أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل. والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل. فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل، ولذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين. بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون. وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه، فليس ذلك محالا. بل هو أمر ممكن. بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه، فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب، الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته. فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم. وإن كان عاجزا، لم يحصل. وقد يقول الإنسان: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب. فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه. والله سبحانه على كل شيء قدير. وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإن أمره إذا أراد شيئا(1/385)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
أن يقول له كن فيكون. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر. لأن ما تقدم، كلّه في حوارهم وردّ أضاليلهم، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؟ استكبارا منهم وعتوا أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ جحودا لأن يكون ما أتاهم من آيات الله، آيات، واستهانة بها كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي هذا الباطل الشنيع فقالوا: أرنا الله جهرة.
وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه كما تعنّت عليه تعنّت على من قبله تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي بالحق. لا تعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح، مكان الإتيان الذي طلبوه، ما لا يخفى من الجزالة. والمعنى انهم اقترحوا آية فذة. ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين. وإنما لم يتعرض لرد قولهم لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً بالثواب للمؤمنين وَنَذِيراً بالعقاب للكافرين وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ولا نسألك عنهم: ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك في دعوتهم؟ كقوله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد: 40] وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم، دون الكفر والتكذيب ونحوهما، وعيد شديد لهم، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم، لا يرجى منهم الإيمان.
والجحيم، من أسماء النار وتطلق على النار الشديدة التأجج، وعلى كل نار بعضها فوق بعض، وعلى كل نار عظيمة في مهواة، وعلى المكان الشديد الحر.(1/386)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق. وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز ووقوعه منه، عليه السلام قُلْ لا يتبع رسول إلا الهدى، إِنَّ هُدَى اللَّهِ أي الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى أي فليس وراءه هدى. وما تدعون إليه ليس بهدى، بل هو هوى. كما يعرب عنه قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأن دين الله هو الإسلام، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أمرك وَلا نَصِيرٍ يدفع عنك عقابه. وإنما أوثر خطابه صلّى الله عليه وسلّم ليدخل دخولا أوليّا من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكا بولايتهم، طمعا في نصرتهم.
قال الإمام الرازيّ: وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا. فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد. انتهى.
وفي فتح البيان ما نصه: وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتنصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه- ترك الدهان لتاركي العلم بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الرأي عليهما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 121]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لما ذكر تعالى، فيما تقدم، عدم رضاء اليهود والنصارى إلّا باتباع ملتهم، لدعواهم أنهم على حق وأنهم مؤمنون بما لديهم- فنّد تعالى دعواهم(1/387)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به. والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته، لما عدّد من مساوئ اليهود أولا، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد. ومن كان يعتقد ذلك فإنّى له الإيمان؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته؟
وكتابه بأمر بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبيّ يصدق ما معهم، وقد كفروا بكل ذلك. فجملة يَتْلُونَهُ حال مقدرة من «هم» أو من الْكِتابَ. وجوّز أن تكون الآية سيقت مدحا لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن. فالضمير في يَتْلُونَهُ للقرآن. فتكون كآية الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52- 54] ، وكآية قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً [الإسراء: 107] .
ومن تلاوته حق تلاوته الإيمان بأنه حق من ربهم، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته.
وعن ابن مسعود: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرمه، ويقرأه كما أنزل الله، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله. ومثله عن ابن عباس.
وقوله تعالى أُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه يُؤْمِنُونَ بِهِ محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح. بقرينة قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الضلالة بالهدى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ.
وَاتَّقُوا أي خافوا يَوْماً لا تَجْزِي أي لا تغني نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ فيه شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فداء وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يمنعون من عذاب الله. وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة.(1/388)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قال القاضي: ولما صدّر قصتهم بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها، والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأهوالها- كرر ذلك وختم به الكلام معهم، مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السّلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم- ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأميّ، الذي لم يخالط عالما قط، على ما لا يعلمه إلّا خواص العلماء. وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلّى، تعظيما لأمره وتفخيما لعليّ قدره. وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حثّ على الاقتداء به. وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد، هزّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك. ذكره البقاعيّ.
وإِذِ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذْكُرُوا خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام، من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم. أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به. فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء، في الأصل، الاختبار. أي تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه، غالبا، فعله أو تركه. والاختيار منّا لظهور ما لم نعلم. ومن الله لإظهار ما قد علم. وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفيّ في الشاهد والغائب جميعا، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى. وقوله تعالى بِكَلِماتٍ أي بشرائع: أوامر ونواه. وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على(1/389)
التعيين، إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. انتهى.
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجرة. فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله.
وابتلاؤه بالنار فصبر عليها. ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه. ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب.
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة.
ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام. من قيامه بتلك الكلمات حق القيام. وتوفيتهن أحسن الوفاء. وهذا معنى قوله تعالى فَأَتَمَّهُنَّ كقوله تعالى:
وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] والإتمام التوفية.
قالَ جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام. فكأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ قيل: قال له ربه إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي قدوة لمن بعدك.
والإمام اسم لمن يؤتم به. ولم يبعث بعده نبيّ إلا كان مأمورا باتباع ملته، وكان من ذريته. كما قال تعالى وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت: 27] قالَ أي إبراهيم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي أئمة قالَ لا يَنالُ أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك. لكن لا ينال عَهْدِي أي الذي عهدته إليك بالإمامة الظَّالِمِينَ أي منهم. لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين. ففي قوله لا يَنالُ ... إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام. وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة. كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [العنكبوت: 27] وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد. وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، ولا يجزى أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون. وقرئ (الظالمون) على أن عَهْدِي مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل.
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة. والكشاف أوسع المقال، في ذلك، هنا، وأبدع في إيراد الشواهد. كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة، ظاهرا وباطنا. على ما نقله الرازيّ عنهم وحاورهم.(1/390)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
أقول: إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ. إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك.
المراد بالعهد، تلك الإمامة المسؤول عنها. وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوّة التي حرمها الظالمون من ذريته؟ كما قال تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ولو دلت الآية على ما ادّعوا لخالفه الواقع ... فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين. فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصّة. والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل. لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم. كما قاله بعضهم. وهو أشد تمحلا.
ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع، كما ورد، ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما، والبحث في ذلك له غير هذا المقام. وبالله التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى. وهو اسم غالب للكعبة.
كالنجم للثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ مباءة مرجعا للحجاج والعمّار، يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه. ومثابة مفعلة. من «الثوب» وهو الرجوع تراميا إليه بالكلية. وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له. فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل:
محاسنه هيولى كل حسن ... ومغناطيس أفئدة الرجال
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار. ولا يقضون منه وطرا.
بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقا.
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها ... حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح! ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدما بين(1/391)
يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه! ذكر هذه الشذرة (الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد) .
وَأَمْناً موضع أمن. كقوله حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وكقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له. وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطرا، ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ، إلى أن قال رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ [إبراهيم: 40] ، ومن كونه مأمنا لمن دخله. كما بيّنّا.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض. وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي. ولم يحل لي إلا ساعة من نهار» «1»
الحديث. وقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قرئ بكسر الخاء، أمرا معترضا بين الجملتين الخبريتين. أو بتقدير: وقلنا اتخذوا. وقرئ بفتح الخاء ماضيا معطوفا على جعلنا. أي واتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله. عن مجاهد.
وعنه: هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة. ويقال: هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.
فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلّوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت الأمم شيئا مما تكلفته الأمم قبلها.
قال الراغب الأصفهانيّ: والأولى أنه الحرم كله. فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة.
أقول: كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ومصلى. إلا أنه
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: جزاء الصيد، 10- باب لا يحل القتال بمكة ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يوم افتتح مكة «لا هجرة. ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا.
فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي. ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلي خلاها» . قال العباس:
يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال «إلا الإذخر» .(1/392)
عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، ودون أن يقال مثلا: واتخذوا منه مصلى- لوجوه: (أحدها) التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد، للعناية بها، جملة على حدة. (وثانيها) التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة. وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم. (وثالثها) التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر ربانيّ لا بتشريع بشر، تمهيدا للأمر باستقباله، وإلزاما لمن جادل فيه، وهم اليهود.
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال «1» : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة. وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار. وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها.
وهكذا حتى تم جدران الكعبة. كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاريّ «2» .
قال ابن كثير: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما. ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكأن الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء البيت، وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء، فتركه هناك، ولهذا، والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف. وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه. كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الصلاة، 32- باب ما جاء في القبلة. ونصه: عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى. فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر. فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكم أن يبدله أزواجا خيرا منكن. فنزلت هذه الآية
. (2) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 9- باب يزفون. وهو حديث طويل عن ابن عباس يبتدئ فيه بذكر أن أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل. ثم مجيء إبراهيم بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه إلى مكة، وبحث الملك بعقبه عند موضع زمزم حتى ظهر الماء. ومرت بهم رفقة من جرهم فنزلوا في أسفل مكة. ثم شبّ الغلام وتعلّم العربية، ثم تزوج منهم. ثم مطالعة إبراهيم تركته، في غيبة إسماعيل، مرتين. ثم رفعهما القواعد من البيت. إلخ. وهو حديث جليل جدا.(1/393)
قال ابن كثير: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه. ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقد روى البيهقيّ بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت. ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال سفيان بن عيينة، وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله. وقال أيضا: لا أدري أكان لاصقا بها أم لا. وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقا بها. والله أعلم. وقال الحافظ الشيخ عمر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ، في كتاب «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» في حوادث سنة سبع عشرة: فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم. فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة. وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل. فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها. وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية. فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة، وكان سيلا هائلا. فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة. فهاله ذلك. وركب فزعا إلى مكة. فدخلا بعمرة في شهر رمضان. فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف. ثم قال: أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهميّ رضي الله عنه: أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك. فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر. ومن موضعه إلى زمزم بمقاط. وهي عندي في البيت. فقال له عمر: اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها. فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها.
فقيس، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن. وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. انتهى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما. وتعديته ب إِلى لأنه في معنى: تقدمنا وأوحينا أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي عن كل رجس حسيّ ومعنويّ:
فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع. أو ابنياه على طهر من الشرك بي. كما قال تعالى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26] ، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم. فاللام صلة «طهرا» على هذا. وعلى ما قبله، لام العلة. أي طهراه لأجلهم.(1/394)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وقوله تعالى لِلطَّائِفِينَ أي حوله. وعن سعيد بن جبير: يعني من أتاه من غربة وَالْعاكِفِينَ يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين. كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلّم الأمير: أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد في مسنده. وقد ثبت في الصحيح «1» أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو عزب.
وفي الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين. يعني القائمين في الصلاة.
كما قال للطائفين والقائمين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين. لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي. ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما. وجمع صفتين جمع سلامة، وأخر بين جمع تكسير لأجل المقابلة. وهو نوع من الفصاحة. وأخّر صيغة «فعول» على «فعّل» لأنها فاصلة والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له. ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي بَلَداً أي يأنس من يحل به آمِناً أي من الخوف. أي لا يرعب أهله.. وقد أجاب الله دعاءه. كقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] ، وقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67] ، إلى غير ذلك من الآيات.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التعبير، 35- باب الأمن وذهاب الروع في المنام.(1/395)
وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه.
وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» «1»
فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله. كما فعل بأصحاب الفيل. وقوله تعالى في سورة إبراهيم هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ، بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا، خلاف ما هنا، إمّا أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى المذكورة هنا، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا. كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا.
لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: 37] ، فقال، هاهنا، اجعل هذا الوادي بلدا آمنا. والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا. فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة. وإمّا أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر. فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين. وقد حكى ذلك هنا. واقتصر هناك على حكاية سؤل الأمن، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال أجعل أفئدة الناس تهوي إليه، هذا خلاصة ما حققوه.
وعندي أن السؤال والمسؤول واحد. إلا أنه تفنن في الموضعين. فحذف من كلّ ما أثبته في الآخر احتباكا. والأصل: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا. وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف. على ما فيه من إفادة المبالغة. أي بلدا كاملا في الأمن: كأنه قيل: اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك: كان هذا اليوم يوما حارا. وفي القاموس وشرحه التاج: البلد والبلدة علم على مكة، شرفها الله تعالى، تفخيما لها. كالنجم للثريا. وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة. وفي النهاية: البلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ إنما سأل إبراهيم عليه السلام ذلك، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له، فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أَهْلَهُ، بدل البعض، يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وإنما خصّهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان، واهتماما بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة. حيث ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين، في باب الإمامة، في قوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ بعد أن سأل، عليه السّلام، جعلها في ذريته، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان، وزجر عن الكفر قالَ الله تعالى
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، حديث رقم 449.(1/396)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
معلما أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض وَمَنْ كَفَرَ أي أنيله أيضا ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، فهو عطف على مفعول فعل محذوف، دلّ الكلام عليه. ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ موصولة أو شرطية. وقوله فَأُمَتِّعُهُ خبره أو جوابه. وعبر عن رزقه بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة، تخسيسا له، وأكد ذلك بقوله قَلِيلًا تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألجئه إليه كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13] ، ويَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] وقرئ فأمتعه قليلا ثم اضطره، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام، وفي قالَ ضميره وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار أو عذابها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ أي اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه. وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية، لاستحضار صورتها العجيبة والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، وقال الزجاج:
القواعد: أساطين البناء التي تعمده رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على إرادة القول أي يقولان، وترك مفعول تَقَبَّلْ ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء. كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ بضمائرنا ونياتنا. وفي صحيح البخاريّ «1» عن ابن عباس في حديث مجيء إبراهيم لتفقد إسماعيل عليهما السلام، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله قد أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال:
فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 9- باب يزفون.(1/397)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 128]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ مخلصين لك أوجهنا. من قوله: أسلم وجهه لله.
أو مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم، واستسلم، إذا خضع وأذعن. والمعنى: زدنا إخلاصا أو إذعانا لك وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا واجعل من ذريتنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ومِنْ للتبعيض، أو للتبيين، كقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: 55] ، وإنما خصّا الذرية بالدعاء، لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع وَأَرِنا مَناسِكَنا أي عرفنا متعبداتنا، جمع منسك بفتح السين وكسرها، وهو المتعبد، وشرعة العبادة. يقع على المصدر والزمان والمكان، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة، وكل ما تقرّب به إلى الله تعالى. ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه. فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع. وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك وأن الشيطان تعرض له، فرماه عليه السلام. قالوا:
وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج، حيث كان متلقّى عن الله بلا واسطة، لكونه علما على آتي يوم الدين، حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد. والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولا من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى، واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عامّا لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام. أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه؟ وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ هذا الدعاء استتابه لما فرط من التقصير. فإن العبد، وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما، عليهما السلام، لأجل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 129]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ(1/398)
وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم، أي من ذرية إبراهيم، وهم العرب من ولد إسماعيل.
وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته رسول منهم، وهو محمد، صلّى الله عليه وسلّم، إلى الناس كافة. وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم.
ومراده هذه الدعوة. وذلك فيما
خرجه الإمام أحمد «1» عن العرباض بن سارية.
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني، عند الله، لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين.
وأخرج أيضا نحوه عن أبي أمامة «2» ، قال: قلت: يا نبيّ الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام.
والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره في الناس مشهورا حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم، عليهما السلام، حيث قال إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، وهذ معنى قوله في الحديث: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ابن مريم. وقوله فيه، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام. قيل: كان منها ما رأته حين حملت به، وقصته على قومها، فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة وإرهاصا. وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم- إذا نزل بدمشق- بالمنارة الشرقية البيضاء منها.
ولهذا جاء
في الصحيحين «3»
«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/ 127. [.....]
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. 5/ 262.
(3)
أخرج البخاري في: المناقب، 3- باب حدثني محمد بن المثنى عن المغيرة بن شعبة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» . ورواه في: الاعتصام، 10- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا تزال طائفة من أمتي.. إلخ ونصه: عن المغيرة بن شعبة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» . ورواه في:
التوحيد، 29- باب قول الله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ. ونصه: عن المغيرة بن شعبة قال:
سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله» .
ورواه مسلم في: الإمارة حديث 171. ونصه: عن المغيرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون»
.(1/399)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام»
وقوله تعالى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ هي إما الفرقان الذي أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، المتلوّ عليهم، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها، ويدعوهم إليها، ويحملهم على الإيمان بها. وقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن والْحِكْمَةَ هي السنة، فسرها بها كثيرون. وعن مالك: هي معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له. وقوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الشرك، وسائر الأرجاس، كقوله:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] .
ولما ذكر عليه السلام هذه الدعوات، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، والعزيز ذو العزة وهي القوة، والشدة، والغلبة، والرفعة والْحَكِيمُ بمعنى الحاكم، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وكلاهما من أوصافه تعالى.
قال الراغب: إن قيل ما وجه الترتيب في الآية؟ قيل: أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلّى الله عليه وسلّم. وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقا بالقرآن.
وأما الترتيب، فلأن أول منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ادعاء النبوة، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة، وهي أشرف منزلة العلم، ولهذا قال وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى أي مطهّرا مستصلحا لمجاورة الله عز وجل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم، وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين، أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغرّاء إلا من سفه نفسه، أي حملها على السفه وهو الجهل.
قال الراغب: وسفه نفسه أبلغ من جهلها، وذاك أن الجهل ضربان: جهل(1/400)
بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء. وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل، وفي الباطل أنه حق. والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده. فبيّن تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لسفه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ كل نقيصة. وذاك أن من جهل نفسه، جهل أنه مصنوع، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعا، فكيف يعرف أمره ونهيه، وما حسّنه وقبّحه؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه، قال:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] ، وقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] .
وقوله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة، وتكثير الأنبياء من نسله، وإعطاء الخلة، وإظهار المناسك عليه، وجعل بيته آمنا، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الذين لهم الدرجات العلى، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح، حيث جعله من المتصفين بها، فهو حقيق بالإمامة، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه، والاهتداء بهديه. وأشدّ ذم لمن خالفه.
قال الراغب: إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا، وبالصلاح في الآخرة، والنظر يقتضي عكس ذلك. فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل، وذلك يكون في الدنيا. والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحا، فحقه أن يكون في الآخرة؟
قيل: الاصطفاء ضربان، أحدهما كما قلت، والآخر في الدنيا، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه، وهو المعنيّ بقوله شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ [النحل: 121] ، والصلاح، وإن اعتبر بأحوال الدنيا، فمجازى به في الآخرة، فبيّن تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه، ومحكوم له في الآخرة، بصلاحه في الدنيا، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا، وإنما استحقه بصلاحه فيها. ويجوز أن يكون قوله فِي الْآخِرَةِ أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين. ويجوز أنه عنى بقوله فِي الدُّنْيا حال بقائه، وفِي الْآخِرَةِ أي حال وفاته، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: ظالم، ومقتصد، وسابق، عبر عن السابق بالصالح، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح. انتهى.(1/401)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم، وإقامة المحجة عليهم، لأن أكثر ذلك معطوف على اذْكُرُوا في قوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] ولما ذكر إمامته عليه السلام، ذكر ما يؤتم به فيه، وهو سبب اصطفائه، وصلاحه، وذلك دينه، وما أوصى به بنيه، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفا عن خلف، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبه أهل الكتاب إليه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
إِذْ أي اصطفيناه لأنه قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي لربك، أي انقد له، وأخلص نفسك له، أو استقم على الإسلام، واثبت على التوحيد قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقيّ، وليس في ذلك مانع، ولا ما جاء ما يوجب تأويله. وقول بعضهم: هو تمثيل، والمعنى: أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام- ليس بشيء. ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 132]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره، إثر بيان كماله في نفسه. والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته.
والضمير في بِها إما عائد لقوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ على تأويل الكلمة والجملة. ونحوه رجوع الضمير في قوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً [الزخرف: 28] إلى قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26- 27] ، وقوله:
كَلِمَةً دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة. وإما عائد إلى الملة في قوله:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ، وأيّد الأول بكون الموصى به مطابقا في اللفظ لأسلمت، وقرب المعطوف عليه. ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا، وردّ الإضمار إلى المصرح بذكره، إذا أمكن، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم. ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة. والكل حسن. وقوله تعالى بَنِيهِ(1/402)
تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق. وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج، بعد وفاة سارة أم إسحاق، امرأة أخرى اسمها قطورة، فولدت له: زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية وَيَعْقُوبُ معطوف على إبراهيم، ومفعوله محذوف تقديره: ووصى يعقوب بنيه. لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه. ودليل ذلك قوله تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة: 133] ، كما سيأتي. وقرئ وَيَعْقُوبُ بالنصب عطفا على بنيه، ومعناه:
ووصى بها إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب. وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام، ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، وكان لإسحاق، حين ولد له يعقوب وعيسو، ستون سنة، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه. ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام: 84] ، وفي آية أخرى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [العنكبوت: 27] . يا بَنِيَّ أي قال كل من إبراهيم ويعقوب، على القراءة الأولى. وعلى الثانية: قال إبراهيم: يا بنيّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، الذي لا دين غيره عند الله تعالى فَلا أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وفي هذه الجملة إيجاز بليغ. والمراد: الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا. وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام. فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، لأنه هو المقدور. فلا يقال: صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، وذا ليس بمقصود، لأنه غير مقدور. وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام، فيعود النهي إليه، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال. فإما أن يقال: استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني، فيكون مجازا. أو يقال: استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه، فيكون كناية.
قال الزمخشريّ: ونظير ذلك قولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته. والنكتة في إدخال حرف النهي(1/403)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
عما ليس بمنهيّ عنه، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام، موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. كما تقول في الأمر: مت وأنت شهيد. فليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات. وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته، وإظهارا لفضلها على غيرها، وإنها حقيقة بأن يحثّ عليها. هذا. وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك، ولما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيدا للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أي ما كنتم حاضرين حينئذ، ف أَمْ منقطعة مقدّرة ب «بل» والهمزة، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ.
والشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر، وحضور الموت حضور مقدماته إِذْ قالَ أي يعقوب لِبَنِيهِ وهم: رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويسّاكر، وزبولون، ويوسف، وبنيامين، ودان، ونفتالي، وجاد، وأشير، وهم الأسباط الآتي ذكرهم ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لآبائك. وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه. لأن العم أب والخالة أم، لا نخراطهما في سلك واحد، وهو الأخوّة، لا تفاوت بينهما. ومنه
حديث الترمذيّ عن علي كرم الله وجهه، رفعه «عم الرجل صنو أبيه» «1»
أي لا تفاوت بينهما، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة.
وفي
__________
(1)
أخرج الترمذي في المناقب، 28- باب مناقب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: عن عليّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر، في العباس «إن عم الرجل صنو أبيه» وكان عمر تكلم في صدقته
.(1/404)
الصحيحين عن البراء، رفعه «الخالة بمنزلة الأم» «1»
،
وروى ابن سعد عن محمد بن عليّ مرسلا «الخالة والدة» .
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك، كقوله تعالى: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: 15- 16] أو على الاختصاص، أي نريد بإله آبائك إلها واحدا، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك، للتصريح بالتوحيد، ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم، بقولهم وَنَحْنُ لَهُ أي وحده لا لأب ولا غيره مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاضعون، كما قال تعالى وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: 83] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوّعت شرائعهم، واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث. منها
قوله صلّى الله عليه وسلّم «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد» «2»
وقد اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين. منها أنه تعالى لم يقل «وأمر إبراهيم بنيه» بل قال «وصاهم» ، ولفظ الوصية أوكد من الأمر، لأن الوصية عند الخوف من الموت، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، فدل على الاهتمام بالوصي به، والتمسك به. ومنها تخصيص بنيهما بذلك، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما خصّاهم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره. ومنها أنهما، عليهما السلام، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى. وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضا. إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر، عليه الرحمة.
__________
(1)
أخرج البخاري في الصلح، 6- باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان.
فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (من مكة) فتبعتهم ابنة حمزة: يا عم! يا عم! فتناولها علي فأخذ بيدها. وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك، احمليها. فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. فقال علي:
أنا أحق بها وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم لخالتها، وقال «الخالة بمنزلة الأم» ...
(2)
أخرجه البخاري في الأنبياء، 48- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء أخوة لعلّات. أمهاتهم شتى ودينهم واحد» .
وأخرجه مسلم في الفضائل، حديث رقم 143 و 144 و 145.(1/405)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين أُمَّةٌ أي جيل وجماعة قَدْ خَلَتْ أي سلفت ومضت لَها ما كَسَبَتْ في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم، لا يسألون هم عن أعمالكم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا: فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. فما اقتص عليكم أخبارهم، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه، إلا لتفعلوا ما فعلوه، فتنتفعوا. وإن أبيتم، لم تنتفعوا بأعمالهم.
قال الرازيّ: الآية دالة على بطلان التقليد، لأن قوله لَها ما كَسَبَتْ يدل على أن كسب كل واحد يختص به، ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزا، لكان كسب المتبوع نافعا للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنبّهوا على ما يلزمكم، فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق. انتهى.
ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام، والإيمان بهم، لا يسمى تقليدا، لخروجه عن حده المقرر في كتب الأصول.
ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم، بأن صاروا دعاة إلى الكفر، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
وَقالُوا أي الفريقان من أهل الكتاب كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق، لأن الحنف، محركة، يطلق على الاستقامة، ومنه قيل(1/406)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
للمائل الرّجل، أحنف. تفاؤلا بالاستقامة كم قالوا للديغ: سليم. وللمهلكة: مفازة.
ويطلق على ميل في صدر القدم، واعوجاج في الرجل، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى، المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه.
ولما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام، مع إشراكهم بقولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، قد أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضيّ عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق على توحيده تعالى، وعبادته وحده، لا شريك له.
ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمدا خاتم النبيين لدعوة الناس جميعا إلى هذا الأصل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قُولُوا أي يا أيها الذين آمنوا. وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ من الأحكام التي كانوا متعبدين بها، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة. والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم. جمع سبط وهو الحافد. سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق. وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من التوراة والإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ مما ذكر، وغيرهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون.
وقد روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «1» : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة البقرة، 11- باب قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا.(1/407)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا» .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
فَإِنْ آمَنُوا أي أهل الكتاب الذي أرادوا أن يستتبعوكم بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي بما آمنتم به على الوجه الذي فصّل. على أن المثل مقحم. وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود بما آمنتم به. وقرأ أبيّ: بالذي آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم. عكس ما قالوا: كونوا مثلنا تهتدوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان بما آمنتم به. فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء.
قال القاضي: ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية إنه شقاق. وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه، وفي استحقاق النار، فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم، وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول، مضمرون له السوء، مترصدون لإيقاعه في المحن، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به. وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم «1» وإجلاء بني النضير «2» وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أتبع وعده بالنصر والكفاية، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى. فهو يسبب لكل قول وضمير
__________
(1)
أخرج البخاري في: المغازي، 30- باب مرجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومقاتلته إياهم: عن أبي أمامة قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه يقول: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ. فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سعد. فأتى على حمار. فلما دنا من المسجد قال للأنصار «قوموا إلى سيدكم» أو «خيركم» فقال «هؤلاء نزلوا على حكمك» فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريّهم. قال «قضيت بحكم الله» وربما قال «بحكم الملك»
. (2) أخرج البخاريّ في: المغازي، 14- حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حاربت النضير وقريظة. فأجلى بني النضير وأقرّ قريظة ومنّ عليهم.
حتى حاربت قريظة. فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا بعضهم لحقوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فآمنهم وأسلموا. وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود المدينة.(1/408)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
منهم ما يردّ ضرره عليهم. فهو وعيد لهم، أو وعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أي يسمع ما تدعو به، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق. وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
صِبْغَةَ اللَّهِ مصدر مؤكد منتصب عن قوله آمَنَّا بِاللَّهِ كذا قاله سيبويه.
فهو بمثابة فعله. كأنه قيل صبغنا الله صبغة. أي صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه، ولا تغلب صبغة غيره عليها. والصبغة كالصبغ (بالكسر فيهما لغة) ما يصبغ به وتلون به الثياب. ووصف الإيمان بذلك لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر، وحلية تزيّنهم بآثاره الجميلة، ومتداخلا في قلوبهم.
كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك. ويقال: صبغ يده بالماء غمسها فيه.
وأنشد ثعلب:
دع الشر وانزل بالنجاة تحرزا ... إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وقال الراغب: الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] الآية، والمعنى بقوله عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة «1» ... الخبر. وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان التي ركب عليها، إذا اعتبرت بذاته، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ. ولما كانت اليهود والنصارى، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية، يقولون: قد صبغناه- بيّن تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق. ولا أحد أحسن صبغة منه.
(ثم قال) وقول الحسن وقتادة ومجاهد: إن الصبغة هي الدين، وقول غيرهم:
إنها الشريعة، وقول من قال: هو الختان- إشارة إلى مغزى واحد. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً الاستفهام للإنكار والنفي. أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى. لأنها صبغة
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الجنائز، 93- باب ما قيل في أولاد المشركين. ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. كمثل البهيمة تنتج البهيمة. هل ترى فيها جدعاء؟»
.(1/409)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قلب لا تزول. لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه. والجملة اعتراضيه مقررة لما في صِبْغَةَ اللَّهِ من معنى الابتهاج وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ شكرا لتلك النعمة ولسائر نعمه. فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نؤكدها بالعبادة، وهي تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية.
وهو عطف على آمنا، داخل معه تحت الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قُلْ منكرا لمحاجتهم وموبّخا لهم عليها أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له، ونحن وأنتم في العبودية له سواء وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي نحن برءاء منكم ومما تعبدون، وأنتم برءاء منا. كما قال في الآية الأخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] . وقال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20] الآية. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في العبادة والتوجه، لا نشرك به شيئا وأنتم تشركون به عزيرا والمسيح والأحبار والرهبان. ولمّا بقي من مباهتاتهم وادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم، أبطلها سبحانه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ خليل الله وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ابنيه وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وَالْأَسْباطَ أولاد يعقوب كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي على ملتهم. إما اليهودية وإما النصرانية قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي الذي له الإحاطة كلها أعلم. فلا يمكنهم أن يقولوا: نحن. وإن قالوا: الله، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك.
فبطل ما ادعوا. وثبت أنهم، عليهم السلام، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرّئين عن اليهودية والنصرانية، هذا مع أن ردّ قولهم هذا أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن(1/410)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
يكون السابق على نسبة للّاحق، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة. وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران. ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه، عليهم السلام، على دين الإسلام وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك. مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ [البقرة: 42] الآية- أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً موجودة ومودعة عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله. والاستفهام إنكار لأن يكون أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم، عليهم السلام، بالحنيفية والبراءة من الفريقين.
قال التقيّ ابن تيمية: سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى [البقرة: 159] الآية، كأنه قال: خبرا عنده، دينا عنده من الله، وبيانا عنده من الله، فإن كان قوله مِنَ اللَّهِ متعلقا ب كَتَمَ فإنه يعم كل الشهادات. وإن كان متعلقا ب عِنْدَهُ، وهو الأوجه، أو بشهادة، أو بهما، فإن الأمر في ذلك واحد. أي شهادة استقرت عنده من جهة الله.
فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء. فسمى الإخبار به شهادة.
ثم قال: وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد ووعيد شديد. أي أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه.
قال الرازيّ: هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد. ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا يخفى عليه خافية، وأنه من وراء مجازاته. إن خيرا فخير وإن شرّا فشر- لا يمضى عليه طرفة عين إلا هو حذر خائف. ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعدّ عليه الأنفاس، لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ فلا يسألون عن أعمالكم(1/411)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لهم متمسكا من جهتهم، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان. وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدّونه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض، أحمرهم وأسودهم ... أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة. فلها ما كسبت. وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم. ولا تسألون إلا عن عملكم.
قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم لا سيما في أمور دينهم.
ولهذا حكى عن الكفار قولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22] . فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة. وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن. فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه. وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ، وقوله لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] ، وقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم: كل شاة تناط برجليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها
روى البخاريّ في صحيحه «1» عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت. وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة. فداروا، كما هم، قبل البيت.
وروى مسلم «2» : عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه: صلينا مع رسول
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة البقرة، 12- باب سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ...
(2) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 12.(1/412)
الله صلّى الله عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة.
وروى الشيخان «1» ابن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن. وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. (اللفظ لمسلم) .
والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة. وفيما ذكرنا كفاية.
وقد أعلم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن فريقا من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء، جمع سفيه. وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل. قال ابو السعود: أي الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر.
انتهى. ومعنى قوله ما وَلَّاهُمْ أي أيّ شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس. ومدار الإنكار، إن كان القائلون هم اليهود، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم. وإن كان غيرهم، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه. وقد روي عن ابن عباس: أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن أنهم مشركو العرب. وعن السدّيّ أنهم المنافقون.
قال الراغب: ولا تنافي بين أقوالهم فكلّ قد عابوا، وكلّ سفهاء.
(تنبيه) ظاهر قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ أنه إخبار بقولهم المذكور.
ثم إن الإخبار قبل وقوعه. وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد. والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أردّ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخبارا عن غيب، فيكون معجزا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ جواب عن شبهتهم. وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا. فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة. بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى. وما أمر به فهو الحق يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة. كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج: 26] .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الصلاة، 32- باب ما جاء في القبلة. وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث 13.(1/413)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
وَكَذلِكَ أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي عدولا، خيارا وقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً تعليل للجعل المنوه به الذي تمّت المنة به عليهم. واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة. إما بالبصر أو بالبصيرة. قال الرازي: الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهودا، والعارف بالشيء شاهدا ومشاهدا. ثم سميت الدلالة على الشيء شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا. ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك، سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا. وبالجملة، فكل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه. انتهى.
والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. وهو، بالمعنى الثالث، من النعوت الجليلة. ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة. كما ترى في هذه الآية وفي آية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] وآية، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ [البقرة: 23] ، وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] ، ثم إن في اللام في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وجهين (الأول) إنها لام الصيرورة والعاقبة. أي فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطا أن كنتم شهداء على الناس. وهم أهل الأديان الأخر. أي بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا. مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبرا. فعرفتم حق دينهم من باطله، ووحيه من مخترعه.
يعني: وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم، وعافاكم مما ابتلى به سواكم، حيث وفقكم للمنهج السويّ وهداكم للمهيع الرضيّ. وذلك صار الرسول عليكم شهيدا بأنكم عرفتم الحق من الباطل والهدى من الضلال والنور(1/414)
من الظلمات، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته. فعظمت المنة لله عليكم إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة، علماء بعد الجهالة. ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم، فتقوم عليهم الحجة كما قامت على أولئك.
(الوجه الثاني) أن تكون اللام للتعليل، على أصلها. والمعنى: جعلناكم أمة خيارا لتكونوا شهداء على الناس، أي رقباء قوّاما عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال. كما كان الرسول شهيدا عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم. فتكون الآية نظير آية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ، وربما آثر هذا المعنى من قال: خير ما فسّر القرآن بالقرآن. لتماثل الآيتين بادئ بدء. فإن الوسط بمعنى الخيار. وقد صرح به في قوله خَيْرَ أُمَّةٍ وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية: لتكونوا شهداء لمحمد عليه السّلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي شهداء على حقية رسالته. وذلك بالدعوة إليها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها.
وبعد كتابة هذا رأيت السمرقنديّ في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه. وعبارته:
وللآية تأويل آخر وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي عدولا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ إلخ يقول: إنكم حجة على جميع من خالفكم. ورسول الله عليه السلام حجة عليكم. والشهادة في اللغة هو البيان. ولهذا سمي الشاهد بينة لأنه يبيّن حق المدعي. يعني إنكم تبينون لمن بعدكم، والنبيّ، عليه السلام، يبين لكم. انتهى.
وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني: بأسلوب آخر فقال: إن قيل: على أي وجه شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتا حكمه. وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة. ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر، وكمله ببعثة الأنبياء، وخصّ هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقوله وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، فأفادناه عليه السلام وبينه لنا- صار حجة وشاهدا أن يقولوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة: 19] .
وجعل أمته، المتخصصة بمعرفته، شهودا على سائر الناس. (إن قيل) هل أمته شهود كلهم أم بعضهم؟ (قيل) كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء. وذلك بشريطة أن(1/415)
يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهدا ومقبولا.
ولذلك قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] وعلى هذا قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] ، فالقيام بالقسط مراعاة العدالة. وهي، بالقول المجمل، ثلاث: عدالة بين الإنسان ونفسه- وعدالة بينه وبين الناس- وعدالة بينه وبين الله عز وجل. فمن رعى ذلك فقد صار عدلا شاهدا لله عز وجل. (إن قيل) فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة؟ (قيل) بل كلّ شاهد نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة. فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده وعدله ورأفته، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه وعلى من قبله ومن بعده. وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم. انتهى كلام الراغب. والخبر الذي أشار إليه
رواه البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول:
محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا» «1»
. فذلك قوله جل ذكره وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وقد روي مرفوعا عن جابر. أخرجه الطبري. وعن ثلة من التابعين من قولهم.
وأقول: قد بينا مرارا، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعا أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية، فكله يفيد أن للآية عموما يشمل ما ذكر. لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره. كما أوضحناه في المقدمة في قولهم: نزلت الآية في كذا.
وعليه، فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة، من حيث عمومها، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم، وبين ما يروى في تفسيرها. فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها، كله من باب تفسير العامّ ببعض ما يتناوله لفظه. ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات: ثم تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى. أو ثم قرأ. أو أقرأوا إن شئتم. مما يدل على أنه ذكرت الآية حجة لما أخبر به، لأنه مما يندرج فيها. فاحرص على ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، سورة البقرة، باب وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.(1/416)
تنبيهات:
(الأول) . أستدل بالآية على أن الإجماع حجة. لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة. والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها. فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله، فإجماع الأمة حق. لا تجتمع الأمة. والحمد لله، على ضلالة.
كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر. كما وصف نبيهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك في قوله الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف: 157] ، وبذلك وصف المؤمنين في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 71] ، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه. وقد جعلهم الله شهداء على الناس. وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول.
وقد ثبت في الصحيح «1» عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال «وجبت» .
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض.
وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ ... إلى آخرها.
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء، لم يشهدوا بباطل. فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء، فقد أمر به. وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه. ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض. بل زكاهم الله في شهادتهم، كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق. هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة، في الإجماع، من بعض رسائله.
(الثاني) مما يتعلق أيضا بهذا المقام، ما قاله أيضا هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عديّ بن مسافر. ونصه: فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وجعل
__________
(1) أخرجه البخاريّ: في الجنائز، 86- باب ثناء الناس على الميت. [.....](1/417)
فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة. ولهذا كان إجماعهم حجة، كما كان الكتاب والسنة حجة. ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب، ويعرضون عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، رواها عنه أهل السنن والمسانيد، كالإمام أحمد «1» ، وأبي داود «2» ، والترمذي «3» وغيرهم، أنه قال: ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة.
وفي رواية: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي. وهذه الفرقة الناجية أهل السنة. وهم وسط في النّحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل.
فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسله، وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت في النصارى ف اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] ولا جفوا عنهم، كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] ، كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ. بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتخذوهم أربابا. كما قال تعالى ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 79- 80] .
__________
(1)
أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده. 2/ 332. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»
. (2)
أخرجه أبو داود في: السنة، 1- باب شرح السنة، حديث 4596. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة. وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .
وحديث 4597: عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار. وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»
. (3)
جامع الترمذي في: الإيمان، 18- باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، والنصارى على مثل ذلك.
وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنيتين وسبعين ملة وتفترق أمتي لعى ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال «ما أنا عليه وأصحابي»
.(1/418)
ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة. كما تقوله النصارى. ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانا عظيما، حتى جعلوه، ولد غيّة، كما زعمت اليهود. بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء ويثبت. كما قالته اليهود.
كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 142] ، وبقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ [البقرة: 91] ، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاؤوا. كما يفعله النصارى. كما ذكر الله عنهم بقوله اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] .
قال عديّ بن حاتم رضي الله عنه «1» : قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم.
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر. فكما لا يخلق غيره، لا يأمر غيره. وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به. وقالوا: إن الله يحكم ما يريد. وأما المخلوق، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى، ولو كان عظيما
. وكذلك في صفات الله تعالى، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: هو فقير وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] . وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] . وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت. إلى غير ذلك. والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به. فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويرحم ويتوب على الخلق، ويثيب ويعاقب. والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى. ليس له سميّ ولا ندّ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] ، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، فإنه
__________
(1)
أخرج الترمذيّ في: التفسير، 9- سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عديّ بن حاتم قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال «يا عديّ، اطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم. ولكنهم كانوا إذا أحلوا شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه»
.(1/419)
رب العالمين، وخالق كل شيء وكل ما سواه عباد له، فقراء إليه.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم: 93- 95] ، ومن ذلك: أمر الحلال والحرام. فإن اليهود كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط. ولا شحم الثّرب (الثّرب: شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء. وجمعه ثروب) والكليتين. ولا الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما.
حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا. والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرا. وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض، ولا يجامعوها في البيوت. وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] . ولهذا قال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] . وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156- 157] .
وهذا باب يطول وصفه. وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق. فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته، وسط بين أهل التعطيل، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات. وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. من غير تحريف ولا تعطيل. ومن غير تكييف وتمثيل. وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء.
وبين المفسدين لدين الله. الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل فيعطّلون الأمر والنهي والثواب والعقاب. فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا(1/420)
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد ويقلّب قلوبهم. وإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد. ولا يعجز عن إنفاذ مراده.
وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات. ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل. وأنه مختار. ولا يسمونه مجبورا. إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره. والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله. فهو مختار مريد. والله خالقه وخالق اختياره. وهذا ليس له نظير. فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية. ويكذبون بشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وبين المرجئة الذين يقولون:
إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء. والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان.
ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية. فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله. وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة. وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ادّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وهم أيضا في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنهم، وسط بين الغالية الذين يغالون في عليّ رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيا أو إلها. وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سب عليّ وعثمان ونحوهما. ويقدحون في خلافة عليّ رضي الله عنه وإمامته.
وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط. لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان انتهى.
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها أي ما شرعنا القبلة، كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] أي ما شرعها. والَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ (جعل) أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أي في مكة تستقبلها قبل الهجرة وهي الكعبة. يعني: وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء. أو كُنْتَ عَلَيْها بمعنى صرت عليها الآن. كقوله تعالى(1/421)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] . أو بمعنى كنت على تطلّبها، أي حريصا عليه، وراغبا فيه. كما يفصح عنه قوله تعالى بعد قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة: 144] الآية.
وعلى هذه الأوجه، فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل الكعبة قبلة. أو معنى التي كُنْتَ عَلَيْها: قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس. أي إنما شرعنا لك التوجه أولا إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك، حيثما توجهت، من غيره. فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أوّلا.
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيّان ما وجهه مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع. وأصل المنقلب على عقبيه: الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه. استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير.
قال ابن جرير: قد ارتد، في محنة الله أصحاب رسوله في القبلة، رجال ممن كان قد أسلم. وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم. وقالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا؟ وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال المشركون: تحيّر محمد في دينه. فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصا للمؤمنين.
انتهى.
(لطيفة) العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم. والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية. وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى: ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [المدثر: 23] ، وكقوله كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] .
(تنبيه) قال الراغب رحمه الله: ما وجه قوله إِلَّا لِنَعْلَمَ وذلك يقتضي استفادة علم. ولم يزل، تعالى، عالما بما كان وبما يكون؟ (قيل) : إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى. ومجاز ذلك على أوجه: (الأول) أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه وحدوث العلم به. ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال، صار اللام فيه مقتضيا حدوث الفعل لا حدوث العلم. (والثاني) أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به. والله تعالى علمهم، قبل أن يتبعوه، غير تابعين. وبعد أن تبعوه علمهم تابعين. وهذا الجواب(1/422)
هو في الحقيقة الأول. لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم. (والثالث) معناه ليعلم غيرنا بنا. فنسب ذلك إلى نفسه. كقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] ، وفي موضع آخر قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] ، وقال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: 113] ، وإنما علّمه بملائكته. (والرابع) معناه لنجازي. وذلك متعارف. نحو قولك: سأعلم حسن بلائك. أي سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل. فعبّر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه (والخامس) أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علما أن يقول: تعال حتى نعلم كذا. وإنما يريد إعلام المخاطب. لكن يحله نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف. انتهى.
والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال: أما معناه عندنا: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي: من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (قال) وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس، إلى الرئيس. وما فعل بهم، إليه. نحو قولهم: فتح عمر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سبب كان منه في ذلك، وكالذي
روي في نظيره عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله جل ثناؤه: مرضت فلم يعدني عبدي.
واستقرضته فلم يقرضني» «1»
فأضاف، تعالى ذكره، الاستقراض والعيادة إلى نفسه وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.
قد حكي عن العرب سماعا: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري.
بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم. فكذلك قوله إِلَّا لِنَعْلَمَ بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
وَإِنْ كانَتْ أي التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة لَكَبِيرَةً أي ثقيلة
__________
(1)
أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث 43. ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله عز وجل يقول، يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»
.(1/423)
شاقة. لأن مفارقة الإلف، بعد طمأنينة النفس إليه، أمر شاق جدا. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ قلوبهم. فأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه. وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر، أحدث لهم شكا. كما يحصل، للذين آمنوا، إيقان وتصديق. كما قال تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ
[التوبة: 124- 125] .
وقال تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ.
وبيان أنهم يثابون على ذلك. وقد روى البخاري «1» من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء: وكان الذي مات على القبلة، قبل أن تحوّل قبل البيت، رجال قتلوا. لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] ، أي صلاتكم. وإنما عدل إلى لفظ الإيمان، الذي هو عام في الصلاة وغيرها، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه، ثم يصح عنهم، فيندرج المسؤول عنه اندراجا أوليا، ويكون الحكم كليا. وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب، ليتناول الماضيين والباقين، تغليبا لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة.
ولما انطوى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على إرادة التوجه إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود- أجابه الحق إلى ذلك بقوله:
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، 2- سورة البقرة، 12- سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... ونصه:
عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت. وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر. وصلى معه قوم. فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون. قال أشهد بالله لقد صليت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة: فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم. فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.(1/424)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي تردد وجهك وتصرّف نظرك في جهة السماء تشوفا لنزول الوحي بالتحويل.
قالوا: وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل. وهذا ألطف مما قيل: إن تقلب وجهه كناية عن دعائه، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلّى الله عليه وسلّم بالتحويل، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي. وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة، فهي متقدمة في المعنى. فإنها رأس القصة. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها. ودل على أن مرضيّه الكعبة، بفاء السبب في قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وجهته. والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد. وأما سرّ الأمر بالتولية خاصا وعاما، فقال الراغب: أما خطابه الخاص فتشريفا له وإيجابا لرغبته. وأما خطابه العام بعده، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص، عليه السلام، به. كما خص في قوله قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] ، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطر، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف. ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به. وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ قال الفخر: الضمير في قوله أَنَّهُ الْحَقُّ راجع إلى مذكور سابق. وقد تقدم ذكر الرسول، كما تقدم ذكر القبلة. فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق. فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها. ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وأنهم يعلمون أنه الحق. وهذا الاحتمال الأخير أقرب، لأنه أليق بالمساق. ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر عليه من المعجزات. ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو(1/425)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
حق. فكان هذا التحويل حقا.
قلت: وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقيّة ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم. وبيانه أن أمره تعالى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكافة من اتبعه، باستقبال الكعبة، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به. فقد جاء في الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية (ويقال الاستثناء) هكذا: وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال:
جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران.
وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم. لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء والإنجيل على عيسى في جبل سعير. لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة. وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في جبل فاران. وفاران هي مكة. لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب. ففي الأصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرّية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برّية فاران.
ولا شك أن إسماعيل، عليه السلام، كان سكناه في مكة وفيها مات وبها دفن.
وقال ابن الأثير: وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبرانيّ. له ذكر في أعلام النبوة. وألفه الأولى ليست بهمزة. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرئ بالياء والتاء. فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم. ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود والنصارى بِكُلِّ آيَةٍ أي برهان قاطع أنّ التوجه إلى الكعبة هو الحق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أي هذه التي حوّلت(1/426)
إليها. لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة. إنما هو عن مكابرة وعناد. مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هذا حسم لأطماعهم في العود إليها. أو للمقابلة. يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فلا اتفاق بين فريقيهم، مع كون الكل من بني إسرائيل.
قال الزمخشريّ: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه.
فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان. والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وفيه إراحة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من التطلع إلى هدى بعضهم.
فوائد:
الأولى: قال الراغب: إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض. وهذا صحيح.
بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا ولكن آمن بعضهم، لم يكن منافيا. وقيل: عني به أقوام مخصوصون.
الثانية: قال الراغب: في قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته، فمن المحال أن يرتد. ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق: أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول.
إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ (قيل) إن الذي يقدّر أنه معرفة، هو ظن متصور بصورة العلم. فأما أن يحصل له العلم الحقيقيّ ثم يعقبه الارتداد- فبعيد. ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة. فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد.
الثالثة: قال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، وفي بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله. بل بمشورة واجتهاد منهم. أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق. وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل. وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة.
فهم مع اليهود، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا. والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر. وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة، البتة. وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلّون إليه من حيث خرجوا.
فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلّوا إليه. فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.(1/427)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
وقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير. بمعنى: ولئن اتبعتهم، مثلا، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي المرتكبين الظلم الفاحش.
وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته، ويتبع الهوى. وتهييج وإلهاب للثبات على الحق. أفاده الزمخشريّ.
تنبيهات:
الأول: قال الراغب: حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم. ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقيق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة. وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع. وقول من قال: الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنيّ به الأمة، فلا معنى لتخصصه. فإن الله تعالى يحذر نبيه من إتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره. فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج.
حفظا لمنزلته وصيانة لمكانته. وهو كلام نفيس جدا.
(الثاني) في الآية تنويه بشأن العلم. حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم. فذلك ينبّه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
(الثالث) دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. لأن قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على ذلك. ذكره الرازيّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 146]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ أي يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معرفة لا امتراء فيها، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولادهم الناس. وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب. كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ، يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبيّ الموعود بحيث لا يلتبس عليهم. كما يعرفون أبناءهم، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم. فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية، بالمعرفة الحسيّة في أن كل منهما يقينيّ، لا اشتباه فيه.(1/428)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر. نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته.
وإني لا أدري ما كان من أمه. فقبّل عمر رأسه. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي أهل الكتاب، مع ذلك التحقق والإيقان العلميّ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي يخفونه ولا يعلنونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي الحق، أو عقاب الكتمان، أو أنهم يكتمون. قال الراغب: لم يقل يكتمونه. لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة. وزاد في ذمهم بقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فإنه ليس المرتكب ذنبا عن جهل، كمن يرتكبه عن علم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 147]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الحق من الله، لا من غيره. يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله، كالذي أنت عليه. وما لم يثبت أنه من الله، كالذي عليه أهل الكتاب، فهو الباطل. أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك. وقرأ عليّ رضي الله عنه الْحَقُّ بالنصب على الإبدال من الأول، كما في الكشاف. أو المفعولية ل يَعْلَمُونَ، كما قاله أبو البقاء. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكّين في كتمانهم الحق مع علمهم. أو في الحق الذي جاءك من ربك، وهو ما أنت عليه. ومعلوم أن الشك غير متوقع منه.
ففيه تعريض للأمّة. وقال الراغب: ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاكّ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها. وعلى ذلك قوله إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
أي لكل أمة أو لكل نبيّ قبلة أو شرعة ومنهاج وَمُوَلِّيها
وجهه. أي مائل إليها بوجهه، تابع لها. لأنها حبّبت إليه، وزيّنت له. وقال أبو معاذ:
موليها بمعنى متوليها. أي تولاها ورضيها واتبعهااسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أي ابتدروها بالمسابقة إليها. وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق. والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
قال الراغب: أي أيّ شغل تحريتم، وحيثما تصرفتم، وأي(1/429)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
معبود اتخذتم، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليهانَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تعليل لما قبله. أي هو قادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
(تنبيه) تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة. وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها. وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشريّ، ووفي بشئون الاجتماع، وأسباب العمران وذرائع الرقيّ وطرق السعادتين. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [الحج: 67] وقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] .
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبيّن عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 149]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أي ومن أيّ بلد خرجت للسفر فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت وَإِنَّهُ أي هذا الأمر لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين. ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم، كان الحال مقتضيا لمزيد تأكيد لأمرها، تعظيما لشأنها وتوهية لشبههم، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا(1/430)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره. ولتنتفي مجادلتهم لكم. كقول اليهود مثلا:
يجحد ديننا ويتبع قبلتنا! وقول غيرهم: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة.
قال الراغب: وأشار بقوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ إلى تحقيق ما قدمه. فبيّن أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها، وأنت صاحب شرع، فتغيير القبلة لك حق من ربك. (ثم قال) إن قيل: لم كرّر قوله وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ؟ قيل: حثّ بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل للإنسان، نائيا كان عنها أو دانيا منها.
وذلك مآل الاختيار والتمكن. وحثّ بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة. وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فإنهم يظهرون فجورا ولددا في ذلك، بالعناد. وهم: إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبل، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبل في «السفهاء» . وكان من قول اليهود، فيما حكاه قتادة: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قول المشركين، فيما حكاه مجاهد.: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم.
وتقدم قول المنافقين. وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا فَلا تَخْشَوْهُمْ تخافوا جدالهم وَاخْشَوْنِي فلا تخالفوا أمري وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ للصراط المستقيم بالتوجه إليها، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة.
قال الحراليّ: وفي طيه بشرى بفتح مكة، واستيلائه على جزيرة العرب كلها، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها، التي انتهى إليها ملك أمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ وقوله تعالى: فِيكُمْ المراد به العرب.
وكذلك قوله مِنْكُمْ.(1/431)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف. ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير. فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القول أقرب يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم. لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم، ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وهو القرآن. وهذا ليس بتكرار. لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم وَالْحِكْمَةَ وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها. ولذلك قال الشافعيّ رضي الله عنه: الحكمة هي سنة الرسول. وقوله وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم. فبعث الله تعالى النبيّ بالحق.
حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم. فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة. وذلك من أعظم أنواع النعم. قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران: 164] الآية. وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إبراهيم: 28] ، قال ابن عباس يعني، بنعمة الله، محمدا صلّى الله عليه وسلّم. ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره. وقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 152]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ قال ابن جرير: أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم. وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح. وقال القاشانيّ: اذكروني بالإجابة والطاعة، أذكركم بالمزيد والتوالي. وهي بمعنى ما قبله. وقوله وَاشْكُرُوا لِي قال ابن جرير: أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته. وقوله وَلا تَكْفُرُونِ أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم.
قال السمرقنديّ: أي اشكروا نعمتي: أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو(1/432)
عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة. ولا تجحدوا هذه النعمة، ويقال: النعمة، في الحقيقة. هي العلم. وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة.
وليس بنعمة. والعلم لا يملّ منه صاحبه. بل يطلب منه الزيادة. فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة. كما قصه الحراليّ. ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم، جعل، تعالى ذكره، لهم عوض ما كانوا يذكرون. كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم. وهزّ عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1»
«يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم. وإن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا.
وإن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا. فإن أتاني يمشي أتيته هرولة. صحيح الإسناد أخرجه «2» البخاريّ أيضا.
وروى مسلم «3» عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة: أنهما شهدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده.
والآثار في فضل الذكر متوافرة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة.
(تنبيه) قال النوويّ رحمه الله تعالى: اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما. بل كل عامل لله تعالى بطاعة، فهو ذاكر لله تعالى.
كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه، وغيره من العلماء. وقال عطاء رحمه الله: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. كيف تشتري وتبيع. وتصلى وتصوم، وتنكح وتطلّق. وأشباه هذا. وقال النوويّ أيضا: إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها. واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع، لا عارض. وقد صنف، في عمل اليوم والليلة، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة. ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، 2/ 251 ورقم 7416.
(2) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 15- باب قول الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، حديث رقم 2599.
(3) أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 39.(1/433)
الأذكار للنوويّ) وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) . وقال في طليعة ذلك: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل.
بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه. وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله. وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له.
وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له. وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له. وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه. فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله. وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا، وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه ومسيره، ونزوله وظعنه وإقامته. انتهى.
وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة، سماع الكف والدف، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر الأكابر من أئمة الدين، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى. ولا يعدّونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة. حتى قال الشافعيّ: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغيير) يصدّون به الناس عن القرآن. وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك. ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا. ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم. ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية. وهو سماع المشركين. قال الله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] ، قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وغيرهما من السلف: التصدية، التصفيق باليد.
والمكاء مثل الصفير. فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر نحو ذلك، والاجتماعات الشرعية.
ولم يجتمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على استماع غناء قط. لا بكف ولا بدف ولا تواجد وكان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذا اجتمعوا، أمروا واحدا منهم أن يقرأ. والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعريّ: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون. ومر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ
فقال له «1» : مررت بك
__________
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 236 ونصه: عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي موسى «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود»
. وقال الحافظ في الفتح عند الكلام على الحديث 2097 ما نصه: كذا وقع عنده مختصرا من طريق بريد. وأخرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى عن أبي بردة بلفظ (وساق نصه، كما أمر) .(1/434)
البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك. فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا
. أي لحسنته لك تحسينا. كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» : زينوا القرآن بأصواتكم.
وقال صلّى الله عليه وسلّم «2» : لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به، من صاحب القينة إلى قينته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم «3»
«أقرأ عليّ» قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال «نعم» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] ، قال: حسبك الآن. فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 58] . وقال تعالى في أهل المعرفة وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] ، ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] ، وقال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] ، فخلاف هذا السماع، من الباطل الذي نهى عنه.
ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا فعله أكابر المشايخ.
فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره. وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره. وليداو جراحات اجتراح بدعته، باتباع هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم ولزوم سنته.
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 52- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الماهر بالقرآن مع البررة الكرام وزينوا القرآن بأصواتكم» .
وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث من الأحاديث التي علقها البخاريّ ولم يصلها في موضع آخر من كتابه. وقد أخرجه في كتاب (خلق أفعال العباد) من رواية عبد الرحمن ابن عوسجة عن البراء بهذا. وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائيّ وابن ماجة والدارميّ، وابن خزيمة وابن حبان، في صحيحهما من هذا الوجه.
(2) أخرجه ابن ماجة في: إقامة الصلاة والسنة فيها، 176- باب في حسن الصوت بالقرآن، حديث 1340، عن فضالة بن عبيد.
(3) أخرجه البخاريّ في: فضائل القرآن، 33- باب قول المقرئ للقارئ: حسبك. حديث رقم 1990.(1/435)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته، فيتولد منه الهيبة والإجلال. وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن. وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر، ولذلك قيل: ذكر النعمة شكرها. وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر. فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه. وقوله تعالى وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها (فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] قال ابن عطية:
اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد. و «لي» أفصح وأشهر مع الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 153]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أرشد تعالى المؤمنين، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل، بالاستعانة بالصبر والصلاة. لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها. أو في نقمة فيصير عليها. كما جاء
في الحديث «1» : عجبا للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيرا له
. إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له. وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له. وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله، الصبر والصلاة. كما تقدم في قوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: 45] ،
وفي الحديث «2» : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حزبه أمر صلّى
. ثم إن الصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابا. لأنه المقصود وأما الصبر الثالث، وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضا واجب. كالاستغفار من المعائب.
وقال الإمام ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) وأعظم عون لوليّ الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره.
__________
(1)
أخرج مسلم في صحيحه في: الزهد والرقائق، حديث 64 ما نصه: عن صهيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عجبا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» .
وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 5/ 24 ما نصه: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له شيئا إلا كان خيرا له»
. [.....] (2) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده 5/ 388، عن حذيفة.(1/436)
وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن. والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب.
ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرا كقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ، وكقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 114- 115] ، وقوله فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [طه: 130] ، وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية. إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج. وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر. انتهى.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ قال الإمام ابن تيمية (في شرح حديث النزول) : لفظ المعية في كتاب الله جاء عامّا كما في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، وفي قوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] إلى قوله هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا وجاء خاصا كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] ، وقوله إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] ، وقوله لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] ، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص. فإنه قد علم أن قوله لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوّهم من الكفار، وكذلك قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ خصهم بذلك دون الظالمين والفجار.
وأيضا، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. كما في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح: 29] ، وقوله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] ، وقوله اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ، وقوله وَجاهَدُوا مَعَكُمْ [الأنفال: 75] ، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله وَهُوَ مَعَكُمْ يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق. وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبيّن أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة، فهو، إذا كان مع العباد، لم يناف(1/437)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
ذلك علوّه على عرشه. ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه. فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان. ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد. انتهى مختصرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ينهى تعالى عبادة المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا. بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة. وتصرمت عنهم اللذات. وأضحوا كالجمادات. كما يتبادر من معنى الميت. ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء. لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. كما قال تعالى في آل عمران وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 169- 171] ، فقوله في هذه الآية عِنْدَ رَبِّهِمْ يفسر المراد من حياتهم. أي إنها لأرواحهم عنده تعالى. وقوله وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي بحياتهم الروحية بعد موتهم. إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم، وإن حفظ بعضها عن التلف. كما ترون النيام همودا لا يتحركون.
فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا، ولا عيش أرغد منه في الآخرة.
قال الحراليّ: فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه. حتى في أن يقال عنه: ميت. فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر. انتهى.
ولذا قال الأصم: يعني لا تسموهم بالموتى، وقولوا لهم الشهداء الأحياء. وقال الراغب الأصفهانيّ: الحياة على أوجه. وكل واحد منها يقابله موت (الأولى) هو القوة النامية التي بها الغذاء، والشهوة إليه. وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان. ولذلك يقال: نبات حيّ. (والثانية) في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية. وهي في الحيوان دون النبات (والثالثة) القوة العاملة العاقلة. وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات. وبها يتعلق التكليف. وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح: حياة. وعلى ذلك قوله تعالى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] وقيل: المحسن حيّ وإن كان في دار الأموات. والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء (قال) ونعود إلى معنى الآية فنقول: قد أجمعوا على(1/438)
أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النموّ والغذاء، ولا الحياة التي بها الحس. فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول. فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان. وقال: إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس.
قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة، التي هي الروح. البدن. فمتى كان الإنسان محسنا كان منعّما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة. وإن كان مسيئا كان به معذبا. وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة. وهو مذهب أصحاب الحديث. ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها. ومما دل على صحته خبرا
«الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» «1»
وما
روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» «2»
وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش- يوم بدر- وجمعوا في قليب، أقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فخاطبهم بقوله «هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» قيل: يا رسول الله! أتخاطب جيفا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع منهم، ولو قدروا لأجابوا»
إلى غير ذلك من الأخبار. وقال تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وهذا يعني به قبل يوم القيامة، لأنه قال في آخر الآية وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] . انتهى.
وفي البيضاويّ وحواشيه: «إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد، وفساد البنية، ونفي الشعور بها- دليل على أنّ حياتهم ليست الجسد، ولا من جنس حياة الحيوان، لأنها بصحة البنية، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل» انتهى.
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم- كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 2- باب الأرواح جنود مجندة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول ... حديث 1576.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 77 ونصه: عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترك قتلى بدر ثلاثا. ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال «يا أبا جهل بن هشام! يا أمية بن خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا» . فسمع عمر قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! كيف يسمعوا وأنَّى يجيبوا وقد جيّفوا؟ قال «والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» . ثم أمر فسحبوا. فألقوا في قليب بدر
.(1/439)
تعالى في كتاب (الروح) : وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذه حياة أرواحهم، ورزقها دارّ، وإلّا فالأبدان قد تمزقت. وقد فسّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الحياة: بأنّ أرواحهم «1» في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربّهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أيّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا ... ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا- قالوا: يا ربّ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى..!
فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
وصحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلّق من ثمر الجنة» «2»
(وتعلق بضم اللام- أي: تأكل العلقة) وهذا صريح في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامها ... ! انتهى.
قال الطيبيّ:
قوله صلّى الله عليه وسلّم «أرواحهم في جوف طير خضر»
أي: يخلق لأرواحهم، بعد ما فارقت أبدانهم، هياكل تلك الهيئة، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية. وقال ابن القيم في كتاب (الروح) : «إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وجعل لكل دار أحكاما تختص بها. وركب هذا الإنسان من بدن ونفس.
وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها. فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب- تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها. والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية. والأبدان كالقبور لها. والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها. فتجري أحكام البرزخ على الأرواح. فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا. كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا. فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي، يزل عنك
__________
(1) أخرج مسلم في: الإمارة، حديث 121. عن مسروق قال: سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. قال: أما إنّا قد سألنا عن ذلك. فقال ... إلخ.
(2) أخرج الترمذيّ في جامعه في: فضائل الجهاد، 13- باب ما جاء في ثواب الشهداء. عن ابن كعب ابن مالك عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ... إلخ.(1/440)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله سبحانه، بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك. أنموذجا في الدنيا من حال النائم. فإن ما ينعم به، أو يعذب في نومه، يجري على روحه أصلا، والبدن تبع له. وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم أنه في نومه ضرب، فيصبح وآثار الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل وشرب، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه. ويذهب عنه الجوع والظمأ. وأعجب من ذلك أنك ترى النائم، ثم يقوم من نومه، ويضرب ويبطش ويدافع، كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. لأن الحكم، لما جرى على الروح، استعانت بالبدن من خارجه. ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ. فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ، بل أعظم. فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها، لم تنقطع عنه كل الانقطاع. فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا. ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبيّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل. وأنه حق لا مرية فيه. وأن من أشكل عليه ذلك، فمن سوء فهمه، وقلة علمه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 156]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)
وقوله تعالى:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ خطاب لمن آمن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، خصّوا به، وإن شمل من ماثلهم، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد، ومكافحة الفجّار. وكل قائم بحق، وداع إليه، معرّض للابتلاء بما ذكر، كله أو بعضه. والتنوين للتقليل. أي: بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه، وإنما قلّل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان، وإن جل، ففوقه ما يقل إليه. وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. وإنما أخبر به قبل الوقوع، ليوطّنوا عليه نفوسهم، ويزداد يقينهم، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به. وليعلموا أنه شيء يسير، له عاقبة حميدة مِنَ(1/441)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
الْخَوْفِ
أي خوف العدو والإرجاف به وَالْجُوعِ أي الفقر، للشغل بالجهاد، أو فقد الزاد، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله. وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها وَالْأَنْفُسِ بقتلها شهيدة في سبيل الله، أو ذهاب أطرافها فيه وَالثَّمَراتِ أي بأن لا نغلّ الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر، لا سيما في وقت نزول هذه الآيات. وهو أول زمان الهجرة. فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد: 31] . قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها: أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها، بما يدل عليه سابقه.
ثم بيّن تعالى ما للصابرين عنده بقوله وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ مكروه، اسم فاعل من أصابته شدة: لحقته. أي كهذه البلايا قالُوا إِنَّا لِلَّهِ أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره، لأنه غالب على الكل. أو نبالي بالجوع، لأن رزق العبد على سيده، فإن منع وقتا، فلا بد أن يعود إليه. وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له، فله أن يتصرف فيها بما يشاء وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ في الدار الآخرة.
فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا. لأنه لا يضيع أجر المحسنين. فالمصاب يهون عليه خطبه، إذا تسلّى بقوله هذا، وتصور ما خلق له، وأنه رجع إلى ربه، وتذكر نعم الله عليه. ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما أسترده منه. قال الراغب: وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا.
وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه. فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.
(ثم قال) إن قيل: ولم قلت: إن الأمر بالصبر يقتضي العلم؟ قيل: الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 157]
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
أُولئِكَ إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت عَلَيْهِمْ(1/442)
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
قال الراغب: الصلاة، وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه. وقال الرازيّ: الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم. قال الراغب: وإنما قال صَلَواتٌ على الجمع، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة وَرَحْمَةٌ عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته.
(تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند المصائب، وفي أجر الصابرين، أحاديث كثيرة. منها ما
في صحيح مسلم «1» عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها.
قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله؟
ثم عزم الله لي فقلتها. قالت: فتزوجت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى الإمام أحمد «2» عن الحسين بن عليّ عليهما السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.
وروى الإمام أحمد «3» بسنده عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي. وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولانيّ) فأخرجني وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت:
بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعريّ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع. قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
ورواه الترمذيّ
وقال: حسن غريب.
وروى البخاري «4» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يرد الله به خيرا يصب منه.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنائز، حديث 4- 5.
(2) أخرجه الإمام أحمد 1/ 201 حديث رقم 1734.
(3) أخرجه الإمام أحمد 4/ 415، والترمذيّ في: الجنائز، 36- باب حدثنا سويد بن مضر.
(4) أخرجه البخاريّ في: المرضى، 1- باب ما جاء في كفارة المرض.(1/443)
وروى الشيخان «1» عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.
ورويا «2» أيضا عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته. كما تحط الشجرة ورقها.
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة.
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام، رحمة الله تعالى، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. قال عليه الرحمة: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس.
أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.
والثاني: معرفة ذلة العبودية وكسرها. وإليه الإشارة بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.
والثالثة: الإخلاص لله تعالى إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه. ولا معتمد في كشفها إلا عليه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام: 17] ، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] .
الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ [الزمر: 8] .
الخامسة: التضرع والدعاء وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا [يونس: 12] ،
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: المرضى، 1- باب ما جاء في كفارة المرض. ومسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 52.
(2)
أخرجه البخاريّ في: المرضى، 3- باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (ثم الأمثل فالأمثل) ونصه: حديث 2241: عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك. فقلت: يا رسول الله! إنك توعك وعكا شديدا. قال «أجل. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك أن لك أجرين. قال «أجل. ذلك كذلك. ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» .
وأخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث رقم 45.(1/444)
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] . بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ، وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ [الأنعام: 41] . قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأنعام: 63] .
السادسة: الحلم ممن صدرت عنه المصيبة إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] ، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 53] . إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة «1» . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم.
السابعة: العفو عن جانيها وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران: 134] . فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.
الثامنة: الصبر عليها. وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] ، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر «2» .
التاسعة: الفرح بها لأجل فوائدها.
قال عليه الصلاة والسلام «3» : والذي نفسي بيده! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء
. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: حبذا المكروهان الموت والفقر. وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها، مع تجرعه لمرارتها.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في: الإيمان، حديث 25- 26 من حديث طويل لما قدم أناس من عبد القيس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله للأشج، أشج عبد القيس.
(2)
أخرجه البخاريّ في: الزكاة، 50- باب الاستعفاف عن المسألة ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده. فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله. ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله. وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر. حديث رقم 781.
(3)
أخرجه ابن ماجة في: الفتن، 23- باب الصبر على البلاء، حديث 4024 ونصه: عن أبي سعيد الخدريّ قال: دخلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك. فوضعت يدي عليه. فوجدت حرّه بين يديّ، فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك. يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء. قلت: يا رسول الله! ثم من؟
قال: ثم الصالحون. إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوّيها. وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء.
[.....](1/445)
العاشرة: الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها. كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه، المانع من شهواته، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء.
الحادية عشرة: تمحيصها للذنوب والخطايا وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلّا كفر به من سيئاته «1» .
الثانية عشرة: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم. فالناس معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية «2» . وإنما يرحم العشاق من عشق.
الثالثة عشرة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها. فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
الرابعة عشرة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.
الخامسة عشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19] . وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216] . إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور: 11] .
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم «3» كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر.
__________
(1) أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث 52.
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الكلام، حديث 8. إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم. فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب. وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد. فإنما الناس مبتلى معافى. فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
(3)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 8- باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. حديث 1113.
ونصه: عن أبي هريرة قال: لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات. ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله: إني سقيم. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة. فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة قال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك.
وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذّبيني. فأرسل إليها. فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ. فقال: ادعي الله ولا أضرك. فدعت الله فأطلق. ثم تناولها الثانية: فأخذ مثلها(1/446)
فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين. فأعظم بذلك من خير كان في طيّ تلك البلية، وقد قيل:
كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب وقال آخر:
رب مبغوض كريه فيه لله لطائف السادسة عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر، فإن نمرود، لو كان فقيرا سقيما، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك. وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] . وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 74] ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] . وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] ، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ [هود: 116] .
لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16] . وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سبأ: 34] .
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء. ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء «1» . ثم الأمثل فالأمثل. نسبوا إلى الجنون إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] والسحر قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] ، والكهانة فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور: 29] . واستهزئ بهم وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر: 11] . وسخر منهم وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام: 34] . وقيل لنا أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] .
__________
أو أشد. فقال: ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان. فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي. فأومأ بيده: مهيا. قالت:
رد الله كيد الكافر (أو الفاجر) وأخدم هاجر
. قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء!
(1) أخرجه البخاري في: المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.(1/447)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] ، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران: 186] .
كالّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم. وكثر عناهم. واشتدّ بلاهم، وتكاثر أعداهم. فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأحد «1» وبئر معونة «2» من قتل. وشجّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكسرت رباعيته. وهشمت البيضة على رأسه.
وقتل أعزاؤه ومثّل بهم. فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه. وابتلوا يوم الخندق «3» . وزلزلوا زلزالا شديدا. وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وكانوا في خوف دائم وعرى لازم. وفقر مدقع. حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع. ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز برّ في يوم مرتين. وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب «4» أهله إليه. ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة «5» وطليحة والعنسي «6» . ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة «7» ما لقوه. ومات ودرعه «8» عند يهوديّ على آصع من شعير. ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل «9» على قدر دينه فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه. ولقد كان أحدهم يوضع «10» المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه) .
وقال عليه الصلاة والسلام. «مثل
__________
(1) أخرجه البخاريّ في المغازي، 17- باب غزوة أحد، إلى 26- باب من قتل من المسلمين يوم أحد.
(2) أخرجه البخاريّ في المغازي، 28- باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة ... إلخ.
(3) أخرجه البخاريّ في المغازي، 29- باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب.
(4) أخرجه البخاريّ في المغازي، 34- باب حديث الإفك.
(5) أخرجه البخاريّ في المغازي، 70- باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، وفيه قدوم مسيلمة الكذاب، و 71- باب قصة الأسود العنسي.
(6) أخرجه البخاريّ في المغازي، 71- باب قصة الأسود العنسي.
(7) أخرجه البخاريّ في المغازي، 71- باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة.
(8) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، 89- باب ما قيل في درع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير.
(9)
أخرجه الترمذيّ في: الزهد، 57- باب ما جاء في الصبر على البلاء. عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فيبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه. وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه.
فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه من خطيئة
. [.....] (10) أخرجه مسلم في قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام، في الزهد، حديث رقم 73.(1/448)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
المؤمن «1» مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء» .
وقال عليه الصلاة والسلام (مثل المؤمن «2» كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج)
فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل. وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] ، فلأجل ذلك تقللوا في المآكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك. ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه.
السابعة عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى. فإن المصائب تنزل بالبرّ والفاجر. فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا.
ولرضا أفضل من الجنة وما فيها. لقوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ، أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: علمان لجبلين بمكة. ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبّداته.
قال الرازيّ: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الحج: 36] ، أي: علامة للقربة.
وقال ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: 32] ، وشعائر الحج معالم نسكه. ومنه المشعر الحرام. ومنه إشعار السنام- وهو أن يعلم بالمدية- فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و (الشعائر) جمع شعيرة وهي
__________
(1)
أخرجه الترمذيّ في: الأدب، 79- باب ما جاء في مثل المؤمن القارئ للقرآن، وغير القارئ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الرياح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء. ومثل المنافق مثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد
. (2)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 31- باب في المشيئة والإرادة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها. فإذا سكنت اعتدلت. وكذلك المؤمن يكفّأ بالبلاء. ومثل الكافر كمثل الأرزة. صمّاء معتدلة، حتى يقصمها الله، إذا شاء.(1/449)
العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي علمت انتهى.
و (الحجّ) في اللغة: القصد. و (الاعتمار) : الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد البيت وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك. و (الجناح) بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة. وأصل (الطواف) : المشي حول الشيء. والمراد: السعي بينهما.
وقد روي في سبب نزول الآية عدّة روايات:
ولفظ البخاريّ عن عروة قال «1» : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها:
أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فو الله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إنّ هذه لو كانت كما أوّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار. كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلّل. فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ قالوا: يا رسول الله! إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما. فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إنّ هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أنّ الناس- إلّا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة.
وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطّوّف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ... الآية.
قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذي يطوفون ثمّ تحرّجوا أن يطوفوا
__________
(1) أخرجه البخاريّ بنصه في: كتاب الحج، باب حدثنا أبو اليمان.(1/450)
بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
وفي رواية معمر عن الزهريّ: إنا كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، أخرجه البخاريّ تعليقا، ووصله أحمد وغيره.
وأخرج مسلم «1» في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسّان، يهلّون لمناة. فتحرّجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنّة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.
وروي الفاكهيّ عن الزهريّ: أن عمرو بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد. فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلّوا لها. فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة.
قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب.
وروى النسائيّ بإسناد قويّ عن زيد بن حارثة «2» قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما «إساف ونائلة» كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما ... الحديث.
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عزّ وجلّ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ... الآية.
وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في «الأحكام» بإسناد صحيح عن الشعبيّ قال: كان صنم بالصفا يدعى «إساف» ، ووثن بالمروة يدعى «نائلة» ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما. فلما جاء الإسلام رمى بهما وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ... الآية.
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا
__________
(1) أخرجه مسلم بنصه في: الحج، حديث 263.
(2) أخرجه ابن ماجة في الطهارة.(1/451)
والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكلّ. والله أعلم.
وجواب عائشة، رضي الله عنها، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ. لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ، أي: من فعل خيرا فإنّ الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى (تطوّع) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهيّ لا لغويّ.
و (الشكر) من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.
قال الراغب: الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] قال: وليس شكر الرفيع للوضيع إلّا الإفضال عليه وقبول حمد منه.
تنبيهات:
الأول: تمسّك بعضهم بقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً على أنّ السعي سنّة، وأن من تركه لا شيء عليه. فإن كان مأخذه منها: إنّ التطوع التبرّع بما لا يلزم فقد قدّمنا أنه عرف فقهيّ لا لغويّ، فلا حجّة فيه. وإن كان نفي الجناح، فقد علمت المراد منه.
وممن ذهب إلى أنه سنّة، لا يجبر بتركه شيء، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء. نقله ابن حجر في (الفتح) .
وقال الرازيّ: روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أنّ من تركه فلا شيء عليه.
وأما
حديث «1» : اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي رواه أحمد وغيره
، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف.
ومن ثمّ قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجّة في الوجوب. ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح) .
الثاني: صحّ
أنّه «2» صلّى الله عليه وسلّم طاف بين الصفا والمروة سبعا، رواه الشيخان وغيرهما
__________
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند، جزء سادس صفحة 421. ونصه: عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه. وهو وراءهم وهو يسعى. حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» .
(2)
أخرجه البخاريّ في: الصلاة، باب قول الله، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. ونصه: عن عمرو(1/452)
عن ابن عمر.
وأخرج مسلم وغيره «1» من حديث أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو.
وأخرج أيضا «2» من حديث جابر: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا دنا من الصفا قرأ: إنّ الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره قال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثمّ نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا
. وظاهر هذا أنه كان ماشيا.
وقد روى مسلم «3» في صحيحه عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه.
ولم يطف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلّا طوافا واحدا.
قال ابن حزم: لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كلّه وانصبّت قدماه أيضا مع سائر جسده.
وعندي- في الجمع بينهما- وجه آخر أحسن من هذا وهو: أنه سعى ماشيا أوّلا، ثمّ أتمّ سعيه راكبا، وقد جاء ذلك مصرّحا به.
ففي صحيح مسلم «4» عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنّة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنّة! قال: صدقوا وكذبوا ... ! - قال- قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا..؟ قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثر
__________
ابن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة. وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث 189
. (1) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث 84.
(2) أخرجه مسلم في: الحج، حديث 147.
(3) أخرجه مسلم في: الحج، حديث 255.
(4) أخرجه مسلم في: الحج، حديث 237 وهو الشطر الثاني من الحديث.(1/453)
عليه الناس. يقولون: هذا محمد..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت- قال- وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يضرب الناس بين يديه- فلمّا كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل.
وفي الصحيحين «1» عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوّته ... !
وعن كريب مولى ابن عباس: أنّ ابن عباس قال «2» : ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنّة، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون: لا نجيز البطحاء إلّا شدّا..! رواه البخاري تعليقا، ووصله أبو نعيم في مستخرجه. قال شرّاح الصحيح: المراد بالسعي المنفيّ هو شدّة المشي والعدو. فهو، رضي الله عنه، لم ينف سنية السعي المجرد، بل مجاوزة الوادي بقوّة وعدو شديد، إذ أصل السعي هديه صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.
الثالث: في البخاريّ «3» عن ابن عباس في قصّة هاجر أم إسماعيل: إنّ الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتردادها في طلب الماء. ولفظه: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى (أو قال، يتلبط) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرّات.
قال ابن عباس: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ... الحديث.
قال ابن كثير: لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة، خائفة، مضطرة، فقيرة إلى الله عزّ وجلّ، كشف تعالى كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدّتها، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم،
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: المغازي، 43- باب عمرة القضاء، حديث 862. [.....]
(2) أخرجه البخاريّ في: مناقب الأنصار، 27- باب القسامة في الجاهلية، حديث 1804.
(3) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 9- باب يزفون. النسلان في المشي حديث 1183.(1/454)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
وشفاء سقم. فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلّه وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنّه يلتجئ إلى الله عزّ وجلّ لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه- من الذنوب والمعاصي- إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
لما تقدم أنّ بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحقّ، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم- ترغيبا وترهيبا- بأنه يشكر من فعل ما شرعه له، ويعلم من أخفاه وإن دقّ فعله وبالغ في كتمانه، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم. ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق. إذ كانت هذه كلّها في الحقيقة قصصهم. والخروج إلى غيرها إنّما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين، لأنّ هذا الكتاب هدى وكان السياق مرشدا إلى أنّ التقدير بعد «شاكر عليم» : ومن أحدث شرا فإنّ الله عليم قدير، فوصل به استئنافا قوله- على وجه يعمهم وغيرهم- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ... الآية، بيانا لجزائهم. فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوّله من قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42] ، فكانت البداية خاصة، وكان الختم عاما، ليكون ما في كتاب الله أمرا منطبقا- على نحو ما كان أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن تقدّمه من الرسل خلقا- لينطبق الأمر على الخلق بدءا وختما انطباقا واحدا، فعمّ كلّ كاتم من الأولين والآخرين. نقله البقاعي.
و (اللعن) الطرد والإبعاد عن الخير، هذا من الله تعالى ومن الخلق: السبّ، والشتم، والدعاء على الملعون، ومشاقّته، ومخالفته، مع السخط عليه، والبراءة منه.
والمراد بقوله: اللَّاعِنُونَ كلّ من يصح منه لعن، وقد بيّنه بعد قوله تعالى:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 162] ، وقد دلّت(1/455)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
الآية على أنّ هذا الكتمان من الكبائر، لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، لأنّ ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلّف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، وبلغ للعنه من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها..! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال «1» : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدّثت شيئا أبدا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... [البقرة: 159] الآية، وقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ.. [آل عمران: 187] الآية.
ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 160]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا- أي عن الكتمان- وَأَصْلَحُوا- أي عملوا صالحا- وَبَيَّنُوا- ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع- فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ- أي أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم- وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحال إلى كفره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: العلم، 42- باب حفظ العلم، حديث 102 ونصه: عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة. ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم يتلو: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ، إلى قوله: الرَّحِيمُ. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم. وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.(1/456)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
- أي في اللعنة، أو في النار، على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها- لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ- إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أي: لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم أو من النظر بمعنى الرؤية أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 77] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرّده بالإلهية. وأنه لا شريك له ولا عديل.
قال الراغب: يجوز أن يكون قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ خطابا عاما، أي المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر ويجوز أن يكون خطابا للمؤمنين.
والمعنى. الذي تعبدونه إله واحد، تنبيها أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناما آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل: ما فائدة الجمع بين: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وبين لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل: لما بين بقوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها- وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة- أكده بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكدا وتكرر عليه الألفاظ، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه.
انتهى.
وقال الرازي: إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية، وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلّا للرحمة والإحسان. انتهى.
ولما كان مقام الوحدانية لا يصحّ إلّا بتمام العلم وكمال القدرة، نصب تعالى الأدلة، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات، على ذلك تبصيرا للجهّال وتذكيرا للعلماء بقوله:(1/457)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع- وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] ، أو اختلاف كلّ منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا كما قال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61] ، أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليم لغيره.
قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإن أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه- قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ أي المزن مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار بَعْدَ مَوْتِها باستيلاء اليبوسة عليها وَبَثَّ فِيها أي نشر وفرق مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من العقلاء وغيرهم وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي: تقليبها في مهابها: قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا، وفي أحوالها: حارة وباردة وعاصفة ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطورا تسوقه، وآونة تجمعه، ووقتا تفرقه، وحينا تصرفه.
قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنفس ضعيف وروح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار فهي(1/458)
الزعزعان والزعزع. فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ويقال لها زوبعة أيضا، فإذا هبت بالغبرة فهي الهبوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسّموم، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم. ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقع التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي: فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء- كما تهوي بقية الأجرام العالية- حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع. ذكره البقاعي.
لطيفتان:
الأولى: قال الثعالبي: أول ما ينشأ السحاب فهو النّشء، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب، فإذا تغيرت له السماء فهو الغمام، فإذا أظلّ فهو العارض، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق فهو العماء، فإذا عنّ فهو العنان، فإذا كان أبيض فهو المزن.
الثانية: قال الراغب: التسخير القهر على الفعل. وهو أبلغ من الإكراه. فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه، كحمل الرحى على الطحن. وقوله تعالى: لَآياتٍ: أي عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كمّا وكيفا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جلّ شأنه.
قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوتة. فجعل سبحانه العالم- وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار- على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك. وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى: الغيب والأمر والملكوت. والأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله تعالى- بكمال عنايته ورأفته ورحمته- جعل العالم بقسميه محتويا على جمل وتفاصيل من وجوه(1/459)
متعدّدة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشرية. عن ضبطها، يستدلّ بها على وحدانيته، بعضها أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكلّ بقدر ما هيّئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك- والعياذ بالله- هو الشقيّ انتهى.
قال المهايمي: وكيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال: أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان. لأن لهما أجزاء يفتقران إليها، فلا بدّ لها من محدث ليس بعض أجزائهما، لأنه دخله التركيب الحادث، والقديم لا يكون محلا للحوادث، والمحدث لا بدّ أن يكون قديما قطعا للتسلسل. وعلى التوحيد، فلأن إله السموات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر.
وعلى الرحمتين لأنه عزّ وجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السموات. وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السموات ولا بدّ لها من محرك، فإن كان حادثا فلا بدّ له من محدث. وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال. فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما. وعلى الرحمتين، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما، إذ دوام الليل مبرّد للعالم في الغاية، ودوام النهار مسخّن له في الغاية. وأما دلالة الفلك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله. ودخول الهواء فيها- وإن كان من الأسباب- فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقلّ الهواء جدا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدا، فلا ينبغي أن ينسب إلّا إلى الله تعالى من أوّل الأمر وعلى التوحيد، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها. وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلّا من الله. وعلى التوحيد، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه. وعلى الرحمتين، فلأنّه أحيى به الأرض معاشا للحيوانات، وبثّ به الدواب تكميلا لمنافع الإنسان. وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرّة وهذه أخرى، وقد يعدم الكلّ، فلا بدّ من(1/460)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
محدث، فإن كان حادثا افتقر إلى قديم. وعلى التوحيد، فلأنّه لو كان لكلّ ريح إله لأمكن للكلّ أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخلّ بالنظام. وعلى الرحمتين، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي الأشجار والثمار. وأما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلا لنزل، أو كان خفيفا لصعد، لكنه يصعد تارة وينزل أخرى فهو من الله تعالى وأما على التوحيد فلأن إله السحاب لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكلّ واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز. وعلى الرحمتين فلأنّ منها الأمطار. وله وجوه أخر من الدلالات وفوائد غير محصورة، قنعنا بما ذكرنا.
قال القاضي عبد الجبار: الآية تدلّ على أمور: (أحدها) لو كان الحقّ يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، والجري على الإلف والعادة، لما صحّ ذلك. و (ثانيها) لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صحّ وصف هذه الأمور بأنها آيات، لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات. و (ثالثها) أنّ سائر الأجسام والأعراض، وإن كانت تدلّ على الصانع، فهو تعالى خصّ هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظّ ونصيب، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشدّ تأثيرا في الخواطر. نقله الرازي.
ثم إنّ الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده، وتوحيده، ورحمته، ليخصّه الخلق بالمحبة والعبادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
وَلكن مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أي: أمثالا. مع أنّ الآيات منعت من أن يكون له ندّ واحد فضلا عن جماعتها يسوّون بينهم وبين الله إذ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له.
و (الأنداد) هي: إمّا الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضرّ، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقرّبوا لها القرابين. وإمّا الرؤساء(1/461)
الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لا سيما في الأوامر والنواهي. ورجح هذا، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة: 166] وذلك لا يليق إلّا بمن اتخذ الرجال أندادا وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من المشركين لأندادهم، لأنّ أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلّها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس، عام المجاعة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في (شرح المنازل) في باب التوبة:
أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلّا بالتّوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندّا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 97- 98] مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كلّ شيء، وربّه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلّهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادّونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم- بل أكثرهم- يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله تعالى..!
ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين..!
وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم ... انتهى.
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن عليّ المقريزيّ رحمه الله:
ومن أجلّ الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... الآية، فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ مع الله شيئا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندّا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] ، والمعنى على أصحّ القولين: أنهم يعدلون به(1/462)
غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة. وكذلك قوله المشركين في النار لأصنامهم تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 97- 98] ومعلوم قطعا أنّ هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا- كما أخبر الله عنهم- مقرّين بأنّ الله تعالى وحده هو ربّهم وخالقهم، وأنّ الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السموات وربّ العرش العظيم، وأنّه هو الذي بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يجير ولا يجار عليه ... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبّة والعبادة فمن أحبّ غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذلّ له- كما يحبّ الله ويخافه ويرجوه- فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى..! فعياذا بالله! من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحيّة من قشرها، وهو يظنّ أنّه مسلم موحّد..!
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة في بعض فتاويه:
والمتّخذ إلهه هواه، له محبّة كمحبّة المشركين لآلهتهم، ومحبّة عبّاد العجل له، وهذه محبّة مع الله لا محبّة لله! وهذه محبّة أهل الشرك..! والنفوس قد تدّعي محبّة الله، وتكون في نفس الأمر محبّة شرك تحبّ ما تهواه وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإنّ حبّك الشيء يعمي ويصمّ..! وهكذا الأعمال التي يظنّ الإنسان أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه:
إمّا لحبّ رئاسة، وإمّا لحبّ مال، وإمّا لحبّ صورة..! ولهذا قالوا «1» : يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة وحميّة ورياء، فأيّ ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله..! فلمّا صار كثير من الصوفية النسّاك المتأخّرين يدّعون المحبّة- ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسّنّة- دخل فيها نوع من الشرك واتّباع الأهواء. والله تعالى قد جعل محبّته موجبة لاتباع رسوله فقال:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبّه الله، وليس شيء يحبّه الله إلا والرسول يدعو إليه..! وليس شيء يدعو إليه الرسول إلّا والله يحبّه..! فصار محبوب الربّ ومدعوّ
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: العلم، 45- باب من سأل، وهو قائم، عالما جالسا. حديث 105. ونصه:
عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه (قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما) فقال:
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل
.(1/463)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات..! انتهى.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ المعدّ لهم يوم القيامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: القدرة كلّها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر.
فإنّ اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدّة العذاب، لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه. وجواب (لو) محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان: إمّا لعدم الإحاطة بكنهه، وإمّا لضيق العبارة عنه، وإمّا لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبّر أو المستمع من الضجر والتفجّع عليه. أي لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره- في حذف الجواب- قوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: 27] وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ ولو ترى بالتاء- على خطاب الرسول أو كلّ مخاطب- أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 166]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من «إذ يرون» أي: تبرّأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكلّ ما عبد من دونه تعالى: مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم- أو يدعونهم إليه- من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن. وقرئ الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي تبرّأ الأتباع من الرؤساء وَرَأَوُا الْعَذابَ الواو للحال، أي: تبرّأوا في حال رؤيتهم العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أي:
الوصل التي كانت بينهم: من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحابّ، والاتباع، والاستتباع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 167]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا حين عاينوا تبرّؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ(1/464)
هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك كَذلِكَ أي:
مثل تلك الإراءة الفظيعة يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ندمات شديدة عَلَيْهِمْ أي: تذهب وتضمحلّ، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ... [إبراهيم: 18] الآية، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ... [النور: 39] الآية وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ونظير هذه الآية قوله تعالى:.. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31- 33] ..؟ وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81- 82] .
وقال الخليل لقومه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [العنكبوت: 25] . وقالت الملائكة تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ، ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 63] ويقولون سُبْحانَكَ! أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] . وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6] . وقال تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .(1/465)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم طَيِّباً أي: مستطابا في نفسه، غير ضارّ للأبدان ولا للعقول.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده! إنّ الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والرّبا فالنار أولى به ... ! وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ... مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم «1» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: يقول الله تعالى: إنّ كلّ مال منحته عبادي فهو لهم حلال. وفيه:
وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم.
__________
(1)
أخرجه مسلم في: كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 63. وهاكموه بنصه الكامل: عن عياض بن حمار المجاشعي، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ذات يوم في خطبته «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ممّا علّمني، يومي هذا. كلّ مال نحلته عبدا، حلال. وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم. وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرّمت عليهم ما أحللت لهم.
وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب» . وقال «إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإنّ الله أمرني أن أحرق قريشا. فقلت: ربّ! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك. وأنفق فسننفق عليك. وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب لكلّ ذي قربى. ومسلم. وعفيف متعفّف ذو عيال. قال: وأهل النّار خمسة: الضّعيف الّذي لا زبر له، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الّذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلّا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» .(1/466)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
ومما يدخل في خطوات الشيطان: كلّ معصية لله، ومنها: النذور في المعاصي، كما قاله بعض السلف في الآية.
قال الشعبيّ: نذر رجل ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان! قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم فقال لا أريده فقال: أصائم أنت؟ قال لا ... ! قال: فما شأنك؟ قال حرّمت أن آكل ضرعا أبدا..!
فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفّر عن يمينك ... ! رواه ابن أبي حاتم.
وروي أيضا عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حرّ إن لم تطلق امرأتك..! فأتيت عبد الله ابن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان ... ! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة- وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة- وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفّارته كفارة يمين! نقله الإمام ابن كثير الدمشقيّ.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] . وقال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] .
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لفنون شرّه وإفساده. وبِالسُّوءِ يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب. والْفَحْشاءِ ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرّم هذا وذاك بغير علم. فمعنى ما لا تَعْلَمُونَ ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به.(1/467)
قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفا بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم: بخلقه لهم أولا، وبجعله ملائما لهم ثانيا، وإباحته لهم ثالثا، وتحذيره لهم من العدوّ رابعا ... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن ... !
قال الرازيّ: قوله تعالى وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق..! لأنه- وإن كان مقلدا للحق- لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقا للذمّ لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.! انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين) : القول على الله بلا علم يعمّ القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . وقال تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل:
116- 117] .! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه. وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحلّه: هذا حلال. وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحلّه وحرّمه.
وقال بعض السلف: ليتّق أحدكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرّمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل.
وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة «1» أن ينزل عدوّه إذا
__________
(1)
أخرجه مسلم في الجهاد والسير: عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته، بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثم قال:
«اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين. وأخبرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين.
يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء(1/468)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
حاصرهم، على حكم الله،
وقال فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ... ؟
ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ...
فتأمّل، كيف فرّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب- بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترءون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا.
ولمّا نهاهم سبحانه عن متابعة العدوّ، ذمّهم بمتابعته، مع أنه عدوّ، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الردّ عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا أي: وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا أي: من عبادة الأصنام والأنداد.
فقال مبكّتا لهم أَوَلَوْ أي: أيتّبعون آباءهم ولو كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي: من الدين وَلا يَهْتَدُونَ للصواب إذ جهلوه؟
قال الحراليّ: فيه إشعار بأنّ عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوّة الدين. ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم.
__________
إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك. فإنكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك.
فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» .(1/469)
قال الرازيّ: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد. وأجاب الله تعالى عنهم بقوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ... إلى آخره.
ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال للمقلّد: هل تعترف بأنّ شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقّا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلّا بعد أن تعرف كونه محقّا، فكيف عرفت أنه محقّ؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل وإن عرفته بالعقل، فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد..! وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كوّنه محقّا ... فإذن قد جوّزت تقليده وإن كان مبطلا..! فإذن أنت- على تقليدك- لا تعلم أنّك محقّ أو مبطل..!
وثانيها: هب أنّ ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء إلا أنّا لو قدرنا أنّ ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبا فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بدّ من العدول إلى النظر، فكذا هاهنا.
وثالثها: أنك إذا قلّدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إمّا الدور وإمّا التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدّم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد لأنّك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل- مع أن ذلك المتقدّم طلبه بالدليل لا بالتقليد- كنت مخالفا له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا.
ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
وقال الإمام الراغب: ذمّهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركّب فيه من المعارف. وذلك أن الله ميّز الإنسان بالفكر ليعرف به الحقّ من الباطل في الاعتقاد. والصدق من الكذب في الأقوال. والجميل من القبيح في الفعل. ليتحرى الحقّ والصدق والجميل. ويتجنب أضدادها. وجعل له من نور العقل(1/470)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حثّ الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بيّن حال الكفار- في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد- ليحذّر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته. ثمّ قال أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء. إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله يَعْقِلُونَ ويَهْتَدُونَ وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن (العاقل) يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود هاهنا. و (المهتدي) قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم فبيّن أنهم لا يعقلون ولا يهتدون. ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإنّ العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.
ثمّ ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [النحل: 60] . فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه:
صاح بها وزجرها. وقوله تعالى بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي: بالبهائم التي لا تسمع إلّا دعاء الناعق ونداءه- الذي هو تصويت بها، وزجر لها- ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب. ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحراليّ فيما نقله البقاعي عنه.
وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثمّ شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى- والله أعلم- مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول(1/471)
الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعيّ. قال: ومثله في الكلام (فلان يخافك كخوف الأسد) المعنى كخوفه الأسد، لأنّ الأسد معروف أنه المخوف.
وقيل: أريد تشبيه حال الكافر- في دعائه الصنم- بحال من ينعق بما لا يسمعه. والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم- التي لا تفقه دعاءهم- كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنّه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلّا العناء.
وقال ابن القيّم في (أعلام الموقعين) : ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركّب، وأنّ تجعله من التشبيه المفرّق. فإن جعلته من المركّب: كان تشبيها للكفّار- في عدم فقههم وانتفاعهم- بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرّد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرّق:
فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرّد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرّد صوت الناعق. والله أعلم.
قال الرازيّ: اعلم أنّه تعالى- لمّا حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتّباع ما أنزل الله: تركوا النظر والتدبّر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا- ضرب لهم هذا المثل- تنبيها للسامعين لهم- إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه: بسبب ترك الإصغاء، وقلّة الاهتمام بالدين، فصيرهم- من هذا الوجه- بمنزلة الأنعام ... ! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفّار، ويحقّر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره- حيث صيّره كالبهيمة- فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد. ثمّ زاد في تبكيتهم فقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فهم بمنزلة الصمّ: في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البكم: في أنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه، وبمنزلة العمي: من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. ولمّا كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة، فلمّا أعرضوا عنها، فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسّا فقد علما..!(1/472)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 172]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: ما أخلصناه لكم من الشّبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس- كما أحلّه المشركون من المحرّمات- ولا تحرّموا ما أحلّوا منها من السائبة وما معها وَاشْكُرُوا لِلَّهِ- الذي رزقكم هذه النعم- إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ- أي: وحده- تَعْبُدُونَ أي: إن صحّ أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرّون أنه سبحانه هو المنعم لا غير.
قال الإمام ابن تيمية في (جواب أهل الإيمان) : الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق. والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق. كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق. فأباح الله الطيبات للمتّقين التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها. وحرّم عليهم الخبائث التي تضرّهم في المقصود الذي خلقوا له. وأمرهم- مع أكلها- بالشكر، ونهاهم عن تحريمها.
فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحقّ العقوبة. ومن حرّمها- كالرهبان- فقد تعدّى حدود الله فاستحق العقوبة.
وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» «1» .
وفي حديث آخر: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» «2» .
وقال تعالى لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] . أي: عن شكره، فإنّه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه. وعمّا حرّمه عليه، هل فرّط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87] .
ولمّا قيّد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه
__________
(1) أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 89 عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه البخاريّ في: الأطعمة، 56- باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر.(1/473)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
ليجتنب، فبيّن صريحا ما حرّم عليهم- مما كان المشركون يستحلّونه ويحرّمون غيره- وأفهم حلّ ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة- إما في الفاعل أو في المفعول- فدخل فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: 96] ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.
وفي المسند، والموطّأ، والسنن: قوله صلّى الله عليه وسلّم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» «1» .
وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر «2» : أحلت لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال. وَالدَّمَ وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى- والمفسّر قاض على المبهم- وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة. ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابيّ فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له- بسكون الصاد- فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكّن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له- بالزاي بدل الصاد- وبعضهم يقول: من قصد له- بالقاف- أي: من أعطى قصدا أي قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أنّ الرجل كان يضيف الرجل في
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الطهارة، 41- باب الوضوء بماء البحر، حديث 83.
(2) أخرجه ابن ماجة في: الأطعمة، 31- باب الكبد والطحال، حديث 3314.(1/474)
شدّة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشحّ أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إمّا تغليبا أو لأنّ اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده. وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر. وهو هنا على أصله في اللغة. وإمّا بطريق القياس على رأي، لأنّه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل- وهو أطيب ما فيه- كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم. ولمّا حرّم ما يضرّ الجسم ويؤذي النفس، حرّم ما يرين على القلب، فقال وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل (الإهلال) رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى.
وذكر القرطبيّ عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنّه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عمّا يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم.
والقصد سدّ ما كان مظنّة للشرك.
قال النوويّ في (شرح مسلم) : فإن قصد الذابح- مع ذلك- تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى- والعبادة له، كان ذلك كفرا. فإن كان الذابح مسلما. قبل ذلك، صار بالذبح مرتدّا. ذكره في الكلام على
حديث «1» عليّ رضي الله عنه: لعن الله من ذبح لغير الله.
قال الحراليّ: وذكر الإهلال إعلام بأنّ ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشدّ المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر.
وروى البخاريّ «2» عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قوما يأتوننا
__________
(1)
أخرجه مسلم في: الأضاحيّ، حديث 43 ونصه: عن أبي الطفيل، عمر بن واثلة قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب، فأتاه رجل فقال: ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرّ إليك؟ قال فغضب وقال: ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرّ إليّ شيئا يكتمه الناس. غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال فقال: ما هن، يا أمير المؤمنين؟ قال: قال «لعن الله من لعن والده. ولعن الله من ذبح لغير الله. ولعن الله من آوى محدثا. ولعن الله من غيّر منار الأرض»
. (2) أخرجه البخاريّ في: الذبائح والصيد، 21- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم.(1/475)
باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت:
وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأنّ المحرّم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه بل الذي علم أنّ اسم الله قد أعلن به عليه.
وروي عن عليّ رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلّون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فصل فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة: فقال الحراليّ: هي ما أدركه الموت من الحيوان- عن ذبول القوّة وفناء الحياة- وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلزز أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.
وقال المهايميّ في تفسيره: ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهّر من الذبح باسم الله- تحقيقا أو تقديرا- فتتعلّق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأنّ أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه والجراد لأنّه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
وأمّا خبث الدّم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.
وقال الإمام ابن تيمية: حرّم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1» .
وأمّا خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس- كما حرّم ما قبله لمضرّتها في الجسم
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الأحكام، 21- باب الشهادة تكون عند الحاكم، حديث 1063 ونصه: عن عليّ بن حسين أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتته صفية بنت حييّ. فلما رجعت انطلق معها. فمرّ به رجلان من الأنصار فدعاهما فقال «إنما هي صفية» قالا: سبحان الله! قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
. [.....](1/476)
- لأن من حكمة الله في خلقه: أنّ من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء «1» : الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم. فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرّم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعيّ.
وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير- المبنية على التجارب الحسّية- غير ما قالوه القدماء. فمن مضارّه: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام أو النهم الشديد وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى، ويودي بحياة المصاب ... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.
قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارّا لأحدهما إلا ونبّه عليه تصريحا أو تلويحا ... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
وأما خبث المهلّ به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرّب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن والشرع جاء للحفظ عما يضرّ مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.
ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال فَمَنِ اضْطُرَّ أي ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه غَيْرَ باغٍ أي غير طالب له راغب فيه لذاته. من (بغى الشيء وابتغاه: طلبه وحرص عليه) وَلا عادٍ أي:
مجاوز لسدّ الرمق وإزالة الضرورة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثّر فيه الخبث لأنّه كاره بالطبع.
__________
(1)
أخرج البخاريّ في: بدء الخلق، 15- باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «رأس الكفر نحو المشرق. والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدّادين أهل الوبر. والسكينة في أهل الغنم»
.(1/477)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه.
والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما أكله حال الضرورة رَحِيمٌ حيث رخّص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه- إثر ما ذكره من الأحكام- تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 174]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ أي: من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبيّنات والهدى وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي: يأخذون بدله ثَمَناً قَلِيلًا أي مما يتمتعون به من لذات العاجلة. وقلّله لحقارته في نفسه.
ففيه إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل، أو بالنسبة لما فوّتوه على أنفسهم من نعيم الآخرة الذي لا يحاط بوصفه أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي ما يستتبع النار ويستلزمها، فكأنه عين النار، وأكله أكلها، وفِي بُطُونِهِمْ متعلق ب يَأْكُلُونَ وفائدته: تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقرّ المأكول.
قال الراغب: أكل النار: تناول ما يؤدي إليها. وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال. وذكر فِي بُطُونِهِمْ تنبيها على شرههم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل الطعم الذي هو أحسّ متناول من الدنيا..!
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الراغب: لم يعن نفي الكلام رأسا، فقد قال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] ، وقال:
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ [الكهف: 52] . وإنما أراد كلاما يقتضي جدوى ولهذا قال الحسن: معناه يغضب عليهم تنبيها أنهم بخلاف من قال فيهم تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. وقيل: حقيقة (كلّمته) حملته على الكلام، نحو حركته، لأنّ(1/478)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
من كلّمته فقد استدعيت كلامه فكأنه قيل: لا يستدعي كلامهم نحو قوله لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] .
وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا، وقد علموا، فاستحقّوا الغضب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 175]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي: استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم- من الكتمان والتحريف- بالاهتداء وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي: أسبابه بأسبابها.
ولما جعل سبحانه أول مأكلهم نارا، وآخر أمرهم عذابا، وترجمة حالهم عدم المغفرة، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم نارا- سبب عنه التعجيب من أمرهم:
بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر، لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة، فقال فَما أَصْبَرَهُمْ- أي: ما أشد حبسهم أنفسهم، أو ما أجرأهم- عَلَى النَّارِ التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى- نقله البقاعيّ-.
ثم قال: وإذا جعلته مجازا، كان مثل قولك لمن عاند السلطان: ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل؟ تهديدا له. تريد أنّه لا يتعرض لذلك إلّا من هو شديد الصبر على العذاب.
وقد روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إليّ رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حقّ صاحبه فقال له: ما أصبرك على الله! أي ما أصبرك على عذاب الله. نقله الزمخشريّ.
قال الراغب: وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتبارا بالناظر إليه، وتصوّر أنّه صابر، واستعمال لفظ التعجّب في ذلك اعتبارا بالخلق لا بالخالق.
ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله:(1/479)